1- التنازل عن الشكوى من صاحب الحق فيها يترتب عليه بحكم الفقرة الأولى من المادة العاشرة من قانون الإجراءات الجنائية إنقضاء الدعوى الجنائية ومتى صدر هذا التنازل ممن يملكه قانوناً يتعين إعمال الآثار القانونية له، كما لا يجوز الرجوع فيه ولو كان ميعاد الشكوى ما زال ممتدا، لأنه من غير المستساغ قانوناً العودة للدعوى الجنائية بعد انقضائها، إذ الساقط لا يعود، فإن الدعوى الجنائية فى الواقعة المطروحة تكون قد انقضت بالتنازل عنها قبل رفعها من النيابة العامة دون أن ينال من الانقضاء العدول عن التنازل اللحاق لحصوله .
( الطعن رقم 10445 لسنة 64 ق - جلسة 2000/03/09 - س 51 ص 268 ق 50 )
2- جريمة الزنا ذات طبيعة خاصة لأنها تقتضي التفاعل بين شخصين يعد القانون أحدهما فاعلا أصليا وهي الزوجة ويعد الثاني شريكا وهو الرجل الزاني فإذا أمحت جريمة الزنا وزالت آثارها بسبب من الأسباب فإن التلازم الذهني يقتضي محو جريمة الشريك أيضا لأنه لا يتصور قيامها مع انعدام ذلك الجانب الخاص بالزوجة وإلا كان الحكم على الشريك تأثيما غير مباشر للزوجة التي عدت بمنأى عن كل شبهة إجرام، كما أن العدل المطلق لا يستسيغ بقاء الجريمة بالنسبة للشريك مع محوها بالنسبة للفاعلة الأصلية لأن إجرام الشريك إنما هو فرع من إجرام الفاعل الأصلي والواجب فى هذه الحالة أن يتبع الفرع الأصل مادامت جريمة الزنا لها ذلك الشأن الخاص الذي تمنع معه التجزئة وتجب فيه ضرورة المحافظة على شرف العائلات، لما كان ذلك، فإن تنازل الزوج عن شكواه ضد زوجته الطاعنة - ينتج أثره بالنسبة لها ولشريكها. لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه قد دان الطاعنة وشريكها على الرغم من تنازل زوجها عن شكواه قبل رفع الدعوى الجنائية فإنه يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون متعينا نقضه فيما قضى به فى الدعوى الجنائية وإلغاء الحكم المستأنف والقضاء بعدم قبول الدعوى الجنائية.
( الطعن رقم 10445 لسنة 64 ق - جلسة 2000/03/09 - س 51 ص 268 ق 50 )
3- الحكمة التى تغياها الشارع من غل يد النيابة العامة عن تحريك الدعوى الجنائية فى جريمة الزنا - وهى الحفاظ على مصلحة العائلة وسمعتها - لا تقوم إذا ما وضح للمحكمة من عناصر الدعوى أن إرتكاب المنكر مع الزوجة كان بعلم زوجها ورضاه مما يسقط حقه فيما فرضه الشارع لحمايته وعائلته .
( الطعن رقم 40 لسنة 35 ق - جلسة 1965/02/15 - س 16 ع 1 ص 124 ق 28 )
4- لما كان الثابت من المفردات المنضمة أن وكيل الطاعنين قدم إقراراً مذيلاً بتوقيع الزوج الجني عليه ....... موثقاً بمكتب توثيق كفر الشيخ بمحضر تصديق رقم ...... لسنة 1987 فى ...... يقر فيه بتنازله عن شكواه ضد زوجته - الطاعنة الثانية - وبارتضائه معاشرتها له كما كانت، وبتنازله عن التمسك بالحكم المطعون فيه وعن الآثار المترتبة عليه. لما كان ذلك، وكان المشرع قد أجاز بما نص عليه فى المادة العاشرة من قانون الإجراءات الجنائية للزوج الشاكي فى دعوى الزنا أن يتنازل عن شكواه فى أي وقت إلى أن يصدر فى الدعوى حكم بات غير قابل للطعن بالنقض ورتب على التنازل انقضاء الدعوى الجنائية، ولما كانت جريمة الزنا ذات طبيعة خاصة، لأنها تقتضي التفاعل بين شخصين يعد القانون أحدهما فاعلاً أصلياً وهي الزوجة، ويعد الثاني شريكاً، وهو الرجل الزاني فإذا محت جريمة الزوجة وزالت آثارها بسبب من الأسباب فإن التلازم الذهني يقتضي محو جريمة الشريك أيضاً لأنه لا يتصور قيامها مع انعدام ذلك الجانب الخاص بالزوجة وإلا كان الحكم على الشريك تأثيماً غير مباشر للزوجة التي عدت بمنأى عن كل شبهة إجرام، كما أن العدل المطلق لا يستسيغ بقاء الجريمة بالنسبة للشريك مع محوها بالنسبة للفاعلة الأصلية، لأن إجرام الشريك إنما هو فرع من إجرام الفاعل الأصلي، والواجب فى هذه الحالة أن يتبع الفرع الأصل، مادامت جريمة الزنا لها ذلك الشأن الخاص الذي تمتنع معه التجزئة وتجب فيه ضرورة المحافظة على شرف العائلات. لما كان ما تقدم فإن تنازل الزوج عن شكواه ضد زوجته - الطاعنة الثانية - ينتج أثره بالنسبة لها ولشريكها - الطاعن الأول - مما يتعين معه نقض الحكم المطعون فيه بالنسبة للطاعنين والقضاء بانقضاء الدعوى الجنائية للتنازل وبراءتهما مما أسند إليهما .
( الطعن رقم 7835 لسنة 59 ق - جلسة 1990/01/09 - س 41 ع 1 ص 61 ق 7 )
استحدث المشرع نص المادة 113 مكرراً في قانون الإجراءات الجنائية وذلك بموجب القانون رقم 177 لسنة 2020 المنشور في الجريدة الرسمية العدد 36 مكرر في 5/9/2020 بشأن تعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية الصادر برقم 150 لسنة 1950 ، والذي نص على أنه:
تقييد سلطة النيابة العامة في تحريك الدعوى الجنائية ضد الزوجة في جريمة زنا الزوجة
نطاق القيد :
نطاق القيد مقتصر على تحريك الدعوى فلا يمتد إلى مباشرتها الذي تختص به النيابة العامة وحدها فإذا قدم الزوج شكواه ارتفع القيد الذي كان يغل يد النيابة العامة وخضعت الدعوى للأحكام العامة التي تخضع لها سائر الدعاوى الجنائية، فلا يجوز للزوج مباشرتها، ومن ثم لا يقبل منه أن يطعن في الحكم الصادر في الدعوى، وإنما تختص بذلك النيابة العامة.
علة القيد :
علة هذا القيد أن تحريك الدعوى الجنائية ضد الزوجة وما يستتبعه ذلك من إجراءات تحقیق ومحاكمة ثم تسجيل لفضيحتها بحكم الإدانة - له آثار عميقة على سمعة الزوج نفسه وأولاده من زوجته، وفي بعض الحالات تفوق أضرار هذه الإجراءات على ما قد يحققه العقاب من مصالح، وقد رأى المشرع أن الزوج هو خير من يوازن بين الجانبين، ويقدر مدى ملاءمة هذه الإجراءات، فخوله هذه السلطة التقديرية وأحله في هذا الخصوص فقط محل النيابة العامة.
صفة الزوج :
فحوى القيد ألا تحرك الدعوى الجنائية إلا بناء على شكوى الزوج، ويقتضي ذلك التحقق من صفة مقدم الشكوى "كزوج للمتهمة بالزنا" وهذه الصفة يتعين التثبت منها وقت التقدم بالشكوى، ويترتب على ذلك أنه إذا أنحل الزواج بالطلاق عقب الجريمة فقد الزوج صفته لتقديم الشكوى، وإذا مات فلا يرثه في حق الشكوى أحد لأنه لا يرثه في صفة الزوج أحد، بالإضافة إلى أن هذا الحق شخصي بحت، ويفترض تقدير ملائمة الإجراءات، وهو ما يستند إلى اعتبارات عائلية لا يستطيع غير الزوج تقديرها ولكن يلاحظ أن الطلاق الذي ينهي صفة الزوج هو الطلاق البائن، أما الطلاق الرجعي فيبقى هذه الصفة خلال فترة العدة، ومن ثم يجوز للزوج خلالها أن يتقدم بشكواه.
ولكن إذا أنحل الزواج بعد تقديم الشكوى فلا تأثير لذلك على الدعوى التي تحركت بالفعل فصارت للنيابة وحدها سلطة مباشرتها، ولكن فقد الزوج صفته بعد تقديمه الشكوى يحرمه من سلطته في إيقاف الدعوى أو العفو عن زوجته.
شكل الشكوى :
أجاز الشارع أن تقدم الشكوى كتابة أو شفوية، وأجاز أن تقدم إلى النيابة العامة أو إلى أحد مأمور الضبط القضائي، وأجاز أن يقدمها الزوج شخصية أو عن طريق وكيل خاص (المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية)، ولكن يتعين أن يكون التوكيل خاصة بواقعة معينة سابقة على التوكيل، إذ لكل واقعة ظروفها التي تحدد ملائمة تحريك الدعوى الناشئة عنها، وإذا أصيب الزوج بعاهة عقلية اختص ولي نفسه بتقديم الشكوى، ولكن إذا حجر عليه لسفه أو إفلاس أو لاعتقاله تنفيذاً لحكم بعقوبة جنائية ظلت له مع ذلك صفته في تقديم الشكوى، إذ الحجر لأحدهذه الأسباب لا يمس أهلية تقدير ملائمة الإجراءات الجنائية وإذا أقام الزوج دعوی مباشرة اعتبر ذلك من قبيل الشكوى ولكن إقامة الزوج دعوى بطلب التعويض عن الزنا أمام المحكمة المدنية أو بطلب الطلاق بالزنا أمام المحكمة المختصة بالأحوال الشخصية لا يعد شكوى، ذلك أن موضوع دعواه في الحالتين مختلف عن موضوع الدعوى الجنائية الناشئة عن الزنا، ومن ثم لا تعتبر إقامتها منطوية على تقدير المدى ملائمة الإجراءات الجنائية.
جزاء القيد :
إذا أقامت النيابة العامة الدعوى دون أن تستند إلى شكوى تقدم بها الزوج كانت الدعوى غير مقبولة، وهذا السبب لعدم القبول متعلق بالنظام العام : فيجوز للزوجة الدفع به في أية حالة كانت عليها الدعوى، ولو لأول مرة أمام محكمة النقض، ويتعين أن يتضمن حكم الإدانة ما يفيد تقديم هذه الشكوى، وإلا كان قاصراً، فهذا البيان من البيانات الجوهرية التي يجب أن يتضمنها الحكم لاتصاله بسلامة تحريك الدعوى الجنائية.
الدفع بسبق زنا الزوج :
خول القانون الزوجة أن تدفع بعدم سماع الدعوى ضدها لسبق زنا زوجها، فنصت المادة محل التعليق على أنه "إذا زنى الزوج في المسكن المقيم فيه مع زوجته كالمبين في المادة (277) لا تسمع دعوته عليها" وهذا الدفع إجرائي، فلا يمس أركان جريمة الزوجة ولا يعد سبباً لإباحتها أو مانعة لعقابها، وأساسه فقد الزوج أهلية الشكوى لسلوكه الذي جعله غير أهل لتقديمها، فهو كرئيس للعائلة قدوة لزوجته في سلوكها، فإن سبقها إلى سلوك شائن فهو غير أهل لأن يلومها من أجل مسلكها ويشترط لصحة هذا الدفع توافر أركان جريمة زنا الزوج، ومن بينها ارتكاب الفعل في منزل الزوجية ويشترط لصحة الدفع أن يكون زنا الزوج قد ثبت بحكم قضائی، ولكن ذلك لا يعني وجوب صدور الحكم قبل تقديم الشكوى ضد الزوجة: فإلى جانب هذه الحالة الواضحة يتصور أن تقام الدعوى ضد الزوجة فتدفعها بسبق زنا زوجها دون أن يكون هذا الزنا قد ثبت بحكم قضائي، وفي هذه الحالة يتعين على المحكمة أن توقف النظر في زنا الزوجة حتى تفصل في زنا زوجها، فإن تحققت من توافر أركانه قضت بعدم قبول الدعوى ضد الزوجة، وفي الغالب تقام الدعوتان أمام محكمة واحدة للإرتباط بينهما، ولكن يجوز أن تقام أمام محكمتين مختلفتين، وفي هذه الحالة يجب على المحكمة التي تنظر في زنا الزوجة أن توقف النظر في الدعوى انتظار لصدور الحكم من المحكمة التي تنظر في زنا الزوج.
ويتعين أن يكون زنا الزوج معاصراً لزنا الزوجة، إذا لا يعقل أن يكون المشرع قد اعتبر زنا الزوج مرة مسقطاً إلى الأبد أهليته في شكوى زوجته، ومطلقاً للزوجة أن تزني كما تشاء، وتحديد هذه المعاصرة من شأن قاضي الموضوع ولا محل لهذا الدفع إلا إذا كان زنا الزوج سابقة على تقديمه الشكوى ضد زوجته، أما إذا كان لاحقاً عليها فلا يقوم به الدفع، إذ لم تحقق علته وهي اتخاذ الزوجة من سلوك زوجها قدوة لها.(الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثالث، الصفحة : 797)
وعلى ذلك فإنه يشترط لعدم قبول شكوى الزوج أن يكون قد زنى في منزل الزوجية والعلة في هذا كما يذهب البعض إلى أن جريمة زنى الزوج تجعله غير أهل للشكوى إذ كيف يقبل منه أن يشكو من جريمة هو نفسه ملوث بها ويتمسك بحقوق الزوجية وعهودها إذا كان هو نفسه لم يرعها وبناء على هذا النص يجوز للزوجة أن تدفع لدى محاكمتها بعدم قبول الدعوى قبلها فإذا قدمت تأييداً لهذا الدفع حكماً نهائياً قضى بالعقاب على زوجها من أجل جريمة الزنا وجب على المحكمة أن تحكم بعدم قبول الدعوى، على أنه ليس من الضروري أن يكون الحكم المثبت لزنا الزوج قد صدر قبل الشكوى المقدمة منه بل يظهر من نص القانون أن للزوجة المتهمة بالزنا أن تدفع هذه التهمة بشكوى تقدمها هي ضد زوجها ويقبل منها هذا الدفع في أية حالة كانت عليها الدعوى قبل صدور الحكم النهائي ويعتبر بلاغها في هذه الحالة مسألة فرعية يجب البت فيها أولاً قبل الحكم في (زنا الزوجة)، وقيل بأن دفع الزوجة الزانية بعدم قبول شكوى زوجها في هذه الحالة يبقى لها طالما أن دعوى جريمة زنا الزوج لم تسقط بمضي المدة وذلك في حالة عدم صدور حكم نهائي عليه أما إذا كان قد صدر حكماً نهائياً بالعقوبة فإن حق الزوجة في الدفع بعدم قبول شكوى الزوج يبقى إلى أن يرد اعتبار الزوج .
محاكمة الشريك مرتبطة بمحاكمة الزوجة ارتباطاً غير قابل للتجزئة فلا يجوز محاكمته إلا بناء على شكوى الزوج المجنى عليه فإذا قدم هذا الأخير شكواه ضد زوجته فقط كان للنيابة الحق في السير في الدعوى ضدها وضد الشريك ولو لم تتضمنه الشكوى على أنه لو أن الزوج اقتصر في تقديمه الشكوى على الشريك فقط دون الزوجة فلا تقبل الدعوى أصلاً لأن جريمة الشريك لاتقوم إلا من فعل الفاعل الأصلي وهو الزوجة كذلك لايؤثر على محاكمة الشريك تنازل الزوج عن دعواه قبله وطلبه الاستمرار في محاكمة الزوجة خلافاً لما إذا تنازل الزوج أثناء سير الدعوى عن دعواه قبل زوجته فإن الدعوى تسقط عنها وشريكها لأن التنازل يعتبر دليلاً قانونياً على عدم وجود الجريمة.
