المادة 202 - ( أصبحت المادة 200) - جعلت أحكام هذه المادة الخاصة بتعطيل، الجريدة في حالات العيب في ( الذات الملكية أو ولي العهد أو أحد أوصياء العرش ) بحيث تتناول أيضاً حالات الإهانة والقذف والسب اذا تضمنت طعناً في عرض الأفراد أو خدش السمعة العائلات ( المادة 310 -- والتي أصبحت المادة 308) مراعاة لخطورة هذا الجرائم جميعها . ( عدلت المادة 203 من المشروع التي أصبحت المادة 201 كما يأتي " أذى إلى أحد رجال الدين ..." بدلاً من " إذا ألقى احد رؤساء الديانات ..." بناء على اقتراح حضرة الأستاذ الوكيل البرلماني لشئون القصر ( مضبطة الجلسة 62 ص 33).
المادة 310 - يعتبر التشريع الحاضر " الطعن في الأعراض " ظرفاً مشدداً للقذف والسب، وقد كانت كلمة " الأعراض " مترجمة في النص الفرنسي بعبارة معناها الحرفي " شرف العائلات " فكانت المقابلة بين الأصل والترجمة مثاراً لبعض الشكوك في مدلول المعني المقصود كما كانت مثاراً لتاويلات مختلفة، والواقع أنه إذا كان معني العرض اصطلاحاً لا يتناول ما يتصل بالأمور الجنسية فإن عبارة " شرف العائلات " تتضمن فضلاً عن العرض كل ما يمت إلي الشرف من النواحي الأخرى.
لذلك رئى توحيداً للعبارة في النصين من جهة وجعلها شاملة لصيانة الأعراض وسمعة العائلات من جهة أخرى إن تعدل عبارة "طعناً في الأعراض" في النص العربي بعبارة " طعناً في عرض الأفراد أو خدشاً لسمعة العائلات" .
وقد أرید بإضافة كلمة " الأفراد " حماية عرض المرأة والرجل على السواء لأن النص القديم كان محلاً لتفسير يقصر تطبيقه على عرض المرأة، كما قصد بإضافة " أو خدشاً السمعة العائلات " حماية العائلات مما يخدش سمعتها ولو كان موجها إلي فرد معين أو غير معين منها ، وسواء أكان متصلاً بالعرض أم بغيره من نواحي الشرف والكرامة .
1- متى كان الحكم المطعون فيه قد دان المتهم على أساس توافر الظرف المشدد المنصوص عليه فى المادة 308 من قانون العقوبات ، و كانت هذه المادة تنص على عقوبتى الحبس و الغرامة فى هذه الحالة ، و إذ أغفل الحكم المطعون فيه الحكم بعقوبة الغرامة و قضى بعقوبة الحبس فقط يكون أخطأ فى تطبيق القانون مما يتعين معه - و عملاً بالمادة 1/39 من القانون رقم 57 لسنة 1959 بشأن حالات و إجراءات الطعن أمام محكمة النقض - تصحيحه بإضافة عقوبة الغرامة
(الطعن رقم 2264 لسنة 49 جلسة 1980/05/21 س 31 ع 1 ص 654 ق 127)
2- المرجع فى تعرف حقيقة ألفاظ السب هو بما يطمئن إليه القاضى من تحصيله لفهم الواقع فى الدعوى ، و لا رقابة عليه فى ذلك لمحكمة النقض . و لما كان الحكم المطعون فيه قد خلص إلى أن الطاعن سب المدعية بالحق المدنى علناً و تضمن سبه طعناً فى عرضها و خدشا سمعتها مما ينطبق عليه حكم المادة 308 من قانون العقوبات فإن الحكم إذ عاقب الطاعن بالعقوبة المقررة فى هذه المادة يكون صحيحاً .
(الطعن رقم 35 لسنة 33 جلسة 1963/10/21 س 14 ع 3 ص 632 ق 116)
3- من المقرر بالمادة 236 من قانون تحقيق الجنايات أن أوجه البطلان الذي يقع فى الإجراءات السابقة على انعقاد الجلسة يجب إبداؤها قبل سماع أول شاهد أو قبل المرافعة إن لم يكن هناك شهود وإلا سقط الحق بها، وإذن فمتى كان الثابت من الملف أن أوراق دعوى الجنحة المباشرة قد أرسلت إلى النيابة العمومية حسب القانون، وكانت المدعية قد ضمنت ورقة التكليف بالحضور بيان الواقعة والتهمة التي أسندتها للمتهم ونص القانون المنطبق عليها ، وكانت النيابة العامة قد طلبت من أول جلسة بمحكمة أول درجة عقاب المتهم بالمادة 308 من قانون العقوبات وحضر المتهم أمامها وتكلم فى موضوع الدعوى وطلب الحكم بالبراءة، فلا يكون هناك محل لما يثيره الطاعن فى مذكرته التي تقدم بها للمحكمة الإستئنافية بعد حجز القضية للحكم من عدم استيفاء الدعوى للشروط المقررة قانوناً .
(الطعن رقم 1629 لسنة 21 جلسة 1952/04/08 س 3 ع 3 ص 782 ق 292)
4- القصد الجنائي فى جريمة السب يستفاد من ذات عبارت السب ، فما دامت العبارات الثابتة بالحكم هى مما يخدش الشرف و يمس العرض فذلك يكفى فى التدليل على توفر القصد الجنائي .
(الطعن رقم 1317 لسنة 19 جلسة 1950/01/09 س 1 ص 235 ق 78)
5- ما دامت المحكمة قد أوردت فى حكمها ألفاظ السب ، و ما دامت هذه الألفاظ تتضمن بذاتها خدشاً للشرف و مساساً بالعرض فإنه لا يكون ثمة ضرورة لأن تتحدث صراحة و إستقلالاً عن القصد الجنائي ، إذ يكفى فى السب أن تتضمن ألفاظه خدش الشرف بأى وجه من الوجوه ، كما يكفى أن يكون القصد مستفاداً من ذات عبارات السب .
(الطعن رقم 1316 لسنة 19 جلسة 1950/03/21 س 1 ص 441 ق 145)
6- الإزعاج وفقًا لنص المادة 76 من القانون رقم 10 لسنة 2003 بشأن تنظيم الاتصالات لا يقتصر على السب والقذف اللذان وردا بنص المادة 308 مكرر من قانون العقوبات ، بل يتسع إلى كل قول أو فعل تعمده الجاني يضيق به صدر المجني عليه ، أيًا كان نوع أجهزة الاتصالات المستعملة أو الوسيلة المستخدمة ، وكانت المحكمة قد أفصحت عن اطمئنانها إلى المذكرة المقدمة من المجني عليه إلى مباحث تكنولوجيا المعلومات وما أثبته محرر محضر الضبط وتحريات الشرطة ومحضر الفحص الفني من قسم المساعدات الفنية بإدارة مباحث مكافحة جرائم الحاسبات وشبكات المعلومات من تعمد الطاعن إزعاج المجني عليه بإساءة استعماله لأجهزة الاتصال المملوكة له بإنشاء حساب على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك باستخدام خط الهاتف المحمول رقم ...... وأنه مستخدمه الفعلي ، وإرسال رسائل من ذات الخط على الهاتف المحمول للمجني عليه عبر تطبيق الواتس آب ، وإقرار الطاعن بأقواله بتحقيقات النيابة العامة في القضية رقم ... لسنة .... حصر جرائم اقتصادية لملكيته لخط الهاتف المحمول رقم ....وما ثبت للنيابة من مناظرة هاتفه المحمول في تلك القضية ، وهو ما تتحقق به أركان الجريمة التي دان الطاعن بها ، ويضحى معه النعي على الحكم بالقصور في التسبيب في غير محله .
(الطعن رقم 4401 لسنة 92 ق - جلسة 24 / 10 / 2023)
7- حيث أن الحكم المطعون فيه قال تبريرا لقضائه بالبراءة ورفض الدعوى المدنية : " وحيث ثبت للمحكمة أن جرائم التعدي بالسب بطريق الهاتف وضع المشرع له ضوابط و قواعد يجب اتباعها حتى تثبت الجريمة وهي مراقبة الجهاز الهاتفي بالطريق القانوني كما أن الأوراق خلت من دليل أو قرينة على إدانة المتهم سوى التحريات التي تحتمل الصدق والكذب وأنه لا يوجد دليل على قيام المتهم بإرسال الخطابات علاوة على خلو الأوراق من ثمة شاهد مما يتعين معه الشك في الاتهام وأن المحكمة ترى أنه يوجد خلافات سابقة و من ثم يضحي الاتهام محل شك و تقضي ببراءة المتهم ورفض الدعوى المدنية التابعة لها". لما كان ذلك، و كان من المقرر أن محكمة الموضوع وإن كان لها أن تقضي بالبراءة متى تشككت في صحة إسناد التهمة إلى المتهم لعدم كفاية أدلة الثبوت ، غير أن ذلك مشروط بأن يشمل حكمها على ما يفيد أنها محصت الدعوى و أحاطت بظروفها وأدلة الثبوت التي قام الاتهام عليها عن بصر و بصيرة ووازنت بينها وبين أدلة النفسي ورجحت دفاع المتهم أو داخلتها الريبة في صحة عناصر الإثبات، ولما كان يبين من الاطلاع على المفردات المضمومة أن شهود الطاعن قد شهدوا بتحقیقات الشرطة ببعض عبارات السب و القذف التي صدرت من المطعون ضده وكانت ضمن أحاديثه معه بالهاتف ومع نجلته وزوجها وأسرة زوجها فإن الحكم المطعون فيه إذ أورد ضمن أدلة البراءة ورفض الدعوى المدنية أن الأوراق خلت من شاهد يكون قد خالف الثابت بالأوراق ودل على أن المحكمة قد أصدرت حكمها دون أن تحيط بأدلة الثبوت في الدعوى، مما يعيب حكمها ويوجب نقضه فيما قضي به في دعوى المدنية والإحالة.
( الطعن رقم 6853 لسنة 67 ق جلسة 5/ 1/ 2004 )
القذف عن طريق التليفون :
عاقب المشرع في المادة 308 مكرراً عقوبات على القذف بطريق التليفون بالعقوبة نفسها المقررة للقذف العلني المنصوص عليها في المادة 303 عقوبات، ورغم أن العلانية لا تتحقق باستخدام التليفون، لكن المساواة في العقوبة لا ترجع إلى ظرف العلانية، وإنما ترجع إلى ما ينطوي عليه من إزعاج بالتخفي تحت ستار السرية التي يكفلها الاتصال التليفوني.
ولم يحدد المشرع المقصود بالتليفون، فيستوي أن يكون أرضياً ثابتاً أو محمولاً، كما يستوي أن يكون استعمال التليفون مباشرة أو بطريق غير مباشر من خلال الاتصال بالإنترنت، فيعد القذف باستخدام «الإيميل» أو ما أشبه من أدوات التواصل الإلكترونية - قذفاً بطريق التليفون، لأنه لا يتحقق إلا من خلال الاتصال بالإنترنت الذي يتاح باستخدام التليفون.
التعدد المعنوي للقذف عن طريق التليفون والازعاج بوسائل الاتصال الإلكتروني:
رغم أن التليفون هو الوسيلة التي تقع الجريمة من خلالها، لكنها تشتبه بجريمة أخرى يكون جهاز المواصلات التليفونية هو وسيلة ارتكابها، وهي جريمة الإزعاج التليفوني المنصوص عليها في المادة 166 مكرراً من قانون العقوبات، المضافة بموجب القانون رقم 27 لسنة 1955، فقد نصت هذه المادة على أن كل من تسبب عمداً في إزعاج غيره بإساءة استعمال أجهزة المواصلات التليفونية يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنة وبغرامة لا تزيد على مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
فالجريمتان متشابهتان من حيث المدلول والوسيلة، أما المدلول، فإنه من المقرر حسبما قضته محكمة النقض فإنه الإزعاج وفقاً لنص المادة 166 مکرراً من قانون، العقوبات لا يقتصر على السب والقذف بل يتسع لكل قول أو فعل تعمده الجاني يضيق به صدر المواطن، وعلى هذا النحو، فإن مدلول الإزعاج يستوعب القذف والسب إذ يتسع لسواهما من أقوال أو أفعال تمس الإحساس بالأمان أو تعطل الوقت أو يضيق بهما الصدر.
ومن حيث الوسيلة، فإنه وإن كانت المادة 308 مكرراً قد استخدمت عبارة التليفون»، بينما استخدمت المادة 166 مكرراً عبارة «أجهزة المواصلات التليفونية»، لكن مدلول الوسيلة واحد، ولا يجوز أن نعطي لعبارة التليفون معنى لا يستوعب جافة أجهزة الاتصالات التليفونية التي كشف عنها التطور العلمي والتكنولوجي كالتليفونات المحمولة ووسائل الاتصال عبر الإنترنت.
