loading

موسوعة قانون المرافعات

المذكرة الإيضاحية

عدل المشروع من صياغة المادة 397 من القانون القائم تعديلاً لم يغير به حکمها وإنما إقتضاه دفع اللبس الذي ثار في الفقه حول سلطة محكمة الدرجة الثانية اذا ما كان الحكم السابق لم يحز قوة الشيء المحكوم به عند رفع الإستئناف وإنما أصبح جائزاً لها عند نظر الإستئناف فقد جرى البعض على القول بان الحكم السابق لا يعرض في هذه الحالة على محكمة الدرجة الثانية فتقتصر سلطتها على تعديل الحكم الثاني بما يتفق مع الحكم السابق ولذلك صرحت المادة 222 من المشروع بأن الحكم السابق إذا لم يكن قد صار إنتهائياً عند رفع الإستئناف يعتبر مطروحاً على المحكمة الإستئنافية أي مستأنفاً بقوة القانون لمجرد رفع الإستئناف عن الحكم الثاني فتمتد سلطة المحكمة الإستئنافية إلى الحكمين معاً .

الأحكام

1- لما كان النص فى المادة 222 مرافعات قد تضمن - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - حكمين متمايزين أولهما جواز استئناف الأحكام الانتهائية الصادرة على خلاف حكم سابق لم يحز قوة الأمر المقضي، والأمر الثاني والأهم، أن محكمة الاستئناف لا تتقيد فى النزاع المطروح عليها بحجية أحكام محكمة الدرجة الأولى الصادرة على خلاف الحكم المستأنف ما لم تكن قد حازت قوة الأمر المقضي قبل رفع الاستئناف، فاستئناف حكم يطرح على محكمة الاستئناف الحكم المخالف له لتنظر فى الحكمين معاً وتؤيد أيهما رأته حقاً دون أن تتقيد بالحكم الذي لم يستأنف، إلا إذا كان قد حاز قوة الأمر المقضي قبل رفع الاستئناف. فاعتبار الحكم المخالف للحكم المستأنف مستأنفاً بقوة القانون لا يسري فقط على حالة جواز استئناف الأحكام الانتهائية الصادرة على خلاف حكم سابق وإنما يسري أيضاً- من باب أولى- على الأحكام القابلة للاستئناف بطبيعتها لإتحاد العلة، وهى منع تقطيع أوصال المسألة الواحدة وتوزيعها بين مختلف المحاكم سدا لأي ذريعة قد تؤدي إلى قيام تناقض الأحكام فيهتز مفهوم العدالة وتعصف بالثقة العامة فى القضاء. وهى غاية جعلها المشرع فى الذروة لتعلو ما عداها من الاعتبارات المتعلقة بالنظام العام وهو ما دفع المشرع ليسمح فى المادة 123 وما بعدها بإبداء الطلبات العارضة ولو على حساب قواعد الاختصاص القيمي أو النوعي المتعلقة بالنظام العام، كما منع فى المادة 212 الطعن فى الأحكام الصادرة قبل الحكم المنهي للخصومة كلها - حتى ولو أختلف أطراف الخصومة - أو تباينت الطلبات وأسبابها، كما استثنى فى المادة 218 بعض الدعاوى من نسبية أثر الطعن فيستفيد من لم يطعن على الحكم، واستثني نفس الدعاوى من حق الخصوم فى تحديد نطاق خصومتهم وأطرافها، وأجاز فى المادة 249 الطعن بالنقض فى أحكام لا يجوز الطعن عليها حسب القواعد العامة حتى ولو كان الحكم السابق لم يطرح على محكمة الموضوع، وقد جاء نص المادة 222 سالف الذكر ليستكمل هذا النسق فيجعل ولاية محكمة الاستئناف تمتد إلى غير ما رفع عنه الاستئناف وجعل الطاعن يضار بطعنه بأن جعل الحكم الصادر لصالحه مستأنفاً بقوة القانون رغما عنه ورغم إرادة المحكوم عليه وهو ما عبرت عنه المذكرة الإيضاحية لقانون المرافعات فقالت ما نصه "عدل المشرع صياغة المادة 397 من القانون القائم تعديلا لم يغير حكمها، وإنما رفع اللبس الذي ثار فى الفقه حول سلطة محكمة الدرجة الثانية إذا كان الحكم لم يحز قوة الشيء المحكوم به عند رفع الاستئناف، وإنما أصبح حائزاً لها عند نظر الاستئناف، فقد جرى البعض على القول بأن الحكم السابق لا يعرض فى هذه الحالة على محكمة الدرجة الثانية فيقتصر سلطتها على تعديل الحكم الثاني بما يتفق مع الحكم السابق ولذلك صرحت المادة 222 من المشروع بأن الحكم السابق - إذا لم يكن قد صار انتهائياً عند رفع الاستئناف - يعتبر مطروحا على المحكمة الإستئنافية بقوة القانون لمجرد رفع الاستئناف عن الحكم الثاني فتمتد سلطة المحكمة الإستئنافية إلى الحكمين معاً" وقد كان نص المادة 397 من قانون المرافعات السابق قد جرى على أنه "ويجوز أيضا استئناف جميع الأحكام الصادرة فى حدود النصاب الانتهائي إذ كان الحكم صادرا على خلاف حكم سابق لم يحز قوة الشيء المحكوم به، ويطرح الحكم السابق على المحكمة الإستئنافية إذا لم يكن قد صار انتهائياً عند رفع الاستئناف" وجاء فى المذكرة الإيضاحية لذلك القانون "أبقى للطعن بالنقض حالة ما يكون الحكم السابق قد حاز قوة الشيء المحكوم به وقت صدور الحكم المطعون فيه وجعل الاستئناف هو الطريق المتعين سلوكه إذا كان الحكم السابق لم يحز قوة الشيء المحكوم به وقت صدور الحكم المستأنف، وعلى أساس هذا التمييز يستقيم النص على أن استئناف الحكم الثاني يجيز طرح الحكم الأول على محكمة الاستئناف لتنظر فى الحكمين معاً، تؤيد أيهما رأته حقاً دون أن تتقيد بالحكم الأول، إلا إذا كان هذا الحكم قد صار انتهائياً عند رفع الاستئناف عن الحكم الثاني فعندئذ تلتزم محكمة الاستئناف باحترام حجية الحكم السابق" وهو ما يقطع بأن المشرع أراد فى حالة وجود تناقض بين أحكام محكمة الدرجة الأولى أن يطلق سلطة محكمة الاستئناف لتفصل هى فى النزاع فأوقف حجية أي حكم سابق لم يحز قوة الأمر المقضي رغم عدم استئنافه - وهو ما يقتضي من باب أولى وقف حجية أي حكم لمحاكم الدرجة الأولى صدر لاحقا على الحكم المستأنف وجعل ولاية محكمة الاستئناف تمتد لتفصل فى النزاع غير مقيدة بأي من هذه الأحكام مما مفاده أن عبارة "..... وفي هذه الحالة يعتبر الحكم السابق مستأنفاً بقوة القانون...." أراد بها أن تؤكد هذا المعنى ولم تشأ أن تقصره على حالة استئناف الأحكام الانتهائية أو كون الحكم المخالف سابقاً.

(الطعن رقم 1532 لسنة 68 جلسة 1999/10/04 س 50 ع 2 ص 1019 ق 199)

2- ما صرح به حكم محكمة أول درجة القاضى بندب خبير بصدد طلبات المطعون ضده الختامية و ما قطع فيه حكم التحقيق الصادر عن هذه المحكمة من وصف للعقد فإنه - و على ما جرى به قضاء محكمة النقض - لئن كان لكل من هذين الحكمين حجية فيما فصل فيه من يوم صدوره ، و هذه الحجية تمنع الخصوم من رفع دعوى جديدة بإدعاءات تناقض ما قضى به ، و لا يجوز معها للمحكمة التى أصدرته و لا لمحكمة غيرها أن تعيد النظر فيما قضى به إلا إذا كانت هى المحكمة التى يحصل التظلم إليها منه بإحدى الطرق القانونية إلا أن هذه الحجية مؤقته تقف بمجرد إعتباره مستأنفاً و تظل موقوفه إلى أن يقضى فى الإستئناف ، فإذا تأيد ما قطع فيه عادت إليه حجيته و إذا ألغى - و لو ضمنياً - زالت عنه هذه الحجية و يترتب على وقف حجية هذين الحكمين فيما فصلا فيه نتيجة لإعتبارهما مستأنفين أن محكمة الإستئناف التى يرفع إليها النزاع لا تتقيد بهذه الحجية .

(الطعن رقم 66 لسنة 50 جلسة 1984/02/09 س 35 ع 1 ص 446 ق 86)

3- لما كانت الشركة الطاعنة طرفاً فى الحكم الصادر بسقوط دعوى المطعون ضدهم بالتعويض بالتقادم مع الحكم الصادر عليها لهم بالتعويض فى ذات الحكم المتعدد الأجزاء ، و قد إستأنفت الطاعنة الجزء الصادر عليها لصدوره على خلاف الجزء الصادر لها الذى لم يكن قد صار إنتهائياً عند رفع الإستئناف فى 1978/4/23 ، و من ثم فإن إستئناف الطاعنة للحكم الصادر عليها يجعل الحكم الصادر لها مستأنفاً بقوة القانون أخذاً بالمفهوم الأولى بالتطبيق لحكم المادة 222 من قانون المرافعات و مفاده أن الحكم الإنتهائى الذى لم يكن قابلاً للإستئناف أصلاً إذا صدر على خلاف حكم سابق فإنه يقبل الإستئناف إستثناء و أن إستئنافه يجعل الحكم الذى صدر على خلافه مستأنفاً بقوة القانون إذا لم يكن قد صار إنتهائياً عند رفع الإستئناف و بالأولى من الحكم غير القابل للإستئناف أصلاً الحكم القابل له فإن إستئنافه يجعل الشق من الحكم الصادر للطاعنة بسقوط الدعوى بالتقادم على خلافه مستأنفاً بقوة القانون إذا لم يكن قد صار إنتهائياً عند رفعه و هو بالقطع لم يكن قد صار كذلك لأن الإستئناف رفع فى الميعاد .

(الطعن رقم 849 لسنة 49 جلسة 1983/02/06 س 34 ع 1 ص 404 ق 89)

4- قوام الأمر المقضى هو ما يفترضه القانون فى حكم القضاء من صحة مطلقة متى إستنفدت طرق الطعن فيها رعاية لحسن سير العدالة و تثبيت لمفهومها بوصفها الحاسم بين الحق و الباطل و كان القانون - سدا منه لكل ذريعة تؤدى إلى قيام التناقص بينم الأحكام و تنافى مفهوم العدالة تبعاً لذلك - قد أفسح مجال الطعن فيما يصدر من الأحكام على خلاف أحكام سابقة فنص فى المادة 222 من قانون المرافعات على جواز إستئناف جميع الأحكام الصادرة فى حدود النصاب الإنتهائى إذا كان صادراً على خلاف حكم سابق لم يحز قوة الأمر المقضى و إعتبر الحكم السابق مستأنفاً فى هذه الحالة بقوة القانون ما لم يكن قد صار إنتهائياً عند رفع الإستئناف كما نص فى المادة 249 منه على حق الخصوم فى أن يطعنوا أمام محكمة النقض فى أى حكم إنتهائى أياً كانت المحكمة التى أصدرته فصل فى نزاع خلافاً لحكم آخر أو صدر بين الخصوم أنفسهم و حاز قوة الأمر المقضى لما كان ما سلف فإن فيه ما ينطق بحرص المشرع على توقى وقوع المحاكم فى التناقص بين الأحكام إبتداء و عنايته البالغة بعلاج ما قد يقع بينها رغم ذلك من تناقص عن طريق فتح أبواب الطعن كافة دون تقيد بضوابطها الأصلية .