على أن تنازل الزوج عن دعواه قبل الحكم النهائي يستفيد منه الشريك بشرط أن تكون الزوجة قد استفادت منه أي أن يكون التنازل قد صدر من زوجها قبل صيرورة الحكم عليها نهائياً فإذا تنازل الزوج عن محاكمة زوجته أو تصالح معها قبل صدور حكم نهائي عليها سقطت الدعوى العمومية بالنسبة للشريك أما إذا لم تطعن الزوجة في الحكم الصادر ضدها وشريكها فأصبح نهائياً بالنسبة لها في حين طعن شريكها فيه بالاستئناف والنقض فإن تنازل الزوج أثناء الاستئناف المرفوع من الشريك وحده لا أثر له إذ هو لايملك التنازل عن الدعوى ضد زوجته لانتهائها بحكم نهائي بالنسبة لها وإذا لم يطعن الشريك في الحكم أصبح بذلك نهائياً بالنسبة له حتى ولو طعنت الزوجة وقضى ببراءتها في الاستئناف.
وفي الجملة فإن أي دفع يمكن للزوجة أن تدفع به دعوى زوجها فإن شريكها يستفيد منه طالما أنه لم يصدر حكم نهائي في الدعوى كرضا الزوج مقدماً بالزنا وکسبق ارتكاب الزوج لجريمة الزنا في منزل الزوجية وهذا الدفع مقصور على الزوجة فقط وكالدفع بسقوط حق الزوج في الشكوى بفوات أكثر من ثلاثة أشهر.(موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثالث، الصفحة : 667)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 88
(مادة 128) من واقع أنثي برضاها يعاقب كل منهما بالحبس وفي حالة الإحصان المبين في المادة (119) من هذا القانون، أو وقوع الجريمة بين محرمين تكون العقوبة السجن المؤقت، وإذا اجتمع هذان الشرطان يحكم بالسجن مدة لا تقل عن سبع سنوات.
(ماده 127)
ينفذ حد الجلد المنصوص عليه في هذا الباب وفقاً لحكم المادة (84) من هذا القانون، في مكان يشهده طائفة من المؤمنين.
(مادة 116)
يقصد بالزنا كل وطء بين رجل وامرأة بالغين في غير زواج صحيح ولا شبهة زواج.
حد الزنا
إن كل ما جاء به الإسلام من أحكام منصوص عليها هو لمصلحة الناس، ويقرر الفقهاء بالإجماع أن أساس الحدود هي النصوص؛ لأنها حدود الله تعالى أقامها في المجتمع فاصلة بين الفضيلة والرذيلة، وبين الصلاح والفساد فلم يتركها لوال أو إمام، إنها تولاها الشرع بالنصوص ابتداءً لكيلا تخضع للأزمان والأحوال والأعراف؛ لأنها جاءت الإصلاح الناس، لا لمسايرتهم في أهوائهم وشهواتهم وما يرتضون .
والمصالح التي حماها الإسلام بتقرير العقوبات الحدية عند الاعتداء على هذه المصالح - أثبت الاستقراء أنها ترجع إلى أصول خمسة هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال. وهي مصالح ضرورية؛ لأن الدنيا التي يعيش فيها الإنسان تقوم عليها، ولا تتوافر معاني الحياة الإنسانية الكريمة إلا بتوافرها، وهي من تكريم الله للإنسان.
وإن هذه الأمور الخمسة هي التي جاءت للمحافظة عليها كل الشرائع، وقامت العقوبات الحدية لحمايتها، ويعد طلبها ضرورة إنسانية متفقا عليها بين الناس، والمحافظة عليها بفرض عقوبات للاعتداء عليها يعد من الأمور البديهية التي لا تختلف فيها العقول، وتقرها جميع الأديان.
وقد خلق الله تعالى الإنسان، وأودعه غريزة الجنس التي لا بد لها من متنفس لإقتضائها مع الرادع لحفظ الأعراض والأنساب.
ولما كان ميل الذكر إلى الأنثى يدخل في المفهوم العام للغريزة الجنسية، لكنه في الإنسان أسمى من هذا المعنى الذي يشترك فيه كل حيوان - فإن ميل الذكر إلى الأنثى في الإنسان لا يصدر عن الغريزة وحدها، وإنها تحركه نوازع لا يرقى إلى وصفها غير قول الخبير بخلقه:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ) [الروم: 21] صدق الله العظيم.
ومن ثم كانت العلاقة بينهما تقوم على أسس أخرى لها شأنها الكبير غير الغريزة الجنسية، کالود المتبادل والرحمة الحانية والشعور المشترك بأن كلا منهما متمم للآخر، وما يتصل بذلك من التعاون بينهما في شتى مناحي الحياة، كتربية الأولاد وبناء الأسرة على أسس قويمة، وربطها بغيرها من الأسر عن طريق المصاهرة، بل والمساهمة في بناء المجتمع الإنساني بما يحقق له الخير والرخاء والحياة الطيبة.
لهذا كان لا بد من تنظيم علاقة الرجل بالمرأة على أسس تضمن لها البقاء وتحقق لها الطهر والنقاء؛ ليتهيأ المناخ الصحي الذي تؤدي فيه الزوجية وظيفتها السامية وعملها الجليل.
وعلى هذا جاءت الشريعة الإسلامية الخالدة توازن بين طبيعة الإنسان ومصالحه التي هي أيضاً مصالح المجتمع، فأوجدت السبيل لإقتضاء الغريزة، وحفظ النسل والعرض، فشرعت الزواج نظاماً تقوم عليه علاقة الذكر بالأنثى، وكان عقد الزواج هو الميثاق الذي يجمع بين الزوجين، وقد سماه الله تعالى ميثاقاً غليظاً في قوله جل شأنه: (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) [النساء: 21] صدق الله العظيم.
ليحترم ويلتزم وتصان به الحرمة والكرامة، وتحفظ به الأنساب والأحساب، ويبقى به النوع، وتطيب عليه الحياة.
فالزواج هو الطريق الشرعي للالتقاء الجنسي بين الرجل والمرأة، وعلى هذا التقت شرائع السماء، واصطبغت تلك الوظيفة الجنسية في الإنسان بطابع إنساني وروحي يسمو بها عن الحيوانية والبهيمية.
أما الزنا فهو ممارسة العلاقة الجنسية عن غير الطريق المشروع بالزواج، ويعتبر خروجاً على النظام الأساسي في بناء الأسرة وتنظيم المجتمع.
وما إن عرف الإنسان نظام الزواج حتى ارتبط ذلك بتحريم الزنا، والنظر إليه على أنه جريمة منكرة؛ لما فيها من انحراف خطير عن السلوك السوي في الطبيعة الإنسانية للعلاقة الجنسية، يخرج بها عن إطارها الإنساني إلى مجال الحيوانية والانحطاط.
ومن أجل ذلك حرمت الأديان كلها الزنى، وأغلظت عليه العقوبة في الدنيا والآخرة، لا تنظر في ذلك إلى مقدار الفعل المرتكب أو إلى الاعتداء على شخص المزني بها، إنها المنظور في عقوبتها إلى الآثار المترتبة قريبة أو بعيدة فإن شيوع هذه الفاحشة يترتب عليه نتائج خطيرة بالنسبة للمجتمع؛ لما يؤدي إليه من عدم إقدام الناس على الزواج مكتفين بتلك العلاقات، وبذلك تنحل الأسرة، فتذهب أقوى رابطة في بناء المجتمع الفاضل، ويضيع النسل، فإنه إما لا يكون نسل قط بين من تقع منها هذه الجريمة، وبذلك يقل تعداد الأمة، ويفنى النسل شيئاً فشيئاً ، وإما أن تكون هناك ثمرة لتلك العلاقة الفاجرة، وبذلك ينتشر الأولاد غير الشرعيين الذين يتربون في الملاجئ ولا يعرف لهم آباء، وهؤلاء ينشئون و فيهم شذوذ يجعلهم لا يألفون الناس، ولا يألفهم الناس، ويكونون مصدر أي مستمر تتفكك بهم عرى الجماعة، وتذهب وحدتها وقوتها.
وانفلات الجنس هو السبب الأكبر لجميع المساوئ الخلقية التي نراها شائعة في المجتمعات اليوم دون مغالاة.
فإن الزنى يهدم في النفس البشرية خلق الطهارة والعفة، الذي يرتقي به الإنسان عن الحيوان، وعندئذ يسوغ للرجل أن يواقع أي أنثى، ويسوغ للأنثى أن يواقعها أي رجل، فإذا استمر الإنسان في هذا الوضع الأثيم ماتت لديه القيم، وأصبح نداء الجنس هو المسيطر على تفكيره ونشاطه، يعمل لاهثاً من أجله ويكافح في سبيله، لا يهمه أي طريق يسلكه إرضاءً لشهواته.
ومن أوجه قصور القوانين القائمة على وجه العموم - قصر مدلول الزنا على مواقعة الزوج غير زوجته، وعلى مواقعة الزوجة من غير زوجها، وعلقت إقامة الدعوى على شكوى يتقدم بها الزوج في حق زوجته الزانية، وجعلت له حق التنازل عن الدعوى، بل وعن العقوبة ذاتها، واشترطت أغلب القوانين أن يتم الزنا في فراش الزوجية، ولم تعاقب تلك القوانين - على وجه العموم - على العلاقات غير المشروعة بين المتزوجين، إلا في حالات محدودة كالإكراه وصغر سن المجني عليه.
وكان ذلك للأسف هو الاتجاه الذي سار عليه قانون العقوبات المصري بوجه عام.
ولا يخفى ما في هذا الاتجاه من بعد عن الواقع المصري، الذي ظل خلال قرون طويلة يعتنق النظرة الإسلامية الصحيحة في استنكار جريمة الزنى ، ومما يبين أثرها على المجتمع؛ إذ كان اتجاه القانون المصري في ذلك خاضعاً - ولا ريب - لفلسفة غريبة عن مصر عقيدة وثقافة ومصلحة، وهي إباحة حرية الجنس وجعلها هي الأصل دون نظر إلى سمو الفكر الإسلامي في اتجاهه إلى صيانة الجسد الإنساني، وتكريمه عن أن يكون وسيلة للمتعة أو أداة للشهوة فحسب، ولذلك فقد تضافرت آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم
على الدعوة إلى الزواج بها فيه من تكريم لعلاقة الرجل بالمرأة، كما وردت الآيات والأحاديث في النهي عن ارتكاب الزنا لما فيه من امتهان للجسد الإنساني، ولما ثبت من أثره على المجتمعات الإنسانية في المدى الطويل، وتاريخ الحضارات الإنسانية خير شاهد على صدق الإسلام في نظرته، وعلو مراميه في شريعته.
وانطلاقاً من هذه المعاني السامية، وإيماناً بشريعة السماء في وقت أفلست فيه تشريعات البشر، تتقدم اللجنة بمشروع هذا القانون الخاص بإقامة حد الزنا رجماً للمحصن وجلداً لغير المحصن، مترسمة فيه حكم الشريعة الإسلامية الغراء، متوخية قدر طاقتها ما فيه خير الأمة وإصلاح المجتمع، وجلب المصلحة له ودرء المفسدة عنه، ما كان ذلك مستطاعاً في نطاق الفقه الإسلامي، الذي لم تبخل علينا ثروته الطائلة بالآراء السديدة والأقوال الصائبة الرشيدة، التي كانت تواتينا من عامة مذاهب المسلمين المعتمدة، سواء منها ما ذخرت به المذاهب الأربعة المشهورة الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة وغيرها من مذاهب الإمامية والزيدية والظاهرية والإباضية، وتؤازرها كلها أقوال الجهابذة من فقهاء الصحابة والتابعين وغيرهم ممن أثروا الفقه الإسلامي وأتحفوه بعلمهم، الذي سيظل على مدى الدهور مورداً لكل قاصد، ومنارة لكل مسترشد.
وكان المناط في اختيار اللجنة الرأي الفقهي ما ترجحه من الأدلة، وما يتناسب وحال هذا العصر، مما يمكن أن يكون الحكم الشرعي المختار ذا أثر كبير في الإصلاح، وقطع دابر الفساد، ومن ثم لم تر اللجنة بأساً في الأخذ برأي فقيه معتمد في مسألة دون رأي جمهور الفقهاء، طالما رأت أنه يحقق في زماننا مصلحة للمجتمع ويدرأ عنه مفسدة.
ولقد جاء المشروع محيطا بقدر الإمكان بأحكام الزنى؛ حتى يستغني به القضاء عن مشقة البحث وراء الحكم في مختلف الكتب الفقهية العديدة.
وجاءت مذكرته الإيضاحية في إطار هذا المفهوم شاملة في كل حكم تناولته مواد القانون لكافة ما طرح من مختلف أقوال فقهاء المذاهب وغيرهم - بقدر الاستطاعة - موضحة في أغلبها وجهة نظر كل رأي، ومنتهية إلى اختيار واحد منها وبيان وجه الاختيار، ولا شك أن هذا الجهد الشاق الذي بذل في إعدادها قصد به - كما أسلفنا - أن يوضع فقه المادة موضع نظر من يتولون تنفيذ هذا القانون ليسهل عليهم الرجوع إلى مصادرة خاصة، وقد أشير في نهاية كل بحث فقهي إلى مراجعة من كتب الفقه في كل مذهب.
وحرصت اللجنة على أن تبسط الرأي الفقهي على اختلاف القائلين به وحججهم، بل وربما ما أجاب به كل على حجة الآخر، في مواضع من القانون فرض الخلاف فيها وخطر الأخذ برأي منها مدى ما استحقت من عناية وإحاطة في المذكرة الإيضاحية، ونذكر من تلك المسالك على سبيل المثال معنى الإحصان، وعقوبة الرجم ومشروعيتها، وهل يجمع بين الجلد والرجم أو بين الجلد والتغريب؟ - وكيفية تنفيذ حد الرجم والجلد.
ولما كانت اللجنة قد نهجت في مسلكها في تحديد الجناية الحدية أن تكون مما أجمع عليه الفقهاء ومن ثم لم تدخل في جريمة الزنا المعاقب عليها حا جريمة اللواط ولا الحبل الظاهر في المرأة من غير زوج لتحقيق الخلاف فيها، وقد رأت أن تشدد العقوبة على اللواط، فشرعت له عقوبة تعزيرية بدنية بالجلد، فضلاً عن تغليظ العقوبة التي ينزلها فيه هذا القانون، کا غلظت عقوبة الدعارة بما يتناسب والجرائم الواردة في هذا المشروع وهي جريمة الزنى، هذا وإذا كان من الواضح أن الشريعة الإسلامية قد وضعت قيوداً متعددة لتحقق أركان جريمة الزنى الحدية، وشددت في الأوصاف التي تتطلب وجودها في وسائل إثباته، حتى إنه ليبدو أن الفرصة لا تكاد تتهيأ مع ذلك لتحقق هذه الجريمة - فإن العقوبة التعزيرية التي عني المشروع بتقريرها فضلاً عما هو مقرر منها فعلاً بقانون مكافحة الدعارة وما زيد فيها تشديداً - لكافي في زجر كل من تسول نفسه انتهاك الحرمات والعدوان على الأعراض، وردع من وراءهم ممن استباحوا هتك أستار الفضيلة، والاستهتار بكل القيم ومقارفة الإثم عياناً جهاراً ، دون اعتبار لقانون ولا وازع من دين أو ضمير.
(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101] صدق الله العظيم.
مادة (116): يقصد بالزنا كل وطء بين رجل وامرأة بالغين في غير زواج صحيح، ولا شبهة زواج.
الإيضاح :
اختلف الفقهاء في تعريف الزنا:
بأن الزنا إيلاج حشفة أو قدرها في فرج (قبل أو دبر) من ذكر أو أنثى (حاشية الجمل، ج5/ ص 128). وعرفه صاحب المنهاج بأنه: إيلاج الذكر بفرج محرم لعينه خال من الشبهة مشتهى (متن المنهاج بصدر مغني المحتاج، 4 / 143 ).
وأما المالكية:
فعرفوا الزنا بأنه وطء مكلف مسلم فرج آدمي قبلاً أو دبراً باتفاق لا ملك له فيه باتفاق العلماء)، تعمداً أخرج النسيان والغلط). (الدسوقي، والشرح الكبير 4/ 313، 327). وقال ابن عرفة في تعريفه: هو تغييب حشفة آدمي في فرج آخر دون شبهة عمداً (التاج والإكليل، 6 / 290 ).
وعرفه ابن رشد في بداية المجتهد بأنه: كل وطء وقع على غير نكاح، ولا ملك صحيح، ولا شبهة نكاح، ولا ملك يمين. (بداية المجتهد 2/ 362).
أما الحنابلة:
فقالوا في تعريف الزنا: أنه فعل الفاحشة في قبل أو دبر (الإقناع 4 / 250 ).
وقال الظاهرية :
الزنا وطء الرجل من لا يحل النظر إلى مجردها، وهي ليست فراشاً ، ولا له فيها شبهة، وهو عالم بالتحريم (المحلى 11 / 229 ).