ليس ذلك فحسب، بل إن المادة 76/ 2 من القانون رقم 10 لسنة 2003 بشأن تنظيم الاتصالات عاقبت بالحبس والغرامة التي لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من تعمد إزعاج أو مضايقة غيره بإساءة استعمال أجهزة الاتصالات، وقد قضت المحكمة الاقتصادية أن المقصود بالإزعاج هنا هو أن يقوم أحد الأشخاص باستعمال أجهزة الاتصالات بطريقة يزعج بها الطرف الآخر أو يضايقه، وقد جرم المشرع هذا الفعل إذا ما وقع عن طريق أي جهاز اتصالات، سواء كان التليفون أو جهاز الحاسب الآلي المستقبل للبيانات والمعلومات أو البريد الإلكتروني.(الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الطبعة السادسة 2016 الكتاب الثاني ، الصفحة: 347)
التشديد المتعلق بنوع وقائع القذف : نصت على هذا التشديد المادة 308 من قانون العقوبات في قولها « إذا تضمن العيب أو الإهانة أو القذف أو السب الذي ارتكب بإحدى الطرق المبينة في المادة 171 طعناً في عرض الأفراد أو خدشاً لسمعة العائلات تكون العقوبة الحبس والغرامة معاً في الحدود المبينة في المواد 179 و 181 و 182 و 303 و 306 و 307 على ألا تقل الغرامة في حالة النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات عن نصف الحد الأقصى وألا يقل الحبس عن ستة شهور ». وقد ورد تعليلاً لهذا التشديد «ضرورة وضع حد لاستهتار بعض الصحف والمجلات وخوضها في الشئون الخاصة للأفراد والعائلات لنهش أعراضهم وإيذائهم في شرفهم وكرامتهم والإساءة إلى سمعتهم لأغراض شخصية دنيئة » والعلة الحقيقية للتشديد هي خطورة هذا القذف بالنظر إلى خطورة الوقائع التي تناولها ، فهي تتصل بمجال يحرص الشارع على أن تصان له حرمته وقدسيته، فهو مجال من الشرف أكثر أهمية من سائر مجالاته، ويعني ذلك أن أثر هذا القذف على شرف المجنى عليه أشد وأبلغ .
يفترض هذا التشديد أحد أمرين : تضمن القذف طعناً في عرض الأفراد، أو تضمن خدشاً لسمعة العائلات، وقد أراد الشارع بلفظ « الأفراد » أن يشير إلى أن التشديد يتحقق سواء تضمن القذف طعناً في عرض امرأة أو رجل، وأن يرفض بذلك التفسير القديم الذي يقصر التشديد على حالة الطعن في عرض « المرأة » ويعني « العرض » طهارة السلوك الجنسي، فكل عبارة تتضمن واقعة تمس هذه الطهارة، وتعني الإنحراف في هذا السلوك تعد طعناً في العرض، مثال ذلك القول عن امرأة إنها على صلة جنسية بغير زوجها ، والقول عن رجل إنه يدفع بأخته إلى الرذيلة ، أو أنه وسيط بين أخته ورجل في علاقة جنسية .
أما « خدش سمعة العائلات » فقد أراد به الشارع القذف الذي يمتد إلى العائلة في مجموعها ، أي لا يقتصر على أحد أفرادها دون سواه ، وسواء في ذلك أن تكون وقائع القذف متعلقة بالعرض أو أن تتصل بغيره من نواحي الكرامة ؛ فقد بينت المذكرة الإيضاحية أن عبارة «شرف العائلات » تتضمن فضلاً عن العرض كل ما يمت إلى الشرف من النواحي الأخرى ، ومثال هذا القذف قول المتهم إن رجالاً يترددون على المسكن الذي يقيم فيه المجني عليه وعائلته وأنه يرجح أن تكون لهم علاقات شائنة بنساء هذه العائلة ، والقول عن أفراد أسرة إنه يشك في صحة أنسابهم ، أو إنهم يديرون مسكنهم للقمار أو لتعاطي المخدرات أو تناول المسكرات ، أو إنهم يستغلونه مكاناً لإخفاء الأشياء المسروقة.
والتشديد الذي يقرره القانون يقوم على الجمع بين عقوبتي الحبس والغرامة، فلا يكون للقاضي أن يقتصر على إحداهما، وإذا ارتكب هذا القذف عن طريق النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات، فقد وضع الشارع حداً أدنى للغرامة (هو نصف حدها الأقصى) ، وحداً أدنى للحبس (هو ستة شهور) ؛ ويعني ذلك مزيداً من التشديد يتخذ صورة رفع الحد الأدنى للعقوبة .
الظرف المتعلق بنوع وقائع السب: إذا تضمن السب طعناً في الأعراض أو خدشاً لسمعة العائلات كانت عقوبته الحبس والغرامة معاً، وإذا أضيف إلى ذلك كون السب قد نشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات وقعت عقوبتا الحبس والغرامة معاً بعد رفع حدي العقوبة الأخيرة إلى ضعفيهما على النحو الذي تقضي به المادة 307 من قانون العقوبات فضلاً عن رفع الحد الأدنى لكل من العقوبتين لا يجوز للقاضي أن يهبط دونه : فالحبس لا يجوز أن يقل عن ستة شهور، والغرامة لا يجوز أن تقل عن نصف حدها الأقصى (المادة 308 من قانون العقوبات ) .(شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ محمود نجيب حسني، دار النهضة العربية، الصفحة : 751)
يشدد المشرع عقاب القذف إذا تضمن طعناً في عرض الأفراد أو خدشاً لسمعة العائلات (م 308 ع) ( وترجع علة التشديد إلى جسامة الضرر الذي يترتب على الجريمة إذ تنال أهم ما يحرص المشرع على عدم المساس به من مجالات الشرف).
ويقصد بالطعن في عرض الأفراد أن ينسب إلى المجنى عليه ما يفيد أنه يفرط في عرضه، ومن ذلك أن ينسب إليه أنه وسيط بين رجل وامرأة في علاقة غير مشروعة وقد قصد المشرع من عبارة عرض الأفراد عرض كل من الرجل والمرأة على السواء، وذلك حتى لا يقتصر التشديد - كما كان الوضع في الماضي - على الطعن في عرض المرأة دون الرجل .
أما خدش سمعة العائلات فيقصد به أن يمس القذف شرف الأسرة كلها، وسواء تضمن طعناً في عرض أحد أفرادها أو لم يتضمن ذلك، من أمثلة خدش سمعة العائلة أن يقال عن أفراد أسرة معينة أنهم يديرون منزلهم اللعب القمار ، أو تناول المسكرات أو تعاطي المخدرات.
وإذا تحقق هذا الظرف المشدد فإن العقوبة تصبح الحبس والغرامة معاً، أي أن الحكم بالعقوبتين معاً يكون وجوبياً على القاضي، فإذا اجتمع هذا الظرف مع الظرف المنصوص عليه في المادة 307، وهو أن يقع القذف بطريق النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات، زادت درجة التشديد ، فيجب توقيع الحبس والغرامة معاً بشرط ألا تقل الغرامة عن نصف الحد الأقصى، وألا يقل الحبس عن ستة شهور (م 308 ع) .(شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتورة/ فوزية عبد الستار، الطبعة الرابعة 2017 دار النهضة العربية، الصفحة : 600)
هذه المادة معدلة بالقانون رقم 112 لسنة 1957 الصادر في 19 مايو 1957 الوقائع المصرية في 19 مايو سنة 1957 العدد 39 مكرراً، ثم عدلت أخير بموجب القانون رقم 93 لسنة 1995 الصادر في 28 مايو سنة 1995.
يشدد القانون العقاب على أمرين أولهما الطعن في عرض الأفراد وثانيهما خدش سمعة العائلات أما عن الأمر الأول فكلمة "الأفراد" أريد بها حماية عرض المرأة والرجل على السواء، والطعن في العرض هو رمي المجنى عليه بما يفيد أنه يفرط في عرضه، أما خدش سمعة العائلات فقد قصد به حماية العائلات مما يخدش سمعتها ولو كان موجهاً إلى فرد معين أو غير معين منها وسواء أكان متصلاً بالعرض أو بغيره من نواحي الشرف والكرامة ولايتطلب القانون للمعاقبة على القذف أو السب بمقتضى المادة 308 عقوبات إلا أن تكون عبارته متضمناً طعناً في عرض الأفراد أو خدش لسمعة العلائات.
والتشديد الذي يقرره القانون يقوم على الجمع بين عقوبتي الحبس والغرامة فلا يكون للقاضي أن يقتصر على إحداهما وإذا ارتكب هذا القذف عن طريق النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات فقد وضع الشارع حد أدنى للغرامة هو نصف حدها الأقصى وحداً أدنى للحبس (وهو سنتين) ويعني ذلك مزيداً من التشديد يتخذ صورة رفع الحد الأدنى للعقوبة.(موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الرابع، الصفحة : 30)
وقد ورد تعليلاً لهذا التشديد "ضرورة وضع حد لاستهتار بعض الصحف والمجلات وخوضها في الشئون الخاصة للأفراد والعائلات لنهش أعراضهم وإيذائهم في شرفهم وكرامتهم والإساءة إلى سمعتهم لأغراض شخصية دنيئة"، والعلة الحقيقية للتشديد هي خطورة هذا القذف بالنظر إلى خطورة الوقائع التي تناولها، فهي تتصل بمجال يحرص المشرع على أن تصان له حرمته وقدسيته، فهو مجال من الشرف أكثر أهمية من سائر مجالاته، ويعني ذلك أن أثر هذا القذف على شرف المجني عليه أشد وأبلغ.
ويفترض هذا التشديد أحد أمرين: تضمن القذف طعناً في عرض الأفراد، أو تضمن خدشاً لسمعة العائلات، وقد أراد المشرع بلفظ "الأفراد" أن يشير إلى أن التشديد يتحقق سواء تضمن القذف طعناً في عرض إمرأة أو رجل. ويعني "العرض" طهارة السلوك الجنسي، فكل عبارة تتضمن واقعة تمس هذه الطهارة، وتعني الإنحراف في هذا السلوك تعد طعناً في العرض، مثال ذلك القول عن إمرأة أنها على صلة جنسية بغير زوجها، والقول عن رجل أنه يدفع بأخته إلى الرذيلة، أو أنه وسيط بين أخته ورجل في علاقة جنسية.
أما "خدش سمعة العائلات فقد أراد به المشرع القذف الذي يمتد إلى العائلة في مجموعها، أي لا يقتصر على أحد أفرادها دون سواه، وسواء في ذلك أن تكون وقائع القذف متعلقة بالعرض أو أن تتصل بغيره من نواحي الكرامة؛ فقد بينت المذكرة الإيضاحية أن عبارة "شرف العائلات تتضمن فضلاً عن العرض كل ما يمت إلى الشرف من النواحي الأخرى، ومثال هذا القذف قول المتهم أن رجالاً يترددون على المسكن الذي يقيم فيه المجني عليه وعائلته وأنه يرجح أن تكون لهم علاقات شائنة بنساء هذه العائلة، والقول عن أفراد أسرة أنه يشك في صحة أنسابهم، أو أنهم يديرون مسكنهم لقمار أو لتعاطي المخدرات أو تناول المسكرات، أو أنهم يستغلون مكاناً لإخفاء الأشياء المسروقة.
والتشديد الذي يقرره القانون يقوم على الجمع بين عقوبتي الحبس والغرامة، فلا يكون للقاضي أن يقتصر على إحداهما، وإذا ارتكب هذا القذف عن طريق النشر في إحدى الجرائد أو المطبوعات، فقد وضع المشرع حد أدنى للغرامة (هو نصف حدها الأقصى)، وحداً أدنى للحبس (هو ستة شهور)؛ ويعني ذلك مزيداً من التشديد يتخذ صورة رفع الحد الأدنى للعقوبة.(الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الرابع، الصفحة: 155)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 97 .
(مادة 154)
يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة:
(أ) من رمى زوجته بالزنى إذا عجز عن إثبات ما رماها به، وامتنع عن ملاعنتها، أو كذب نفسه بعد الملاعنة.
ويجري اللعان قولاً أو بكتابة الأخرس، ولو كانت الزوجة غير مسلمة أو غير عفيفة،ويترتب على اللعان انقضاء الدعوى.
(ب) غير الزوجين إذا رمى كل منهما الآخر بالزنا.
مادة (154):
يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة:
(أ) من رمى زوجته بالزنا إذا عجز عن إثبات ما رماها به، وامتنع عن ملاعنتها، أو كذب نفسه بعد الملاعنة.
ويجري اللعان قولاً أو بكتابة الأخرس، ولو كانت الزوجة غير مسلمة أو غير عفيفة. و يترتب على اللعان انقضاء الدعوى.
(ب) غير الزوجين إذا رمى كل منهما الآخر بالزنى.
الإيضاح
لم يسو الشرع الإسلامي بين قذف الزوجات وقذف الأجنبيات؛ إدراكاً منه بأن الزوج لا يقدم على قذف زوجته أو نفي ولدها منه إلا لضرورة تدفعه إلى ذلك دفعا، ولهذا فرق بينهما في الصفة وفي الحكم، فبينما يصف قذف الأجنبيات بأنه حرام وكبيرة، نرى أن قذف الزوجات قد يكون واجباً، كما إذا رأى زوجته تزني في طهر لم يمسسها فيه، فيعتزلها ثم تلد ما يمكن أنه من الزاني، ففي هذه الحالة يجب عليه قذفها ونفي ولدها؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لحقه المولود وورثه وورث أقاربه، ونظر إلى بناته وأخواته، وكل ذلك حرام يجب درؤه، ولا يتأتى ذلك إلا بالقذف.
