1- لما كان الحكم المطعون فيه قد عرض لدفع الطاعن بتوافر موجبات المادة 60 من قانون العقوبات واطرحه فى قوله " وحيث إنه عن تمسك المتهمين باستعمال الحق كسبب لإباحة القذف والسب والذى من تطبيقاته الطعن فى أعمال الموظف وحق النقد ..... وكان الثابت من أوراق الدعوى أن المتهمين إنما قصدا من نشر الصورة التشهير بالمجنى عليه بما لها من دلالة ذاتيه وما كشف عنه العنوان المنشور قرينها من أنه ..... باعتبارها من العبارات التى فى غاية الإقزاع ومن أثر تلك الصورة أن تصور فى خيال القارئ أقدح المكاره وأزرى الصفات , فإن ذلك تشهير صريح لا يقبل فيه القول بحسن نية المتهمين , خاصة ولم يثبت أياً من المتهمين أن ..... أفقد المنصب هيبته أو تدنى بدور ..... أو جعل منه مطية للحاكم , سواء كان بالتحقيقات أو بجلسات المحاكمة , ولا يصح القول بأن المتهمين استهدفا بذلك القذف ..... إذ كان عليهما الالتزام بحدود ذلك الحق وأن تتوافر لديهما حسن النية التى انتفت لديهما تماماً حسبما بينت المحكمة فيما سلف . لما كان ذلك , وكان قضاء محكمة النقض قد استقر على أن كنه حسن النية فى جريمة قذف الموظفين العموميين هو أن يكون الطعن عليهم صادراً عن اعتقاد بصحة وقائع القذف ولخدمة المصلحة العامة لا عن قصد التشهير والتجريح شفاء لضغائن أو دوافع شخصية ولا يقبل من موجه الطعن فى هذه الحال إثبات صحة الوقائع التى أسندها إلى الموظف بل يجب إدانته حتى ولو كان يستطيع إثبات ما قذف به , كما أنه من المقرر أن النقد المباح هو إبداء الرأى فى أمر أو عمل دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل بغية التشهير به أو الحط من كرامته , فإذا تجاوز النقد هذا الحد وجب العقاب عليه , وكان الحكم المطعون فيه قد استخلص استخلاصاً سائغاً من الأدلة التى أوردها ثبوت جريمتى القذف والإخلال بواجب الإشراف على النشر فى حق الطاعن وأنه كان سيئ القصد والمحكوم عليه الأخر حين نشرا صورة المجنى عليه مقرونه بعبارة شائنه من شأنها لو صحت احتقاره عند أهل وطنه فإن ما يثيره الطاعن من مجادلة فى العناصر التى كونت المحكمة منها عقيدتها لا يكون له محل .
( الطعن رقم 835 لسنة 79 ق - جلسة 2012/03/17 - س 63 ص 296 ق 46 )
2 ـ إذا وقع بطلان فى الحكم . 3- إذا وقع فى الإجراءات بطلان أثر فى الحكم ويستثنى من ذلك الأحكام الصادرة فى الجنح المعاقب عليها بالغرامة التي لا تجاوز عشرين ألف جنيه كما لا يجوز الطعن فيما يتعلق بالدعوى المدنية وحدها إذا كانت التعويضات لا تجاوز نصاب الطعن بالنقض المنصوص عليها فى قانون المرافعات ... " . كما نص قانون العقوبات فى المادتين 303 ، 305 منه على أن عقوبة البلاغ الكاذب هي الغرامة التي لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد عن خمسة عشر ألف جنيه ... " ، ومن ثم فإن مناط عدم جواز الطعن هو قدر العقوبة المقررة بالحدود التي تضمنها النص تقديراً من المشرع أن العقوبة المذكورة فى قصارى حدها الأقصى ليست من الخطورة أو الأهمية التي تتناسب مع إجازة الطعن فيها بطريق النقض ، ومن ثم فإن الحكم الصادر فى هذه الجرائم إذا لم يلتزم الحد الأقصى للعقوبة المقررة بأن جاوزه أو أوقع عقوبة أشد فيها ، فلا يسوغ أن يغلق أمام المحكوم عليه طريق هذا الطعن بعد أن أهدر الحكم الاعتبارات التي قدرها المشرع ، وكان أساس هذا الحظر والقول بغير ذلك أمر تأباه العدالة وينفر منه منطق القانون وتنأى عنه محكمة النقض لكون وظيفتها الأساسية هي مراجعة صحة تطبيق القانون على الواقعة تطبيقاً صحيحاً لما فيه من التسليم بعقوبة محكوم بها نهائياً لم ينص عليها القانون ، وهو يخالف قاعدة شرعية الجرائم والعقاب والتي تعني حصر مصادر التجريم والعقاب فى نصوص القانون بحيث لا يجوز للقاضي أن يوقع عقوبة غير العقوبة التي حددها الشارع فى هذا النص متقيداً بنوعها ومقدارها ، وإهدار هذا المبدأ هو إهدار لحقوق الأفراد ، ومن ثم يكون استدراك هذا الخطأ بإجازة الطعن فيه بطريق النقض . لما كان ذلك ، وكان الحكم المطعون فيه دان الطاعنة بجريمة البلاغ الكاذب والمعاقب عليها بعقوبة الغرامة التي لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسة عشر ألف جنيه إلا أنه لم يلتزم الحد الأقصى للعقوبة المقررة بل جاوزها إلى عقوبة نوعية أخرى أشد جسامة لم ينص عليها القانون بأن عاقبها بالحبس ، فإنه يكون من المتعين إجازة الطعن فيه بطريق النقض باعتبار أنه كان السبيل القانوني الوحيد أمام المحكوم عليها لتصحيح ما تردى فيه الحكم من مخالفة القانون ولو لم يرد ذلك فى أسباب الطعن .
( الطعن رقم 18087 لسنة 4 ق - جلسة 2014/09/03 )
3- إسناد الاختصاص بنظر جنح القذف التي تقع بطريق النشر على موظف عام أو من في حكمه بسبب أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، هو مراعاة ما يستوجبه القضاء في هذه الجريمة من الوقوف على حدود إباحة الفعل – إن توافرت شرائطها القانونية – التي تتساند في جوهرها إلى حرية الرأي والحق في التعبير، وهما من بين الحقوق الشخصية التي لا تقبل تعطيلاً ولا انتقاصًا – على ما جرى به نص المادة (92) من الدستور - ولا كذلك الحال بالنسبة لجريمة القذف في حق آحاد الناس، التي يقضى في شأنها على ضوء أحكام الفقرة الأولى من المادتين (302 و303) من قانون العقوبات، دون أن يكون مطروحًا على محكمة الجنح تقصي أسباب الإباحة التي انتظمها نص الفقرة الثانية من المادة (302) من القانون ذاته، أو المادة (32) من القانون رقم 180 لسنة 2018، بحسب الأحوال؛ ومن ثم أسند المشرع إلى محكمة الجنايات الاختصاص بنظر الجنح التي تقع بواسطة الصحف، عدا الجنح المضرة بآحاد الناس، على النحو الذي انتظمته نصوص قانون الإجراءات الجنائية المطعون عليها، لما يتمتع به قضاتها من خبرات قضائية متراكمة، تؤهلهم للفصل في جريمة خصها المشرع بسبب إباحة لم يقرره لغيرها من جرائم الباب السابع من الكتاب الثالث من قانون العقوبات. لما كان ذلك؛ فإن إسناد الاختصاص إلى محكمة الجنايات بنظر الجريمة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة (302) من قانون العقوبات، على ما تجري به نصوص المواد (214/1 و215 و216) من قانون الإجراءات الجنائية، يكون واقعًا في إطار السلطة التقديرية للمشرع، وقام على أسباب موضوعية تبرره.
للقذف صورته البسيطة التي حددت المادة 303 من قانون العقوبات (الفقرة الأولى) عقوبتها ، ولها صور مشددة نصت عليها المواد 303 (الفقرة الثانية)، 307 ، 308 من قانون العقوبات .
عقوبة القنف البسيط : حدد الشارع عقوبة القذف البسيط بغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسة عشر ألف جنيه، وقد قصر الشارع عقوبة القذف البسيط على الغرامة بعد أن كانت في الماضي الحبس والغرامة .
ولا عقاب على الشروع في القذف، إذ هو جنحة، ولم يرد في القانون نص يقرر العقاب على الشروع فيه .
ولا يجوز أن ترفع الدعوى الجنائية الناشئة عن القذف إلا بناء على شكوى المجنى عليه (المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية) ، وهذا القيد يتسع نطاقه للقذف البسيط والقذف المشدد على السواء.
الظروف المشددة في القذف: نستطيع تصنيف الظروف المشددة في القذف بردها إلى الفئات التالية: ظرف يرجع إلى صفة المجنى عليه، وظرف يرجع إلى وسيلة القذف، وظرف يرجع إلى خطورة وقائع القذف، وثمة ظرف أخير يفترض اجتماع الوسيلة السابقة وخطورة وقائع القذف .
صفة المجنى عليه : يفترض هذا الظرف أن المجني عليه موظف عام أو من في حكمه.
القذف ضد الموظف العام أومن في حكمه : نصت على هذا الظرف المادة 303 من قانون العقوبات (الفقرة الثانية) في قولها « فإذا وقع القذف في حق موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة وكان ذلك بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة كانت العقوبة غرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه.
يتطلب هذا الظرف توافر شرطين : صفة المجني عليه وكونه موظفاً عاماً أو شخصاً ذا صفة نيابية عامة أو مكلفاً بخدمة عامة، وتوافر علاقة سببية بين القذف من ناحية والوظيفة العامة أو النيابة العامة أو الخدمة العامة من ناحية أخرى وعلة تشديد العقاب أن القذف ضد الموظف العام أو من في حكمه أشد خطورة على المجتمع من القذف الذي يوجه ضد فرد عادي، إذ تتطلب المصلحة العامة أن تكفل للموظف الطمأنينة في عمله وألا يعوقه عن حسن أدائه خشية أن يتعرض لما يمس شرفه، وبالإضافة إلى ذلك فإن توقيع العقاب من أجل القذف يعني أنه لم يتوافر سبب الإباحة الذي يقرره القانون عند الطعن في عمل الموظف العام ، وهو ما يفترض كذب الواقعة المسندة إلى الموظف ، ويجعل القذف أشد خطورة.
وفي تحديد شروط التشديد نلاحظ أن الشرط الخاص بصفة المجني عليه (أي كونه موظفاً عاماً أو ذا صفة عامة أو مكلفاً بخدمة عامة) هو بذاته الشرط المتطلب لتوافر سبب الإباحة عند الطعن في عمل الموظف العام ، ولذلك نرجیء بحثه إلى الموضع المخصص لدراسة هذا السبب للإباحة أما الشرط الثاني الخاص بتوافر علاقة سببية بين القذف من ناحية والوظيفة العامة أو النيابة العامة أو الخدمة العامة من ناحية أخرى، فيفهمه الشارع في معنى أنه لو لم تكن للمجني عليه الصفة العامة السابقة (وما يرتبط بها من اختصاص) لما تعرض للقذف ، ويتسع ذلك لحالات ثلاث : أن تكون واقعة القذف متعلقة بأعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة ؛ أو أن تكون هذه الواقعة وثيقة الصلة بالواقعة المتعلقة بأعمال الوظيفة أو ما في حكمها، أو أن يكون استفزاز المتهم إلى القذف راجعاً إلى مباشرة المجني عليه أعمال وظيفته على نحو معين .
والعقوبة التي يقضى القانون بتوقيعها هي الغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه .
عبرت عن هذه العلة المذكرة الإيضاحية للنص قبل تعديله في قولها « وسبب هذا التشديد هو أنه لما كان من الجائز هنا إقامة الدليل على صحة ما يقذف به فالحكم على المتهم يكون معناه أنه قد ثبت عليه الإدعاء بأمور كاذبة ، وعلى ذلك تكون جريمته أبلغ وأشد، ومن جهة أخرى فالقذف في حق موظف أو شخص آخر ذی نیابية عامة يلحق بالمصلحة العامة ضرراً أبلغ من القذف في حق الأفراد. (شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ محمود نجيب حسني، دار النهضة العربية، الصفحة : 748 )
الظروف المشددة لعقوبة القذف :
شدد المشرع عقاب القذف مع الإبقاء عليه كجنحة إذا توافر أحد الظروف الأربعة الآتية :
القذف في حق موظف عام أومن في حكمه :
نصت المادة 303 في فقرتها الثانية على تشديد العقاب « إذا وقع القذف في حق موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة ، وكان ذلك بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة »
وترجع علة التشديد إلى سببين : الأول ، أن القذف في حق الموظف العام أو من في حكمه أكثر إضراراً بالمصلحة العامة من القذف في حق فرد عادي، بالنظر إلى ما يقتضيه حسن أداء واجبات الوظيفة من أن يكون الموظف آمناً من أن ينال أحد شرفه أو اعتباره والثاني، أن القذف ضد الموظف العام ومن في حكمه يبيحه المشرع إذا كانت الواقعة المنسوبة إلى الموظف صادقة ، أي أنه لا يكون مجرماً إلا إذا كانت الواقعة كاذبة ، وفي هذه الحالة تكون جريمة الجاني خطيرة، إذ لا يقتصر الأمر على نسبة واقعة شائنة فحسب ، وإنما نسبة واقعة غير صحيحة وينبغي - لتوافر ظرف التشديد - تحقق شرطين.
الأول : أن يكون المقذوف موظفاً عاماً، أو شخصاً ذا صفة نيابية عامة، أو مكلفاً بخدمة عامة.
ويقصد بالموظف العام في المدلول الإداري، الشخص الذي يقوم بصفة قانونية بعمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة عن طريق الاستغلال المباشر، ويقصد بذوي الصفة النيابية العامة ، أعضاء المجالس النيابية العامة أو المحلية سواء كانوا منتخبين أو معينين، أما المكلف بالخدمة العامة، فيقصد به كل من تكلفة الدولة أو أي شخص معنوی عام بالقيام لحسابها بعمل عارض من الأعمال العامة، كالخبير الذي تستعين به المحكمة في دعوى مطروحة أمامها.
والثاني : أن يكون القذف، قد وجه إلى المجنى عليه بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وعلى ذلك يخرج من نطاق التشديد القذف في حق أي من هؤلاء إذا كان متعلقاً بأمور تتصل بحياته الخاصة.
ويترتب على توافر الظرف المشدد أن تصبح عقوبة القذف الغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه (م 2 / 303 ع) .
نصت المادة 307 من قانون العقوبات على أنه إذا ارتكب القذف المنصوص عليه في المادة 303 بطريق النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات رفع الحدان الأدنى والأقصى العقوبة الغرامة المبينة في المادة المذكورة إلى الضعف ،ذوترجع علة التشديد في هذه الحالة إلى أن النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات يتيح للواقعة المسندة إلى المجنى عليه نطاقاً واسعاً من الذيوع والانتشار، فضلاً عن أن القذف بهذا الطريق قد يتخذ وسيلة للكسب أو غيره من الأغراض الشخصية، وبالإضافة إلى ذلك فإن القذف الذي يتم عن طريق النشر يحدث بعد تفكير وترو فيكون له من الخطورة ما لا يتحقق في القذف في المكان العام إثر استفزاز أو في لحظة غضب.
والمشرع لا يتطلب لتحقق هذا الظرف المشدد سوی نشر الوقعة المسندة إلى المجنى عليه في إحدى الجرائد أو إحدى المطبوعات، دورية كانت أو غير دورية ، وحينئذٍ يرتب على ذلك تشديد عقوبة الغرامة في حديها الأدنى والأقصى إلى الضعف ، فإذا كان النشر متعلقاً بالقذف في صورته البسيطة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة 303، أصبح حدها الأدنى عشرة آلاف جنيه، وحدها الأقصى ثلاثون ألف جنيه، و كان متعلقاً بالقذف الواقع في حق موظف عام أو من في حكمه المنصوص عليه في الفقرة الثانية من المادة 303 أصبح الحد الأدنى عشرين ألف جنيه والأقصى أربعين ألف جنيه.
قيد المشرع رفع الدعوى الجنائية عن جريمة القذف على شكوى كتابية أو شفهية من المجني عليه إلى النيابة العامة أو مأمور الضبط القضائي، المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية، فلا تقبل الدعوى الجنائية إذا لم تقدم الشكوى في خلال ثلاثة أشهر من تاريخ علم المجني عليه بالجريمة وبمن ارتكبها، وتنقضي الدعوى بتنازل مقدم الشكوى في أي وقت إلى أن يصدر حكم نهائی.(شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتورة/ فوزية عبد الستار، الطبعة الرابعة 2017 دار النهضة العربية، الصفحة: 597)
عقوبة القذف:
حددت المادة محل التعليق في فقرتها الأولى عقوبة القذف في صورته البسيطة، ويلاحظ أن المشرع قد وضع حداً أدنى وحدة أقصى للغرامة التي يجوز الحكم بها، وبذلك يكون المشرع قد ترك للقاضي سلطة تقديرية واسعة في تحديد العقوبة الملائمة، ويسترشد القاضي في سبيل ذلك بكافة الاعتبارات والظروف المسابقة النشاط الجاني أو المعاصرة أو اللاحقة عليه.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا عقاب على الشروع في القذف إذ القذف جنحة لا يعاقب على الشروع فيها إلا إذا نص المشرع على ذلك، ولم يرد نص يقرر العقاب على الشروع.
ويجب التحريك الدعوى العمومية عن جريمة القذف تقديم شكوى شفهية أو كتابية من المجني عليه أو من وكيله الخاص إلى النيابة العامة أو إلى أحد مأموري الضبط القضائي طبقاً للمادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية وفي هذه الحالة تسري قواعد الشكوى المقررة في هذه المادة وما بعدها، ومنها عدم قبول الشكوى بعد ثلاثة أشهر من يوم علم المجنى عليه علماً يقيناً بالجريمة ومرتكبها ولا يحتسب يوم العلم بوقوع جريمة القذف ومرتكبها ضمن الميعاد المقرر لتقديم الشكوى، بإعتبار أن هذا العلم هو الأمر المعتبر قانوناً مجرياً للميعاد، وتنقضي الدعوى العمومية عن القذف بتنازل مقدم الشكوى في أي وقت إلى أن يصدر في الدعوى حكم نهائي.
ثانياً : تشديد عقوبة القذف بالنظر إلى صفة المجنى عليه.
إذا كان المجني عليه في القذف موظفاً عاماً أو شخصاً ممن اعتبرهم المشرع في حكم الموظف العام، كان ذلك سبباً لتشديد عقاب القذف. وقد نصت على تشديد العقوبة لصفة المجني عليه المادة محل التعليق في فقرتها الثانية.
ويشترط لإنطباق الظرف المشدد :
(1) أن يكون المجني عليه من ذوي الصفة العمومية، وتثبت للمجني عليه هذه الصفة إذا كان موظفاً عاماً أو شخصاً ذي صفة نيابية عامة أو مكلفاً بخدمة عامة.