وعرفه الشيعة الأمامية :
بأنه إيلاج الإنسان ذكراً في فرج امرأة محرمة من غير عقد ولا ملك ولا شبهة (شرائع الإسلام 2/ 242)، وفسره في الروضة البهية: إيلاج الذكر البالغ في فرج امرأة بل مطلق أنثى - قبلاً أو دبراً - محرمة عليه في غير عقد نكاح بينهما، ولا ملك من الفاعل للقابل، ولا شبهة موجبة لاعتقاد الحل - قدر الحشفة عالماً مختاراً .(الروضة البهية 2 / 347).
أما الحنفية:
فالزنا عندهم في اللغة والشرع بمعنى واحد، وهو وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهة. وهذا هو تعريف الزنا الشرعي الأعم، فإن الشرع لم يخص اسم الزنا بها وجب الحد بل هو أعم، والموجب للحد بعض أنواعه، فلو وطئ جارية أبيه لا يجد للزنا، ولا يحد قاذفه بالزنا مع أن فعله زنا.
أما الزنا بالمعنى الأخص الموجب للحد عندهم فهو ما جاء بالتعريف الوارد بهذه المادة، مضافاً إليه القيود التي جرى بها نص هذه المادة، من اشتراط البلوغ والعقل والاختيار والنطق، وهي قيود خارجة عن ماهية الزنا، لكنها شروط لإجراء حكم الزنا.
ابن عابدین ، 3/ 145 وما بعدها، بدائع الصنائع للكاساني، 3/ 23 ، 34 ، فتح القدير، 4/ 339 - 31 ، الفتاوی الهندية، 3 / 143 ، شرح الدر المختار، 2/ 47 ، 48، ملا مسكين في الكنز 263 وما بعدها، البحر الرائق، 5/ 3).
وقد اختارت اللجنة هذا التعريف للزنا في مذهب الحنفية لدقته وشموله ، ولذا كان الفقهاء متفقين على اعتبار وطء الرجل في قبل امرأة زنا موجباً للحد، مع اختلافهم فيها وراء ذلك من القيود، فإنهم اختلفوا في اعتبار الوطء في غير قبل المرأة زناً ، ومن ثم رأت اللجنة أن تلتزم ما اتفقوا عليه، في حالة التحريم التزاماً بما أقرته اللجنة العليا.
فلم تأخذ بقول من اعتبر من الفقهاء جريمة اللواطة زنا، ولأن أهل اللغة - کما قرر الأحناف - فصلوا بين اللواطة والزنا.
كما لم تشترط اللجنة قيد الاشتهاء في المزني بها حسبما ذهب إليه الحنفية ؛ لتعذر الوقوف على حقيقة هذا المعنى الاشتهاء)؛ إذ إنه أمر نسبي يختلف فيه الناس باختلاف ميولهم وأمزجتهم ، وذلك أخذاً بالمذاهب الفقهية الأخرى عدا مذهب الشافعية ممن لا يشترطون هذا القيد.
ورأت اللجنة أنه لا فرق بين أن يكون الزنا باجر تستأجر له المرأة أو بغير أجر - وهو ما جرى عليه جمهور الفقهاء في المذاهب - عدا الإمام أبي حنيفة، وإجلاء لوجه الرأي في هذه المسألة التي عمت بلواها في زماننا نبسط الآراء الفقهية وأدلتها من مراجعها فنقول:
ورد في المبسوط ج 9 ص 59 : (رجل استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها، فلا حد عليها في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى: عليهما الحد التحقيق فعل الزنا منهما؛ فإن الاستئجار ليس بطریق لاستباحة البضع شرعاً فكان لغواً ، بمنزلة ما لو استأجرها للطبخ أو الخبز ثم زنی بها، وهذا لأن محل الاستئجار منفعة لها حكم المالية، والمستوفي بالوطء في حكم العتق وهو ليس بمال أصلاً ، والعقد بدون محله لا ينعقد أصلاً ، فإذا لم ينعقد به كان هو والإذن سواء، ولو زنی بها بإذنها يلزمه الحد، لكن أبو حنيفة رحمه الله احتج بحدثين ذكرهما عمر رضى الله عنه : أحدهما: أن امرأة استسقت راعياً فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ عمر رضى الله عنه الحد عنها. والثاني: أن امرأة سألت رجلاً مالاً فأبى أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ الحد، وقال: هذا مهر. ولا يجوز أن يقال: إنها درأ الحد عنها، لأنها كانت مضطرة تخاف الهلاك من العطش. لأن هذا المعنى لا يوجب سقوط الحد عنه، وهو غير موجود فيما إذا كانت سائلة مالاً كما ذكرنا في الحديث الثاني مع أنه علل فقال إن هذا مهر. ومعنى هذا أن المهر والأجر يتقاربان، قال تعالى: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) [النساء: 24).
سمي المهر أجراً ، ولو قال: أمهرتك كذا لأزني بك. لم يجب الحد، فكذلك إذا قال: استأجرتك. توضيحه: أن هذا الفعل ليس بزنى، وأهل اللغة لا يسمون الوطء الذي يترتب على العقد زناً ، ولا يفصلون بين الزنا وغيره إلا بالعقد، فكذلك لا يفصلون بين الاستئجار والنکاح؛ لأن الفرق بينهما شرعي، وأهل اللغة لا يعرفون ذلك فعرفنا أن هذا الفعل لیس بزنا لغة، وذلك شبهة في المنع من وجوب الحد حقاً لله تعالى.
وجاء في فتح القدير (ج 4 ص 149): (ومن شبهة العقد ما إذا استأجرها ليزني بها ففعل لا حد عليه ويعزر. وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي، ومالك، وأحمد: يحد؛ لأن عقد الإجارة لا يستباح به البضع، فصار كما لو استأجرها للطبخ ونحوه من الأعمال ثم زنی بها، فإنه يجد اتفاقاً ، وله (لأبي حنيفة) أن المستوفي بالزنا المنفعة وهي المعقود عليه في الإجارة، لكنه في حكم العين، فبالنظر إلى الحقيقة تكون محلاً لعقد الإجارة، فأورث شبهة بخلاف الاستئجار للطبخ ونحوه؛ لأن العقد لم يضف إلى المستوفى بالوطء، والعقد المضاف إلى محل يورث الشبهة فيه، لا في محل آخر. ثم قال: والحق في هذا كله وجوب الحد؛ إذ المذكور معنی يعارضه کتاب الله، قال الله تعالى: ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) [النور: 2].
فالمعنى الذي يفيد أن فعل الزنا مع قوله: أزني بك. لا يجلد معه للفظه للمهر معارض له). انتهى. وجاء في ابن عابدین ج 3 ص 161): (ولا حد بالزنى بالمستأجرة له ، أي للزنا ، والحق وجوب الحد کالمستأجرة للخدمة - فتح - زاد في الحاشية (أي كما هو قولهما (أبو يوسف ومحمد) - وجاء في مغني المحتاج الشافعية (ج 4 ص 146): (ويحد في وطء مستأجرة للزنا لانتفاء الملك والعقد، وعقد الإيجار باطل، ولا يورث شبهة مؤثرة، كما لو اشترى خمراً فشربها». وعن أبي حنيفة أنه لا حد؛ لأن الإجارة شبهة، وعورض بأنها لو كانت شبهة لثبت النسب، ولا يثبت اتفاقاً).
وجاء في المغني لابن قدامة الحنبلي (ج 10 ص 194): (وإذا استأجر امرأة لعمل شيء فزنى بها، أو استأجرها ليزني بها وفعل ذلك، أو زنی بامرأة ثم تزوجها أو اشتراها فعليها الحد. و به قال أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة : لا حد عليها في هذه المواضع).
وفي حاشية الدسوقي على شرح الدردير للمالكية (ج 4 ص 313): (أو إتيان حرة أو أمة مستأجرة أجرت نفسها، أو أجرها وليها أو سيدها لوطء أو غيره كخدمة، فيحد واطئها المستأجر، ولا يكون الاستئجار شبهة تدرأ عنه الحد).
ومن هذا يستبين أن من عدا الإمام أبي حنيفة من فقهاء الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة - يرون وجوب الحد على الزانية والزاني في حالة الاستئجار للزنا، دون اعتبار العقد الإجارة الذي لا يكون شبهة تسقط الحد.
وقد أخذت اللجنة قول جمهور الفقهاء، واعتبار الزنا بالمستأجرة لهذا الغرض موجباً للحد على الزانية والزاني، عملاً بالقول الأقوى حجة، وسداً لذرائع الفساد في هذه الجريمة التي قد يحتال على ارتكابها بمثل هذه الحيلة، ونصت المادة أنه يلزم لاعتبار الوطء من الزنا أن يكون خاليا من شبهة، كوطء من تزوجها بغير شهود، ومطلقته ثلاثاً في العدة. وذلك لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
هذا والأصل في درء الحد بالشبهة حديث: «ادرءوا الحدود بالشبهات، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن تخطى في العقوبة». والجمهور على الأخذ به، ودرء الحد بالشبهة خلافاً للظاهرة الذين لا يسلمون بدرء الحدود بالشبهات؛ لأنهم لا يصححون الحديث، وجمهور الفقهاء مختلفون فيما يعتبر شبهة وما لا يعتبر، وهي عند الحنفية نوعان. جاء في ابن عابدین (ج3ص145، 146).
الشبهة نوعان:
1 - شبهة محل، ويقال لها: شبهة ملك، أو شبهة حكمية، كوطء من تزوجها بغير شهود، وهي شبهة محل في ملك نكاح.
2- شبهة في الفعل وتسمى شبهة اشتباه کوطء معتدة الثلاث. (والكمال في الحظر عند التعري عن الملك وشبهته، يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (ادرءوا الحدود بالشبهات). ثم الشبهة وهي ما يشبه الثابت وليس بثابت، نوعان: شبهة في الفعل، وتسمى: شبهة اشتباه، أي هي شبهة في حق من اشتبه عليه، وليست بشبهة في حق من لم يشتبه عليه، حتى لو قال: علمت أنها تحرم علي حد. وشبهة في المحل، وتسمى: شبهة حكمية، وتسمى شبهة ملك أيضاً ، فإنها لا توجب الحد، وإن قال: علمت أنها حرام علي.
وضرب في فتح القدير أمثلة لمواضع شبهة الفعل، منها أن يطأ مطلقته ثلاثاً في العدة أو بائناً على مال، وكذا المختلعة.
ولشبهة المحل وطء المطلقة طلاقاً بائناً بالكنایات) انتهى.
(فتح القدير ، ج 4 / ص140 ، 141).
وقد اعتبر الإمام أبو حنيفة وزفر نوعا ثالثا، وهو شبهة العقد، ومعناها أن شبهة العقد تكفي بذاتها لدرء الحد، ما دام العقد قد تم بالإيجاب والقبول ممن هو أهل له في الأصل. وعند مالك يقام الحد مع صورة العقد ما دامت الزوجة محرمة عليه، وهو عامد عالم بالتحريم، وهذا هو مذهب الشافعي والحنابلة والزيدية وكثيرين.
وحجة الجمهور أن الفعل حصل في محل مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك فهو زنی، والفاعل من أهل الحد عالم بالتحريم، فيلزمه كما لو لم يوجد عقد زواج، ثم إن صورة المبيح تكون شبهة عند صحتها، لكن العقد هنا باطل، وفعله فيه العقوبة في ذاته، فلا يكون شبهة دارئة لحد الزنى.
وكما تقدم جعل المشروع الشبهة دارئة للحد، واتبع رأي الجمهور في تحديد الشبهات دون رأي أبي حنيفة في اعتبار صورة العقد شبهة؛ لأنه ما دام الشخص عالماً بالتحريم يعتبر زئی لا شبهة فيه. والقول بغير ذلك فيه توسع في تطبيق مبدأ درء الحد بالشبهة.
المحلى، ج 11 ص 151 ، 305 ، السرخسي، ج9 / ص 151 وما بعدها، شرح فتح القدير، ج4 ص 141 وما بعدها، الكاساني ج7/ ص 42 وما بعدها، ص 225 ومابعدها شرح الكنز للعيني، ج1 /ص 225 وما بعدها، اللباب للميداني، ج 2/ ص 59، الجوهرة المنيرة، ج 1 ص 245 ، تبيين الحقائق للزيلعي، ج3/ ص 179 وما بعدها، حاشية الدسوقي، ج 4 / ص313 وما بعدها، المدونة الكبرى، ج 16/ ص 2 وما بعدها، واقعات المفتين ص 91 ، بداية المجتهد، ج 2 / ص 467 وما بعدها، المغني، ج 10/ ص 152 وما بعدها، البحر الزخار، ج 5 ص 143، الماوردي، ص 213 وما بعدها)، ويكون من الزنا أيضاً ويجري عليه حكمه، ولو مكنته المرأة من هذا الفعل، أو مكنها هو منه، بأن استلقي على ظهره فقعدت على ذكره فإنهما يحدان لوجود التمكين الذي أدى إلى الزنا والوطء، بإدخال حشفة الرجل أو مقدارها من مقطوع الحشفة في قبل المرأة (المراجع السابقة).
وقد اشترط الفقهاء الإجراء حكم الزنا أن يكون كل من الزانية أو الزاني مكلفاً - أي بالغاً ، عاقلاً ؛ لأنها مناط التكليف، والبلوغ يكون في الذكر والأنثى أصلاً بظهور الأمارات الطبيعية التي تدل عليه، كظهور شعر اللحية في الذكر والثديين في الأنثى، فإذا لم تظهر تلك الأمارات الطبيعية، فإن سن البلوغ يتحقق في كل منهما بإتمامه من العمر ثماني عشرة سنة هجرية، طبقاً لمذهب المالكية في ذلك، وسبق توضیح ذلك في المادة (32) من هذا القانون، فإذا لم يتوافر في الجاني شرط البلوغ، فإنه لا يعد مرتكبا لجريمة الزنى الموجبة للحد شرعاً ؛ لسقوط التكليف عنه، كذلك يشترط لإجراء حكم الزنى توافر العقل في الجاني، إذ المجنون ليس أهلاً لخطاب الشرع، فيسقط عنه التكليف، ولا يعتبر الجاني حينئذ زانياً يقام عليه حد الزنا شرعاً ؛ وذلك عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يفيق، وعن الصبي حتى يعقل أو يحتلم». والحديث له روايات كثيرة، والرواية السابقة في مجمع الزوائد. وروي في سنن أبي داود بلفظ: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر». (سنن أبي داود 4/ 139). ولأن العقل والبلوغ هما مناط التكليف، فإذا انعدما أو انعدم أحدهما لا يجب الحد؛ لأن الحد عقوبة سببها الجناية (الزنی)، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية.
كذلك يشترط أن يكون الزاني أو الزانية مختاراً غير مكره، فإن كان أحدهما مكرها سقط عنه الحد؛ لأن الإكراه يسلب الإرادة، والمكره لا تدخل له فيها فعل؛ لأنه أمام من أكرهه كالآلة لا إرادة له ولا اختيار، وعدل الله يقضي بألا يؤاخذ الإنسان بما فعل من غير إرادة كاملة، ولذا لم يؤخذ بكفره حالة إكراهه، قال تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) [النحل: 106]، والكفر أعظم الجرائم وأشدها فحشاء، فإذا كان هذا شأن المكره عليه، فأولى أن يكون في غير ذلك من الجرائم التي تسقط بالشبهة، فلا يؤخذ بما ارتكب من زنا في حالة إكراهه.
فسقوط الحد عن الزانية بالإكراه متفق عليه بين عامة أهل العلم، روي ذلك عن عمر والزهري وقتادة والثوري والشافعي وأصحابه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «وعفي لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه».
وروى عبد الجبار بن وائل عن أبيه: أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد. رواه الأشرم، قال: أتي عمر بإماء من إماء الإمارة استكرههن غلمان الإمارة، فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء. ولأن هذا شبهة تسقط الحد والحدود تدرأ بالشبهات، ولا فرق في الإكراه بين أن يكون بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها. وبين الإكراه بالقتل ونحوه، نص عليه الإمام أحمد في راع جاءته امرأة قد عطشت، فسألته أن يسقيها، فقال لها: أمكنيني من نفسك. قال: هذه مضطرة. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن امرأة استسقت راعياً فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها، ففعلت فرفع ذلك إلى عمر فقال العلي: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة. فأعطاها عمر شيئاً وتركها.