وقد يكون قذف الزوج لزوجته مباحا، كما إذا رأى زوجته تزني ولم تلد، ما يلزم نفيه، أو استفاض زناها بين الناس، أو أخبره بزناها ثقة، ففي هذه الحالة يغلب على ظنه فجورها، ولا يجب عليه قذفها؛ لأنه يمكنه درء العار بفراقها، وهو أستر من قذفها، ويكون قذف الزوجة حراما إذا أتت بولد مخالف في اللون أو الشبه لوالديه، أو أخبره بزناها من لا يوثق بخبره، أو رأى رجلاً يخرج من عندها دون أن يستفیض زناها مع قرينة تسانده، فقذف الزوج لها في ذلك كله حرام؛ إذ إن لون الولد أو شبهه ليس دليلاً على زنا الزوجة.
ويترتب على قذف الزوج زوجته، أن يلاعن بينها إذا لم يستطع الزوج أن يأتي بأربعة رجال يشهدون با رمی به زوجته وصيغة اللعان أفصحت عنها الآية الكريمة في قوله تعالى:وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ َشهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9) وأحكام اللعان مفصلة في كتب الفقه، فإذا امتنع الزوج عن ملاعنة - زوجته وجب إقامة حد القذف عليه، فإن طالب بلعان امرأته أثناء إقامة الحد عليه أجيب طلبه، وسقط عنه ما تبقى من الحد.
وبهذا الرأي قال الشافعية والمالكية والحنابلة والشيعة ومن وافقهم (المهذب (2)/ (128)، كشاف القناع (3)/ (240)، المختصر النافع (2)/ (212)، الدسوقي (2)/ (466)، الشرح الكبير للدردير (1)/ (466))، واستدلوا بآية القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) [النور، الآية: 4، 5]، فأوجب الله حد القذف على كل قاذف للمحصنة دون تفريق زوجاً كان أو أجنبياً، إلا أن الزوج لما كان قد يبتلى بقذف امرأته دفعاً للعار وتنقية لفراش الزوجية جعل الله اللعان مخلصاً من الحد إذا عجز عن إقامة البينة، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ َشهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9) [النور: 6- 9]. الآيات. فدلت الآيتان (آية القذف، وآية اللعان) على أن موجب قذف الرجل امرأته الحد، إلا أن يلاعن، واستدلوا كذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية وقذف زوجته بشريك بن سحماء في حضرة الرسول، فقال له: «البينة أو حد في ظهرك». فقال يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول «البينة أو حد في ظهرك». فقال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت آيات اللعان، وتلاعنا كما جاء بالحديث، فدل ذلك على أن قذف الزوجات موجب للحد إن لم يأت الزوج بالبينة أو يلاعن.
وقد رأت اللجنة الأخذ بهذا الرأي؛ لقوة حجته، ولأن الزوج إذا قذف زوجته فهو قاذف المحصنة، فيحد إذا امتنع عن اللعان؛ إعمالا لعموم نص آية القذف، ولأن الزوج إذا كذب نفسه بعد الملاعنة، فإن ذلك يكون بمثابة إقرار بعدم صحة ما حلف به، الأمر الذي يعتبر معه قاذا في حق زوجته يتعين معه حده للقذف؛ لأنه قذف محصنة زورا باعترافه بكذب ما رماها به، خلاقا لرأي الحنفية القائلين بأن قذف الزوج لزوجته موجب للملاعنة فقط، فإذا امتنع أحد الزوجين عن اللعان حبس حتى يلاعن، ولا حد عليه، وكيفية اللعان تكون طبقا لما أوردته آيات اللعان في قوله تعالى:وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ َشهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9) ولا يمنع إجراء اللعان أن تكون الزوجة غير مسلمة أو غير عفيفة. وبهذا قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وربيعة ومالك والشافعي وأحمد في رواية ابن منصور، وهو المذهب، وبه قال الظاهرية، وهو أحد قولي الشيعة. (المهذب (2)/ (134)، المغني (9)/ (50)، المحلى (11)/ (417)، أحكام القرآن لابن العربي (2)/ (91)، المختصر النافع (2)/ (211))، إلا أن المالكية يشترطون في الكافرين أن يترافعا إلينا، راضين بحكمنا. (الدسوقي (2)/ (458)).
ويرى الزهري والثوري والأوزاعي وحماد والحنفية أنه يشترط الإسلام في الزوجين والنطق والعفة، فلا لعان بين الكافرين، أو الأخرس، أو المحدودين في قذف، أو أحدهما.
ومنشأ الخلاف اختلاف الفقهاء في اعتبار اللعان يمينا أو شهادة، فمن ذهب إلى أنه يمين بلفظ الشهادة اكتفى في المتلاعنين بأهلية اليمين، فلم يشترط الإسلام والنطق والعفة، ومن ذهب إلى أنه شهادة مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن وبالغضب - اشترط في المتلاعنين أن يكونا من أهل الشهادة واليمين، فاشترط فيها الإسلام والنطق والعفة.
واللجنة ترى الأخذ برأي القائلين بعدم اشتراط أهلية الشهادة في المتلاعنين، وأنه يمين لا شهادة؛ لقوة أدلتهم، ولأن آية اللعان لم تفرق بين زوج وآخر، ولأن في القول باشتراط أهلية الشهادة في المتلاعنين رضي باختلاط الأنساب، وإدخالاً على الغير من ليس منهم، فإن الكافر إذا تحقق من زنا امرأته لم يكن له نفي ولده باللعان؛ لعدم كونه من أهل الشهادة، وفي ذلك مفسدة لا يقول بها أحد، فوجب القول بعدم اشتراط أهلية الشهادة، ولأن إطلاق اسم الشهادة عليه لا يفيد كونه شهادة؛ لأنه يمكن القول بأن ذلك يفيد أنه لا يكتفى فيه بالظن، بل لا بد من وجود علم كل منهما بالآخر علماً يصح معه أن يشهد.
وبذلك يترجح رأي القائلين بعدم اشتراط أهلية الشهادة، وبأنه يمين ويكون لعان الأخرس بالكتابة بخطه؛ لأنه يدل على ما يقصده، ولا كذلك الإشارة، وذلك أخذا بمذهب الحنابلة.
كما أنه غني عن البيان أنه متى تم اللعان على الوجه السابق أمام المحكمة سقط الحد عن القاذف وانتهى الأمر عند هذا الحد من الناحية الجنائية، وتحكم المحكمة بسقوط الدعوى. أما آثار اللعان فإنها بطبيعة الحال تترتب على إجرائه من الناحية الشرعية وفقا لأحكام اللعان الواجب تطبيقها في مسائل الأحوال الشخصية أمام المحكمة المختصة، كما أنه مما تجدر الإشارة إليه أن باقي أحكام اللعان وشروطه يرجع إليها في مواضعها في كتب الفقه الإسلامي؛ إذ لا سبيل إلى تقصيها في هذا المقام، هذا ولم تر اللجنة أن تعرض لتفصيلات اللعان لما رأته من أنها ألصق بقضاء الأحوال الشخصية، لما يترتب عليه من تفريق ونفي نسب وحقوق لكل من الزوجين تختص بها محاكم الأحوال الشخصية، كذلك يعاقب بحد القذف الأجنبيان غير الزوجين إذا تقاذفا - أي: رمى كل منهما الآخر بالزنا - فإن كلا منهما يحد حد القذف السابق بيانه في المادة السابقة إذا كان القذف بصريح الزنا.
وهذا قول جمهور الفقهاء مستدلين:
1- بأن كلا من المتقاذفين قد ارتكب في حق غيره ما نهى الله عنه، وقذف غيره صريحاً.
۲- أن الآية الكريمة في القذف بعمومها لم تفرق في وجوب الحد على القاذف بين ما إذ قيلت عبارة القذف ابتداء أو رداً على قذف مسبق له أوجب الله فيها الحد على كل قاذف.
٣- أنه لا يمكن القول بالتقاص بينها؛ لأن شرط التقاص اتحاد الجنس والصفة وهو متعذر هنا؛ لاختلاف تأثير الحدين باختلاف القاذف والمقذوف في القوة والضعف والخلقة غالبا. (البدائع (7)/ (243)، الزرقاني (8)/ (90)، نهاية المحتاج (7)/ (140) - (141)، المحلى (11)/ (291)، مغني المحتاج (4)/ (157)). وهذا ما رأت اللجنة أن تأخذ به خلافاً لرأي الشيعة الذين يرون أن في القاذف تعزيراً، ولا حد فيه (شرائع الإسلام (2)/ (251))؛ لقوة أدلة الجمهور وعدم وجود حجة تناهضها عند الشيعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع ، الصفحة / 99
إِهَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
الإْهَانَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَهَانَ، وَأَصْلُ الْفِعْلِ هَانَ بِمَعْنَى ذَلَّ وَحَقُرَ، وَفِيهِ مَهَانَةٌ أَيْ: ذُلٌّ وَضَعْفٌ، وَالإْهَانَةُ مِنْ صُوَرِ الاِسْتِهْزَاءِ وَالاِسْتِخْفَافِ.
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنِ الاِسْتِخْفَافِ فِي مُصْطَلَحِهِ (ج 3 / 248).
الْحُكْمُ الإْجْمَالِيُّ:
الإْهَانَةُ تُعْتَبَرُ مَدْلُولاً لِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ، أَوِ الْفِعْلِيَّةِ كَالضَّرْبِ وَمَا شَابَهَهُ مِمَّا يُعْتَبَرُ إِهَانَةً، وَهِيَ تَرِدُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِاعْتِبَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ:
الأْوَّلُ: بِاعْتِبَارِ أَنَّ الإْهَانَةَ مَدْلُولٌ لِتَصَرُّفَاتٍ تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ.
وَبِذَلِكَ تَكُونُ الإْهَانَةُ أَمْرًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ قَدْرِ الْمُهَانِ، وَبِحَسَبِ عِظَمِ الإْهَانَةِ وَصِغَرِهَا.
فَالإْهَانَةُ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْعَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ كَالسُّجُودِ لِصَنَمٍ، أَوْ إِلْقَاءِ مُصْحَفٍ فِي قَاذُورَةٍ، أَوْ كِتَابَتِهِ بِنَجَسٍ، أَوْ سَبِّ الأْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ، أَوْ تَحْقِيرِ شَيْءٍ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ تُعْتَبَرُ كُفْرًا. (ر: رِدَّةٌ - اسْتِخْفَافٌ).
وَالإْهَانَةُ الَّتِي تَلْ حَقُ بِالنَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ سَبٍّ وَشَتْمٍ وَضَرْبٍ، تُعْتَبَرُ مَعْصِيَةً.
(ر: قَذْفٌ، تَعْزِيرٌ، اسْتِخْفَافٌ).
عَلَى أَنَّ مِنَ الأْفْعَالِ مَا يَكُونُ فِي ظَاهِرِهِ إِهَانَةً، لَكِنِ الْقَصْدُ أَوِ الضَّرُورَةُ أَوِ الْقَرَائِنُ تُبْعِدُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَالْبُصَاقُ عَلَى اللَّوْحِ لاَ يُعْتَبَرُ إِهَانَةً، إِذَا قَصَدَ بِهِ الإْعَانَةَ عَلَى مَحْوِ الْكِتَابَةِ.
وَلَوْ أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى الْغَرَقِ، وَاحْتِيجَ إِلَى إِلْقَاءِ حِمْلٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ مَثَلاً جَازَ ذَلِكَ؛ لأِنَّ حِفْظَ الرُّوحِ مُقَدَّمٌ، وَالضَّرُورَةُ تَمْنَعُ كَوْنَهُ امْتِهَانًا.
الاِعْتِبَارُ الثَّانِي: بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ:
فَتَكُونُ الإْهَانَةُ عُقُوبَةً مُقَرَّرَةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالْقَوْلِ أَمْ بِالْفِعْلِ.
فَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْكُفَّارِ تَكُونُ مَعَ الإْهَانَةِ لَهُمْ. لقوله تعالى (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وَكَإِهَانَةِ مَنْ يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ بِشَتْمٍ مَثَلاً، جَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيلِ: مَنْ شَتَمَ رَجُلاً بِقَوْلِهِ لَهُ: يَا كَلْبُ فَإِنْ قِيلَ ذَلِكَ لِذِي الْفَضْلِ وَالْهَيْئَةِ وَالشَّرَفِ عُوقِبَ عُقُوبَةً خَفِيفَةً يُهَانُ بِهَا، وَلاَ يَبْلُغُ بِهِ السَّجْنَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْهَيْئَةِ عُوقِبَ بِالتَّوْبِيخِ، وَلاَ يَبْلُغُ بِهِ الإْهَانَةَ وَلاَ السَّجْنَ.
وَكَإِهَانَةِ الاِبْنِ وَالتِّلْمِيذِ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ .
وَتَخْتَلِفُ الإْهَانَةُ كَعُقُوبَةٍ بِاخْتِلاَفِ مِقْدَارِ الإْهَانَةِ كَعُدْوَانٍ، وَبِاخْتِلاَفِ قَدْرِ الْمُهَانِ. وَلِلإْهَانَةِ كَعُقُوبَةٍ مُسَمَّيَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ تُسَمَّى حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا أَوْ تَأْدِيبًا. (ر: حَدٌّ، تَعْزِيرٌ، تَأْدِيبٌ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 20
التَّشْبِيهُ فِي الْقَذْفِ :
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ الْقَاذِفُ بِالزِّنَى كَانَ قَذْفًا وَرَمْيًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، فَإِنْ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَذْفٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لاَ يَكُونُ قَذْفًا حَتَّى يَقُولَ: أَرَدْتُ بِهِ الْقَذْفَ. وَالدَّلِيلُ لِمَا قَالَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ إِنَّمَا هُوَ لإِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ الَّتِي أَوْقَعَهَا الْقَاذِفُ بِالْمَقْذُوفِ، فَإِذَا حَصَلَتِ الْمَعَرَّةُ بِالتَّعْرِيضِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا كَالتَّصْرِيحِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْفَهْمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ قَوْمِ شُعَيْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ ( إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أَيِ السَّفِيهُ الضَّالُّ، فَعَرَّضُوا لَهُ بِالسَّبِّ بِكَلاَمٍ ظَاهِرُهُ الْمَدْحُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلاَتِ.
وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ رضي الله عنه الْحُطَيْئَةَ لَمَّا قَالَ لأَِحَدِهِمْ: الْحُطَيْئَةَ لَمَّا قَالَ لأِحَدِهِمْ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لاَ تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا
وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
لأِنَّهُ شَبَّهَهُ بِالنِّسَاءِ فِي أَنَّهُنَّ يُطْعَمْنَ وَيُسْقَيْنَ وَيُكْسَيْنَ .
وَعَلَى ذَلِكَ فَ إِذَا فُهِمَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَرْأَةِ أَوِ الرَّجُلِ بِالْعَفِيفَةِ أَوِ الْعَفِيفِ اسْتِهْزَاءً، كَانَ كَالرَّمْيِ الصَّرِيحِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.
ج - تَشْبِيهُ الرَّجُلِ غَيْرَهُ بِمَا يَكْرَهُ :
لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَبِّهَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَا يَكْرَهُهُ، قَالَ تَعَالَى: ( وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإْيمَانِ) وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّشْبِيهُ بِذِكْرِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ أَوْ بِحَذْفِهَا كَقَوْلِهِ: يَا مُخَنَّثُ، يَا أَعْمَى
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا كَافِرُ يَا مُنَافِقُ يَا أَعْوَرُ يَا نَمَّامُ يَا كَذَّابُ يَا خَبِيثُ يَا مُخَنَّثُ يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ إِيذَاءٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوْ بِغَمْزِ الْعَيْنِ أَوْ إِشَارَةِ الْيَدِ، لاِرْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا، وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا فِيهَا التَّعْزِيرُ .
وَكَذَلِكَ يُعَزَّرُ إِذَا شَبَّهَهُ بِالْحَيَوَانَاتِ الدَّنِيئَةِ كَقَوْلِهِ: يَا حِمَارُ، يَا كَلْبُ، يَا قِرْدُ، يَا بَقَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ) لأِنَّ كُلَّ مَنِ ارْتَكَبَ مُنْكَرًا أَوْ آذَى مُسْلِمًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِشَارَةٍ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا حِمَارُ، يَا كَلْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِظُهُورِ كَذِبِهِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَسْبُوبُ مِنَ الأْشْرَافِ فَيُعَزَّرُ، أَوْ مِنَ الْعَامَّةِ فَلاَ يُعَزَّرُ، كَمَا اسْتَحْسَنَهُ فِي الْهِدَايَةِ وَالزَّيْلَعِيُّ .
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَصِلِ الشَّتْمُ وَالسَّبُّ إِلَى حَدِّ الْقَذْفِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذْفِ: كَالرَّمْيِ بِالزِّنَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْفٌ) .
التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِالتَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَرَّضَ بِالْقَذْفِ غَيْرُ أَبٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ - إِنْ فُهِمَ الْقَذْفُ بِتَعْرِيضِهِ بِالْقَرَائِنِ، كَخِصَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، أَمَّا الأْبُ إِذَا عَرَّضَ لِوَلَدِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُحَدُّ لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلإْمَامِ أَحْمَدَ، لأِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اسْتَشَارَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فِي رَجُلٍ قَالَ لآِخَرَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلاَ أُمِّي بِزَانِيَةٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ لِصَاحِبِهِ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ، قَذْفٌ. كَقَوْلِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُحَدُّ، لأِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ لِلشُّبْهَةِ، وَيُعَاقَبُ بِالتَّعْزِيرِ، لأِنَّ الْمَعْنَى: بَلْ أَنْتَ زَانٍ .
وَالتَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلاَلِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ، لأِنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ، إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظَ الْمَنْوِيَّ، وَلاَ دَلاَلَةَ هُنَا فِي اللَّفْظِ وَلاَ احْتِمَالَ، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الأْحْوَالِ. هَذَا هُوَ الأْصَحُّ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ عَنِ الْقَذْفِ، لِحُصُولِ الْفَهْمِ وَالإْيذَاءِ. فَإِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَى فَقَذْفٌ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرِهَا .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الإْمَامِ أَحْمَدَ.
الْقَذْفُ الَّذِي لاَ حَدَّ فِيهِ وَالسَّبُّ :
حَدُّ الْقَذْفِ لاَ يُقَامُ عَلَى الْقَاذِفِ إِلاَّ بِشَرَائِطِهِ، فَ إِذَا انْعَدَمَ وَاحِدٌ مِنْهَا أَوِ اخْتَلَّ فَإِنَّ الْجَانِيَ لاَ يُحَدُّ. وَيُعَزَّرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ؛ لأِنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَمِنْ شُرُوطِ الْقَذْفِ الَّذِي فِيهِ الْحَدُّ: كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مُحْصَنًا . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلاَ يُحَدُّ الْقَاذِفُ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْذِفَ مَجْنُونًا بِالزِّنَى. أَوْ صَغِيرًا بِالزِّنَى. أَوْ مُسْلِمَةً قَدْ زَنَتْ. أَوْ مُسْلِمًا قَدْ زَنَى، أَوْ مَنْ مَعَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِفَّةِ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأْخِيرَةِ.
وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مَعْلُومًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلاَ حَدَّ، بَلِ التَّعْزِيرُ؛ لأِنَّ الْفِعْلَ مَعْصِيَةٌ لاَ حَدَّ فِيهَا. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُعَزَّرُ - وَلاَ يُحَدُّ - مَنْ قَذَفَ بِالزِّنَى جَدَّ آخَرَ دُونَ بَيَانِ الْجَدِّ. أَوْ أَخَاهُ كَذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَخٍ.
وَلاَ حَدَّ فِي الْقَذْفِ بِغَيْرِ الصَّرِيحِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْقَذْفُ بِالْكِنَايَةِ، أَوِ التَّعْرِيضِ، فَلَيْسَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَدٌّ، بَلِ التَّعْزِيرُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَيَرَى مَالِكٌ: الْحَدَّ فِي الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ أَوِ الْكِنَايَةِ.
وَالَّذِينَ مَنَعُوا الْحَدَّ قَالُوا بِالتَّعْزِيرِ؛ لأِنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ جَرِيمَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَلاَ حَدَّ إِذَا رَمَاهُ بِأَلْفَاظٍ لاَ تُفِيدُ الزِّنَى صَرَاحَةً. كَقَوْلِهِ: يَا فَاجِرُ، بَلْ يُعَزَّرُ.
وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ إِذَا رَمَاهُ بِمَا لاَ يُعْتَبَرُ زِنًى، كَمَنْ رَمَى آخَرَ بِالتَّخَنُّثِ.
وَيُعَزَّرُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ يَرْمِي آخَرَ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ؛ لأِنَّ هَذَا الْفِعْلَ لاَ يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَى عِنْدَهُ.
أَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْحَدِّ، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ تَعْزِيرَ فِي ذَلِكَ، بَلْ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ.
وَمَرَدُّ الْخِلاَفِ: هُوَ فِي أَنَّ اللِّوَاطَ هَلْ هُوَ زِنًى أَمْ لاَ؟.
فَمَنْ قَالُوا: بِأَنَّهُ زِنًى، جَعَلُوا فِي الْقَذْفِ بِهِ حَدَّ الْقَذْفِ. وَمَنْ قَالُوا: بِغَيْرِ ذَلِكَ، جَعَلُوا فِي الْقَذْفِ بِهِ التَّعْزِيرَ.
وَمَنْ قَذَفَ آخَرَ قَذْفًا مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ أَوْ أَجَلٍ يُعَزَّرُ وَلاَ يُحَدُّ.
وَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ قَذْفًا، بَلْ مُجَرَّدُ سَبٍّ أَوْ شَتْمٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا، فَفِيهَا التَّعْزِيرُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: يَا نَصْرَانِيُّ، أَوْ يَا زِنْدِيقُ، أَوْ يَا كَافِرُ، فِي حِينِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لآِخَرَ: يَا مُخَنَّثُ، أَوْ يَا مُنَافِقُ، مَا دَامَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِذَلِكَ. وَيُعَزَّرُ كَذَلِكَ فِي مِثْلِ: يَا آكِلَ الرِّبَا، أَوْ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، أَوْ يَا خَائِنُ، أَوْ يَا سَارِقُ، وَكُلُّهُ بِشَرْطِ كَوْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لآِخَرَ: يَا بَلِيدُ، أَوْ يَا قَذِرُ، أَوْ يَا سَفِيهُ، أَوْ يَا ظَالِمُ، أَوْ يَا أَعْوَرُ، وَهُوَ صَحِيحٌ، أَوْ يَا مُقْعَدُ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّتْمِ.
وَعَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ يُعَزَّرُ مَنْ شَتَمَ آخَرَ، مَهْمَا كَانَ الشَّتْمُ؛ لأِنَّهُ مَعْصِيَةٌ.
وَيُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْزِيرِ إِلَى الْعُرْفِ، فَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ الْمَنْسُوبُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِمَّا يَلْحَقُ بِهِ فِي الْعُرْفِ الْعَارَ وَالأْذَى وَالشَّيْنَ، فَلاَ عِقَابَ عَلَى الْجَانِي، إِذْ لاَ يَكُونُ ثَمَّةَ جَرِيمَةٌ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس عشر ، الصفحة / 117
قَذْفُ الْجَدِّ حَفِيدَهُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْجَدِّ إِذَا قَذَفَ حَفِيدَهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِقَذْفِ حَفِيدِهِ وَإِنْ سَفَلَ؛ لأِنَّ الأْبُوَّةَ مَعْنًى يُسْقِطُ الْقِصَاصَ فَمَنَعَتِ الْحَدَّ؛ وَلأِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلاَ يَجِبُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى جَدِّهِ، ولقوله تعالي : ( فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وَالنَّهْيُ عَنِ التَّأْفِيفِ نَصًّا نَهْيٌ عَنِ الضَّرْبِ دَلاَلَةً، فَلَوْ حُدَّ الْجَدُّ كَانَ ضَرْبُهُ الْحَدَّ بِسَبَبِ حَفِيدِهِ؛ وَلأِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَذْفِ لَيْسَتْ مِنَ الإْحْسَانِ فِي شَيْءٍ فَكَانَتْ مَنْفِيَّةً نَصًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لاَ يَثْبُتُ لَهُ حَدُّ قَذْفٍ عَلَى جَدِّهِ، فَلَوْ قَذَفَ الْجَدُّ أُمَّ وَلَدِ وَلَدِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فَمَاتَتْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ وَلَدِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ؛ لأِنَّ مَا مَنَعَ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً أَسْقَطَهُ طَارِئًا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجَدَّ يُحَدُّ إِذَا قَذَفَ وَلَدَ وَلَدِهِ لِعُمُومِ الأْدِلَّةِ.
الْجَلْدُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ الْحُرَّ إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً، فَحَدُّهُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَأَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَلقوله تعالي : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
وقوله تعالي : ( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني والعشرون ، الصفحة / 189
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ غَيْرَهُ:
إِذَا قَذَفَ الْمُرْتَدُّ غَيْرَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشُرُوطِهِ، إِلاَّ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حَيْثُ لاَ سُلْطَةَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْقَضِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَرَائِطِ الْقَذْفِ، وَلَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا إِسْلاَمُ الْقَاذِفِ،.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الرابع والعشرون ، الصفحة / 133
سَبٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: الشَّتْمُ، وَهُوَ مُشَافَهَةُ الْغَيْرِ بِمَا يَكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ، كَيَا أَحْمَقُ، وَيَا ظَالِمُ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: هُوَ كُلُّ كَلاَمٍ قَبِيحٍ، وَحِينَئِذٍ فَالْقَذْفُ، وَالاِسْتِخْفَافُ، وَإِلْحَاقُ النَّقْصِ، كُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي السَّبِّ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَيْبُ:
2 - الْعَيْبُ خِلاَفُ الْمُسْتَحْسَنِ عَقْلاً، أَوْ شَرْعًا، أَوْ عُرْفًا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ السَّبِّ.
قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: فَإِنَّ مَنْ قَالَ: فُلاَنٌ أَعْلَمُ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ عَابَهُ، وَلَمْ يَسُبَّهُ.
ب - اللَّعْنُ:
3 - اللَّعْنُ: هُوَ الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّهُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ السَّبُّ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَ الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ».
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَ الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ».
فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّعْنَ بِالشَّتْمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: اللَّعْنُ أَبْلَغُ فِي الْقُبْحِ مِنَ السَّبِّ الْمُطْلَقِ.