(2) أن يكون القذف بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، ويعني هذا الشرط أن تكون هناك رابطة سببية بين القذف وأداء صاحب الصفة العمومية لعمله، أي أن تكون وقائع القذف متعلقة بكيفية أداء الموظف لواجباته الوظيفية، فإذا توافر هذين الشرطين في القذف، شددت عقوبته إلى الغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنية ولا تزيد على عشرين ألف جنية الحدين الأدنى والأقصى للغرامة.(الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الرابع، الصفحة : 56)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 96 ، 97 .
(مادة 148)
لا يجوز رفع الدعوى إلا بناءً على شكوى بطلب إقامة الحد، شفهية أو كتابية إلى النيابة العامة، أو إلى أحد مأموري الضبط القضائي من المقذوف، أو وكيله الخاص، أو من أحد الورثة - عن غير طريق الزوجية - إذا كان المقذوف ميتاً.
وترفع الدعوى من رئيس النيابة، أو من يقوم مقامه بإحالتها إلى محكمة الجنايات مباشرة.
(مادة 149)
لا تسمع الدعوى بطلب إقامة حد القذف بعد مضي ستة أشهر من يوم علم المقذوف
بالجريمة وبمرتكبها وتمكنه من الشكوى.
(مادة 153)
يعاقب القاذف حدا بجلده ثمانين جلدة.
ولا يجوز إبدال هذه العقوبة، كما لا يجوز لغير المقذوف العفو عنها.
وللمقذوف أن يوقف تنفيذ الحد إلى ما قبل إتمامه.
ويترتب على تنفيذ الحد عدم قبول شهادة المحكوم عليه ما لم يتب.
وللمحكوم عليه بعد التنفيذ أن يطلب إلى المحكمة إثبات توبته في محضر الجلسة
بتكذيبه نفسه في جلسة علنية يعلن بها الشاكي، ويلحق هذا المحضر بالحكم.
(مادة 155)
لا يتداخل حد القذف فيما سواه من الحدود.
وإذا تعددت جرائم القذف قبل تمام تنفيذ الحد في أي منها - فلا ينفذ على القاذف إلا في حد واحد.
ولا تسقط عقوبة الحد بعد القضاء بها بمضي أية مدة.
(مادة 156)
إذا لم يتوافر أي من الشروط المنصوص عليها في المادتين (147) و (150)، أو زال إحصان المقذوف - يعزر الجاني بجلده من عشر جلدات إلى خمسين جلدة.
مادة (148): لا يجوز رفع الدعوى إلا بناء على شكوى بطلب إقامة الحد شفهية أو كتابية إلى النيابة العامة، أو إلى أحد مأموري الضبط القضائي من المقذوف أو وكيله الخاص أو من أحد الورثة غير طريق الزوجية، إذا كان المقذوف ميتاً.
وترفع الدعوى من رئيس النيابة أو من يقوم مقامه بإحالتها إلى محكمة الجنايات مباشرة.
الإيضاح
لما كان القذف من جرائم الحدود التي شدد الله عقوبتها وشرع فيها الجلد، وهو من العقوبات البدنية التي شرعها لمن تعدى حدوده، وكانت جريمته بذلك من الجرائم الكبرى التي نهى الإسلام عن مقارفتها؛ لبشاعة آثارها في المجتمع، فضلا عن أثرها الأليم في نفس المجني عليه، يقول الله تعالى في شأن هذه الجريمة: « إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) ) ولذلك أنزلتها الشريعة الإسلامية منزلة جنايات الحدود کالزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن ثم فإن اللجنة رأت أن تكون جريمة القذف جناية، تختص بنظرها محاكم الجنايات حتى تكون أقدر على الإحاطة وأكفأ في التقدير، وذلك أحوط للعدالة.
ولما كان حد القذف فيه حق للعبد كانت الدعوى فيه لا تقام إلا بناء على شكوى المقذوف؛ لأنها تمس عرضه وسمعته أكبر مساس.
ويسلك المدعي في دعوى القذف الطريق الذي رسمته المادة من تقديم شكوى شفوية يدلي بها صاحب الحق أمام أحد أعضاء النيابة المختصة، أو أحد مأموري الضبط القضائي، ويحرر بها المحضر اللازم، أو يتقدم بها له مكتوبة، وتقدم الشكوى من المقذوف نفسه أو من وكيله الخاص، غير أنه إذا كان المقذوف ميتاً ترفع الدعوى من أحد الورثة عن غير طريق الزوجية، ويقول فقهاء الحنفية: إنه لا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه وهو الوالد والولد، لأن العار يلتحق به لمكان الجزئية، فيكون القذف متناولاً له معنى.
وعند الشافعي يثبت حق المطالبة لكل وارث؛ لأن حد القذف يورث عنده، وعندنا (الأحناف) ولاية المطالبة ليست بطريق الإرث بل لما ذكرناه، ولهذا يثبت عندنا للمحروم عن الميراث بالقتل، ويثبت لولد البنت، كما يثبت لولد الابن، وكذا يثبت لولد الولد حق المطالبة مع وجود الولد (فتح القدير (4)/ (195)). وقد أخذت اللجنة برأي الأحناف.
وقد حرصت اللجنة على النص بأن يقوم رئيس النيابة المختص أو من يقوم مقامه بإحالة الدعوى إلى محكمة الجنايات مباشرة؛ منعا لتطويل الإجراءات.
وفي ذلك ضبط لوصف هذه الدعوى، وطريقة إقامتها وتحقيقها، والجهة المختصة بنظرها.
مادة (149): لا تسمع الدعوى بطلب إقامة حد القذف بعد مضي ستة أشهر من يوم علم المقذوف بالجريمة وبمرتكبها وتمكنه من الشكوى.
الإيضاح
لما كان حد القذف فيه حق للعبد، فإن الخصومة فيه والقضاء به واستيفاءه من القاذف تتوقف كلها على المطالبة (الادعاء) به ممن له الحق فيه، ومن ثم فإن هذه المطالبة يتحتم أن تظل قائمة لحين إقامة الحد على القاذف، فإذا سقطت المطالبة بعفو المقذوف لا يقام الحد على القاذف. وبهذا قال جمهور الفقهاء والحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والشيعة، خلافاً للظاهرية الذين لم يشترطوا المطالبة بإقامة الحد؛ لأن حد القذف عندهم حق لله تعالى، فيقام حسبة دون توقف على مطالبة أحد من العباد؛ أسوة بسائر الحدود.
وإذا كان المقرر شرعاً أن الأولى للمقذوف أن يترك الخصومة والمطالبة بحد قاذفه البدائع (7)/ (52))؛ لأن المطالبة إشاعة للفاحشة وهو مندوب إلى تركها امتثالا لقوله تعالى: وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ [البقرة: 237]
وإذا كانت المطالبة شرعاً لإقامة الحد على القاذف على نحو ما قدمنا، وكان المقذوف هو صاحب الحق فيها، وكان في ترك هذا الحق له يستعمله متى شاء فيه إضرار بالقاذف الذي يبقى هذا الحق سيفاً مسلطاً على عنقه؛ لأنه قد يضار به ويلحق به من العار والشين ما يتغير به أيضا مما يمكن تفاديه لو طرح على القضاء وثبتت براءته، وترك الحق للمقذوف الإقامة دعوى القذف متى شاء - يحرم القاذف من الدفاع عن نفسه وإثبات براءته في الوقت المناسب، ومن ثم فإن اللجنة رأت قطعاً لإشاعة الفساد والسوء بين الناس أن تحدد زمناً يكون للمقذوف فيه الحق في إقامة دعوى القذف، ولا تسمع بعد فواته دعواه؛ حماية للمجتمع واتقاء الإضرار بالقاذف.
وقد استعرضت اللجنة أقوال الفقهاء في تحديد مدة التقادم.
وللإمام محمد صاحب الإمام أبي حنيفة رأي في ذلك حيث حددها في أحد قوليه بستة أشهر، وراعى في هذا التحديد أن الستة أشهر أحد معاني كلمة (الحين) فيما إذا حلف لا يكلمه حينا. وجاء في المبسوط: «وإن حلف لا يعطيه ماله عليه حينا فأعطاه قبل ستة أشهر - حنث. لأن الحين قد يذكر بمعنى الساعة، قال تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) [الروم: 17]. والمراد وقت الصلاة، ويذكر الحين بمعنى أربعين سنة، قال تعالى: هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) " [الإنسان: 1]. ويذكر بمعنى ستة أشهر، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل قوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: 25]. أنه ستة أشهر من حين يخرج الطلع إلى أن يدرك الثمر - فعند الإطلاق يحمل على الوسط من ذلك، فإن خير الأمور أوسطها، ولأنا نعلم أنه لم يرد به الساعة، فإنه إذا قصد المماطلة ساعة واحدة لم يحلف على ذلك، ويعلم أنه لم يرد أربعين سنة، فإنه إذا أراد ذلك يقول: أبدا. فعرفنا أن المراد ستة أشهر». ومثله في ابن عابدين (3)/ (110)، المبسوط (9)/ (66) - (70).
وتحديد مدة التقادم أوفق وأحوط وأنسب للعصر، ولا يتنافى مع المبادئ الأساسية للشريعة السمحاء التي أتاحت لولي الأمر حق تقييد القضاء بالزمان والمكان والحادثة؛ جلبا لمصلحة العباد ودرءا للمفسدة عنهم، وروي أن الإمام أبا حنيفة لم يحدد له مدة، وفوض أمر تحديده للقاضي في كل عصر وأوان، فيما يراه القاضي تفريطاً فهو تقادم، وإلا فلا، فقد روى أبو يوسف أن الإمام أبا حنيفة أبى أن يؤقت للتقادم بوقت. (فتح القدير (4)/ (164))، لكن تحديده - خاصة في هذا الزمان - أضبط وأدق ويحقق ما قدمنا من أهداف، واعتبار الشهر حداً له فيه إعنات لأرباب الدعاوى في القذف لقصر مدته.
ومن ثم رأت اللجنة أن تحدد لتقادم الدعوى بالقذف ستة أشهر لا تسمع بعدها، لما في الادعاء بعد تلك المدة من معنى التفريط الذي يبيح لولي الأمر أن يأمر في مثله بعدم الساع؛ حسما للخصومات، ودرءا للمفاسد في هذا الزمان.
هذا ولاحظت اللجنة أن المقذوف قد تقوم عنده من الأعذار المقبولة ما يمنعه من إقامة دعوى القذف في المدة المحددة (ستة أشهر)، وليس من العدالة مصادرة دعواه بمنع سماعها للتقادم وهو ذو عذر مقبول، والمقرر شرعا أن الضرورات تبيح المحظورات، فنصت في المادة على قيد تمكن المقذوف من إقامة الدعوى، بعد علمه بها، حيث اعتبر جهله بحادثة القذف، وعدم تمكنه من الادعاء كلاهما عذر مقبول إذا أثبته، فتقبل دعواه متى تقدم بها خلال ستة أشهر من زوال العذر.
وغني عن البيان أنه إذا كان طریق ثبوت جريمة القذف الإقرار، فلا تأثير للتقادم عليه؛ لأنه لا محل للتهمة ولا للشك في سلامة الإقرار، لأن الإنسان لا يقر على نفسه عادة کاذباً فيما فيه ضرر عليه، فترجحت جهة الصدق في حق نفسه؛ لعدم التهمة وللولاية الكاملة على نفسه، ولأنه إذا وجب الحكم بالشهادة وهي مظنة الريبة، فلأن تجب بالإقرار أولى، وهو من الريبة أبعد، فلا أثر للتقادم عليه.
وكذلك الشهادة لا يؤثر فيها التقادم؛ لأنها لا تجب إلا حيث تكون المطالبة من المقذوف التي هي حقه، وما لم تكن المطالبة فلا تجب الشهادة، ومن ثم لا يكون لتأخيرها وتقادم العهد عليها أثر.
مادة (150):
إثبات القذف المعاقب عليه حداً يكون في مجلس القضاء بإحدى الوسيلتين الآتيتين: الأول: إقرار الجاني قولاً أو كتابة ولو مرة واحدة، ويشترط أن يكون بالغًا عاقلاً مختاراً وقت الإقرار غير متهم في إقراره، وأن يكون إقراره صريحاً واضحاً منصباً على ارتكاب الجريمة بشروطها، ولا يقبل الرجوع عن الإقرار.
الثانية: شهادة رجلين بالغين عاقلين عدلين مختارين غير متهمين في شهادتها، مبصرين قادرين على التعبير قولا أو كتابة عند تحمل الشهادة وعند أدائها.
وتثبت عند الضرورة بشهادة رجل وامرأتين أو أربع نسوة.
ويفترض في الشاهد العدالة، ما لم يقم الدليل على غير ذلك قبل أداء الشهادة.
ويشترط أن تكون الشهادة بالمعاينة لا نقلا عن قول الغير، وصريحة في الدلالة على وقوع الجريمة بشروطها.
ولا يعد المجني عليه شاهدا إلا إذا شهد لغيره .
الإيضاح
يجب أن يكون الإثبات بمجلس القضاء؛ لأنه وسيلة الحكم والمؤدي إلى القضاء في
الدعوى، ويثبت القذف بإحدى وسيلتين: الإقرار أو البينة.
والإقرار: هو إخبار الشخص بها عليه من الحقوق، أو إظهار مکلف مختار ما عليه لفظاً الزيلعي (5)/ (2)، المهذب (2)/ (362))، وهو حجة شرعية ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول. وهو سيد الأدلة؛ لأن العاقل لا يقر على نفسه كذباً بما فيه ضرر على نفسه وماله، فترجحت جهة الصدق في حق نفسه لعدم التهمة، ولكمال الولاية، ولأنه إذا وجب الحكم بإشهاده وهي مظنة الريبة، فلان يجب بالإقرار أولى؛ لأنه من الريبة أبعد (المهذب (2)/ (362)).
ولقد أجمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على أن الإقرار حجة في حق المقر نفسه، فتقام عليه الحدود، ويقتص منه بموجب إقراره. وعلى ذلك عمل أصحابه والتابعين دون مخالفة لهم من أحد، واشترطوا أن يكون المقر مكلفا (بالغاً، عاقلاً) مختاراً قادراً على الكلام على التفصيل الوارد في كتب الفقه، وأشرنا إليه في إيضاح المادة (146) من هذا المشروع، كما اشترطوا أيضا ألا يكون المقر منها في إقراره؛ لأن التهمة تخل برجحان جانب الصدق على جانب الكذب في الإقرار، کما اشترطوا في المقر له أن يكون معلوماً، فلو كان مجهولاً لا يصح الإقرار؛ لأن شرط إقامة الحد في القذف مطالبة المقذوف، فإذا كان مجهولاً لا تتأتى المطالبة (البدائع (7)/ (223)). ويجب أن يكون الإقرار صريحاً منصباً على الجريمة بأركانها، فلا يقبل فيه الكتابة أو التعريض ولا الإجمال في ذكر واقعة القذف، حتى يكون إقراره مؤدياً للحكم ومطابقاً للدعوى.
ويكفي في الإقرار بالقذف أن يقر به القاذف مرة واحدة؛ لأنه إخبار، والمخبر به لا يزداد بتكرر الخبر، وذكر صاحب البدائع الإجماع على عدم التعدد، والاكتفاء بالإقرار مرة واحدة (البدائع (7)/ (223))، وهذا مذهب الجمهور ومنهم مالك وأبو حنيفة والشافعي وأهل الظاهر، وقال البعض - ومنهم أحمد والزيدية وأبو يوسف -: إن الإقرار يجب أن يكون مرتين؛ ليقام به الحد اعتباراً بالشهادة، فلو أقر مرة لا يحد بل يعزر.
وقد اختارت اللجنة رأي الجمهور للأسباب التي ذكرت آنفاً.
وغني عن البيان أن إقرار القاذف يبطل بتكذيب المقر له (المقذوف)؛ لأن الإقرار دلیل لزوم المقر به وتكذيب المقذوف دلیل عدم اللزوم، واللزوم لم يعرف ثبوته بعد، فلا يثبت بالشك خاصة فيما يدرأ بالشبهات ولأن في تكذيب المقذوف للمقر إسقاطاً للخصومة وحد القذف لا يجب استيفاؤه إلا بخصومة المقذوف، ولا يبطل الإقرار بالقذف بالرجوع عنه؛ لأنه حق وجب لصيانة حق الآدمي، فلا يقبل فيه الرجوع (کشاف القناع (4)/ (63)، المهذب (2)/ (164))، ولأن المقر إذا رجع يكون متهماً في رجوعه، فلا يصح الرجوع في الإقرار بحد القذف أسوة بسائر الحقوق المستحقة للعباد (البدائع (7)/ (233)) ولوجود من يكذبه فيه.
هذا بخلاف إنكاره الإقرار في سائر الحدود، فإنه يبطله؛ لأن إنكاره الإقرار فيه خبر محتمل للصدق وللكذب كالإقرار ولا مكذب له فيه، فتحققت شبهة كافية في إسقاط الحد (ابن عابدين (3)/ (157)).
الشهادة
الوسيلة الثانية لإثبات القذف هي البينة الشرعية، وحجية الإثبات بالبينة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول، ويجب على الحاكم الحكم بمقتضاها إذا تمت بأركانها وشرائطها (التاج والإكليل (6)/ (150)، الزيلعي (4)/ (207)، ابن عابدین (4)/ (407) و(408)).
ورأت اللجنة أن يكون الأصل هو شهادة رجلين، إلا أنه عند الضرورة يجوز الإثبات بشهادة رجل وامرأتين، أو أربع نسوة، وذلك على النحو الذي أخذت به اللجنة في حد السرقة، ويشترط أن يكونا بالغين، ولأن الشهادة من باب الولاية والصبي لا ولاية له على نفسه، فلا ولاية له على غيره من باب أولى، وقد سبق بيان سن البلوغ في المادة رقم (31) من هذا المشروع.
كما يشترط أن يكون الشاهدان عاقلين، فلا تقبل شهادة المجنون؛ لأنه لا يعقل ما يقول ولا يضبطه، فلا يلتفت إلى قوله، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأنه: «رفع القلم عن ثلاث...». ذكر منهم المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق (سنن أبي داود (4)/ (140))، كما يشترط في الشاهدين أن يكونا مبصرین، فلا تقبل شهادة الأعمى في القذف، ولا في غيره من الحدود (الزيلعي (4)/ (217)/ (218)، مواهب الجليل (6)/ (154)، المهذب (2)/ (354)، المغني (12)/ (61) و(62)، المحلى (9)/ (433)، شرائع الإسلام (2)/ (236) و (237)).
کا اشترط الفقهاء قدرة شاهد القذف على الكلام والسمع؛ لأن في إشارة الأخرس شبهة تدرأ الحد. ويرى الحنابلة أن شهادة الأخرس كتابة بخطه مقبولة؛ لأن الخط يدل على اللفظ وكذلك الإشارة، وهو ما أخذت به اللجنة، ولأن الشهادة تعتمد على تمييز الأصوات في القذف، فكان اشتراط السمع ضروریاً.