أما إذا أكره الرجل فزنى، فيرى الحنابلة أنه يحد وبه قال ابن الحسن، وأبو ثور، والحنفية فيما عدا إكراه السلطان الذي قال أبو حنيفة وصاحبه زفر: إنه يسقط الحد، وإن أكرهه غيره حد استحساناً . وحجة هؤلاء أن الوطء لا يكون إلا بالانتشار والإكراه ينافيه فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه، فيلزمه الحد كما لو أكره على غير الزنا فزنی .
وقال الشافعي وابن المنذر: لا حد عليه؛ لعموم الخبر، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات والإكراه شبهة فيمنع الحد، كما لو كانت امرأة، يحققه أن الإكراه إذا كان بالتخويف. أو يمنع ما تفوت حياته بمنعه، كان الرجل فيه كالمرأة، فإذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه، وقولهم أن التخويف ينافي الانتشار لا يصح؛ لأن التخويف بترك الفعل، والفعل لا يخاف منه فلا يمنع ذلك، ويقول ابن قدامة الذي أورد هذه الأقوال في المغني: أن هذا هو أصح الأقوال إن شاء الله تعالى (المغني لابن قدامة، ج 8/ 186، 187 ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/ 283 ، المبسوط للسرخسي، 9 / 59 ، حاشية الجمل شرح المنهج، 5/ 130 ، المختصر النافع في فقه الإمامية، ص 213 ، الروضة البهية في فقه الظاهرية، 2/ 349). وقد اختارت اللجنة القول بوجوب توفر الاختيار للزانية أو الزاني عند ارتكاب الجريمة لتوقيع العقوبة الحدية على كل منهما عملاً بمذهب الشافعية وابن المنذر في الرجل الزاني المكره، وباتفاق العلماء في المرأة الزانية المكرهة، وقدمنا أن الإكراه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات.
ومما لا يخفى هنا أن الزاني إذا وقع منه الإكراه، فإنه يقام عليه الحد؛ لعدم وجود ما
يسقطه، بل إن تعديه هنا بالإكراه أبرز وأظهر، وذلك رغم سقوط الحد عمن زنى بها التي وقع عليها الإكراه، وكذلك يكون الحكم لو أكرهت المرأة رجلاً على أن يزني بها، أقيم عليها دونه؛ لما ذكر.
واشترط النطق في الزانية أو الزاني حتى يقام الحد بعد تحقق الشروط السابقة.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الأخرس والخرساء إذا زنى كل منهما: جاء في ابن عابدین 3/ 145): (الزاني وطء مكلف ناطق خرج وطء الأخرس فلا حد عليه مطلقاً للشبهة)، وعلق عليه في الحاشية فقال: (مطلقاً أي سواء ثبت عليه بإقراره بالإشارة، أو بينة كما جاء في البحر وغيره).
وجاء في المبسوط (9 / 155): وكل رجل يزني بامرأة لا يجب عليها الحد بشبهة مثل الخرساء التي لا تنطق فلا حد عليه ؛ لأن الشبهة تمكنت هنا، والخرساء لو كانت تنطق ربها تدعي شبهة نكاح، وقد لا تقدر على إظهار ما في نفسها بالإشارة، وقد بينا أنها لو ادعت النكاح سقط عنها الحد. فكذلك إذا كانت خرساء. والأصل فيه حديث عمر رضى الله عنه: (ادرءوها ما استطعتم، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، فإذا وجدتم للمسلم مخرجاً فادرءوا عنه).
وجاء بصحيفة (98) من المرجع السابق: (ولا يؤخذ الأخرس بحد الزنى، ولا بشيء من الحدود وإن أقر به إشارة أو كتابة، أو شهدت عليه شهود. وعند الشافعي رحمه الله تعالى: يؤخذ بذلك؛ لأنه نفس مخاطبة فهو كالأعمى أو أقطع اليدين أو الرجلين. ولكنا نقول: إذا أقر به بالإشارة بدل العبارة، والحد لا يقام بالبدل، ولأنه لا بد من الإقرار وذلك لا يوجد في إشارة الأخرس، إنها الذي يفهم من إشارته الوطء، فلو أقر الناطق بهذه العبارة لا يلزمه الحد، كذلك الأخرس، وكذلك إن كتب به ؛ لأن الكتابة تتردد والكتابة قائمة مقام العبارة والحد لا يقام بمثله، وكذلك إن شهدت الشهود عليه بذلك؛ لأنه لو كان ناطقاً ربما يدعي شبهة تدرأ الحد، وليس كل ما يكون في نفسه يقدر على إظهاره بالإشارة، فلو أقمنا عليه الحد كان إقامة الحد مع تمكن الشبهة، ولا يوجد مثله في الأعمى والأقطع لتمكنه من إظهار دعوى الشبهة).
وقال الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبو الثور، وابن المنذر: يقبل إقرار الأخرس إذا كان بإشارة معلومة أو كتابة مفهومة؛ قياساً على قبول إقراره في غير الحدود (أسنى المطالب، 4/ 131 ، المغني 10 / 171 ، المدونة 4 / 424 ، تبصرة الحكام 2 / 253 ).
وقد أخذت اللجنة برأي الحنفية؛ لقوة أدلتهم، وبه قال الخرقي من الحنابلة، ومن ثم يشترط النطق لإقامة الحد على الزانية والزاني.
وغني عن البيان أنه إذا لم تتوافر الشروط الواردة بهذه المادة أو بعضها، أو تخلفت عناصر جريمة الزنى مما يسقط معه الحد - فإن ذلك لا يمنع من النظر في تعزير الجاني، إن رأت المحكمة وجها لذلك، وثبت لديها ما يستوجب التعزیر طبقاً لأحكام هذا القانون.
ولم تشترط اللجنة الإسلام في الزاني أخذا بمذاهب الإمامين الشافعي وأحمد والظاهرية.
فلقد اختلف الفقهاء في حكم الزنى من غير المسلمين، فذهب المالكية ومعظم الحنفية وهو قول الجمهور إلى اشتراط الإسلام، وأنه شرط للإحصان الموجب للرجم، وخالفها الإمامان الشافعي وأحمد، فلم يشترطا ذلك، ودليلها حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً أسلم - يريد ماعز بن مالك - ورجلاً من اليهود، وامرأته (يريد الجهنية). رواه مسلم، وقصة اليهوديين في الصحيحين من حديث ابن عمر، وفي الحديث دليل على إقامة الحد على الكافر و الزاني، وأجاب من اشترط الإسلام بأن رجم اليهوديين كان بحكم التوراة لا بحكم الإسلام، وتمام ذلك في كتب الحديث والفقه والقصة تحتمل الأمرين، والقول الأول باشتراط الإسلام بني على عدم صحة شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض. والقول الثاني بعدم اشتراط الإسلام في الزاني مبني على جواز ذلك وفيه خلاف معروف (سبل السلام للحافظ العسقلاني، جزء 4/ ص 16 ، 17)، ولابن حزم في المحلى حديث شيق ناقش فيه دليل المالكية والحنفية، وقرر أن تعلقهم في الاستدلال بآية: ( فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) [المائدة: 43]. غير مجد؛ لأن الآية عامة لا خاصة، وهم قد خصوا، فأوجبوا على أهل الذمة حدود السرقة والقذف والحرابة، وأسقطوا عنهم حدي الزنا والخمر فقط ، وهذا تحكم لم يوجبه القرآن ولا السنة ولا الإجماع، رغم أن الآية قد نسخت ؛ لقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه).
وإن قيل: إن في السرقة والقذف ظلم مسلم، ولا يقرون على ظلم مسلم ولا ذمي. قيل: إن في الزنى كذلك ظلماً لمسلم أو ذمي، إذا كان الزنى في امرأة مسلمة أو ذمية لا يقرون عليه بحال، والتخصيص بلا دلیل.
والآية فيها الحكم بينهم وليس الحكم عليهم في الحد هنا، إلى آخر ما ناقش به الأدلة منتهياً إلى تأييد حجة القائلين بعدم اشتراط الإسلام في الزاني ، ووجوب إقامة الحد على غير المسلمين في الزنى المحلى، ج 11 / ص 158، 159 ، 160) (والمراجع السابقة في باب الزنا).
واختارت اللجنة العمل بالقول الثاني، وهو رأي الجمهور والشافعي وأحمد، القائل بعدم اشتراط الإسلام في الزاني؛ لقوة أدلتهم، وحتى لا يكون في إعفاء غير المسلم من هذا الحد عند مقارفة هذه الجريمة، وأخذ المسلم بالحكم - مفارقة غير مقبولة ولا مستساغة، وحتى لا يكون في ذلك مجال لتفشي الجريمة في غير المسلمين وهم يخالطون المسلمين، في مجتمع إسلامي ارتضى بحكم الله وسار على منهج الدين الحنيف، مع أن الزنی محرم في كل الشرائع السماوية.
(إثبات الزني)
مادة (128): من واقع أنثى برضاها يعاقب كل منهما بالحبس.
وفي حالة الإحصان المبين في المادة (119) من هذا القانون، أو وقوع الجريمة بين محرمين تكون العقوبة السجن، وإذا اجتمع هذان الشرطان يحكم بالسجن مدة لا تقل عن سبع سنوات.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن ، الصفحة / 129
بِغَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
الْبِغَاءُ مَصْدَرُ: بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً، بِمَعْنَى: فَجَرَتْ، فَهِيَ بَغِيٌّ، وَالْجَمْعُ بَغَايَا، وَهُوَ وَصْفٌ مُخْتَصٌّ بِالْمَرْأَةِ، وَلاَ يُقَالُ لِلرَّجُلِ: بَغِيٌّ .
وَيُعَرِّفُ الْفُقَهَاءُ الْبِغَاءَ بِأَنَّهُ: زِنَى الْمَرْأَةِ. أَمَّا الرَّجُلُ فَلاَ يُسَمَّى زِنَاهُ بِغَاءً. وَالْمُرَادُ مِنْ بِغَاءِ الْمَرْأَةِ هُوَ خُرُوجُهَا تَبْحَثُ عَمَّنْ يَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ الْفِعْلَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُكْرَهَةً أَمْ غَيْرَ مُكْرَهَةٍ، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلاَمِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالي : ( وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) وَقَدْ ذَكَرَتْ كُتُبُ التَّفْسِيرِ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآْيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ جَوَارٍ، وَكَانَ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَقَدْ سُمِّيَ فِعْلُهُنَّ وَهُنَّ مُكْرَهَاتٌ عَلَيْهِ بِغَاءً، فَإِطْلاَقُ هَذَا الاِسْمِ عَلَيْهِ مَعَ رِضَاهُنَّ يَصِحُّ، بَلْ أَوْلَى، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْقَيْدِ الَّذِي فِي الآْيَةِ وَهُوَ قوله تعالي : ( إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) فَسَتَأْتِي الإْشَارَةُ إِلَيْهِ .
حُكْمُ أَخْذِ الْبَغِيِّ مَهْرًا:
نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ، لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ» فَإِنَّ مِنَ الْبَغَايَا مَنْ كُنَّ يَأْخُذْنَ عِوَضًا عَنِ الْبِغَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى مُجَاهِدٌ فِي قوله تعالي : ( وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ) قَالَ: كَانُوا يَأْمُرُونَ وَلاَئِدَهُمْ فَيُبَاغِينَ، فَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فَيُصَبْنَ، فَيَأْتِينَهُمْ بِكَسْبِهِنَّ. وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ جَارِيَةٌ كَانَتْ تُبَاغِي، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، وَحَلَفَتْ أَلاَّ تَفْعَلَهُ، فَأَكْرَهَهَا، فَانْطَلَقَتْ فَبَاغَتَ بِبُرْدٍ أَخْضَرَ، فَأَتَتْهُمْ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآْيَةَ .
وَالْمُرَادُ بِمَهْرِ الْبَغِيِّ: مَا تُؤْجِرُ بِهِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا عَلَى الزِّنَى، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْرِيمِهِ. وَتَفْصِيلُ بَقِيَّةِ الأْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبِغَاءِ مَحَلُّهَا مُصْطَلَحُ: (زِنَى).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 277
الزِّنَى الَّذِي لاَ حَدَّ فِيهِ، وَمُقَدِّمَاتُهُ :
الزِّنَى إِذَا تَوَافَرَتِ الشَّرَائِطُ الشَّرْعِيَّةُ لِثُبُوتِهِ فَإِنَّ فِيهِ حَدَّ الزِّنَى، أَمَّا إِذَا لَمْ يُطَبَّقِ الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ لِوُجُودِ شُبْهَةٍ أَوْ لِعَدَمِ تَوَافُرِ شَرِيطَةٍ مِنَ الشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ لِثُبُوتِ الْحَدِّ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ جَرِيمَةً شُرِعَ الْحُكْمُ فِيهَا - أَوْ فِي جِنْسِهَا - لَكِنَّهُ لَمْ يُطَبَّقْ. وَكُلُّ جَرِيمَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ قِصَاصَ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، سَوَاءٌ كَانَتْ شُبْهَةَ فِعْلٍ أَوْ شُبْهَةَ مِلْكٍ، أَوْ شُبْهَةَ عَقْدٍ، فَإِنَّ الْحَدَّ لاَ يُطَبَّقُ. لَكِنَّ الْجَانِيَ يُعَزَّرُ؛ لأِنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ.
وَتُعْرَفُ الشُّبْهَةُ بِأَنَّهَا: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ. أَوْ: هِيَ وُجُودُ الْمُبِيحِ صُورَةً، مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (اشْتِبَاهٌ).
وَ إِذَا كَانَتِ الْمَزْنِيُّ بِهَا مَيِّتَةً فَفِي هَذَا الْفِعْلِ التَّعْزِيرُ؛ لأِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ زِنًى، إِذْ حَيَاةُ الْمَزْنِيِّ بِهَا شَرِيطَةٌ فِي الْحَدِّ.
وَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ مِنْ رَجُلٍ فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ، بَلِ التَّعْزِيرُ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْمُسَاحَقَةُ.
وَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ فِي قُبُلِ امْرَأَةٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ الْحَدِّ، لَكِنَّ فِيهِ التَّعْزِيرَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي الدُّبُرِ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَالْقَوْلُ بِالْقَتْلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ زِنًى، وَفِيهِ الْحَدُّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ اللِّوَاطَ زِنًى، وَفِيهِ حَدُّ الزِّنَى. وَمِنْ هَؤُلاَءِ: مَالِكٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ لَدَى الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ فِيهِ حَدَّ الزِّنَى: وَ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ فِي زَوْجَةِ الْفَاعِلِ فَلاَ حَدَّ فِيهِ بِالإْجْمَاعِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ.
وَمِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ فِي هَذَا الْمَجَالِ كُلُّ مَا دُونَ الْوِقَاعِ مِنْ أَفْعَالٍ، كَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ، وَالْمُحْصَنُ، وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ أَيْضًا: إِصَابَةُ كُلِّ مُحَرَّمٍ مِنَ الْمَرْأَةِ غَيْرِ الْجِمَاعِ. وَعِنَاقُ الأْجْنَبِيَّةِ، أَمْ تَقْبِيلُهَا.
وَمِمَّا فِيهِ التَّعْزِيرُ كَذَلِكَ: كَشْفُ الْعَوْرَةِ لآِخَرَ، وَخِدَاعُ النِّسَاءِ، وَالْقَوَادَةُ، وَهِيَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِلزِّنَى، وَبَيْنَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالِ لِلِّوَاطِ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس عشر ، الصفحة / 243
الْجَلْدُ فِي حَدِّ الزِّنَى:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ حَدَّ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ الزَّانِي الْبِكْرِ - وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُجَامِعْ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ - مِائَةُ جَلْدَةٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، سَوَاءٌ أَزَنَى - بِبِكْرٍ أَمْ ثَيِّبٍ. لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ.
وَحَدَّ غَيْرِ الْحُرِّ: نِصْفُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحْصَنًا أَمْ غَيْرَ مُحْصَنٍ. لقوله تعالي ( فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ).
وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْحَرَائِرُ، وَحَدُّ الْحُرَّةِ إِمَّا الرَّجْمُ أَوِ الْجَلْدُ، وَالرَّجْمُ لاَ يَتَنَصَّفُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ حَدَّ غَيْرِ الْحُرَّةِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ الْبِكْرِ: وَهُوَ خَمْسُونَ جَلْدَةً، وَقِيسَ عَلَيْهَا الذَّكَرُ غَيْرُ الْحُرِّ؛ لأِنَّ الأُْنُوثَةَ وَصْفٌ أَلْغَاهُ الشَّارِعُ فِي الْحُدُودِ، وَنَحْوِهَا، فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالأْنْثَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَلْدِ الْمُحْصَنِ مَعَ الرَّجْمِ - وَهُوَ الْبَالِغُ الْحُرُّ الَّذِي جَامَعَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ فِي حَدِّهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الآْيَةَ ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) عَامَّةٌ؛ لأِنَّ الأْلِفَ وَاللاَّمَ فِيهَا لِلْجِنْسِ، فَتَشْمَلُ الْمُحْصَنَ، وَغَيْرَ الْمُحْصَنِ، إِلاَّ أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ أَخْرَجَتِ الْمُحْصَنَ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدُّ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي الْبَالِغِ الْحُرِّ الْبِكْرِ: مِائَةُ جَلْدَةٍ.
وَرَجَمَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم الْغَامِدِيَّةَ، وَمَاعِزًا، وَالْيَهُودِيَّيْنِ وَلَمْ يَجْلِدْهُمْ، وَلَوْ جَلَدَهُمْ مَعَ الرَّجْمِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ حَضَرَ عَذَابَهُمَا مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ لَنُقِلَ إِلَيْنَا، وَيَبْعُدُ أَلاَّ يَرْوِيَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ حَضَرَ. فَعَدَمُ إِثْبَاتِهِ فِي رِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ مَعَ تَنَوُّعِهَا وَاخْتِلاَفِ أَلْفَاظِهَا: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْجَلْدُ.
وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، بِأَحَادِيثِ الْغَامِدِيَّةِ، وَمَاعِزٍ، وَالْيَهُودِيَّيْنِ.
وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ ثَابِتٌ عَلَى الْبِكْرِ، سَاقِطٌ عَنِ الثَّيِّبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اجْتَمَعَ حَدَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِمَا الْقَتْلُ، أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ.
- وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ تَقُولُ: إِنَّ مَا أَوْجَبَ أَعْظَمَ الأْمْرَيْنِ بِخُصُوصِهِ لاَ يُوجِبُ أَهْوَنَهُمَا بِعُمُومِهِ. فَزِنَا الْمُحْصَنِ أَوْجَبَ أَعْظَمَ الأْمْرَيْنِ - وَهُوَ الرَّجْمُ - بِخُصُوصِ كَوْنِهِ «زِنَا مُحْصَنٍ» فَلاَ يُوجِبُ أَهْوَنَهُمَا - وَهُوَ الْجَلْدُ - بِعُمُومِ كَوْنِهِ زِنًى.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ يُجْلَدُ قَبْلَ الرَّجْمِ، ثُمَّ يُرْجَمُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَبِهِ قَالَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ : قوله تعالي : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) وَهَذَا عَامٌّ: يَشْمَلُ الْمُحْصَنَ وَغَيْرَ الْمُحْصَنِ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِالرَّجْمِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، وَالتَّغْرِيبِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم .
وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ». وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّرِيحُ الثَّابِتُ لاَ يُتْرَكُ إِلاَّ بِمِثْلِهِ. وَالأْحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً، فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِيهَا الرَّجْمُ وَلَمْ يُذْكَرِ الْجَلْدُ، فَلاَ يُعَارَضُ بِهِ الصَّرِيحُ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّغْرِيبَ يَجِبُ لِذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الآْيَةِ؛ وَلأِنَّهُ زَانٍ فَيُجْلَدُ؛ وَلأِنَّهُ قَدْ شُرِعَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ عُقُوبَتَانِ: الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ، فَيُشْرَعُ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ أَيْضًا عُقُوبَتَانِ: الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ فَيَكُونُ الْجَلْدُ مَكَانَ التَّغْرِيبِ. وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الرابع والعشرون ، الصفحة / 18
زِنَى
التَّعْرِيفُ:
- الزِّنَى: الْفُجُورُ.
وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: زَنَى زِنَاءً: وَيُقَالُ: زَانَى مُزَانَاةً، وَزِنَاءً بِمَعْنَاهُ.
وَشَرْعًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِتَعْرِيفَيْنِ: أَعَمُّ، وَأَخَصُّ. فَالأْعَمُّ: يَشْمَلُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لاَ يُوجِبُهُ، وَهُوَ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ.
قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِلزِّنَى فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ.
فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَخُصَّ اسْمَ الزِّنَى بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنْهُ بَلْ هُوَ أَعَمُّ. وَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ. وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ...» الْحَدِيثُ. وَلَوْ وَطِئَ رَجُلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ لاَ يُحَدُّ لِلزِّنَا، وَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِالزِّنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ زِنًا وَإِنْ كَانَ لاَ يُحَدُّ بِهِ.
وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الأْخَصُّ لِلزِّنَى: هُوَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهُوَ «وَطْءُ مُكَلَّفٍ طَائِعٍ مُشْتَهَاةً حَالاً أَوْ مَاضِيًا فِي قُبُلٍ خَالٍ مِنْ مِلْكِهِ وَشُبْهَتِهِ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ، أَوْ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ تَمْكِينُهَا». وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ وَطْءُ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ فَرْجَ آدَمِيٍّ لاَ مِلْكَ لَهُ فِيهِ بِلاَ شُبْهَةٍ تَعَمُّدًا.
وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِيلاَجُ حَشَفَةٍ أَوْ قَدْرِهَا فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ مُشْتَهًى طَبْعًا بِلاَ شُبْهَةٍ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ فِي قُبُلٍ أَوْ فِي دُبُرٍ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَطْءُ، وَالْجِمَاعُ:
- أَصْلُ الْوَطْءِ فِي اللُّغَةِ: الدَّوْسُ بِالْقَدَمِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ النِّكَاحُ، يُقَالُ: وَطِئَ الْمَرْأَةَ يَطَؤُهَا أَيْ نَكَحَهَا وَجَامَعَهَا. وَمَعْنَاهُ اصْطِلاَحًا: الْجِمَاعُ.
فَكُلٌّ مِنَ الْوَطْءِ وَالْجِمَاعِ أَعَمُّ مِنَ الزِّنَى، إِذْ قَدْ يَكُونُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيَكُونُ نِكَاحًا حَلاَلاً، وَمَعَ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَكُونُ زِنًى حَرَامًا.
ب - اللِّوَاطُ:
- اللِّوَاطُ لُغَةً: إِتْيَانُ الذُّكُورِ فِي الدُّبُرِ، وَهُوَ عَمَلُ قَوْمِ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ عليه السلام. يُقَالُ: لاَطَ الرَّجُلُ لِوَاطًا وَلاَوَطَ، أَيْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ.
وَاصْطِلاَحًا: إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ فِي دُبُرِ ذَكَرٍ. وَحُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
ج - السِّحَاقُ:
- السِّحَاقُ وَالْمُسَاحَقَةُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: فِعْلُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بِبَعْضٍ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الْمَجْبُوبِ بِالْمَرْأَةِ يُسَمَّى سِحَاقًا.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الزِّنَى وَالسِّحَاقِ، أَنَّ السِّحَاقَ لاَ إِيلاَجَ فِيهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
الزِّنَى حَرَامٌ. وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَوَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا). وَقَالَ تَعَالَى: ( وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً).
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: قوله تعالي : ( وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى) أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: وَلاَ تَزْنُوا. فَإِنَّ مَعْنَاهُ لاَ تَدْنُوا مِنَ الزِّنَى.
وَرَوَى «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ».
وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى تَحْرِيمِهِ. فَلَمْ يَحِلَّ فِي مِلَّةٍ قَطُّ. وَلِذَا كَانَ حَدُّهُ أَشَدَّ الْحُدُودِ؛ لأِنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الأْعْرَاضِ وَالأْنْسَابِ. وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ حِفْظُ النَّفْسِ وَالدِّينِ وَالنَّسَبِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ.
تَفَاوُتُ إِثْمِ الزِّنَى:
- يَتَفَاوَتُ إِثْمُ الزِّنَى وَيَعْظُمُ جُرْمُهُ بِحَسَبِ مَوَارِدِهِ. فَالزِّنَى بِذَاتِ الْمَحْرَمِ أَوْ بِذَاتِ الزَّوْجِ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، إِذْ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الزَّوْجِ، وَإِفْسَادُ فِرَاشِهِ، وَتَعْلِيقُ نَسَبٍ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ أَذَاهُ. فَهُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا وَجُرْمًا مِنَ الزِّنَى بِغَيْرِ ذَاتِ الْبَعْلِ وَالأْجْنَبِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَارًا انْضَمَّ لَهُ سُوءُ الْجِوَارِ. وَإِيذَاءُ الْجَارِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الأْذَى، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَائِقِ، فَلَوْ كَانَ الْجَارُ أَخًا أَوْ قَرِيبًا مِنْ أَقَارِبِهِ انْضَمَّ لَهُ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ فَيَتَضَاعَفُ الإْثْمُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لاَ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ». وَلاَ بَائِقَةَ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِامْرَأَةِ الْجَارِ. فَإِنْ كَانَ الْجَارُ غَائِبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَالْعِبَادَةِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْجِهَادِ، تَضَاعَفَ الإْثْمُ حَتَّى إِنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوقَفُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ، إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ فَمَا ظَنُّكُمْ ؟» أَيْ مَا ظَنُّكُمْ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ ؟ قَدْ حَكَمَ فِي أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا شَاءَ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ رَحِمًا لَهُ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمِهَا، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ الزَّانِي مُحْصَنًا كَانَ الإْثْمُ أَعْظَمَ، فَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَانَ أَعْظَمَ إِثْمًا وَعُقُوبَةً، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، أَوْ بَلَدٍ حَرَامٍ، أَوْ وَقْتٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ اللَّهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الإْجَابَةِ تَضَاعَفَ الإْثْمُ.
أَرْكَانُ الزِّنَى:
صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ رُكْنَ الزِّنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ. فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَرُكْنُهُ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ وَمُوَارَاةُ الْحَشَفَةِ؛ لأِنَّ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الإْيلاَجُ وَالْوَطْءُ. وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَذَاهِبِ الأْخْرَى، حَيْثُ إِنَّهُمْ يُعَلِّقُونَ حَدَّ الزِّنَى عَلَى تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا عِنْدَ عَدَمِهَا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ تَغْيِيبٌ انْتَفَى الْحَدُّ. وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ هُوَ الَّذِي يَحْدُثُ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْوَاطِئِ - مِلْكِ يَمِينِهِ وَمِلْكِ نِكَاحِهِ - فَكُلُّ وَطْءٍ حَدَثَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهُوَ زِنًى يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ. أَمَّا إِذَا حَدَثَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْوَاطِئِ فَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ زِنًى وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ مُحَرَّمًا، حَيْثُ إِنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَيْسَ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِعَارِضٍ. كَوَطْءِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ الْحَائِضَ أَوِ النُّفَسَاءَ.
وَيُشْتَرَطُ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ، وَهُوَ أَنْ يَرْتَكِبَ الزَّانِي الْفِعْلَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَطَأُ امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تُمَكِّنَ الزَّانِيَةُ مِنْ نَفْسِهَا وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَطَؤُهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا. وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ حَدَّ عَلَى الْغَالِطِ وَالْجَاهِلِ وَالنَّاسِي.
حَدُّ الزِّنَى:
- كَانَ الْحَبْسُ وَالإْمْسَاكُ فِي الْبُيُوتِ أَوَّلَ عُقُوبَاتِ الزِّنَى فِي الإْسْلاَمِ لقوله تعالي : ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً).
ثُمَّ إِنَّ الإْجْمَاعَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ مَنْسُوخٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الأْذَى هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لاَ ؟ فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ)( وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا)كَانَ فِي أَوَّلِ الأْمْرِ فَنَسَخَتْهُمَا الآْيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ. وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ فَالأْذَى وَالتَّعْبِيرُ بَاقٍ مَعَ الْجَلْدِ؛ لأِنَّهُمَا لاَ يَتَعَارَضَانِ بَلْ يُحْمَلاَنِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يُؤَدَّبَا بِالتَّوْبِيخِ فَيُقَالُ لَهُمَا: فَجَرْتُمَا وَفَسَقْتُمَا، وَخَالَفْتُمَا أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَالنَّاسِخُ هُوَ قوله تعالي : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَاطَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
وَبِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً. الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ».
- وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ حَتَّى الْمَوْتِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الإْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ التَّوَاتُرَ. وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله تعالي عنه أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ. فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الاِعْتِرَافُ. وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ. لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه» أَنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: أَجْلِدُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَرْجُمُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَرِوَايَةُ الرَّجْمِ فَقَطْ هِيَ الْمَذْهَبُ.
- كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً مِائَةُ جَلْدَةٍ إِنْ كَانَ حُرًّا. وَأَمَّا الْعَبْدُ أَوِ الأْمَةُ فَحَدُّهُمَا خَمْسُونَ جَلْدَةً سَوَاءٌ كَانَا بِكْرَيْنِ أَوْ ثَيِّبَيْنِ لقوله تعالي : ( فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ).
وَزَادَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) التَّغْرِيبَ عَامًا لِلْبِكْرِ الْحُرِّ الذَّكَرِ.
وَعَدَّى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّغْرِيبَ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا. كَمَا زَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمُ التَّغْرِيبَ نِصْفَ عَامٍ لِلْعَبْدِ.
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى تَعْرِيفِ الإْحْصَانِ وَشُرُوطِهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَانٍ 2 / 222).
كَمَا سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى التَّغْرِيبِ وَأَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَغْرِيبٍ 1 - 2).
شُرُوطُ حَدِّ الزِّنَى:
أَوَّلاً: الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:
أ -إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا:
- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا فِي الْفَرَجِ. فَلَوْ لَمْ يُدْخِلْهَا أَصْلاً أَوْ أَدْخَلَ بَعْضَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لأِنَّهُ لَيْسَ وَطْئًا. وَلاَ يُشْتَرَطُ الإْنْزَالُ وَلاَ الاِنْتِشَارُ عِنْدَ الإْدْخَالِ. فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لاَ. انْتَشَرَ ذَكَرُهُ أَمْ لاَ.
ب- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُكَلَّفًا:
- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُكَلَّفًا أَيْ عَاقِلاً بَالِغًا. فَالْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ لاَ حَدَّ عَلَيْهِمَا إِذَا زَنَيَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ».
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّائِمَةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى حَدِّ السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ إِذَا زَنَى.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَسْأَلَةٌ مَا لَوْ وَطِئَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ - الْمُكَلَّفُ - مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً يُوطَأُ مِثْلُهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اتِّفَاقًا؛ لأِنَّ الْوَاطِئَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَدِّ؛ وَلأِنَّ وُجُودَ الْعُذْرِ مِنْ جَانِبِهَا لاَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لاَ يُوطَأُ مِثْلُهَا لاَ حَدَّ عَلَى وَاطِئَهَا.
ج - أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ:
- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّحْرِيمِ شَرْطٌ فِي حَدِّ الزِّنَى. فَإِنْ كَانَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإْسْلاَمِ أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ دَارِ الإْسْلاَمِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ. وَلِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلاً زَنَى بِالْيَمَنِ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ رضي الله تعالي عنه إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَى فَاجْلِدُوهُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ عَذَرَ رَجُلاً زَنَى بِالشَّامِ وَادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى. وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا عَذَرَا جَارِيَةً زَنَتْ وَهِيَ أَعْجَمِيَّةً وَادَّعَتْ أَنَّهَا لاَ تَعْلَمُ التَّحْرِيمَ. وَلأِنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ.
وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهُ لاَ تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالتَّحْرِيمِ إِلاَّ مِمَّنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ أَمَارَةُ ذَلِكَ، بِأَنْ نَشَأَ وَحْدَهُ فِي شَاهِقٍ، أَوْ بَيْنَ قَوْمٍ جُهَّالٍ مِثْلِهِ لاَ يَعْلَمُونَ تَحْرِيمَهُ، أَوْ يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَتَهُ، إِذْ لاَ يُنْكَرُ وُجُودُ ذَلِكَ. فَمَنْ زَنَى وَهُوَ كَذَلِكَ فِي فَوْرِ دُخُولِهِ دَارَنَا لاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ، إِذِ التَّكْلِيفُ بِالأْحْكَامِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ مَنِ اشْتَرَطَ الْعِلْمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ نَقْلِ الإْجْمَاعِ بِخِلاَفِ مَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي دَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ، ثُمَّ دَخَلَ دَارَنَا فَإِنَّهُ إِذَا زَنَى يُحَدُّ وَلاَ يُقْبَلُ اعْتِذَارُهُ بِالْجَهْلِ.
