1- إن ما أورده الحكم بالنسبة لاعتراف الطاعن يحقق مراد الشارع الذي استوجبه فى المادة 310 من قانون العقوبات من دعوى بيان مؤدى الأدلة التي يستند إليها الحكم الصادر بالإدانة فإن المحكمة لم تكن ملزمة من بعد بأن تورد مؤدى اعتراف الطاعن أمام مستشار الإحالة على حدة منفرداً عن اعترافه أمام النيابة وحسبها فى ذلك أن يكون الدليل الذي اطمأنت إليه واقتنعت به له مأخذ صحيح من الأوراق .
(الطعن رقم 615 لسنة 46 جلسة 1976/11/01 س 27 ع 1 ص 817 ق 187)
2- إن الأصل فى أداء الشهادة أمام القضاء عند استجماع شرائطها أنه واجب يقتضيه الوصول إلى تعرف وجه الحق فى المنازعات وفي ثبوت الاتهام أو نفيه، ولا يعفي الشاهد من الإدلاء بكل ما يعلم ولا يكتم منه إلا فى الأحوال الخاصة التي بينها القانون، ومنها حظر الشهادة إفشاء لسر من أسرار المهنة المنصوص عليه فى المادة 207 من قانون المرافعات، ما لم يطلب من أسره إليه إفشاءه، فيجب على الشاهد عندئذ أداء الشهادة عملاً بالمادة 208 من ذلك القانون التي يدل نصها على أن تحريم الشهادة فى هذه الحالة ليس تحريماً مطلقاً، وتتجه التشريعات الحديثة نحو تغليب المصلحة العامة فى الوصول إلى الحقيقة وعلى الأخص إذا تعلق الأمر بمصلحة الجماعة، من ذلك أن الشارع الفرنسي أضاف فقرة ثانية إلى المادة 378 من قانون العقوبات الفرنسي بالمرسوم بقانون الصادر فى 29 يوليه سنة 1939 أجاز فيها للأطباء وغيرهم من أصحاب المهن إذا دعوا للشهادة أن يبوحوا بما لديهم من أسرار فى حوادث الإجهاض دون أن يتعرضوا للعقاب، ونصت المادة 622 من قانون العقوبات الإيطالي على أن الإفضاء بسر المهنة معاقب عليه إلا أن يكون هذا الإفضاء لمبرر مشروع، ونصت الفقرة الأخيرة من المادة 321 من القانون السويسري الصادر فى 21 من ديسمبر سنة 1937 على أن حظر الإفضاء بسر المهنة لا يحول دون التزام أرباب المهن بأداء الشهادة أمام القضاء - لما كان ذلك وكان الشارع عندما وضع المادة 310 من قانون العقوبات لم يعمم حكمها، بل إنه خص بالنص طائفة الأطباء والجراحين والصيادلة والقوابل وغيرهم، وعين الأحوال التي حرم عليهم فيها إفشاء الأسرار التي يضطر صاحبها أن يأتمنهم عليها باعتبار أن طبيعة عملهم تقتضي هذا الإطلاع، وهم فى سبيل قيامهم بخدماتهم للجمهور فإنه لا يصح التوسع فى هذا الاستثناء بتعدية حكمه إلى من عدا المذكورين فى النص كالخدم والكتبة والمستخدمين الخصوصيين ونحوهم فهؤلاء لا يضطر مخدوموهم إلى إطلاعهم على ما يرتكبونه من أعمال مخالفة للقانون.
(الطعن رقم 884 لسنة 22 جلسة 1953/07/02 س 4 ع 3 ص 1064 ق 370)
3- و إن كان يشترط فى دليل الإدانة أن يكون مشروعاً إذ لا يجوز أن تبنى إدانة صحيحة على دليل باطل فى القانون ، إلا أن المشروعية ليست بشرط واجب فى دليل البراءة ، ذلك بأنه من المبادئ الأساسية فى الإجراءات الجنائية أن كل متهم يتمتع بقرينة البراءة إلى أن يحكم بإدانته بحكم نهائى و أنه إلى أن يصدر هذا الحكم له الحرية الكاملة فى إختيار وسائل دفاعه بقدر ما يسعفه مركزه فى الدعوى و ما تحيط نفسه من عوامل الخوف و الحرص و الحذر و غيرها من العوارض الطبيعية لضعف النفوس البشرية ، و قد قام على هدى هذه المبادئ حق المتهم فى الدفاع عن نفسه و أصبح حقاً مقدساً يعلو على حقوق الهيئة الإجتماعية التى لا يضيرها تبرئة مذنب بقدر ما يؤذيها و يؤذى العدالة معاً إدانة برئ .
(الطعن رقم 1172 لسنة 36 جلسة 1967/01/31 س 18 ع 1 ص 128 ق 24)
((ملحوظة هامة تتعلق بالفقرة الثانية من هذه المادة: حيث ألغيت المواد 202 إلى 205 من قانون المرافعات "القديم" والمشار إليها في هذه الفقرة وذلك بصدور قانون المرافعات رقم 77 لسنة 1949 ثم ألغى ذلك القانون بصدور قانون المرافعات الجديد رقم 13 لسنة 1968.والذي جاء خالياً من مواد مماثلة، إلا أنه قد حلت محل هذه المواد المادتان 65 و 66 من قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية رقم 25 لسنة 1968)).
(مركز الراية للدراسات القانونية).
جريمة إفشاء أسرار المهنة:
الركن المادي فعل الإفشاء :
يتحقق الإفشاء بكل فعل يؤدي مباشرة أو بطريق غير مباشر إلى الإفضاء بالسر كله أو بعضه إلى الغير.
ويستوي أن يتحقق الإفشاء شفوياً (سواء في أثناء حديث شخصي أو خلال المناقشة أو المرافعة الشفوية أو التصريح الصحفي) أو كتابة (سواء في تقرير أو شهادة أو مقال صحفي).
ويستوي لتحقق الإفشاء أن يكون السر قد أفضى به إلى شخص واحد أو إلى عدد غير محدود من الناس. على أنه لا يتحقق بطبيعة الحال إذا رأى الأمين على السر أن يخبر به صاحب الشأن، كالطبيب الذي يخطر المريض بمرضه.
ولا يتحقق الإفشاء إذا أخطر به أفراد أسرته المصاحبين له عند الكشف الطبي عليه، على أساس أن حضورهم يفترض معه موافقته على معرفتهم أسرار مرضه، مادام الغرض من هذا الإخطار هو توصيتهم بالعناية به وفقاً لإرشاداته الطبية. ولا يتحقق أيضاً إذا أعطى الطبيب للمريض شهادة بمرضه فقدمها للغير، بناء على ذلك فإن المستشفى يمكنها إعطاء ملف المريض للخبير الذي تعينه المحكمة في الدعوى التي يرفعها المريض نفسه.
ويقع الإفشاء بغير موافقة صاحب الشأن تحت طائل التجريم ولو كان الشخص قريباً من صاحب الشأن، مادام لم يأذن له بكشف السر، ويلاحظ أنه إذا كان المريض يعالجه طبیبان فإنه يمكن لأحدهما أن يتبادل السر مع الآخر ماده ذلك بقصد العلاج، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الموكل الذي يباشر قضيته محامیان . والسر في هذه الحالة يتقاسمانه معا.
ولما كان افشاء السر جريمه يعاقب عليها القانون، فإن الدليل المستمد منها يعد غير مشروع ولا يجوز الاستناد إليه في الإدانة، ولو مع أدلة أخرى، لأن الأدلة في المواد الجنائية متساندة.
الركن المعنوي والقصد الجنائي :
لا تقع الجريمة ما لم يكن الإفشاء عمداً. فلا جريمة إذا كان الإفشاء بطريق الإهمال، دون إخلال بإمكان مساءلة المفشي للسر مدنياً عن خطئه.
ويتطلب القصد الجنائي أن يكون الجاني عالماً بالطابع السري للواقعة التي يفشيها، وأنها مودعة لديه بصفته أميناً على الأسرار، وأنا ما كانت تصل إلى علمه لولا صفته المهنية. أما إن كان جاهلاً بذلك انتفى القصد الجنائي. ولكن لا يتحرر من هذا القصد إذا اعتقد خطأ أنه ليس مكلفاً بالمحافظة على السر، لأن هذا الاعتقاد يدخل في عداد الخطأ بالقانون الذي لا يعذر به.
ولا يشترط قانوناً لتوافر الركن المعنوي قصد خاص وهو قصد الإضرار بالغير، فلا عبرة بالباعث على الإفشاء، شريفاً كان أو غير شریف.
العقوبة
نصت المادة 310 عقوبات المعدلة بالقانون رقم 29 لسنة 1982 على معاقبة الذي يفشي أسرار المهنة بالحبس مدة لا تزيد على ستة شهور أو بغرامة لا تجاوز خمسمائة جنيه مصري. ولا عقاب على الشروع في هذه الجنحة. (الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الطبعة السادسة 2016 الكتاب الثاني، الصفحة: 463)
إفشاء الأسرار
تعريف: إفشاء الأسرار هو كشف عن واقعة لها صفة السر صادر ممن علم بها بمقتضى مهنته ومقترن بالقصد الجنائي .
وقد نص الشارع على هذه الجريمة في المادة 310 من قانون العقوبات فقضى بأن «كل من كان من الأطباء او الجراحين أو الصيادلة أو القوابل أو غيرهم مودعاً إليه بمقتضى صناعته أو وظيفته سر خصوصي أؤتمن عليه فأفشاه في غير الأحوال التي يلزمه القانون فيها بتبليغ ذلك يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة شهور أو بغرامة لا تتجاوز خمسمائة جنيه مصری . ولا تسري أحكام هذه المادة إلا في الأحوال التي لم يرخص فيها قانوناً بإفشاء أمور معينة كالمقرر في المواد 202، 203، 204، 205 من قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية ».
علة التجريم: العلة المتبادرة إلى الأذهان أن الشارع أراد أن يحمى إرادة المجنى عليه في أن تظل بعض الوقائع سراً، فهي صورة من الحماية الجنائية للإرادة، ويبدو أن عبارة القانون تميل إلى هذه النظرة، فقد وصفت السر بأنه « مودع » لدى المتهم، أي جعلت العلاقة بين المتهم والمجنى عليه علاقة وديعة من نوع خاص موضوعها السر، وهذه العلاقة إرادية.
ولكن يعترض على ذلك بأن الحماية لا تقتصر على سرية الوقائع التي يكون المتهم قد علم بها عن طريق المجني عليه، وإنما تشمل ما يكون قد علم به عن طريق خبرته الفنية ولو كان المجني عليه نفسه يجهله، كالطبيب الذي يعلم عند فحصه المريض أنه مصاب بمرض يجهله ذلك المريض وبديهي أن مثل هذه الواقعة المجهولة من المجني عليه لا يمكن أن تكون موضوعاً لإرادته، وبالإضافة ذلك فمن العسير تكييف العلاقة بين المتهم والمجنى عليه بأنها وديعة، إذ أن موضوع هذا العقد منقول مادي، وليس السر كذلك وقد يكون من الأصوب القول بأن القانون يحمي مصلحة للمجني عليه في أن تبقى الواقعة سراً، وهذه المصلحة واضحة في أغلب الأحوال: فكون الواقعة سراً يعني أن حصر العلم بها في نطاق محدود أمر تقتضيه صيانة المكانة الاجتماعية لصاحب السر، ومؤدى ذلك أن إفشاء هذا السر يسيء إلى مكانته، أي يمس شرفه واعتباره، ويفسر ذلك إلحاق الشارع هذه الجريمة بالجرائم الماسة بالشرف والاعتبار وفي الحالات النادرة التي لا تكون فيها إذاعة الواقعة ماسة بالشرف والاعتبار فإن للمجني عليه مصلحة - مادية أو معنوية - في إبقاء الواقعة سرية، ويحمي الشارع هذه المصلحة.
ولكن علة التجريم لا تقتصر على ذلك : فقد أراد الشارع أن يكفل المباشرة السليمة المنتظمة لمهن هامة اجتماعياً تفترض فيمن يمارسونها أن يودع عملاؤهم لديهم أسرارهم، إذ أن هذه الأسرار هي موضوع نشاطهم المهني، فإذا لم يحفظوا هذه الأسرار تردد الناس - بل وعزفوا - عن الالتجاء إلى خدماتهم، فتتعطل بذلك مصالحهم وتتعطل هذه المهن، ويصيب المجتمع من جراء ذلك ضرر جسيم وعلى سبيل المثال فإن المريض يودع سره الصحى لدى طبيبه، والمتقاضي يودع سره القضائي لدى محاميه، فإذا كان الاحتمال الغالب أن يفشي كل منهما ذلك السر تردد أصحاب المصالح في الالتجاء إليهما مفضلين أن تضيع مصالحهم على أن تذاع أسرارهم وتعطلت بذلك مهنتا الطب والمحاماة ونال المجتمع ضرر كبير، ومن ثم تكون علة التجريم حماية هذه المصلحة الاجتماعية الهامة.
ويثور التساؤل حول ترجيح إحدى العلتين، ويبد أن الأصوب هو الجمع بينهما : فالشارع يحميهما معاً فمصلحة المجنى عليه قدر الشارع جدارتها بالحماية الجنائية، ويعني ذلك أنه قد أسبغ عليها أهمية اجتماعية، فثمة مصلحتان اجتماعيتان تجتمعان في علة التجريم؛ وإن كان لكل منهما دورها في تحديد جانب من أحكام هذه الجريمة.