كما اشترط الفقهاء عدالة شاهدي القذف ظاهراً وباطناً، ولا يكتفى بظاهر عدالته. احتيالا لدرء الحد المطلوب في قوله صلى الله عليه وسلم : «ادرءوا الحدود بالشبهات». ويرى أبو حنيفة اقتصار الحاكم على عدالة الشاهد المسلم الظاهرة. ولا يسأل عنه إلا إذا طعن الخصم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدوداً في قذف». ولأن الظاهر الانزجار عما هو محرم في دينه، وبالظاهر كفاية؛ إذ لا وصول إلى القطع إلا في الحدود والقصاص، فإنه يسأل فيها عن الشهود وإن لم يطعن الخصم؛ لأنه يحتال لإسقاطها، فيشترط الاستقصاء فيها، وإن طعن الخصم في الشهود سأل القاضي عنهم؛ لأنه تقابل الظاهران، فيسأل طلباً للترجيح. هذا إذا لم يعلم القاضي حالهم، أما إذا علم بجرح أو عدالة فلا يسأل عنهم. وقال الصاحبان: لا بد للقاضي أن يسأل عنهم في السر والعلانية في سائر الحقوق، طعن الخصم فيهم أم لا؛ لأن الحكم إنها يجب بشهادة العدل، فوجب البحث عن العدالة. وقيل: هذا اختلاف عصر وأوان. والفتوى على قولها في هذا الزمان (ومثله في الجوهرة، وشرح الإسبيجابي، وشرح الزاهدي والينابيع، وقال صدر الشهيد: والفتوى اليوم على قولها. ومثله في شرح المنظومة والحقائق، وقاضیخان، ومختارات النوازل، والبرهاني، وصدر الشريعة، (اللباب في شرح القدوري (343)).
ومن هذا يعلم أن تعديل شهود الحدود عامة ظاهراً وباطناً - شرط في قبول شهادتهم عند الحنفية ويرى المالكية أن يكتفى بظاهر عدالة الشاهد، ولا تسأل عنه المحكمة إلا إذا طعن الخصم في عدالته. وقالوا: إن العدل هو الذي يجتنب الكبائر من المعاصي، ويتقي في أغلب الحالات الصغائر منها؛ لقول عمر رضي الله تعالى عنه: «المسلمون عدول بعضهم على بعض».
وقد اختارت اللجنة الأخذ بمذهب المالكية؛ لأنه أيسر في العمل خاصة في زماننا هذا الذي انتشر فيه الفساد، وعمت الفتنة، وتعذر القطع بمعيار العدالة الدقيق فيهم، مما قد يختلط معه الأمر على القضاء، ويؤثر في الأحكام (حاشية الدسوقي (4)/ (319)).
ومن ثم نص في المادة على أنه يفترض في الشاهد العدالة، ما لم يقم الدليل على غير ذلك. كما رأى الفقهاء في شاهدي القذف أن يكونا قادرين على حفظ الشهادة، فاهمين لها، مأمونين على ما يدلیان به، فإذا كان الشاهد مغفلاً لا تقبل شهادة كبير الغلط؛ لعدم ائتمان الغلط في شهادته، فإن كان غلطه قليلاً قبلت شهادته لعدم انفكاك أحد عنه، ولا تقبل شهادة من يعرض له غالبا؛ لجواز سماعه شيئا نسي بعضه، وكذا الأبله لعدم تفطنه الأمور (التاج والإكليل (6)/ (154)، المهذب (2)/ (342)، منتهى الإرادات (4)/ (321)، الزيلعي (4)/ (207)).
ويشترط أن تكون شهادة كل من الشاهدين صريحة في الدلالة على الجريمة ووقوعها من الجاني بأركانها، وألا تكون بالتسامع، بل عن معاينة حتى تكون شهادة صحيحة مستوفية لأركانها الشرعية مؤدية للقضاء بموجبها.
مادة (151):
لا يحكم بحد القذف في الأحوال الآتية:
1- ثبوت صحة الواقعة المقذوف بها بإحدى الوسيلتين الآتيتين:
(أ) تصديق المقذوف قاذفه فيها رماه به.
(ب) إثبات القاذف صحة الواقعة بشهادة أربعة رجال.
2- زوال إحصان المقذوف في أية حالة كانت عليها الدعوى.
3- إذا كان القاذف زوجاً وليس لديه شهداء وطلب اللعان.
الإيضاح
تقدم أن القذف فيه حق للعبد، ومن أجل ذلك اشترط الفقهاء فيه قيام الدعوى به من المقذوف أو من وكيله أو من أحد الورثة عن غير طريق الزوجية، إذا كان القاذف ميتاً على النحو السابق بيانه في المادة (148)، ولا بد أن تكون الدعوى به قائمة إلى أن يتم تنفيذ الحد (کشاف القناع (4)/ (63)). ولكن دعوى القذف قد يرد عليها ما يستوجب سقوطها مما يستوجب سقوط حد القذف تبعا لذلك، وقد أوضحت المادة الحالات التي تسقط فيها دعوى حد القذف.
الحالة الأولى: التي تثبت فيها واقعة القذف إما بأن يأتي القاذف باربعة رجال يشهدون بصحة ما رمی به المقذوف من الزنا، وحينئذ تسقط دعوى الحد على القاذف، فلا يقام عليه حد القذف؛ لأنه بعد ثبوت واقعة القذف ظهر أنه صادق فيما رمی به المقذوف، ولأن المقذوف بعد ثبوت الزنا عليه سقطت عفته ووجب حده للزنا، فلا يحد قاذفه؛ حيث لا يعد كاذبا، والله تعالى يقول:لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) [النور: 13]. فإذا أتى القاذف بالشهداء الأربعة الذين يشهدون بصدق واقعة القذف - لم يعد كاذباً، ويسقط الادعاء عليه بالقذف، وهذا باتفاق الفقهاء.
كذلك إذا صدق المقذوف قاذفه في واقعة الزنى التي رماه بها، تسقط دعوى حد القذف؛ لظهور صدق القاذف بإقرار المقذوف بالزنى، فلم يعد كاذبا . (المغني (10)/ (204)، (205)).
الحالة الثانية: إذا زال إحصان المقذوف بسقوط عفته، وقد تقدم في إيضاح المادة (147) أن إحصان المقذوف شرط لإقامة الحد على القاذف؛ لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) الآية، وذلك باتفاق الفقهاء. وتقدم أنهم متفقون كذلك على أن معنى الإحصان في آية القذف العفة، وإن اختلفوا في المعنى المقصود من العفة على أقوال رأت اللجنة الأخذ منها برأي الحنابلة الذين قالوا: إن العفة هنا معناها البعد عن الزنا ظاهراً. ومعنى هذا يكفي أن يكون المقذوف بعيدا في الظاهر عن ارتكاب جريمة الزنا حتى ولو كان تائبا من زنا ليكون عفيفاً عندهم يجد قاذفه.
فإذا زالت عفة المقذوف بالمعنى المذكور بأن ارتكب جريمة الزنا - فإن عفته تسقط وتسقط، تبعا لذلك دعواه على قاذفه؛ لأنه هو الذي فرط في سمعته وشرفه بارتكابه جريمة الزنى، وكشف ستر الله عنه بارتكاب جريمة الزنا المحرم، فلم يعد أهلا لأن يقام على قاذفه الحد؛ لأنه فقد عفته التي شرع حد القذف للحفاظ عليها.
الحالة الثالثة: إذا كان قذف الرجل زوجته بالزنا دون أن يتوفر لديه الدليل الشرعي - لا يقام عليه حد القذف إذا طلب اللعان. وجاء في تفسير زاد المسير (6)/ (14)، طبعة المكتب الإسلامي: إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحد، وله التخلص منه بإقامة البينة أو باللعان الدعوى.
مادة (152): تسقط دعوى القذف بعفو المقذوف في أية حالة كانت عليها الدعوى.
الإيضاح
للفقهاء في جواز عفو المقذوف عن قاذفه أقوال مختلفة، ومرد الخلاف إلى اختلافهم في تكييف طبيعة حد القذف هل هو حق الله تعالى خالصاً كالزنى، أو حق لله وللعبد. فذهب الظاهرية إلى أنه حد خالص لله تعالى ولا حق فيه للعبد (المحلى (11)/ (288)، (290)).
ولم يختلف باقي الفقهاء في أن الحد من الحدود التي اجتمع فيها الحقان حق الله وحق العبد، فمن حيث كونه شرع لصيانة عرض العبد ولدفع العار عن المقذوف، وأنه هو الذي ينتفع به على الخصوص صار حقاً للعبد، ومن حيث أنه شرع للانزجار وإخلاء الأرض من الفساد صار حقاً الله تعالى، وإنما الخلاف بينهم في ترجيح أحد الحقين على الآخر.
فذهب الحنفية إلى تغليب حق الله تعالى (فتح القدير (4)/ (198)، الزيلعي (3)/ (203)).
وذهب الشافعي وأحمد ومحمد من الحنفية إلى تغليب حق العبد؛ لأنه هو المنتفع به على الخصوص. (المهذب (3)/ (292)، المغني (10)/ (204)، الزيلعي (3)/ (204)).
وذهب الإمام مالك إلى عدم تغليب أي من الحقين على الآخر، بل ذهب إلى تغليب حق الله تعالى بعد شكوى المقذوف إلى الإمام وإلى تغليب حق العبد قبل ذلك.
وقد ترتب على هذا الخلاف اختلافهم في جواز العفو عن القاذف على أقوال:
الأول: أنه يجوز العفو عن القاذف إلى وقت إقامة الحد. وإليه ذهب الشافعي وأحمد والشيعة الجعفرية، وبه قال أبو يوسف (فتح القدير (4)/ (198)، المهذب (2)/ (292)، المغني (10)/ (205)، المختصر النافع (2)/ (220)).
الثاني: أنه لا يجوز العفو عن القاذف. وإليه ذهب أبو حنيفة والأوزاعي والحسن البصري في رواية عنه (المحلى (11)/ (288)، فتح القدير (4)/ (198)).
الثالث: أنه يجوز العفو في حالات منها قبل بلوغ الشكوى للإمام، وقيل: إلى ما قبل سماع الشهود. وقيل: إلى ما قبل بلوغ الإمام أو بعده إذا قصد المقذوف الستر، أو كان المقذوف أبا للقاذف، أو أنها له أو جدا. وإليه ذهب الإمام مالك (الدسوقي (4)/ (331)، (332)، الباجي (7)/ (148)، تبصرة الحكام (2)/ (262)، الزرقاني (8)/ (90)).
ورأت اللجنة الأخذ بمذهب الإمام الشافعي وأحمد والشيعة الجعفرية؛ اعتباراً بتغليب حق العبد على حق الله تعالى في حد القذف؛ وتقديماً لحق العباد لحاجتهم إليه وغنى الله عنه، ولأن العبد هو المنتفع به على الخصوص ومن ثم يجوز للمقذوف أن يعفو عن قاذفه في أية حالة كانت عليها الدعوى؛ لأن حق الادعاء شرع لصيانة عرضه وشرفه وذلك شأنه، وله شرعا حق استعماله، فإذا عفا عن الجاني فقد تنازل عن هذا الحق، والمعروف أن من يملك حقا يملك التنازل عنه، ولأن المقذوف قد يلجأ إلى الستر وعدم التمادي في خصومة القاذف لما يراه من مصلحة له في ذلك، فوجب ألا يضار برد قصده .
وإذا كان هذا حقه، له أن يستعمله في أية حالة كانت عليها الدعوى، فله كذلك إذا رأى العفو عن القاذف أثناء تنفيذ الحد عليه أن يوقف تنفيذ عقوبة الجلد إلى ما قبل إتمامه، طالما تأكد حقه في العفو وإسقاط الحد، ولأنه لا يستوف كله إلا بطلب المقذوف، فله العفو عما بقي منه من باب أولى.
مادة (153): يعاقب القاذف حداً بجلده ثمانين جلدة، ولا يجوز إبدال هذه العقوبة، كما لا يجوز لغير المقذوف العفو عنها، وللمقذوف أن يوقف تنفيذ الحد إلى ما قبل إتمامه، ويترتب على تنفيذ الحد عدم قبول شهادة المحكوم عليه ما لم يثبت، وللمحكوم عليه بعد التنفيذ أن يطلب إلى المحكمة إثبات توبته في محضر الجلسة بتكذيبه نفسه في جلسة علنية يعلن بها الشاكي، ويلحق هذا المحضر بالحكم.
الإيضاح
يشترط لإقامة حد القذف أن يعجز القاذف عن أن يقيم البينة على ما قذف به من الزنى، ونصاب الشهادة فيه أربعة رجال تتوافر فيهم شروط الشهادة على الزنى، مصداقا لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) . فإذا لم يأت القاذف باربعة رجال يشهدون عند القذف والخصومة على صدق ما رمي به المقذوف من الزنى، وطلب المقذوف إقامة الحد على القاذف - أقيم عليه الحد عند توافر الشروط وانتفاء الموانع.
مقدار الحد
قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا)
فمقدار حد القذف ثمانون جلدة باتفاق، لا فرق في ذلك بين كون القاذف ذكرا أو أنثى إذا كان حرا، ولا بين كون المقذوف كذلك ذكراً أو أنثى؛ لأن ما يتعير به أحدهما يتعير به الآخر، ولأن الله تعالى يقول: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ)، فذكر كلمة: (مِنَ النِّسَاءِ) بعد كلمة المحصنات دل على أن لفظ المحصنات ليس خاصا بالنساء فقط؛ إذ لو كان ذلك لما كان ذكر: (مِنَ النِّسَاءِ) فائدة بعدها، وحاشا لله تعالى أن يأتي في كلامه بلفظ لا معنى له. فدل ذلك على أن المراد بالمحصنات في آية القذف الأنفس أو الفروج المحصنات (الزيلعي (3)/ (199)، المتقي (7)/ (146)، مغني المحتاج (4)/ (156)، کشاف القناع (4)/ (262)، القرطبي (4)/ (456)، المحلى (11)/ (269)، (271)، فتح القدير (4)/ (6)). أما اختصاص النساء بالذكر في الآية؛ لأنهم أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكي للنفوس، والعار فيهن أعظم.
وقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم حد القذف ثمانين جلدة على الحر، وأجمعت الأمة من لدنه صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على أن مقدار حد القاذف الحر ثمانون جلدة، ولم يعلم في هذا مخالفة من أحد، فكان إجماعاً.
وغني عن البيان أن هذه العقوبة بجلد القاذف حد شرعه الله تعالى، وبين مقداره، وأمر بألا يتعداه أحد، ومن ثم فلا يجوز الأمر بوقف تنفيذه ولا استبدال غيره به، ولا تخفيضه، كما لا يجوز لغير المقذوف العفو عنه.
ويعاقب القاذف أيضا بعقوبة تبعية تترتب على تنفيذ الحد عليه، وذلك برد شهادته إذا حد. ولم يتب باتفاق الفقهاء. أما بعد جلده وبعد توبته فقد اختلف الفقهاء في قبول شهادته، فذهب عمر بن الخطاب وأبو الدرداء وابن عباس إلى أن شهادته تقبل في هذه الحالة ولا ترد.
وبهذا قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، والشعبي، والزهري، وعبد الله بن عقبة، وجعفر بن أبي ثابت، وأبو الزناد، ومالك، والشافعي، وابن المنذر، وغيرهم. وبه قال أيضا الحنابلة والظاهرية والشيعة الجعفرية، مجمعين على أن الاستثناء الوارد في قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا) راجع إلى الجمل الثلاث في الآية السابقة عليها وهي: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)) لأنها في حكم الجملة الواحدة لتعاطفها على بعضها بالواو، ثم تكون العقوبة عامة في الشهادة، أي: فلو تاب المحدود في القذف قبلت شهادته.
وترى اللجنة الأخذ بهذا الرأي لقوة أدلته، خلافاً للإمام أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وأحد قولي الشعبي، والنخعي، وابن المسيب، والحسن البصري، ومجاهد، ومسروق، وعكرمة، الذين يرون أن التوبة في الآية عامة في الفسق فقط، ولا أثر لها في قبول الشهادة ولا في مقدار الحد؛ لأن لكل جملة من الجمل المتعاطفة بالواو حكم نفسها في الاستقلال، ولذلك فهم يقولون بعدم قبول شهادة القاذف بعد جلده وتوبته (الجصاص (3)/ (336)، (337)، أحكام القرآن للقرطبي (4570)/ (4574)). تفسير فتح القدير للشوكاني (4)/ (7)، (8)، تفسير النور لابن تيمية (28) و(65)، إعلام الموقعين (1)/ (147) - (152)، المغنی (12)/ (74) - (77)، الأحكام لابن حزم (1)/ (408) - (411)، المحلل (9)/ (231) - (433)). وتوبة القاذف تكون بتكذيبه نفسه، وبهذا قال عمر بن الخطاب، والشعبي، والضحاك، وأهل المدينة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، وإسحاق، وأبو عبيد، والشافعي، وظاهر کلام أحمد والخرقي والشيعة الجعفرية (المغني (12)/ (77)، المهذب (2)/ (348)، القرطبي (4571)، شرائع الإسلام (2)/ (222)، منتهى الإرادات (4)/ (323))، واحتجوا بها رواه الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) قال: «توبته إكذاب نفسه». وبأن القاذف قد لوث عرض المقذوف، وبالتكذيب يزول ذلك التلويث، فتكون التوبة به.
ورأت اللجنة الأخذ بهذا الرأي دون الأخذ برأي مالك وابن جرير وأبي الزناد وغيرهم. (القرطبي (4571)، القسطلاني (4)/ (381))، الذين رأوا أنه يكتفى في توبة القاذف بصلاح العمل وحسن الحال، ولم يشترطوا تكذيبه نفسه؛ لقوة وصراحة أدلة القائلين بالرأي الأول التي هي نص في بيان توبة القاذف، ولتحديد التوبة تحديدا يمكن ضبطه، خلاقا لرأي الآخرين. وكيفية التوبة أن يقول: كذبت فيها قلت، ولا أعود لمثله. وبهذا قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية، تمسكا بظاهر نص الحديث الذي رواه الزهري عن سعيد بن المسيب، ولأن الله تعالى يقول: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) . فالقاذف کاذب في حكم الله تعالى، وتوبته تكون بتكذیب نفسه.
وترى اللجنة حرصاً على توافر العلانية في التوبة، وحتى تكون محققة لأهدافها وإزالة للشين والعار الذي ألحقه القاذف بالمقذوف - أن تكون وسيلتها تكذيب القاذف نفسه علانية بناء على طلب يتقدم به إلى المحكمة التي أصدرت الحكم بجلد القاذف، ويعلن به المقذوف، ويسمع القاضي طلب التوبة، ويثبته في محضر يلحق بالحكم في جلسة علنية.
مادة (154):
يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة:
(أ) من رمى زوجته بالزنا إذا عجز عن إثبات ما رماها به، وامتنع عن ملاعنتها، أو كذب نفسه بعد الملاعنة.
ويجري اللعان قولاً أو بكتابة الأخرس، ولو كانت الزوجة غير مسلمة أو غير عفيفة. و يترتب على اللعان انقضاء الدعوى.
(ب) غير الزوجين إذا رمى كل منهما الآخر بالزنى.