وَلاَ يَسْقُطُ الْحَدُّ بِجَهْلِ الْعُقُوبَةِ إِذَا عُلِمَ التَّحْرِيمُ، لِحَدِيثِ «مَاعِزٍ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِرَجْمِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ رَجْمِهِ رُدُّونِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَإِنَّ قَوْمِي قَتَلُونِي غَرُّونِي مِنْ نَفْسِي وَأَخْبَرُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ قَاتِلِي».
انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ:
مِنَ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِحَدِّ الزِّنَى وَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».
وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالإْرْسَالِ تَارَةً وَبِالْوَقْفِ تَارَةً أُخْرَى. قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الإْرْسَالَ لاَ يَقْدَحُ، وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ؛ لأِنَّ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلاَفُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لاَ يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ. وَأَيْضًا فِي إِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الأْمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كِفَايَةٌ. وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ. وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الأْمَّةُ بِالْقَبُولِ. وَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَقَدْ عَلِمْنَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ». كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إِلاَّ كَوْنَهُ إِذَا قَالَهَا تُرِكَ، وَإِلاَّ فَلاَ فَائِدَةَ. وَلَمْ يَقُلْ لِمَنِ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ، لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَضَاعَتْ، وَنَحْوِهِ.
وَكَذَا قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه لِشُرَاحَةَ: لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ، لَعَلَّ مَوْلاَكِ زَوَّجَكِ مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ.
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلاَ شَكٍّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الاِسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الاِحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ؛ لأِنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الإْقْرَارِ وَبِهِ الثُّبُوتُ. وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الآْثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ». فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فِي ضَرُورِيٍّ فَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى قَائِلِهِ وَلاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الاِخْتِلاَفُ أَحْيَانًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الشُّبُهَاتِ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ بِهَا أَمْ لاَ.
وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ.
وَقَدْ قَسَّمَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الشُّبْهَةَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ. تَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى النَّوْعَيْنِ الأْوَّلَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ.
الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ:
- وَتُسَمَّى أَيْضًا: شُبْهَةُ الْمُشَابَهَةِ، وَشُبْهَةُ الاِشْتِبَاهِ.
وَهِيَ: أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلاً. فَتَتَحَقَّقَ فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَقَطْ، أَيْ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ، وَلاَ دَلِيلَ فِي السَّمْعِ يُفِيدُ الْحِلَّ بَلْ ظَنُّ غَيْرِ الدَّلِيلِ دَلِيلاً، فَلاَ بُدَّ مِنَ الظَّنِّ، وَإِلاَّ فَلاَ شُبْهَةَ أَصْلاً، لِفَرْضِ أَنْ لاَ دَلِيلَ أَصْلاً لِتَثْبُتَ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الأْمْرِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَنُّهُ ثَابِتًا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ أَصْلاً، وَلَيْسَتْ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: إِنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ.
ثُمَّ إِنَّ شُبْهَةَ الْفِعْلِ تَكُونُ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ: ثَلاَثَةٍ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَخَمْسَةٍ فِي الْجَوَارِي.
فَمَوَاضِعُ الزَّوْجَاتِ: مَا لَوْ وَطِئَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ وَطِئَ مُطَلَّقَتَهُ الْبَائِنَ فِي الطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَوِ الْمُخْتَلِعَةَ.
وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ جَارِيَةِ الأْبِ أَوِ الأْمِّ أَوِ الْجَدِّ أَوِ الْجَدَّةِ وَإِنْ عَلَوْا، وَوَطْءُ جَارِيَةِ الزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ أُمِّ وَلَدِهِ الَّتِي أَعْتَقَهَا وَهِيَ فِي الاِسْتِبْرَاءِ، وَالْعَبْدُ يَطَأُ جَارِيَةَ مَوْلاَهُ، وَالْمُرْتَهِنُ يَطَأُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ عِنْدَهُ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهِنِ.
فَالْوَاطِئُ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ إِذَا ظَنَّ الْحِلَّ يُعْذَرُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لأِنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الاِشْتِبَاهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، فَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى دَعْوَاهُ وَيُحَدُّ. وَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْلِ وَإِنِ ادَّعَاهُ؛ لأِنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًى لِفَرْضِ أَنْ لاَ شُبْهَةَ مِلْكٍ هُنَا، إِلاَّ أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ لِظَنِّهِ الْمَحَلَّ، فَضْلاً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْوَاطِئِ لاَ إِلَى الْمَحَلِّ، فَكَأَنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حِلٍّ، فَلاَ يَثْبُتُ نَسَبٌ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَا لاَ تَثْبُتُ بِهِ عِدَّةٌ؛ لأِنَّهُ لاَ عِدَّةَ مِنَ الزَّانِي.
وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا؛ لأِنَّهُ وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ، فَيَكْفِي ذَلِكَ لإِثْبَاتِ النَّسَبِ. وَأُلْحِقَتْ بِهَا الْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ، وَالْمُخْتَلِعَةُ.
وَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعُلُوقِ السَّابِقِ عَلَى الطَّلاَقِ. وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا يَثْبُتُ إِلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَلاَ يَثْبُتُ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ. وَيَجِبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْلِ مَهْرُ الْمِثْلِ.
الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ: وَتُسَمَّى أَيْضًا الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ وَشُبْهَةُ الْمِلْكِ:
وَتَنْشَأُ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْحِلِّ فِي الْمَحَلِّ، فَتُصْبِحُ الْحُرْمَةُ الْقَائِمَةُ فِيهَا شُبْهَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً، نَظَرًا إِلَى دَلِيلِ الْحِلِّ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «أَنْتَ وَمَالُكَ لأِبِيكَ». فَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ لأِجْلِ شُبْهَةٍ وُجِدَتْ فِي الْمَحَلِّ وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ؛ لأِنَّ الشُّبْهَةَ إِذَا كَانَتْ فِي الْمَوْطُوءَةِ يَثْبُتُ فِيهَا الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ اسْمُ الزِّنَى فَامْتَنَعَ الْحَدُّ؛ لأِنَّ الدَّلِيلَ الْمُثْبِتَ لِلْحِلِّ قَائِمٌ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ إِثْبَاتِهِ لِمَانِعٍ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ تَكُونُ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: وَاحِدٌ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَالْبَاقِي فِي الْجَوَارِي.
فَمَوْضِعُ الزَّوْجَاتِ: وَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ بِالطَّلاَقِ الْبَائِنِ بِالْكِنَايَاتِ، فَلاَ يُحَدُّ، لاِخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي كَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً.
وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ الأْبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، وَوَطْءُ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا لِلْمُشْتَرِي، وَوَطْءُ الزَّوْجِ الْجَارِيَةَ الْمَجْعُولَةَ مَهْرًا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا لِلزَّوْجَةِ حَيْثُ إِنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْمُشْتَرِي وَالزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ، وَوَطْءُ الْمُرْتَهِنِ لِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ. وَزَادَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمُكَاتَبِ، وَوَطْءَ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي. وَكَذَا وَطْءُ جَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَجَارِيَتُهُ قَبْلَ الاِسْتِبْرَاءِ، وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ بِرِدَّتِهَا، أَوْ بِمُطَاوَعَتِهَا لاِبْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ أُمَّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ بَعْضَ الأْئِمَّةِ لَمْ يُحَرِّمْ بِهِ، فَاسْتُحْسِنَ أَنْ يَدْرَأَ بِذَلِكَ الْحَدِّ. قَالَ: وَالاِسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَالاِقْتِصَارُ عَلَى السِّتَّةِ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ. فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لاَ يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ؛ لأِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّبْهَةُ، وَهِيَ هَاهُنَا قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ، وَلاَ اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْحُرْمَةِ وَعَدَمِهَا. وَيَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ إِذَا ادَّعَى الْوَلَدَ.
- شُبْهَةُ الْعَقْدِ:
- قَالَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ.
وَهِيَ عِنْدَهُ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ النَّسَبِيَّةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِمَا، فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إِحْدَى مَحَارِمِهِ بَعْدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً لاَ حَدًّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ وَلاَ تَعْزِيرَ. فَوُجُودُ الْعَقْدِ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَلاَلاً كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا، مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الأْنْثَى مِنْ أَوْلاَدِ آدَمَ مَحَلٌّ لِهَذَا الْعَقْدِ؛ لأِنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مَا يَكُونُ قَابِلاً لِمَقْصُودِهِ الأْصْلِيِّ، وَكُلُّ أُنْثَى مِنْ أَوْلاَدِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ. وَإِذَا كَانَتْ قَابِلَةً لِمَقْصُودِهِ كَانَتْ قَابِلَةً لِحُكْمِهِ، إِذِ الْحُكْمُ يَثْبُتُ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَقْصُودِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الأْحْكَامِ، إِلاَّ أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إِفَادَةِ الْحِلِّ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ فِيهِنَّ بِالنَّصِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً، إِذِ الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ لاَ الْحَقِيقَةَ نَفْسَهَا.
وَالأْنْثَى مِنْ أَوْلاَدِ آدَمَ مَحَلٌّ لِلْعَقْدِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَوْلَى بِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ، وَكَوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ لاَ يُنَافِي الشُّبْهَةَ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَالنِّكَاحُ فِي إِفَادَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، لأِنَّهُ شَرَعَ لَهُ بِخِلاَفِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَكَانَ أَوْلَى فِي إِفَادَةِ الشُّبْهَةِ؛ لأِنَّ الشُّبْهَةَ تُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ فَمَا كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الشُّبْهَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّا لِذَلِكَ بِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إِلَيْهِنَّ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّكُورِ، لِكَوْنِهِ صَادَفَ غَيْرَ الْمَحَلِّ فَيَلْغُو؛ لأِنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحِلُّ هُنَا، وَهِيَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَيَكُونُ وَطْؤُهَا زِنًى حَقِيقَةً لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ فِيهَا. وَإِلَيْهِ الإْشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَآبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) إِلَى قَوْلِهِ: ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) وَالْفَاحِشَةُ هِيَ الزِّنَى لقوله تعالي : ( وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) وَمُجَرَّدُ إِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِ الْمَحَلِّ لاَ عِبْرَةَ فِيهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا حَتَّى لاَ يُفِيدَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا يُعْذَرُ بِالاِشْتِبَاهِ.
وَمَحَلُّ الْخِلاَفِ بَيْنَهُمْ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ. أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ وَبِلاَ شُهُودٍ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْكُلِّ. فَالشُّبْهَةُ إِنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
ب - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الشُّبْهَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٍ فِي الْوَاطِئِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْمَوْطُوءَةِ، وَشُبْهَةٍ فِي الطَّرِيقِ.
فَالشُّبْهَةُ فِي الْوَاطِئِ: كَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الأْجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ، فَالاِعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُعْتَقِدٌ الإْبَاحَةَ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الاِشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَوْطُوءَةِ: كَالأْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ. فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الاِشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ. وَالشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ: كَاخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي إِبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ. فَإِنَّ قَوْلَ الْمُحَرِّمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، وَقَوْلَ الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، فَحَصَلَ الاِشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.
فَهَذِهِ الثَّلاَثُ هِيَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ. غَيْرَ أَنَّ لَهَا شَرْطًا وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقْدِمِ عَلَى الْفِعْلِ مُقَارَنَةَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُصُولِ السَّبَبِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ.
وَضَابِطُ الشُّبْهَةِ الَّتِي لاَ تُعْتَبَرُ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالْخُرُوجِ عَنِ الشُّبُهَاتِ الثَّلاَثِ الْمَذْكُورَةِ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلاَثًا قَبْلَ زَوْجٍ، أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوِ النَّسَبِ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ الْحَدَّ لاَ يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ.
ج - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
الشُّبْهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: شُبْهَةٍ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِلِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْجِهَةِ.
فَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَأَمَتِهِ قَبْلَ الاِسْتِبْرَاءِ، وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ. فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ. وَكَذَا لَوْ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، كَأُخْتِهِ مِنْهُمَا، أَوْ بِمُصَاهَرَةٍ كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، فَلاَ حَدَّ بِوَطْئِهَا فِي الأْظْهَرِ؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَأُخْتِهِ. أَمَّا مَنْ لاَ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَالأْمِّ وَالْجَدَّةِ فَهُوَ زَانٍ قَطْعًا.
وَكَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، أَوِ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ أَمَةُ ذِمِّيٍّ فَوَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِلِ، فَمِثْلُ أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً فِي فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَلَوْ ظَنَّهَا جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ فَكَانَتْ غَيْرَهَا فَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لأِنَّهُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَكَانَ عَلَيْهِ الاِمْتِنَاعُ. وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ احْتِمَالَيْنِ. وَجَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِسُقُوطِهِ. وَيَدْخُلُ فِي شُبْهَةِ الْفَاعِلِ الْمُكْرَهُ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ: فَهِيَ كُلُّ طَرِيقٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا فَلاَ حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ نَظَرًا لاِخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ. فَلاَ حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَبِلاَ شُهُودٍ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ. وَلاَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِشُبْهَةِ الْخِلاَفِ.
ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْخِلاَفِ فِي النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ أَنْ لاَ يُقَارِنَهُ حُكْمٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. فَإِنْ قَارَنَهُ حُكْمٌ قَاضٍ بِبُطْلاَنِهِ حُدَّ قَطْعًا، أَوْ حُكْمٌ قَاضٍ بِصِحَّتِهِ لَمْ يُحَدَّ قَطْعًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الضَّابِطَ فِي الشُّبْهَةِ قُوَّةُ الْمُدْرِكِ لاَ عَيْنُ الْخِلاَفِ. فَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ حِلُّ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ مِنْ عَالِمٍ يُعْتَدُّ بِخِلاَفِهِ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهُ الْفَاعِلُ.
د - الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
- لَمْ يُقَسِّمِ الْحَنَابِلَةُ الشُّبْهَةَ إِلَى أَنْوَاعٍ كَالْمَذَاهِبِ الأْخْرَى، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا لَهَا أَمْثِلَةً فَقَالُوا: لاَ حَدَّ عَلَى الأْبِ إِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا الاِبْنُ أَوْ لاَ؛ لأِنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ لِحَدِيثِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لأِبِيكَ». وَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِوَلَدِهِ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِمُكَاتَبِهِ فِيهَا شِرْكٌ؛ لِلْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ، وَلاَ حَدَّ إِنْ وَطِئَ أَمَةً كُلَّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ بَعْضَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ، لأِنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَلاَ حَدَّ إِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لأِنَّ الْوَطْءَ قَدْ صَادَفَ مِلْكًا، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يُقَلْ لَهُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ. وَلَوْ دَعَا ضَرِيرٌ امْرَأَتَهُ فَأَجَابَتْهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ دَعَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لأِنَّهُ لاَ يُعْذَرُ بِهَذَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلاً يَظُنُّهُ ابْنَهُ فَبَانَ أَجْنَبِيًّا. وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ أَوِ الْوَثَنِيَّةَ أَوِ الْمُرْتَدَّةَ أَوِ الْمُعْتَدَّةَ، أَوِ الْمُزَوَّجَةَ، أَوْ فِي مُدَّةِ اسْتِبْرَائِهَا فَلاَ حَدَّ، لأِنَّ هَا مِلْكُهُ. وَإِنْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مِلْكٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالنِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ، أَوْ بِلاَ شُهُودٍ، وَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَنِكَاحِ الأْخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَنَحْوِهَا، وَنِكَاحِ الْبَائِنِ مِنْهُ، وَنِكَاحِ خَامِسَةٍ فِي عِدَّةِ رَابِعَةٍ لَمْ تَبِنْ، وَنِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ قَبْلَ الإْجَازَةِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَمْ لاَ.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ إِذَا اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ.
وَإِنْ جَهِلَ نِكَاحًا بَاطِلاً إِجْمَاعًا كَخَامِسَةٍ فَلاَ حَدَّ لِلْعُذْرِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لأِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا. أَمَّا إِذَا عَلِمَ بِبُطْلاَنِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَلاَ حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي شِرَاءٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ لِلشُّبْهَةِ؛ لأِنَّ الْبَائِعَ بِإِقْبَاضِهِ الأْمَةَ كَأَنَّهُ أَذِنَهُ فِي فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَمِنْهُ الْوَطْءُ، أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ. كَمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي وَطْءِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ وَيَعْلَمُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ.