ج - الْقَذْفُ:
4 - يُطْلَقُ السَّبُّ وَيُرَادُ بِهِ الْقَذْفُ، وَهُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَى فِي مَعْرِضِ التَّعْيِيرِ، كَمَا يُطْلَقُ الْقَذْفُ وَيُرَادُ بِهِ السَّبُّ.
وَهَذَا إِذَا ذُكِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا.
فَإِذَا ذُكِرَا مَعًا لَمْ يَدُلَّ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».
وَعِنْدَ التَّغَايُرِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقَذْفِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَبِالسَّبِّ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ إِنْ كَانَ السَّبُّ غَيْرَ مُكَفِّرٍ.
حُكْمُ السَّبِّ:
5 - الْمُسْتَقْرِئُ لِصُوَرِ السَّبِّ يَجِدُ أَنَّهُ تَعْتَرِيهِ الأْحْكَامُ الآْتِيَةُ:
أَوَّلاً: الْحُرْمَةُ: وَهِيَ أَغْلَبُ أَحْكَامِ السَّبِّ وَقَدْ يَكْفُرُ السَّابُّ، كَالَّذِي يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ يَسُبُّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَوِ الْمَلاَئِكَةَ.
ثَانِيًا: الْكَرَاهَةُ: كَسَبِّ الْحُمَّى.
ثَالِثًا: خِلاَفُ الأْوْلَى: وَذَلِكَ إِذَا سَبَّ الْمَشْتُومُ شَاتِمَهُ بِقَدْرِ مَا سَبَّهُ بِهِ، عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
رَابِعًا: الْجَوَازُ: نَحْوَ سَبِّ الأْشْرَارِ، وَسَبِّ السَّابِّ بِقَدْرِ مَا سَبَّ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
أَلْفَاظُ السَّبِّ:
6 - مِنْ أَلْفَاظِ السَّبِّ قَوْلُهُ: كَافِرٌ، سَارِقٌ، فَاسِقٌ، مُنَافِقٌ، فَاجِرٌ، خَبِيثٌ، أَعْوَرُ، أَقْطَعُ، ابْنُ الزَّمِنِ، الأْعْمَى، الأْعْرَجُ، كَاذِبٌ، نَمَّامٌ.
وَمِنْ أَلْفَاظِ السَّبِّ مَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ قَائِلِهِ، نَحْوَ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَحَدِ أَنْبِيَائِهِ الْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، أَوْ مَلاَئِكَتِهِ، أَوْ دِينِ الإْسْلاَمِ، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي (رِدَّةٍ).
وَمِنْهَا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَهُوَ لَفْظُ السَّبِّ بِالزِّنَا، وَهُوَ الْقَذْفُ، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي (قَذْفٍ).
وَمِنْهُ مَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ، وَمِنْهُ مَا لاَ يَقْتَضِي تَعْزِيرًا كَسَبِّ الْوَالِدِ وَلَدَهُ.
إِثْبَاتُ السَّبِّ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْزِيرِ:
7 - يَثْبُتُ السَّبُّ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْزِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَجْرِي فِيهِ الْيَمِينُ وَيُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكْفِي شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ، أَوْ لَفِيفٌ مِنَ النَّاسِ.
وَاللَّفِيفُ: الْمُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُمْ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع والعشرون ، الصفحة / 16
الْقَذْفُ:
امْتَازَتْ صِيغَةُ الْقَذْفِ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الصِّيَغِ بِمَجِيءِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ فِيهَا، فَالْقَذْفُ الصَّرِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صَرَاحَتِهِ مِنْ قِبَلِ الْعُلَمَاءِ هُوَ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ: زَنَيْتَ، أَوْ يَا زَانِي، أَوْ لاِمْرَأَةٍ: زَنَيْتِ، أَوْ يَا زَانِيَةَ فَهَذِهِ الأْلْفَاظُ لاَ تَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْقَذْفِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُرَكَّبُ مِنَ النُّونِ وَالْيَاءِ وَالْكَافِ، وَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ صَرِيحٍ فِي الْجِمَاعِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ وَصْفُ الْحُرْمَةِ، وَكَذَا نَفْيُ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ بِقَوْلِهِ: لَسْتَ لأِبِيكَ.
وَمِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ: الرَّمْيُ بِالإْصَابَةِ فِي الدُّبُرِ كَقَوْلِهِ: لُطْتَ، أَوْ لاَطَ بِكَ فُلاَنٌ، سَوَاءٌ خُوطِبَ بِهِ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ. وَأَمَّا الرَّمْيُ بِإِتْيَانِ الْبَهَائِمِ فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ قَذْفٌ إِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ: فَكَقَوْلِهِ لِلرَّجُلِ: يَا فَاجِرُ، وَلِلْمَرْأَةِ: يَا خَبِيثَةُ.
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ: فَكَقَوْلِهِ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَحَلُّهُ (قَذْفٌ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث والثلاثون ، الصفحة / 5
قَذْفٌ
التَّعْرِيفُ:
الْقَذْفُ لُغَةً: الرَّمْيُ مُطْلَقًا، وَالتَّقَاذُفُ التَّرَامِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ فِيهِ الأْنْصَارُ مِنَ الأْشْعَارِ يَوْمَ بُعَاثٍ» أَيْ: تَشَاتَمَتْ، وَفِيهِ مَعْنَى الرَّمْيِ؛ لأِنَّ الشَّتْمَ رَمْيٌ بِمَا يَعِيبُهُ وَيَشِينُهُ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: «فِي مَعْرِضِ التَّعْيِيرِ»، وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: رَمْيُ مُكَلَّفٍ حُرًّا مُسْلِمًا بِنَفْيِ نَسَبٍ عَنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ بِزِنًا.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللِّعَانُ:
- اللِّعَانُ لُغَةً: مَصْدَرُ لاَعَنَ كَقَاتَلَ مِنَ اللَّعْنِ، وَهُوَ الطَّرْدُ وَالإْبْعَادُ.
وَاصْطِلاَحًا: عِبَارَةٌ عَنْ كَلِمَاتٍ مَعْلُومَةٍ جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُضْطَرِّ إِلَى قَذْفِ مَنْ لَطَّخَ فِرَاشَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ الْعَارَ أَوْ شَهَادَاتٍ مُؤَكَّدَاتٍ بِالأْيْمَانِ، مَقْرُونَةٍ بِاللَّعْنِ مِنْ جِهَةٍ، وَبِالْغَضَبِ مِنَ الأْخْرَى، قَائِمَةٍ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ، وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ أَنَّ اللِّعَانَ سَبَبٌ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ.
ب - السَّبُّ:
- السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الشَّتْمُ، وَهُوَ: كُلُّ كَلاَمٍ قَبِيحٍ.
وَالصِّلَةُ: أَنَّ السَّبَّ أَعَمُّ مِنَ الْقَذْفِ.
ج - الرَّمْيُ:
- مِنْ مَعَانِي الرَّمْيِ: الْقَذْفُ وَالإْلْقَاءُ، قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أَيْ: يَقْذِفُونَ، وَيُقَالُ: رَمَيْتُ الْحَجَرَ: أَلْقَيْتُهُ.
وَالرَّمْيُ أَعَمُّ مِنَ الْقَذْفِ.
د - الزِّنَا:
- الزِّنَا بِالْقَصْرِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبِالْمَدِّ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَمَعْنَاهُ الْفُجُورُ، يُقَالُ: زَنَى يَزْنِي زِنًا: فَجَرَ. وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَذْفَ اتِّهَامٌ بِالزِّنَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
- قَذْفُ الْمُحْصَنِ وَالْمُحْصَنَةِ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالأْصْلُ فِي تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ».
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَهُوَ: أَنْ يَرَى امْرَأَتَهُ تَزْنِي فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ ثُمَّ يَعْتَزِلَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الزِّنَى وَأَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَنْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَذْفُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا.
وَمُبَاحٌ: وَهُوَ أَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ تَزْنِي، أَوْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ زِنَاهَا، وَلَيْسَ ثَمَّ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ.
صِيغَةُ الْقَذْفِ:
الْقَذْفُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ، وَتَعْرِيضٌ.
فَاللَّفْظُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْقَذْفُ: إِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ غَيْرَهُ فَصَرِيحٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ فُهِمَ مِنْهُ الْقَذْفُ بِوَضْعِهِ فَكِنَايَةٌ، وَإِلاَّ فَتَعْرِيضٌ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ بِصَرِيحِ الزِّنَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِشُرُوطِهِ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ:
إِذَا أَنْكَرَ الْقَذْفَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، لِلإْيذَاءِ، وَقَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِمَا إِذَا خَرَجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَ السَّبِّ وَالذَّمِّ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ حُبِسَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عُزِّرَ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الأْلْفَاظِ:
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا خَبِيثُ، أَوْ لاِمْرَأَةٍ: يَا فَاجِرَةُ، يَا فَاسِقَةُ، يَا خَبِيثَةُ، أَوْ أَنْتِ تُحِبِّينَ الْخَلْوَةَ، أَوْ لاَ تَرُدِّينَ يَدَ لاَمِسٍ، فَإِنْ أَنْكَرَ إِرَادَةَ الْقَذْفِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ؛ لأِنَّهُ أَعْرَفُ بِمُرَادِهِ، فَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْقَذْفَ، ثُمَّ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا قَالَ لآِخَرَ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرَةِ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، يُؤَدَّبُ، فَإِذَا قَالَ: يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ قَذْفًا، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ يُحْبَسُ، فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عُزِّرَ.
وَإِذَا قَالَ: يَا فَاجِرُ بِفُلاَنَةَ، فَفِيهِ قَوْلاَنِ: الأْوَّلُ: حُكْمُهُ حُكْمُ مَا إِذَا قَالَ: يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ.
الثَّانِي: أَنْ يُضْرَبَ حَدَّ الْقَذْفِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَمْرٍ صَنَعَهُ مِنْ وُجُوهِ الْفُجُورِ، أَوْ مِنْ أَمْرٍ يَدَّعِيهِ، فَيَكُونُ فِيهِ مَخْرَجٌ لِقَوْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِذَا قَالَ لآِخَرَ: يَا مُخَنَّثُ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ قَذْفًا، فَإِنْ حَلَفَ عُفِيَ عَنْهُ بَعْدَ الأْدَبِ، وَلاَ يُضْرَبُ حَدَّ الْفِرْيَةِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ يَمِينُهُ، إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ فِيهِ تَأْنِيثٌ وَلِينٌ وَاسْتِرْخَاءٌ، فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ، وَيَحْلِفُ إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَذْفًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَأْنِيثَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ضُرِبَ الْحَدَّ، وَلَمْ تُقْبَلْ يَمِينُهُ، إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ قَذْفًا وَلَوْ قَالَ لاِمْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِالْقَذْفِ، فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ: يَا فَاسِقُ يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا فَاجِرُ، أَوْ يَا فَاجِرُ ابْنَ الْفَاجِرِ، أَوْ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ مَا نَسَبَهُ وَلاَ أُمَّهُ إِلَى صَرِيحِ الزِّنَا، فَالْفُجُورُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا وَغَيْرِ الزِّنَا، وَالْقَحْبَةُ مَنْ يَكُونُ مِنْهَا هَذَا الْفِعْلُ، فَلاَ يَكُونُ هَذَا قَذْفًا بِصَرِيحِ الزِّنَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْحَدَّ، فَقَدْ أَوْجَبْنَاهُ بِالْقِيَاسِ، وَلاَ مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَدِّ، لَكِنَّهُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لأِنَّهُ ارْتَكَبَ حَرَامًا، وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ؛ وَلأِنَّهُ أَلْحَقَ بِهِ نَوْعَ شَيْنٍ بِمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ، لِدَفْعِ ذَلِكَ الشَّيْنِ عَنْهُ.
- وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ: زَنَأْتَ مَهْمُوزًا، كَانَ قَذْفًا صَرِيحًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ فِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لأِنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لاَ يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الْقَذْفَ، فَكَانَ قَذْفًا، كَمَا لَوْ قَالَ: زَنَيْتَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ:
أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَكِنَايَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ فَهُوَ قَذْفٌ؛ لأِنَّ الْعَامَّةَ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ زَنَيْتَ وَزَنَأْتَ.
وَالأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَهُوَ قَذْفٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا.
- وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ، لاَ يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّهُ رَمَاهُ بِمَا يَسْتَحِيلُ مِنْهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ يُحَدُّ؛ لأِنَّهُ قَذَفَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ التَّاءَ تُزَادُ لَهُ كَمَا فِي عَلاَّمَةٍ وَنَسَّابَةٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَهُ فِي الْمُغْنِي؛ لأِنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لأِحَدِ الْجِنْسَيْنِ، كَانَ قَذْفًا لِلآْخَرِ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا لَهُمَا جَمِيعًا؛ وَلأِنَّ هَذَا خِطَابٌ لَهُ، وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِ بِلَفْظِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يُغْنِي عَنِ التَّمْيِيزِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَحَذْفِهَا، وَلَوْ قَالَ لاِمْرَأَةٍ: «يَا زَانِي» حُدَّ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لأِنَّ التَّرْخِيمَ شَائِعٌ، كَقَوْلِهِمْ فِي «مَالِكٍ»: «يَا مَالِ» وَفِي «حَارِثٍ»: «يَا حَارِ».