الإيضاح
لم يسو الشرع الإسلامي بين قذف الزوجات وقذف الأجنبيات؛ إدراكاً منه بأن الزوج لا يقدم على قذف زوجته أو نفي ولدها منه إلا لضرورة تدفعه إلى ذلك دفعا، ولهذا فرق بينهما في الصفة وفي الحكم، فبينما يصف قذف الأجنبيات بأنه حرام وكبيرة، نرى أن قذف الزوجات قد يكون واجباً، كما إذا رأى زوجته تزني في طهر لم يمسسها فيه، فيعتزلها ثم تلد ما يمكن أنه من الزاني، ففي هذه الحالة يجب عليه قذفها ونفي ولدها؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لحقه المولود وورثه وورث أقاربه، ونظر إلى بناته وأخواته، وكل ذلك حرام يجب درؤه، ولا يتأتى ذلك إلا بالقذف.
وقد يكون قذف الزوج لزوجته مباحا، كما إذا رأى زوجته تزني ولم تلد، ما يلزم نفيه، أو استفاض زناها بين الناس، أو أخبره بزناها ثقة، ففي هذه الحالة يغلب على ظنه فجورها، ولا يجب عليه قذفها؛ لأنه يمكنه درء العار بفراقها، وهو أستر من قذفها، ويكون قذف الزوجة حراما إذا أتت بولد مخالف في اللون أو الشبه لوالديه، أو أخبره بزناها من لا يوثق بخبره، أو رأى رجلاً يخرج من عندها دون أن يستفیض زناها مع قرينة تسانده، فقذف الزوج لها في ذلك كله حرام؛ إذ إن لون الولد أو شبهه ليس دليلاً على زنا الزوجة.
ويترتب على قذف الزوج زوجته، أن يلاعن بينها إذا لم يستطع الزوج أن يأتي بأربعة رجال يشهدون با رمی به زوجته وصيغة اللعان أفصحت عنها الآية الكريمة في قوله تعالى:وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ َشهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9) وأحكام اللعان مفصلة في كتب الفقه، فإذا امتنع الزوج عن ملاعنة - زوجته وجب إقامة حد القذف عليه، فإن طالب بلعان امرأته أثناء إقامة الحد عليه أجيب طلبه، وسقط عنه ما تبقى من الحد.
وبهذا الرأي قال الشافعية والمالكية والحنابلة والشيعة ومن وافقهم (المهذب (2)/ (128)، كشاف القناع (3)/ (240)، المختصر النافع (2)/ (212)، الدسوقي (2)/ (466)، الشرح الكبير للدردير (1)/ (466))، واستدلوا بآية القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) [النور، الآية: 4، 5]، فأوجب الله حد القذف على كل قاذف للمحصنة دون تفريق زوجاً كان أو أجنبياً، إلا أن الزوج لما كان قد يبتلى بقذف امرأته دفعاً للعار وتنقية لفراش الزوجية جعل الله اللعان مخلصاً من الحد إذا عجز عن إقامة البينة، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ َشهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9) [النور: 6- 9]. الآيات. فدلت الآيتان (آية القذف، وآية اللعان) على أن موجب قذف الرجل امرأته الحد، إلا أن يلاعن، واستدلوا كذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية وقذف زوجته بشريك بن سحماء في حضرة الرسول، فقال له: «البينة أو حد في ظهرك». فقال يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول «البينة أو حد في ظهرك». فقال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت آيات اللعان، وتلاعنا كما جاء بالحديث، فدل ذلك على أن قذف الزوجات موجب للحد إن لم يأت الزوج بالبينة أو يلاعن.
وقد رأت اللجنة الأخذ بهذا الرأي؛ لقوة حجته، ولأن الزوج إذا قذف زوجته فهو قاذف المحصنة، فيحد إذا امتنع عن اللعان؛ إعمالا لعموم نص آية القذف، ولأن الزوج إذا كذب نفسه بعد الملاعنة، فإن ذلك يكون بمثابة إقرار بعدم صحة ما حلف به، الأمر الذي يعتبر معه قاذا في حق زوجته يتعين معه حده للقذف؛ لأنه قذف محصنة زورا باعترافه بكذب ما رماها به، خلاقا لرأي الحنفية القائلين بأن قذف الزوج لزوجته موجب للملاعنة فقط، فإذا امتنع أحد الزوجين عن اللعان حبس حتى يلاعن، ولا حد عليه، وكيفية اللعان تكون طبقا لما أوردته آيات اللعان في قوله تعالى:وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ َشهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9) ولا يمنع إجراء اللعان أن تكون الزوجة غير مسلمة أو غير عفيفة. وبهذا قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وربيعة ومالك والشافعي وأحمد في رواية ابن منصور، وهو المذهب، وبه قال الظاهرية، وهو أحد قولي الشيعة. (المهذب (2)/ (134)، المغني (9)/ (50)، المحلى (11)/ (417)، أحكام القرآن لابن العربي (2)/ (91)، المختصر النافع (2)/ (211))، إلا أن المالكية يشترطون في الكافرين أن يترافعا إلينا، راضين بحكمنا. (الدسوقي (2)/ (458)).
ويرى الزهري والثوري والأوزاعي وحماد والحنفية أنه يشترط الإسلام في الزوجين والنطق والعفة، فلا لعان بين الكافرين، أو الأخرس، أو المحدودين في قذف، أو أحدهما.
ومنشأ الخلاف اختلاف الفقهاء في اعتبار اللعان يمينا أو شهادة، فمن ذهب إلى أنه يمين بلفظ الشهادة اكتفى في المتلاعنين بأهلية اليمين، فلم يشترط الإسلام والنطق والعفة، ومن ذهب إلى أنه شهادة مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن وبالغضب - اشترط في المتلاعنين أن يكونا من أهل الشهادة واليمين، فاشترط فيها الإسلام والنطق والعفة.
واللجنة ترى الأخذ برأي القائلين بعدم اشتراط أهلية الشهادة في المتلاعنين، وأنه يمين لا شهادة؛ لقوة أدلتهم، ولأن آية اللعان لم تفرق بين زوج وآخر، ولأن في القول باشتراط أهلية الشهادة في المتلاعنين رضي باختلاط الأنساب، وإدخالاً على الغير من ليس منهم، فإن الكافر إذا تحقق من زنا امرأته لم يكن له نفي ولده باللعان؛ لعدم كونه من أهل الشهادة، وفي ذلك مفسدة لا يقول بها أحد، فوجب القول بعدم اشتراط أهلية الشهادة، ولأن إطلاق اسم الشهادة عليه لا يفيد كونه شهادة؛ لأنه يمكن القول بأن ذلك يفيد أنه لا يكتفى فيه بالظن، بل لا بد من وجود علم كل منهما بالآخر علماً يصح معه أن يشهد.
وبذلك يترجح رأي القائلين بعدم اشتراط أهلية الشهادة، وبأنه يمين ويكون لعان الأخرس بالكتابة بخطه؛ لأنه يدل على ما يقصده، ولا كذلك الإشارة، وذلك أخذا بمذهب الحنابلة.
كما أنه غني عن البيان أنه متى تم اللعان على الوجه السابق أمام المحكمة سقط الحد عن القاذف وانتهى الأمر عند هذا الحد من الناحية الجنائية، وتحكم المحكمة بسقوط الدعوى. أما آثار اللعان فإنها بطبيعة الحال تترتب على إجرائه من الناحية الشرعية وفقا لأحكام اللعان الواجب تطبيقها في مسائل الأحوال الشخصية أمام المحكمة المختصة، كما أنه مما تجدر الإشارة إليه أن باقي أحكام اللعان وشروطه يرجع إليها في مواضعها في كتب الفقه الإسلامي؛ إذ لا سبيل إلى تقصيها في هذا المقام، هذا ولم تر اللجنة أن تعرض لتفصيلات اللعان لما رأته من أنها ألصق بقضاء الأحوال الشخصية، لما يترتب عليه من تفريق ونفي نسب وحقوق لكل من الزوجين تختص بها محاكم الأحوال الشخصية، كذلك يعاقب بحد القذف الأجنبيان غير الزوجين إذا تقاذفا - أي: رمى كل منهما الآخر بالزنا - فإن كلا منهما يحد حد القذف السابق بيانه في المادة السابقة إذا كان القذف بصريح الزنا.
وهذا قول جمهور الفقهاء مستدلين:
1- بأن كلا من المتقاذفين قد ارتكب في حق غيره ما نهى الله عنه، وقذف غيره صريحاً.
۲- أن الآية الكريمة في القذف بعمومها لم تفرق في وجوب الحد على القاذف بين ما إذ قيلت عبارة القذف ابتداء أو رداً على قذف مسبق له أوجب الله فيها الحد على كل قاذف.
٣- أنه لا يمكن القول بالتقاص بينها؛ لأن شرط التقاص اتحاد الجنس والصفة وهو متعذر هنا؛ لاختلاف تأثير الحدين باختلاف القاذف والمقذوف في القوة والضعف والخلقة غالبا. (البدائع (7)/ (243)، الزرقاني (8)/ (90)، نهاية المحتاج (7)/ (140) - (141)، المحلى (11)/ (291)، مغني المحتاج (4)/ (157)). وهذا ما رأت اللجنة أن تأخذ به خلافاً لرأي الشيعة الذين يرون أن في القاذف تعزيراً، ولا حد فيه (شرائع الإسلام (2)/ (251))؛ لقوة أدلة الجمهور وعدم وجود حجة تناهضها عند الشيعة.
مادة (155):
لا يتداخل حد القذف فيما سواه من الحدود.
وإذا تعددت جرائم القذف قبل تمام تنفيذ الحد في أي منها، فلا ينفذ على القاذف إلا
حد واحد.
ولا تسقط عقوبة الحد قضاء بها بمضي أية مدة.
الإيضاح
لا خلاف بين جمهور الفقهاء في أن حد القذف لا يتداخل فيها سواه من الحدود، إنما الخلاف بينهم في تعدد الحد بتكرر القذف. وقد فرقوا بين تكرار القذف قبل إقامة الحد أو بعده .
فبالنسبة لتكرار القذف قبل إقامة الحد، فقد ذهب الحنفية والمالكية وابن حزم الظاهري والثوري والشعبي والنخعي والزهري وقتادة وطاوس إلى عدم تكرار الحد بتكرر القذف في هذه الحالة، وإنها يكتفى في ذلك بحد واحد دون تفريق بين كون المقذوف جماعة أو واحدا قذفهم بكلمة أو بكلمات، قذفاً واحداً أو متعدداً (فتح القدير (4)/ (208)، والزرقاني (8)/ (88)، والمحلى (11)/ (134))، ذلك لأن المقصود من الحدود هو الانزجار من ارتكاب أسبابها مستقبلا، واحتمال حصول انزجار القاذف بالحد الواحد المقام عليه بعد القذف المتكرر - قائم، فتمكن شبهة فوات المقصود في الثاني، والحدود تدرأ بالشبهات إجماعاً.
كما أن تكرر الحد بتكرر القذف يتنافى مع القول بأنه إذا قذف واحدا ثم عاد فقذفه
مراراً بنفس الزنا، فإنه لا يحد مرتين (فتح القدير (4)/ (209)).
وقد رأت اللجنة الأخذ بهذا الرأي؛ لأن ظاهر الكتاب والسنة تشهد للقائلين به، ولتحقيق شرعية المقصود من إقامة الحدود بما لا يدع مجالا للقول بغير ذلك، خلافا لما ذهب إليه الشافعية والحنابلة والظاهرية عدا ابن حزم. (المحلى (33) أو (143)).
ولما كانت إقامة الحدود فريضة، والفريضة لا يجوز تأخيرها بغير عذر؛ لأن في تأخيرها اعتداء عليها، وهو منهي عنه شرعاً قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}، فإذا كان الزمان معتدلاً والقاذف ليس به ما يدعو إلى تأخير الحد عنه - أقيم عليه الحد فور ثبوته بالقضاء النهائي، ويوقف تنفيذ الحد إذا خشي على القاذف - أثناء إقامته - الهلاك، ويجب إتمامه عند استطاعة تحمله، أما إذا كان الحر شديداً، أو كان البرد شديداً، أو كان القاذف مريضا يرجى برؤه، أو كان مقطوعا، أو أقيم عليه حد آخر، أو كانت المرأة القاذفة حاملاً أو نفساء - فإن القاذف في كل هذه الأحوال يترك ولا يقام عليه الحد، حتى يعتدل الزمان ويبرأ المريض المقطوع، أو يسكن ألم الحد السابق، أو تبرأ المرأة من نفاسها، أو تضع حملها، فقد روي عن علي كرم الله وجهه قال: «إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها، فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت أن أجلدها فأقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أحسنت، اتركها حتى تماثل» (نیل الأوطار (7)/ (117)).
ومن ذلك يعلم أنه إنها أخر على كرم الله وجهه إقامة الحد على الجارية؛ لعذر طارئ وهو النفاس؛ حتى لا يكون جلدها حال نفاسها مفضياً لهلاكها، وأنه بزوال العذر يقام الحد.
وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، وبعض فقهاء الحنابلة منهم الخرقي (فتح القدير (4)/ (127)، والتاج والإكليل (6)/ (296)، المهذب (2)/ (288))، واختارت اللجنة الأخذ بهذا الرأي؛ لسلامة حجته، ولأن في تأخير إقامة الحد على المريض الذي يرجى برؤه إلى أن يبرأ أو يصح من - مرضه إقامة الحد على الكال من غير إتلاف، فكان أولى.
وخالف في ذلك الظاهرية وبعض الفقهاء الحنابلة، وهو قول إسحاق وأبي ثور، فرأوا عدم جواز تأخير الحد على القاذف المريض في هذه الحالة إلى أن يبرأ، وأوجبوا إقامة الحد عليه فوراً، محتجين بأن عمر رضي الله عنه أقام الحد على قدامة بن مظعون وكان مريضاً ولم يؤخره وانتشر ذلك في الصحابة، ولم ينكروه فكان إجماعاً، ولأن الحد واجب فلا يؤخر ما أوجبه الله بغير حجة (المحلى (11)/ (176)، المغني (10)/ (130)، (131)). وأجيب على هذا بأن عمر رضي الله عنه يحتمل أنه لم يؤخر الحد على قدامة؛ لأن مرضه كان خفيفاً لا يمنع إقامة الحد عليه على الكال، ولهذا لم ينقل عنه أنه خفف عنه في السوط، وإنما اختار له سوطا كالذي يضرب به الصحيح، ثم إن فعل النبي مقدم على فعل عمر، ومن ثم رجحت كفة الرأي الأول الذي أخذت به اللجنة. وكذلك الحكم في تأخير الحد للحر والبرد المفرطين. (فتح القدير (4)/ (128)، المغني (8)/ (171)- (173)) هذا إذا كان المريض يرجى برؤه وشفاؤه، أما إذا كان القاذف مريضاً بمرض لا يرجى شفاؤه کالأمراض المستعصية، أو كان ضعيف الخلقة - أقيم الحد عليه بسوط يؤمن معه التلف، أو بقضيب صغير، أو شمراخ النخل، ولا يؤخر إقامته عليه، فإن خيف عليه من ذلك، أقيم الحد عليه بعثكول فيه ثمانون شمراخاً يضرب ضربة واحدة، ولا بد أن يكون مبسوطاً، وأن يصل كل شمراخ فيه إلى جسد المحدود، وبهذا قال الشافعي والحنفية، وأنكر مالك هذا، وقال: إن الله تعالى يقول: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ - أي: في حد الزنا - وهذه جلدة واحدة . - وأجيب عليه بأن أبا أمامة بن سبیل بن حنيف روی عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : «أن رجلا اشتكى حتى ضنى، فدخلت عليه امرأة فهشت له فوقع بها، فسأل الصحابة له النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه ضربة واحدة» . رواه داود والنسائي .
والحكمة في ضربه بالعثكول أو العثكال (وهو عنقود النخل) أنه لا يمكن ضربه بالسوط؛ لأنه يتلف به ولا يمكن ترکه؛ لأنه يؤدي إلى تعطيل حد الله، وذلك لأن المريض الذي لا يرجى برؤه لا يخلو حاله من حيث إقامة الحد عليه من أمور ثلاثة:
الأول: أن يقام الحد عليه کاملا مثل الصحيح. وهذا مفضي إلى هلاکه وإتلافه، وهو
منهي عنه؛ لأنه قتل بها لا يوجب القتل.
الثاني: ألا يقام عليه الحد أصلا. وفي هذا تعطيل الحد من حدود الله تعالى.
الثالث: أن يقام عليه الحد بعثكول النخل. وهو كما سبق بيانه متعين لتعزير الأولين،
وهو أولى من ترکه مطلقا أو إتلافه بالقتل.
يقول الشافعي رحمه الله تعالى: «ولأنه إذا كانت الصلاة تختلف باختلاف حاله فالحد بذلك أولى» (شرائع الإسلام (2)/ (246)، نيل الأوطار (7)/ (110)، المهذب (2)/ (288)، الشرح الكبير (10)/ (132)، ابن عابدين (3)/ (153)، المغني لابن قدامة (8)/ (173)).
وقد رأت اللجنة أن تأخذ بهذا الرأي (رأي الجمهور)؛ لقوة حجتهم دون رأي المالكية.
وغني عن البيان أن ادعاء قيام عذر لدى المحكوم عليه تفصل فيه المحكمة التي أصدرت الحكم بعد طرحه عليها؛ لأنها أقدر على تفهمه ومدى صلاحيته للقبول، وهي التي استوعبت جنایته وألمت بها، فإذا استبان لها صدق عذره قبلته وأخرت الحد عليه إلى الوقت الذي تراه ملائماً لزوال العذر، وإلا رفضته وأمرت بالتنفيذ.
ولا يمنع من إقامة الحد على القاذف بعد الحكم به مضي أية مدة كانت، فإن عقوبة هذا الحد لا تسقط بتقادم الزمان؛ أخذا بمذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وزفر من الحنفية (التاج والإكليل (6)/ (197)، (198)، المهذب (2)/ (355)، المغني (۱۰)/ (۱۸۷)، البدائع (۷)/ (46))، وذلك لأن تأخير إقامة الحد على الجاني إنما هو لعذر هربه مثلاً، وقد زال العذر فيقام عليه الحد. وهؤلاء الأئمة يعتبرون الشهادة على القذف قائمة ما لم يطرأ عليها ما ينقضها من الرجوع، فلا يؤثر التقادم في تنفيذ الحد، كما أن موت الشهود أو غيبتهم بعد سماع شهادتهم لا يمنع جواز الحكم بها.
ورأت اللجنة أن تأخذ بهذا الرأي؛ صيانة الحدود الله وحق المقذوف، وتطهيراً للمجتمع من الفساد، خلافاً لجمهور الحنفية الذين يرون سقوط الحد بالتقادم؛ لسقوط الشهادة عندهم بالتقادم، ولما يرونه من وجوب قيامها حتى يستوفي الحد. وبالتقادم لم تبق الشهادة قائمة فلا يقام الحد لعدم صحة القضاء الذي هو الاستيفاء، وهو من تتمة القضاء.
وحجة جمهور الفقهاء - وهو ما أخذت اللجنة برأيهم - أقوى، ودليلهم أبين.
مادة (156): إذا لم يتوافر أي من الشروط المنصوص عليها في المادتين (147) و (150) أو زال إحصان المقذوف - یعزر الجاني بجلده من عشر جلدات إلى خمسين جلدة.
الإيضاح
قدمنا أن الفقهاء متفقون على أن الرمي بالزنا قذف موجب للحد على القاذف.
أما إذا كان الرمي بغير ذلك، مثل: الرمي بنفي النسب، فهذا وإن اعتبره غير الظاهرية من الفقهاء قذفا موجبا للحد، فقد خالف فيه الظاهرية (المحلى (11)/ (266))، ولذلك لم يوجبوا الحد على القذف به؛ لأنهم لم يعتبروه قذفاً موجباً للحد.
وقد يكون الرمي بغير ذلك من كل ما فيه إيذاء وإيلام للمقذوف، وهو لم يعد سباً أو شتماً.
والسب إما أن يرمى فيه المجني عليه بما هو معصية كالكفر أو القتل أو السرقة أو الزندقة أو شرب الخمر أو أكل الربا أو خيانة الأمانة أو ما شابه ذلك من سائر المعاصي، أو ما يرمي فيه المجني عليه بغيرها مما هو معصية، سواء أكان الجاني صادقاً فيما رماه به، كأن ينادي من به سواد أو صمم أو عته أو عرج بقوله: يا أسود، يا أصم، يا أعرج، يا معتوه. أو يقول للأعمى: يا أعمى.
أو غير صادق كان يقول لعاقل: يا مجنون. أو يقول لصحيح: یا أشل. أو يقول الإنسان: یا کلب یا حمار... إلى غير ذلك من الأوصاف التي يكذبه الواقع فيها. فإن الرمي بهذه الأوصاف في هذه الأحوال لا يعتبر قذفاً موجباً للحد، وإنما هو سب أو شتم يتناوله الكتاب الثالث من هذا المشروع وهو الخاص بالجرائم التعزيرية.
أما إذا كان الرمي بالزنا، ولكن لم يتوافر شرط من الشروط المنصوص عليها في المادة (147) التي أوضحت شروط المقذوف، وهي البلوغ والعقل، وأن يكون معينا محصنا عفيفا، أو لم تتوافر أركان الإثبات بإحدى الوسيلتين المنصوص عليها في المادة (150) وهما الإقرار والبينة الشرعية بأركان كل منها وشرائطه المفصلة في تلك المادة، أو زال إحصان المقذوف بعد ثبوته وقبل إتمام تنفيذ الحد – ففي هذه الأحوال يعزر القاذف بجلده من عشر جلدات إلى خمسين جلدة بحيث لا تصل إلى عقوبة الحد التي شرعها الله وهي ثمانون جلدة، طالما لم يثبت القذف بالزنا الموجب له، فالقاذف وإن أفلت من عقوبة الحد المقدر، فإنه يجب ألا يفلت من عقوبة التعزير تطهيراً للمجتمع من الفساد.
ومنعاً للتضارب في الأحكام، وتحديداً المقدار العقوبة في هذا المقام، وحتى تكون الأحكام أشد زجراً وأكثر انضباطاً، رأت اللجنة أن تكون العقوبة التعزيرية بالجلد لما فيه من الردع الكافي، خاصة في هذا الزمان الذي لم يعد الحبس أو السجن فيه محققا لكل أهدافه في درء تلك المفاسد، وحددت مجال تقدير العقوبة ما بين عشر جلدات إلى خمسين جلدة، ويترك للقاضي حرية إنزال ما يراه مناسباً لحالة الجاني ومكانته وجريمته وندرة وقوعها في المجتمع وآثارها فيه، وما يكون رادعاً له ولأمثاله عن ارتكاب هذه الجناية في حدود المقادير المحددة في هذه المادة، وفرق بين التعزيرات و الحدود، فالحدود عقوبة مقدرة ومرتكبو أسبابها أمام الشرع سواء تنزل بهم عقوبة واحدة إذا ما اتحد حدهم، لا فرق بين شريف ووضيع، ولا بين أمير ومأمور، فالكل أمام الحد سواء.
أما التعزير فعقوبته متفاوتة يراعى فيها حجم الجريمة وأثرها، فمن يسرق نصاباً من
غير حرز، تكون عقوبته أشد ممن يسرق دون النصاب، ويشدد على معتاد الجريمة بخلاف من يرتكبها لأول مرة، ولا يغفل في التعزير حال المجني عليه ومكانته الأدبية والاجتماعية .
كما أن الحدود لا تجوز فيها الشفاعة بخلاف التعزيرات، فتقبل فيها الشفاعة، ويجوز
لولي الأمر العفو عن الجاني فيها إذا لم يتعلق بحق الآدمي.
كما أن ما يحدث من التلف للمحدود في الحد لا ضان فيه عند الفقهاء، أما ما يحدث
من التلف في التعزير ففيه ضمان عند الشافعية (الأحكام السلطانية (238)).
والحد لا يتجزأ بحال من الأحوال، والتعزير تتجزأ فيه العقوبة إذا كانت معهودة في
نوع من الذنوب كالتعزير بالحبس والضرب معا، فيجوز الاقتصار على أحدهما.
والحدود يحتاط في إثباتها وتدرأ بالشبهات بخلاف التعزيرات. وترك تحديد العقوبة التعزيرية نوعاً وكا للقاضي؛ ليختار ولاة الأمور من العقوبات ما يناسب مع كل عصر وبيئة؛ تحقيقاً لمصالح الناس المتغيرة المتبدلة التي تتغير وتتبدل بتغير الأشخاص والأزمان والمجتمعات وحتى يبقى التشريع الإسلامي على الدوام متجدداً
حافظاً لكل مقومات البقاء والتفوق والصلاحية.
وأسباب التعزير مبسوطة في كتب الفقه كافة في إطناب وتفصيل.
مادة (158): إذا لم يكن الجاني بالغا بالأمارات الطبيعية وقت ارتكاب الجريمة
- يعزر على الوجه الآتي:
(1) فإذا كان الجاني قد أتم السابعة ولم يتم الثانية عشرة، فللقاضي أن يوبخه في الجلسة، أو أن يأمر بتسليمه إلى أحد والديه، أو إلى ولي نفسه، أو إيداعه إحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية.
(ب) وإذا كان قد أتم الثانية عشرة ولم يتم الخامسة عشرة، يعاقب بضربه بعصا بها لا يجاوز عشرين ضربة.
(ج) وإذا كان قد أتم الخامسة عشرة ولم يتم الثامنة عشرة، يعاقب بجلده من عشر
إلى أربعين جلدة.
الإيضاح
كما أن عقوبة غير البالغ على اقتراف هذه الجريمة يجب أن تندرج وفقاً لاختلاف سن الجاني ممن لم يكتمل له بعد سن البلوغ المنصوص عليه في هذا القانون بأن كان دون الثامنة عشرة.
وقد رأت اللجنة أن الصبي دون السابعة لم يزل بعد طفلاً غير ممیز، ليس أهلاً للتكليف لا تجوز مساءلته.
فإذا أتم السابعة وكان دون الثانية عشرة فمثله لا يحتمل الضرب ولا الجلد، ولكنه في حاجة إلى رعاية وتوجيه و تقویم بإيداعه إحدى المؤسسات الاجتماعية المختصة زمناً تراه المحكمة كافياً.
فإذا بلغ الصبي الثانية عشرة وكان دون الخامسة، فإنه يكون بحالة يحتمل فيها الضرب ليرتدع عما اقترفه، ويكون للمحكمة حق تعزيره بما تراه كافياً لردعه بالضرب بعصا رفيعة بها لا يجاوز عشرين ضربة، باعتباره الطريقة المثلى في إصلاحه، فإذا بلغ الخامسة عشرة أصبح من المقدرة بحيث يحتمل الجلد، وفي هذه السن يعتبر بالغاً في رأي بعض الفقهاء، وهو الرأي المفتي به في مذهب الحنفية، واللجنة وإن لم تر الأخذ به لكنها ترى أن يكون بلوغ هذه السن حدا للترقي بالعقوبة إلى الجلد تعزيرا في النطاق المقرر في المشروع، وما تراه المحكمة رادعاً للجاني وزاجراً لغيره، مع ملاحظة احتيال كل في مثل سنه.
وفيما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر». سند قوي وحجة متينة في هذا المقام الذي أوضح فيه صاحب الرسالة العظمى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع ، الصفحة / 99
إِهَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
الإْهَانَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَهَانَ، وَأَصْلُ الْفِعْلِ هَانَ بِمَعْنَى ذَلَّ وَحَقُرَ، وَفِيهِ مَهَانَةٌ أَيْ: ذُلٌّ وَضَعْفٌ، وَالإْهَانَةُ مِنْ صُوَرِ الاِسْتِهْزَاءِ وَالاِسْتِخْفَافِ.
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنِ الاِسْتِخْفَافِ فِي مُصْطَلَحِهِ (ج 3 / 248).
الْحُكْمُ الإْجْمَالِيُّ:
الإْهَانَةُ تُعْتَبَرُ مَدْلُولاً لِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ، أَوِ الْفِعْلِيَّةِ كَالضَّرْبِ وَمَا شَابَهَهُ مِمَّا يُعْتَبَرُ إِهَانَةً، وَهِيَ تَرِدُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِاعْتِبَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ:
الأْوَّلُ: بِاعْتِبَارِ أَنَّ الإْهَانَةَ مَدْلُولٌ لِتَصَرُّفَاتٍ تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ.
وَبِذَلِكَ تَكُونُ الإْهَانَةُ أَمْرًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ قَدْرِ الْمُهَانِ، وَبِحَسَبِ عِظَمِ الإْهَانَةِ وَصِغَرِهَا.
فَالإْهَانَةُ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْعَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ كَالسُّجُودِ لِصَنَمٍ، أَوْ إِلْقَاءِ مُصْحَفٍ فِي قَاذُورَةٍ، أَوْ كِتَابَتِهِ بِنَجَسٍ، أَوْ سَبِّ الأْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ، أَوْ تَحْقِيرِ شَيْءٍ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ تُعْتَبَرُ كُفْرًا. (ر: رِدَّةٌ - اسْتِخْفَافٌ).
وَالإْهَانَةُ الَّتِي تَلْ حَقُ بِالنَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ سَبٍّ وَشَتْمٍ وَضَرْبٍ، تُعْتَبَرُ مَعْصِيَةً.
(ر: قَذْفٌ، تَعْزِيرٌ، اسْتِخْفَافٌ).
عَلَى أَنَّ مِنَ الأْفْعَالِ مَا يَكُونُ فِي ظَاهِرِهِ إِهَانَةً، لَكِنِ الْقَصْدُ أَوِ الضَّرُورَةُ أَوِ الْقَرَائِنُ تُبْعِدُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَالْبُصَاقُ عَلَى اللَّوْحِ لاَ يُعْتَبَرُ إِهَانَةً، إِذَا قَصَدَ بِهِ الإْعَانَةَ عَلَى مَحْوِ الْكِتَابَةِ.
وَلَوْ أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى الْغَرَقِ، وَاحْتِيجَ إِلَى إِلْقَاءِ حِمْلٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ مَثَلاً جَازَ ذَلِكَ؛ لأِنَّ حِفْظَ الرُّوحِ مُقَدَّمٌ، وَالضَّرُورَةُ تَمْنَعُ كَوْنَهُ امْتِهَانًا.
الاِعْتِبَارُ الثَّانِي: بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ:
فَتَكُونُ الإْهَانَةُ عُقُوبَةً مُقَرَّرَةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالْقَوْلِ أَمْ بِالْفِعْلِ.
فَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْكُفَّارِ تَكُونُ مَعَ الإْهَانَةِ لَهُمْ. لقوله تعالى (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(.
وَكَإِهَانَةِ مَنْ يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ بِشَتْمٍ مَثَلاً، جَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيلِ: مَنْ شَتَمَ رَجُلاً بِقَوْلِهِ لَهُ: يَا كَلْبُ فَإِنْ قِيلَ ذَلِكَ لِذِي الْفَضْلِ وَالْهَيْئَةِ وَالشَّرَفِ عُوقِبَ عُقُوبَةً خَفِيفَةً يُهَانُ بِهَا، وَلاَ يَبْلُغُ بِهِ السَّجْنَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْهَيْئَةِ عُوقِبَ بِالتَّوْبِيخِ، وَلاَ يَبْلُغُ بِهِ الإْهَانَةَ وَلاَ السَّجْنَ.
وَكَإِهَانَةِ الاِبْنِ وَالتِّلْمِيذِ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ .
وَتَخْتَلِفُ الإْهَانَةُ كَعُقُوبَةٍ بِاخْتِلاَفِ مِقْدَارِ الإْهَانَةِ كَعُدْوَانٍ، وَبِاخْتِلاَفِ قَدْرِ الْمُهَانِ. وَلِلإْهَانَةِ كَعُقُوبَةٍ مُسَمَّيَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ تُسَمَّى حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا أَوْ تَأْدِيبًا. (ر: حَدٌّ، تَعْزِيرٌ، تَأْدِيبٌ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 20
التَّشْبِيهُ فِي الْقَذْفِ :
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ الْقَاذِفُ بِالزِّنَى كَانَ قَذْفًا وَرَمْيًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، فَإِنْ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَذْفٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لاَ يَكُونُ قَذْفًا حَتَّى يَقُولَ: أَرَدْتُ بِهِ الْقَذْفَ. وَالدَّلِيلُ لِمَا قَالَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ إِنَّمَا هُوَ لإِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ الَّتِي أَوْقَعَهَا الْقَاذِفُ بِالْمَقْذُوفِ، فَإِذَا حَصَلَتِ الْمَعَرَّةُ بِالتَّعْرِيضِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا كَالتَّصْرِيحِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْفَهْمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ قَوْمِ شُعَيْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ ( إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أَيِ السَّفِيهُ الضَّالُّ، فَعَرَّضُوا لَهُ بِالسَّبِّ بِكَلاَمٍ ظَاهِرُهُ الْمَدْحُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلاَتِ.
وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ رضي الله عنه الْحُطَيْئَةَ لَمَّا قَالَ لأَِحَدِهِمْ: الْحُطَيْئَةَ لَمَّا قَالَ لأِحَدِهِمْ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لاَ تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا
وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
لأِنَّهُ شَبَّهَهُ بِالنِّسَاءِ فِي أَنَّهُنَّ يُطْعَمْنَ وَيُسْقَيْنَ وَيُكْسَيْنَ .
وَعَلَى ذَلِكَ فَ إِذَا فُهِمَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَرْأَةِ أَوِ الرَّجُلِ بِالْعَفِيفَةِ أَوِ الْعَفِيفِ اسْتِهْزَاءً، كَانَ كَالرَّمْيِ الصَّرِيحِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.
ج - تَشْبِيهُ الرَّجُلِ غَيْرَهُ بِمَا يَكْرَهُ :
لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَبِّهَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَا يَكْرَهُهُ، قَالَ تَعَالَى: ( وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإْيمَانِ) وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّشْبِيهُ بِذِكْرِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ أَوْ بِحَذْفِهَا كَقَوْلِهِ: يَا مُخَنَّثُ، يَا أَعْمَى
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا كَافِرُ يَا مُنَافِقُ يَا أَعْوَرُ يَا نَمَّامُ يَا كَذَّابُ يَا خَبِيثُ يَا مُخَنَّثُ يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ إِيذَاءٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوْ بِغَمْزِ الْعَيْنِ أَوْ إِشَارَةِ الْيَدِ، لاِرْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا، وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا فِيهَا التَّعْزِيرُ .
وَكَذَلِكَ يُعَزَّرُ إِذَا شَبَّهَهُ بِالْحَيَوَانَاتِ الدَّنِيئَةِ كَقَوْلِهِ: يَا حِمَارُ، يَا كَلْبُ، يَا قِرْدُ، يَا بَقَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ) لأِنَّ كُلَّ مَنِ ارْتَكَبَ مُنْكَرًا أَوْ آذَى مُسْلِمًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِشَارَةٍ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا حِمَارُ، يَا كَلْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِظُهُورِ كَذِبِهِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَسْبُوبُ مِنَ الأْشْرَافِ فَيُعَزَّرُ، أَوْ مِنَ الْعَامَّةِ فَلاَ يُعَزَّرُ، كَمَا اسْتَحْسَنَهُ فِي الْهِدَايَةِ وَالزَّيْلَعِيُّ .
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَصِلِ الشَّتْمُ وَالسَّبُّ إِلَى حَدِّ الْقَذْفِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذْفِ: كَالرَّمْيِ بِالزِّنَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْفٌ) .
التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِالتَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَرَّضَ بِالْقَذْفِ غَيْرُ أَبٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ - إِنْ فُهِمَ الْقَذْفُ بِتَعْرِيضِهِ بِالْقَرَائِنِ، كَخِصَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، أَمَّا الأْبُ إِذَا عَرَّضَ لِوَلَدِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُحَدُّ لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلإْمَامِ أَحْمَدَ، لأِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اسْتَشَارَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فِي رَجُلٍ قَالَ لآِخَرَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلاَ أُمِّي بِزَانِيَةٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ لِصَاحِبِهِ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ، قَذْفٌ. كَقَوْلِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُحَدُّ، لأِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ لِلشُّبْهَةِ، وَيُعَاقَبُ بِالتَّعْزِيرِ، لأِنَّ الْمَعْنَى: بَلْ أَنْتَ زَانٍ .
وَالتَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلاَلِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ، لأِنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ، إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظَ الْمَنْوِيَّ، وَلاَ دَلاَلَةَ هُنَا فِي اللَّفْظِ وَلاَ احْتِمَالَ، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الأْحْوَالِ. هَذَا هُوَ الأْصَحُّ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ عَنِ الْقَذْفِ، لِحُصُولِ الْفَهْمِ وَالإْيذَاءِ. فَإِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَى فَقَذْفٌ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرِهَا .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الإْمَامِ أَحْمَدَ.
الْقَذْفُ الَّذِي لاَ حَدَّ فِيهِ وَالسَّبُّ :
حَدُّ الْقَذْفِ لاَ يُقَامُ عَلَى الْقَاذِفِ إِلاَّ بِشَرَائِطِهِ، فَ إِذَا انْعَدَمَ وَاحِدٌ مِنْهَا أَوِ اخْتَلَّ فَإِنَّ الْجَانِيَ لاَ يُحَدُّ. وَيُعَزَّرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ؛ لأِنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَمِنْ شُرُوطِ الْقَذْفِ الَّذِي فِيهِ الْحَدُّ: كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مُحْصَنًا . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلاَ يُحَدُّ الْقَاذِفُ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْذِفَ مَجْنُونًا بِالزِّنَى. أَوْ صَغِيرًا بِالزِّنَى. أَوْ مُسْلِمَةً قَدْ زَنَتْ. أَوْ مُسْلِمًا قَدْ زَنَى، أَوْ مَنْ مَعَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِفَّةِ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأْخِيرَةِ.
وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مَعْلُومًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلاَ حَدَّ، بَلِ التَّعْزِيرُ؛ لأِنَّ الْفِعْلَ مَعْصِيَةٌ لاَ حَدَّ فِيهَا. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُعَزَّرُ - وَلاَ يُحَدُّ - مَنْ قَذَفَ بِالزِّنَى جَدَّ آخَرَ دُونَ بَيَانِ الْجَدِّ. أَوْ أَخَاهُ كَذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَخٍ.
وَلاَ حَدَّ فِي الْقَذْفِ بِغَيْرِ الصَّرِيحِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْقَذْفُ بِالْكِنَايَةِ، أَوِ التَّعْرِيضِ، فَلَيْسَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَدٌّ، بَلِ التَّعْزِيرُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَيَرَى مَالِكٌ: الْحَدَّ فِي الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ أَوِ الْكِنَايَةِ.
وَالَّذِينَ مَنَعُوا الْحَدَّ قَالُوا بِالتَّعْزِيرِ؛ لأِنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ جَرِيمَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَلاَ حَدَّ إِذَا رَمَاهُ بِأَلْفَاظٍ لاَ تُفِيدُ الزِّنَى صَرَاحَةً. كَقَوْلِهِ: يَا فَاجِرُ، بَلْ يُعَزَّرُ.
وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ إِذَا رَمَاهُ بِمَا لاَ يُعْتَبَرُ زِنًى، كَمَنْ رَمَى آخَرَ بِالتَّخَنُّثِ.
وَيُعَزَّرُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ يَرْمِي آخَرَ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ؛ لأِنَّ هَذَا الْفِعْلَ لاَ يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَى عِنْدَهُ.
أَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْحَدِّ، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ تَعْزِيرَ فِي ذَلِكَ، بَلْ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ.
وَمَرَدُّ الْخِلاَفِ: هُوَ فِي أَنَّ اللِّوَاطَ هَلْ هُوَ زِنًى أَمْ لاَ؟.
فَمَنْ قَالُوا: بِأَنَّهُ زِنًى، جَعَلُوا فِي الْقَذْفِ بِهِ حَدَّ الْقَذْفِ. وَمَنْ قَالُوا: بِغَيْرِ ذَلِكَ، جَعَلُوا فِي الْقَذْفِ بِهِ التَّعْزِيرَ.
وَمَنْ قَذَفَ آخَرَ قَذْفًا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ أَوْ أَجَلٍ يُعَزَّرُ وَلاَ يُحَدُّ.
وَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ قَذْفًا، بَلْ مُجَرَّدُ سَبٍّ أَوْ شَتْمٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا، فَفِيهَا التَّعْزِيرُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: يَا نَصْرَانِيُّ، أَوْ يَا زِنْدِيقُ، أَوْ يَا كَافِرُ، فِي حِينِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لآِخَرَ: يَا مُخَنَّثُ، أَوْ يَا مُنَافِقُ، مَا دَامَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِذَلِكَ. وَيُعَزَّرُ كَذَلِكَ فِي مِثْلِ: يَا آكِلَ الرِّبَا، أَوْ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، أَوْ يَا خَائِنُ، أَوْ يَا سَارِقُ، وَكُلُّهُ بِشَرْطِ كَوْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لآِخَرَ: يَا بَلِيدُ، أَوْ يَا قَذِرُ، أَوْ يَا سَفِيهُ، أَوْ يَا ظَالِمُ، أَوْ يَا أَعْوَرُ، وَهُوَ صَحِيحٌ، أَوْ يَا مُقْعَدُ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّتْمِ.
وَعَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ يُعَزَّرُ مَنْ شَتَمَ آخَرَ، مَهْمَا كَانَ الشَّتْمُ؛ لأِنَّهُ مَعْصِيَةٌ.
وَيُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْزِيرِ إِلَى الْعُرْفِ، فَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ الْمَنْسُوبُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِمَّا يَلْحَقُ بِهِ فِي الْعُرْفِ الْعَارَ وَالأْذَى وَالشَّيْنَ، فَلاَ عِقَابَ عَلَى الْجَانِي، إِذْ لاَ يَكُونُ ثَمَّةَ جَرِيمَةٌ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس عشر ، الصفحة / 117
قَذْفُ الْجَدِّ حَفِيدَهُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْجَدِّ إِذَا قَذَفَ حَفِيدَهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِقَذْفِ حَفِيدِهِ وَإِنْ سَفَلَ؛ لأِنَّ الأْبُوَّةَ مَعْنًى يُسْقِطُ الْقِصَاصَ فَمَنَعَتِ الْحَدَّ؛ وَلأِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلاَ يَجِبُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى جَدِّهِ، ولقوله تعالي : ( فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وَالنَّهْيُ عَنِ التَّأْفِيفِ نَصًّا نَهْيٌ عَنِ الضَّرْبِ دَلاَلَةً، فَلَوْ حُدَّ الْجَدُّ كَانَ ضَرْبُهُ الْحَدَّ بِسَبَبِ حَفِيدِهِ؛ وَلأِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَذْفِ لَيْسَتْ مِنَ الإْحْسَانِ فِي شَيْءٍ فَكَانَتْ مَنْفِيَّةً نَصًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لاَ يَثْبُتُ لَهُ حَدُّ قَذْفٍ عَلَى جَدِّهِ، فَلَوْ قَذَفَ الْجَدُّ أُمَّ وَلَدِ وَلَدِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فَمَاتَتْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ وَلَدِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ؛ لأِنَّ مَا مَنَعَ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً أَسْقَطَهُ طَارِئًا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجَدَّ يُحَدُّ إِذَا قَذَفَ وَلَدَ وَلَدِهِ لِعُمُومِ الأْدِلَّةِ.
الْجَلْدُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ الْحُرَّ إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً، فَحَدُّهُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَأَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَلقوله تعالي : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
وقوله تعالي : ( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس عشر ، الصفحة / 305
حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالْقَذْفِ :
مَنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى قَذْفِهِ حُبِسَ قَاذِفُهُ لاِسْتِكْمَالِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ. وَمَنِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ قَذْفَهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي الْمِصْرِ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيُحْضِرَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ حَتَّى قِيَامِ الْحَاكِمِ مِنْ مَجْلِسِهِ وَإِلاَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ بِغَيْرِ كَفِيلٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِخِلاَفِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ بِالْقَذْفِ: لاَ يُجْلَدُ بَلْ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْقَذْفَ بَلِ الشَّتْمَ وَالسَّبَّ وَالْفُحْشَ فِي الْكَلاَمِ. وَقِيلَ: يُسْجَنُ سَنَةً لِيَحْلِفَ، وَقِيلَ: يُحَدُّ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني والعشرون ، الصفحة / 189
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ غَيْرَهُ:
إِذَا قَذَفَ الْمُرْتَدُّ غَيْرَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشُرُوطِهِ، إِلاَّ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حَيْثُ لاَ سُلْطَةَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْقَضِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَرَائِطِ الْقَذْفِ، وَلَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا إِسْلاَمُ الْقَاذِفِ،.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع والعشرون ، الصفحة / 16
الْقَذْفُ:
امْتَازَتْ صِيغَةُ الْقَذْفِ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الصِّيَغِ بِمَجِيءِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ فِيهَا، فَالْقَذْفُ الصَّرِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صَرَاحَتِهِ مِنْ قِبَلِ الْعُلَمَاءِ هُوَ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ: زَنَيْتَ، أَوْ يَا زَانِي، أَوْ لاِمْرَأَةٍ: زَنَيْتِ، أَوْ يَا زَانِيَةَ فَهَذِهِ الأْلْفَاظُ لاَ تَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْقَذْفِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُرَكَّبُ مِنَ النُّونِ وَالْيَاءِ وَالْكَافِ، وَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ صَرِيحٍ فِي الْجِمَاعِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ وَصْفُ الْحُرْمَةِ، وَكَذَا نَفْيُ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ بِقَوْلِهِ: لَسْتَ لأِبِيكَ.
وَمِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ: الرَّمْيُ بِالإْصَابَةِ فِي الدُّبُرِ كَقَوْلِهِ: لُطْتَ، أَوْ لاَطَ بِكَ فُلاَنٌ، سَوَاءٌ خُوطِبَ بِهِ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ. وَأَمَّا الرَّمْيُ بِإِتْيَانِ الْبَهَائِمِ فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ قَذْفٌ إِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ: فَكَقَوْلِهِ لِلرَّجُلِ: يَا فَاجِرُ، وَلِلْمَرْأَةِ: يَا خَبِيثَةُ.
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ: فَكَقَوْلِهِ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَحَلُّهُ (قَذْفٌ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث والثلاثون ، الصفحة / 5
قَذْفٌ
التَّعْرِيفُ:
الْقَذْفُ لُغَةً: الرَّمْيُ مُطْلَقًا، وَالتَّقَاذُفُ التَّرَامِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ فِيهِ الأْنْصَارُ مِنَ الأْشْعَارِ يَوْمَ بُعَاثٍ» أَيْ: تَشَاتَمَتْ، وَفِيهِ مَعْنَى الرَّمْيِ؛ لأِنَّ الشَّتْمَ رَمْيٌ بِمَا يَعِيبُهُ وَيَشِينُهُ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: «فِي مَعْرِضِ التَّعْيِيرِ»، وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: رَمْيُ مُكَلَّفٍ حُرًّا مُسْلِمًا بِنَفْيِ نَسَبٍ عَنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ بِزِنًا.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللِّعَانُ:
- اللِّعَانُ لُغَةً: مَصْدَرُ لاَعَنَ كَقَاتَلَ مِنَ اللَّعْنِ، وَهُوَ الطَّرْدُ وَالإْبْعَادُ.
وَاصْطِلاَحًا: عِبَارَةٌ عَنْ كَلِمَاتٍ مَعْلُومَةٍ جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُضْطَرِّ إِلَى قَذْفِ مَنْ لَطَّخَ فِرَاشَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ الْعَارَ أَوْ شَهَادَاتٍ مُؤَكَّدَاتٍ بِالأْيْمَانِ، مَقْرُونَةٍ بِاللَّعْنِ مِنْ جِهَةٍ، وَبِالْغَضَبِ مِنَ الأْخْرَى، قَائِمَةٍ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ، وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ أَنَّ اللِّعَانَ سَبَبٌ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ.
ب - السَّبُّ:
- السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الشَّتْمُ، وَهُوَ: كُلُّ كَلاَمٍ قَبِيحٍ.
وَالصِّلَةُ: أَنَّ السَّبَّ أَعَمُّ مِنَ الْقَذْفِ.
ج - الرَّمْيُ:
- مِنْ مَعَانِي الرَّمْيِ: الْقَذْفُ وَالإْلْقَاءُ، قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أَيْ: يَقْذِفُونَ، وَيُقَالُ: رَمَيْتُ الْحَجَرَ: أَلْقَيْتُهُ.
وَالرَّمْيُ أَعَمُّ مِنَ الْقَذْفِ.
د - الزِّنَا:
- الزِّنَا بِالْقَصْرِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبِالْمَدِّ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَمَعْنَاهُ الْفُجُورُ، يُقَالُ: زَنَى يَزْنِي زِنًا: فَجَرَ. وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَذْفَ اتِّهَامٌ بِالزِّنَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
- قَذْفُ الْمُحْصَنِ وَالْمُحْصَنَةِ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالأْصْلُ فِي تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ».
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَهُوَ: أَنْ يَرَى امْرَأَتَهُ تَزْنِي فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ ثُمَّ يَعْتَزِلَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الزِّنَى وَأَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَنْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَذْفُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا.
وَمُبَاحٌ: وَهُوَ أَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ تَزْنِي، أَوْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ زِنَاهَا، وَلَيْسَ ثَمَّ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ.
صِيغَةُ الْقَذْفِ:
الْقَذْفُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ، وَتَعْرِيضٌ.
فَاللَّفْظُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْقَذْفُ: إِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ غَيْرَهُ فَصَرِيحٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ فُهِمَ مِنْهُ الْقَذْفُ بِوَضْعِهِ فَكِنَايَةٌ، وَإِلاَّ فَتَعْرِيضٌ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ بِصَرِيحِ الزِّنَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِشُرُوطِهِ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ:
إِذَا أَنْكَرَ الْقَذْفَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، لِلإْيذَاءِ، وَقَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِمَا إِذَا خَرَجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَ السَّبِّ وَالذَّمِّ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ حُبِسَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عُزِّرَ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الأْلْفَاظِ:
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا خَبِيثُ، أَوْ لاِمْرَأَةٍ: يَا فَاجِرَةُ، يَا فَاسِقَةُ، يَا خَبِيثَةُ، أَوْ أَنْتِ تُحِبِّينَ الْخَلْوَةَ، أَوْ لاَ تَرُدِّينَ يَدَ لاَمِسٍ، فَإِنْ أَنْكَرَ إِرَادَةَ الْقَذْفِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ؛ لأِنَّهُ أَعْرَفُ بِمُرَادِهِ، فَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْقَذْفَ، ثُمَّ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا قَالَ لآِخَرَ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرَةِ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، يُؤَدَّبُ، فَإِذَا قَالَ: يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ قَذْفًا، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ يُحْبَسُ، فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عُزِّرَ.
وَإِذَا قَالَ: يَا فَاجِرُ بِفُلاَنَةَ، فَفِيهِ قَوْلاَنِ: الأْوَّلُ: حُكْمُهُ حُكْمُ مَا إِذَا قَالَ: يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ.
الثَّانِي: أَنْ يُضْرَبَ حَدَّ الْقَذْفِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَمْرٍ صَنَعَهُ مِنْ وُجُوهِ الْفُجُورِ، أَوْ مِنْ أَمْرٍ يَدَّعِيهِ، فَيَكُونُ فِيهِ مَخْرَجٌ لِقَوْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِذَا قَالَ لآِخَرَ: يَا مُخَنَّثُ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ قَذْفًا، فَإِنْ حَلَفَ عُفِيَ عَنْهُ بَعْدَ الأْدَبِ، وَلاَ يُضْرَبُ حَدَّ الْفِرْيَةِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ يَمِينُهُ، إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ فِيهِ تَأْنِيثٌ وَلِينٌ وَاسْتِرْخَاءٌ، فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ، وَيَحْلِفُ إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَذْفًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَأْنِيثَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ضُرِبَ الْحَدَّ، وَلَمْ تُقْبَلْ يَمِينُهُ، إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ قَذْفًا وَلَوْ قَالَ لاِمْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِالْقَذْفِ، فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ: يَا فَاسِقُ يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا فَاجِرُ، أَوْ يَا فَاجِرُ ابْنَ الْفَاجِرِ، أَوْ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ مَا نَسَبَهُ وَلاَ أُمَّهُ إِلَى صَرِيحِ الزِّنَا، فَالْفُجُورُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا وَغَيْرِ الزِّنَا، وَالْقَحْبَةُ مَنْ يَكُونُ مِنْهَا هَذَا الْفِعْلُ، فَلاَ يَكُونُ هَذَا قَذْفًا بِصَرِيحِ الزِّنَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْحَدَّ، فَقَدْ أَوْجَبْنَاهُ بِالْقِيَاسِ، وَلاَ مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَدِّ، لَكِنَّهُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لأِنَّهُ ارْتَكَبَ حَرَامًا، وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ؛ وَلأِنَّهُ أَلْحَقَ بِهِ نَوْعَ شَيْنٍ بِمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ، لِدَفْعِ ذَلِكَ الشَّيْنِ عَنْهُ.
- وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ: زَنَأْتَ مَهْمُوزًا، كَانَ قَذْفًا صَرِيحًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ فِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لأِنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لاَ يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الْقَذْفَ، فَكَانَ قَذْفًا، كَمَا لَوْ قَالَ: زَنَيْتَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ:
أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَكِنَايَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ فَهُوَ قَذْفٌ؛ لأِنَّ الْعَامَّةَ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ زَنَيْتَ وَزَنَأْتَ.
وَالأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَهُوَ قَذْفٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا.
- وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ، لاَ يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّهُ رَمَاهُ بِمَا يَسْتَحِيلُ مِنْهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ يُحَدُّ؛ لأِنَّهُ قَذَفَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ التَّاءَ تُزَادُ لَهُ كَمَا فِي عَلاَّمَةٍ وَنَسَّابَةٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَهُ فِي الْمُغْنِي؛ لأِنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لأِحَدِ الْجِنْسَيْنِ، كَانَ قَذْفًا لِلآْخَرِ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا لَهُمَا جَمِيعًا؛ وَلأِنَّ هَذَا خِطَابٌ لَهُ، وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِ بِلَفْظِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يُغْنِي عَنِ التَّمْيِيزِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَحَذْفِهَا، وَلَوْ قَالَ لاِمْرَأَةٍ: «يَا زَانِي» حُدَّ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لأِنَّ التَّرْخِيمَ شَائِعٌ، كَقَوْلِهِمْ فِي «مَالِكٍ»: «يَا مَالِ» وَفِي «حَارِثٍ»: «يَا حَارِ».
- وَإِنْ قَالَ زَنَى فَرْجُكِ، أَوْ ذَكَرُكَ، فَهُوَ قَذْفٌ؛ لأِنَّ الزِّنَا يَقَعُ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: زَنَتْ عَيْنُكَ، أَوْ يَدُكَ، أَوْ رِجْلُكَ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، إِنْ قَصَدَ الْقَذْفَ كَانَ قَذْفًا، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأِنَّ الزِّنَا لاَ يُوجَدُ مِنْ هَذِهِ الأْعْضَاءِ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ»، وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ قَذْفٌ، لأِنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى عُضْوٍ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا أَضَافَهُ إِلَى الْفَرْجِ فَإِنْ قَالَ: زَنَى بَدَنُكَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لأِنَّ الزِّنَا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَذْفٌ؛ لأِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَالْفَرْجُ دَاخِلٌ فِيهِ.
وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلاَنٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا؛ لأِنَّ أَفْعَلَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ مَعْنَى كَلاَمِهِ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِالزِّنَا مِنْ فُلاَنٍ، أَوْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا مِنْ فُلاَنٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَكُونُ قَذْفًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ قَذْفًا فَيُحَدُّ، وَهَلْ يَكُونُ قَاذِفًا لِلثَّانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ، لأِنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَيْهِمَا، وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا فِيهِ أَبْلَغَ مِنَ الآْخَرِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ: «أَفْعَلَ» لِلتَّفْضِيلِ، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، وَتَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: «أَجْوَدُ مِنْ حَاتِمٍ».