- مِنْ شُرُوطِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُخْتَارًا:
- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ». وَلأِنَّ هَذَا شُبْهَةٌ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِهَا.
وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الإْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى. فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالَّذِي بِهِ الْفَتْوَى وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِشُبْهَةِ الإْكْرَاهِ.
وَذَهَبَ الأْكْثَرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ لأِنَّ الْوَطْءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالاِنْتِشَارِ الْحَادِثِ بِالاِخْتِيَارِ.
وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهِ غَيْرِهِ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ فِي إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ؛ لأِنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا، وَالاِنْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ؛ لأِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لأِنَّ الاِنْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لاَ طَوْعًا، كَمَا فِي النَّائِمِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ، لأِنَّ الإْكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ لاَ يَدُومُ إِلاَّ نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الاِسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلاَحِ. وَالنَّادِرُ لاَ حُكْمَ لَهُ فَلاَ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، بِخِلاَفِ السُّلْطَانِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الاِسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلاَ الْخُرُوجُ بِالسِّلاَحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا.
وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ. قَالَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ: وَهَذَا اخْتِلاَفُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لاَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ، وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتِ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا.
ثَانِيًا: الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:
أ - اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ حَيَّةً:
- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ حَيَّةً، فَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ؛ لأِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ لِلزَّجْرِ، وَهَذَا مِمَّا يَنْفِرُ الطَّبْعُ عَنْهُ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدٍّ لِزَجْرِ الطَّبْعِ عَنْهُ. وَفِيهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَهُمْ.
وَيُعَبِّرُ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْفَرْجِ الْمُشْتَهَى طَبْعًا، وَهُوَ فَرْجُ الآْدَمِيِّ الْحَيِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فَيَجِبُ عِنْدَهُمُ الْحَدُّ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي قُبُلِهَا أَوْ دُبُرِهَا. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَ فَلاَ يُحَدُّ بِوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمَيْتَةِ. وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ الْمَرْأَةَ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيْتٍ غَيْرَ زَوْجٍ فِي فَرْجِهَا فَلاَ تُحَدُّ لِعَدَمِ اللَّذَّةِ.
ب -كَوْنُ الْمَوْطُوءَةِ امْرَأَةً:
- اشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ امْرَأَةً. فَلاَ حَدَّ عِنْدَهُ فِيمَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ، وَلَوِ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ قَتَلَهُ الإْمَامُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مِحْصَنٍ سِيَاسَةً. أَمَّا الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ بِزِنًى وَلاَ فِي مَعْنَاهُ فَلاَ يَثْبُتُ فِيهِ حَدٌّ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ، فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ جَلْدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ أُحْصِنَ، وَرَجْمًا إِنْ أُحْصِنَ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ حَدًّا أُحْصِنَا أَمْ لاَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْفَاعِلِ. أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لأِنَّ الْمَحَلَّ لاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ.
وَطْءُ الْبَهِيمَةِ:
ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ. وَمِثْلُ هَذَا لاَ يَقُولُهُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلأِنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَأْبَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى زَجْرٍ بِحَدٍّ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: بِأَنَّهُ يُقْتَلُ مُطْلَقًا مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.
وَمِثْلُ وَطْءِ الْبَهِيمَةِ مَا لَوْ مَكَّنَتِ امْرَأَةٌ حَيَوَانًا مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى وَطِئَهَا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهَا بَلْ تُعَزَّرُ.
وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لاَ تُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ، وَإِذَا قُتِلَتْ فَإِنَّهَا يَجُوزُ أَكْلُهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَكْلَهَا. وَقَالاَ: تُذْبَحُ وَتُحْرَقُ. وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا حَيَّةً وَمَيِّتَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُقْتَلُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ. وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ». وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهَا تُذْبَحُ إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، وَصَرَّحُوا بِحُرْمَةِ أَكْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ.
ج - كَوْنُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ:
- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، لأِنَّهُ فَرْجٌ أَصْلِيٌّ كَالْقُبُلِ.
وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ الْحَدَّ بِالْفَاعِلِ فَقَطْ. أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْلَدُ وَتُغَرَّبُ، مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ؛ لأِنَّ الْمَحَلَّ لاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ.
وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ فَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَرْأَةِ الأْجْنَبِيَّةِ. أَمَّا إِتْيَانُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَلاَ حَدَّ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ لاِرْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً. وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ التَّعْزِيرَ عَلَى مَا إِذَا تَكَرَّرَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلاَ تَعْزِيرَ فِيهِ.
د -كَوْنُ الْوَطْءِ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ:
اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الزِّنَى فِي دَارِ الإْسْلاَمِ. فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الإْسْلاَمِ وَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ».
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ.
وَلأِنَّ الْوُجُوبَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، وَلاَ قُدْرَةَ لِلإْمَامِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلاَ وُجُوبَ وَإِلاَّ عَرَى عَنِ الْفَائِدَةِ؛ لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الاِسْتِيفَاءُ لِيَحْصُلَ الزَّجْرُ، وَالْفَرْضُ أَنْ لاَ قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَرَجَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلإْيجَابِ حَالَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْقَلِبْ مُوجِبًا لَهُ حَالَ عَدَمِهِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا زَنَى فِي عَسْكَرٍ لأِمِيرِهِ وِلاَيَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَى؛ لأِنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَالْقُدْرَةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ خَرَجَ مِنَ الْعَسْكَرِ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَزَنَى ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعَسْكَرِ فَإِنَّهُ لاَ يُقِيمُهُ، وَكَذَا لَوْ زَنَى فِي الْعَسْكَرِ وَالْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَيَّامِ الْمُحَارَبَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَهَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِمَا إِذَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، بِخِلاَفِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ أَوِ السَّرِيَّةِ لأِنَّهُ إِنَّمَا فَوَّضَ لَهُمَا تَدْبِيرَ الْحَرْبِ لاَ إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلإْمَامِ، وَوِلاَيَةُ الإْمَامِ مُنْقَطِعَةٌ ثَمَّةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً مِنْ نَحْوِ رِدَّةِ الْمَحْدُودِ وَالْتِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْغَزْوِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى دَارِ الإْسْلاَمِ، لِمَا رَوَى جُنَادَةُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَالُ لَهُ: مَصْدَرٌ، قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ تُقْطَعُ الأْيْدِي فِي السَّفَرِ» وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَقَطَعْتُهُ.
وَنَقَلُوا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى دَارِ الإْسْلاَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُمُومِ الآْيَاتِ وَالأْخْبَارِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ، وَقَدْ زَالَ.
وَإِذَا أَتَى حَدًّا فِي الثُّغُورِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لأِنَّ هَا مِنْ بِلاَدِ الإْسْلاَمِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى زَجْرِ أَهْلِهَا كَالْحَاجَةِ إِلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ.
هـ - أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا:
- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ طَائِعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَيُرَدُّ إِلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، وَتُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ. وَإِنِ اسْتَكْرَهَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى الزِّنَى قُتِلَ.
وَقَدْ وَافَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأْخْرَى مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَقَطْ.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي: فَفِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لاَ يُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، وَيُحَدُّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: يُحَدُّ الْجَمِيعُ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: لاَ يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ.
فَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلاَ حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ لأِنَّهُ لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لاَ يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ، وَإِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيَّةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَدَّانِ جَمِيعًا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا بِالأْحْكَامِ، وَيُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ لاِلْتِزَامِهِ بِالأْحْكَامِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ رَجُلاً وَامْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ زَنَيَا». وَكَانَا قَدْ أُحْصِنَا. قَالَ الرَّمْلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْيَوْمَ لاَ يُحَدُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْمُسْتَأْمَنِ، لأِنَّهُمْ لاَ يُجَدَّدُ لَهُمْ عَهْدٌ، بَلْ يَجْرُونَ عَلَى ذِمَّةِ آبَائِهِمْ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُحَدُّونَ حَدَّ الزِّنَى، «لأِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا» وَيَلْزَمُ الإْمَامَ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِي زِنَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ؛ لاِلْتِزَامِهِمْ حُكْمَنَا. وَلاَ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى مُسْتَأْمَنٍ؛ لأِنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَنَا.
وَلأِنَّ زِنَى الْمُسْتَأْمَنِ يَجِبُ بِهِ الْقَتْلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَلاَ يَجِبُ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ سِوَاهُ. وَهَذَا إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ. أَمَّا إِذَا زَنَى الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ مُسْلِمَةٍ فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا:
اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا. فَلاَ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عِنْدَهُمْ عَلَى الأْخْرَسِ مُطْلَقًا، حَتَّى وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ أَوْ إِشَارَةٍ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَى لاَ تُقْبَلُ لِلشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ فَيَجِبُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الأْخْرَسِ إِذَا زَنَى.
ثُبُوتُ الزِّنَى:
يَثْبُتُ الزِّنَى بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: بِالشَّهَادَةِ، وَالإْقْرَارِ، وَالْقَرَائِنِ.
أ - الشَّهَادَةُ:
- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) وقوله تعالي : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) وقوله تعالي : ( لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْيَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ).
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : نَعَمْ».
وَيُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ عَلَى الزِّنَى بِالإِْضَافَةِ إِلَى الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ لِلشَّهَادَةِ (الْمَذْكُورَةِ فِي مُصْطَلَحِ شَهَادَةٍ) أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهِمْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ الزِّنَى، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:
الشَّرْطُ الأْوَّلُ: الذُّكُورَةُ:
31 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي شُهُودِ الزِّنَى، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونُوا رِجَالاً كُلَّهُمْ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ.
وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الزِّنَى بِحَالٍ؛ لأِنَّ لَفْظَ الأْرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الأْرْبَعَةَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لاَ يُكْتَفَى بِهِمْ، وَأَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ: ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأْخْرَى)وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّنَى لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ؛ وَلأِنَّ الزِّنَى مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ فَغُلِّظَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الإْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَمُلُوا أَرْبَعَةً حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ، لقوله تعالي : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) وَلأِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حَدَّ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى. وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ صُورَةَ الشَّهَادَةِ ذَرِيعَةً إِلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ.
وَعِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لاَ يُجْلَدُ الشُّهُودُ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ؛ لأِنَّهُمْ جَاءُوا شَاهِدِينَ لاَ هَاتِكِينَ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:
اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ الأْرْبَعَةِ فِي مَجْلِسٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ. كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعُوا خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، أَمَّا لَوْ كَانُوا قُعُودًا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَقَامَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدَ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ بَعْدَ إِتْيَانِهِمْ مَحَلَّ الْحَاكِمِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمْ يُفَرَّقُونَ وُجُوبًا لِيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَوْ بَعْضُهُمْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدُّوا.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ إِتْيَانَهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَأْتُوا مُتَفَرِّقِينَ لِقِصَّةِ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا. عَلَى أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَهُمْ قَذَفَةٌ؛ لأِنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلاَ صَحِيحَةٌ، وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنْ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَجْلِسٍ، لقوله تعالي : ( لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ). وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْلِسَ. وَقَالَ تَعَالَى: ( فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ). وَلأِنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٌ إِنِ اتَّفَقَتْ، تُقْبَلُ إِذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ:
يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى التَّفْصِيلُ، فَيَصِفُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّةَ الزِّنَى، فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَاهُ مُغَيِّبًا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا، أَوْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا - إِنْ كَانَ مَقْطُوعَهَا - فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، أَوِ الرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ، لأِنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ التَّصْرِيحَ فِي الإْقْرَارِ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى؛ وَلأِنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ الشَّاهِدُ مَا لَيْسَ بِزِنًى زِنًى، فَاعْتُبِرَ ذِكْرُ صِفَتِهِ. كَمَا يُبَيِّنُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّتَهُمَا مِنَ اضْطِجَاعٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ قِيَامٍ، أَوْ هُوَ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَهُمُ الْقَاضِي فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا زَنَيَا، فَإِنَّهُ لاَ يَحُدُّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَلاَ الشُّهُودَ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ شَهِدُوا بِأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لاَ يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ؛ لاِحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ.
كَمَا لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْبَلَدِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَعْيِينُ الْمَكَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، كَكَوْنِهَا فِي رُكْنِ الْبَيْتِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ، أَوْ وَسَطِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَكَانِ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِيهِ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْحَدُّ لاِخْتِلاَفِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالاِنْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالاِضْطِرَابِ، أَوْ لأِنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ، وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، أَمَّا فِي الْبَيْتِ الْكَبِيرِ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ.
وَلاَ بُدَّ أَيْضًا مِنْ تَعْيِينِ الزَّمَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِتَكُونَ الشَّهَادَةُ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدَ بِهِ أَحَدُهُمْ غَيْرَ مَا شَهِدَ بِهِ الآْخَرُ. فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَإِنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. وَكَذَا لاَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ أُخْرَى.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَصَالَةُ الشَّهَادَةِ:
اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي شُهُودِ الزِّنَى الأْصَالَةَ، فَلاَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى؛ لأِنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السِّتْرِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا شُبْهَةٌ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا اجْتِمَاعُ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْكَذِبِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ مَعَ احْتِمَالِ ذَلِكَ فِي شُهُودِ الأْصْلِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ زَائِدٌ لاَ يُوجَدُ فِي شُهُودِ الأْصْلِ، وَلأِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِنَّمَا تُقْبَلُ لِلْحَاجَةِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِّ، لأِنَّ سِتْرَ صَاحِبِهِ أَوْلَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى بِشَرْطِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ كُلِّ شَاهِدٍ أَصِيلٍ شَاهِدَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَ الشَّاهِدَانِ عَنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ عَنْ شَاهِدَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدَيْنِ النَّاقِلَيْنِ أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا أَصِيلاً، فَيَجُوزُ فِي الزِّنَى أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، أَوْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، أَوْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ، أَوْ يَشْهَدَ ثَلاَثَةٌ عَلَى ثَلاَثَةٍ، وَيَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الرَّابِعِ، وَإِذَا نَقَلَ اثْنَانِ عَنْ ثَلاَثَةٍ وَعَنِ الرَّابِعِ اثْنَانِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلاَفًا لاِبْنِ الْمَاجِشُونِ؛ وَوَجْهُ عَدَمِ صِحَّتِهَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْفَرْعُ إِلاَّ حَيْثُ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأْصْلِ لَوْ حَضَرَ، وَالرَّابِعُ الَّذِي نَقَلَ عَنْهُ الاِثْنَانِ الآْخَرَانِ لَوْ حَضَرَ مَا صَحَّتْ شَهَادَتُهُ مَعَ الاِثْنَيْنِ النَّاقِلَيْنِ عَنِ الثَّلاَثَةِ لِنَقْصِ الْعَدَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ لأِنَّ عَدَدَ الْفَرْعِ فِيهَا نَاقِصٌ عَنْ عَدَدِ الأْصْلِ حَيْثُ نَقَلَ عَنِ الثَّلاَثَةِ اثْنَانِ فَقَطْ، وَالْفَرْعُ لاَ يَنْقُصُ عَنِ الأْصْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَنِيَابَتِهِ مَنَابَهُ. كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّلْفِيقُ بَيْنَ شُهُودِ الأْصْلِ وَالْفَرْعِ، كَأَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى رُؤْيَةِ الزِّنَى، وَيَنْقُلَ اثْنَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الاِثْنَيْنِ الآْخَرَيْنِ.
شَهَادَةُ الزَّوْجِ عَلَى الزِّنَى:
- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَى لِلتُّهْمَةِ، إِذْ أَنَّهُ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهَا مُقِرٌّ بِعَدَاوَتِهِ؛ وَلأِنَّ هَا دَعْوَى خِيَانَتِهَا فِرَاشَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ؛ لأِنَّ التُّهْمَةَ مَا تُوجِبُ جَرَّ نَفْعٍ، وَالزَّوْجُ مُدْخِلٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ لُحُوقَ الْعَارِ وَخُلُوَّ الْفِرَاشِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا أَوْلاَدٌ صِغَارٌ.