- وَإِنْ قَالَ زَنَى فَرْجُكِ، أَوْ ذَكَرُكَ، فَهُوَ قَذْفٌ؛ لأِنَّ الزِّنَا يَقَعُ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: زَنَتْ عَيْنُكَ، أَوْ يَدُكَ، أَوْ رِجْلُكَ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، إِنْ قَصَدَ الْقَذْفَ كَانَ قَذْفًا، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأِنَّ الزِّنَا لاَ يُوجَدُ مِنْ هَذِهِ الأْعْضَاءِ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ»، وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ قَذْفٌ، لأِنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى عُضْوٍ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا أَضَافَهُ إِلَى الْفَرْجِ فَإِنْ قَالَ: زَنَى بَدَنُكَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لأِنَّ الزِّنَا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَذْفٌ؛ لأِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَالْفَرْجُ دَاخِلٌ فِيهِ.
وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلاَنٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا؛ لأِنَّ أَفْعَلَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ مَعْنَى كَلاَمِهِ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِالزِّنَا مِنْ فُلاَنٍ، أَوْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا مِنْ فُلاَنٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَكُونُ قَذْفًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ قَذْفًا فَيُحَدُّ، وَهَلْ يَكُونُ قَاذِفًا لِلثَّانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ، لأِنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَيْهِمَا، وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا فِيهِ أَبْلَغَ مِنَ الآْخَرِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ: «أَفْعَلَ» لِلتَّفْضِيلِ، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، وَتَفْضِيلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: «أَجْوَدُ مِنْ حَاتِمٍ».
وَالثَّانِي: يَكُونُ قَاذِفًا لِلْمُخَاطَبِ خَاصَّةً؛ لأِنَّ لَفْظَةَ: «أَفْعَلَ» قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَالَ لِرَجُلٍ:
يَا زَانِي، فَقَالَ آخَرُ: صَدَقْتَ، لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ؛ لأِنَّهُ مَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَا، وَتَصْدِيقُهُ إِيَّاهُ لَفْظٌ مُحْتَمَلٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الزِّنَا وَفِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ فِي الزِّنَا، وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ لاَ يَكْفِي لإِيجَابِ الْحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَالَ: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ، فَحِينَئِذٍ قَدْ صَرَّحَ بِكَلاَمِهِ أَنَّ مُرَادَهُ التَّصْدِيقُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَا، فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ.
وَقَالَ زُفَرُ: فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ يُحَدَّانِ جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ زَانٍ، وَقَالَ آخَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَيْضًا، لاَ حَدَّ عَلَى الآْخَرِ؛ لأِنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ كَلاَمٌ مُحْتَمَلٌ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْقَذْفُ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا شَهِدْتَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ.
وَمَنْ قَذَفَ رَجُلاً بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ إِمَّا فَاعِلاً أَوْ مَفْعُولاً، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لأِنَّهُ قَذَفَهُ بِوَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ، فَأَشْبَهَ الْقَذْفَ بِالزِّنَا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لاَ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً أَنَّهَا وُطِئَتْ فِي دُبُرِهَا، أَوْ قَذَفَ رَجُلاً بِوَطْءِ امْرَأَةٍ فِي دُبُرِهَا.
وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: «يَا لُوطِيُّ»، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكَ عَلَى دِينِ قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ، وَمَا صَحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يُسْمَعُ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُحِيلُ الْقَذْفَ، لأِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لاَ يُفْهَمُ مِنْهَا إِلاَّ الْقَذْفُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِيهِ، كَقَوْلِهِ: «يَا زَانِي»، وَلأِنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلاَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا قَالَ: نَوَيْتُ أَنَّ دِينَهُ دِينُ قَوْمِ لُوطٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّكَ تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ فَسَّرَ كَلاَمَهُ بِمَا لاَ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ فَسَّرَهُ بِهِ مُتَّصِلاً بِكَلاَمِهِ.
حُكْمُ التَّعْرِيضِ:
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ قَذْفٌ، كَقَوْلِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُحَدُّ؛ لأِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ لِلشُّبْهَةِ، وَيُعَاقَبُ بِالتَّعْزِيرِ؛ لأِنَّ الْمَعْنَى: بَلْ أَنْتَ زَانٍ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَرَّضَ بِالْقَذْفِ غَيْرُ أَبٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ فُهِمَ الْقَذْفُ بِتَعْرِيضِهِ بِالْقَرَائِنِ، كَخِصَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، أَمَّا الأْبُ إِذَا عَرَّضَ لِوَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحَدُّ، لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلإْمَامِ أَحْمَدَ؛ لأِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اسْتَشَارَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فِي رَجُلٍ قَالَ لآِخَرَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلاَ أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ لِصَاحِبِهِ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ.
وَالتَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلاَلِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ؛ لأِنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظَ الْمَنْوِيَّ، وَلاَ دَلاَلَةَ هُنَا فِي اللَّفْظِ، وَلاَ احْتِمَالَ، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الأْحْوَالِ، هَذَا هُوَ الأْصَحُّ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ عَنِ الْقَذْفِ، لِحُصُولِ الْفَهْمِ وَالإْيذَاءِ، فَإِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَا فَقَذْفٌ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرُهَا
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الإْمَامِ أَحْمَدَ.
شُرُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ:
لِحَدِّ الْقَذْفِ شُرُوطٌ فِي الْقَاذِفِ، وَشُرُوطٌ فِي الْمَقْذُوفِ:
أ - شُرُوطُ الْقَاذِفِ:
- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاذِفِ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالاِخْتِيَارُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطٍ، مِنْهَا:
1- الإْقَامَةُ فِي دَارِ الْعَدْلِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ احْتِرَازًا عَنِ الْمُقِيمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
2 - النُّطْقُ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الأْخْرَسِ.
3 - الْتِزَامُ أَحْكَامِ الإْسْلاَمِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى حَرْبِيٍّ، لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ.
4 - الْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى جَاهِلٍ بِالتَّحْرِيمِ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإْسْلاَمِ، أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ.
5 - عَدَمُ إِذْنِ الْمَقْذُوفِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ، كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الأْكْثَرِينَ.
6 - أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ غَيْرَ أَصْلٍ لِلْمَقْذُوفِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُحَدُّ الأْبُ بِقَذْفِ ابْنِهِ.
ب - شُرُوطُ الْمَقْذُوفِ:
كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مُحْصَنًا:
- يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْذُوفِ - الَّذِي يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ - أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا، وَشُرُوطُ الإْحْصَانِ فِي الْقَذْفِ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالإْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا، فَإِنْ قَذَفَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّ مَا رَمَى بِهِ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ لَوْ تَحَقَّقَ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ، فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ عَاقِلاً بِمَا دُونَ الْوَطْءِ، وَإِنْ قَذَفَ كَافِرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»، وَإِنْ قَذَفَ مَمْلُوكًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ كَمَالَ الْحَدِّ، فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَإِنْ قَذَفَ زَانِيًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) فَأَسْقَطَ الْحَدَّ عَنْهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ زَنَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَذَفَهُ وَهُوَ زَانٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا: يُحَدُّ قَاذِفُهَا، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً، فَإِنَّ الْحَدَّ بِعِلَّةِ إِلْحَاقِ الْعَارِ، وَمِثْلُهَا يَلْحَقُهُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَان ف 15 - 19).
وُقُوعُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الإْسْلاَمِ:
- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الإْسْلاَمِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ فِي الْقَاذِفِ، كَمَا يَجِبُ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ، لأِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الإْسْلاَمِ فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْحُدُودِ؛ لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة) ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْثَمَانِينَ جَلْدَةً) ، وَقَالَ: تعالي : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وَلَمْ يَسْتَثْنِ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ، وَلاَ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَالْحَرَامُ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ حَرَامٌ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَمَنْ أَصَابَ حَرَامًا فَقَدْ حَدَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَلاَ تَضَعُ عَنْهُ بِلاَدُ الْكُفْرِ شَيْئًا، وَيُقَامُ الْحَدُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لأِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَتِهِ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ إِلَى بِلاَدِ الإْسْلاَمِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الإْسْلاَمِ؛ لأِنَّهُ فِي دَارٍ لاَ حَدَّ عَلَى أَهْلِهَا؛ وَلأِنَّهُ ارْتَكَبَ السَّبَبَ وَهُوَ لَيْسَ تَحْتَ وِلاَيَةِ الإْمَامِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لِلإْمَامِ وِلاَيَةُ الاِسْتِيفَاءِ إِذَا ارْتَكَبَ السَّبَبَ وَهُوَ تَحْتَ وِلاَيَتِهِ، وَبِدُونِ الْمُسْتَوْفَى لاَ يَجِبُ الْحَدُّ.
وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا، لَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الأْوَّلِ؛ لأِنَّ الْمُغَلَّبَ فِي هَذَا الْحَدِّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلأِنَّهُ لَيْسَ لِلإْمَامِ عَلَيْهِ وِلاَيَةُ الاِسْتِيفَاءِ، حِينَ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ بِدُخُولِهِ دَارَنَا بِأَمَانٍ.
وَيُحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الآْخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهم الله ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِّ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ حُقُوقَ الْعِبَادِ؛ وَلأِنَّهُ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ يَسْتَخِفُّ بِهِ، وَمَا أُعْطِيَ الأْمَانَ عَلَى أَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا يُحَدُّ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَارُ الْحَرْبِ ف 5).
حَدُّ الْقَذْفِ:
حَدُّ الْقَذْفِ لِلْحُرِّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) وَيُنَصَّفُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْجَلْدِ فِي الْحَدِّ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود ف 46، 47 وَ 48).
وَيُشْتَرَطُ لإِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ تَمَامِ الْقَذْفِ بِشُرُوطِهِ شَرْطَانِ.
الأْوَّلُ: أَنْ لاَ يَأْتِيَ الْقَاذِفُ بِبَيِّنَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ) ، فَيُشْتَرَطُ فِي جَلْدِهِمْ عَدَمُ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الإْقْرَارِ مِنَ الْمَقْذُوفِ؛ لأِنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا اشْتُرِطَ امْتِنَاعُهُ مِنَ اللِّعَانِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا.
الثَّانِي: مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ وَاسْتِدَامَةُ مُطَالَبَتِهِ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأِنَّهُ حَقُّهُ، فَلاَ يُسْتَوْفَى قَبْلَ طَلَبِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَدَّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُطَالَبَةَ، بَلْ عَلَى الإْمَامِ أَنْ يُقِيمَهُ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ.
مَا يَسْقُطُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ:
أَوَّلاً: عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عَنِ الْقَاذِفِ:
- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَفْوِ الْمَقْذُوفِ عَنِ الْقَاذِفِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَاذِفِ، سَوَاءٌ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الإْمَامِ أَوْ بَعْدَ الرَّفْعِ إِلَيْهِ؛ لأِنَّهُ حَقٌّ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ بِاسْتِيفَائِهِ، فَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ كَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ فِي إِقَامَتِهَا طَلَبُ اسْتِيفَائِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ، سَوَاءٌ رُفِعَ إِلَى الإْمَامِ أَوْ لَمْ يُرْفَعْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ بَعْدَ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى الإْمَامِ، إِلاَّ الاِبْنُ فِي أَبِيهِ، أَوِ الَّذِي يُرِيدُ سَتْرًا، عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ الْعَفْوُ مِنْ أَصْحَابِ الْفَضْلِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعَفَافِ؛ لأِنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يُدَارُونَ بِعَفْوِهِمْ سَتْرًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِهِمْ هَلْ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ أَوْ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ أَوْ حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا؟ فَمَنْ قَالَ حَقٌّ لِلَّهِ: لَمْ يُجِزِ الْعَفْوَ كَالزِّنَا، وَمَنْ قَالَ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ: أَجَازَ الْعَفْوَ، وَمَنْ قَالَ حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا وَغَلَبَ حَقُّ الإْمَامِ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ، قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَصِلَ الإْمَامَ أَوْ لاَ يَصِلَ، وَقِيَاسًا عَلَى الأْثَرِ الْوَارِدِ فِي السَّرِقَةِ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَرَقَ رِدَاءَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَلاَّ يُقْطَعَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ»، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ الَّذِي سَرَقَ: «فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِهِ، فَرَأَوْا مِنْهُ أَسَفًا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّكَ كَرِهْتَ قَطْعَهُ، قَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي؟ لاَ تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ، إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلإْمَامِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَدٌّ أَنْ يُقِيمَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ» .
وَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ - وَهُوَ الأْظْهَرُ -: أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا صَدَّقَهُ فِيمَا قَذَفَهُ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ.
ثَانِيًا: اللِّعَانُ:
وَذَلِكَ إِذَا رَمَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا، أَوْ نَفَى حَمْلَهَا أَوْ وَلَدَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى مَا رَمَاهَا بِهِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا لاَعَنَ زَوْجَتَهُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (لِعَان).
ثَالِثًا: الْبَيِّنَةُ:
إِذَا ثَبَتَ زِنَا الْمَقْذُوفِ بِشَهَادَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ حُدَّ الْمَقْذُوفُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وَفِي بَيَانِ إِثْبَاتِ الزِّنَا بِالشَّهَادَةِ أَوِ الإْقْرَارِ انْظُرِ الْمُصْطَلَحَاتِ (إِقْرَار ف 34 - 37، وَشَهَادَة ف 29، وَزِنًى ف 30 - 41).