(الطعن رقم 1104 لسنة 48 جلسة 1980/01/05 س 31 ع 1 ص 89 ق 21)

5- قوة الأمر المقضى صفه تثبت للحكم النهائى ، و لا يمنع من ثبوت هذه الصفة أن يكون الحكم مما يجوز الطعن فيه بطريق النقض و أنه طعن فيه بالفعل .

(الطعن رقم 915 لسنة 44 جلسة 1978/03/30 س 29 ع 1 ص 932 ق 183)

شرح خبراء القانون

الأحكام القابلة للاستئناف :

تطبيقاً لمبدأ التقاضي على درجتين ، فإن القاعدة هي أن جميع الأحكام - الصادرة من محاكم الدرجة الأولى تقبل الطعن بالإستئناف ، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك (مادة 1 / 219 مرافعات) . وينص القانون في هذا الصدد على مبلغ معين يكون الحكم الصادر في قضية مقدرة بحدوده نهائياً غير قابل للإستئناف . ويسمى هذا المبلغ بالنصاب النهائي للمحكمة . وهذا النصاب هو خمسة آلاف جنيه بالنسبة للمحاكم الجزئية وأربعون ألف جنيه  بالنسبة للمحاكم الإبتدائية.

فالدعوى التي لا تتجاوز قيمتها خمسة آلاف جنيه يكون الحكم الصادر فيها من المحكمة الجزئية إنتهائياً لا يجوز الطعن فيه بالإستئناف (مادة 1 / 42 معدلة بالقانون 76 لسنة 2007). والدعوي التي لا تتجاوز قيمتها أربعين ألف جنيه يكون الحكم الصادر فيها من المحكمة الإبتدائية إنتهائياً لا يقبل الإستئناف (مادة 47 معدلة بالقانون 76 لسنة 2007). ويكون الأمر كذلك أياً كان نوع الدعوى ، شخصية أو عينية ، منقولة أو عقارية . وعلة تحديد نصاب نهائي للمحكمة هو ما يكلفه الإستئناف من نفقات سواء بالنسبة للخصوم أو بالنسبة للدولة.

أما الدعوى غير القابلة للتقدير ، فإن الحكم الصادر فيها يقبل الطعن فيها بالإستئناف دائماً.

وتعتبر قابلية الحكم للإستئناف أو عدم قابليته له مسألة متعلقة بالنظام العام".. فإذا رفع إستئناف عن حكم لا يجوز إستئنافه ، فان على المحكمة أن تقضى ولو من تلقاء نفسها بعدم جوازه . أما إذا قضت بعدم جواز الإستئناف بالنسبة لحكم مما يجوز إستئنافه فإنها تكون قد خالفت القانون وأخطأت في تطبيقه.

وتقدر قيمة الدعوى ، لمعرفة قابلية الحكم الصادر فيها للإستئناف ، وفقاً للقواعد السابق بيانها بالنسبة لتقدير قيمة القضية لتحديد الإختصاص القيمى وبمرعاة أثر وحدة الخصومة على قواعد الإختصاص، فلا يجوز الإعتماد على تقدير قيمة الدعوى التي حددها المدعي وسكت عنها المدعى عليه مع ملاحظة ما يأتي :

1- العبرة بقيمة القضية ، وليس بما يحكم به القاضي . ذلك أنه لو نظر إلى قيمة الحكم لإستطاع القاضي جعل أحكامه كلها غير قابلة للإستئناف ، وذلك عن طريق تجزئة قراره في الدعوى الواحدة ، أو الحكم فقط بما يدخل في نصابه النهائي.

2- للعلة نفسها ، فإن قابلية الحكم للإستئناف لا ترتبط بالتكييف الذي يعطيه قاضي أول درجة لحكمه . فلو وصف هذا القاضي حكمه بأنه إنتهائي فلا يمنع هذا الوصف إستئناف الحكم لو كان يقبله ، كذلك لو وصف حكمه بأنه إبتدائي فإن هذا الوصف لا يجعله قابلاً للإستئناف لو كان لا يقبله . فليس القاضي أول درجة أن يغير وصف الحكم كما يحدده القانون . فإن فعل ، كان من سلطة المحكمة الإستئنافية تحديد الوصف الصحيح  كذلك فإن المحكمة الإستئنافية هي التي تحدد ما إذا كان الحكم المطعون فيه قد صدر من محكمة أول أو ثاني درجة ، وبالتالي يقبل أو لا يقبل الطعن بالإستئناف.

3- إذا رفع إستئناف عن حكم يقبل الإستئناف أمام المحكمة الإستئنافية المختصة ، ثم صدر قانون جديد يجعل الدعوى بحسب قيمتها أو نوعها من إختصاص حكم أول درجة غير التي تتبع المحكمة الإستئنافية ، فإن هذا التعديل لا يؤثر في إختصاص المحكمة الإستئنافية . ذلك أن قواعد الاختصاص إنما تتعلق بإختصاص محاكم الدرجة الأولى ، وينظر بالنسبة الإختصاص محكمة الإستئناف فقط إلى المحكمة التي أصدرت حكم أول درجة ، وما إذا كانت أحكامها تستأنف أمام المحكمة الإستئنافية التي رفع إليها الإستئناف.

4- إذا قضت المحكمة بعدم إختصاصها قيمياً بالدعوى وأحالت الدعوى إلى المحكمة المختصة بها ، فإن المحكمة المحالة إليها الدعوى إذ تلتزم بتحديد إختصاصها وفقاً للمادة 110 مرافعات تلتزم بتقدير الدعوى كما حددته المحكمة المحيلة ، وهذا التقدير يكون له قوة أيضاً بالنسبة لقابلية الحكم الصادر في الدعوى للإستئناف ونفس الأمر بالنسبة لإلتزام المحكمة المحال إليها بما يرد في أسباب الحكم المحيل من إعتبار الدعوى المحالة غير قابلة للتقدير ، إذا كان هذا الأساس هو الذي إنبنى عليه منطوق الحكم بعدم الإختصاص والإحالة.

5- لا يدخل في تقدير قيمة الدعوى كل طلب لا ينازع فيه الخصم الآخر (مادة 222 مرافعات) . فإذا تقدم المدعي بعدة طلبات تقوم على سبي قانونی واحد ، فجمعت قيمتها ، ثم أقر المدعى عليه بطلب منها فإن قيمة هذا الطلب لا تدخل في تقدير قيمة القضية بالنسبة لقابلية الحكم للإستئناف على أنه يلاحظ أنه إذا إشتملت القضية على طلب واحد من المدعي فإن إقرار المدعى عليه بجزء منه لا يؤثر في تحديد القيمة بالنسبة للإستئناف.

6- إذا كان محل الدعوى مبلغاً من النقود ، فقام المدعى عليه بعرض جزء منه عرضاً فعلياً على المدعي ، فإن هذا الجزء لا يحسب في تحديد قيمة القضية بالنسبة للإستئناف (مادة 223 مرافعات) ، ولو لم يقبل المدعي هذا العرض.

7- إذا قام المدعى بتعديل طلباته ، فإن العبرة بالنسبة للقابلية للإستئناف هو بالطلب بعد تعديله . فالعبرة في تحديد نصاب الإستئناف هو بالطلبات الختامية التي تبدي قبل قفل باب المرافعة.

8- إذا تعددت طلبات المدعى أو جمع بينها للإرتباط ، وجمعت قيمتها لتحديد المحكمة المختصة بسبب أنها تقوم على سبب قانوني واحد ، فالعبرة بالنسبة للقابلية للإستئناف هي أيضاً بقيمة هذه الطلبات مجتمعة . أما إذا لم تجمع القيمة فإن الإرتباط الذي برر الخروج على قواعد الإختصاص وجعل الإختصاص للمحكمة بأكبر الطلبين قيمة يبرر أيضاً النظر إلى قيمة هذا الطلب وحده بالنسبة لقابلية أي من الطلبين للاستئناف ولهذا فإن الحكم الصادر في أي من طلبات المدعى المرتبطة ينظر في قابليته للإستئناف إلى قيمة أكبر الطلبات المرتبطة قيمة ونفس الأمر بالنسبة للإختصاص النوعي ، إذا كانت العبرة بنوع الدعوى وليس بقيمتها . إذ يكون الإختصاص بالطلبين للمحكمة الإبتدائية المختصة نوعياً بأحد الطلبين المرتبطين . ويكون الحكم الصادر في الطلبين قابلاً للطعن فيه بالإستئناف .

ويلاحظ أن هذه القاعدة لا تنطبق إلا حيث يوجد إرتباط أما إذا جمعت طلبات بسبب وحدة المسألة القانونية المثارة ، فإن هذا الجمع لا يبرر - كما قلنا - الخروج على قواعد الإختصاص . ويؤدي أيضا بالنسبة للقابلية للإستئناف إلى النظر إلى كل طلب على حدة.

الحكم الصادر بصفة إنتهائية على خلاف حكم سابق لم يحز بعد قوة  الأمر المقضي (مادة 222 مرافعات) . ويجب لتوافر هذه الحالة : 1- أن يكون الحكمان قد صدرا في نفس الدعوى، أي أن يتحد الأشخاص والمحل والسبب.

ويعتبر التحقق من هذا الإتحاد مسألة موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة النقض  2- أن يكون الحكم الأول غير حائز لقوة الأمر المقضي عند صدور الحكم الثاني 3- أن يكون الحكم الثاني قد قضى بما يخالف الحكم الأول ، وأن يكون قد صدر في حدود النصاب الإنتهائي لمحكمة أول درجة أو صدر من هذه المحكمة غير قابل للطعن بالإستئناف . فإذا صدر الحكم قابلاً للإستئناف وقبل المحكوم عليه الحكم أو فوت ميعاد الإستئناف . لم يجز له الطعن.