نطاق التجريم: لا يجرم القانون إفشاء أي سر، وفي تعبير آخر فهو لا يعاقب كل شخص يفشي سراً، وإنما يقتصر التجريم على إفشاء أسرار تودع لدى من يمارسون مهناً تفترض في عملائهم اضطرارهم إلى إيداع أسرارهم لديهم، وبشرط أن تقوم الصلة بين السر ومباشرة المهنة، أي أن يكون السر مهنياً . وتطبيقاً لذلك فإنه لا جريمة في إفشاء يصدر عن صديق أو قريب أودع لديه صديقه أو قريبه سره، إذ لم يتلق السر باعتباره يمارس مهنة ما ولا جريمة كذلك في إفشاء يصدر عن خادم أو عامل في شأن سر أودعه لديه مخدومه أو رب عمله، فمهنته ليست من المهن التي تفترض الإيداع الاضطراري للسر ويعني ذلك أن هذه الجريمة هي من « جرائم ذوي الصفة الخاصة ». وهذا الحكم مستمد من العلة الثانية للتجريم.
وقد ثار الجدل حول ما إذا كان رضاء صاحب السر بإذاعته يعتبر سبب إباحة، والأرجح في تقديرنا أنه كذلك : فإذا كان هدف الشارع حماية مصلحة المجنى عليه في إبقاء الواقعة سراً، فإنه إذا ثبت أنه لم تعد له مصلحة في ذلك، بل قد تكون مصلحته في الإذاعة، فإن العلة الأولى للتجريم تنتفي، بل إن العلة الثانية تنتفي معها، إذ أن إفشاء من يمارس المهنة السر الذي أودع لديه بتصريح من صاحبه - ومن أجل مصلحته - لن يضير هذه المهنة في شيء.
أركان الجريمة، تقوم هذه الجريمة على أركان ثلاثة : ركن مادی، هو إفشاء السر؛ وصفة خاصة في الجاني : هي أن يكون ذا مهنة معينة؛ والقصد الجنائي.
الركن المادي لجريمة إفشاء الأسرار
عناصر الركن المادي لجريمة إفشاء الأسرار، يقوم هذا الركن على عنصرين : موضوع، هو السر ؛ وفعل إجرامي، هو الإفشاء .
تعريف السر واقعة أو صفة ينحصر نطاق العلم بها في عدد محدود من الأشخاص، إذا كانت ثمة مصلحة - يعترف بها القانون - الشخص أو أكثر في أن يظل العلم بها محصوراً في ذلك النطاق وعلى سبيل المثال، فالمرض الذي يعاني منه شخص واقعة ينحصر نطاق العلم بها في المريض والطبيب، وللمريض مصلحة يعترف بها القانون في ألا يتسع نطاق العلم بهذا المرض لشخص ثالث . والمتقاضي أفضى لمحاميه بمعلومات معينة متعلقة بالدعوي کي يستعين بها في دفاعه أو أطلعه على مستندات لها أهميتها في هذه الدعوى، وله مصلحة يعترف بها القانون في ألا تنتقل هذه المعلومات أو المستندات إلى خصمه.
ويتضح بذلك أن الضابط في اعتبار الواقعة سراً ذو شقين : يتعين أن يكون نطاق العلم بها محصوراً في أشخاص محدودين؛ وأن توجد مصلحة مشروعة في إبقاء العلم في ذلك النطاق ويعتبر العلم بالواقعة محصوراً في أشخاص محدودين إذا كان هؤلاء الأشخاص معينين، أما إذا كانت معلومة لعدد من الناس بغير تمييز فقد انتفت عنها بالضرورة صفة السر ويعني ذلك أنه إذا كان عدد من يعلمون بالواقعة كبيرا ولكنهم معينون فإن ذلك لا ينفي عنها صفة السر : فالمرض قد يعلم به أفراد أسرة المريض وعدد كبير من الأطباء يعالجونه، ومع ذلك تبقى له صفة السر وفي اللحظة التي تصير فيها الواقعة معلومة على سبيل التأكيد لعدد غير محدود من الناس بحيث لا يضيف الإفضاء بها مزيدا إلى نطاق العلم بها، فإنها تصير علنية، والعلانية تعني بالضرورة زوال السرية . ويفترض الضابط في اعتبار الواقعة سراً أن الشخص أو أكثر مصلحة مشروعة في أن يبقى العلم بالواقعة محصوراً في الأشخاص المحدودين الذين يعلمون بها، وهذا الشخص هو المجني عليه بإفشاء السر.
نظرية المصلحة :
تذهب هذه النظرية إلى اعتبار العنصر الأساسي في ضابط السر أن الشخص أو أكثر مصلحة مشروعة في أن يبقى نطاق العلم بالواقعة محصورا في أشخاص محدودين . فإذا لم تكن لشخص مصلحة في ذلك، كما لو كانت الواقعة لا تتصل بشخص ما، فإن صفة السر لا تثبت لها وتطبيقاً لذلك، فإذا أفضى باحث بحقيقة علمية اكتشفها إلى زميل له وسأله كتمانها ولكنه أذاعها فلا يسأل عن هذه الجريمة . وإذا كانت المصلحة في حصر نطاق العلم بالواقعة لا يقرها القانون فإن صفة السر لا تثبت لهذه الواقعة : فإذا أفضى شخص إلى صاحب مهنة يلتزم أفرادها بالكتمان بعزمه على ارتكاب جناية أو جنحة فأفشى ذلك فهو لا يرتكب جريمة، إذ المصلحة في الكتمان غير مشروعة.
وهذه النظرية صحيحة، وتفضل نظرية الإرادة التي ذهبت إلى أن ضابط السر هو اتجاه إرادة شخص إلى حصر نطاق العلم بالواقعة في أشخاص محدودین : فالمريض اتجهت إرادته إلى أن يحفظ الطبيب سر مرضه، وكذلك المتقاضي في علاقته بمحاميه ؛ وبطبيعة الحال فإنه لا يشترط أن تكون هذه الإرادة صريحة، فيجوز أن تكون ضمنية، فالطبيب والمحامي مثلا يلتزمان بالكتمان ولو لم يطلب منها صاحب السر ذلك صراحة استنادا إلى إرادته الضمنية . ولكن هذه النظرية يعترضها أنه في كثير من الحالات قد لا يكون صاحب السر عالما به، لأن المتهم قد اكتشفه بما له من خبرة فنية لا يحوز المجني عليه مثلها، كالطبيب يتبين له عند فحصه المريض أنه مصاب بمرض يجهله المريض نفسه، أو المحامي يستخلص من سياق حديث عميله أنه أتى من الأفعال ما يعد جريمة، وقد يكون هذا التكييف خافياً على العميل، فكيف يتصور القول بأن إرادته قد اتجهت إلى إبقاء الواقعة سرا وهو يجهل وجودها ؟ ذهبت هذه النظرية إلى القول بأن للمجني عليه في هذه الحالات إرادة مفترضة في أن تبقى الواقعة سراً، ولكن فكرة الإرادة المفترضة - بالإضافة إلى ما فيها من مجاز - تقود إلى نظرية المصلحة، إذ الإرادة المفترضة هي إرادة الشخص المعتاد إذا كان في ذات ظروف المجنى عليه، وبشرط ألا تكون مناقضة للقانون، وهذه الإرادة هي في حقيقتها المصلحة التي يعترف بها القانون.
وأهمية نظرية المصلحة، أنه إذا كانت حماية القانون للسر تستند إلى مصلحة اعترف بها القانون في كتمانه، فإنه إذا وجدت مصلحة أعلى مرتبة في إفشاء السر يعترف بها القانون كذلك فإنه يقوم على أساس من هذه المصلحة « سبب للإباحة » ينفي عن الإفشاء الصفة غير المشروعة.
وسائل العلم بالسر: الأصل أن يعلم المتهم بالسر عن طريق إيداعه لديه من قبل صاحب المصلحة في كتمانه، كالمريض أو المتقاضي يفضي بسره إلى طبيبه أو محاميه ولا يشترط في هذا الفرض أن يطلب صاحب المصلحة صراحة كتمان السر، بل يكفي أن ذلك يطابق إرادته الضمنية أو المفترضة، وهو ما يتحقق إذا كانت الواقعة سراً بطبيعتها وفقاً للضابط السابق ولا يتطلب القانون في مودع السر أن يكون ذا أهلية قانونية أو أن يكون العقد الذي يربط بينه وبين المتهم صحيحا : فالطبيب الذي يعالج مجنوناً أفضى إليه ببعض أسراره يلتزم بكتمانها، وكذلك يلتزم المحامي بكتمان أسرار عميله ولو شاب البطلان لسبب ما العقد الذي يربط بينهما، ذلك أن الالتزام بالكتمان ينبع عن صفة الواقعة وكونها سراً بطبيعته.
ولا يتطلب القانون أن يكون صاحب السر هو الذي أودعه بنفسه لدى الملتزم بكتمانه، فقد يودعه لديه زوج أو قريب أو شخص ما يعمل لمصلحته : فالطبيب يلتزم بكتمان السر الذي يفضي به إليه زوجة المريض أو إبنه.
بل يقوم الالتزام بالكتمان ولو كان مودع السر شخصاً يعمل ضد مصلحة صاحب السر : فإذا أفضى إلى المحامي خصم موكله بسر يعلمه عنه مبتغياً التشهير به لديه كان هذا المحامي ملتزما بكتمانه.
بل إنه لا يشترط أن يكون ثمة إيداع على الإطلاق : فالطبيب الذي تبين له عند فحصه المريض أنه مصاب بأمراض يجهلها المريض نفسه - ولا يستطيع العلم بها لعدم توافر الخبرة الفنية لديه - يلتزم بكتمانها. وإذا استطاع - بحكم درايته الفنية - أن يستنتج سبباً لهذا المرض، وقد يكون مشيناً للمريض أو عائلته، ومن ثم يحرص المريض على إخفائه عن الطبيب، يلتزم بكتمان هذا السر كذلك وإذا استدعى الطبيب لفحص شخص مغمى عليه فهو يلتزم بكتمان كل ما أتاح له فحصه أو استنتاجه أن يعلمه عنه، وذلك على الرغم من أنه لم يودع شيئاً، بل ولم يكن في استطاعته أن يودع شيئاً ويتضح بذلك أن النص لم يكن دقیقاً إذ تكلم عن سر « مودع »، فقد أشار إلى الوضع الغالب، ولكنه لم يحط بفروض ليست أقل أهمية، وتفرض فيها علة التجريم الالتزام بالكتمان.
اشتراط أن يكون السر مهنياً : يتعين أن تكون للسر صلة بالمهنة التي يمارسها المتهم بحيث يمكن أن يوصف بأنه سر مهني، أي علم به المتهم باعتباره صاحب مهنة معينة، ومن ثم محلا لثقة خاصة أو يحوز دراية فنية معينة، بحيث لم يكن في وسع شخص سواه أن يعلم به أما إذا لم يكن السر مهنياً في هذا المدلول فإن صاحب المهنة لا يلتزم بكتمانه.
وضابط انتفاء الصفة المهنية عن السر أن العلم به لا يفترض الثقة أو الفن المرتبط بمزاولة المهنة وتطبيقاً لذلك، إذا استدعى الطبيب لزيارة مريض في بيته فشاهد زوجة المريض تمزق وصيته، أو عاين ارتكاب زناً، أو سمع عرضاً محادثة تليفونية علم منها أن جريمة ارتكبت او على وشك أن ترتكب فهو لا يلتزم بكتمان شيء من ذلك، إذ ليس لأي من هذه الوقائع الطبيعة المهنية ولا يعترض على ذلك بأن الطبيب علم بهذه الوقائع باعتباره استدعى إلى البيت كطبيب، وأنه إذا لم يكن طبيبا لما كان قد استدعى، وأنه إذا لم يلتزم الأطباء بكتمان كل ما يصل إلى علمهم بهذه الصفة فإن الناس سوف يترددون في الاستعانة بهم، وفي ذلك إساءة إلى المهنة وإضرار بالمريض والمجتمع : ذلك أن صفة الطبيب وحدها لا تكفي لتحميله بهذا الالتزام، وإنما ينبغي أن يكون السر في ذاته مهنياً وفقا للضابط الذي سلف تفصيله، وهو ما لا يتوافر بالنسبة للوقائع السابقة.
وقد قرر القانون الإلتزام بالكتمان لمصلحة صاحب السر، ومن ثم لا محل له إذا كان يضار به، ولم تكن ثمة مصلحة اجتماعية أهم من الكتمان تصان نظير هذا الإضرار . وتطبيقا لذلك فإنه إذا استدعى الطبيب لعلاج امرأة فعالين بجسمها من الجروح ما استخلص منه أنها تعرضت لاعتداء إجرامي، أو فحص طفلا فشاهد بجسمه من الآثار ما استنتج منه أنه قد ناله اعتداء على عرضه، أو استدعي لعلاج مریض فاستخلص أن ما يعاني منه من أعراض ترجع إلى تسمم ارتكب ضده، فإن الطبيب لا يلتزم بكتمان ذلك ويفترض الالتزام بالكتمان أن السر تتضمنه العلاقة بين صاحب المهنة وشخص يستفيد في الصورة المألوفة من ممارسة هذه المهنة، وعلى سبيل المثال فإن السر الطبي يفترض أنه نشأ في إطار العلاقة بين الطبيب والمريض، أما إذا كان من تعامل مع الطبيب ليست له صفة المريض فإن الطبيب لا يلتزم بكتمان ما يعلمه عنه من أسرار وتطبيقاً لذلك فإذا علم طبيب بسبب ممارسته مهنته أن صيدلياً يتبع أساليب غير سليمة في تنفيذ التذاكر الطبية التي يتقدم بها إليه عملاء الطبيب، فإنه لا يلتزم بكتمان ذلك .
ولكن صاحب المهنة يلتزم بالكتمان أيا كان منشأ الواقعة التي توصف بالسر، فالمنشأ ذاته يوصف بأنه سر تبعاً لوصف الواقعة بذلك، وتطبيقاً لذلك فإنه إذا عالج الطبيب جريحاً وعلم منه أن سبب إصابته يرجع إلى ارتكابه جريمة قتل وتعرضه أثناءها لمقاومة المجني عليه كان الطبيب ملتزماً بكتمان جريمة عميله .
يجوز أن يكون السر واقعة سلبية : الأصل أن يكون السر واقعة إيجابية كتقرير أن المريض يعاني من مرض معين وأن له درجة معينة من الخطورة وأنه يرجع إلى سبب معين . ولكن يجوز أن يكون السر واقعة سلبية كتقرير أن المريض لا يعاني من مرض معين، وتطبيقاً لذلك فإن الطبيب يرتكب جريمة إفشاء الأسرار إذا أفضى لشخص - أو أعطاه شهادة - بنتيجة فحصه لمريض وأنه لا يعاني مرضا قط أو لا يعاني من مرض معین وعلة ذلك أن التقرير أو الشهادة السلبية يمكن أن تستخلص منه بعض المعلومات حول الحالة الصحية للمريض، وهي في مجموعها تعتبر سراً، فتقرير أن شخصاً لا يعاني من مرض معين قد يستخلص منه عن طريق الخبرة الفنية أنه يعاني من مرض آخر، مثال ذلك شخص تبدو عليه أعراض مرضين، فإعطاؤه شهادة سلبية في شأن أحدهما يعني بالضرورة أنه يعاني من الآخر . وتقرير أن شخصاً لا يعاني من مرض قط يستخلص منه أنه سليم الصحة، وقد تكون له مصلحة في ألا يعلم ذلك عنه من قبل هيئة أو شخص معين وبالإضافة إلى ذلك، فإنه إذا كان يحق للطبيب إعطاء شهادة سلبية في شأن مريضة فإن رفضه إعطاء هذه الشهادة قد يفسر بأنه مصاب بمرض أو أمراض معينة، ولذلك يكون إغلاق الباب دون هذا التفسير مقتضياً اعتبار السر متضمناً الوقائع الإيجابية والسلبية على السواء .
انقضاء السرية، تظل للواقعة صفة السر حتى تصير علنية، والضابط في اعتبارها كذلك أن تصير معلومة لعدد من الناس دون تمييز بحيث لا يكون في الاستطاعة السيطرة على نطاق العلم بها، ولا تكون ثمة صلة تجمع بين الأشخاص الذين قد يعلمون بها ويعني ذلك أنه إذا كثر عدد الأشخاص الذين يعلمون بالواقعة، فإنها لا تفقد صفة السر طالما كانوا جميعاً يلتزمون بالكتمان وكانت ثمة صلة تربط بينهم ولكن مجرد علم عدد من الناس دون تمييز بالواقعة لا ينفي عنها صفة السر إلا إذا كان هذا العلم يقينياً، أي يعلمون بها على أنها واقعة مؤكدة، أما إذا كان العلم بها مشوباً بالشك، أي مجرد إشاعة يشك جمهور الناس في حقيقتها، فإن صفة السر تظل لها، فإذا أكدها الشخص الملتزم بكتمانها كان تأكيده إفشاء لها، إذ أضاف إلى علم الناس بها جديداً، فقد حوله من شك إلى يقين . ومؤدى ذلك أنه إذا صارت الواقعة معلومة علناً على سبيل التأكيد فإن صفة السر تنتفي عنها ولا يقوم بترديدها إفشاء: وتطبيقاً لذلك، فإذا نشرت الجرائد تفاصيل الحادثة التي أفضت إلى إصابة المريض بجروح أو نشرت على لسانه سبب مرضه أو نشرت على لسان المتهم تفصيلاً لما اقترفه، فإن ترديد الطبيب أو المحامي ذلك لا يعتبر إفشاء.
تعريف الإفشاء هو إطلاع الغير على السر والشخص الذي يتعلق به ويعني ذلك أن الإفشاء في جوهره نقل معلومات، أي أنه نوع من الإخبار، وتتحدد عناصره بأمرين : موضوعه أي السر والشخص الذي يتعلق به.
والسر واقعة توافرت لها الخصائص التي سلف تفصيلها، ولكن مجرد الكشف عن هذه الواقعة لا يعتبر إفشاء، وإنما يجب أن يحدد الشخص الذي تتصل به، إذ أن بيان هذا الشخص شرط لتصور المجنى عليه في هذه الجريمة، ولتحقق علة التجريم في حماية مصلحة مشروعة لشخص ما وتطبيقا لذلك فإن الطبيب الذي ينشر مقالة علمية يشرح فيها أعراض مرض عالجه وأسلوبه في علاجه دون أن يعين المريض به ؛ والمحامي الذي يسرد في مجلة أو محاضرة تفاصيل دعوى دون أن يذكر من كانوا أطرافها لا يرتكبان جريمة إفشاء الأسرار . ولكن القانون لا يتطلب ذكر إسم المجني عليه، وإنما يكتفي بأن بعض معالم شخصيته قد حددت على نحو يكفي للتعرف عليه، أي يكفي أن يكون تعيينه نسبيا، ويعتبر من هذا القبيل نشر صورته؛ وقاضي الموضوع هو المنوط به القول بما إذا كان هذا التعيين كافيا لقيام الجريمة .
وتفترض فكرة الإفشاء أن الإخبار بالسر والشخص المتعلق به كان إلى «الغير» ويراد بالغير شخص لا ينتمي إلى هذه الفئة من الناس الذين ينحصر فيهم نطاق العلم بالواقعة التي توصف بالسر . ويعني ذلك أنه إذا كان الإفضاء بالسر إلى شخص ينتمي إلى هذه الفئة بحيث لم يتعد العلم النطاق الذي ينبغي أن يظل محصوراً فيه فلا يعد ذلك إفشاء وتطبيقاً لذلك، فإنه إذا كلف مريض طبيبين بأن يعالجاه فأفضى أحدهما إلى الآخر بمعلومات توصل إليها من فحصه للمريض فلا يعد ذلك إفشاء، بالإضافة إلى أن هذا الإفضاء يستند إلى رضاء ضمني من المريض مستخلص من تكليفه الطبيبين معا بعلاجه ونقرر ذات الحكم في حالة متقاض كلف محاميين معاً بالدفاع عنه، ولكن الحكم يختلف إذا كلف المريض طبيباً واحداً بعلاجه فأفضى بنتائج فحصه إلى طبيب آخر لم يكلفه بعلاجه، إذ يعد ذلك إفشاء.
وسائل الإفشاء : وسائل الإفشاء لدى القانون سواء، طالما أنها تحقق إخراج السر من النطاق الذي ينبغي أن يبقى محصوراً فيه، فسواء أن يكون الإفشاء شفوياً أو كتابياً عن طريق إعطاء الغير شهادة أو تقرير يتضمن السر، ولكن يلاحظ أنه لا يعتبر إفشاء إعطاء صاحب السر تقريراً متضمناً ذلك السر، كإعطاء الطبيب مريضه تقريراً عن مرضه، ولا يعتبر إفشاء إعطاء ذلك التقرير لشخص كلفه صاحب السر بأن يحصل عليه نيابة عنه ؛ وإذا ثبتت هذه النيابة فلا مسئولية على معطي التقرير إذا أفشى النائب السر الذي يتضمنه ولا يتحقق الإفشاء إذا دون الملتزم بالكتمان السر لنفسه کی يتناوله فيما بعد بالدراسة؛ ولكن عليه في هذه الحالة ألا يعرض هذه المعلومات لإطلاع الغير.
ويستوى لدى القانون أن يكون الإفشاء علنياً أو أن يتجرد من العلانية ومثال الإفشاء العلني أن يذيع الطبيب أو المحامي أسرار عملية في مقالة أو محاضرة علمية، وتطبيقاً لذلك يرتكب جريمة الإفشاء مؤلف كتاب طبي دلل على صحة النظريات الطبية التي يعرضها بذكر حالات مرضية عالجها وأسماء من كانوا يعانون منها . وتقوم الجريمة بالإفشاء المتجرد من العلانية، كما لو ضمن المتهم السر رسالة خاصة بعث بها إلى شخص من الغير، ولو طلب إليه أن يكتم ذلك السر ويتضح بذلك أنه يستوي لدى القانون أن يكون الإفشاء لشخص واحد أو لعدد من الأشخاص قليل أو كثير.
صور الإفشاء : تستوي لدى القانون صور الإفشاء : فسواء أن يكون الإفشاء صريحاً، وهي الصورة المعتادة له، أو أن يكون ضمنياً كما لو سمح الطبيب لشخص بأن يطلع على الأوراق التي دون فيها أسرار مرضاه ويستوي أن يكون الإفشاء تلقائياً أو غير تلقائي، ومثال الإفشاء غير التلقائي أن يكلف صاحب المهنة التي تلزمه بالكتمان بأداء الشهادة لدى القضاء في شأن الواقعة التي تعتبر سراً، فلا يدفع بالإعفاء من الشهادة الذي يقرره له القانون ويفشي السر .
وقد يتخذ الإفشاء صور الامتناع، ومثال ذلك أن يشاهد الملتزم بالكتمان شخصاً يحاول الإطلاع على الأوراق التي دون فيها أسرار عملائه، فلا يحول بينه وبين ذلك، على الرغم من استطاعته، ولكن مجرد الصمت من جانب الملتزم بالكتمان إزاء سؤال وجه إليه لا يعتبر إفشاء، وإن أمكن أن تستخلص منه - على سبيل التخمين - نتيجة معينة، إذ أن هذا الصمت لا يناقض واجباً قانونياً.
ويجوز أن يكون الإفشاء غير مباشر، وأهم صوره أن يقبل شخص مهمتين تفترض إحداهما الإفضاء بالمعلومات التي حصل عليها من الأخرى وكان ملتزماً بكتمانها، وتطبيقاً لذلك فإن الطبيب الذي عالج مريضاً لا يجوز له أن يقبل أداء عمل من أعمال الخبرة في شأنه، إذ أن الخبرة تلزمه بأن يفضي بمعلومات حصل عليها بعلاجه هذا المريض كطبيب خاص له ؛ ولا يجوز لمحام قبل الدفاع عن شخص واطلع على مستنداته وتلقى منه معلومات أن يتخلى عنه ويتولى الدفاع عن خصمه.
ولا عبرة بصفة من أفضى إليه المتهم بالسر، فيجوز أن يكون شخصاً يمارس ذات مهنته وكان محتملاً أن يأتمنه المجنى عليه على سره، ذلك أنه ائتمن شخصاً معيناً وثق فيه بالذات وقد لا يثق في سواه ولو كان يباشر ذات المهنة وكان بناء عليها يلتزم بكتمان أسرارها وتطبيقاً لذلك فالطبيب يرتكب جريمة الإفشاء إذا أفضى بسر مريضه إلى طبيب آخر لم يكلفه المريض بعلاجه، إذ يعد الزميل في المهنة من الغير طالما لا تربطه بالمجني عليه الصلة التي يفترضها علمه بسره.
يستوي الإفشاء الكلى والإفشاء الجزئي: يتحقق الإفشاء بإطلاع الغير على السر كله أو بعضه، ولو كان القدر الذي أطلعه عليه قليلا، كما لو أفضى الطبيب إلى الغير بواحد من أمراض عديدة يعاني منها المجني عليه، وإن لم يخطره في ذات الوقت بسبب إصابته به أو مقدار خطورته . ويتحقق الإفشاء كذلك إذا كان الغير يعلم شطراً من الواقعة أو علمها ولكنه يجهل كل ظروفها أو خصائصها أو يجهل بعضها، فعرفه المتهم بكل ما كان يجهله أو بعضه . ويتحقق الإفشاء إذا كان الغير يعلم من قبل بكل ما أفضى به إليه المتهم، ولكن كان علمه به على سبيل الشك، فلما أكدها له تحول علمه إلى علم يقيني، ذلك أن إضافة اعتبار يزيد في تقدير الغير من حجية الواقعة يعد إطلاعاً له على أمر كان مجهولاً لديه ولكن إذا كان الغير يعلم بالواقعة من قبل علم اليقين فإن إفضاء المتهم بها إليه لا يعد إفشاء، إذ لم يضف إلى معلوماته جديداً وتثور الصعوبات إذا كانت ثمة وقائع مرتبطة، وكان لبعضها فقط طابع السر، فهل يجوز للمتهم أن يفشي تلك التي ليس لها هذا الطابع ؟ ومرد الصعوبة إلى أن إفشاء الأخيرة قد ينطوي على إفشاء ضمني للأولى، بل إنه قد يوقع في الغلط في شأنها مما ينزل بالمجني عليه ضرراً أشد والرأي الصحيح في تقديرنا هو قيام الجريمة، إذا بعد ذلك إفشاء ضمنياً.