وَانْظُرِ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَى الْقَدِيمِ، فِي مُصْطَلَحِ (حُدُودٍ ف 24)
وَأَمَّا بَقِيَّةُ مَسَائِلِ الشَّهَادَةِ كَرُجُوعِ الشُّهُودِ، وَظُهُورِ عَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشُّهُودِ، وَاخْتِلاَفِ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ، وَتَعَارُضِ الشَّهَادَاتِ، وَأَثَرِ تَعَهُّدِ النَّظَرِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٍ).
ب - الإْقْرَارُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالإْقْرَارِ، لأِنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارَيْهِمَا». وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الإْقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلاَ يُكْتَفَى بِالإْقْرَارِ مُرَّةً وَاحِدَةً، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ اشْتِرَاطَ كَوْنِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لاَ يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ، وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ تَكُونَ الأْقَارِيرُ الأْرْبَعَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الاِكْتِفَاءِ بِالإْقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لأِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اكْتَفَى مِنَ الْغَامِدِيَّةِ بِإِقْرَارِهَا مُرَّةً وَاحِدَةً.
وَيُشْتَرَطُ فِي الإْقْرَارِ أَنْ يَكُونَ مُفَصِّلاً مُبَيِّنًا لِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ لِتَزُولَ التُّهْمَةُ وَالشُّبْهَةُ. «وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ ؟ قَالَ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا ؟» لاَ يُكَنِّي فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَى ؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ حَلاَلاً».
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حُدُودٍ) ف 26، وَمُصْطَلَحَ: (إِقْرَارٍ) ف 12 وَمَا بَعْدَهَا، ، وَانْظُرْ أَيْضًا الشُّبْهَةَ بِتَقَادُمِ الإْقْرَارِ، وَالرُّجُوعَ فِي الإْقْرَارِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقْرَارٍ) ف 57 وَمَا بَعْدَهَا
الْبَيِّنَةُ عَلَى الإْقْرَارِ:
- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالْبَيِّنَةِ - الشَّهَادَةِ - عَلَى الإْقْرَارِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الإْقْرَارِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الإْقْرَارِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَلاَ يُحَدُّ، مِثْلُ الرُّجُوعِ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى أَرْبَعًا، يَثْبُتُ الزِّنَى لِوُجُودِ الإْقْرَارِ بِهِ أَرْبَعًا، وَلاَ يَثْبُتُ الإْقْرَارُ بِالزِّنَى بِدُونِ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الإْقْرَارِ بِهِ مِنَ الرِّجَالِ. فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الإْقْرَارَ، أَوْ صَدَّقَهُمْ دُونَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، لأِنَّ إِنْكَارَهُ وَتَصْدِيقَهُ دُونَ أَرْبَعٍ رُجُوعٌ عَنْ إِقْرَارِهِ، وَهُوَ مَقْبُولٌ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ. قَالُوا: لَوْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى فَقَالَ: مَا أَقْرَرْتُ، أَوْ قَالَ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِإِقْرَارِهِ: مَا أَقْرَرْتُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِ؛ لأِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلشُّهُودِ وَالْقَاضِي.
ج - الْقَرَائِنُ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِعِلْمِ الإْمَامِ وَالْقَاضِي، فَلاَ يُقِيمَانِهِ بِعِلْمِهِمَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى ثُبُوتِهِ بِعِلْمِهِ. وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ) ف 28
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ الْحَمْلِ وَاللِّعَانِ وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
أ - ظُهُورُ الْحَمْلِ:
- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ الْحَمْلِ فِي امْرَأَةٍ لاَ زَوْجَ لَهَا وَأَنْكَرَتِ الزِّنَى؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إِلَى عُمَرَ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ وَقَدْ حَمَلَتْ، وَسَأَلَهَا عُمَرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ وَقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ وَأَنَا نَائِمَةٌ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ حَتَّى نَزَعَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: إِذَا كَانَ فِي الْحَدِّ «لَعَلَّ» «وَعَسَى» فَهُوَ مُعَطَّلٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا تُسْأَلُ، وَلاَ يَجِبُ سُؤَالُهَا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ حَمْلِ امْرَأَةٍ لاَ زَوْجَ لَهَا، فَتُحَدُّ وَلاَ يُقْبَلُ دَعْوَاهَا الْغَصْبَ عَلَى ذَلِكَ بِلاَ قَرِينَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِذَلِكَ، أَمَّا مَعَ قَرِينَةٍ تُصَدِّقُهَا فَتُقْبَلُ دَعْوَاهَا وَلاَ تُحَدُّ، كَأَنْ تَأْتِيَ مُسْتَغِيثَةً مِنْهُ، أَوْ تَأْتِيَ الْبِكْرُ تَدَّعِي عَقِبَ الْوَطْءِ، وَكَذَا لاَ تُقْبَلُ دَعْوَاهَا أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْ مَنِيٍّ شَرِبَهُ فَرْجُهَا فِي الْحَمَّامِ، وَلاَ مِنْ وَطْءِ جِنِّيٍّ إِلاَّ لِقَرِينَةٍ مِثْلُ كَوْنِهَا عَذْرَاءَ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْعِفَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجِ زَوْجٌ يُلْحَقُ بِهِ الْحَمْلُ فَيَخْرُجُ الْمَجْبُوبُ وَالصَّغِيرُ، أَوْ أَتَتْ بِهِ كَامِلاً لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَقْدِ فَتُحَدُّ. وَمِثْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لاَ زَوْجَ لَهَا الأْمَةُ الَّتِي أَنْكَرَ سَيِّدُهَا وَطْأَهَا فَتُحَدُّ.
اللِّعَانُ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِاللِّعَانِ إِذَا لاَعَنَ الزَّوْجُ وَامْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنْهُ، فَيَثْبُتُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى حِينَئِذٍ وَتُحَدُّ، أَمَّا إِذَا لاَعَنَتْ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ اللِّعَانِ لاَ حَدَّ عَلَيْهَا؛ لأِنَّ زِنَاهَا لَمْ يَثْبُتْ؛ وَلأِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَيَحْبِسُهَا الْحَاكِمُ حَتَّى تُلاَعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لِعَانٍ).
إِقَامَةُ حَدِّ الزِّنَى:
مَنْ يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَى:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْحُرِّ إِلاَّ الإْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ) ف 36
عَلاَنِيَةُ الْحَدِّ:
اسْتَحَبَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُسْتَوْفَى حَدُّ الزِّنَى بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ. قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ؛ لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحُدُودِ الزَّجْرُ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُلُ إِلاَّ بِالْحُضُورِ.
وَأَوْجَبَ الْحَنَابِلَةُ حُضُورَ طَائِفَةٍ لِيَشْهَدُوا حَدَّ الزِّنَى. لقوله تعالي : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
كَيْفِيَّةُ إِقَامِهِ الْحَدِّ:
سَبَقَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْجَلْدِ وَالأْعْضَاءِ الَّتِي لاَ تُجْلَدُ، وَبَيَانُ إِذَا كَانَ الْمَحْدُودُ مَرِيضًا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ ضَعِيفًا لاَ يَحْتَمِلُ الْجَلْدَ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَلْدٍ) ف 12
كَمَا أَنَّ تَفْصِيلَ كَيْفِيَّةِ الرَّجْمِ فِي مُصْطَلَحِ: (رَجْمٍ) ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ فِي الرَّجْمِ مُتَوَسِّطَةً كَالْكَفِّ - تَمْلأَ الْكَفَّ - فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَمَ بِصَخَرَاتٍ تُذَفِّفُهُ (أَيْ تُجْهِزُ عَلَيْهِ فَوْرًا) فَيَفُوتُ التَّنْكِيلُ الْمَقْصُودُ، وَلاَ بِحَصَيَاتٍ خَفِيفَةٍ لِئَلاَّ يَطُولَ تَعْذِيبُهُ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَيَخُصُّ بِالرَّجْمِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي هِيَ مَقَاتِلُ مِنَ الظَّهْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ السُّرَّةِ إِلَى مَا فَوْقُ، وَيُتَّقَى الْوَجْهُ وَالْفَرْجُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ يَتَّقِيَ الرَّاجِمُ الْوَجْهَ لِشَرَفِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِكَيْفِيَّةِ وُقُوفِ الرَّاجِمِينَ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يُصَفُّوا عِنْدَ الرَّجْمِ كَصُفُوفِ الصَّلاَةِ، كُلَّمَا رَجَمَ قَوْمٌ تَأَخَّرُوا وَتَقَدَّمَ غَيْرُهُمْ فَرَجَمُوا. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ أَنْ يَدُورَ النَّاسُ حَوْلَ الْمَرْجُومِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَالدَّائِرَةِ إِنْ كَانَ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ؛ لأِنَّهُ لاَ حَاجَةَ إِلَى تَمْكِينِهِ مِنَ الْهَرَبِ، وَلاَ يُسَنُّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ زِنَاهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ لاِحْتِمَالِ أَنْ يَهْرُبَ فَيُتْرَكَ وَلاَ يُتَمَّمُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُحِيطُ النَّاسُ بِهِ.
مُسْقِطَاتُ حَدِّ الزِّنَى:
- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَى بِالشُّبْهَةِ، إِذِ الْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ». وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى الشُّبْهَةِ ف 14
كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَى بِالرُّجُوعِ عَنِ الإْقْرَارِ إِذَا كَانَ ثُبُوتُهُ بِالإْقْرَارِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ ف 14)
كَمَا يَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى بِرُجُوعِ الشُّهُودِ الأْرْبَعَةِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٍ).
- وَيَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى أَيْضًا بِتَكْذِيبِ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ لِلآْخَرِ لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى مِنْهُمَا، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْمُكَذِّبِ فَقَطْ دُونَ الْمُقِرِّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ مُؤَاخَذَةً بِإِقْرَارِهِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَكَذَّبَتْهُ لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنِ الْمُقِرِّ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا الْحَدُّ أَيْضًا لَوْ سَكَتَتْ، أَوْ لَمْ تُسْأَلْ عَنْ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ الْمُقِرِّ أَيْضًا، لاِنْتِفَاءِ الْحَدِّ عَنِ الْمُنْكِرِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلنَّفْيِ عَنْهُ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، لأِنَّ الزِّنَى فِعْلٌ وَاحِدٌ يَتِمُّ بِهِمَا. فَإِذَا تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ تَعَدَّتْ إِلَى طَرَفَيْهِ لأِنَّهُ مَا أُطْلِقَ، بَلْ أَقَرَّ بِالزِّنَى بِمَنْ دَرَأَ الشَّرْعُ الْحَدَّ عَنْهُ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَطْلَقَ وَقَالَ: زَنَيْتُ، فَإِنَّهُ لاَ مُوجِبَ شَرْعًا يَدْفَعُهُ.
وَبَقَاءُ الْبَكَارَةِ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الزِّنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَى فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا عَذْرَاءُ لَمْ تُحَدَّ بِشُبْهَةِ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، حَيْثُ إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا لَمْ تُوطَأْ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تَكْفِي شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِعُذْرَتِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَوْ رَجُلاَنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ، كَأَنْ يُقِرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ زَنَى بِفُلاَنَةَ حَتَّى كَانَ إِقْرَارُهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَقَالَتْ هِيَ: بَلْ تَزَوَّجَنِي، أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ كَذَلِكَ بِالزِّنَى مَعَ فُلاَنٍ، وَقَالَ الرَّجُلُ: بَلْ تَزَوَّجْتُهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لأِنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَهُوَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً. ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْبَيِّنَةِ حِينَئِذٍ عَلَى النِّكَاحِ. فَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: زَنَيْتُ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ، فَأَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَادَّعَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَكَذَّبَتْهُ وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ، أَمَّا حَدُّهَا فَظَاهِرٌ لإِقْرَارِهَا بِالزِّنَى، وَأَمَّا حَدُّهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُوَافِقْهُ عَلَى النِّكَاحِ وَالأْصْلُ عَدَمُ السَّبَبِ الْمُبِيحِ. قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَا طَارِئَيْنِ وَلَوْ حَصَلَ فُشُوٌّ، وَمِثْلُهُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى الرَّجُلُ وَطْءَ امْرَأَةٍ وَأَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَلَمَّا طُلِبَتْ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ قَالاَ: عَقَدْنَا النِّكَاحَ وَلَمْ نُشْهِدْ وَنَحْنُ نُشْهِدُ الآْنَ - وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فُشُوٌّ يَقُومُ مَقَامَ الإْشْهَادِ - فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ يُحَدَّانِ لِدُخُولِهِمَا بِلاَ إِشْهَادٍ.
وَكَذَا لَوْ وُجِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي بَيْتٍ أَوْ طَرِيقٍ - وَالْحَالُ أَنَّهُمَا غَيْرُ طَارِئَيْنِ - وَأَقَرَّا بِالْوَطْءِ وَادَّعَيَا النِّكَاحَ وَالإْشْهَادَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لاَ بَيِّنَةَ لَهُمَا بِذَلِكَ وَلاَ فُشُوَّ يَقُومُ مَقَامَهَا، فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ، لأِنَّ الأْصْلَ عَدَمُ السَّبَبِ الْمُبِيحِ لِلْوَطْءِ، فَإِنْ حَصَلَ فُشُوٌّ أَوْ كَانَا طَارِئَيْنِ، قُبِلَ قَوْلُهُمَا وَلاَ حَدَّ عَلَيْهِمَا؛ لأِنَّهُمَا لَمْ يَدَّعِيَا شَيْئًا مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى الْمُقِرِّ فَقَطْ دُونَ مَنِ ادَّعَى الزَّوْجِيَّةَ فَلاَ يُحَدُّ؛ لأِنَّ دَعْوَاهُ ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ؛ وَلاِحْتِمَالِ صِدْقِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَرْفُوعًا «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الإْمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» فَإِذَا أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوَعَةً عَالِمَةً بِتَحْرِيمِهِ حُدَّتْ وَحْدَهَا، وَلاَ مَهْرَ لَهَا مُؤَاخَذَةً لَهَا بِإِقْرَارِهَا.
وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْمُقِرِّ أَيْضًا. فَلَوْ قَالَ: زَنَيْتُ بِفُلاَنَةَ، فَقَالَتْ: كَانَ تَزَوَّجَنِي، صَارَ مُقِرًّا بِالزِّنَى وَقَاذِفًا لَهَا، فَيَلْزَمُهُ حَدُّ الزِّنَى وَحَدُّ الْقَذْفِ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اعْتِرَاضَ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الزِّنَى، بِأَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِجَارِيَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا - وَهِيَ إِحْدَى ثَلاَثِ رِوَايَاتٍ عَنْهُ - وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بُضْعَ الْمَرْأَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ الاِسْتِمَاعِ، فَحَصَلَ الاِسْتِيفَاءُ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ فَيَصِيرُ شُبْهَةً، كَالسَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لأِنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ زِنًى مَحْضًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلًّا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَحَصَلَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ الْمِلْكُ لاَ يَصْلُحُ مُسْقِطًا لاِقْتِصَارِهِ عَلَى حَالَةِ ثُبُوتِهِ؛ لأِنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ لِلْحَالِ، فَلاَ يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِهِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْوَطْءِ، فَبَقِيَ الْوَطْءُ خَالِيًا عَنِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ زِنًى مَحْضًا لِلْحَدِّ، بِخِلاَفِ السَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ لأِنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ وَهُوَ بُطْلاَنُ وِلاَيَةِ الْخُصُومَةِ؛ لأِنَّ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ شَرْطٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ، لِذَلِكَ افْتَرَقَا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ أَنَّ اعْتِرَاضَ الشِّرَاءِ يُسْقِطُ وَاعْتِرَاضَ النِّكَاحِ لاَ يُسْقِطُ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبُضْعَ لاَ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لَهَا، وَالْعُقْرُ بَدَلُ الْبُضْعِ، وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ لَهُ الْمُبْدَلُ فَلَمْ يَحْصُلِ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَلاَ يُورِثُ شُبْهَةً، وَبُضْعُ الأْمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِالشِّرَاءِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لِلْمَوْلَى فَحَصَلَ الاِسْتِيفَاءُ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَيُورِثُ شُبْهَةً، فَصَارَ كَالسَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الإْمْضَاءِ.
- كَمَا يَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى فِي الرَّجْمِ خَاصَّةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ بِمَوْتِ الشُّهُودِ أَوْ غَيْبَتِهِمْ أَوْ مَرَضِهِمْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ أَوْ قَطْعِ أَيْدِيهِمْ؛ لأِنَّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الإْقَامَةِ وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ ف 38)