ويرد الإستئناف على الحكم الثاني ، على أن رفع الإستئناف يؤدي إلى طرح الحكم الأول أيضاً على المحكمة الإستئنافية ما لم يكن هذا الحكم قد أصبح - عند رفع الإستئناف - حائزاً لقوة الأمر المقضي. (المبسوط في قانون القضاء المدني علماً وعملاً، الدكتور/ فتحي والي، طبعة 2017 دار النهضة العربية،  الجزء : الثاني ،  الصفحة : 528)

حجية الأمر المقضي وقوة الأمر المقضي:

تثبت للحكم الذي قطع في النزاع أو في شق منه ، وفور صدوره حجية الأمر المقضي ولو كان قابلا للطعن فيه، وتحول هذه الحجية دون الخصوم ورفع دعوى جديدة بإدعاءات تناقض ما قضى به، كما تحول دون المحكمة التي أصدرت هذا الحكم، والتسلط على قضائها كما تحول دون غيرها من المحاكم ونظر الموضوع، وينشأ عن ذلك الدفع بعدم سماع الدعوى دون الدفع بعدم جواز نظرها لسابقة الفصل فيها، لأن مناط الدفع الأخير أن يكون الحكم السابق حاز قوة الأمر المقضي. وحجية الأمر المقضي مؤقته، وتظل كذلك طوال المدة المحددة للطعن في الحكم بالإستئناف، فإن طعن فيه، أدى ذلك إلى توقف هذه الحجية وتظل موقوفة إلى أن يقضي في الاستئناف، فإذا قضی بتأييد الحكم، عادت إليه الحجية وحاز بذلك قوة الأمر المقضى، أما إذا قضى بالغائه ، زالت عنه الحجية منذ صدوره. وذلك على التفصيل الذي أوضحناه بالمادة (116) فيما تقدم

ويترتب على الوقف المؤقت للحجية أن يعود الحق للخصوم في مناقشة الأسانيد التي أقام عليها الحكم المستأنف قضاءه وبيان ما شابه من قصور في أسبابه الواقعية وما تردى فيه من مخالفة للقانون وخطأ في تطبيقه والعودة إلى أوجه دفاعهم ودفوعهم التي طرحها الحكم وتقديم أوجه دفاع جديدة إذ يطرح الإستئناف الدعوى مرة أخرى أمام المحكمة الإستئنافية في حدود ما رفع عنه الإستئناف .

وتنحصر في ذلك الآثار التي تترتب على وقف الحجية وهو ما يحول دون الخصوم والعودة إلى ذات النزاع بدعوى مبتدأة لسبق الفصل فيها بالحكم السابق، لكن إذا رفعت تلك الدعوى ولم تفطن المحكمة بالتالي لسبق صدور حكم فيها وإستمرت في نظرها وأصدرت حكماً فيها، وطعن فيه بالإستئناف ، تعيين ضم الإستئنافين ليصدر فيهما حكم واحد، وإذا صدر الحكم في الإستئناف الأول قبل أن يضم إليه الإستئناف الثاني ، وجب القضاء في الإستئناف الأخير بإلغاء الحكم المستأنف وبعدم سماع الدعوى، أما إذا صدر الحكم في الإستئناف الثاني دون أن يكون قد تم ضمه للإستئناف الاول وجب القضاء في الإستئناف الأول بالغاء الحكم المستأنف وبعدم سماع الدعوى ويقضي بذلك أيضاً إذا كان الحكم الصادر في الدعوى الثانية التي رفعت بعد صدور الحكم في الدعوى الاولى لم يطعن فيه وحاز بالتالي قوة الأمر المقضي بالرغم من صدور الحكم في الدعوى الثانية بالمخالفة لقاعدة متعلقة بالنظام العام، إذ المقرر أن قوة الامر المقضى تعلو على إعتبارات النظام العام، وطالما أوقفت الحجية أمام محكمة الإستئناف في الحالة الماثلة، وجب عليها القضاء بإلغاء الحكم إلتزاماً بقوة الأمر المقضى. (انظر: نقض  1984/2/9 نقض 1968/4/18  فيما يلي)

وقد ترفع دعوى أمام المحكمة الإبتدائية واخرى عن ذات النزاع أمام المحكمة الجزئية وتجمع الدعويين مسألة كلية شاملة تؤدي إلى وحدة الموضوع فيهما، وحينئذ يحوز الحكم الصادر في إحداهما حجية الأمر المقضي في الأخرى، فإذا أصدرت المحكمة الإبتدائية حكماً وطعن فيه أمام محكمة الإستئناف، وأصدرت المحكمة الجزئية حكماً وطعن فيه أمام المحكمة الابتدائية منعقدة بهيئة إستئنافية ، فإن كلا من الحكمين تقف حجيته مؤقتاً ، ويتعين ضم الإستئناف المرفوع إلى المحكمة الإبتدائية للإستئناف المرفوع لمحكمة الإستئناف للإرتباط وليصدر فيهما حكم واحد ولا تتقيد المحكمة حينئذ بأي من الحكمين إن كان هناك تعارض بينهما. فإن لم يضم الإستئنافان، وصدر حكم في أحدهما، حاز على الفور قوة الأمر المقضي وتقيدت المحكمة الإستئنافية الأخرى بحجيته وقضت على هدیه ، فإن كان الحكم المطروح عليها مخالفا للحكم الذي حاز قوة الأمر المقضي، وجب عليها القضاء بإلغائه وبعدم جواز نظر الدعوى لسابقة للفصل فيها، ويستوي أن تكون هذه المحكمة هي محكمة الاستئناف أو المحكمة الإبتدائية منعقدة بهيئة إستئنافية.

مثال ذلك ، أن يرفع المالك دعوى إستحقاق ضد مغتصب عقاره وذلك أمام المحكمة الإبتدائية ، ويرفع ضده أيضاً دعوی ريع أمام المحكمة الجزئية ، فتكون الملكية هي المسألة الكلية الشاملة في الدعويين، وكان يتعين رفع دعوى واحدة أمام المحكمة الإبتدائية بالطلبين معاً، وإذ رفعت بهما دعویان، فإنه يتعين على المحكمة الجزئية، لحسن سير العدالة ، إحالة دعوى الريع للمحكمة الابتدائية للإرتباط بدعوى الملكية ، فإن لم تحيلها وإستمرت في نظرها وقضت فيها وطعن بالإستئناف في قضائها، وكانت المحكمة الإبتدائية بدورها قد قضت في دعوى الملكية وطعن بالإستئناف في قضائها، تعين على المحكمة الإبتدائية التي تنظر إستئناف الحكم الجزئي، إحالة الإستئناف إلى محكمة الإستئناف للإرتباط ولحسن سير العدالة حتى لا تحاج المحكمة الأخيرة بالحكم الجزئي إذا حاز قوة الأمر المقضي بالفصل في الإستئناف المرفوع عنه قبل أن تفصل محكمة الإستئناف في الطعن المرفوع عن الحكم الصادر في دعوى الملكية.

ويكتسب الحكم قوة الأمر المقضي إذا منع المشرع الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن، أو إذا كان مما يجوز الطعن فيه ولكن لم يطعن فيه المحكوم عليه خلال الميعاد المقرر، أو طعن فيه وقضت المحكمة الإستئنافية بتأييده وتحول قوة الأمر المقضي دون الخصوم وطرح النزاع من جديد أمام القضاء ولو بأدلة قانونية أو واقعية ولو لم يسبق إثارتها في الدعوى الأولى أو أثيرت ولم يبحثها الحكم، كما تحول دون المحكمة والتصدي للموضوع.

إستئناف الأحكام الإنتهائية المخالفة تحكم سابق:

إذا صدر حكم بصفة إنتهائية على خلاف حکم سابق لم يحز قوة الأمر المقضي، جاز الطعن فيه بالإستئناف دون التقيد بنصاب معين، على أن يرفع خلال الميعاد المقرر، بحيث إذا رفع بعد إنقضائه سقط الحق فيه.

ويترتب على رفع الإستئناف، إعتبار الحكم السابق مستأنفاً بقوة القانون و مطروحاً بالتالي على محكمة الإستئناف في حدود تعارضه مع الحكم الثاني، ويجب التحقق هذا الأثر أن يكون الحكم السابق لم يحز قوة الأمر المقضي عند رفع الإستئناف عن الحكم الثاني ، فإن كانت هذه القوة قد ثبتت له في ذلك الوقت، تعين الطعن في الحكم الثاني بطريق النقض عملاً بالمادة (249) من قانون المرافعات التي تجيز الطعن بالنقض في أي حكم إنتهائي أياً كانت المحكمة التي أصدرته ولو كانت من محاكم الدرجة الأولى متی صدر خلافاً لحكم سبق أن صدر بين الخصوم أنفسهم وحاز قوة الأمر المقضي. (بهذا المعنى: حامد فهمي في النقض صفحة 475 وأبو الوفا في التعليق)

كما يجب أن يترتب على رفع الإستئناف تصدي المحكمة للموضوع ولازم ذلك، أن يكون الإستئناف مقبولاً شکلاً، فإن كان قد رفع بعد الميعاد وقضت المحكمة بسقوط الحق فيه ، أمتنع عليها التصدي لموضوعه، وإذ رتب القانون على رفع الإستئناف أعتبار الحكم السابق مستأنفاً، إنما قصد من ذلك تصدي المحكمة للموضوع الذي يجمع الإستئنافين لرفع التعارض بين الحكمين بحيث إذا امتنع ذلك بالنسبة للحكم الذي رفع الإستئناف طعناً فيه، وكان هو أساس اعتبار الحكم السابق مستأنفاً ، وقد زال هذا الأساس إذ سقط الحق فيه مما يتعين معه زوال أثره فلا يعتبر الحكم السابق مستأنفاً وبالتالي لا تتصدى له المحكمة إلا إذا كان المحكوم عليه قد إستأنفه في الميعاد وحينئذ تتوافر رابطة بين الحكمين لا تقبل التجزئة مما يمتنع معه على المحكمة الإستئنافية أن تقضي بسقوط الحق في الإستئناف الذي كان قد رفع عن الحكم الإنتهائي وإنما تلتزم بنظره تبعاً لإستئناف الحكم الذي صدر أولا، ففي المثال المتقدم والمشار إليه بالبند السابق، إذ كان الإستئناف الذي رفع عن الحكم الصادر في دعوى الريع قد سقط الحق فيه لرفعه بعد الميعاد، فإن المحكمة لا تقضي بذلك إن كان الإستئناف المتعلق بحكم الإستحقاق قد رفع في الميعاد، وحينئذ يطرح الإستئنافان على المحكمة لتصدر فيها حكما واحداً. (قرب أبو الوفا في الأحكام بند (448).

أما إن كان حكم الريع تم إستئنافه في الميعاد، أعتبر الحكم الصادر في دعوى الملكية مستأنفاً بقوة القانون، ويطرح موضوع الحكمين على المحكمة التي لا تتقيد بحجية أي منهما، ولها إن خلصت إلى سلامة الحكم الصادر في دعوى الملكية أن تقضي بتأييده وإلغاء الحكم الصادر في دعوى الريع ورفض الدعوى.