رَابِعًا: زَوَالُ الإْحْصَانِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا، ثُمَّ زَالَ أَحَدُ أَوْصَافِ الإْحْصَانِ عَنْهُ، كَأَنْ زَنَى الْمَقْذُوفُ أَوِ ارْتَدَّ أَوْ جُنَّ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ؛ لأِنَّ الإْحْصَانَ يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ اسْتِمْرَارُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ: حَدَّ الْقَذْفِ يَسْقُطُ بِزِنَا الْمَقْذُوفِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأِنَّ الإْحْصَانَ لاَ يُسْتَيْقَنُ بَلْ يُظَنُّ، وَلَكِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لاَ يَسْقُطُ بِرِدَّةِ الْمَقْذُوفِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالزِّنَا أَنَّ الزِّنَا يُكْتَمُ مَا أَمْكَنَ، فَإِذَا ظَهَرَ أَشْعَرَ بِسَبْقِ مِثْلِهِ؛ لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ لاَ يَهْتِكُ السِّتْرَ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ - رضي الله عنه - وَالرِّدَّةُ عَقِيدَةٌ، وَالْعَقَائِدُ لاَ تَخْفَى غَالِبًا، فَإِظْهَارُهَا لاَ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ الْخَفَاءِ، وَلاَ يَسْقُطُ كَذَلِكَ بِجُنُونِ الْمَقْذُوفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ إِذَا ثَبَتَ لاَ يَسْقُطُ بِزَوَالِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الإْحْصَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ جُنَّ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ بِذَلِكَ.
خَامِسًا: رُجُوعُ الشُّهُودِ أَوْ بَعْضِهِمْ عَنِ الشَّهَادَةِ:
إِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، سَقَطَ الْحَدُّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ مِنْهُمْ؛ لأِنَّ رُجُوعَهُمْ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رُجُوع ف 37).
التَّعْزِيرُ فِي الْقَذْفِ:
لاَ يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ إِلاَّ بِشُرُوطِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ وَاحِدٌ مِنْهَا أَوِ اخْتَلَّ، فَإِنَّ الْجَانِيَ لاَ يُحَدُّ، وَيُعَزَّرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ؛ لأِنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِير ف 37).
ثُبُوتُ فِسْقِ الْقَاذِفِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ:
إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، فَحُقِّقَ قَذْفُهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ لِعَانٍ، أَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ أَجْنَبِيًّا، فَحُقِّقَ قَذْفُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَذْفَةِ فِسْقٌ، وَلاَ حَدٌّ، وَلاَ رَدُّ شَهَادَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُحَقَّقْ قَذْفُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ بِفِسْقِهِ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .
فَإِنْ تَابَ الْقَاذِفُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، وَزَالَ الْفِسْقُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِذَا جُلِدَ وَإِنْ تَابَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة ف 21).
تَكْرَارُ الْقَذْفِ:
إِنْ قَذَفَ رَجُلاً مَرَّاتٍ فَلَمْ يُحَدَّ، وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا وَاحِدٍ أَوْ بِزِنْيَاتٍ؛ لأِنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ فَتَدَاخَلاَ كَمَا لَوْ زَنَى ثُمَّ زَنَى، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ؛ لأِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ، كَالدُّيُونِ.
وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهُ، نُظِرَ: فَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَعُزِّرَ لِلإْيذَاءِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا حُدَّ بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، أَعَادَ قَذْفَهُ، فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ حَدًّا ثَانِيًا، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ قَالَ: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ أَنَّهُ زَانٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَقَالَ: شَاطَ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَاءَ زِيَادٌ فَقَالَ: أَمَّا عِنْدَكَ؟ فَلَمْ يَثْبُتْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَجُلِدُوا، وَقَالَ: شُهُودُ زُورٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَلَيْسَ تَرْضَى إِنْ أَتَاكَ رَجُلٌ عَدْلٌ يَشْهَدُ بِرَجْمِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ أَعَدْتَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ الرَّجْمَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «فَلاَ يُعَادُ فِي فِرْيَةٍ جَلْدٌ مَرَّتَيْنِ».
فَأَمَّا إِنْ حُدَّ لَهُ، ثُمَّ قَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ، نُظِرَ: فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ فَحَدٌّ ثَانٍ؛ لأِنَّهُ لاَ يُسْقِطُ حُرْمَةَ الْمَقْذُوفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاذِفِ أَبَدًا، بِحَيْثُ يُمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ بِكُلِّ حَالٍ. وَإِنْ قَذَفَهُ عَقِيبَ حَدِّهِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأْوَّلُ: يُحَدُّ أَيْضًا؛ لأِنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيهِ بِحَدٍّ، فَيَلْزَمُ فِيهِ حَدٌّ، كَمَا لَوْ طَالَ الْفَصْلُ؛ وَلأِنَّ سَائِرَ أَسْبَابِ الْحَدِّ إِذَا تَكَرَّرَتْ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلأَوَّلِ، ثَبَتَ لِلثَّانِي حُكْمُهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأْسْبَابِ.
الثَّانِي: لاَ يُحَدُّ؛ لأِنَّهُ قَدْ حُدَّ لَهُ مَرَّةً، فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ عَقِبَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الأْوَّلِ.
حُكْمُ قَذْفِ مَنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ:
- مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا لَمْ يَسْقُطْ بِهَذَا الْوَطْءِ إِحْصَانُهُ، فَإِنْ سَقَطَ بِهَذَا الْوَطْءِ إِحْصَانُهُ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لأِنَّهُ قَذَفَ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَيُعَزَّرُ لِلإْيذَاءِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلاً اسْتَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَا، أَوْ قَذَفَهَا، فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لأِنَّ قَذْفَهُ لِلزَّانِي كَانَ حَقًّا، وَلأِنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، لَكِنَّ الزِّنَا بِهَا يُسْقِطُ إِحْصَانَهَا مَعَ رَفْعِ الإْثْمِ عَنْهَا.
انْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَان ف 7) وَمُصْطَلَحِ (زِنًا ف 16 - 21)
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا:
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ يَسْقُطْ إِحْصَانُهُ، وَيُحَدُّ قَاذِفُهُ؛ لأِنَّ الْوَطْءَ فِي الْمِلْكِ، وَالْحُرْمَةَ بِعَارِضٍ عَلَى احْتِمَالِ الزَّوَالِ، وَهَذَا لأِنَّ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ بِالْمَحَلِّ لاَ يَكُونُ الْفِعْلُ زِنًا وَلاَ فِي مَعْنَاهُ.
حُكْمُ قَذْفِ وَلَدِ الزِّنَا:
- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ: مَنْ قَذَفَ وَلَدَ الزِّنَا فِي نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لأِبَوَيْهِ، وَفِعْلُهُمَا لاَ يُسْقِطُ إِحْصَانَهُ.
حُكْمُ قَذْفِ وَلَدِ الْمُلاَعَنَةِ:
- وَمَنْ قَذَفَ وَلَدَ الْمُلاَعَنَةِ فَقَالَ: هُوَ وَلَدُ زِنًا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الْمُلاَعَنَةِ أَنْ لاَ تُرْمَى، وَلاَ يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ»؛ وَلأِنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ. وَإِذَا قَالَ الْقَاذِفُ: هُوَ مِنَ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ أُمُّهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، أَمَّا إِنْ قَالَ: لَيْسَ هُوَ ابْنَ فُلاَنٍ يَعْنِي الْمُلاَعِنَ، وَأَرَادَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لأِنَّهُ صَادِقٌ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ قَالَ لاِبْنِ الْمُلاَعَنَةِ: لَسْتَ لأِبِيكَ الَّذِي لاَعَنَ أُمَّكَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ:
لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ مَنْ وَطِئَ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ إِحْصَانُهُ، فَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ.
وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّهُ وَطْءٌ لاَ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَمْ يَسْقُطِ الإْحْصَانُ، فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ.
حُكْمُ قَذْفِ اللَّقِيطِ:
- وَمَنْ قَذَفَ اللَّقِيطَ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ.
وَمَنْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الزِّنَا، فَفِيهِ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الأْوَّلُ: يُحَدُّ لاِحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نُبِذَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ. الثَّانِي: لاَ يُحَدُّ لأِنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَنْبُوذِ أَنْ يَكُونَ ابْنَ زِنًا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّخْمِيِّ.
وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الزَّانِي، أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، فَهَذَا قَذْفٌ بِزِنَا أَبَوَيْهِ، لاَ بِنَفْيِ نَسَبٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ اتِّفَاقًا، وَعَلَّلَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِجَهْلِ أَبَوَيْهِ.
قَذْفُ الْمَحْدُودِ فِي الزِّنَا:
- وَمَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ؛ لأِنَّهُ صَادِقٌ سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، أَوْ بِزِنًا آخَرَ أَوْ مُبْهَمًا؛ لأِنَّهُ رَمَى غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لأِنَّ الْمُحْصَنَ لاَ يَكُونُ زَانِيًا، وَمَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ يُعَزَّرُ؛ لأِنَّهُ آذَى مَنْ لاَ يَجُوزُ أَذَاهُ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ تَابَ بَعْدَ زِنَاهُ وَصَلُحَ حَالُهُ، فَلَمْ يَعُدْ مُحْصَنًا أَبَدًا، وَلَوْ لاَزَمَ الْعَدَالَةَ وَصَارَ مِنْ أَوْرَعِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَزْهَدِهِمْ، فَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ، سَوَاءٌ أَقَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا أَمْ بِزِنًا بَعْدَهُ أَمْ أَطْلَقَ؛ لأِنَّ الْعِرْضَ إِذَا انْخَرَمَ بِالزِّنَا لَمْ يَزُلْ خَلَلُهُ بِمَا يَطْرَأُ مِنَ الْعِفَّةِ، وَلاَ يَرِدُ حَدِيثُ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ» لأِنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآْخِرَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ: مِنْ شُرُوطِ الْمَقْذُوفِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنِ الزِّنَا فِي ظَاهِرِ حَالِهِ، وَلَوْ كَانَ تَائِبًا مِنْهُ؛ لأِنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ، ثُمَّ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَلَوْ دُونَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ أَوْ حُدَّ لِلزِّنَا، فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَيُعَزَّرُ.
وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّهُ إِنْ قَذَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الزِّنَا، أَوْ بِالزِّنَا مُبْهَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأِنَّ الرَّمْيَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي صَادِقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إِذَا نَسَبَهُ إِلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، فَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ مُلْحِقٌ لِلشَّيْنِ بِهِ.
قَذْفُ الْمَرْأَةِ الْمُلاَعَنَةِ:
- وَمَنْ قَذَفَ الْمُلاَعَنَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ؛ لأِنَّ إِحْصَانَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِاللِّعَانِ، وَلاَ يَثْبُتُ الزِّنَا بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا بِهِ حَدٌّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الْمُلاَعَنَةِ أَنْ لاَ تُرْمَى وَلاَ يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ».
وَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَتِ الْمُلاَعَنَةُ بِغَيْرِ وَلَدٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بِوَلَدٍ فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا، وَهِيَ وِلاَدَةُ وَلَدٍ لاَ أَبَ لَهُ، فَفَاتَتِ الْعِفَّةُ نَظَرًا إِلَيْهَا، وَالْعِفَّةُ شَرْطُ الإْحْصَانِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّ قَاذِفَ الْمُلاَعَنَةِ إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا، أَوْ كَانَ زَوْجًا وَقَذَفَهَا فِي غَيْرِ مَا لاَعَنَهَا فِيهِ حُدَّ مُطْلَقًا فَإِذَا كَانَ الْمُلاَعِنُ نَفْسُهُ وَقَذَفَهَا فِيمَا لاَعَنَهَا فِيهِ لَمْ يُحَدَّ، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْلَقَ الْقَذْفَ.
قَذْفُ الْمَيِّتِ:
أَوْجَبَ الْجُمْهُورُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا مُحْصَنًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِذَا طَالَبَ بِالْحَدِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ لأِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، وَالْمَوْتُ يُقَرِّرُ الإْحْصَانَ وَلاَ يَنْفِيهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى، وَكَانَ لَهَا ابْنٌ مُحْصَنٌ فَإِنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْحَدِّ؛ لأِنَّ قَذْفَ أُمِّهِ قَذْفٌ لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلاَ يُحَدُّ.
قَذْفُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ:
- مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَقَدْ قَذَفَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنْ لاَعَنَهَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُلاَعِنْ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَيُّهُمَا طَالَبَ حُدَّ لَهُ وَمَنْ لَمْ يُطَالِبْ فَلاَ يُحَدَّ لَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ لِلزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا حَقٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلاَ الْحَدُّ.
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ الأْجْنَبِيَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا:
- مَنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَلاَ يُلاَعِنُ، لأِنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً فَوَجَبَ الْحَدُّ، وَلاَ يَمْلِكُ اللِّعَانَ لأِنَّهُ قَاذِفٌ غَيْرَ زَوْجَةٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ.
مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ:
مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا، وَهِيَ وِلاَدَةُ وَلَدٍ لاَ أَبَ لَهُ فَفَاتَتِ الْعِفَّةُ نَظَرًا إِلَيْهَا، وَهِيَ شَرْطُ الإْحْصَانِ وَيُعَزَّرُ لِلإْيذَاءِ.
قَذْفُ وَاحِدٍ لِجَمَاعَةٍ:
مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ طَالَبُوهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ طَالَبُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. فَإِنْ حُدَّ لِلأْوَّلِ لَمْ يُحَدَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ؛ لأِنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ كَحُضُورِ كُلِّهِمْ، فَلاَ يُحَدُّ ثَانِيًا إِلاَّ إِذَا كَانَ بِقَذْفٍ آخَرَ مُسْتَأْنَفٍ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ، وَطَاوُسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
وَعِنْدَ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ؛ لأِنَّهَا حُقُوقٌ لآِدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ.
وَأَمَّا إِذَا قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، وَرَجَّحَهَا فِي الْمُغْنِي لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَذْفِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ؛ وَلأِنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ قَذَفُوا امْرَأَةً، فَلَمْ يَحُدَّهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه إِلاَّ حَدًّا وَاحِدًا؛ وَلأِنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا؛ وَلأِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ، وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ وَتَزُولُ الْمَعَرَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُفْرَدًا فَإِنَّ كَذِبَهُ فِي قَذْفٍ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي آخَرَ، وَلاَ تَزُولُ الْمَعَرَّةُ عَنْ أَحَدِ الْمَقْذُوفَيْنِ بِحَدِّهِ لِلآْخَرِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ، لأِنَّهُ أَلْحَقَ الْعَارَ بِقَذْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَزِمَهُ لِكُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمْ حَدٌّ، كَمَا لَوِ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَذْفِ.
وَاخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِيمَا إِذَا قَذَفَ إِنْسَانًا فَحُدَّ لَهُ وَفِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ قَذَفَ إِنْسَانًا آخَرَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُقَامُ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الضَّرْبِ إِلاَّ سَوْطٌ وَاحِدٌ، فَلاَ يُضْرَبُ إِلاَّ ذَلِكَ السَّوْطَ لِلتَّدَاخُلِ؛ لأِنَّهُ اجْتَمَعَ حَدَّانِ؛ وَلأِنَّ كَمَالَ الْحَدِّ الأْوَّلِ بِالسَّوْطِ الَّذِي بَقِيَ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: إِنْ كَرَّرَ أَثْنَاءَ الْجَلْدِ فَإِنْ كَانَ مَا مَضَى مِنَ الْجَلْدِ أَقَلَّهُ أُلْغِيَ مَا مَضَى، وَابْتُدِئَ الْعَدَدُ وَبِذَلِكَ يُسْتَوْفَى الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ مَا بَقِيَ قَلِيلاً فَيَكْمُلُ الأْوَّلُ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ لِلثَّانِي.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ زُنَاةً عَادَةً لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ؛ لأِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ، وَلاَ عَارَ عَلَى الْمَقْذُوفِ لأِنَّا نَقْطَعُ بِكَذِبِهِ وَيُعَزَّرُ لِلْكَذِبِ.
قَذْفُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ:
- مَنْ قَذَفَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ: أَنَا وَلَدُ زِنًا، حُدَّ لأِنَّهُ قَذْفٌ لأِمِّهِ.
حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يُطَالَبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إِلاَّ مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ، وَهُوَ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلاَ وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ؛ لأِنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِمَا لِلْجُزْئِيَّةِ، فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلاً مَعْنًى لَهُمَا، فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ، لَكِنَّ لُحُوقَهُ لَهُمَا بِوَاسِطَةِ لُحُوقِ الْمَقْذُوفِ بِالذَّاتِ فَهُوَ الأْصْلُ فِي الْخُصُومَةِ؛ لأِنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُ مَقْصُودًا، فَلاَ يُطَالَبُ غَيْرُهُ بِمُوجِبِهِ إِلاَّ عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ مُطَالَبَتِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَلِذَا لَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهِ وَلاَ لِوَالِدِهِ الْمُطَالَبَةُ لأِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْغَائِبُ.
وَيَثْبُتَ لِلأْبْعَدِ مَعَ وُجُوبِ الأْقْرَبِ، وَكَذَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ؛ لأِنَّهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لاِبْنِهِ الْكَافِرِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ خِلاَفًا لِزُفَرَ، إِذْ يَقُولُ: الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الإْرْثَ عِنْدَنَا، كَمَا إِذَا كَانَ مُتَنَاوِلاً لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى، بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَذْفِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِعَدَمِ إِحْصَانِهِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَقَطْ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ، فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لأِنَّ الإْحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ، ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إِلَى وَلَدِهِ، وَالْكُفْرُ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الاِسْتِحْقَاقِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفُ نَفْسَهُ لأِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَعْيِيرٌ عَلَى الْكَمَالِ، لِفَقْدِ الإْحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إِلَى الزِّنَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَبَ التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ، وَهُوَ بِإِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا كَانَتِ الْمُطَالَبَةُ لَهُ، أَوْ مَيِّتًا طَالَبَ بِهِ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا لَمْ يَتَحَقَّقِ التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ فِي حَقِّهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ: لِلْوَارِثِ حَقَّ الْقِيَامِ بِحَقِّ مُوَرِّثِهِ الْمَقْذُوفِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ وَلَدٌ وَوَلَدُهُ وَإِنْ سَفَلَ، وَأَبٌ وَأَبُوهُ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ الأْخُ فَابْنُهُ. فَعَمٌّ فَابْنُهُ، وَهَكَذَا وَلِكُلٍّ مِنَ الْوَرَثَةِ الْقِيَامُ بِحَقِّ الْمُوَرِّثِ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ. كَابْنِ الاِبْنِ مَعَ وُجُودِ الاِبْنِ؛ لأِنَّ الْمَعَرَّةَ تَلْحَقُ الْجَمِيعَ وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ أُنْثَى خِلاَفًا لأِشْهَبَ الْقَائِلِ: يُقَدَّمُ الأْقْرَبُ فَالأْقْرَبُ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْمُوَرِّثِ الْمَقْذُوفِ كَالْقِيَامِ بِالدَّمِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ وَهُوَ مِمَّنْ يُورَثُ انْتَقَلَ ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ، وَفِيمَنْ يَرِثُهُ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
الأْوَّلُ: أَنَّهُ يَرِثُهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ، لأِنَّهُ مَوْرُوثٌ فَكَانَ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ كَالْمَالِ، وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ إِلاَّ لِمَنْ يَرِثُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لأِنَّ الْحَدَّ يَجِبُ لِدَفْعِ الْعَارِ، وَلاَ يَلْحَقُ الزَّوْجَ عَارٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لأِنَّهُ لاَ تَبْقَى زَوْجِيَّةٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرِثُهُ الْعَصَبَاتُ دُونَ غَيْرِهِمْ لأِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ثَبَتَ لِلآْخَرِ الْحَدُّ لأِنَّهُ جُعِلَ لِلرَّدْعِ، وَلاَ يَحْصُلُ الرَّدْعُ إِلاَّ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلرَّدْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَوْفِيهِ السُّلْطَانُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، حُرَّةً أَوْ أَمَةً حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الاِبْنُ وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا.
أَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ فَلَيْسَ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ لأِنَّ الْحَقَّ لَهَا فَلاَ يُطَالِبُ بِهِ غَيْرُهَا، وَلاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا؛ لأِنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلتَّشَفِّي فَلاَ يَقُومُ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ كَالْقِصَاصِ، وَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا لأِنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَأَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَإِنَّ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةَ لأِنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ؛ وَلأِنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ زِنًا، وَلاَ يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الإْرْثِ، وَلِذَلِكَ لاَ تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِي أُمِّهِ لأِنَّ الْقَذْفَ لَهُ.
فَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَهُوَ مُشْرِكٌ أَوْ عَبْدٌ فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الأْمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ قُذِفَتْ جَدَّتُهُ فَهُوَ كَقَذْفِ أُمِّهِ.
فَأَمَّا إِنْ قَذَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ؛ لأِنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ لاَحِقًا لِلْمَيِّتِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ.
قَذْفُ الْمَجْهُولِ:
مَنْ قَذَفَ مَجْهُولاً لاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الْمَعَرَّةِ، إِذْ لاَ يُعْرَفُ مَنْ أَرَادَ وَالْحَدُّ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعَرَّةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ رَجُلاَنِ فِي شَيْءٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ هُوَ ابْنُ زَانِيَةٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لأِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ، وَإِذَا سَمِعَ السُّلْطَانُ رَجُلاً يَقُولُ: زَنَى رَجُلٌ، لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ لأِنَّ الْمُسْتَحِقَّ مَجْهُولٌ، وَلاَ يُطَالِبُهُ بِتَعْيِينِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وَلأِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم : «يَا هُزَالُ، لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ»، وَإِنْ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلاً يَقُولُ: إِنَّ فُلاَنًا زَنَى، لَمْ يُحَدَّ لأِنَّهُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَاكٍ، وَلاَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَاذِفِ؛ لأِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ أَوِ ابْنُ زَانِيَةٍ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَامُوا كُلُّهُمْ لِعَدَمِ تَعْيِينِهِ الْمَعَرَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذْ لاَ يُعْرَفُ مَنْ أَرَادَ، وَهَذَا إِذَا كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ بِأَنْ زَادُوا عَلَى ثَلاَثَةٍ، فَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً أَوِ اثْنَيْنِ حُدَّ إِنْ قَامُوا أَوْ قَامَ بَعْضُهُمْ وَعَفَا الْبَعْضُ الْبَاقِي، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَائِمَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حُدَّ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَامَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَمْ أُرِدِ الْقَائِمَ لَمْ يُحَدَّ سَوَاءٌ عَفَا الْبَعْضُ أَوْ لَمْ يَعْفُ، وَسَوَاءٌ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَائِمَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ؛ لأِنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، حَيْثُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ.
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ وَالْكَافِرِ وَالذِّمِّيِّ وَالْفَاسِقِ:
مَنْ قَذَفَ مُرْتَدًّا لاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُحْصَنٍ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ دِينِ الإْسْلاَمِ، وَإِنِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَلَوْ تَابَ بِأَنْ رَجَعَ لِلإْسْلاَمِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِنِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَإِنَّ رِدَّتَهُ لاَ تُسْقِطُ الْحَدَّ؛ لأِنَّهَا أَمْرٌ طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ فَلاَ يَسْقُطُ مَا وَجَبَ مِنَ الْحَدِّ.
وَمَنْ قَذَفَ كَافِرًا وَلَوْ ذِمِّيًّا لاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُعَزَّرُ لِلإْيذَاءِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجُلُّ الْعُلَمَاءِ مُجْمِعُونَ وَقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الأْوَّلِ، وَلَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا وَلاَ لَقِيتُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَيُحَدُّ قَاذِفُ الْفَاسِقِ إِذَا كَانَ فِسْقُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا؛ لِكَوْنِهِ عَفِيفًا عَنِ الزِّنَا فَهُوَ مُحْصَنٌ وَقَذْفُ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) الآْيَةَ.
قَذْفُ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ وَالْمَرِيضِ مَرَضًا مُدْنِفًا وَالرَّتْقَاءِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْبُوبِ، وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِفِقْدَانِ آلَةِ الزِّنَا وَلأِنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُمَا الشَّيْنُ، فَإِنَّ الزِّنَا مِنْهُمَا لاَ يَتَحَقَّقُ وَيَلْحَقُ الشَّيْنُ الْقَاذِفَ فِي هَذَا الْقَذْفِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ قَذَفَ خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ مَرِيضًا مُدْنِفًا أَوْ رَتْقَاءَ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي عُمُومِ الآْيَةِ، وَلأِنَّهُ قَاذِفٌ لِمُحْصَنٍ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَقَذْفِ الْقَادِرِ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَلأِنَّ إِمْكَانَ الْوَطْءِ أَمْرٌ خَفِيٌّ لاَ يَعْلَمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَلاَ يَنْتَفِي الْعَارُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِدُونِ الْحَدِّ فَيَجِبُ كَقَذْفِ الْمَرِيضِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ؛ لأِنَّ الْعَارَ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَقْذُوفِ بِدُونِ الْحَدِّ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ.
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ وَلَدَهُ:
- إِذَا قَذَفَ وَلَدَهُ وَإِنْ نَزَلَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَذْفِ الاِبْنِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لإِطْلاَقِ آيَةِ (فَاجْلِدُوهُمْ) وَلأِنَّهُ حَدٌّ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلاَ يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَتِهِ قَرَابَةُ الْوِلاَدَةِ كَالزِّنَا.
وَالْجَوَابُ عَلَى مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ: أَنَّ الإْطْلاَقَ أَوِ الْعُمُومَ مُخْرَجٌ مِنْهُ الْوَلَدُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وَالْمَانِعُ مُقَدَّمٌ، وَلِهَذَا لاَ يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَإِهْدَارُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْوَلَدِ تُوجِبُ إِهْدَارَهَا فِي عِرْضِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالزِّنَا أَنَّ حَدَّ الزِّنَا خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ حَقَّ لِلآْدَمِيِّ فِيهِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، فَلاَ يَثْبُتُ لِلاِبْنِ عَلَى أَبِيهِ كَالْقِصَاصِ.