وَالثَّانِي: يَكُونُ قَاذِفًا لِلْمُخَاطَبِ خَاصَّةً؛ لأِنَّ لَفْظَةَ: «أَفْعَلَ» قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَالَ لِرَجُلٍ:
يَا زَانِي، فَقَالَ آخَرُ: صَدَقْتَ، لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ؛ لأِنَّهُ مَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَا، وَتَصْدِيقُهُ إِيَّاهُ لَفْظٌ مُحْتَمَلٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الزِّنَا وَفِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ فِي الزِّنَا، وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ لاَ يَكْفِي لإِيجَابِ الْحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَالَ: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ، فَحِينَئِذٍ قَدْ صَرَّحَ بِكَلاَمِهِ أَنَّ مُرَادَهُ التَّصْدِيقُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَا، فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ.
وَقَالَ زُفَرُ: فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ يُحَدَّانِ جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ زَانٍ، وَقَالَ آخَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَيْضًا، لاَ حَدَّ عَلَى الآْخَرِ؛ لأِنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ كَلاَمٌ مُحْتَمَلٌ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْقَذْفُ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا شَهِدْتَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ.
وَمَنْ قَذَفَ رَجُلاً بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ إِمَّا فَاعِلاً أَوْ مَفْعُولاً، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لأِنَّهُ قَذَفَهُ بِوَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ، فَأَشْبَهَ الْقَذْفَ بِالزِّنَا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لاَ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً أَنَّهَا وُطِئَتْ فِي دُبُرِهَا، أَوْ قَذَفَ رَجُلاً بِوَطْءِ امْرَأَةٍ فِي دُبُرِهَا.
وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: «يَا لُوطِيُّ»، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكَ عَلَى دِينِ قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ، وَمَا صَحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يُسْمَعُ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُحِيلُ الْقَذْفَ، لأِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لاَ يُفْهَمُ مِنْهَا إِلاَّ الْقَذْفُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِيهِ، كَقَوْلِهِ: «يَا زَانِي»، وَلأِنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلاَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا قَالَ: نَوَيْتُ أَنَّ دِينَهُ دِينُ قَوْمِ لُوطٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكَ تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ فَسَّرَ كَلاَمَهُ بِمَا لاَ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ فَسَّرَهُ بِهِ مُتَّصِلاً بِكَلاَمِهِ.
حُكْمُ التَّعْرِيضِ:
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ قَذْفٌ، كَقَوْلِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُحَدُّ؛ لأِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ لِلشُّبْهَةِ، وَيُعَاقَبُ بِالتَّعْزِيرِ؛ لأِنَّ الْمَعْنَى: بَلْ أَنْتَ زَانٍ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَرَّضَ بِالْقَذْفِ غَيْرُ أَبٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ فُهِمَ الْقَذْفُ بِتَعْرِيضِهِ بِالْقَرَائِنِ، كَخِصَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، أَمَّا الأْبُ إِذَا عَرَّضَ لِوَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحَدُّ، لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلإْمَامِ أَحْمَدَ؛ لأِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اسْتَشَارَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فِي رَجُلٍ قَالَ لآِخَرَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلاَ أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ لِصَاحِبِهِ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ.
وَالتَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلاَلِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ؛ لأِنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظَ الْمَنْوِيَّ، وَلاَ دَلاَلَةَ هُنَا فِي اللَّفْظِ، وَلاَ احْتِمَالَ، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الأْحْوَالِ، هَذَا هُوَ الأْصَحُّ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ عَنِ الْقَذْفِ، لِحُصُولِ الْفَهْمِ وَالإْيذَاءِ، فَإِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَا فَقَذْفٌ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرُهَا
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الإْمَامِ أَحْمَدَ.
شُرُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ:
لِحَدِّ الْقَذْفِ شُرُوطٌ فِي الْقَاذِفِ، وَشُرُوطٌ فِي الْمَقْذُوفِ:
أ - شُرُوطُ الْقَاذِفِ:
- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاذِفِ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالاِخْتِيَارُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطٍ، مِنْهَا:
1- الإْقَامَةُ فِي دَارِ الْعَدْلِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ احْتِرَازًا عَنِ الْمُقِيمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
2 - النُّطْقُ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الأْخْرَسِ.
3 - الْتِزَامُ أَحْكَامِ الإْسْلاَمِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى حَرْبِيٍّ، لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ.
4 - الْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى جَاهِلٍ بِالتَّحْرِيمِ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإْسْلاَمِ، أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ.
5 - عَدَمُ إِذْنِ الْمَقْذُوفِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ، كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الأْكْثَرِينَ.
6 - أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ غَيْرَ أَصْلٍ لِلْمَقْذُوفِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُحَدُّ الأْبُ بِقَذْفِ ابْنِهِ.
ب - شُرُوطُ الْمَقْذُوفِ:
كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مُحْصَنًا:
- يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْذُوفِ - الَّذِي يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ - أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا، وَشُرُوطُ الإْحْصَانِ فِي الْقَذْفِ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالإْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا، فَإِنْ قَذَفَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّ مَا رَمَى بِهِ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ لَوْ تَحَقَّقَ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ، فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ عَاقِلاً بِمَا دُونَ الْوَطْءِ، وَإِنْ قَذَفَ كَافِرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»، وَإِنْ قَذَفَ مَمْلُوكًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ كَمَالَ الْحَدِّ، فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَإِنْ قَذَفَ زَانِيًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) فَأَسْقَطَ الْحَدَّ عَنْهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ زَنَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَذَفَهُ وَهُوَ زَانٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا: يُحَدُّ قَاذِفُهَا، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً، فَإِنَّ الْحَدَّ بِعِلَّةِ إِلْحَاقِ الْعَارِ، وَمِثْلُهَا يَلْحَقُهُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَان ف 15 - 19).
وُقُوعُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الإْسْلاَمِ:
- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الإْسْلاَمِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ فِي الْقَاذِفِ، كَمَا يَجِبُ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ، لأِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الإْسْلاَمِ فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْحُدُودِ؛ لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة) ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْثَمَانِينَ جَلْدَةً) ، وَقَالَ: تعالي : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وَلَمْ يَسْتَثْنِ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ، وَلاَ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَالْحَرَامُ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ حَرَامٌ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَمَنْ أَصَابَ حَرَامًا فَقَدْ حَدَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَلاَ تَضَعُ عَنْهُ بِلاَدُ الْكُفْرِ شَيْئًا، وَيُقَامُ الْحَدُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لأِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَتِهِ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ إِلَى بِلاَدِ الإْسْلاَمِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الإْسْلاَمِ؛ لأِنَّهُ فِي دَارٍ لاَ حَدَّ عَلَى أَهْلِهَا؛ وَلأِنَّهُ ارْتَكَبَ السَّبَبَ وَهُوَ لَيْسَ تَحْتَ وِلاَيَةِ الإْمَامِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لِلإْمَامِ وِلاَيَةُ الاِسْتِيفَاءِ إِذَا ارْتَكَبَ السَّبَبَ وَهُوَ تَحْتَ وِلاَيَتِهِ، وَبِدُونِ الْمُسْتَوْفَى لاَ يَجِبُ الْحَدُّ.
وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا، لَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الأْوَّلِ؛ لأِنَّ الْمُغَلَّبَ فِي هَذَا الْحَدِّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلأِنَّهُ لَيْسَ لِلإْمَامِ عَلَيْهِ وِلاَيَةُ الاِسْتِيفَاءِ، حِينَ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ بِدُخُولِهِ دَارَنَا بِأَمَانٍ.
وَيُحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الآْخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهم الله ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِّ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ حُقُوقَ الْعِبَادِ؛ وَلأِنَّهُ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ يَسْتَخِفُّ بِهِ، وَمَا أُعْطِيَ الأْمَانَ عَلَى أَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا يُحَدُّ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَارُ الْحَرْبِ ف 5).
حَدُّ الْقَذْفِ:
حَدُّ الْقَذْفِ لِلْحُرِّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) وَيُنَصَّفُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْجَلْدِ فِي الْحَدِّ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود ف 46، 47 وَ 48).
وَيُشْتَرَطُ لإِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ تَمَامِ الْقَذْفِ بِشُرُوطِهِ شَرْطَانِ.
الأْوَّلُ: أَنْ لاَ يَأْتِيَ الْقَاذِفُ بِبَيِّنَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ) ، فَيُشْتَرَطُ فِي جَلْدِهِمْ عَدَمُ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الإْقْرَارِ مِنَ الْمَقْذُوفِ؛ لأِنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا اشْتُرِطَ امْتِنَاعُهُ مِنَ اللِّعَانِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا.
الثَّانِي: مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ وَاسْتِدَامَةُ مُطَالَبَتِهِ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأِنَّهُ حَقُّهُ، فَلاَ يُسْتَوْفَى قَبْلَ طَلَبِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَدَّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُطَالَبَةَ، بَلْ عَلَى الإْمَامِ أَنْ يُقِيمَهُ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ.
مَا يَسْقُطُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ:
أَوَّلاً: عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عَنِ الْقَاذِفِ:
- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَفْوِ الْمَقْذُوفِ عَنِ الْقَاذِفِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَاذِفِ، سَوَاءٌ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الإْمَامِ أَوْ بَعْدَ الرَّفْعِ إِلَيْهِ؛ لأِنَّهُ حَقٌّ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ بِاسْتِيفَائِهِ، فَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ كَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ فِي إِقَامَتِهَا طَلَبُ اسْتِيفَائِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ، سَوَاءٌ رُفِعَ إِلَى الإْمَامِ أَوْ لَمْ يُرْفَعْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ بَعْدَ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى الإْمَامِ، إِلاَّ الاِبْنُ فِي أَبِيهِ، أَوِ الَّذِي يُرِيدُ سَتْرًا، عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ الْعَفْوُ مِنْ أَصْحَابِ الْفَضْلِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعَفَافِ؛ لأِنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يُدَارُونَ بِعَفْوِهِمْ سَتْرًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِهِمْ هَلْ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ أَوْ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ أَوْ حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا؟ فَمَنْ قَالَ حَقٌّ لِلَّهِ: لَمْ يُجِزِ الْعَفْوَ كَالزِّنَا، وَمَنْ قَالَ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ: أَجَازَ الْعَفْوَ، وَمَنْ قَالَ حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا وَغَلَبَ حَقُّ الإْمَامِ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ، قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَصِلَ الإْمَامَ أَوْ لاَ يَصِلَ، وَقِيَاسًا عَلَى الأْثَرِ الْوَارِدِ فِي السَّرِقَةِ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَرَقَ رِدَاءَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَلاَّ يُقْطَعَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ»، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ الَّذِي سَرَقَ: «فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِهِ، فَرَأَوْا مِنْهُ أَسَفًا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّكَ كَرِهْتَ قَطْعَهُ، قَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي؟ لاَ تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ، إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلإْمَامِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَدٌّ أَنْ يُقِيمَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ» .
وَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ - وَهُوَ الأْظْهَرُ -: أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا صَدَّقَهُ فِيمَا قَذَفَهُ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ.
ثَانِيًا: اللِّعَانُ:
وَذَلِكَ إِذَا رَمَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا، أَوْ نَفَى حَمْلَهَا أَوْ وَلَدَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى مَا رَمَاهَا بِهِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا لاَعَنَ زَوْجَتَهُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (لِعَان).
ثَالِثًا: الْبَيِّنَةُ:
إِذَا ثَبَتَ زِنَا الْمَقْذُوفِ بِشَهَادَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ حُدَّ الْمَقْذُوفُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وَفِي بَيَانِ إِثْبَاتِ الزِّنَا بِالشَّهَادَةِ أَوِ الإْقْرَارِ انْظُرِ الْمُصْطَلَحَاتِ (إِقْرَار ف 34 - 37، وَشَهَادَة ف 29، وَزِنًى ف 30 - 41).
رَابِعًا: زَوَالُ الإْحْصَانِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا، ثُمَّ زَالَ أَحَدُ أَوْصَافِ الإْحْصَانِ عَنْهُ، كَأَنْ زَنَى الْمَقْذُوفُ أَوِ ارْتَدَّ أَوْ جُنَّ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ؛ لأِنَّ الإْحْصَانَ يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ اسْتِمْرَارُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ: حَدَّ الْقَذْفِ يَسْقُطُ بِزِنَا الْمَقْذُوفِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأِنَّ الإْحْصَانَ لاَ يُسْتَيْقَنُ بَلْ يُظَنُّ، وَلَكِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لاَ يَسْقُطُ بِرِدَّةِ الْمَقْذُوفِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالزِّنَا أَنَّ الزِّنَا يُكْتَمُ مَا أَمْكَنَ، فَإِذَا ظَهَرَ أَشْعَرَ بِسَبْقِ مِثْلِهِ؛ لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ لاَ يَهْتِكُ السِّتْرَ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ - رضي الله عنه - وَالرِّدَّةُ عَقِيدَةٌ، وَالْعَقَائِدُ لاَ تَخْفَى غَالِبًا، فَإِظْهَارُهَا لاَ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ الْخَفَاءِ، وَلاَ يَسْقُطُ كَذَلِكَ بِجُنُونِ الْمَقْذُوفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ إِذَا ثَبَتَ لاَ يَسْقُطُ بِزَوَالِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الإْحْصَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ جُنَّ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ بِذَلِكَ.
خَامِسًا: رُجُوعُ الشُّهُودِ أَوْ بَعْضِهِمْ عَنِ الشَّهَادَةِ:
إِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، سَقَطَ الْحَدُّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ مِنْهُمْ؛ لأِنَّ رُجُوعَهُمْ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رُجُوع ف 37).
التَّعْزِيرُ فِي الْقَذْفِ:
لاَ يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ إِلاَّ بِشُرُوطِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ وَاحِدٌ مِنْهَا أَوِ اخْتَلَّ، فَإِنَّ الْجَانِيَ لاَ يُحَدُّ، وَيُعَزَّرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ؛ لأِنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِير ف 37).
ثُبُوتُ فِسْقِ الْقَاذِفِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ:
إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، فَحُقِّقَ قَذْفُهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ لِعَانٍ، أَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ أَجْنَبِيًّا، فَحُقِّقَ قَذْفُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَذْفَةِ فِسْقٌ، وَلاَ حَدٌّ، وَلاَ رَدُّ شَهَادَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُحَقَّقْ قَذْفُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ بِفِسْقِهِ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .
فَإِنْ تَابَ الْقَاذِفُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، وَزَالَ الْفِسْقُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِذَا جُلِدَ وَإِنْ تَابَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة ف 21).
تَكْرَارُ الْقَذْفِ:
إِنْ قَذَفَ رَجُلاً مَرَّاتٍ فَلَمْ يُحَدَّ، وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا وَاحِدٍ أَوْ بِزِنْيَاتٍ؛ لأِنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ فَتَدَاخَلاَ كَمَا لَوْ زَنَى ثُمَّ زَنَى، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ؛ لأِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ، كَالدُّيُونِ.
وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهُ، نُظِرَ: فَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَعُزِّرَ لِلإْيذَاءِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا حُدَّ بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، أَعَادَ قَذْفَهُ، فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ حَدًّا ثَانِيًا، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ قَالَ: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ أَنَّهُ زَانٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَقَالَ: شَاطَ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَاءَ زِيَادٌ فَقَالَ: أَمَّا عِنْدَكَ؟ فَلَمْ يَثْبُتْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَجُلِدُوا، وَقَالَ: شُهُودُ زُورٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَلَيْسَ تَرْضَى إِنْ أَتَاكَ رَجُلٌ عَدْلٌ يَشْهَدُ بِرَجْمِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ أَعَدْتَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ الرَّجْمَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «فَلاَ يُعَادُ فِي فِرْيَةٍ جَلْدٌ مَرَّتَيْنِ».
فَأَمَّا إِنْ حُدَّ لَهُ، ثُمَّ قَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ، نُظِرَ: فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ فَحَدٌّ ثَانٍ؛ لأِنَّهُ لاَ يُسْقِطُ حُرْمَةَ الْمَقْذُوفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاذِفِ أَبَدًا، بِحَيْثُ يُمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ بِكُلِّ حَالٍ. وَإِنْ قَذَفَهُ عَقِيبَ حَدِّهِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأْوَّلُ: يُحَدُّ أَيْضًا؛ لأِنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيهِ بِحَدٍّ، فَيَلْزَمُ فِيهِ حَدٌّ، كَمَا لَوْ طَالَ الْفَصْلُ؛ وَلأِنَّ سَائِرَ أَسْبَابِ الْحَدِّ إِذَا تَكَرَّرَتْ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلأَوَّلِ، ثَبَتَ لِلثَّانِي حُكْمُهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأْسْبَابِ.
الثَّانِي: لاَ يُحَدُّ؛ لأِنَّهُ قَدْ حُدَّ لَهُ مَرَّةً، فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ عَقِبَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الأْوَّلِ.
حُكْمُ قَذْفِ مَنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ:
- مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا لَمْ يَسْقُطْ بِهَذَا الْوَطْءِ إِحْصَانُهُ، فَإِنْ سَقَطَ بِهَذَا الْوَطْءِ إِحْصَانُهُ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لأِنَّهُ قَذَفَ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَيُعَزَّرُ لِلإْيذَاءِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلاً اسْتَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَا، أَوْ قَذَفَهَا، فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لأِنَّ قَذْفَهُ لِلزَّانِي كَانَ حَقًّا، وَلأِنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، لَكِنَّ الزِّنَا بِهَا يُسْقِطُ إِحْصَانَهَا مَعَ رَفْعِ الإْثْمِ عَنْهَا.
انْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَان ف 7) وَمُصْطَلَحِ (زِنًا ف 16 - 21)
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا:
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ يَسْقُطْ إِحْصَانُهُ، وَيُحَدُّ قَاذِفُهُ؛ لأِنَّ الْوَطْءَ فِي الْمِلْكِ، وَالْحُرْمَةَ بِعَارِضٍ عَلَى احْتِمَالِ الزَّوَالِ، وَهَذَا لأِنَّ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ بِالْمَحَلِّ لاَ يَكُونُ الْفِعْلُ زِنًا وَلاَ فِي مَعْنَاهُ.
حُكْمُ قَذْفِ وَلَدِ الزِّنَا:
- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ: مَنْ قَذَفَ وَلَدَ الزِّنَا فِي نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لأِبَوَيْهِ، وَفِعْلُهُمَا لاَ يُسْقِطُ إِحْصَانَهُ.
حُكْمُ قَذْفِ وَلَدِ الْمُلاَعَنَةِ:
- وَمَنْ قَذَفَ وَلَدَ الْمُلاَعَنَةِ فَقَالَ: هُوَ وَلَدُ زِنًا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الْمُلاَعَنَةِ أَنْ لاَ تُرْمَى، وَلاَ يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ»؛ وَلأِنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ. وَإِذَا قَالَ الْقَاذِفُ: هُوَ مِنَ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ أُمُّهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، أَمَّا إِنْ قَالَ: لَيْسَ هُوَ ابْنَ فُلاَنٍ يَعْنِي الْمُلاَعِنَ، وَأَرَادَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لأِنَّهُ صَادِقٌ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ قَالَ لاِبْنِ الْمُلاَعَنَةِ: لَسْتَ لأِبِيكَ الَّذِي لاَعَنَ أُمَّكَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ:
لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ مَنْ وَطِئَ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ إِحْصَانُهُ، فَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ.
وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّهُ وَطْءٌ لاَ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَمْ يَسْقُطِ الإْحْصَانُ، فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ.
حُكْمُ قَذْفِ اللَّقِيطِ:
- وَمَنْ قَذَفَ اللَّقِيطَ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ.
وَمَنْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الزِّنَا، فَفِيهِ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الأْوَّلُ: يُحَدُّ لاِحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نُبِذَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ. الثَّانِي: لاَ يُحَدُّ لأِنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَنْبُوذِ أَنْ يَكُونَ ابْنَ زِنًا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّخْمِيِّ.
وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الزَّانِي، أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، فَهَذَا قَذْفٌ بِزِنَا أَبَوَيْهِ، لاَ بِنَفْيِ نَسَبٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ اتِّفَاقًا، وَعَلَّلَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِجَهْلِ أَبَوَيْهِ.
قَذْفُ الْمَحْدُودِ فِي الزِّنَا:
- وَمَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ؛ لأِنَّهُ صَادِقٌ سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، أَوْ بِزِنًا آخَرَ أَوْ مُبْهَمًا؛ لأِنَّهُ رَمَى غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لأِنَّ الْمُحْصَنَ لاَ يَكُونُ زَانِيًا، وَمَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ يُعَزَّرُ؛ لأِنَّهُ آذَى مَنْ لاَ يَجُوزُ أَذَاهُ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ تَابَ بَعْدَ زِنَاهُ وَصَلُحَ حَالُهُ، فَلَمْ يَعُدْ مُحْصَنًا أَبَدًا، وَلَوْ لاَزَمَ الْعَدَالَةَ وَصَارَ مِنْ أَوْرَعِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَزْهَدِهِمْ، فَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ، سَوَاءٌ أَقَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا أَمْ بِزِنًا بَعْدَهُ أَمْ أَطْلَقَ؛ لأِنَّ الْعِرْضَ إِذَا انْخَرَمَ بِالزِّنَا لَمْ يَزُلْ خَلَلُهُ بِمَا يَطْرَأُ مِنَ الْعِفَّةِ، وَلاَ يَرِدُ حَدِيثُ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ» لأِنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآْخِرَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ: مِنْ شُرُوطِ الْمَقْذُوفِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنِ الزِّنَا فِي ظَاهِرِ حَالِهِ، وَلَوْ كَانَ تَائِبًا مِنْهُ؛ لأِنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ، ثُمَّ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَلَوْ دُونَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ أَوْ حُدَّ لِلزِّنَا، فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَيُعَزَّرُ.
وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّهُ إِنْ قَذَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الزِّنَا، أَوْ بِالزِّنَا مُبْهَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّ الرَّمْيَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي صَادِقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إِذَا نَسَبَهُ إِلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، فَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ مُلْحِقٌ لِلشَّيْنِ بِهِ.
قَذْفُ الْمَرْأَةِ الْمُلاَعَنَةِ:
- وَمَنْ قَذَفَ الْمُلاَعَنَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ؛ لأِنَّ إِحْصَانَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِاللِّعَانِ، وَلاَ يَثْبُتُ الزِّنَا بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا بِهِ حَدٌّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الْمُلاَعَنَةِ أَنْ لاَ تُرْمَى وَلاَ يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ».
وَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَتِ الْمُلاَعَنَةُ بِغَيْرِ وَلَدٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بِوَلَدٍ فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا، وَهِيَ وِلاَدَةُ وَلَدٍ لاَ أَبَ لَهُ، فَفَاتَتِ الْعِفَّةُ نَظَرًا إِلَيْهَا، وَالْعِفَّةُ شَرْطُ الإْحْصَانِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّ قَاذِفَ الْمُلاَعَنَةِ إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا، أَوْ كَانَ زَوْجًا وَقَذَفَهَا فِي غَيْرِ مَا لاَعَنَهَا فِيهِ حُدَّ مُطْلَقًا فَإِذَا كَانَ الْمُلاَعِنُ نَفْسُهُ وَقَذَفَهَا فِيمَا لاَعَنَهَا فِيهِ لَمْ يُحَدَّ، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْلَقَ الْقَذْفَ.
قَذْفُ الْمَيِّتِ:
أَوْجَبَ الْجُمْهُورُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا مُحْصَنًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِذَا طَالَبَ بِالْحَدِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ لأِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، وَالْمَوْتُ يُقَرِّرُ الإْحْصَانَ وَلاَ يَنْفِيهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى، وَكَانَ لَهَا ابْنٌ مُحْصَنٌ فَإِنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْحَدِّ؛ لأِنَّ قَذْفَ أُمِّهِ قَذْفٌ لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلاَ يُحَدُّ.
قَذْفُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ:
- مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَقَدْ قَذَفَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنْ لاَعَنَهَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُلاَعِنْ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَيُّهُمَا طَالَبَ حُدَّ لَهُ وَمَنْ لَمْ يُطَالِبْ فَلاَ يُحَدَّ لَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ لِلزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا حَقٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلاَ الْحَدُّ.
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ الأْجْنَبِيَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا:
- مَنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَلاَ يُلاَعِنُ، لأِنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً فَوَجَبَ الْحَدُّ، وَلاَ يَمْلِكُ اللِّعَانَ لأِنَّهُ قَاذِفٌ غَيْرَ زَوْجَةٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ.
مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ:
مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا، وَهِيَ وِلاَدَةُ وَلَدٍ لاَ أَبَ لَهُ فَفَاتَتِ الْعِفَّةُ نَظَرًا إِلَيْهَا، وَهِيَ شَرْطُ الإْحْصَانِ وَيُعَزَّرُ لِلإْيذَاءِ.
قَذْفُ وَاحِدٍ لِجَمَاعَةٍ:
مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ طَالَبُوهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ طَالَبُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. فَإِنْ حُدَّ لِلأْوَّلِ لَمْ يُحَدَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ؛ لأِنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ كَحُضُورِ كُلِّهِمْ، فَلاَ يُحَدُّ ثَانِيًا إِلاَّ إِذَا كَانَ بِقَذْفٍ آخَرَ مُسْتَأْنَفٍ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ، وَطَاوُسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
وَعِنْدَ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ؛ لأِنَّهَا حُقُوقٌ لآِدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ.
وَأَمَّا إِذَا قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، وَرَجَّحَهَا فِي الْمُغْنِي لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَذْفِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ؛ وَلأِنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ قَذَفُوا امْرَأَةً، فَلَمْ يَحُدَّهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه إِلاَّ حَدًّا وَاحِدًا؛ وَلأِنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا؛ وَلأِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ، وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ وَتَزُولُ الْمَعَرَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُفْرَدًا فَإِنَّ كَذِبَهُ فِي قَذْفٍ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي آخَرَ، وَلاَ تَزُولُ الْمَعَرَّةُ عَنْ أَحَدِ الْمَقْذُوفَيْنِ بِحَدِّهِ لِلآْخَرِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ، لأِنَّهُ أَلْحَقَ الْعَارَ بِقَذْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَزِمَهُ لِكُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمْ حَدٌّ، كَمَا لَوِ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَذْفِ.
وَاخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِيمَا إِذَا قَذَفَ إِنْسَانًا فَحُدَّ لَهُ وَفِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ قَذَفَ إِنْسَانًا آخَرَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُقَامُ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الضَّرْبِ إِلاَّ سَوْطٌ وَاحِدٌ، فَلاَ يُضْرَبُ إِلاَّ ذَلِكَ السَّوْطَ لِلتَّدَاخُلِ؛ لأِنَّهُ اجْتَمَعَ حَدَّانِ؛ وَلأِنَّ كَمَالَ الْحَدِّ الأْوَّلِ بِالسَّوْطِ الَّذِي بَقِيَ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: إِنْ كَرَّرَ أَثْنَاءَ الْجَلْدِ فَإِنْ كَانَ مَا مَضَى مِنَ الْجَلْدِ أَقَلَّهُ أُلْغِيَ مَا مَضَى، وَابْتُدِئَ الْعَدَدُ وَبِذَلِكَ يُسْتَوْفَى الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ مَا بَقِيَ قَلِيلاً فَيَكْمُلُ الأْوَّلُ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ لِلثَّانِي.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ زُنَاةً عَادَةً لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ؛ لأِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ، وَلاَ عَارَ عَلَى الْمَقْذُوفِ لأِنَّا نَقْطَعُ بِكَذِبِهِ وَيُعَزَّرُ لِلْكَذِبِ.
قَذْفُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ:
- مَنْ قَذَفَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ: أَنَا وَلَدُ زِنًا، حُدَّ لأِنَّهُ قَذْفٌ لأِمِّهِ.
حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يُطَالَبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إِلاَّ مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ، وَهُوَ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلاَ وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ؛ لأِنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِمَا لِلْجُزْئِيَّةِ، فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلاً مَعْنًى لَهُمَا، فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ، لَكِنَّ لُحُوقَهُ لَهُمَا بِوَاسِطَةِ لُحُوقِ الْمَقْذُوفِ بِالذَّاتِ فَهُوَ الأْصْلُ فِي الْخُصُومَةِ؛ لأِنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُ مَقْصُودًا، فَلاَ يُطَالَبُ غَيْرُهُ بِمُوجِبِهِ إِلاَّ عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ مُطَالَبَتِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَلِذَا لَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهِ وَلاَ لِوَالِدِهِ الْمُطَالَبَةُ لأِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْغَائِبُ.
وَيَثْبُتَ لِلأْبْعَدِ مَعَ وُجُوبِ الأْقْرَبِ، وَكَذَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ؛ لأِنَّهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لاِبْنِهِ الْكَافِرِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ خِلاَفًا لِزُفَرَ، إِذْ يَقُولُ: الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الإْرْثَ عِنْدَنَا، كَمَا إِذَا كَانَ مُتَنَاوِلاً لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى، بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَذْفِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِعَدَمِ إِحْصَانِهِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَقَطْ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ، فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لأِنَّ الإْحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ، ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إِلَى وَلَدِهِ، وَالْكُفْرُ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الاِسْتِحْقَاقِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفُ نَفْسَهُ لأِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَعْيِيرٌ عَلَى الْكَمَالِ، لِفَقْدِ الإْحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إِلَى الزِّنَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ، وَهُوَ بِإِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا كَانَتِ الْمُطَالَبَةُ لَهُ، أَوْ مَيِّتًا طَالَبَ بِهِ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا لَمْ يَتَحَقَّقِ التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ فِي حَقِّهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ: لِلْوَارِثِ حَقَّ الْقِيَامِ بِحَقِّ مُوَرِّثِهِ الْمَقْذُوفِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ وَلَدٌ وَوَلَدُهُ وَإِنْ سَفَلَ، وَأَبٌ وَأَبُوهُ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ الأْخُ فَابْنُهُ. فَعَمٌّ فَابْنُهُ، وَهَكَذَا وَلِكُلٍّ مِنَ الْوَرَثَةِ الْقِيَامُ بِحَقِّ الْمُوَرِّثِ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ. كَابْنِ الاِبْنِ مَعَ وُجُودِ الاِبْنِ؛ لأِنَّ الْمَعَرَّةَ تَلْحَقُ الْجَمِيعَ وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ أُنْثَى خِلاَفًا لأِشْهَبَ الْقَائِلِ: يُقَدَّمُ الأْقْرَبُ فَالأْقْرَبُ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْمُوَرِّثِ الْمَقْذُوفِ كَالْقِيَامِ بِالدَّمِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ وَهُوَ مِمَّنْ يُورَثُ انْتَقَلَ ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ، وَفِيمَنْ يَرِثُهُ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
الأْوَّلُ: أَنَّهُ يَرِثُهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ، لأِنَّهُ مَوْرُوثٌ فَكَانَ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ كَالْمَالِ، وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ إِلاَّ لِمَنْ يَرِثُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لأِنَّ الْحَدَّ يَجِبُ لِدَفْعِ الْعَارِ، وَلاَ يَلْحَقُ الزَّوْجَ عَارٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لأِنَّهُ لاَ تَبْقَى زَوْجِيَّةٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرِثُهُ الْعَصَبَاتُ دُونَ غَيْرِهِمْ لأِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ثَبَتَ لِلآْخَرِ الْحَدُّ لأِنَّهُ جُعِلَ لِلرَّدْعِ، وَلاَ يَحْصُلُ الرَّدْعُ إِلاَّ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلرَّدْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَوْفِيهِ السُّلْطَانُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، حُرَّةً أَوْ أَمَةً حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الاِبْنُ وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا.
أَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ فَلَيْسَ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ لأِنَّ الْحَقَّ لَهَا فَلاَ يُطَالِبُ بِهِ غَيْرُهَا، وَلاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا؛ لأِنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلتَّشَفِّي فَلاَ يَقُومُ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ كَالْقِصَاصِ، وَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا لأِنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَأَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَإِنَّ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةَ لأِنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ؛ وَلأِنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ زِنًا، وَلاَ يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الإْرْثِ، وَلِذَلِكَ لاَ تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِي أُمِّهِ لأِنَّ الْقَذْفَ لَهُ.
فَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَهُوَ مُشْرِكٌ أَوْ عَبْدٌ فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الأْمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ قُذِفَتْ جَدَّتُهُ فَهُوَ كَقَذْفِ أُمِّهِ.
فَأَمَّا إِنْ قَذَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ؛ لأِنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ لاَحِقًا لِلْمَيِّتِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ.
قَذْفُ الْمَجْهُولِ:
مَنْ قَذَفَ مَجْهُولاً لاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الْمَعَرَّةِ، إِذْ لاَ يُعْرَفُ مَنْ أَرَادَ وَالْحَدُّ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعَرَّةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ رَجُلاَنِ فِي شَيْءٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ هُوَ ابْنُ زَانِيَةٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لأِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ، وَإِذَا سَمِعَ السُّلْطَانُ رَجُلاً يَقُولُ: زَنَى رَجُلٌ، لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ لأِنَّ الْمُسْتَحِقَّ مَجْهُولٌ، وَلاَ يُطَالِبُهُ بِتَعْيِينِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وَلأِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم : «يَا هُزَالُ، لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ»، وَإِنْ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلاً يَقُولُ: إِنَّ فُلاَنًا زَنَى، لَمْ يُحَدَّ لأِنَّهُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَاكٍ، وَلاَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَاذِفِ؛ لأِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ أَوِ ابْنُ زَانِيَةٍ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَامُوا كُلُّهُمْ لِعَدَمِ تَعْيِينِهِ الْمَعَرَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذْ لاَ يُعْرَفُ مَنْ أَرَادَ، وَهَذَا إِذَا كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ بِأَنْ زَادُوا عَلَى ثَلاَثَةٍ، فَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً أَوِ اثْنَيْنِ حُدَّ إِنْ قَامُوا أَوْ قَامَ بَعْضُهُمْ وَعَفَا الْبَعْضُ الْبَاقِي، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَائِمَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حُدَّ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَامَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَمْ أُرِدِ الْقَائِمَ لَمْ يُحَدَّ سَوَاءٌ عَفَا الْبَعْضُ أَوْ لَمْ يَعْفُ، وَسَوَاءٌ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَائِمَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ؛ لأِنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، حَيْثُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ.
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ وَالْكَافِرِ وَالذِّمِّيِّ وَالْفَاسِقِ:
مَنْ قَذَفَ مُرْتَدًّا لاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُحْصَنٍ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ دِينِ الإْسْلاَمِ، وَإِنِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَلَوْ تَابَ بِأَنْ رَجَعَ لِلإْسْلاَمِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِنِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَإِنَّ رِدَّتَهُ لاَ تُسْقِطُ الْحَدَّ؛ لأِنَّهَا أَمْرٌ طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ فَلاَ يَسْقُطُ مَا وَجَبَ مِنَ الْحَدِّ.
وَمَنْ قَذَفَ كَافِرًا وَلَوْ ذِمِّيًّا لاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُعَزَّرُ لِلإْيذَاءِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجُلُّ الْعُلَمَاءِ مُجْمِعُونَ وَقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الأْوَّلِ، وَلَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا وَلاَ لَقِيتُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَيُحَدُّ قَاذِفُ الْفَاسِقِ إِذَا كَانَ فِسْقُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا؛ لِكَوْنِهِ عَفِيفًا عَنِ الزِّنَا فَهُوَ مُحْصَنٌ وَقَذْفُ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) الآْيَةَ.
قَذْفُ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ وَالْمَرِيضِ مَرَضًا مُدْنِفًا وَالرَّتْقَاءِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْبُوبِ، وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِفِقْدَانِ آلَةِ الزِّنَا وَلأِنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُمَا الشَّيْنُ، فَإِنَّ الزِّنَا مِنْهُمَا لاَ يَتَحَقَّقُ وَيَلْحَقُ الشَّيْنُ الْقَاذِفَ فِي هَذَا الْقَذْفِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ قَذَفَ خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ مَرِيضًا مُدْنِفًا أَوْ رَتْقَاءَ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي عُمُومِ الآْيَةِ، وَلأِنَّهُ قَاذِفٌ لِمُحْصَنٍ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَقَذْفِ الْقَادِرِ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَلأِنَّ إِمْكَانَ الْوَطْءِ أَمْرٌ خَفِيٌّ لاَ يَعْلَمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَلاَ يَنْتَفِي الْعَارُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِدُونِ الْحَدِّ فَيَجِبُ كَقَذْفِ الْمَرِيضِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ؛ لأِنَّ الْعَارَ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَقْذُوفِ بِدُونِ الْحَدِّ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ.
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ وَلَدَهُ:
- إِذَا قَذَفَ وَلَدَهُ وَإِنْ نَزَلَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَذْفِ الاِبْنِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لإِطْلاَقِ آيَةِ (فَاجْلِدُوهُمْ) وَلأِنَّهُ حَدٌّ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلاَ يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَتِهِ قَرَابَةُ الْوِلاَدَةِ كَالزِّنَا.
وَالْجَوَابُ عَلَى مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ: أَنَّ الإْطْلاَقَ أَوِ الْعُمُومَ مُخْرَجٌ مِنْهُ الْوَلَدُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وَالْمَانِعُ مُقَدَّمٌ، وَلِهَذَا لاَ يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَإِهْدَارُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْوَلَدِ تُوجِبُ إِهْدَارَهَا فِي عِرْضِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالزِّنَا أَنَّ حَدَّ الزِّنَا خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ حَقَّ لِلآْدَمِيِّ فِيهِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، فَلاَ يَثْبُتُ لِلاِبْنِ عَلَى أَبِيهِ كَالْقِصَاصِ.