فقد يرفع المدعي دعوى إستحقاق ودعوى ريع، ويقضي برفض الأولى مما يعني عدم ثبوت الملكية للمدعي، بينما يقضي لصالحه فى الدعوى الثانية ويكون الحكم فيها إنتهائياً فيطعن فيه المحكوم عليه طالباً إلغاءه ورفض الدعوى مما يستتبع إعتبار الحكم الصادر برفض دعوى الإستحقاق مستأنفاً وحينئذ تقف حجية الحكمين وتصدر المحكمة حكما يكون من شأنه رفع التناقض فإذا قضت في الدعوى الأولى بتأييد الحكم الصادر فيها تبعت ذلك بالقضاء بإلغاء الحكم الصادر في الدعوى الثانية ورفض الدعوى، أما إن قضت بالإستحقاق تبعت ذلك بتأييد الحكم الصادر في دعوى الريع أو بتعديله بما يتناسب مع الضرر الذي ترتب على الغصب.

أما إن كان الحكم الصادر في دعوى الريع بصفة إنتهائية قد طعن فيه بعد الميعاد وقضت المحكمة الإستئنافية بسقوط الحق في الإستئناف، ولم يكن المحكوم عليه في دعوى الإستحقاق قد طعن في الحكم الصادر ضده، فحاز بدوره قوة الأمر المقضي، تحقق التعارض بين حكمين إنتهائيين، وحينئذ يعتد بالحكم الذي حاز قوة الأمر المقضي أولا إذ يكون هو الواجب التنفيذ بينما يكون الحكم الآخر معدوماً لصدوره في خصومة منقضية، وذلك على التفصيل الذي تناولناه بصدد «بطلان الأحكام وإنعدامها»، فيما تقدم.

وإلتزام الخصوم بحجية الحكم فور صدوره ومنعهم بالتالي من رفع دعوى جديدة، وإلزام المحكمة التي أصدرت الحكم أو غيرها من المحاكم بعدم النظر فيما قضى به، ليس أساسه الدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها، وإنما الدفع بعدم سماع الدعوى لسبق صدور حكم فيها لم يحز بعد قوة الأمر المقضي، لأنه لو كان قد حازها، فإن الدعوى تكون محلاً للدفع بعدم جواز نظرها لسابقة الفصل فيها.

وينحصر نطاق الدفع بعدم سماع الدعوى، على الحالة التي ترفع فيها هذه الدعوى بعد صدور الحكم في الدعوى السابقة وقبل الطعن فيه بالإستئناف، إذ تحول حجيته التي تثبت له في هذا الوقت من رفع دعوى جديدة تتحد سبباً وموضوعاً وخصوماً مع الدعوى السابقة، أما إذا طعن في الحكم بالإستئناف، وقفت حجيته مؤقتاً، مما يجوز معه رفع دعوى ثانية، فإن كانت قيمتها في حدود النصاب الإبتدائي للمحکمة، جاز إستئناف الحكم الصادر فيها وفقاً للقواعد العامة ، أما إن كانت قيمتها داخلة في حدود النصاب الإنتهائي للمحكمة، جاز إستئناف الحكم الصادر فيها وفقا لنص المادة (222) من قانون المرافعات، وفي الحالتين يعتبر الحكم السابق مستأنف بقوة القانون بشرط أن يكون إستئناف الحكم الصادر في الدعوى الثانية قد رفع قبل أن يصبح الحكم السابق إنتهائياً وذلك بفوات ميعاد الطعن فيه بالإستئناف، فإن كان قد طعن فيه ، تعين ضم الإستئنافين للإرتباط وليصدر فيهما حكم واحد. (المطول في شرح قانون المرافعات، المستشار/ أنور طلبة، الناشر/ المكتب الجامعي الحديث،  الجزء : السادس ، الصفحة : 274)

 صورة هذه الحالة أن يصدر حكم مخالف لحكم مخالف لحكم سابق في الموضوع ولنفس السبب وبين نفس الخصوم فيجوز إستئناف الحكم الثاني ولو كان صادراً في حدود النصاب الإنتهائي ويشترط للإستئناف الشرطان الإتيان أولهما ألا يكون الحكم الأول وقت صدور الحكم الثاني حائزاً لقوة الشيء المحكوم فيه فإذا كان الحكم الثاني صادرا في حدود النصاب الإنتهائي فسبيل الطعن في الحكم الثاني هو النقض والشرط الثاني أن يكون الحكم الثاني صادراً من محكمة الدرجة الأولي وفي حدود نصابها الإنتهائي أما إذا كان الحكم الثاني صادر من محكمة من محاكم الدرجة الثانية فلا يجوز إستئنافه .

وإذا توافرت الشروط التي بينها النص كان الإستئناف مقبولاً ، فإن كان الحكم الأول قد أصبح إنتهائياً عند رفع الإستئناف فلا يطرح علي محكمة الدرجة الثانية وإنما يتعين عليها إلغاء الحكم الثاني أو تعديله علي مقتضي حجية الحكم الأول ، أما إذا كان الحكم الأول ما زال غير إنتهائي عند رفع الإستئناف فإنه يطرح مع الحكم الثاني على محكمة الدرجة الثانية التي يكون لها القضاء فيهما معاً بما تراه غير متقيدة بأيهما . ويشترط أيضاً لإعمال النص أن يكون هناك حكم أخر سبق أن صدر في النزاع ذاته موضوعاً وسبباً بين الخصوم أنفسهم ولم يحز هذا الحكم بقوة الأمر المقضي ( مرافعات رمزي سيف الطبعة الثامنة ص 823 ، وفي هذا المعنى أيضاً مرافعات العشماوي بند 1306).

 ويؤيد الأستاذ كمال عبد العزيز الرأي السابق مستندا في ذلك حكم النقض رقم 1 (مؤلفه في المرافعات الجزء الأول الطبعة الثالثة سن 1420 سنة 1995).

إلا أن الرأي عندنا أنه يتعين علي محكمة الإستئناف في هذه الحالة أن تقضي بعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها لأن الحجية أصبحت من النظام العام ويجب على المحكمة أن تقضي بها من تلقاء نفسها.

يجب على المحكمة أن تتفادى إحتمال تناقض حكمها مع حكم آخر ووسيلة ذلك :

يجب على المحكمة في حالة ما إذا أثير أمامها إحتمال تناقض حكمها مع حكم آخر سيصدر في دعوى أخرى مرتبطة أن تتفادى هذا التناقض بقدر الإمكان ووسيلتها في ذلك أحد أمور ثلاثة أولها أن توقف الدعوى المنظورة أمامها أن توقف الدعوى المنظورة أمامها حتى يصدر الحكم في الدعوى الأخرى وثانيها ضم الدعويين لبعضهما إذا كانا منظورين أمامها وثالثهما إحالة الدعوى للمحكمة الأخرى المعرض عليها الدعوى المرتبطة غير أن مخالفة ذلك في حد ذاته لا يترتب البطلان وإن كان من ناحية أخري إجراء تمليه قواعد العدالة. (التعليق على قانون المرافعات، المستشار/ عز الدين الديناصوري والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات وتحديث أحكام النقض للأستاذ/ خيرت راضي المحامي بالنقض، الطبعة 2017 دار المطبوعات الجامعية،  الجزء : الخامس ،  الصفحة : 382)

شروط إعمال المادة 222 مرافعات محل التعليق: صورة الحالة المنصوص عليها في المادة 222 ، أن يصدر حكم مخالف لحكم سابق في الموضوع، ولنفس السبب، وبين نفس الخصوم فيجوز إستئناف الحكم الثاني، ولو كان صادراً في حدود النصاب الإنتهائى - أی أن يصدر حكم يخالف حکماً آخر سبق أن صدر بين نفس الخصوم في ذات النزاع بموضوعه وسببه، فيجوز إستئناف الحكم الصادر متاخراً، ولو كان إنتهائياً وذلك على سبيل الإستثناء.

ويشترط لجواز الطعن بالإستئناف في الحكم الإنتهائی إستثناء وفقاً للمادة 222 توافر الشروط الأربعة التالية:

1- الشرط الأول: أن يكون الحكمان صادرين في نفس الموضوع مع إتحاد الخصوم والسبب (محمد وعبد الوهاب العشماوي - بند 1206 ، محمد كمال عبدالعزيز - ص 444، بنها الإبتدائية 1950/12/9 - منشور في المحاماة - لسنة 31 ص 1529)، فينبغي أن يكون الحكمان الأول والثاني مادرين في ذات النزاع أى يشترط إتحاد موضوع الطلب و أشخاصهم بصفاتهم القانونية، وأن يكون سبب الطلب القضائي في الحالتين واحداً، أي أن يتجسد في الدعويين مجموع الوقائع المولدة للحق المدعى به في الطلبين (نبيل عمر - بند 132 ص 183)، أو على حد تعبير محكمة النقض أن تكون المسألة في الدعويين واحدة، وأنه يشترط لتوافر هذه الوحدة أن تكون المسألة المقضى فيها مسألة أساسية تناقض فيها الطرفان في الدعوى الأولى، وتعد الأساس لما يدعيه أحدهما في الدعوى الثانية (نقض مدنی 1962/1/25 - لسنة 13 ص 127)، ولاينال من ذلك أي من كون المسألتين دعوی واحدة أن تكون الأدلة القانونية أو الواقعية في الدعوى الثانية لم يسبق إثارتها في الدعوى الأولى، أو أثيرت ولم يبحثها الحكم الصادر فيها (نقض مدني 1962/4/12 - لسنة 13 ص 441 ونقض 1964/10/29 - لسنة 15 ص 996)، كما لا ينال منه أيضاً إختلاف الطلبات في الدعويين، إذا كانت هذه الطلبات متصلة لبعضها إتصالاً عليا، من ذلك أن علة الحكم بصحة العقد عدم بطلانه ومن ثم فإن الحكم ببطلان عقد يختلف مع الحكم الصادر بصحة ذات العقد.( نقض 1964/5/21 - لسنة 15 ص 716 ، ونقض 1962/4/12 مشار إليه).

كما أن الحكم بصحة إجراءات تنفيذها يختلف مع الحكم الذي يصدر ببطلان إجراءات التنفيذ ذاته (عبدالمنعم حسنی - منازعات التنفيذ - ص 19 ، نبيل عمر - الطعن بالاستئناف - ص 184).

2- الشرط الثاني: ألا يكون الحكم الأول - وقت صدور الحكم الثاني - حائزاً لقوة الأمر المقضى، فإذا كان الحكم الأول وقت صدور الحكم الثانی حائزاً لقوة الأمر المقضي، وكان الحكم الثانی صادراً في حدود النصاب الإنتهائي، في سبيل الطعن في الحكم الثاني، هو النقض عملاً بالمادة 249 مرافعات .

ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد، أنه ينبغي التفرقة بين قوة الأمر المقضي، وحجية الأمر المقضي، فالحجية تثبت لكل حكم قضائي قطعی بمجرد صدوره ولو كان قابلاً للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن وهذه الحجية تمنع الخصوم من رفع دعوى جديدة بإدعاءات تناقض ما قضى به هذا الحكم، ولا يجوز معها للمحكمة التي أصدرته، ولا لمحكمة غيرها، أن تعيد النظر فيما قضى به إذا تمسك الخصم الآخر بحجيته، إلا إذا كانت هي المحكمة التي يحصل التظلم إليها منه بإحدى طرق الطعن القانونية، بيد أن هذه الحجية مؤقتة وتقف بمجرد رفع إستئناف عن هذا الحكم وتظل موقوفة إلى أن يقضي في الاستئناف، فإذا تأيد الحكم عادت إليه حجيته وإذا ألغى زالت عنه هذه الحجية.. (نقض 1968/4/18 - لسنة 19 ص 795)، ويقصد بحجية الأمر المقضي أن القرار القضائي إنه يطبق إرادة القانون في الحالة المعينة، فإنه يجوز الاحترام سواء أمام المحكمة التي أصدرته أو أمام المحاكم الأخرى، بحيث إذا رفع أحد الخصوم نفس الدعوى التي فصل فيها مرة أخرى تعين عدم قبولها، وإذا أثير ما قضى به أمام القضاء وجب التسليم به دون بحث مجدد (موریل - بند 587 ص 450 ، فتحی والی - الوسیط بند 82 ص 132)، وتبدو حجية الأمر المقضي في أمرين: الأول: عدم جواز إعادة النظر في الدعوى: فلا يجوز رفع نفس الدعوى مرة أخرى بعد الفصل فيها، ولو قدمت في الخصومة الجديدة أدلة واقعية أو أسانید قانونية لم تسبق إثارتها في الخصومة الأولى (نقض مدنی 1962/4/12 - لسنة 13 - ص 331)، والأمر الثاني: إحترام ما قضى به: ويسري هذا الأثر أيضاً في مواجهة , الخصوم والقاضي، فللخصم الذي أكد القضاء حقه أن يتمتع بحقه وبمزاياه، وإذا رفع دعوى إستناداً إليه، فعلى القاضي احترام التأكيد الذي قضى به (رولاند - الشيء المحكوم فيه - بند 58 ص 84، فتحي والي - الوسيط . ص 134).

بينما قوة الأمر المقضي هي مرتبة يصل إليها الحكم إذا أصبح أثره الملزم نهائياً غير قابل للطعن بالطرق العادية (المعارضة والإستئناف) وإن ظل قابلاً للطعن بالطرق غير العادية (الإلتماس والنقض)، فالحجية تثبت للحكم بمجرد صدوره. (نقض 1968/4/18 - لسنة 19 ص 795 ).

أما قوة الأمر المقضي، فإنها لاتثبت له إلا إذا كان الحكم لايقبل الطعن فيه بالمعارضة، أو بالإستئناف، وذلك سواء صدر لا يقبل الطعن فيه بأي من هذين الطريقين، أو أصبح كذلك بإنقضاء مواعيد الطعن دون رفعه، أو برفض الطعن، أو عدم قبوله، ولا ينال من ذلك أن يكون الحكم قابلاً للطعن فيه بأى من طرق الطعن غير العادية أو يكون قد طعن فيه بالفعل بأی من هذه الطرق، فكل حكم يحوز قوة الأمر المقضي، يكون حائزاً حجية الأمر المقضي، والعكس غير صحيح، فليس كل حكم يحوز حجية الأمر المقضي، وبكون حتماً حائزاً قوة الأمر إنقضي، والتفرقة بين حجية الأمر المقضي وقوة الأمر المقضي لیست تفرقة في الدرجة، بل إن الأمر يتعلق بفكرتين مختلفتين تخدم كل منهما غرضاً مختلفاً، فالحجية تكون بالنسبة المستقبل خارج الخصومة التي صدر فيها الحكم، أما القوة فإن أهميتها تكون داخل هذه الخصومة للدلالة على مدى ما يتمتع به الحكم من قابلية أو عدم قابليته للطعن بطريق معين (انظر: فتحي والي - الوسيط - بند 84 ص 136 ، وجدي راغب - النظرية العامة للعمل القضائي - ص 214 - 211 ، وراجع في الحجية بصفة عامة أيضاً : عبد الرزاق السنهوري - الوسيط - ج 2 ص 631 وما بعدها).

3- الشرط الثالث: أن يكون الحكم المراد إستثنائه قد صدر في حدود النصاب الإنتهائي، أو صدر منها غير قابل للاستئناف، أما إذا كان قابلا للإستئناف وقبله المحكوم عليه أو فوت ميعاد إستئنافه، لم يكن الطعن جائزاً.

وبديهي أن الحكم الذي يصدر في حدود النصاب الإبتدائي لا تبدو الحاجة إلى تقرير نظام إستثنائي لإستئنافه، لكونه مما يقبل الطعن فيه بالإستئناف كقاعدة عامة.

فيتعين أن يكون الحكم الثانی صادراً من محكمة من محاكم الدرجة الأولى في حدود نصابها الإنتهائي، أما إذا كان الحكم الثانی صادراً من محكمة من محاكم الدرجة الثانية فلا يجوز إستئنافه.

4 - الشرط الرابع : أن يكون الحكم الثاني قد قضى بما يخالف الحكم الأول، فينبغي أن يحدث إختلاف بين الحكمين، والمقصود بالخلاف بين الحكمين في هذا الصدد أن يحدث تعارض بين الحكمين، يستحيل معه تنفيذهما تنفيذاً متعاصراً والهدف من هذا الشرط هو تفادي تعارض الأحكام في الموضوع الواحد (نبيل عمر - بند 133 - ص 184 ، عبدالمنعم حسني - بند 479 ص 419)، ويكون الحكم صادراً على خلاف حکم سابق، إذا وقع بينهما تعارض، ويتحقق التعارض بين الحكمين إذا إشتمل على نصوص متناقضة أو متنافية (أسيوط 1930/11/3 - منشور في المحاماة 11 ص 531 ) .

وإذا توافرت الشروط سالفة الذكر، حاز إستئناف الحكم الثاني، ولو كان صادراً في حدود النصاب الإنتهائي، ويكون الإستئناف مقبولاً ، ويختلف أثر الاستئناف في هذه الحالة بإختلاف الفرضين الآتيين:

الفرض الأول: ألا يكون الحكم الأول - وقت رفع الإستئناف عن الحكم الثانی - حائزاً لقوة الأمر المقضي، وفي هذه الصورة بطرح الحكمان على المحكمة الإستئنافية لتعيد النظر فيهما غير متقيدة بأيهما، وعلى هذا نص المشرع في قانون المرافعات الحالي في عجز المادة 222 محل التعليق بقوله .... وفي هذه الحالة يعتبر الحكم السابق مستأنفاً بقوة القانون إذا لم يكن قد صار إنتهائياً عند رفع الاستئناف، وذلك حسماً لما ثار من لبس - في ظل القانون السابق - حول سلطة محكمة الدرجة الثانية في هذه الحالة (انظر: المذكرة الإيضاحية للقانون الحالي - مشار إليها أنفا)، ففي هذا الفرض تمتد سلطة المحكمة الاستئنافية إلى نظر الحكمين معاً، فتؤيد منهما ما تراه حقا دون أن تتقيد بأي من الحكمين وتطبيقا لذلك قضى بأن المحكمة التي يرفع إليها الاستئناف عن الحكم الثاني المخالف الحجية الحكم الأول لا تتقيد بهذه الحجية، بل إن لها أن تعيد النظر في الحكمين .

الفرض الثاني: أن يكون الحكم الأول قد أصبح - وقت رفع الإستئناف بهم عن الحكم الثاني أي عند تقديم صحيفة إستئناف الحكم الثاني لقلم الكتاب - حائزاً لقوة الأمر المقضي وفي هذه الحالة لا يعرض الحكم الأول على المحكمة الإستئنافية، وإنما بتعين إلغاء الحكم الثاني، أو تعديله على نحو لا يخالف فيه الحكم الأول إحتراماً لحجية هذا الأخير، ويتحقق هذا الوضع إذا كان الحكم الأول عند صدور الحكم الثاني قابلاً للإستئناف، ثم أصبح عند رفع الإستئناف عن الحكم الثاني حائزاً لقوة الأمر المقضي (رمزی سيف - الوسيط ص 825) ففي هذا الفرض تتولى محكمة الاستئناف . رفع التناقض بين الحكمين، دون أن يكون الحكم الأول مطروحاً أمامها فهي تعيد النظر في الحكم الثاني فقط، بهدف إزالة التناقض بينه وبين الحكم الأول. (الموسوعة الشاملة في التعليق على قانون المرافعات، الدكتور/ أحمد مليجي، الطبعة الثالثة عشر 2016 طبعة نادي القضاة ،  الجزء : الرابع ، الصفحة : 699)

الفقه الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الحادي والأربعون ، الصفحة / 152

نَقْضُ الْقَضَاءِ:

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِنَقْضِ الْقَضَاءِ:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا خَالَفَ فِي حُكْمِهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا كَانَ قَضَاؤُهُ فَاقِدًا لِشَرْطٍ وَوَجَبَ نَقْضُهُ، إِذْ أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالاِجْتِهَادِ عَدَمُ النَّصِّ بِدَلِيلِ خَبَرِ مُعَاذٍ رضي الله عنه : «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو» وَلأِنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَقَدْ فَرَّطَ، فَوَجَبَ نَقْضُ حُكْمِهِ، إِذْ لاَ مَسَاغَ لِلاِجْتِهَادِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَزَادَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ زِيَادَاتٍ أُخْرَى كَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ.

وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي حُكْمِ مَا يُنْقَضُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ أَنْ يَنْقُضَ مِنْ حُكْمِ قَاضٍ صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ شَيْئًا لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ وَإِلَى أَلاَّ يَثْبُتَ حُكْمٌ أَصْلاً، غَيْرَ مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ سُنَّةٍ آحَادٍ أَوْ خَالَفَ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا، بِخِلاَفِ الإْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.

مَا يُنْقَضُ مِنَ الأْحْكَامِ وَمَا لاَ يُنْقَضُ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُنْقَضُ مِنَ الأْحْكَامِ وَمَا لاَ يُنْقَضُ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَصَرَ النَّقْضَ فِي نِطَاقِ الْمُخَالَفَةِ الصَّرِيحَةِ لِلنَّصِّ أَوِ الإْجْمَاعِ، وَمَنَعَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.

وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَحْكَامَ الْقَاضِي لاَ تَخْلُو عَنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:

قِسْمٌ يُنْقَضُ بِكُلِّ حَالٍ، وَقِسْمٌ يُمْضَى بِكُلِّ حَالٍ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِوَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الْقِسْمُ الأْوَّلُ: مَا يُنْقَضُ مِنَ الأْحْكَامِ:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَقْضُ الْحُكْمِ إِذَا خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الإْجْمَاعَ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا ذُكِرَ: مَا يَشِذُّ مَدْرَكُهُ أَيْ دَلِيلُهُ، أَوْ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ، أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَقَيَّدَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي يُنْقَضُ إِذَا خَالَفَ الْقَوَاعِدَ أَوِ الْقِيَاسَ أَوِ النَّصَّ - فَالْمُرَادُ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا مُعَارِضٌ فَلاَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلإْجْمَاعِ فَلاَ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ وَيَجِبُ نَقْضُهُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ لِلأْخِ دُونَ الْجَدِّ، فَهَذَا خِلاَفُ الإْجْمَاعِ، لأَنَّ الأْمَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْمَالُ كُلُّهُ لِلْجَدِّ أَوْ يُقَاسِمُ الأْخَ، وَأَمَّا حِرْمَانُ الْجَدِّ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الأْمَّةِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خَالَفَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ قِيَاسَ التَّحْقِيقِ - نُقِضَ بِهِ حُكْمُهُ وَحُكْمُ غَيْرِهِ؛لأِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه  عَدَلَ عَنِ اجْتِهَادٍ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ حِينَ أَخْبَرَهُ حَمْلُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. 

وَكَانَ لاَ يُوَرِّثُ امْرَأَةً مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى رَوَى لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا فَوَرَّثَهَا عُمَرُ».

وَقَضَى فِي الأْصَابِعِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإْبِلِ»وَنَقَضَ عَلِيٌّ رضي الله عنه  قَضَاءَ شُرَيْحٍ فِي ابْنَيْ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لأِمٍّ - بِأَنَّ الْمَالَ لِلأْ خِمُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَأُولُو الأْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه  نَقَضَ ذَلِكَ الْحُكْمَ لِمُخَالَفَةِ نَصِّ هَذِهِ الآْيَةِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا آثَارٌ لَمْ يَظْهَرْ لَهَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَتْ إِجْمَاعًا، وَلأِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَصْلُ الإِْجْمَاعِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ خَالَفَ قَطْعِيًّا كَنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ ظَنًّا مُحْكَمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَيَلْزَمُهُ نَقْضُ حُكْمِهِ، أَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ وَأَنَّهُ الصَّوَابُ، فَلْيَحْكُمْ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَخَوَاتِ الْحَادِثَةِ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا، وَلاَ يَنْقُضُ مَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلاً، بَلْ يُمْضِيهِ، ثُمَّ مَا نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ نَفْسِهِ نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَمَا لاَ فَلاَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَتَتَبَّعُ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَنْقُضُهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ، وَلَهُ تَتَبُّعُ قَضَاءِ نَفْسِهِ لِيَنْقُضَهُ.

وَقَالَ: مَا يَنْقُضُ مِنَ الأَْحْكَامِ لَوْ كُتِبَ بِهِ إِلَيْهِ لاَ يَخْفَى أَنَّهُ لاَ يَقْبَلُهُ وَلاَ يُنَفِّذُهُ. وَأَمَّا مَا لاَ يَنْقُضُ وَيَرَى غَيْرَهُ أَصْوَبَ مِنْهُ فَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلاَ يُنَفِّذُهُ لأِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ خَطَأً، وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: لاَ أُحِبُّ تَنْفِيذَهُ. وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِتَجْوِيزِ تَنْفِيذِهِ.

وَصَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ (الشَّافِعِيُّ) بِنَقْلِ الْخِلاَفِ فَقَالَ: إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ حُكْمُ قَاضٍ قَبْلَهُ فَلَمْ يَرَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي النَّقْضَ، لَكِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: يُعْرِضُ عَنْهُ، وَأَصَحُّهُمَا: يُنْفِذُهُ، وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ تَغَيُّرًا لاَ يَقْتَضِي النَّقْضَ، وَتَرَافَعَ الْخُصُومُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ الأَْوَّلَ وَإِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ مِنْهُ.

وَيَرَى فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ مُخَالَفَةُ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفِ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) فَإِنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَزَوُّجِ امْرَأَةِ الأْبِ وَجَارِيَتِهِ الَّتِي وَطِئَهَا الأْبُ، فَلَوْ حَكَمَ قَاضٍ بِجَوَازِ ذَلِكَ نَقَضَهُ مَنْ رُفِعَ إِلَيْهِ.

وَإِنَّ الْمُرَادَ بِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ كَالْحُكْمِ بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لِلزَّوْجِ الأْوَّلِ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ بِدُونِ إِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ ثَابِتٌ بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ.

وَالْمُرَادُ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَيْ جُلُّ النَّاسِ وَأَكْثَرُهُمْ، وَمُخَالَفَةُ 

الْبَعْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، لأِنَّ ذَلِكَ خِلاَفٌ لاَ اخْتِلاَفٌ، وَقَالُوا: يُنْقَضُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ حُكْمًا لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ قَطْعًا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لاَ يُنْقَضُ مِنَ الأْحْكَامِ:

لاَ يُنْقَضُ مِنَ الأْحْكَامِ كُلُّ حُكْمٍ وَافَقَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، فَإِذَا أَصَابَ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ فَالأْصْلُ أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ كَمَا إِذَا حَكَمَ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا وَحُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِهِ نَافِذًا، لاَ يُتَعَقَّبُ بِفَسْخٍ وَلاَ نَقْضٍ، لأِنَّ هَذَا الْقَضَاءَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الاِجْتِهَادِ فَنَفَذَ، وَلَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَجُوزُ إِبْطَالُهُ، وَالأْصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم كَانَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ، وَيَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ مَا قَضَى، فَيَسْتَقْبِلُ حُكْمَ الْقُرْآنِ وَلاَ يَرُدُّ قَضَاءَهُ الأْوَّلَ»وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّهُ حَكَمَ بِحِرْمَانِ الإْخْوَةِ الأْشِقَّاءِ مِنَ التَّرِكَةِ فِي الْمُشْرِكَةِ، ثُمَّ شَرَّكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْقُضْ قَضَاءَهُ الأْوَّلَ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي»، وَقَضَى فِي الْجَدِّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يَرُدَّ الأْولَى، وَلأِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لاَ يَثْبُتَ الْحُكْمُ أَصْلاً، لأِنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ يُخَالِفُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالثَّالِثُ يُخَالِفُ الثَّانِيَ، فَلاَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لَوْ قَضَى عَلَى خِلاَفِ قِيَاسٍ خَفِيٍّ - وَهُوَ مَا لاَ يُزِيلُ احْتِمَالَ الْمُفَارَقَةِ وَلاَ يَبْعُدُ كَقِيَاسِ الأْرْزِ عَلَى الْبُرِّ فِي بَابِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الطَّعَامِ - فَلاَ يَنْقُضُ الْحُكْمُ الْمُخَالِفَ لَهُ، لأِنَّ الظُّنُونَ الْمُتَعَادِلَةَ لَوْ نَقَضَ بَعْضُهَا بَعْضًا لَمَا اسْتَمَرَّ حُكْمٌ وَلَشَقَّ الأْمْرُ عَلَى النَّاسِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنِ اجْتَهَدَ مِنَ الْحُكَّامِ فَقَضَى بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ رَأَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ خَطَأٌ، فَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَمْ يَرُدَّهُ، وَحَكَمَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ بِالَّذِي هُوَ أَصْوَبُ. 

وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الاِجْتِهَادِ وَالْحُكْمِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ.

فَالْحُكْمُ فِي مَحَلِّ الاِجْتِهَادِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَسَبَبِ الْقَضَاءِ، كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِينِ بِالْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَكَانَ الْقَاضِي يَرَى سَمَاعَ شَهَادَتِهِمَا، فَإِذَا رُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لاَ يَرَى ذَلِكَ يُمْضِيهِ وَلاَ يَنْقُضْهُ. وَكَذَا لَوْ قَضَى لاِمْرَأَةٍ بِشَهَادَةِ زَوْجِهَا وَآخَرَ أَجْنَبِيٍّ، فَرُفِعَ لِمَنْ لاَ يُجِيزُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ أَمْضَاهُ، لأِنَّ الأْوَّلَ قَضَى بِمُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، لأِنَّ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ سَبَبُ الْقَضَاءِ، وَهُوَ أَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلاَءِ هَلْ تَصِيرُ حُجَّةً لِلْحُكْمِ أَوْ لاَ؟

فَالْخِلاَفُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَسَبَبِ الْحُكْمِ لاَ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ.

وَفَصَّلُوا مَسْأَلَةَ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ، فَقَالُوا: إِنْ حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مَحَلَّ الاِجْتِهَادِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيَّ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسَ الْقَضَاءِ.

فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيَّ بِهِ، فَرُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يَنْقُضْهُ الثَّانِي بَلْ يُنْفِذُهُ لِكَوْنِهِ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، لِمَا عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِأَيِّ الأْقْوَالِ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَلَوْ نَقَضَهُ إِنَّمَا يَنْقُضُهُ بِقَوْلِهِ، وَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَلاَ يَجُوزُ نَقْضُ مَا صَحَّ بِالاِتِّفَاقِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ، وَلأِنَّهُ لَيْسَ مَعَ الثَّانِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ بَلِ اجْتِهَادِيٌّ، وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الأْوَّلِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَهُوَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ اتَّضَحَ لَهُ، فَلاَ يَجُوزُ نَقْضُ مَا مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلأِنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ الْقَضَاءِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الاِجْتِهَادِ وَأَنْ لاَ يَجُوزَ نَقْضُهُ، لأِنَّهُ لَوْ جَازَ نَقْضُهُ بِرَفْعِهِ إِلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلاَفَ رَأْيِ الأْوَّلِ فَيَنْقُضُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إِلَى قَاضٍ ثَالِثٍ يَرَى خِلاَفَ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ، وَيَقْضِي كَمَا قَضَى الأْوَّلُ، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنْ لاَ تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا، وَالْمُنَازَعَةُ فَسَادٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى الْفَسَادِ فَسَادٌ.

فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي رَدَّ الْحُكْمَ، فَرَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ ثَالِثٍ - نُفِّذَ قَضَاءُ الأْوَّلِ وَأُبْطِلَ قَضَاءُ الْقَاضِي الثَّانِي، لأِنَّهُ لاَ مَزِيَّةَ لأِحَدِ الاِجْتِهَادَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الأْوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلاَ يُنْتَقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، كَمَا أَنَّ قَضَاءَ الأْوَّلِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الاِجْتِهَادِ، وَالْقَضَاءُ بِالْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ بِالإْجْمَاعِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ مِنَ  الثَّانِي مُخَالِفًا لِلإْجْمَاعِ، فَيَكُونُ بَاطِلاً، وَلأِنَّهُ لاَ يُنْقَضُ الاِجْتِهَادُ بِالاِجْتِهَادِ، وَالدَّعْوَى مَتَى فَصَلَتْ مَرَّةً بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لاَ تُنْتَقَضُ وَلاَ تُعَادُ، فَيَكُونُ قَضَاءُ الأْوَّلِ صَحِيحًا، وَقَضَاءُ الثَّانِيَ بِالرَّدِّ بَاطِلاًوَشَرْطُ نَفَاذِ الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي حَادِثَةٍ وَدَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَإِنْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ كَانَ فَتْوَى لاَ حُكْمًا.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ نَفْسُهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ، أَوْ كَانَ فِي مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الاِجْتِهَادِ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّازِلَةِ مَوْضُوعِ الدَّعْوَى يَرْفَعُ الْخِلاَفَ، فَلاَ يَجُوزُ لِمُخَالِفٍ فِيهَا نَقْضُهَا، فَإِذَا حَكَمَ بِفَسْخِ عَقْدٍ أَوْ صِحَّتِهِ لِكَوْنِهِ يَرَى ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِقَاضٍ غَيْرِهِ وَلاَ لَهُ نَقْضُهُ، وَهَذَا فِي الْخِلاَفِ الْمُعْتَبَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ وَأَنَّهُ الصَّوَابُ فَلاَ يَنْقُضُ حُكْمَهُ، بَلْ يُمْضِيهِ وَيَحْكُمُ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَقْضِهِ مِنَ الأَحْكَامِ:

الأْحْكَامُ الَّتِي يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا بَيْنَ الْقَوْلِ بِنَقْضِهَا وَالْقَوْلِ بِعَدَمِ النَّقْضِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَيَتَعَذَّرُ حَصْرُهَا، وَأَهَمُّهَا:

أ- الْحُكْمُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْحُكْمُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ: هُوَ مَا يَقَعُ الْخِلاَفُ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ الْحُكْمِ، فَقِيلَ: يَنْفُذُ، وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ عَلَى إِمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَفَيَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَنْقُضَ قَضَاءَ الأْوَّلِ إِذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إِلَى خِلاَفِ اجْتِهَادِ الأْوَّلِ، لأِنَّ قَضَاءَهُ لَمْ يُجَزْ بِقَوْلِ الْكُلِّ، بَلْ بِقَوْلِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَلَمْ يَكُنْ جَوَازُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَكَانَ مُحْتَمِلاً لِلنَّقْضِ بِمِثْلِهِ، فَلَوْ أَبْطَلَهُ الثَّانِي بَطَلَ، وَلَيْسَ لأِحَدٍ أَنْ يُجِيزَهُ كَمَا لَوْ قَضَى لِوَلَدِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ لاِمْرَأَتِهِ، لأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

أَمَّا إِذَا أَمْضَاهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلثَّالِثِ 

نَقْضُهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ فِي مَحَلٍّ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِهِ مَحَلَّ الاِجْتِهَادِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الاِجْتِهَادِ كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَنْفُذُ؛ لأِنَّهُ مَحَلُّ الاِجْتِهَادِ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ يَنْفُذُ لِوُقُوعِ الاِتِّفَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَخَرَجَ عَنْ مَحَلِّ الاِجْتِهَادِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الإْجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ لاَ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ الْمُتَقَدِّمَ - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - أَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَرَى أَنَّ الإْجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ الْمُتَقَدِّمَ، فَكَانَ هَذَا الْفَصْلُ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلاَ يَرُدُّهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الاِجْتِهَادِ وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لاَ يَنْفُذُ، بَلْ يَنْقُضُهُ لأِنَّ قَضَاءَ الأْوَّلِ وَقَعَ مُخَالِفًا لِلإْجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلاً.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ - فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ - فَحَكَمَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ أَنَّ الصَّوَابَ خِلاَفُهُ فَلاَ يَنْقُضُهُ، لأِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ نَقْضُ هَذَا لِرَأْيِهِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ نَقْضُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَلاَ يَقِفُ عَلَى حَدٍّ، وَلاَ يَثِقُ أَحَدٌ بِمَا قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَالُوا: يُفْسَخُ الْحُكْمُ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا سَبَقَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاضِي حَكَمَ بِقَضِيَّةٍ فِيهَا اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَوَافَقَ قَوْلاً شَاذًّا نَقَضَ حُكْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاذًّا لَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَيَرْفَعُ أَمْرَهُ إِلَى مَنْ لاَ يَرَى الْبَتَّةَ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً، فَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ - أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَلَسْتُ أَرَاهُ، لاَ يَرْجِعُ الْقَاضِي عَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ وَلاَ إِلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الأْوْلَى خَطَأً بَيِّنًا صُرَاحًا. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي الْمُسْتَنِدِ إِلَى اجْتِهَادِهِ الْمُخَالِفِ خَبَرَ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الَّذِي لاَ يَحْتَمِلُ إِلاَّ تَأْوِيلاً بَعِيدًا يَنْبُو الْفَهْمُ عَنْ قَبُولِهِ - يُنْقَضُ، وَقِيلَ: لاَ يُنْقَضُ، مِثَالُهُ الْقَضَاءُ بِنَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ - عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ - وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ بِلاَ وَلِيٍّ. وَقِيلَ: الأْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ، وَصَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، ثُمَّ بَانَ لَهُ فَسَادُ اجْتِهَادِهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلاَّ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ دُونَ الأْوَّلِ، وَلَوْ بَانَ لَهُ فَسَادُ الاِجْتِهَادِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِهِ حَكَمَ بِالاِجْتِهَادِ الثَّانِي دُونَ الأْوَّلِ، قِيَاسًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إِنْ بَانَ لَهُ بِالاِجْتِهَادِ خَطَأُ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اجْتِهَادِهِ قَبْلَ صَلاَتِهِ عَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِهِ الثَّانِي دُونَ الأْوَّلِ، وَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ صَلاَتِهِ لَمْ يُعِدْ، وَصَلَّى، وَاسْتَقْبَلَ الصَّلاَةَ الثَّانِيَةَ بِالاِجْتِهَادِ الثَّانِي.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِذَا رَفَعَ إِلَى قَاضٍ حَكَمَ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ لاَ يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ لِيُنَفِّذَهُ لَزِمَهُ تَنْفِيذُهُ فِي الأْصَحِّ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الْمَرْفُوعُ إِلَيْهِ صَحِيحًا، لأَِنَّهُ حُكْمٌ سَاغَ الْخِلاَفُ فِيهِ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ نَفْسُ الْحُكْمِ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَحُكْمِهِ بِعِلْمِهِوَقِيلَ: يَحْرُمُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ إِذَا كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي لاَ يَرَى صِحَّةَ الْحُكْمِ، وَفِي الْمُحَرَّرِ: أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ قَبْلَهُ.

ب- عَدَمُ عِلْمِ الْقَاضِي بِاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا رُفِعَ إِلَى قَاضٍ حُكْمُ قَاضٍ آخَرَ نَفَّذَهُ، أَيْ: أُلْزِمَ الْحُكْمَ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، لَوْ مُجْتَهِدًا فِيهِ عَالِمًا بِاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ، وَلاَ يُمْضِيهِ الثَّانِي فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، لَكِنْ فِي الْخُلاَصَةِ: وَيُفْتَى بِخِلاَفِهِ - وَكَأَنَّهُ - تَيْسِيرًا.

وَأَضَافَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا قَضَى الْمُجْتَهِدُ فِي حَادِثَةٍ، لَهُ فِيهَا رَأْيٌ مُقَرَّرٌ قَبْلَ قَضَائِهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ الَّتِي قَصَدَ فِيهَا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ حُكْمُهُ فِي الْمَحَلِّ الْمُخْتَلَفِ عَلَيْهِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ قَضَاءَهُ هَذَا عَلَى خِلاَفِ رَأْيِهِ الْمُقَرَّرِ قَبْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَحِينَئِذٍ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَأَمَّا إِذَا وَافَقَ قَضَاؤُهُ رَأْيَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ قَضَائِهِ أَنَّ فِيهَا خِلاَفًا، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الإْسْلاَمِ بِأَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ حُكْمُ الْقَاضِي بِعَدَمِ عِلْمِهِ الْخِلاَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ، لأِنَّ 

عِلْمَهُ بِالْخِلاَفِ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ وَلاَ بُطْلاَنِهِ حَيْثُ وَافَقَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ.

ج- الْخَطَأُ فِي الْحُكْمِ:

يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَصَدَ الْحُكْمَ بِشَيْءٍ فَأَخْطَأَ عَمَّا قَصَدَهُ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوِ اشْتِغَالِ بَالٍ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَيَنْقُضُهُ الَّذِي أَصْدَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ.

وَكَذَلِكَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا حَكَمَ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَلاَ اجْتِهَادٍ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، وَوَجْهُ النَّفَاذِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ لأَِنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ الصَّوَابَ، وَرَأْيُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأً، فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ، فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، وَوَجْهُ عَدَمِ النَّفَاذِ أَنَّ قَضَاءَهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ. وَبِهَذَا أَخَذَ شَمْسُ الأْئِمَّةِ الأْوْزَجَنْدِيُّ، وَبِالأْوَّلِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ.

 وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ لأِنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ.

د- إِذَا خَالَفَ مَا يَعْتَقِدُهُ أَوْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ:

إِذَا خَالَفَ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ مَذْهَبَهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ، وَبِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مُقَلِّدًا وَقَضَى فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ أَوْ رَأْيِ مُقَلَّدِهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُضُ هُوَ حُكْمَهُ دُونَ غَيْرِهِ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقَلِّدُ غَيْرَ مُتَبَحِّرٍ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ لِلْمُعْتَمَدِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَذْهَبِ مَنْ قَلَّدَهُ لَمْ يُنْقَضْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي مُتَّبِعًا لإِمَامٍ فَخَالَفَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لِقُوَّةِ دَلِيلٍ أَوْ قَلَّدَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ أَوْ أَتْقَى مِنْهُ فَحَسَنٌ، وَلَمْ يُقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ.

 وَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ مَجَلَّةِ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ خِلاَفَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي أُمِرَ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا، فَإِنْ عَمِلَ وَحَكَمَ لاَ يُنَفَّذُ حُكْمُهُ، لأِنَّهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ الرَّأْيَ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي قَاضِيًا لِلْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْمَذْكُورِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ وَالْمُقَلِّدَ إِذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ ثُمَّ جَدَّتْ أُخْرَى مُمَاثِلَةً فَإِنَّ حُكْمَهُ لاَ يَتَعَدَّى لِلدَّعْوَى الأْخْرَى، فَالْمُجْتَهِدُ يَجْتَهِدُ فِي النَّازِلَةِ الْجَدِيدَةِ، وَالْمُقَلِّدُ يَحْكُمُ بِمَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلاً مِنْ رَاجِحِ قَوْلِ مُقَلَّدِهِ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ أَنْ يَحْكُمَ بِضِدِّهِ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِفَسْخِ نِكَاحِ مَنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِلاَ وَلِيٍّ، ثُمَّ تَجَدَّدَ مِثْلُهَا، فَنَظَرَهَا قَاضٍ يَرَى صِحَّةَ الزَّوَاجِ بِدُونِ وَلِيٍّ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ارْتَفَعَ فِيهَا الْخِلاَفُ وَلَمْ يَجُزْ لأِحَدٍ نَقْضُهُ، حَتَّى وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْقَضِيَّةِ الأْولَى هِيَ ذَاتَ الْمَرْأَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ.