الشروع في الإفشاء: الشروع في الإفشاء متصور، ولكنه غير معاقب عليه ؛ ومثاله أن يمكن الطبيب لشخص من الدخول إلى الغرفة التي يحفظ فيها أسرار مرضاه ويسمح له بالاطلاع عليها، ولكن هذا الشخص لا يتمكن من ذلك وإذا أفضى المتهم بسر المجني عليه إلى شخص كان يعتقد أنه لا يعلم به، والحقيقة أنه يعلم به على سبيل اليقين، فالجريمة مستحيلة ولا عقاب عليها، وكذلك الحكم إذا كان المتهم يعتقد أن المجني عليه لم يصرح لذلك الشخص بالاطلاع على سره، والحقيقة أنه كان قد صرح له بذلك .
صفة الجاني
جريمة إفشاء الأسرار من جرائم ذوى الصفة الخاصة: لا يرتكب جريمة إفشاء الأسرار أي شخص، بل شخص ذو صفة معينة، وهذه الصفة مستمدة من نوع المهنة التي يمارسها، أي أنها صفة مهنية . والعلة في تطلب هذا الركن أن جوهر الجريمة هو إخلال بالتزام ناشئ عن المهنة وما يتفرع عنها من واجبات؛ بالإضافة إلى أن علة التجريم كما قدمنا هي الحرص على السير السليم المنتظم لمهن معينة ذات أهمية اجتماعية.
وهذه الصفة متطلبة في فاعل الجريمة، ومن ثم يجوز أن يكون الشريك فيها غير حائز هذه الصفة وهي متطلبة وقت إيداع السر (أو العلم به ) دون وقت إفشائه، وتطبيقا لذلك، فالطبيب أو المحامي الذي يفشي بعد اعتزاله المهنة سراً أودع لديه حينما كان يمارس مهنته يرتكب هذه الجريمة، ولكن لا تقوم الجريمة إذا أودع السر لديه بعد اعتزاله المهنة وكان ذلك بسبب الثقة التي ترتبط بماضيه المهني .
المهن التي تفترضها الجريمة، أشار الشارع في المادة 310 من قانون العقوبات إلى بعض هذه المهن حين قال « كل من كان من الأطباء أو الجراحين أو الصيادلة أو القوابل ... »، ولكن هذا البيان لم يرد علي سبيل الحصر، فقد أردفه الشارع بقوله « أو غيرهم مودعاً إليه بمقتضی صناعته أو وظيفته سر خصوصي أؤتمن عليه .. » وقد أضافت المادة 66 من قانون الإثبات (وهي ذات صلة وثيقة بهذه الجريمة إلى هذه المهن «المحاماة» . ولا شك في أن الجريمة تقوم إذا كان المتهم يمارس إحدى المهن التي أشار إليها القانون، ولكنها تقوم كذلك إذا كان المتهم يمارس مهنة أخرى تصدق عليها العبارة العامة التي وردت في النص، وهذه العبارة في حاجة إلى الضابط الذي يحددها، وتستخلص بتطبيقه المهن التي يتفرغ عنها الالتزام بالكتمان الذي يقرره القانون.
الضابط في تحديد المدن التي تفترضها الجريمة: هذا الضابط يستخلص من علة التجريم، فقد أراد الشارع كما قدمنا أن يؤمن السير السليم المنتظم لمهن تفترض فيمن يمارسونها أنهم يحوزون ثقة أو دراية فنية تجعلهم يعلمون بأسرار عملائهم . وبالإضافة إلى ذلك، فهذه الأسرار هی بعض أدوات عمل صاحب المهنة، إذ هو لا يستطيع أن يمارس مهنته ويحقق مصلحة عميله أو المصلحة العامة إلا إذا علم بهذه الأسرار؛ والعميل يلتجيء إليه ويودع لديه أسراره اضطراراً لأن مصلحته لا تتحقق إلا بالتجائه إلى واحد من أصحاب هذه المهنة وإيداع أسراره لديه أو إتاحة سبيل علمه بها وفي النهاية فهذه المهن هامة اجتماعيا حيث تتأذى المصلحة العامة إذا لم لم تؤمن لها وسائل ممارستها وأسباب نجاحها.
ويتضح بذلك أن الضابط في تحديد هذه المهن مركب، إذ يعتمد على عناصر أربعة : فهي مهن تفترض الثقة أو الدراية ؛ وهي لا تمارس إلا بالعلم بالأسرار، والالتجاء إلى أصحابها اضطراری، وهي هامة اجتماعياً ويمكن أن يجمل هذا الضابط في وصف أصحاب هذه المهن بأنهم « أهل الثقة المهنية الاضطرارية » وليس في استطاعتنا تحديد هذه المهن على سبيل الحصر، بل إن ذلك غير ممكن؛ فقد تنشأ في المستقبل مهن تتوافر لها عناصر هذا الضابط، ومن ثم يكون القول بما إذا كان المتهم يمارس إحدى المهن التي تفترضها هذه الجريمة من شأن قاضي الموضوع الذي يتعين عليه أن يحدد مهنة المتهم، ويستظهر الأسلوب المعتاد لممارستها، وما يتفرع عنها من التزامات، وما لها من أهمية اجتماعية، وما إذا كانت عناصر الضابط السابق - بناء على ذلك – تتوافر فيها .
ونذكر أمثلة لأصحاب هذه المهن: الأطباء والمحامون والقضاة والمحاسبون ورجال الدين وبعض فئات من الموظفين العامين ولا يدخل في هذا النطاق الصحفيون والسكرتيرون والعمال والخدم.
الأطباء : أشارت المادة 310 من قانون العقوبات إلى الأطباء صراحة، وأشارت إليهم كذلك المادة 66 من قانون الإثبات . ويعتبر الطب أهم المهن التي يلتزم ممارسوها بكتمان أسرار عملائهم لأنها أكثرها اعتماداً على هذه الأسرار، وهي أسرار قد تتصل بأدق تفاصيل الحياة الشخصية للمريض، وتنعكس على عائلته، وقد تتصل بسمعته، والأهمية الاجتماعية لهذه المهنة وما يلتزم به أصحابها من واجبات وتقاليد وأخلاق في غنى عن البيان وقد أردف الشارع إشارته إلى «الأطباء» بذكر «الجراحين» مع أن الجراحين نوع من الأطباء، ويكشف ذلك عن قصد الشارع أن يحيط بالأطباء كافة على اختلاف تخصصاتهم، بما في ذلك أطباء الأسنان؛ ولكن لا يدخل في نطاق النص الأطباء البيطريون وقد أشار الشارع إلى «القوابل»
ويستخلص من ذلك قصد الشارع أن يشير إلى جميع الأشخاص الذين يباشرون طبقا للقانون عملا طبيا وإن يكن ذلك محصوراً في عمل أو أعمال محدودة .
وقد أشار الشارع إلى «الصيادلة» وجرم بذلك إفشاءهم للسر الذي يعلمون به بسبب ممارستهم مهنتهم أو بمناسبتها : فالتذكرة الطبية بطبيعتها سرية، وقد يستخلص من الإطلاع عليها نوع المرض الذي اقتضته، وبناء على ذلك يعاقب الصيدلي إذا أفضى للغير بذلك وقد يستشير بعض الناس الصيدلي في علاج لأمراضهم فيفضون إليه بأسرارهم، فيلتزم بكتمانها وغني عن البيان أنه إذا أطلع الصيدلي مفتش الصيدليات على ما لديه من تذاكر طبية، فهو لا يرتكب جريمة، إذ ينفذ أمر القانون، ولكن هذا المفتش يلتزم بكتمان ما يعلمه من أسرار ويستخلص من إشارة الشارع إلى «الصيادلة» أنه قصد أن يشير إلى جميع المهن التي تكمل العمل الطبي أو تسانده، على نحو لا يتصور معه - بدون هذه المهن - أن تؤدي المهنة الطبية دورها الاجتماعي . فيعتبر من هذا القبيل مدير المستشفى وموظفوه ومساعدو الطبيب وممرضو المستشفى أو العيادة ؛ ولكن لا يدخل في ذلك النطاق الممرض الخاص الذي يستدعيه المريض للعناية به فيتفرغ له .
المحامون : يلتزم المحامي بكتمان أسرار عميلة التي أفضى بها إليه أو علم بها أثناء ممارسته مهنته أو بسببها : فمهنة المحاماة لا تتاح ممارستها في صورتها المعتادة إلا إذا علم المحامي بجميع وقائع الدعوى التي يطلب منه الدفاع فيها وأتيح له الاطلاع على جميع المستندات التي يحوزها موكله، وفي بعض الدعاوي لا يستطيع المحامي أداء مهنته إلا إذا علم بماضي موكله وظروف حياته وقد يكون منها ما له طابع شخصي بحت، ففي الدعاوى الجنائية يسند المحامى مطالبته بالظروف المخففة إلى عرض لظروف حياة موكله وبواعثه، وهو يفعل ذلك أيضاً حتى يطالب بجزء معين يراه أدني إلى مصلحة موكله ومقتضيات تأهيله . وقد يكون بعض ما يعلم به المحامي متصلاً بالشرف على نحو وثيق كالوضع في دعوى طلاق للزنا أو دعوى إثبات بنوة وبالإضافة إلى ذلك فالمتقاضون يضطرون في سبيل الدفاع عن مصالحهم إلى الإلتجاء إلى المحامين وإيداع ثقتهم فيهم، وهم يضطرون إلى ذلك حين يشترط القانون الاستعانة بمدافع، أو حين يتطلب الدفاع دراية بالقانون أو بالأسلوب الملائم لعرض الوقائع على القضاء وإقامة الدليل عليها وفي النهاية فإن مهنة المحاماة هامة اجتماعياً، إذ لا يتاح للقاضي الحديث أن يؤدي عمله في الصورة التي تقتضيها مصلحة المجتمع واعتبارات العدالة وتلائم المبادئ الحديثة في القانون ما لم يتلق العون من المحامي.
ويراد بالمحامى كل شخص يتولى - طبقاً للقانون – الدفاع عن مصالح المتقاضين لدى القضاء بالوكالة عنهم، سواء أقام بعمله نظير أجر أم تطوعاً، ولا أهمية لما إذا كان القانون يطلق عليه لقب المحامي أم يطلق عليه لقباً آخر، وقد يكون لفظ «المدافع» أصدق دلالة على من يؤدي هذه المهمة . ويمتد الالتزام بالكتمان إلى جميع مساعدي المحامي إذا علموا بسبب عملهم أو بمناسبته بسر الموكل، فيشمل وكيل المحامي وسكرتيره . ويشمل الإلتزام بالكتمان كل ما علم به المحامي بحكم خبرته الفنية ولو لم يكن الموكل هو الذي أفضى به إليه .
ويرتكب المحامي جريمة إفشاء الأسرار إذا أفضى بسر موكله إلى الغير، وأبرز صورة لذلك أن يفضي به إلى خصم موكله أو إلى محاميه، أو يفضي به إلى الصحافة، أو إلى محام آخر طالما أن موكله لم يعهد إليه بالدفاع عنه ولم يضع فيه ثقته، أو يفضي به إلى رجل قانون أكثر دراية ليستنير برأيه طالما أن الموكل لم يصرح له بذلك.
ولكن المحامي لا يرتكب هذه الجريمة إذا أفضى بأسرار موكله إلى القضاء في شأن الدعوى التي يدافع فيها وفي الحدود التي يقتضيها الدفاع عن مصلحة موكله . ويتسع تعبير «القضاء» لقضاء التحقيق وقضاء الحكم وقضاء التنفيذ، ويتسع للنيابة العامة وموثق العقود، بل إنه يتسع لمساعدی القضاء إذا تطلبت مصلحة الموكل الإفضاء إليهم بسر معين، وأهم أمثلة لهم المحضرون . ويتضح بذلك أن ثمة فارقاً جوهرياً بين السر الطبي «وسر الدفاع» الذي يلتزم المحامي بكتمانه : فعلى حين يتخذ السر الطبى نطاقاً عاماً فيحظر على الطبيب أن يفضي إلى شخص ما بسر مريضه، فإن المحامي يحق له - بل يجب عليه - أن يبلغ القضاء من أسرار موكله ما يقتضيه الدفاع عن مصلحته في خصوص الدعوى التي وكله عنه فيها .
وفي العمل يفضى العميل إلى محاميه بما لديه من معلومات متعلقة بالدعوى التي وكله فيها ويسلمه ما لديه من مستندات في شأنها، وعلى المحامي أن ينتقي منها - حسب ما لديه من خبرة فنية - المعلومات والمستندات التي تدعم مصلحة موكله ويتقدم بها إلى القضاء الذي ينظر في الدعوى الموكل فيها ؛ أما ما عدا ذلك فيجب عليه أن يحفظها سرا ويحظر عليه إفشاءها . ويعني ذلك أن المحامي لا يرتكب جريمة إفشاء الأسرار إذا اجتمعت الشروط الآتية : أن يكون الأفضاء بسر الموكل إلى القضاء الذي ينظر في الدعوى الخاصة به؛ وأن يكون ذلك بالقدر الذي تقتضيه مصلحة الموكل ؛ وأن تكون نية المحامي حسنة بأن يستهدف هذه المصلحة وتطبيقاً لذلك فإن المحامي يرتكب جريمة إفشاء الأسرار - بالإضافة إلى الفروض التي سلفت الإشارة إليها - إذا أفضى بسر الموكل إلى قضاء آخر غير الذي ينظر في دعواه، أو أفضى إلى القضاء الذي ينظر في الدعوى بمعلومات لا تقتضيها مصلحة الموكل، أو ساعت نيته بأن ثبت استهدافه غرضا آخر غير هذه المصلحة وتحديد ما إذا كانت المعلومات التي أفضى بها المحامي تقتضيها مصلحة الموكل متروك لضمير المحامي وحسن تقديره ودرايته الفنية؛ والأصل أنه حسن النية، ولذلك تعين على من يدعى العكس أن يثبت ذلك.
ويلتزم المحامي بكتمان سر موكله ولو كان ينطوي على جريمة ارتكبها، فإذا تبين للمحامي أن ما صدر عن موكله من سلوك يوصف بالجريمة وكان هذا التكييف خافيا على السلطات العامة أو تبين له أن ما صدر عن موكله ليس جريمة واحدة كما جاء في تقرير الاتهام وإنما جريمتان، كان محظوراً عليه إبلاغ ذلك ولكن إذا أفضى موكله إلى محاميه بعزمه على ارتكاب جناية أو جنحة كما لو طلب معونته في تزوير عقد أو استطلع رأيه في أداء الشهادة زوراً كان للمحامي أن يبلغ عن ذلك، ويستفيد في هذه الحالة من سبب إباحة، إذ ينفذ أمر القانون (المادة 66 من قانون الإثبات) . وتثور الصعوبة إذا أفضى الموكل لمحاميه بأنه ارتكب جريمة، وكان المحامي يعلم أن شخصا بريئا قد اتهم بهذه الجريمة وأنه مهدد بعقوبة جسيمة (قد تكون الإعدام) : فإذا قلنا بحظر إبلاغ ذلك فمؤداه أن يتورط القضاء في خطأ جسيم وأن تنفذ العقوبة في بريء وتضار المصلحة العامة ضرراً جسيماً في حين كان في وسع المحامي أن يحول دون ذلك، بالإضافة إلى أن هذا السلوك غير جدير بصاحب مهنة تستهدف خدمة العدالة . لذلك نرى جواز إبلاغ المحامي عن موكله، ويستفيد في هذه الحالة من سبب إباحة سنده ترجيح مصلحة الشخص البريء ومصلحة المجتمع على مصلحة الموكل المجرم وإذا قلنا بجواز ذلك الإبلاغ فمعنى ذلك أننا لا نقول بوجوبه، فإذا لم يبلغ المحامي عن موكله وفضل أن يخفي جريمته فلا لوم عليه .
القضاة : يصدق على القضاة أنه «تودع لديهم بمقتضى وظائفهم أسرار» فيلتزمون بكتمانها، ويمتد الالتزام بالكتمان إلى كل واقعة تتوافر لها صفة السر علم بها القاضي بسبب وظيفته أو بمناسبتها ؛ وتقوم بالإخلال بهذا الالتزام جريمة إفشاء الأسرار . وأهم ما يلتزم القاضي بكتمانه هو أسرار المداولة، وقد حرص الشارع على تقرير هذا الالتزام : فالمادة 74 من قانون السلطة القضائية تنص على أنه «لا يجوز للقضاة إفشاء سر المداولات »، وقد سبق أن نصت المادة 166 من قانون المرافعات على أن « تكون المداولة في الأحكام سراً بين القضاة مجتمعين ». ويعتبر إفشاء السر المداولة أن يقرر قاض أن الحكم الذي اشترك في مداولاته قد صدر خلافاً لرأيه ولا يقتصر الالتزام بالكتمان على أسرار المداولة، وإنما يمتد إلى كل واقعة ذات صفة سرية، وتعتبر من هذا القبيل إجراءات التحقيق الإبتدائي ونتائجها (المادة 75 من قانون الإجراءات الجنائية) ولا محل لهذا الإلتزام إذا كان ما أذاعه القاضي هو في شأن واقعة لا تتوافر لها صفة السرية لأنها كشفت أو أثيرت في الجلسة العلنية.
ويتسع نطاق الإلتزام بالكتمان لجميع القضاة أياً كان اختصاصهم ودرجاتهم وألقابهم القضائية، فيتسع لرجال القضاء العادي والإداري والعسكري على السواء ويمتد هذا الالتزام إلى رجال النيابة العامة، وإلى أعوان القضاة، وأهم أمثلة لهم المحضرون وأمناء السر والكتبة والمترجمون .
الموظفون العامون : يرتكب الموظف العام جريمة إفشاء الأسرار إذا أفضى إلى الغير بالسر الوظيفي، أي السر الذي يكون قد علم به بسبب وظيفته أو بمناسبتها، إذ يصدق عليه أنه « تودع لديه بمقتضى وظيفته أسرار » . ولكن هذا الحكم لا يشمل جميع الموظفين، وإنما يقتصر على فئات منهم لا يستطيع أفرادها ممارسة اختصاصهم إلا إذا أودعت لديهم أسرار، لأن هذه الأسرار هي موضوع عملهم أو هي وسيلتهم إلى تحقيق المصلحة المنوطة بهم، ومن ثم يمكن القول بأن الدولة تضطر إلى إيداعها لديهم أو إتاحة سبيل علمهم بها، وفي الغالب يمثل عملهم أهمية اجتماعية خاصة وتحديد هذه الفئات يقتضي فحص الاختصاص المخول لأفرادها والتحقق من توافر الخصائص السابقة فيه، وهذا البحث من شأن قاضي الموضوع. وقد يضع الشارع نصوصا تفرض هذا الإلتزام وتجدد جزاء الإخلال به، ويغلب أن تكون العقوبة أشد مما نصت عليه المادة 310 من قانون العقوبات أما من عداهم من الموظفين فلا يسألون عن إفشاء الأسرار الوظيفية سوى مسئولية تأديبية.
ويتعين لنشوء المسئولية الجنائية أن تتوافر لاختصاص الموظف الخصائص السابقة التي تجعل منه « أهل ثقة وظيفية اضطرارية » من جانب الدولة ؛ ويتعين أن يكون الإفشاء عمدياً ومن فئات الموظفين الذين يرتكبون جريمة إفشاء الأسرار إذا أفضوا إلى الغير بالسر الوظيفي الموظفون الذين يحوزون الأسرار العسكرية والأسرار الدبلوماسية والأسرار السياسية العليا؛ ورجال مصلحة الضرائب فيما يتعلق بأسرار الممولين التي يعلمون بها عن طريق ما يقدمونه إليهم من إقرارات أو ما يجريه هؤلاء الموظفون من تحقيق؛ ورجال الشرطة بالنسبة لما يعلمون به من أسرار الناس إذا أفضوا بها لغير من يلزمهم القانون أو يجيز لهم الإفضاء بها؛ ورجال البريد والهاتف والبرق إذا أذاعوا أسرار المراسلات المغلقة أو المفتوحة أو أسرار المكالمات الهاتفية أو البرقيات التي يتاح لهم الاستماع لها أو الإطلاع عليها.
رجال الدين : يلتزم رجال الدين بكتمان ما يعلمونه من أسرار بسبب صفتهم وما يرتبط بها من ثقة قد تبلغ أوسع نطاق، وسواء أكان رجل الدين موظفاً عاماً أم لم يكن كذلك، إذ تصدق عليهم جميع الخصائص التي تجعل منهم « أهل ثقة اضطرارية »، ذلك أن الناس يلتجئون إليهم تحقيقا الاعتبارات دينية لا تتحقق إلا عن طريقهم . فإذا أفضى شخص لرجل الدين باعتراف ما قبل الموت كان ملتزما بالمحافظة المطلقة على أسرار هذا الاعتراف؛ وإذا أفضى شخص إلى رجل الدين بسر خطيئة ارتكبها کی يساعده على التوبة منها التزم بكتمان هذا السر ولو كانت هذه الخطيئة جريمة؛ وإذا عرف شخص رجل الدين بمقدار ثروته كي يحدد مقدار الزكاة المفروضة عليها كان عليه كتمان ذلك ؛ وإذا أسر شخص لرجل الدين ببعض تفاصيل العلاقة بينه وبين زوجه کي يستفسر عن حكم الدين فيها كان ملتزما بكتمان هذه الأسرار .
المهن التي لا يلتزم أفرادها بكتمان السرة هذه المهن عديدة، وهي بصفة عامة جميع المهن التي لا تتوافر لأفرادها الخصائص التي تجعل منهم « أهل ثقة مهنية اضطرارية ». وأهم أمثلة لهذه المهن الصحافة : فالصحفي مهنته نشر الأخبار والآراء في أوسع نطاق، ولذلك لا يتصور أن يتفرع عن مهنته التزام بالكتمان . إذا يناقض طبيعة المهنة ورسالتها الاجتماعية ؛ ويلحق بالصحفيين رجال الإعلام على تنوع صوره ووسائله . وكذلك لا يلتزم العامل أو الخادم بكتمان ما يعلمه من أسرار رب عمله أو مخدومه، إذ لا اضطرار إلى إيداع السر لديه ومن باب أولى فإنه لا عقاب على صديق أو قريب أفشى ما أودع لديه أو علم به من أسرار صديقه أو قريبه، فلا اضطرار إلى الأفضاء بالسر له.
الركن المعنوي لإفشاء الأسرار
صورة الركن المعنوي لجريمة إفشاء الأسرار : هذه الجريمة عمدية، ومن ثم يتخذ ركنها المعنوي صورة «القصد» . والنتيجة التي تترتب على ذلك أنه لا قيام لهذه الجريمة إذا لم يتوافر لدى المتهم بها «القصد» ؛ ولو توافر لديه خطأ في أجسم صوره وتطبيقاً لذلك، فإن الطبيب الذي يدون أسرار مريض في ورقة ثم يتركها إهمالاً في مكان تتعرض فيه الأنظار الغير فيطلع عليها شخص، هذا الطبيب لا يرتكب جريمة إفشاء الأسرار ولا يسأل عن هذه الجريمة كذلك المحامي الذي يبعث إلى موكله رسولا يحمل ورقة دون فيها بعض أسرار عملية ولا يتخذ احتياطيات كافية تحول دون اطلاع الرسول على هذه الأسرار .
عناصر القصد المتطلب في جريمة إفشاء الأسرار: القصد المتطلب في هذه الجريمة قصد عام، وقد هجر الرأي الذي كان يتطلب في هذه الجريمة قصدا خاصا قوامه « نية الأضرار » بمن أفشي سره، وتوصف هذه النية في الفقه الحديث بأنها مجرد باعث لا يحول انتفاؤه دون توافر القصد وهذا الرأي صحيح : فبالإضافة إلى أن النص لا يتضمن عبارة يفهم منها اشتراط القصد الخاص، فإنه ليس من خصائص السر أن يترتب على إفشائه ضرر، فثمة حالات عديدة لا يترتب فيها على الإفشاء ضرر ولو محتمل؛ ثم إن علة التجريم ليست الحماية من ضرر، وإنما ضمان السير السليم المنتظم لبعض المهن، وهو ما لا يرتبط بضرر أو نية إضرار .
ويقوم القصد في هذه الجريمة على عنصريه : العلم والإرادة : فيتعين أن يعلم المتهم بأن للواقعة صفة السر، وأن لهذا السر الطابع المهني، وأن يعلم أن له المهنة التي تجعل منه مستودعاً للأسرار، وأن يعلم أن المجني عليه غير راض بإفشاء السر فإذا اعتقد المتهم أن الواقعة ليست لها صفة السر، كما لو اعتقد الطبيب أن المرض أو العجز اليسير ليس سراً فأذاعه؛ أو اعتقد المحامي أن الواقعة التي أخطره بها موكله هي لإنذار الخصم في شأنها فأبلغه بها، فإن القصد ينتفي لدى كل منهما وإذا اعتقد المتهم أنه ليست للسر صلة بمهنته، أو جهل مهنته، كما لو كان الموظف لم يخطر بعد بقرار تعيينه في المنصب الذي يلتزم شاغله بكتمان السر الوظيفي الذي يعلم به، أو اعتقد أن المجنى عليه راض بإفشاء السر إلى شخص معين كما لو ظن الطبيب أن المريض راض بإخطار زوجته بمرضه فأفضى به إليها فإن القصد ينتفي في جميع هذه الحالات . وغنى عن البيان أن الجهل أو الغلط الذي ينفي القصد هو - تطبيقاً للقواعد العامة - ما يتعلق بالوقائع أو بالتكييف القانوني غير الجنائي . أما إذا تعلق بالتجريم في ذاته فهو لا ينفي القصد : فإذا كان الطبيب أو المحامي يعلم أن للواقعة صفة السر المهني، ولكنه يعتقد أن مهنته ليست من المهن التي يلتزم أفرادها بكتمان السر أو يعتقد توافر سبب إباحة لا يعترف به القانون فإن القصد يعد - على الرغم من ذلك - متوافراً لديه.
ويتعين أن تتجه إرادة المتهم إلى فعل الإفشاء وإلى النتيجة التي تترتب عليه، وهي علم الغير بالواقعة التي لها صفة السر، وفي تعبير آخر فإنه يتعين أن تتجه إرادة المتهم إلى الفعل الذي يمكن به الغير من أن يعلم بالواقعة، وأن تتجه كذلك إلى توفير هذا العلم لديه .
البواعث إلى إفشاء السرة تخضع جريمة إفشاء الأسرار للقاعدة العامة التي تقضي بأن البواعث ليست من عناصر القصد وأن نبلها لا يحول دون توافره . وتطبيقاً لذلك، فإذا ثبت تخلف نية الإضرار لدى المتهم واستهدافه أمراً آخر - قد يكون في ذاته غير مرذول - فإن القصد يعد متوافراً لديه: فإذا كان الطبيب الذي نشر في صحيفة علمية سر مريضه يستهدف بذلك خدمة البحث العلمي، أو كان يستهدف مصلحة عميله نفسه كما لو أراد بإفشاء مرضه أن يخلصه من خدمة أو عبء عام يفترض صحة من يحمل به، أو كان يستهدف حماية سمعة ورثته والدفاع عن ذكراه، فإن القصد يعد مع ذلك متوافراً لديه.
عقوبة إفشاء الأسرار
مقدار العقوبة : حدد الشارع عقوبة جريمة إفشاء الأسرار بالحبس الذي لا تجاوز مدته ستة شهور أو الغرامة التي لا تتجاوز خمسمائة جنيه. ويعني ذلك أن القاضي يختار إحدى العقوبتين ولكن ليس له أن يجمع بينهما.
والشروع في هذه الجريمة متصور، ولكنه ليس معاقباً عليه والاشتراك متصور فيها، ولو كان الشريك لا يحمل الصفة التي يتطلبها القانون في الفاعل .
بيانات حكم الإدانة: يتعين أن يتضمن حكم الإدانة بياناً واضحاً للواقعة التي أفشاها المتهم والمهنة التي يمارسها وفعل الإفشاء الذي صدر عنه : فبيان الواقعة يتيح لمحكمة النقض أن تتحقق من صفتها كسر، وبيان المهنة يتيح لها أن تتحقق من الطبيعة المهنية للسر ومن أن هذه المهنة هي إحدى المهن التي يلتزم أفرادها بكتمان السر ولا تلتزم محكمة الموضوع بالتحدث عن القصد استقلالاً، فإذا أثبتت أن للواقعة صفة السر افترض علم المتهم بذلك والأصل في فعل الإفشاء أنه إرادي ولا تلتزم المحكمة من باب أولى أن تتحدث عن البواعث إلى الجريمة ولكن إذا دفع المتهم بانتفاء القصد لديه كان هذا الدفع جوهرياً، والتزمت المحكمة بأن ترد عليه رداً مدعماً بالدليل ؛ وكذلك الحال إذا دفع بتوافر سبب للإباحة.
أسباب إباحة إفشاء السر
تمهيد : تسري على إفشاء الأسرار جميع أسباب الإباحة التي يعترف بها القانون، ولكن لبعض هذه الأسباب أهمية خاصة في هذه الجريمة، أو هي تثير مشاكل تقتضي أن يوضع لها تنظيم خاص، ونشير فيما يلي إلى أهم هذه الأسباب.
تنفيذ أمر القانون أو استعمال حقه : إذا ألزم القانون صاحب مهنة يلتزم أفرادها بكتمان السر المهني بأن يبلغ عن بعض الأسرار التي علم بها أو خوله الحق في ذلك من أجل حماية مصلحة خاصة له أو مصلحة عامة أناط به حمايتها، فإنه لا تقوم بهذا الإبلاغ بداهة جريمة وقد حرص الشارع على تقرير هذه الإباحة صراحة فجعل قيام الجريمة مرتهناً يكون الإفشاء في غير الأحوال التي يلزم فيها القانون بالتبليغ (المادة 310 من قانون العقوبات) ؛ ويمكن إسناد هذه الإباحة إلى المادة 60 من قانون العقوبات و إلى المبادئ العامة في القانون التي تأبى أن يتناقض الشارع، وهو ما يتحقق إذا ما عاقب على أمر ألزم أو رخص به.
وليس في الإمكان وضع قاعدة عامة تجتمع فيها «حالات وجوب التبليغ أو جوازه »، ونقتصر فيما يلي على إيراد أمثلة لها : نصت المادة 84 من قانون العقوبات على عقاب « كل من علم بارتكاب جريمة مخلة بأمن الدولة من جهة الخارج ولم يبلغ عنها السلطات المختصة »، وتضمنت المادة 98 من قانون العقوبات نصا مماثلا بالنسبة لمن علم بوجود مشروع لارتكاب بعض الجرائم المخلة بأمن الدولة من جهة الداخل ولم يبلغ عنه السلطات المختصة . وهذا الأمر يسري على أصحاب المهن التي يلتزم أفرادها عادة بالكتمان : فمن ناحية جاء نص هاتين المادتين عاما فلم يفسح مجالاً لاستثناء أصحاب هذه المهن ؛ ومن ناحية ثانية فإن المصلحة التي استهدف هذان النصان حمايتها تعلو على كل مصلحة لصاحب السر في كتمانه بحيث لا يتصور أن يكون المشرع قد أراد الإبقاء على التزام بالكتمان في هذه الحالات . ومن هذه النصوص المادة 26 من قانون الإجراءات الجنائية التي تنص على أنه «يجب على كل من علم من الموظفين العموميين أو المكلفين بخدمة عامة أثناء تأدية عمله أو بسبب تأديته بوقوع جريمة من الجرائم التي يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى عنها بغير شكوى أو طلب أن يبلغ عنها فوراً النيابة العامة أو أقرب مأمور من مأموري الضبط القضائي ». ويستفيد من هذه الإباحة الموظف أو المكلف بخدمة عامة، والفرض أن وظيفته أو خدمته من ذلك النوع الذي يلتزم شاغلوه بكتمان ما يعلمونه من الأسرار الوظيفية، والإباحة مقتصرة على الوقائع التي تتوافر لها الخصائص التي أشار النص إليها، أما ما عداها فيبقى الإلتزام بالكتمان في شأنها قائماً ولكن لا تدخل في هذه النصوص المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية التي تفرض التزاماً مماثلاً على الناس كافة، إذ يستثنى منه أصحاب المهن التي يلتزم أفرادها بالكتمان، وهو ما يفرضه التنسيق بين هذا النص والمادة 310 من قانون العقوبات .
ولكن أهم النصوص في هذا الشأن هو عجز المادة 66 من قانون الإثبات التي استثنت من حظر الإفشاء « حالة ما إذا كان ذكر الواقعة أو المعلومات مقصوداً به ارتكاب جناية أو جنحة » . ويعني ذلك أن القانون قد أقام تفرقة بين وضعين : إذا كانت المعلومات التي أفضى بها صاحب السر متضمنة أنه ارتكب جريمة، وإذا كانت هذه المعلومات متضمنة عزمه على ارتكاب جريمة في المستقبل ؛ ففي الوضع الأول تقوم بالإفشاء جريمة، وفي الوضع الثاني يستفيد صاحب المهنة من سبب إباحة، ومثال ذلك أن يستطلع شخص طبيباً رأيه في ارتكاب جريمة إجهاض أو يستطلع محامياً رأيه في تزوير عقد أو أداء الشهادة زوراً.
رضاء المجني عليه، إذا رضي صاحب السر بأن يفشيه من أودعه لديه - أو علم به بسبب مهنته أو بمناسبتها - فهل تقوم بهذا الإفشاء جريمة، أم يكون له أن يحتج بذلك الرضاء كسبب الإباحة الافشاء ؟
أنكرت بعض الآراء على الرضاء أن يكون سببا لإباحة هذه الجريمة، وأهم ما احتجت به أن تجريم الإفشاء لم يقرر حماية لمصلحة المجني عليه خاصة فيكون له أن ينزل برضائه عنها، وإنما قرر حماية لمصلحة المجتمع في السير السليم المنتظم لمهن اجتماعية، وليست للمجني عليه صفة في النزول عن هذه المصلحة.
ولكن هذا الرأي غير صحيح : فصاحب السر له أن يفشيه، ولا جريمة في فعله، إذ يعتبر نوعا من تصرفه في حقه، ومن ثم لا يجوز أن تقوم جريمة إذا تصرف في ذلك الحق عن طريق غيره، بأن رخص له بإبلاغ السر إلى شخص ما أو إذاعته بوسيلة ما، وسند هذه الإباحة المبدأ العام الذي يقرر أنه « حيث يحق للمجني عليه أن يتصرف في حقه يكون رضاؤه بأن يمس الغير به سبب إباحة لهذا المساس » وبالإضافة إلى ذلك، فإن صاحب السر قد تكون له مصلحة في أن يبلغ المودع لديه هذا السر شخصاً أو هيئة معينة، كما لو كانت له مصلحة في أن يؤدي في شأنه الشهادة لدى القضاء أو يدون في شأنه تقريراً ويبلغه إلى هيئة معينة : فإذا كان صاحب المهنة يخشى العقاب إذا أدى الشهادة أو أبلغ التقرير فهو حتما يرفض ذلك، وهذه النتيجة - بالإضافة إلى إضرارها بالمصلحة العامة – فهي تضير صاحب السر نفسه، وهو أمر غير منطقي، إذ أن مصلحته كانت ذات اعتبار في تجريم الافشاء وهذا الرأي لا ينكر أن علة التجريم هي حماية مصلحة عامة، ولكنه يقرر أن هذه المصلحة لا تهدر إلا إذا كان إفشاء السر بغير رضاء صاحبه، لأنه إذا كان برضائه فهو في نطاق التصرفات القانونية الصحيحة التي تعترف بها هذه المصلحة، ويلاحظ أن إفشاء صاحب المهنة السر برضاء صاحبه لا يمس الثقة التي توضع في هذه المهنة، إذ أن من يمارسها لم يفعل غير تنفيذه إرادة صاحب السر وتحقيق مصلحته . وقد تبنت هذا الرأي محكمة النقض، فقضت أنه «لا عقاب بمقتضى المادة 310 من قانون العقوبات على إفشاء السر إذا كان لم يحصل إلا بناء على طلب مستودع السر »؛ وأقره الشارع، فالمادة 66 من قانون الإثبات تنص في فقرتها الثانية على أنه « يجب على الأشخاص المذكورين أن يؤدوا الشهادة على تلك الواقعة أو المعلومات متى طلب منهم ذلك من أسرها إليهم » .
النتائج المترتبة على اعتبار الرضاء سبب إباحة: أهم هذه النتائج أن صاحب المهنة لا يرتكب جريمة إذا أفشي السر الذي أودع لديه أو علم به، ونلاحظ أن صاحب المهنة لا يلتزم بإذاعة السر إذا رضي بذلك صاحبه، وإنما يصير ذلك جائزاً له فحسب، فإذا رأى أن يمتنع عن الإفضاء به على الرغم من الرضاء فلا مسئولية عليه، وهو يفعل ذلك إذا شك في صدور الرضاء عن إرادة حرة، أو قدر أن واجبه المهني يفرض عليه الكتمان، ولا يمكن القول بغير ذلك إلا إذا تضمن العقد الذي يربط بينهما التزاماً بالإفضاء، ومثل هذا الالتزام لا يفترض . ويرد على قاعدة جواز الإفضاء دون وجوبه استثناء محله أن يتخذ الإفضاء صورة الشهادة لدى القضاء، فقد جعلته المادة 66 من قانون الإثبات واجبا عند الرضاء بذلك، وإن احتاطت فاشترطت « ألا يخل ذلك بأحكام القوانين الخاصة بهم »، أي القوانين الخاصة بأصحاب المهن الذين يلتزمون بالكتمان.
الأحكام التي يخضع لها الرضاء : لا ينتج الرضاء أثره كسبب إباحة إلا إذا صدر عن صاحب السر نفسه، ولا تقتصر هذه القاعدة على حالة ما إذا كان صاحب السر هو الذي أودعه، ولكنها تشمل حالة ما إذا أودعه لديه شخص آخر، كما تشمل حالة ما إذا كان صاحب المهنة قد علم بالسر عن طريق خبرته الفنية .
امتناع صاحب المهنة عن الإدلاء بشهادته لدى القضاء، يفرض القانون على كل شخص الالتزام بأداء الشهادة لدى القضاء إذا كلف بذلك تكليفا صحيحا، ويقرر توقيع العقاب عليه إذا تخلف عن الحضور أو حضر وامتنع بغير مبرر قانوني عن الإدلاء بشهادته (المواد 78، 80 من قانون الإثبات، 119، 208، 279، 284 من قانون الإجراءات الجنائية)، وهذا الالتزام عام، فيخضع له بناء على ذلك أصحاب المهن التى يلتزم أفرادها بكتمان السر، ولكن الشهادة في هذه الحالة تعتبر صورة من إفشاء السر، فيتعرض الشاهد للعقاب الذي تقرره المادة 310 من قانون العقوبات، فثمة تعارض بين واجبين : واجب الشهادة وواجب الكتمان، ومن المتعين تغليب أحدهما حسم الشارع هذا التعارض بأن غلب الالتزام بالكتمان : فالمادة 69 من قانون الإثبات تحظر في فقرتها الأولى على أصحاب هذه المهن الشهادة في شأن الوقائع التي تتصف بالسر المهني؛ ولكن الشارع لم يجعل هذا الحظر مطلقاً، فأوجب عليهم أداء الشهادة « متى طلب منهم من أسرها لديهم » (الفقرة الثانية من المادة السابقة) .
ويعني ذلك أنه - إذا لم يصدر رضاء من صاحب السر - فمحظور على صاحب المهنة أن يؤدي الشهادة في شأن الوقائع التي تعتبر سراً مهنياً. وتترتب على هذا الحظر النتائج الآتية : إذا أدى صاحب المهنة الشهادة كانت شهادته إفشاء للسر وعوقب وفقاً للمادة 310 من قانون العقوبات ؛ وكانت شهادته باطلة فلا تصلح دليلاً قانونياً لأنها جريمة في ذاتها، ويعد قاصراً الحكم الذي يعتمد عليها وحدها وعلى هذا الشاهد أن يحضر إذا كلف بالحضور على الوجه القانوني وإلا تعرض لعقوبة الشاهد المتخلف، وبعد ذلك يبدى المانع من أداء الشهادة ؛ وقد ثار النقاش حول ما إذا كان واجبه أن يعلن عن التزامه بالكتمان قبل أدائه اليمين أو بعده، والأرجح في تقديرنا أن يبديه قبل أداء اليمين، الأن موقفه يتسم بالتناقض إذا حلف اليمين ثم امتنع عن الشهادة.
الخبرة، يستفيد الخبير الذي ينتدبه القضاء من سبب إباحة إذا ضمن تقريره إليه الوقائع التي علم بها وكانت متعلقة بالموضوع الذي طلب منه دراسته وإبداء الرأي فيه . والسند القانوني لهذه الإباحة كون الخبير يمثل المحكمة، فتقديمه التقرير إليها متضمناً المعلومات التي استطاع الحصول عليها يعادل حصول المحكمة بنفسها على هذه المعلومات، فليس في الأمر إفشاء، وإنما الوضع هو مجرد تحقيق المحكمة لوقائع الدعوى، وكشفها بواسطة ممثلها عن الحقيقة في شأن هذه الوقائع، وهي لم تستعن بالخبير إلا لأن تحقيق هذه الوقائع يتطلب دراية فنية لا تتوافر لها، وفي تعبير آخر، فإن العلاقة بين الخبير ومن كلف بدراسة واقعة متصلة به ليست علاقة ثقة من قبيل تلك العلاقة التي يريد القانون حمايتها حين يجرم إفشاء الأسرار، وإنما هي علاقة بين ممثلي القضاء ومن يخضع لسلطة هذا القضاء وغني عن البيان أنه إذا أبيح للخبير أن يضمن تقريره الوقائع التي انتدب لفحصها، فإنه يباح له بالضرورة أن يدلي برأيه شفويا أمام القضاء . ولكن هذه الإباحة منوطة بتوافر شرطين : أن يفضي الخبير بمعلوماته إلى القضاء الذي انتدبه، فإن أفضى بها إلى سواه فقد ارتكب جريمة إفشاء الأسرار؛ وأن تكون المعلومات التي يفضي بها متعلقة بالموضوع الذي انتدب لدراسته، ولا يجوز القول بأنه يتعين عليه أن يفضي إلى القضاء بكل ما يعلم به أو يستطيع بحكم درايته الفنية أن يستخلصه، إذ أن القول بذلك يعني إهدار كل حصانة لشخص من يكلف الخبير بفحصه، وقد يقود إلى الإخلال بحقوق الدفاع أو يصطدم بنظم قانونية مستقرة، والنتيجة التي تترتب على ذلك أنه إذا ضمن الخبير تقريره معلومات خارجة عن موضوع انتدابه فقد ارتكب جريمة إفشاء الأسرار وتطبيقاً لذلك، فإنه إذا انتدبت المحكمة طبيباً لفحص الحالة العقلية للمتهم تعين عليه أن يقصر تقريره على خلاصة فحصه لهذه الحالة، فإذا كان المتهم قد أفضى إليه باعترافه بالجريمة، سواء أكان حينذاك موفقا وكان إفضاؤه بذلك ثقة منه فيه أم كان تحت تأثير عقار أعطاه له ليختبر حالته، فإنه يحظر على الخبير أن يضمن تقريره هذا الاعتراف وقد قدمنا أنه إذا عالج الطبيب مريضاً فإنه يحظر عليه أن يقبل الخبرة في شأنه، إذ يتضمن التقرير الذي يقدمه إفشاء ضمنياً لما علم به باعتباره طبيباً خاصاً.
وما يصدق على الخبير الذي ينتدبه القضاء يصدق كذلك على الخبير الذي تنتدبه الإدارة العامة، كما لو انتدبت إحدى المصالح العامة طبيباً ليفحص المتقدمين لشغل وظيفة فيها أو ليفحص موظفاً ليقرر مدى حاجته إلى إجازة من عمله أو موظفاً أصيب أثناء العمل ليحدد مدى استحقاقه للتعويض، فلا يعتبر التقرير الذي يقدمه إلى الإدارة إفشاء السر؛ وسند الإباحة هو ذات سندها في حالة الخبير المنتدب من قبل القضاء ولا يرتكب جريمة الطبيب الذي تنتدبه شركة تأمين لفحص من يطلبون التأمين لديها، أو الطبيب الذي يكلفه رب عمل بفحص عماله، وتستند الإباحة في هاتين الحالتين إلى رضاء ضمني من العميل أو العامل . (شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ محمود نجيب حسني، دار النهضة العربية، الصفحة: 851)
عنصرا الركن المادي :
يقوم الركن المادي المتمثل في إفشاء السر على عنصرين : محل الإفشاء وهو السر، ثم فعل الإفشاء.
السر:
لم يضع المشرع تعريفا للسر، وقد اختلفت آراء الفقهاء حول تحديد معنى السر إلى وجهات متعددة.
فذهب رأى إلى الأخذ بفكرة الضرر، فيعتبر سراً وفقاً له كل أمر يضر إفشاؤه بسمعة المجنى عليه أو كرامته، ولكن يؤخذ على هذا الرأي أن الواقعة قد تكون سراً على الرغم من أن إفشاءها قد لا يضر بالمجني عليه بل قد يشرفه فالطبيب يفشي السر إذا أعلى لغير المريض شهادة بخلو الأخير من الأمراض.
وذهب رأي أخير - نميل إلى تأييده - إلى الأخذ بضابط المصلحة، فالواقعة تعد سراً إذا كان هناك مصلحة يعترف بها القانون في حصر العلم بها في شخص أو أشخاص محدودين من ذلك المرض الذي يعلم به الطبيب إذن يكون للمريض مصلحة في كتمانه عن الغير فإذا لم تكن هناك مصلحة في كتمان الأمر انتفت عنه صفة السر، فإذا أفضى شخص لأخر بواقعة سمع بوقوعها في قريته فإنها لا تعتبر سراً، إذ ليس للمفضي مصلحة في كتمانها. وإذا كانت هناك مصلحة ولكن القانون لا يعترف بها فقدت الواقعة أيضاً صفة السر، مثال ذلك أن يخبر الموكل محاميه بأنه انتوی ارتكاب جناية أو جنحة، فإذا أبلغ المحامى السلطات بذاك فإنه لا يكون قد أفشي سراً.
ويؤدي تطبيق هذا الضابط إلى أن الواقعة تعتبر سراً طالما وجدت مصلحة لشخص ما في عدم إفشائها، سواء كان المجني عليه قد أفضى بها إلى الأمين على السر صراحة أو كان الأمين قد توصل إلى العلم بها عن طريق ذكائه أو خبرته الفنية . فالطبيب يلتزم بكتمان أمر المرض الذي اكتشف لدى المريض ولو كان الأخير لا يعلم به، والمحامي الذي يستنتج من حديث موكله أنه ارتكب الجريمة يلتزم بكتمان هذا السر ولو لم يعترف الموكل صراحة بذلك، بل كان لا يعرف أن فعله يكون جريمة.
الإفشاء:
يقصد بالإفشاء الإفضاء بالسر إلى الغير، أياً كانت وسيلة المتهم في - ذلك، سواء كانت القول أو الكتابة أو الإشارة أو النشر في إحدى الجرائد أو إلقاء محاضرة، ويتحقق الإفشاء ولو كان متعلقاً بجزء من السر فحسب، كما يتحقق ولو كان غير علني، فيكفي لوقوعه أن يفضي الأمين بالسر إلى شخص واحد مهما كان وثيق الصلة به، فالأمين الذي يفضى بالسر إلى زوجته يعتبر فعله إفشاء ولو طلب منها أن تكتمه . كذلك يقع الإفشاء ولو كان موضوعه واقعة معروفة إذا كانت هذه الواقعة غير مؤكدة، إذ أن صدور الإفضاء عن الأمين يدمغ الواقعة بطابع اليقين . كذلك يقع الإفشاء بإفضاء الأمين بالواقعة إلى أمين آخر، إذ أن صاحب السر لم يأتمن عليه إلا الأمين الأول .
تحديد الأمناء على السر:
لا تقع جريمة إفشاء الأسرار إلا من شخص توافرت فيه صفة الأمين على السر والعبرة في توافر هذه الصفة بوقت علمه بالسر وليس بوقت إفشائه، وعلى ذلك تقع الجريمة ممن توافرت فيه هذه الصفة وقت العلم ولو كانت قد انتفت وقت الإفشاء . وقد أشارت المادة 310 إلى أمثلة للأمناء على الأسرار فذكرت « كل من كان من الأطباء أو الجراحين أو الصيادلة أو القوابل أو غيرهم مودعا إليه بدقتضی صناعته أو وظيفته سر خصوصي أؤتمن عليه ... إلخ ». ويستخلص من عبارة مودعاً إليه بمقتضى صناعته ... إلخ، أن الضابط في تحقق صفة الأمين هو وجود الضرورة التي دعت صاحب السر إلى إيداعه لدى صاحب مهنة تفترض الثقة فيه، ويتلقى بمقتضاها أسرار الغير. فالمقصود بالأمناء على السر « الأمناء الضروريون » وقد اقتصرت المادة 310 على ذكر أمثلة لهؤلاء الأمناء هم الأطباء، والجراحون . والصيادلة والقوابل، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أمثلة أخرى فيعتبر من الأمناء الضروريين المحامون، والمحاسبون، والموظفون العموميون فيما يتعلق بالأسرار التي تودع لديهم بحكم وظائفهم، كالقضاة، وأعضاء النيابة، ورجال الشرطة، وموظفي البريد، وموظفي مصلحة الضرائب، وموظفي البنوك.
ويلحق بهؤلاء الأمناء الأشخاص الذين يقومون بمساعدتهم في أداء مهنتهم، إذ يعلمون بحكم عملهم أسرار الغير ومن ثم يلتزمون بكتمانها، کالممرضات بالنسبة للطبيب والوكيل بالنسبة للمحامي.
وقد حرص المشرع في أحيان كثيرة على النص صراحة على خضوع فئات معينة لنص المادة 310، من أمثلة ذلك المادة 75 من قانون الإجراءات الجنائية التي تقضي بأن : « تعتبر إجراءات التحقيق ذاتها والنتائج التي تسفر عنها من الأسرار، ويجب على قضاة التحقيق وأعضاء النيابة العامة ومساعديهم من كتاب وخبراء وغيرهم ممن يتصلون بالتحقيق أو يحضرونه بسبب وظيفتهم أو مهنتهم عدم إفشائها، ومن يخالف ذلك منهم يعاقب طبقاً للمادة 310 من قانون العقوبات » . وقد قررت المادة 58 من قانون الإجراءات، ذات الحكم بالنسبة إلى كل موظف يكون قد وصل إلى علمه بسبب التفتيش معلومات عن الأشياء والأوراق المضبوطة.
ولما كانت الحكمة التي استلهمها المشرع في تجريم إفشاء الأسرار هي إتاحة السبيل، أمام الناس ليودعوا الأمناء الضروريين أسرارهم وهم آمنون إفشاءها، فإن الجريمة لا تقع حيث تنتفي هذه الحكمة، وهي تنتفي إذا كان من يعلم السر لا تقتضي مهنته ضرورة لجوء الناس إليه، وإن كان قد علم بالسر بمناسبة أداء عمله من أمثلة هؤلاء الخدم والكتبة والمستخدمون الخصوصيون، والسكرتيرون الخصوصيون والسماسرة والصحفيون . كذلك تنتفي صفة الأمين لدى الزوجة أو الصديق أو القريب الذي أودعه زوجه أو صديقه، أو قريبه سراً فأفشاه، إذ أنه لا يقوم بخدمة عامة، ولم يودع لديه السر بحكم الضرورة، فإذا كان صاحب السر قد اختار من ائتمنه عليه دون ما ضرورة للجوء إليه فأفشاه فلا يلومن إلا نفسه، إذ كان ينبغى عليه أن يحسن اختيار الأمين.
الركن المعنوي
- القصد الجنائى :
جريمة إفشاء الأسرار جريمة عمدية يتخذ ركنها المعنوى صورة القصد الجنائي، ويعني ذلك أن الخطأ غير العمدي لا يكفى لقيامها، فإذا أهمل الطبيب في المحافظة على البيانات التي دونها بشأن أحد مرضاه فاطلع عليها الغير لا تقع إهماله الجريمة.
وتقوم الجريمة على القصد العام دون تطلب لقصد خاص يتمثل في نية الإضرار، إذ أن الفعل يعتبر في ذاته من الأفعال الشائنة التي لا يلزم لتأييدها قصد خاص.
والقصد الجنائي في جريمة إفشاء الأسرار يقوم على عنصري العلم والإرادة فيجب أن يكون الجاني عالما بأن الواقعة تعتبر سراً مهنياً لا يرضى صاحبه بإفشائه، فإذا كان يجهل أن للواقعة صفة السر، أو أن السر قد أودع لدي، باعتباره صديقاً فحسب، أو كان يعتقد أن صاحب السر راض بإفشائه فأفشاه، لا تقع الجريمة لانتفاء ركنها المعنوي.
كذلك يجب أن تتجه إرادة الجاني إلى فعل الإفشاء وإلى نتيجته المتمثلة في إطلاع الغير على السر فإذا لم تتجه الإرادة إلى الفعل، كما لو أفشي السر وهو تحت تأثير مخدر في أعقاب جراحة أجريت له مثلاً، لا تقع بفعله الجريمة، كذلك ينتفي القصد إذا لم تتجه إرادته إلى إطلاع الغير عليه، كما لو نطق الطبيب بالمرض الذي اكتشفه لدى المريض أثناء تدوينه له، فسمعه خادم أن يمر في ذلك الوقت دون أن ينتبه له الطبيب.
وغني عن البيان أن الباعث لا يعتبر عنصرا من عناصر القصد، فإذا توافر للقصد عنصراه تحقق الركن المعنوي للجريمة أيا كان الباعث على الإفشاء، فالباعث مهما كان نبيلاً لا يحول دون قيام الجريمة . فتقع الجريمة من الأمين ولو كان قد قصد من إفشاء السر الحصول على أتعابه، أو حتى تحقيق مصلحة لصاحب السر.
عقوبة إفشاء الأسرار:
إذا توافر القصد الجنائي إلى جانب الركنين السابقين اكتملت أركان الجريمة وحق العقاب على الجاني ويقرر المشرع الجريمة إفشاء الأسرار عقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة شهور أو الغرامة التي لا تتجاوز خمسمائة جنيهاً، مصری.
والجريمة على هذا النحو جنحة، ولم يضع المشرع نصا يعاقب على الشروع في هذه الجريمة.
إباحة إفشاء الأسرار
- أهم أسباب الإباحة :
أهم أسباب إباحة جريمة إفشاء الأسرار هي : التبليغ عن الجرائم، ورضاء المجنى عليه، وأعمال الخبرة.
التبليغ عن الجرائم
حرص المشرع على الإشارة إلى هذا السبب لإباحة جريمة إفشاء الأسرار في المادة 310 إذ قيد تجريم إفشاء الأمين السر من أسرار مهنته بأن يكون « في غير الأحوال التي يلزمه القانون فيها بتبليغ ذلك »، « ولا تسري أحكام هذه المادة إلا في الأحوال التي لم يرخص فيها قانوناً بإفشاء أمور معينة .. إلخ » والإفشاء وفقاً لهذا النص يكون مباحاً إذا ألزم القانون الأمين بالتبليغ عن الجرائم التي يعلم بها بمقتضى مهنته أو وظيفته، أو إذا أجاز له القانون ذلك.
وغني عن البيان أن الإفشاء المباح سواء لوجوبه أو لجوازه يجب أن يكون موجها إلى الجهة المختصة، وفي نطاق الحدود المباحة.
على هذا الحكم الفقرة الثانية من المادة 66 من قانون الإثبات التي تقضي بأنه : « ومع ذلك يجب على الأشخاص المذكورين أن يؤدوا الشهادة على تلك الواقعة أو المعلومات متى طلب منهم ذلك من أسرها لهم، على ألا يخل ذلك بأحكام القوانين الخاصة بهم » وهذه المادة وإن كانت تتعلق برضاء صاحب السر بأداء الشهادة، إلا أنها تعتبر تطبيقاً لقاعدة عامة مقتضاها اعتبار رضاء المجني عليه بإفشاء السر سبباً لإباحته.
ويستند اعتبار رضاء صاحب السر سبباً لإباحة إفشائه إلى أنه طالما كان في استطاعة صاحب السر إذاعته فيكون من حقه أن يجيز ذلك لمن استودعه هذا السر ولا يعتبر ذلك مساساً بالثقة التي يجب توافرها في أصحاب المهن حتى تحقق مصلحة المجتمع في انتظام سير هذه المهن، إذا أن الثقة فيها لا تهتز إلا إذا كان الإفشاء دون رضاء صاحب السر. (شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتورة/ فوزية عبد الستار، الطبعة الرابعة 2017 دار النهضة العربية، الصفحة: 667)
عدلت عقوبة الغرامة بالقانون رقم 29 لسنة 1982 وكانت الغرامة قبل التعديل (لا تتجاوز خمسين جنيهاً مصرياً) كما ألغيت المواد 202 إلى 205 من قانون المرافعات "القديم" بصدور قانون المرافعات رقم 77 لسنة 1949 ثم ألغى ذلك القانون بصدور قانون المرافعات الجديد رقم 13 لسنة 1968.
تعريف جريمة إفشاء الأسرار :
جريمة إفشاء الأسرار هي تعمد الإفضاء بسر من شخص أئتمن عليه بحكم عمله أو صناعته في غير الأحوال التي يوجب فيها القانون الإفضاء أو يجيزه.
أركان الجريمة :
تتكون جريمة إفشاء السر من أربعة أركان هي:
1- فعل الإفشاء.
2- أن يكون الأمر الذي حصل إفشاءه سراً.
3- صفة الشخص الذي أؤتمن على السر.
4- القصد الجنائي
. وفيما يلي تفصيل لكل ركن :
الركن الأول : فعل الإفشاء:
يراد بالافشاء كشف السر أي إطلاع الغير عليه بأية طريق كانت سواء كان ذلك بالكتابة أو المشافهة علناً أو مسارة وليست العلانية مشروطة في هذه الجريمة على كل حال بل يقع الإفشاء قانوناً ولو لم يكاشف بالسر سوی فرد واحد كلف بكتمانه والاحتفاظ به وتقع الجريمة لو حصلت المكاشفة بجزء من السر الذي أوجب القانون كتمانه.
الركن الثاني :
يجب أن يكون الأمر الذي حصل إفشاءه مما يعتبر سراً فلا يتناول حكم المادة إذاعة كل ما علمه الطبيب أو المحامي أثناء قيامه بعمله ولكن الصعوبة في تحديد معنى السر فيرى بعض العلماء أن السر هنا هو ما يضر إفشاؤه بسمعة مودعه أو كرامته ولكن بعض الشراح لايرى هذا الرأي ويعترض عليه بأن السر قد يكون مشرفاً لمن يريد كتمانه ومع ذلك تحميه المادة.
ويعد في حكم السر كل أمر يكون بطبيعته أو بالظروف المحيطة به سراً ولو لم يطلب كتمانه صراحة كما أنه لايشترط أن يكون السر قد عهد به إلى الأمين بل يكفي أن يكون قد علمه أو عرفه أو حذره في أثناء تأدية وظيفة أو صناعة تلزمه بحفظ السر فالطبيب الذي يدرك من الكشف على مريض أنه مصاب بأمراض زهرية مطالب بكتمان ذلك السر ولو أن المريض نفسه لم يكن عالماً به والمحامي الذي يعلم من سياق حديث موكله جريمة مكلف بالاحتفاظ بهذه السر ولو لم يفضي الموكل إليه به صراحة.
الركن الثالث : صفة الأمين :
عينت المادة 310 بعض طوائف يسري عليها حظر إفشاء الأسرار فقالت كل من كان من الأطباء أو الجراحين والصيادلة والقوابل" ثم أضافت قائلة "أو غيرهم مودعاً إليه بمقتضى صناعته أو وظيفته سر خصوصي أئتمنه عليه" فالإحصاء وارد في المادة على سبيل المثال لا الحصر ومن المتفق عليه أنها تسري على كل من يعد أميناً على السر بحكم الضرورة أو بحكم ممارسته مهنته أو صناعته إذا كانت هذه أو تلك عامة لخدمة الجمهور و على رأس الطوائف المقيدة بكتمان أسرار المهنة نجد الموظفين العموميين بوجه عام بالنسبة لما يؤتمنون عليه من أسرار بحكم عملهم (م 65 من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 ) ويسرى قيد كتمان أسرار المهنة على القضاء وكتبة المحاكم ومحضريها وموظفي البريد والتليفون في نطاق الحظر العام المقرر على موظفي الدولة بالنسبة لما يأتمنون عليه من أسرار بحكم عملهم ومن غير طوائف الموظفين أشارت المادة 310 إلى الأطباء ومن في حكمهم ويقاس عليهم مدير المستشفيات كما يسرى نفس القيد على المحامين (فضلاً عن نص صريح في قانون المحاماة ) ورجال الدين وكذلك على سماسرة البورصات وقد أثير الخلاف حول مدى التزام من يعاونون الأطباء والمحامين وغيرهم بكتمان سر المهنة أسوة بهم فذهب البعض إلى عدم تقيدهم بالكتمان رغبة في عدم التوسع في أحوال المنع من الشهادة و أخذاً بقاعدة التفسير الضيق في المواد الجنائية.
إلا أن البعض الآخر لاحظ أن ذلك ينتهي إلى جعل الحظر المقرر علی رؤسائهم حبرا على ورق إذ أن إفشاء الأسرار يكون في الغالب عن طريق هؤلاء المعاونين ومن ثم يرى تقييدهم بالكتمان أسوة بهم فضلا عن أن النص عام ويسمح بذلك وهو ما يبدو أولى بالاتباع لما فيه من مصلحة محققة ويلاحظ أن النص لا يسرى على من لا يؤتمن على السر بحكم مهنته أو صناعته حتى ولو كان عمله يسمح له بمعرفة الكثير من الأسرار كالسكرتير الخاص والسائق والسمسار فيها عدا سماسرة البورصة الذين لهم وصفهم الخاص كما لايسرى النص على الصحفيين بطبيعة الحال كما لا يسرى النص على من يصل إليه سر بحكم زوجته أو قرابة أو صداقة لا بحكم ممارسة مهنة أو صناعة عامة.
الركن الرابع : القصد الجنائي :
لايعاقب القانون على إفشاء الأسرار إلا إذا كان ذلك الإفشاء صادراً عن قصد جنائي فلا عقاب على من يفشي سراً بأهمال منه أو عدم احتياط في المحافظة عليه أو كتمانه فالطبيب الذي يدون ملاحظاته عن مريض ثم يترك هذه الملاحظات سهواً في مكان غير مصون فيطلع عليها الغير لا يعد بذلك مرتكباً الجريمة الإفشاء ويعد القصد الجنائي متوافراً متى أقدم الجاني على إفشاء سر لم يصل إلى معرفته إلا عن طريق صناعته عالماً أن هذه الإفشاء محرم قانوناً ولا يشترط أن يكون الإفشاء بنية الإضرار أو بقصد الحصول على ربح غير مشروع إذ لا عبرة بالبواعث مطلقاً فيما يتعلق بهذه الجريمة وهذا هو الرأي المعول عليه. (موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الرابع، الصفحة: 49 )
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس ، الصفحة / 294
مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِمُقْتَضَى الْمَهْنَةِ، كَالطَّبِيبِ وَالْمُفْتِي وَأَمِينِ السِّرِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَمِمَّا يَكُونُ أَحْيَانًا مِنَ الإْفْشَاءِ الْمُحَرَّمِ لِلسِّرِّ النَّمِيمَةُ: وَهِيَ لُغَةً تَبْلِيغُ الْخَبَرِ عَلَى وَجْهِ الإْفْسَادِ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي اصْطِلاَحِ الْعُلَمَاءِ، وَأَكْثَرُ إِطْلاَقِهَا عَلَى مَنْ يَنِمُّ قَوْلَ الْغَيْرِ إِلَى الْمَقُولِ فِيهِ، أَيْ يَنْقُلُهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ سِرًّا قَدِ اسْتَكْتَمَهُ إِيَّاهُ، كَأَنْ يَقُولَ فُلاَنٌ يَقُولُ فِيكَ: كَذَا وَكَذَا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة: 274
(مادة 562)
يعاقب بالحبس كل من كان بحكم مهنته أو حرفته أو وضعه أو علمه أو فنه - مستودعاً سراً ، فأفشاه في غير الأحوال المصرح بها قانوناً ، أو استعمله لمنفعته الخاصة أو لمنفعة شخص آخر ، وذلك ما لم يأذن صاحب الشأن في السر بإفشائه أو إستعماله .
وتكون العقوبة السجن مدة لا تزيد على خمس سنوات ، إذا كان الجاني موظفاً عاماً ، أو ذا صفة نيابية عامة ، أو مكلفاً بخدمة عامة واستودع السر لديه أثناء أو بسبب أو بمناسبة تأدية الوظيفة أو النيابة أو الخدمة .