وَإِذَا خَالَفَ الْقَاضِي مَا يَعْتَقِدُهُ: بِأَنْ حَكَمَ بِمَا لاَ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ لاِعْتِقَادِهِ بُطْلاَنَهُ، فَإِنِ اعْتَقَدَهُ صَحِيحًا وَقْتَ الْحُكْمِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَلاَ نَصَّ وَلاَ إِجْمَاعَ لَمْ يَنْقُضْهُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ.

هـ - صُدُورُ الْحُكْمِ مِنْ قَاضٍ لاَ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ:

إِذَا وَلِيَ مَنْ لاَ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ لِجَهْلٍ أَوْ نَحْوِهِ فَهَلْ تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا، مَا أَصَابَ فِيهَا وَمَا أَخْطَأَ، أَمْ يَقْتَصِرُ النَّقْضُ عَلَى الأْحْكَامِ الَّتِي يَشُوبُهَا الْخَطَأُ؟

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ أَحْكَامَهُ كُلَّهَا تُنْقَضُ وَإِنْ أَصَابَ فِيهَا، لأِنَّهَا صَدَرَتْ مِمَّنْ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، لَكِنَّ صَاحِبَ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَلاَّهُ ذُو شَوْكَةٍ بِحَيْثُ يُنَفَّذُ حُكْمُهُ مَعَ الْجَهْلِ، أَوْ نَحْوِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يُنْقَضُ مَا أَصَابَ فِيهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ الْمُخَالِفَةُ لِلصَّوَابِ كُلُّهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ أَمْ لاَ يَسُوغُ، لأِنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَضَاؤُهُ كَعَدَمِهِ، لأِنَّ شَرْطَ الْقَضَاءِ غَيْرُ مُتَوَفِّرٍ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي نَقْضِ قَضَايَاهُ نَقْضُ الاِجْتِهَادِ بِالاِجْتِهَادِ؛ لأِنَّ الأْوَّلَ لَيْسَ بِاجْتِهَادٍ. وَلاَ يُنْقَضُ مَا وَافَقَ الصَّوَابَ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي نَقْضِهِ، فَإِنَّ الْحَقَّ وَصَلَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَالْحَقُّ إِذَا وَصَلَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ لَمْ يُغَيَّرْ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ بِقَضَاءٍ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاوِرُ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي أَحْكَامِهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُشَاوِرُهُمْ فَتُنْقَضُ كُلُّهَا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِنْ شَاوَرَ الْعُلَمَاءَ مَضَى قَطْعًا وَلَمْ يُتَعَقَّبْ حُكْمُهُ.

وَاخْتَارَ صَاحِبُ الإْنْصَافِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ مِنْ أَحْكَامِهِ إِلاَّ مَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ هَذَا عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ مِنْ زَمَنٍ وَلاَ يَسَعُ النَّاسَ غَيْرُهُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِخِلاَفِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَأَعْطَى بِذَلِكَ حُجَّةً لاَ يُنَفَّذُ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وَلاَ يُعْمَلُ بِالْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ»أَيْ قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ وَحَكَمَ بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ وَحَكَمَ بِخِلاَفِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَكَذَا قَاضٍ قَضَى عَلَى جَهْلٍ.

و- صُدُورُ حُكْمٍ مِنْ قَاضٍ جَائِرٍ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأْحْكَامِ الَّتِي يُصْدِرُهَا الْقَاضِي إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْجَوْرِ وَكَانَ غَيْرَ عَدْلٍ فِي حَالِهِ وَسِيرَتِهِ - عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلاً، ظَهَرَ جَوْرُهُ أَوْ خَفِيَ - هَلْ تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا مَا جَانَبَ الصَّوَابَ وَمَا وَافَقَهُ، أَمْ تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ الْخَاطِئَةُ دُونَ غَيْرِهَا؟

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا - إِلَى وُجُوبِ نَقْضِ أَحْكَامِهِ كُلِّهَا، صَوَابًا كَانَتْ أَوْ خَطَأً، لأِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ حَيْفُهُ.

وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا ظَهَرَ الصَّوَابُ وَالْعَدْلُ فِي قَضَائِهِ، وَكَانَ بَاطِنُ أَمْرِهِ فِيهِ جَوْرٌ، وَلَكِنْ عُرِفَ مِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّ حُكْمَهُ فِيهَا صَوَابٌ، وَشَهِدَ بِذَلِكَ مَنْ عَرَفَ الْقَضَايَا،فَإِنَّ أَحْكَامَهُ تَمْضِي وَلاَ تُنْقَضُ، لأِنَّهَا إِذَا نُقِضَتْ وَقَدْ مَاتَتِ الْبَيِّنَةُ وَانْقَطَعَتِ الْحُجَّةُ كَانَ ذَلِكَ إِبْطَالاً لِلْحَقِّ.

وَقَالَ أَصْبَغُ: إِنَّ أَقْضِيَةَ الْخُلَفَاءِ وَالأْمَرَاءِ وَقُضَاةِ السُّوءِ جَائِزَةٌ مَا عُدِلَ فِيهِ مِنْهَا، وَيُنْقَضُ مِنْهَا مَا تَبَيَّنَ فِيهِ جَوْرٌ أَوِ اسْتُرِيبَ، مَا لَمْ يُعْرَفِ الْقَاضِي بِالْجَوْرِ فَتُنْقَضُ كُلُّهَا.

وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ فِي الْقَاضِي غَيْرِ الْعَدْلِ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ:

الأْوَّلُ: تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.

الثَّانِي: عَدَمُ نَقْضِهَا مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ، مَا لَمْ يَثْبُتِ الْجَوْرُ، وَفِي التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ ضَرَرٌ لِلنَّاسِ وَوَهَنٌ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَخْلُو مِنْ أَعْدَاءٍ يَرْمُونَهُ بِالْجَوْرِ يُرِيدُونَ الاِنْتِقَامَ مِنْهُ بِنَقْضِ أَحْكَامِهِ، فَيَنْبَغِي عَدَمُ تَمْكِينِهِمْ مِنْ ذَلِكَ.

الثَّالِثُ: رَأْيُ أَصْبَغَ، وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا عَدَلَ فِيهِ وَلَمْ يُسْتَرَبْ فِيهِ، وَيُنْقَضْ مَا تَبَيَّنَ فِيهِ الْجَوْرُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْقَضُ حُكْمُ مَنْ شَاعَ 

جَوْرُهُ إِذَا أَثْبَتَ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ حَكَمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَاضِي تَعَمَّدَ الْجَوْرَ فِيمَا قَضَى وَأَقَرَّ بِهِ فَالضَّمَانُ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ أَوْ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَيُعَزَّرُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ لاِرْتِكَابِهِ الْجَرِيمَةَ الْعَظِيمَةَ، وَيُعْزَلُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَنَصَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ جَوْرُهُ وَرِشْوَتُهُ رُدَّتْ قَضَايَاهُ وَشَهَادَتُهُ.

ز- الْحُكْمُ الْمَشُوبُ بِالْبُطْلاَنِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ أَوْ لأِحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ مَنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:

الرَّأْيُ الأْوَّلُ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ - نَقْضَ الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ بَاطِلاً لِمَكَانِ التُّهْمَةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ، فَيُنَفَّذُ حُكْمُهُ لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ شَرِيكِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْمُخْتَارِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ - أَنَّهُ يُنَفَّذُ حُكْمُهُ لَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ، لأِنَّ الْقَاضِيَ أَسِيرُ الْبَيِّنَةِ، فَلاَ تَظْهَرُ مِنْهُ تُهْمَةٌ.

وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَبْنَى الْحُكْمِ هُوَ اعْتِرَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ لاِبْنِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ ذُكِرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ لَهُمْ لأِنَّهُ يُتَّهَمُ بِالتَّسَاهُلِ فِيهَا.

وَيُنْقَضُ الْحُكْمُ إِذَا أَثْبَتَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ مِنْ وُجُودِ عَدَاوَةٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ الْقَاضِي، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَوْ أَحَدِ وَالِدَيْهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَجَوَّزَ الْمَاوَرْدِيُّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَسْبَابَ الْحُكْمِ ظَاهِرَةٌ بِخِلاَفِ شَهَادَتِهِ عَلَى عَدُوِّهِ.

ح- الْحُكْمُ بِبَيِّنَةٍ فِيهَا خَلَلٌ:

إِذَا كَانَ مَبْنَى الْحُكْمِ بَيِّنَةً لاَ شِيَةَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ نَقْضُ الْحُكْمِ، وَإِنِ اعْتَوَرَ الْبَيِّنَةَ مَا يَعِيبُهَا، نُظِرَ: هَلْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ أَمْ لاَ؟ وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

كَوْنُ الشَّاهِدَيْنِ كَافِرَيْنِ أَوْ صَغِيرَيْنِ:

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَقْضِ الْحُكْمِ إِذَا بُنِيَ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ظَهَرَ كَوْنُهُمَا كَافِرَيْنِ، أَوْ صَغِيرَيْنِ فِيمَا عَدَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ بَيْنَ الصِّغَارِ بِشُرُوطِهَا - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا .

فِسْقُ الشَّاهِدَيْنِ:

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ يُنْقَضُ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ كَانَا قَبْلَ الْحُكْمِ غَيْرَ عَدْلَيْنِ لِفِسْقِهِمَا.

وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ نَقْضَ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْمَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِينَ لَكِنَّهُ إِذَا قَضَى بِمُوجِبِهِمَا لاَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِلاَّ فِيمَا ذُكِرَ.

 وَيَرَى ابْنُ الزَّاغُونِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي نَقْضُ الْحُكْمِ بِفِسْقِ الشُّهُودِ إِلاَّ بِثُبُوتِهِ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا إِنْ حَكَمَ بِعِلْمِهِ فِي عَدَالَتِهِمَا، أَوْ بِظَاهِرِ عَدَالَةِ الإِْسْلاَمِ فَلاَ يُنْقَضُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِوَيَرَى ابْنُ قُدَامَةَ وَأَبُو الْوَفَاءِ أَنَّهُ إِذَا بَانَ فِسْقُ الشُّهُودِ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ بَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَنْقُضْهُ.

تَقْصِيرُ الْقَاضِي فِي الْكَشْفِ عَنِ الشُّهُودِ:

إِذَا ادَّعَى الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ قَصَّرَ فِي الْكَشْفِ عَنِ الشُّهُودِ وَأَتَى بِمَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ بِمَا يَجْرَحُهُمْ كَالْفِسْقِ، فَفِي نَقْضِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ لِلإِمَامِ مَالِكٍ، وَبِالنَّقْضِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَبِعَدَمِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ.