loading

موسوعة قانون المرافعات

الأحكام

1- طلب الخصم تمكينه من إثبات أو نفى دفاع جوهرى بوسيلة من وسائل الإثبات الجائزة قانوناً هو حق له يتعين على المحكمة الموضوع إجابته إليه متى كانت هذه الوسيلة منتجة فى النزاع ولم يكن فى أوراق الدعوى والأدلة الأخرى المطروحة عليها ما يكفى لتكوين عقيدتها فيه إذا كان ذلك ولم يكن فى أوراق الدعوى والأدلة الأخرى المطروحة عليها ما يكفى لتكوين عقيدتها فيه إذا كان ذلك وكان الثابت بالأوراق أن الطاعن تمسك أمام محكمة الإستئناف بطلب إحالة الدعوى إلى التحقيق لإثبات أن العقد البيع المؤرخ1960/11/3لم يصدر من المورث المطعون عليهم من الثالثة للخيرة لأنه لم يكن يوقع ببصمة إصبعه وغنما كان يستعمل ختمه وان البصمة المذيل بها العقد مزورة عليه وذلك بعد أن أورى خبير مصلحة تحقيق الأدلة الجنائية تعذر فحص هذه البصمة لعدم تقديم أوراق للمضاهاة ، وكان إثبات أو نفى حصول التوقيع على الورقة المطعون عليها - بإعتبار أنه واقعة مادية - يجوز إثباته بطرق الإثبات كافة ومنها شهادة الشهود، فإن الحكم المطعون فيه إذا اطرح هذا الطلب وانتهى إلى الرفض الطعن بالتزوير وترتب على ذلك الحكم المطعون فيه إذا طرح هذا الطلب وانتهى إلى الرفض الطعن بالتزوير ورتب على ذلك بتأييد الحكم المستأنف مجتزئا القول أن الطاعن تقاعس عن تقديم أوراق مضاهاة وهو رد غير سائغ ولا يواجه دفاع الطاعن رغم أنه دفاع جوهرى من شانه لو صح - أن يتغير وجه الرأى فى الدعوى فإنه يكون معيباً بالقصور فى التسبيب والإخلال.

( الطعن رقم 822 لسنة 59 - جلسة 1993/12/05 - س 44 ع 3 ص 326 ق 345 )

2- محكمة الموضوع و إن كانت غير ملزمة بإجابة الخصوم إلى ما يطلبونه من إحالة الدعوى إلى التحقيق لإثبات ما يجوز إثباته بشهادة الشهود ، إلا أنها ملزمة إذا رفضت هذا الطلب أن تبين فى حكمها ما يسوغ رفضه .

( الطعن رقم 2003 لسنة 53 - جلسة 1989/04/06 - س 40 ع 2 ص 43 ق 168 )

3- يشترط فى الواقعة محل الإثبات أن تكون جائزة القبول وليست مما يحرم القانون إثباتها لأغراض مختلفه ، وحظر الإثبات إذا كان منطويا على إفشاء لأسرار المهنة أو الوظيفة . لا يتعلق بواقعه يحرم إثباتها ، وإنما يتعلق بدليل لا يجوز قبوله فى صورة معينة ، بمعنى أن عدم جواز القبول لا ينصب على الواقعة فى حد ذاتها ، وبحيث تكون الواقعة التى يقف عليها الشخص بسبب وظيفته أو مهنته جائزة القبول ولكن لا يجوز إثباتها بشهادته .

( الطعن رقم 674 لسنة 46 - جلسة 1979/02/28 - س 30 ع 1 ص 647 ق 122 )

شرح خبراء القانون

نصت المادة الثانية من قانون الإثبات على أنه "يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالدعوى ومنتجة فيها وجائز قبولها" وبذلك يكون المشروع قد حدد على سبيل الحصر الشروط الواجب توافرها في الوقائع والتصرفات المراد إثباتها أو إقامة الدليل عليها ، فإذا فقد الدليل شرطاً من هذه الشروط وجب إستبعاده وعدم التعويل عليه ، وأصبح الارتكان إليه خطأ في تطبيق القانون وفساداً في الإستدلال مما يعيب الحكم ويبطله ، ويجعله حرياً بالإلغاء لدى محكمة الطعن .

وهذه الشروط هي : 

1- أن تكون الوقائع أوالتصرفات المراد إثباتها أو إقامة الدليل عليها متعلقة بالدعوى .

2- أن يكون إثبات تلك الوقائع أو التصرفات منتجاً في الدعوى ، أي مغيراً لوجه الرأي فيها أو معدلاً له .

3- أن يكون إثبات تلك الوقائع أو التصرفات جائزاً أصلاً وليس ممنوعاً أو محظوراً بمقتضى القانون أو النظام العام والآداب .

وذلك فضلاً عن الشروط البديهية الواجب تحققها ، كلزوم أن تكون الوقائع المراد إثباتها محددة ، وأن تكون غير مستحيلة .

(مركز الراية للدراسات القانونية)

وفيما يلي تفصيلاً لما أجملناه آنفاً :

محل الإثبات :

عندما يطالب المدعي بحماية حق أو مركز قانوني معين ، يجب عليه بيان الحق الذي يطلب حمايته . وهذا البيان ينصب على أمرين : وجود قاعدة قانونية تحمي مصلحة من النوع الذي يتمسك به المدعى ، وثبوت وقائع معينة تنطبق عليها القاعدة القانونية المجردة . ومن المقرر أن الإثبات لا يرد إلى على هذه الوقائع . فالخصم لا يطلب منه إثبات القاعدة القانونية ، ذلك أن القاضی يفترض فيه العلم بالقانون ، وإذا كان الخصوم يشيرون عادة إلى وجهة نظرهم بشأن القاعدة التي يجب تطبيقها وبشأن تفسيرها ، فإن هذا لا يعتبر إثباتاً بالمعنى الصحيح ، ولا تنطبق عليه قواعده .

على أن القاضي في بعض الحالات أن يطلب من خصم إقامة الدليل على وجود قاعدة قانونية . فقاعدة افتراض علم القاضي بالقانون لا يؤخذ بها من ناحية بالنسبة للقانون الأجنبي ، إذ يصعب على القاضي أمام تعدد القوانين الأجنبية واختلافها ، أن يعلم بحكمها ، ومن ناحية أخرى بالنسبة للعادات أو التشريعات المحلية إذ هذه قد لا يعلمها حتى رجال القانون. غير أن إقامة الدليل هنا لا تعتبر إثباتاً بالمعنى الصحيح ، ولهذا فإن القاضى إذا كان يعلم القانون الأجنبي أو المحلي أو العادة فإنه يطبقه من نفسه ، كما أنه إذا كلف الخصم بإقامة الدليل على وجوده ، فإن الدليل الذي يقدمه الخصم لا يكون له سوى قيمة إعلامية تخضع لتقدير القاضي . على أن إقامة الدليل هنا تشبه الإثبات من ناحية أنه إذا لم يثبت الخصم القانون الأجنبي أو المحلى أو العادة ، فلا يقبل الطلب أو الدفع أو الطعن المستند إليه .

فمحل الإثبات إذن هي وقائع القضية . ويستوي أن تكون الواقعة إيجابية أو سلبية وإذا كانت هناك وقائع سلبية لا يجوز إثباتها ، مثلاً أن شخصاً لم يحضر أبداً في أي يوم في مكان معين ، فعلة هذا أن هذه الواقعة غير محددة . والواقعة غير المحددة لا تصلح للاثبات ، سواء كانت إيجابية أو سلبية .

وإذا كان الإثبات يرد على وقائع قانونية ، فليست كل واقعة تصلح محلاً للإثبات ، وانما يجب أن يتوافر فيها الشروط التالية :

1- أن تكون من الوقائع التي تمسك بها الخصم كأساس لطلب أو دفاع له . فليس للقاضي أن يحقق واقعة خارج الوقائع التي أبديت في القضية مهما بدت له مهمة ذلك أنه إذا لم يتمسك أحد الخصوم بواقعة معينة ، فإن إثارة القاضي لها تعتبر خروجاً على طلبات الخصوم لا يملكه القاضي .

2- أن تكون الواقعة غير ثابتة : فإذا كانت الواقعة ثابتة فلا محل لإثباتها. وتكون كذلك :

(أ) إذا كانت من الوقائع التي تعتبر معلومات عامة للأشخاص في وقت ومكان صدور الحكم ، سواء كانت معلومات تاريخية أو علمية ، وسواء كانت معلومة للجنس البشري أو لأبناء إقليم معين. فللقاضي أن يستند إلى هذه الوقائع بصرف النظر عن التمسك بها من أحد الخصوم، أو عن إثباتها .

على أنه يلاحظ أنه إذا كان القاضي أن يستند إلى هذه المعلومات العامة ، فليس له أن يقضي بعلمه الخاص ، أي بالوقائع التي علمها بطريقته الخاصة . ذلك أن الخصوم لا يستطيعون إفتراض هذا العلم لديه ، كما لا يستطيعون مراقبة وجوده . ومبدأ المواجهة يوجب تمكين الخصوم من مراقبة أدلة الإثبات في الخصومة .

(ب) إذا كانت الواقعة محل إتفاق بين الطرفين أو معترفاً بها. إذا عندئذ لا تكون محل نزاع ، ويجب على القاضي ألا يضعها في إعتباره عند إصدار الحكم . وذلك إلا إذا كانت المسألة تتعلق بمصلحة للمجتمع ، فعندئذ لا يؤدي الاتفاق أو الإقرار إلى ثبوت الواقعة ما لم تكن متفقة حقيقة مع الواقع .

(ج) إذا كان اقتناع القاضي قد تكون بشأنها. فعندئذ لا داعي لإثباتها من جديد. ولهذا فإن للقاضي أن يرفض سماع شهود بشأن واقعة، كون اقتناعه بشأنها .

3- أن يكون إثبات الواقعة من شأنه أن يؤدي إلى تطبيق الحماية القانونية المطلوبة : فإذا لم تكن كذلك ، فلا فائدة من إثباتها . ويقتضي هذا الشرط :

أ- أن تكون الواقعة من الوقائع المحددة. فإذا لم تكن محددة فلا سبيل لإثباتها، ذلك أن القاضي لا يستطيع تحديد علاقتها بالأثر القانوني المطلوب. إذ الأثر القانوني يرتبط بطبيعته بواقعة قانونية محددة .

ب- أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى. (مادة 2 إثبات). وتكون متعلقة بالدعوى ولو لم تكن هي مصدر الحق محل الحماية ، إذا كانت مرتبطة بهذا المصدر بحيث تؤدي - في حال ثبوتها - إلى جعل الواقعة مصدر الحق قريبة الإحتمال . ويسمى الإثبات عندئذ بالإثبات غير المباشر .

ج- أن تكون منتجة في الدعوى (مادة 2 اثبات) : بمعنى أن يكون من شأنها - لو ثبتت - أن تساهم في تكوين قرار القاضي بمنح الحماية المطلوبة. ومن تطبيقات هذا الشرط، عدم جواز إثبات حارس الشيء أنه لم يرتكب خطأ، إذ لا أثر لهذا في قرار القاضي إذ هذه المسئولية تثبت ولو ثبت عدم الخطأ من جانب الحارس .

4- أن يكون من الجائز إثباتها : وقد تكون الواقعة غير جائزة الإثبات إطلاقاً بأي دليل. ويحدث هذا أما لأنها واقعة مستحيلة فمن العبث محاولة إثباتها ، وإما لأن القانون لا يجيز إثباتها حماية للنظام العام أو الآداب كإثبات صحة القذف . وقد تكون الواقعة غير جائزة الإثبات بالدليل المطلوب تقديمه وذلك وفقاً لنظام الإثبات الذي ينص عليه القانون . ( المبسوط في قانون القضاء المدني علماً وعملاً ، الدكتور/ فتحي والي ، طبعة 2017 دار النهضة العربية ،  الجزء : الثاني ، الصفحة :  113)

 

محل الإثبات  

 ما هو محل الإثبات :

محل الإثبات هو مصدر الحق وليس الحق ذاته : قدمنا أن محل الإثبات ليس هو الحق المدعى به شخصياً كان هذا الحق أو عينياً ، بل هو المصدر الذى ينشئ هذا الحق .

والمصادر التى تنشئ الحقوق، أياً كانت، لا تعدو أن تكون إما تصرفاً قانونياً وإما واقعة قانونية على النحو الذى بيناه فيما تقدم .

بل هو مصدر أية رابطة قانونية : والمدعى به لا يقتصر على أن يكون قيام حق، بل قد يكون إنقضاء هذا الحق، مثل ذلك أن يرفع شخص على آخر دعوى بدين وثبت وجوده، فيدفع المدعى عليه الدعوى بانقضاء الدين، ففى هذا الدفع يصبح المدعى عليه مدعياً ويقع عليه عبء إثبات إنقضاء الدين. ومثل ذلك أيضاً أن يرفع شخص على مالك عقار دعوى ثبوت حق انتفاع له على هذا العقار أو حق إرتفاق ويثبت هذا الحق، فيدفع المدعى عليه الدعوى بانقضاء حق الانتفاع أو حق الارتفاق . وفى جميع هذه الأحوال يكون المدعى به فى الدفع ليس وجود الحق، شخصياً كان أو عينياً، بل زواله . وزوال الحق كوجوده يرجع إما إلى تصرف قانونى وإما إلى واقعة قانونية فمحل الإثبات هنا أيضاً هو التصرف القانونى أو الواقعة القانونية .

وقد يكون المدعى به ليس وجود حق أو زواله ، بل وصفاً قانونياً يلحق وجود الحق أو زواله ، أى يلحق التصرف القانوني أو الواقعة القانونية . أما ما يلحق الواقعة القانونية فمثله أن تكون الواقعة المتمسك بها عملاً غير مشروع ثم توصف بأن الدافع لارتكابها هو الدفاع الشرعى عن النفس ، فهذا الوصف أيضاً هو واقعة قانونية يجب إثباته على النحو الذي تثبت به الواقعة القانونية الأصلية . وأما ما يلحق بالتصرف القانونى ـ غير الأوصاف المعروفة المعدلة لآثار الالتزام ـ فمثله أن يكون التصرف عقداً ويتمسك الخصم بأنه باطل أو بأنه قابل للإبطال أو بأنه قد فسخ . وأسباب البطلان منها ما يرجع للتراضي ومنها ما يرجع للمحل ومنها ما يرجع للسبب ، وهذه كلها جزء من التصرف القانونى تثبت على النحو الذى يثبت به . وأسباب القابلية للإبطال منها ما يرجع للأهلية ومنها ما يرجع لعيوب الإرادة من غلط وتدليس وإكراه واستغلال ، وهذه كلها وقائع قانونية تثبت على النحو الذي تثبت به الواقعة القانونية . وأسباب الفسخ قد تكون تصرفاً قانونياً بأن يختار العاقد فسخ العقد بإرادته ، وقد تكون واقعة قانونية بألا يقوم العاقد بتنفيذ التزامه فى عقد ملزم للجانبين .

محل الإثبات ليس إلا التصرف القانونى أو الواقعة القانونية : ويتبين من ذلك كله أن محل الإثبات لا يعدو أن يكون تصرفاً قانونياً أو واقعة قانونية . فإلى هذين مرد نشوء الحق وزواله وتعديله وأوصافه القانونية . بل إلى هذين مرد كل الروابط القانونية ، أياً كانت هذه الروابط .

ومن ثم لا معدى لمن يقوم بالإثبات من أن يثبت أحد أمرين . إما تصرفاً قانونياً أو واقعة قانونية. ومتى أثبت ذلك ، كان على القاضى أن يستخلص مما ثبت ما يرتب القانون عليه من الآثار .

عنصر الإدعاء - الواقع والقانون : فالإدعاء بحق أو بأية رابطة قانونية أمام القضاء ينقسم إذن إلى عنصرين :

1-عنصر الواقع ، وهو مصدر الحق المدعى به ، أى التصرف القانونى أو الواقعة القانونية التى أنشأت هذا الحق . وهذا العنصر هو وحده الذى يطالب المدعى بإثباته . والإثبات هنا يتناول مسائل موضوعية لا رقابة لمحكمة النقض عليها ، إلا فيما يرسمه القانون من قواعد قانونية للإثبات يلتزم القاضى بتطبيقها وفى السماح للخصوم بإثبات هذه المسائل . فمثلاً إذا رفع المشترى على البائع دعوى بتثبيت ملكيته للعقار الذى اشتراه ، فإن ثبوت عقد البيع مسألة موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة النقض ، ولكن وجوب إثبات البيع إذا زادت قيمته على عشرة جنيهات بالكتابة أو بما يقوم مقامها مسألة قانونية تخضع لهذه الرقابة .

2-عنصر القانون ، وهو استخلاص الحق من مصدره بعد أن يثبت الخصم هذا المصدر ، أى تطبيق القانون على ما ثبت لدى القاضي من الواقع . وهذا من عمل القاضي وحده ، لا يكلف الخصم إثباته , فالقانون لا يكلف أحداً هذا الإثبات، بل على القاضى أن يبحث من تلقاء نفسه عن القواعد القانونية الواجبة التطبيق على ما ثبت عنده من الواقع فيطبقها. وهو في تطبيقها يخضع لرقابة محكمة النقض ففى المثل المتقدم ، بعد إثبات عقد البيع بالكتابة ، يكون على القاضى أن يستخلص منه التزاماً فى ذمة البائع بنقل ملكية العقار المبيع للمشترى، وعلى القاضى أن يستخلص أيضاً أن الملكية لا تنتقل فعلاً إلى المشترى إلا بتسجيل عقد البيع. وكل هذه مسائل قانونية يقضى بها دون أن يكلف أحداً من الخصمين بإثباتها، فهى ليست محلاً للإثبات إذ المفروض أن القاضي هو  أول من يعلم القانون وقد ناطت الدولة به تطبيقه . بل إن القاضى لا يستطيع أن يمتنع عن القضاء بحجة أنه لا توجد أحكام قانونية يمكن تطبيقها ، وإن امتنع بعد امتناعه نكولاً عن أداء العدالة .

تفسير القانون يلحق بعنصر القانون ، ويقع عبؤه على القاضى لا على الخصم : وقد يقع أن تكون أحكام القانون غامضة ، فنكون فى حاجة إلى التفسير. وعلى القاضى أيضاً يقع عبء هذا التفسير لا على الخصم . فالقاضي هو المنوط به تفسير القانون وتطبيقه تطبيقاً صحيحاً على الواقع الذى ثبت أمامه بالطرق القانونية. وإذا كان الخصم يجتهد فى أن يقنع القاضى بتفسير للقانون يكون في مصلحته، فليس هذا من جهة الخصم إثباتاً لأحكام القانون، بل هى محاولة يبذلها لحمل القاضى على أن يفهم القانون الفهم الذي يتفق مع مصلحته. وهى محاولة لم يكلف القانون الخصم بها، ولم يرسم لها طرقاً معينة كما رسم لإثبات الواقع. وهى بعد محاولة قد تنجح وقد تفشل، وللقاضي فيها القول الفصل. وآية ذلك أن القاضى فى تفسير القانون يستطيع أن يحكم بعلمه، وهو لا يستطيع ذلك فى إثبات الواقع. بل هو فى القانون وفى تفسيره لا يحكم إلا بعلمه، وهذا العلم هو مصدره الوحيد لمعرفة القانون. وغنى عن البيان أنه يستعين فى تحصيل هذا العلم بمراجعة نصوص القانون، وما وضعه الفقه من شرح لهذه النصوص، وما قرره القضاء من مبادئ فى تطبيقها. ولكنه فى النهاية يعتمد على فهمه الشخصي لأحكام القانون، لا يقيده فى ذلك فقه مبسوط أو قضاء سابق. وإنما يكون فى هذا الفهم الشخصى خاضعاً لرقابة المحكمة العليا، فتعقب على قضائه فيما ترى التعقيب عليه .

متى يصبح القانون مسألة موضوعية يتعين على الخصم إثباته ـ العادة الإتفاقية والقانون الأجنبي : على أن القانون يصبح مسألة موضوعية، فيتعين على الخصم إثباته، ولا يخضع القاضي في تطبيقه لرقابة محكمة النقض، فى موضعين :

أولاً : إذا كانت هناك قاعدة تقوم على العادة الاتفاقية وتعتبر شرطاً مفترضاً فى العقد لا حاجة إلى التصريح به فتصبح القاعدة فى هذه الحالة شرطاً من شروط العقد، شأنها فى الإثبات شأن سائر شروط العقد يتعين على من يتمسك بها أن يقوم باثباتها. فإذا سلم بها الخصم الآخر لما استفاض من شهرتها العامة، أخذ بها القاضي كمسألة موضوعية ثابتة. وإن نازع الخصم فيها، كان على ذى المصلحة من الخصوم أن يثبتها، ويكون ذلك بجميع الطرق ولو بالبينة أو بقول أهل العلم بها. ذلك أن هذا القاعدة، وإن كانت تدخل ضمن قانون العقد، إلا أنها تصبح مسألة واقع لا مسألة قانون، إذ ترد فى النهاية إلى إرادة المتعاقدين المفترضة، فهما قد ارتضيا فرضاً ما ألفته الناس فى التعامل من الشروط .

ثم إن المراد إثباته هنا ليس هو أن المتعاقدين قد ارتضيا القاعدة شرطاً من شروط العقد، فإن التراضي على ذلك مفروغ منه بحكم أن القاعدة تقوم على العادة التى ألفتها الناس فى التعامل، وإلا لوجب أن يكون إثباتها بالكتابة فيما يجب إثبات التصرف القانونى فيه بهذه الطريقة. ولكن الإثبات ينصب فى هذه الحالة على مجرد وجود العادة الاتفاقية وقيامها المادي، وهذه واقعة مادية تثبت بجميع الطرق كما قدمنا. ويخلص من ذلك أن التعرف على القاعدة التى تقوم على العادة الاتفاقية لا يخضع لرقابة محكمة النقض، بل يصبح مسألة واقع لا تعقيب فيها على محكمة الموضوع .

وهذا بخلاف القاعدة القانونية التى يكون مصدرها العرف لا العادة، فهذه مسألة قانون تخضع لرقابة محكمة النقض، وقد قارن بارتان بين العادة والعرف من حيث الإثبات. فالعادة، على ما عرفت، عنصر من عناصر الواقع، يتمسك بها الخصم فعليه إثباتها، كما يفعل فى سائر شروط العقد الصريحة أو الضمنية. أما العرف فقاعدة قانونية. شأنها في الإثبات شأن القواعد القانونية التي يكون مصدرها التشريع. وليست القاعدة القانونية التى تقوم على العرف فى حاجة إلى الإثبات أكثر من حاجة القاعدة القانونية التى تقوم على التشريع. كلتا القاعدتين قانون واجب التطبيق يتعين على القاضى البحث عنه من تلقاء نفسه لتطبيقه، دون حاجة إلى إثباته من جانب الخصوم.

ثانياً : إذا كان القانون المطبق قانوناً أجنبياً بمقتضى قاعدة من قواعد الإسناد. مثل ذلك أن يطبق القاضى القانون الفرنسى فى الحكم بصحة عقد زواج فرنسي بفرنسية. فهنا توجد مسألتان :

1 ـ مسألة قانون ، هى قاعد الإسناد التي تقضى بالرجوع فى الشروط الموضوعية لصحة الزواج إلى قانون كل من الزوجين، وهى جزء من نصوص التقنين المدنى المصرى (م 12 من التقنين المدنى الجديد)، ويخضع القاضي في تطبيقها لرقابة محكمة النقض .

2- ومسألة واقع ، هى أحكام القانون الفرنسى وهو قانون كل من الزوجين الخاصة بصحة الزواج، وهذه تكون محلاً للإثبات، ويكلف الخصم ذو المصلحة إثباتها، ومتى ثبتت وأخذ بها القاضى فإنه لا يكون خاضعاً لرقابة محكمة النقض فى التعرف على أحكام القانون الأجنبي. وهنا أيضاً نرى أن القانون ـ القانون الأجنبى ـ يصبح مسألة موضوعية يتعين على الخصم إثباته، ويعتبر فى هذه الحالة واقعة مادية يجوز إثباتها بجميع الطرق، ويدخل فى ذلك رأى أهل العلم بالقانون الأجنبى والنصوص الرسمية لهذا القانون وما يقترن بهذه النصوص من تفسير فقهى وقضائي. وعلى هذا جرى القضاء المصري مقتدياً فى ذلك بالقضاء الفرنسى .

ونحن، مع ذلك، لا نتردد فى اعتبار تطبيق أحكام القانون الأجنبي مسألة قانون لا مسألة واقع. فإن القاضى، إذا أمره قانونه الوطني بتطبيق أحكام قانون أجنبى، وجب أن يعتبر أحكام هذا القانون الأجنبى بالنسبة إلى القضية التى يطبق فيها هذه الأحكام جزءاً من قانونه الوطني. فعليه إذن أن يبحث من تلقاء نفسه عن أحكام القانون الأجنبى الواجبة التطبيق فى هذه القضية. وله أن يصدر فى هذه الأحكام عن علمه الشخصي. ولا يجوز له أن يمتنع عن تطبيق أحكام القانون الأجنبي عن علمه الشخصي. ولا يجوز له أن يمتنع عن تطبيق أحكام القانون الأجنبى بدعوى عدم إمكان الاهتداء إليها، وإلا عد إمتناعه نكولاً عن أداء العدالة. بل ويكون فى تطبيقه لأحكام القانون الأجنبى، كما هو فى تطبيقه لقاعدة الإسناد التي أمرته بتطبيق هذه الأحكام، خاضعاً لرقابة محكمة النقض. وتفسر هذه المحكمة القانون الأجنبى، لا طبقاً لرأيها الشخصى، بل وانقاص لما تفسره به محاكم البلد الذى ينسب إليه هذا القانون وبخاصة المحكمة العليا منها. ونحن إنما نذهب إلى هذا الرأى لأنه لا يصح أن تتغير طبيعة القانون فيصبح واقعاً، سواء كان هذا القانون قانوناً وطنياً أو كان  قانوناً أجنبياً يأمر القانون الوطنى بتطبيقه فيصبح جزءاً منه فى حدود هذا التطبيق. والذي دعا إلى القول بنزول مرتبة القانون الأجنبى إلى حد أن يكون واقعاً لا قانوناً أمران الأمر الأول  يرجع إلى التاريخ. فقد كان القانون الأجنبى فى الماضى لا يعامل معاملة القانون الوطنى .

وإذا أجيز تطبقه فعلى إعتبار أنه واقع لا قانون. فلا يفترض العلم به، ولا يبحث القاضي عن أحكامه من تلقاء نفسه بل يجب على الخصم إثباتها، ولا يحضع القاضي في تطبيقه هذه الأحكام لرقابة محكمة النقض، وإذا امتنع عن تطبيقه لم يعد ناكلاً عن أداء العدالة. وكان هذا يرجع إلى نظرية عتيقة تقول بأن القانون الأجنبى إنما يطبق على سبيل المجاملة الدولية وقد هجرت هذه النظرية هجرانا تاماً وعفا عليها الزمن، ففيم الإبقاء على بعض آثارها والاصرار على عدم رد اعتبار القانون الأجنبى  والأمر الثانى يرجع إلى العمل. فقد يصعب فى بعض الأحوال أن يهتدى القاضى من تلقاء نفسه إلى أحكام القانون الأجنبى، ومن ثم كان تكليف الخصم باثبات هذه الأحكام تيسيراً لتغيير طبيعة القانون. على أن مهمة القاضى فى هذا الصدد، بعد إنتشار العلم، لم تصبح من العسر على ما كانت منه فى الماضى. وبعد، فلا يوجد ما يمنع القاضي من الإستعانة بالخصم صاحب المصلحة فى الاهتداء إلى أحكام القانون الأجنبى، ومصلحة الخصم أكبر دافع له فى ذلك، على أن يبقى القاضي هو صاحب القول الفصل فى التعرف على أحكام القانون، خاضعاً فى ذلك لرقابة محكمة النقض .

ب ـ الشروط الواجب توافرها فى محل الإثبات :

طائفتان من الشروط : والواقعة المراد إثباتها يجب أن تتوافر فيها جملة من الشروط، يمكن تقسيمها إلى طائفتين

1. طائفة من الشروط بداهتها تغني عن الإطالة فيها، وهى أن تكون الواقعة محددة وغير مستحيلة .

2. وطائفة أخرى نصت عليها المادة الثانية من قانون الإثبات الجديد على الوجه الآتى: يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالدعوى، منتجة فيها، جائزاً قبولها.

شروط بديهية : أما أن تكون الواقعة المراد إثباتها محددة فهذا بديهي، فالواقعة غير المحددة لا يستطاع إثباتها. ولو أن شخصاً طالب بدين أو بملكية وأسس دعواه على عقد لم يحدد ماهيته، أهو بيع أو صلح أو قسمة أو غير ذلك من العقود التى يصح أن تكون مصدراً للدين أو سبباً للملكية، فإن الواقعة التى يريد إثباتها لا تكون محددة تحديداً كافياً، فلا يصح السماح باثباتها إلا بعد أن تحدد. وكون الواقعة محددة تحديداً كافياً مسألة موضوعية تخضع لرقابة محكمة النقض .

وأما أن تكون الواقعة المراد إثباتها غير مستحلية، فهذا أيضاً بديهي،  فالمستحيل لا يصح عقلاً طلب إثباته. والإستحالة ترجع إلى أحد أمرين : إما استحالة التصديق عقلاً وإما استحالة الإثبات. فالأولى كالعمى يدعى أنه رأى هلال رمضان، والمنجم يدعى أنه أوتى علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله، ومجهول النسب يدعى بنوته إلى من لا يكبره فى السن. والثانية ترجع إلى أن الواقعة المراد إثباتها هى فى ذاتها قابلة للتصديق عقلاً ولكن لا سبيل إلى إثباتها، كمن يدعى واقعة مطلقة بأن يقول أنه لم يكذب قط أو أنه يؤدى فريضة الصلاة طوال حياته. فهاتان واقعتان إحاهما سلبية والأخرى إيجابية، وكلتاهما واقعة مطلقة هى متصورة التصديق ولكن إثباتها مستحيل، فلا يجوز قبولها واقعة للإثبات. ولا يرجع ذلك إلا إلى أن الواقعة مطلقة أى خالية من التحديد. ومن ثم ترى أن إستحالة الإثبات تتلاقى مع عدم التحديد، ويصبحان شرطاً واحداً. فالواقعة يجب أن تكون محددة كما قدمنا، فإن لم تكن محددة لا يجوز قبولها للإثبات، لا لأنها غير محددة فحسب، بل لأنها أيضاً يستحيل إثباتها. ومن ثم نرى أيضاً أن استحالة الإثبات ترجع إلى عدم تحديد الواقعة لا إلى أنها واقعة سلبية. فالواقعة السلبية المحددة ـ كالواقعة الإيجابية المحددة لا يستحيل إثباتها، فيجوز قبولها للإثبات. مثل ذلك شخص يطالب آخر برد غير المستحق وثبت أنه لم يكن مديناً بما دفعه للمدعى عليه، فهنا الواقعة السلبية محددة، وهى عدم المديونية فى دين معين، وما على المدعى إلا أن يثبت أن هذا الدين الذى دفعه مصدره عقد باطل أو عقد قد فسخ أو أن الدين قد سبق الوفاء به أو نحو ذلك.

هذا وكون واقعة المراد إثباتها مستحيلة التصور عقلاً أو مستحيلة الإثبات مسألة موضوعية، ولكن محكمة النقض تستطيع أن تنفذ إلى بسط قدر من الرقابة من طريق القصور فى التسبيب. 

ويجب أخيراً أن تكون الواقعة المراد إثباتها غير معترف بها. وهذا أيضاً شرط بديهى، إذ لا محل لإثبات واقعة معترف بها. فالاعتراف إقرار، والإقرار كما سنرى إعفاء من الإثبات، فتكون الواقعة محل الادعاء قد أعفى مدعيها من إثباتها فأصبحت بذلك ثابتة. لذلك يكون الأصح القول إن الواقعة المعترف بها قد أصبحت ثابتة، لا أنها واقعة غير قابلة للإثبات. ويتضح الفرق بين القولين فى أن الواقعة المعترف بها لا تصبح ثابتة إلا بالنسبة إلى المقر إذ الإقرار حجة قاصره عليه، أما بالنسبة إلى الغير فلم يقم الدليل عليها ومن ثم يصح إثباتها، ولو كانت غير قابلة للإثبات لما صح ذلك. وغنى عن البيان أن البت فى كون الواقعة معترفاً بها مسألة موضوعية لا رقابة فيها لمحكمة النقض .

شروط أساسية :

ونعرض الآن للشروط الأساسية التى ورد ذكرها فى المادة الثانية من تقنين الإثبات الجديد، وهى الشروط الثلاثة الآتية :  

1- أن تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالحق المطالب به .

2- أن تكون منتجة في الإثبات .

3- أن تكون جائزة الإثبات قانوناً .

الواقعة متعلقة بالحق المطالب به : إذا كانت الواقعة المراد إثباتها هى ذاتها مصدر الحق المطالب به، كما إذا تمسك البائع بعقد البيع لمطالبة بالثمن فيكون عقد البيع هو ذاته مصدر التزام المشترى بالثمن، فإن الواقعة فى هذه الحالة لا يمكن إلا أن تكون معلقة بالحق المطالب به وهو فى الوقت عينه منتجة فى الإثبات. ومن ثم لا يظهر ظهوراً واضحاً أهمية هذين الشرطين ـ كون الواقعة متعلقة بالحق وكونها منتجة فى الإثبات ـ فى هذه الحالة وهو حالة الإثبات المباشر. وإنما تظهر أهميتهما فى حالة الإثبات غير المباشر، إذا إنصب الإثبات، لا على الواقعة ذاتها مصدر الحق، بل على واقعة أخرى قريبة منها. ذلك أن الإثبات غير المباشر يقوم على فكرة تحويل الدليل من الواقعة الأصيلة إذ يتعذر إثباتها إلى واقعة بديلة هى التى يتيسر فيها الإثبات .

فلا بد فى هذه الحالة ـ حالة الإثبات غير المباشر بتحويل الدليل ـ أن تكون الواقعة البديلة، وهى الواقعة المراد إثباتها، لا قريبة  من الواقعة الأصيلة فحسب، بل يجب أيضاً أن تكون متصلة بها إتصالاً وثيقاً. وهذا الاتصال الوثيق هو الذى يجعل الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالحق المطالب به، إذ أن اتصالها بالواقعة الأصيلة التى هى مصدر الحق يجعل إثباتها متعلقاً بإثبات الواقعة الأصيلة، فيصبح إثبات الواقعة البديلة من شأنه أن يجعل إثبات الواقعة الأصيلة قريب الاحتمال .       

   

مثل ذلك أن يقدم المستأجر مخالصات بأجرة عن جميع المدد السابقة على المدة التى يطالبه المؤجر بأجرتها، ويرمي من وراء ذلك أن يثبت أنه يدفع الأجرة بانتظام ولم يخل بالتزامه طوال المدد السابقة. فهذه واقعة متصلة بواقعة الوفاء بالأجرة عن المدة المطالب بأجرتها، فهي إذن متعلقة بالدعوى. ولكنها غير منتجة فى الإثبات، لأن دفع الأجرة عن مدد سابقة لا يفيد دفعها عن مدة لاحقة وقد تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالدعوى ومنتجة أيضاً فى الإثبات، كأن يقدم المستأجر مخالصات بالأجرة عن مدد لاحقة للمدة التى يطالب المؤجر بأجرتها، فهذه واقعة ليست هى ذاتها واقعة الوفاء بالأجرة المطالب بها بل هى واقعة متصلة بها فهى متعلقة بالدعوى، ثم هى منتجة فى الإثبات فإن التقنين المدنى الجديد م 587 يعتبرها قرينة على الوفاء بالأجرة المطالب بها إلا إذا أثبت المؤجر عكس ذلك .

وكون الواقعة متعلقة بالدعوى مسألة موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة النقض .

الواقعة منتجة فى الإثبات : رأينا في الأمثلة المتقدمة متى تكون الواقعة متعلقة بالدعوى ومتى تكون منتجة فى الإثبات. فالواقعة المتعلقة بالدعوى هى الواقعة البديلة التى يكون إثباتها من شأنه أن يجعل إثبات الواقعة الأصيلة قريب الاحتمال. والواقعة المنتجة فى الإثبات هى الواقعة البديلة التى يؤدى إثباتها إلى إثبات الواقعة الأصيلة. ويتبين من ذلك أن إنتاج الواقعة فى الإثبات مرتبة أعلى من تعلق الواقعة بالدعوى. فكل واقعة متعلقة بالدعوى لا تكون ضرورة منتجة في الإثبات، ولكن كل واقعة منتجة فى الإثبات تكون حتماً متعلقة بالدعوى. فمن طالب بملكية عين وتقدم بواقعة التقادم الطويل سبباً لملكية، إذا أدعى أنه حاز العين مدة لا تقل عن خمس عشرة سنة، فهذه واقعة منتجة فى الإثبات، بل هى الواقعة الأصيلة ذاتها، وهى بالضرورة متعلقة بالدعوى. أما إذا ادعى أن حيازته للعين كانت لمدة تقل عن خمس عشرة سنة، فهذه واقعة متعلقة بالدعوى ولكنها غير منتجة فى الإثبات .

وقد يقال لماذا يشترط فى الواقعة هذان الشرطان معاً، وأحدهما ـ وهو الإنتاج ـ يستغرق الآخر، فكان يكفي أن يشترط وحده ؟ وهذا صحيح من الناحية النظرية. ولكن يحسن من الناحية العملية، فصل الشرطين أحدهما عن الآخر. فقد يطلب الخصم إثبات هذه الواقعة قبولاً مبدئياً، حتى إذا تبين فيما بعد أنها غير منتجة فى الإثبات رفض القاضى إستمرار السير فى إثبات الواقعة أو أضاف إليها وقائع أخرى تتساند معها. أما إذا أدمج الشرطان فى شرط واحد، وكان لا بد من أن تكون الواقعة منتجة من مبدأ الأمر، لم يستطع القاضى قبول إثبات الواقعة قبولاً مبدئياً، فيتعطل بذلك طريق الإثبات .

وكون الواقعة منتجة فى الإثبات مسألة موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة النقض إلا من حيث قصور التسبيب. أما إذا بنى عدم الإنتاج فى الإثبات على أسباب قانونية، كأن كانت الواقعة المراد إثباتها إنما تنسب إذا صحت إلى مالك البناء لا إلى حارسه والمسئول قانوناً هو الحـارس لا المالك، أصبح الأمر متعلقاً بمسألة من مسائل القانون مما يخضع لرقابة محكمة النقض .

الواقعة جائزة الإثبات قانوناً : ويجب أخيراً أن تكون الواقعة جائزة الإثبات قانوناً. والقانون قد لا يجيز إثبات واقعة تحقيقاً لأغراض مختلفة. ومن هذه الأغراض ما يمت إلى النظام العام والآداب، كالمحافظة على سر المهنة  وتحريم دين المقامرة والربا الفاحش وبيع المخدرات وعدم جواز إثبات صحة القذف ونحو ذلك. وقد تمت هذه الأغراض إلى الصياغة الفينة، كما هو الأمر فى الوقائع التى تصطدم مع قرينة قاطعة قررها القانون. مثل ذلك حجية الأمر المقضى، فلا يجوز إثبات واقعة مخالفة لما هو ثابت فى حكم قضائى. ومثل ذلك أيضاً أن يطلب حارس الشئ إثبات أنه لم يرتكب خطأ مع أن القانون يقيم مسئوليته على خطأ فى جانبه مفروض فرضاً غير قابل لإثبات العكس .

وكون الواقعة جائزة الإثبات قانوناً مسألة قانون تخضع لرقابة محكمة النقض، لأن عدم جواز إثبات الواقعة يرجع دائماً إلى حكم فى القانون يمنع من هذا الإثبات. وهذا بخلاف كون الواقعة متعلقة بالدعوى وكونها منتجة فى الإثبات، فقد رأينا أنها فى الأصل مسائل موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة النقض . ( الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور/ عبد الرزاق السنهوري، تنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، الطبعة الثانية 1982 دار النهضة العربية،  الجزء : الثاني  المجلد الأول، الصفحة : 66 )

 الشروط الواجب توافرها في محل الإثبات :

الواقعة المراد إثباتها يجب أن تتوافر فيها جملة من الشروط يمكن تقسيمها إلى طائفتين.

1- طائفة من الشروط تعتبر بديهية وهي أن تكون الواقعة محددة وغیر مستحيلة وغير معترف بها.

2- وطائفة أخرى نصت عليها المادة الثانية من قانون الإثبات وذلك بنصها على أنه يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالدعوى ومنتجة فيها وجائزاً قبولها .

الشروط البديهية :

يشترط بداهة في الواقعة المراد إثباتها أن تكون محددة لأن الواقعة غير المحددة تبقى بطبيعة الحال مجهلة وتجهيلها يجعلها غير قابلة للإثبات لأن الإثبات إقناع والإقناع لا يرد على أمر مبهم أو ليست له حدود ويجب أن يكون تحديد الواقعة كافياً حتى يمكن التحقق من أن الدليل الذي سيقدم يتعلق بها لا بغيرها وعلى ذلك فإنه يتعين أن تكون الواقعة المراد إثباتها محصورة غير مطلقة فإذا لم تكن كذلك تعذر إثباتها فمن يدعى ملكية عين يجب أن يبين العقد الذي يستند إليه في ذلك بيعاً كان أو هبة ومن يطالب بدين يجب أن يعين مقداره وهو ما يسمى بالواقعة المحصورة بصورة إيجابية إذ يصح أن تكون تلك واقعة محصورة بصورة سلبية كالتعهد بعدم فعل شئ معين .

وكذلك فإنه لا يقبل الإثبات إذا كانت الواقعة المراد إثباتها مستحيلة طبيعياً ولكن لا مانع من إثبات ما يكون خارقاً للعادة إذ كان من المحتمل حدوثه

ويجب أخيراً أن تكون الواقعة المراد إثباتها بداهة غير معترف بها أي متنازع فيها فإذا كانت المسائل مسلماً بها من جهة الخصم الآخر فلا يكون هناك معنى لإثباتها ولا فائدة ترجى من وراء هذا الإثبات فالاعتراف الصريح الشامل يمحو كل حاجة أو فائدة للإثبات ذلك أن الاعتراف إقرار والإقرار يعفي من الإثبات فتكون الواقعة محل الادعاء قد أعفي مدعيها من إثباتها فأصبحت بذلك ثابتة لذلك يكون الأصح القول أن الواقعة المعترف بها قد أصبحت ثابتة لا أنها - واقعة غير قابلة للإثبات. ويتضح الفرق بين القولين في أن الواقعة المعترف بها لا تصبح ثابتة إلا بالنسبة إلى المقر إذ الإقرار حجة قاصرة عليه أما بالنسبة إلى الغير فلم يقم الدليل عليها ومن ثم يصح إثباتها ولو كانت غير قابلة للإثبات لما صح ذلك والواقعة المتنازع عليها أما أن تكون إرتباطاً قانونياً أي تعاقداً حصل بإرادة الطرفين المتعاقدين كالبيع والشراء والرهن إلخ وإما أن تكون حادثة مادية غير قابلة لأن تكون بعقد كالاغتصاب ووضع اليد والحرق والغرق والجنح وأشباه الجنح وأعمال الفضولی .

الشروط القانونية :

نصت المادة الثانية من قانون الإثبات على أنه " يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالدعوى ومنتجة فيها وجائزاً قبولها " ومفاد تلك المادة أنه يشترط في الواقعة المراد إثباتها ثلاثة شروط هي :

1) أن تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالدعوى .

2) وأن تكون منتجة في الإثبات .

3) وأن تكون الواقعة جائزة القبول ونعرض فيما يلى لكل شرط من هذه الشروط .

 1- أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى :

يشترط في الواقعة المراد إثباتها أن تكون متعلقة بالدعوى وهذا يعني أنه يلزم أن تكون الواقعة محل الإثبات متصلة بالحق المطالب به اتصالاً وثيقاً أي أن تكون غير مقطوعة الصلة بموضوع الدعوى. ويرجع هذا الشرط إلى حرص المشرع على عدم إضاعة وقت القضاء فيما لا جدوى من وراء إثباته ولذلك لا يقبل الخصم أن يثبت واقعة ولاتتعلق بالدعوى إذ لا فائدة من مثل هذا الإثبات وتقدير ذلك متروك القاضي. فمثلاً إذا رفع شخص دعوى يطالب بدين له فللمدين أن يثبت رفع هذا الدين أو المعارضة فيه إذ لا شك في تعلق واقعة الدفع أو المقاصة بموضوع الدعوى وإنتاجها فيه ولكن لا يصح للمدين أن يثبت أنه دفع الدين لشخص آخر غير الدائن أو نائبه مهما كانت قرابته له إلا إذا كان ذلك لتوصيله الدائن مع إثبات وصوله إليه وكذلك لا يجوز للدائن أن يثبت أنه دفع ديناً آخر أو ديوناً أخرى لا علاقة للآخرين وإنما تبدو الواقعة المراد إثباتها أجنبية عن الدعوى ولكنها في الحقيقة متعلقة بها كما إذا رفع مدرس دعوى على إدارة مدرسة ليطالبها بتعويض لفصله عن عمله قبل مضى المدة المتفق عليها أو في وقت غير لائق فإنه يصح لإدارة المدرسة أن يثبت فساد أخلاقه لأن ذلك يضر بالتلاميذ الذين عين لتهذيبهم .

وتظهر أهمية هذا الشرط عندما يلجأ المدعى إلى إثبات الواقعة التي يستند إليها في دعواه بطريقة غير مباشرة أي من طريق إثبات واقعة أخرى تسمح بإعتبار الواقعة المدعاة ثابتة فيلزم أن تكون تلك الواقعة الأخرى متصلة بالواقعة المدعاة إتصالاً وثيقاً ومرتبطة بها ارتباطاً قوياً ولا يكفي أن تكون لها بها صلة بعيدة ويعتبر تعطق الواقعة المطلوب إثباتها بموضوع الدعوى أو عدمه مسألة موضوعية لايخضع القاضي في شأنها لرقابة محكمة النقض فيملك القاضي اعتبار الواقعة غير متعلقة بالدعوى ولو توافق الطرفان على أنها متعلقة بها والعكس أيضاً صحيح .

2 ـ أن تكون الواقعة المراد إثباتها منتجة في الإثبات :

يجب أن تكون الواقعة المراد إثباتها منتجة في الدعوى بمعنى أن يؤدي إثباتها إلى قيام الأثر القانوني المدعى به وإن كان لا يستلزم لإعتبار الواقعة منتجة أن تتضمن دلالة قاطعة على هذا الأثر بل يكفي أن تساهم في تكوين اقتناع القاضي به أما إذا كانت غير ذات أثر في اقناع القاضي بحل النزاع يكون إثباتها عديم الجدوى ولايجوز قبوله تبعاً لهذا ولو كانت متصلة بالدعوى فلا يقبل من المدعي في إحدى دعاوى الحيازة أن يثبت عقداً إنتقلت إليه بمقتضاه إليه ملكية العقار موضوع الدعوى ولا من المدعى عليه في دعوى المسئولية عن " آلة ميكانيكية " أن يثبت أنه ليس مالكاً لها أو أنه قائم على صيانتها لأن كل أولئك غير منتج في الدعوى .

وقد ذهب المستشار أحمد نشأت في رسالة الإثبات الطبعة السابعة ص 35 إلى أنه يجب عدم الفصل بين التعليق والإنتاج ودليله في ذلك أن المشرع قد أغفل في المادة 125 الواردة في الكلام على اليمين الحاسمة شرط الإنتاج إذ قال إذا تنازع من وجهت إليه اليمين في جوازها أو في تعلقها بالدعوى ورفضت المحكمة منازعته... الخ) ولم يقل الشارع في هذه المادة " أو في إنتاجها " مما يدل على أنه رأى أيضاً عدم الفصل بين التعليق والإنتاج ولكن الرأي الراجح - فقهاً في هذا الشأن هو أنه يحسن من الناحية العملية فصل الشرطين أحدهما من الآخر فقد يطلب خصم إثبات واقعة يتضح من أول وهلة أنها متعلقة بالدعوى فهذا يكفي لقبول إثبات هذه الواقعة قبولاً مبدئياً حتى إذا تبين فيما بعد أنها غير منتجة في الإثبات رفض القاضي إستمرار السير في إثبات الواقعة أو أضاف إليها وقائع أخرى تتساند معها أما إذا ادمج الشرطان في شرط واحد وكان لابد من أن تكون الواقعة منتجة من مبدأ الأمر لم يستطع القاضي إثبات الواقعة قبولاً مبدئياً فيتعطل بذلك طريق الإثبات .

طلب إحالة الدعوى إلى التحقيق شرطه أن تكون الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالدعوى ومنتجة فيها وتقدير ذلك يستقل به قاضي الموضوع .

3- أن تكون الواقعة جائزة القبول :

ويقصد بهذا الشرط ألا تكون الواقعة مستحيلة وإلا يكون القانون قد منع إثباتها لأسباب تتعلق بالنظام العام أو الأداب فلا يقبل من شخص أن يثبت أن شهر فبراير يزيد على تسعة وعشرين يوماً لأن هذه الواقعة مستحيلة عقلاً. كما لا يقبل إثبات دين قمار أو بيع في تركة إنسان على قيد الحياة لأن هذا يخالف النظام العام كذلك لا يقبل إثبات العلاقة الجنسية غير المشروعة ولا يجوز - في جريمة القذف - للقاذف أن يقيم الدليل على صحة ما قذف به وذلك لاعتبارات تتعلق بالآداب العامة، وتوجد حالات لا يقبل فيها الدليل في الإثبات مثل تلك التي نص عليها في المواد 65 إلى 67 من قانون الإثبات إذ في تلك الحالات لايجوز الإثبات إذا كان ينطوي على إفشاء أسرار الوظيفة أو المهنة أو العلاقة الزوجية فالواقعة التي يعرفها الشخص بسبب الوظيفة أو المهنة أو العلاقة الزوجية لا يجوز إثباتها بشهادة الشخص الذي أؤتمن على السر كالموظف أو الطبيب أو المحامي وأحد الزوجين ولكن هذا لا يعني أن إثبات ذلك الوقائع غير جائز من غير هؤلاء الذين ائتمنوا على السر بل أن الواقعة تكون جائزة القبول من غير هؤلاء ومعنى ذلك أن الواقعة في ذاتها تعتبر جائزة القبول من غير هؤلاء فالواقعة في ذاتها تعتبر جائزة القبول في الإثبات أما ما لايجوز فهو إثبات عن طريق شهادة هؤلاء الأشخاص السالف الذكر .

ويلاحظ أخيراً أنه يجب أن يكون الإثبات بالدليل الذي أجازه المشرع ووفق المقرر في قانون الإثبات كما وأن القاضي لا يلزم في جميع الأحوال بإجابة طلب الخصم إتخاذ إجراء إثبات ما ولو كان عن الوقائع متعلقة بالدعوى منتجة فيها جائزاً قبولها وذلك لأن له مطلق الحرية في تقدير سائر الوقائع المدعى بها وقد يقتنع من أدلة أخرى ويكتفي بذلك أو يسلك سبيلاً آخر في فهم الواقع أو تكييفه ويجوز تقديم الإثبات بجميع أنواعه من كل من الخصمين في أية حالة تكون عليها الدعوى وأمام أي درجة من درجات التقاضي إلى حين إقفال باب المرافعة فيها بل يجوز للمحكمة فتح باب المرافعة من جديد لإجراء الإثبات الذي طلبه الخصم متى كانت العدالة تستوجب ذلك .

وقيل في هذا الشرط بأنه لا يقبل الإثبات إذا كانت الواقعة المراد إثباتها مستحيلة بطبيعتها لأن المستحيل لا يقبل عقلاً طلب إثباته ولكن ليس هناك ما يمنع من إثباتها أمور قد تكون من خوارق العادات إذا كان من المحتمل حدوثها والعبرة هي بظروف الحال والزمان والمكان. وخلاصة هذا الشرط هو أنه يشترط في الواقعة المراد إثباتها أن يكون جائزاً إثباتها قانون بمعنى ألا تكون مستحيلة أو مما يحرم القانون إثباتها وكذلك لا يقبل الإثبات إذا كانت الواقعة مما يحرم القانون إثباتها فقد منع القانون إثبات وقائع معينة لإعتبارات قدرها منها من يتعلق بالنظام العام أو الآداب العامة وأيضاً فإنه لا يجوز توجيه اليمين عن فعل مخالف للنظام العام. ولا يجوز إثبات واقعة تتعارض مع قرينة قاطعة قررها القانون وهناك حالات يمنع القانون إثباتها بشهادة الشهود لأن المشرع يرى في أداء الشهادة إخلال بواجب قانون يجب مراعاته أو لأنه يرى في أدلتها زعزعة لرابطة يحرص القانون على إنتقائها والبحث في كون الواقعة جائزة الإثبات قانوناً أم لا هي مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض . ( الشرح والتعليق على قانون الإثبات المدني، المستشار/ مصطفى مجدي هرجه،  طبعة 2014، 2015 ، دار محمود،  المجلد :  الأول، الصفحة :150 )

 

الوقائع القانونية نوعان : الأول : أعمال قانونية وهي مجرد إتجاه الإرادة نحو إحداث أثر قانوني معين، وهو إما أن يصدر من جانبين كالبيع والإيجار وغيرهما من العقود، وأما أن يصدر من جانب واحد كالإقرار والوصية، والثاني : أفعال مادية وهي أمر محسوس يرتب عليه القانون أثراً سواء أكان حدوث ذلك الأمر إرادياً أو غير إرادياً كالفعل الضار والفعل النافع والقرابة والجوار .

ويشترط في الواقعة القانونية المطلوب إثباتها :

1- أن تكون محددة وهذا الشرط بديهي لأن الواقعة غير المحددة تبقى مجهلة ويستحيل إثباتها ويجب أن يكون تحدي الواقعة كافياً حتى يمكن التحقق من أن الدليل الذي سيقدم يتعلق بها لا بغيرها، فإذا كان محل الإثبات عقداً وجدب بیان نوعه وتعيين محله، كأن يذكر مثلاً أنه عقد بيع عقار معين بأوصافه وحدوده وأن يعين تاريخه، وإن كان وفاء بدين وجب بیان زمانه ومكانه والدين الموفي به ومقداره، وإن كان تعويضاً عن إعتداء وجب بيان نوع الاعتداء كضرب مثلاً، وتعيين الضارب والمضروب وزمان ومكان الضرب، أما الإدعاء بعقد أو بوفاء أو بفعل ضار دون بيان خصائصه التي يتعين بها فلا يكون قابلاً للإثبات .

ويدخل في تقدير سلطة قاضي الموضوع تقدير ما إذا كانت الواقعة المطلوب إثباتها معينة تعيينها كافياً ليسمح بإثباتها أم ليست كذلك دون أن يخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض .

ويجب تعيين الواقعة المراد إثباتها عندما تكون الدعوى جاهزة للفصل فيها، فإذا لم تعين في صحيفة الدعوى جاز تعيينها في مذكرة يقدمها الخصم أو بإثباتها في محضر الجلسة في طلب الإحالة إلى التحقيق أو في طلب ندب خبير .

والواقعة المطلوب إثباتها إما أن تكون إيجابية أي أمراً وجوبياً كالبيع والإيجار والإعتداء، وإما أن تكون سلبية أي نفياً للأمر وجودي كنفي التقصير في الالتزام بعلاج مريض، أو نفي مخالفة الإلتزام بعدم البناء على مساحة محددة فالواقعة الإيجابية المحددة يجري إثباتها من طريق مباشر فيثبت المشتري واقعة البيع ويثبت المدين واقعة الوفاء ويثبت من وقع عليه الاعتداء حدوثه.

أما الواقعة السلبية فإن إثباتها يتم عن طريق إثبات أمر مناف لها فإذا أراد الطبيب أن يثبت أنه لم يهمل في علاج المريض كان عليه أن يثبت أنه قام بكل ما يفرضه عليه واجب العلاج وأنه اتخذ في ذلك كل الإحتياطات اللازمة وإذا أراد الملتزم بعدم البناء إثبات ذلك أمكنه أن ينفي البناء .

ثانياً : أن تكون الواقعة المطلوب إثباتها من الممكن تصور وقوعها عقلاً ولو في حالات نادرة فإذا طلب شخص ثبوت نسبه لأخر ثبت أنه أصغر منه سناً كانت الواقعة مستحيلة، وبالتالي لا يجوز التصريح بإثباتها، وكما إذا أتهم شخص آخر بالإعتداء عليه في وقت معين وثبت أنه كان قد فارق الحياة قبل ذلك .

ومن المقرر أن قضاء المحكمة بإمكان تصور الواقعة المدعاة أو إستحالتها مسألة موضوعية لا يخضع القاضي في شأنها لرقابة محكمة النقض بشرط أن يؤسس حكمه على أمور سائغة، ومن ناحية أخرى فلا يكفي أن تكون الواقعة. جائزة الإثبات فحسب، بل يتعين أن تكون جائزة الإثبات بالدليل الذي يطلب الخصم التصريح له بإثباتها به فإذا أقام الدائن على مدينة دعوى يطالبه بدين قرض تزيد قيمته على مائة جنيه ثابت بالكتابة فلا يجوز للمدين أن يطلب تمكينه من إثبات الوفاء بشهادة الشهود لأن واقعة الوفاء في هذه الحالة لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود .

وأن تكون متنازعاً فيها لأنها إذا كانت ثابتة بطبيعتها كساعة شروق الشمس أو  معترفاًَ بها من الخصم فلا محل لإضاعة وقت المحكمة في تحقيقها إلا أنه يتعين أن يكون هذا الإعتراف قاطعاً وصريحاً وشاملاً وغير مخالف للنظام العام .

أن تكون الواقعة متصلة بالحق المطالب به والمقصود بذلك أن يكون الأمر المراد إثباته غير مقطوع الصلة بموضوع الدعوى .

وإذا طالب الدائن مدينه بدین معين فإنه إن جاز للمدين أن يطلب إثباته وفائه بالدين، غير أنه لا يجوز له أن يطلب إثبات أنه بدوره يداين دائنه بمبلغ أخر، غير أنه يجوز له ذلك في حالة ما إذا طلب الحكم له بدينه وإجراء المقاصة القضائية بين الدينين .

وكل واقعة منتجة في الدعوى تكون متعلقة بها وإنما ليست كل واقعة متعلقة بها تكون منتجة فيها .

ولا محل لإثبات الواقعة إذا كان القانون قد أعفي الخصم من إثباتها أو افتراضها كافتراض أن الحائز هو المالك حتى يقيم المدعي عليه الدليل على عكس ذلك أو إفتراض أن الحيازة المادية قرينة على الحيازة القانونية ما لم يثبت خصم الحائز عكس ذلك ( المادتين 963، 964 مدني ) وافتراض أن الحيازة تبقى محتفلة بالصفة التي بدأت بها وقت کسبها ما لم يقم الدليل على عكس ذلك (م 1967 مدني ) وافتراض الخطأ كأساس المسئولية في بعض الأحوال .

أن تكون الواقعة جائزة الإثبات قانوناً ذلك أن القانون قد لا يجبر إثبات واقعة تحقيقاً لأغراض مختلفة، ومن هذه الأغراض ما يمت إلى النظام العام والآداب كالمحافظة على سر المهنة وتحريم دين المقامرة والربا الفاحش وبيع المخدرات وعدم جواز إثبات صحة القذف .

وكون الواقعة متعلقة بالحق ومنتجة في الإثبات من المسائل الموضوعية التي لا تخضع لرقابة محكمة النقض، أما كون الواقعة جائزة الإثبات قانوناً فهذه مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض ( الوسيط للسنهوري الجزء الثاني، الطبعة الثانية، المجلد الأول، ص 79 وما بعدها، وأصول الإثبات الدكتور سليمان مرقس الطبعة الخامسة، الجزء الأول 71).

وافتقار الدعوى إلى الدليل لا يمنع من الحكم فيها، فإذا عجز المدعي عن إثبات ما يدعيه حكم برفض هذا الذي يدعيه وإذا أثبته وعجز المدعي عليه عن دحضه قضي به عليه ( مرافعات العشماوي، الجزء الثاني ص 487).

من المقرر أنه يجوز تقديم الإثبات بجميع أنواعه من كل من الخصمين في أية حالة تكون عليها الدعوى وأمام أي درجة من درجات التقاضي إلى حين إقفال باب المرافعة فيها بل يجوز للمحكمة فتح باب المرافعة من جديد لإجراء الإثبات الذي طلبه الخصم متى كانت العدالة تستوجب ذلك . ( المرجع السابق بند رقم 920) . ( التعليق على قانون الإثبات، المستشار/ عز الدين الديناصوري، والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات الأستاذ/ خيري راضي المحامي، الناشر/ دار الكتب والدراسات العربية،  الجزء : الأول،  الصفحة : 62 )

الفقه الإسلامي

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري،قانون التقاضى والإثبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحات: 38 ، 39     

(مادة 4) :

 يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالدعوى ، ومنتجة فيها ، وجائزاً قبولها . 

( (156) مرافعات مصري قديم وم (2) إثبات مصري ، و(3) بینات سوري ، (5) إثبات سوداني ، و(116) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية) . 

المذكرة الإيضاحية : 

الوقائع القانونية نوعان ، أولهما : الأعمال القانونية التي تتمثل في إتجاه الإرادة إلى إحداث أثر قانوني ، سواء كان من جانبين كالعقود عموماً أو من جانب واحد کالوصية. وثانيهما : أفعال مادية ، وهي أمور محسوسة يرتب القانون عليها أثراً سواء كانت إرادية كالفعل الضار ، أو غير إرادية كالقرابة والجوار . 

ويشترط في الواقعة القانونية بنوعيها المراد إثباتها : 

1- أن تكون محددة ؛ لأن الواقعة غير المحددة لا يمكن إثباتها ، كمن يطالب بدين أو بملكية ويؤسس دعواه على عقد لم يحدد ماهيته . 

2- أن تكون غير مستحيلة . 

3- أن تكون متنازعاً فيها ؛ لأنها إذا كانت معترفاً بها من الخصم فلا محل لإضاعة وقت المحكمة في تحقيقها . 

4- أن تكون متعلقة بالحق المطالب به ، أي أن يكون الأمر المراد إثباته غير مقطوع الصلة بموضوع الدعوى . 

5- أن تكون منتجة في الدعوى ، أي أن تكون مؤثرة في الفصل في الدعوى ، مما يقتضي أن تكون متصلة بالموضوع . 

6- أن تكون جائزة الإثبات قانوناً ؛ ذلك أن القانون قد لا يجيز إثبات واقعة ما تحقيقاً لأغراض مختلفة ، منها : المحافظة على النظام العام والآداب . 

ويلاحظ أن واقعة التعامل بالربا وبيع المخدرات وأمثالها يجوز إثباتها لترتيب عدم مشروعيتها وما يترتب على عدم المشروعية من آثار ، ولكن لايجوز إثباتها لترتيب الآثار عليها بإعتبارها صحيحة ؛ لأن هذا لا يتفق مع النظام العام والآداب . 

ولم ير حاجة للنص على الشروط الثلاثة الأولى ؛ لأنها بديهية .

 (انظر السنهوري، الوسيط، ج (2) البند (39) ص (57) وما بعدها) 

وقد نص في المادة (116) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية أنه : «يجوز للخصم المطلوب إستجوابه أن يطلب من المحكمة رفض الأسئلة الموجهة إليه كلها أو بعضها إذا لم تكن متعلقة بالدعوى ولا جائزة القبول شرعاً». وهذا يتفق مع حكم هذه المادة ، أما إغفالها ذكر أن تكون منتجة في الدعوى ؛ فلأنه شرط بديهي لا نزاع فيه. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  العشرون ، الصفحة / 270

دَعْوَى

التَّعْرِيفُ:

الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِدِّعَاءِ، مَصْدَرُ ادَّعَى، وَتُجْمَعُ عَلَى دَعَاوَى بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا.

وَلَهَا فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: الطَّلَبُ وَالتَّمَنِّي، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ)وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ، كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)وَمِنْهَا: الزَّعْمُ. وَلاَ تُطْلَقُ الدَّعْوَى عَلَى الْقَوْلِ الْمُؤَيَّدِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ حَقًّا، وَصَاحِبُهُ مُحِقًّا لاَ مُدَّعِيًا، فَلاَ تُطْلَقُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لأِنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ مَقْرُونٌ بِالْحُجَّةِ السَّاطِعَةِ، وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ. وَكَانُوا يُسَمُّونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ مُدَّعِيًا لِلنُّبُوَّةِ.

وَالدَّعْوَى فِي الاِصْطِلاَحِ: قَوْلٌ يَطْلُبُ بِهِ الإْنْسَانُ إِثْبَاتَ حَقٍّ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَوِ الْمُحَكَّمِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي حَقِيقَتِهَا إِخْبَارًا يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ أَمَامَ الْقَضَاءِ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، فَمِنَ الْبَدَهِيِّ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً إِذَا كَانَتْ دَعْوَى كَاذِبَةً، وَكَانَ الْمُدَّعِي يَعْلَمُ ذَلِكَ، أَوْ يَغْلِبُ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ، فَهِيَ عِنْدَئِذٍ تَصَرُّفٌ مُبَاحٌ، فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَقْصِدُ بِهَا الضِّرَارَ، فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً، كَمَا لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ غَرِيمَهُ لاَ يُنْكِرُ حَقَّهُ، وَأَنَّهُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِتَوْفِيَتِهِ إِيَّاهُ، فَيَرْفَعُ الدَّعْوَى لِلتَّشْهِيرِ بِهِ، فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً.

أَرْكَانُ الدَّعْوَى:

أَرْكَانُ الدَّعْوَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هِيَ: الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُدَّعَى، وَالْقَوْلُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي يَقْصِدُ بِهِ طَلَبَ حَقٍّ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ يُمَثِّلُهُ. وَلِكُلِّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأْرْكَانِ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِيمَا بَعْدُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رُكْنُ الدَّعْوَى هُوَ التَّعْبِيرُ الْمَقْبُولُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ إِنْسَانٍ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَقْصِدُ بِهِ طَلَبَ حَقٍّ لَهُ أَوْ لِمَنْ يُمَثِّلُهُ، مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ: لِي عَلَى فُلاَنٍ أَوْ قِبَلَ فُلاَنٍ كَذَا، أَوْ قَضَيْتُ حَقَّ فُلاَنٍ، أَوْ أَبْرَأَنِي عَنْ حَقِّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الرُّكْنَ هَلْ هُوَ مُجَرَّدُ التَّعْبِيرِ الطَّلَبِيِّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ، أَوْ أَنَّهُ هُوَ مَدْلُولُ ذَلِكَ التَّعْبِيرِ، أَوْ أَنَّهُ كِلاَ الأْمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى هَلْ رُكْنُ الدَّعْوَى هُوَ الدَّالُّ أَوِ الْمَدْلُولُ أَوْ كِلاَهُمَا؟ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأْقْوَالِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ.

كَيْفِيَّةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

تَمْيِيزُ الْقَاضِي الْمُدَّعِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُعْتَبَرُ مِنْ أَهَمِّ الأْمُورِ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الأْحْكَامِ الَّتِي يُصْدِرُهَا، ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ عِبْءَ الإْثْبَاتِ فِي الدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعِي. وَعِبْءَ دَفْعِهَا بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُدَّعِي إِثْبَاتَهَا بِالْبَيِّنَةِ. وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الْعِبْءَ الأْوَّلَ أَثْقَلُ مِنَ الْعِبْءِ الثَّانِي، فَإِنْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ سَيُحَمِّلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعِبْءَ الأْثْقَلَ، وَيَجْعَلُ عَلَى الْمُدَّعِي الْعِبْءَ الأْخَفَّ، مِمَّا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ وَالظُّلْمِ فِي الْقَضَاءِ.

لِذَلِكَ اجْتَهَدَ الْفُقَهَاءُ فِي وَضْعِ الضَّوَابِطِ الَّتِي تُعِينُ الْقُضَاةَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي أَيَّةِ خُصُومَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ حَصْرُ أَقْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي اتِّجَاهَيْنِ:

الاِتِّجَاهُ الأْوَّلُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى النَّظَرِ إِلَى جَنَبَةِ كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ: فَمَنْ كَانَتْ جَنَبَتُهُ قَوِيَّةً بِشَهَادَةِ أَيِّ أَمْرٍ مُصَدِّقٍ لِقَوْلِهِ كَانَ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالآْخَرُ مُدَّعِيًا. وَمَعَ اتِّفَاقِ أَصْحَابِ هَذَا الاِتِّجَاهِ عَلَى هَذَا الأْصْلِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الأْمْرِ الْمُصَدِّقِ الَّذِي إِذَا تَجَرَّدَ عَنْهُ قَوْلُ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي، فَتَبَايَنَتْ - بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ - تَعْرِيفَاتُهُمْ لِلْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:

أَوَّلاً: ذَهَبَ مُعْظَمُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ مَنْ تَجَرَّدَتْ دَعْوَاهُ عَنْ أَمْرٍ يُصَدِّقُهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ: أَوْ كَانَ أَضْعَفَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَمْرًا فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الصِّدْقِ.

وَفَسَّرَ آخَرُونَ مِنْهُمْ هَذَا الأْمْرَ الْمُصَدِّقَ بِقَوْلِهِمِ: الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلُهُ بِمَعْهُودٍ أَوْ أَصْلٍ. وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَكْسُهُ. وَالْمَعْهُودُ هُوَ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَالْغَالِبُ.

وَرَأَى بَعْضُهُمْ تَقْيِيدَ التَّعْرِيفِ السَّابِقِ لِلْمُدَّعِي بِقَوْلِهِ «حَالَ الدَّعْوَى»، أَيْ أَنَّ: التَّجَرُّدَ الْمَقْصُودَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ حَالَ الدَّعْوَى، وَقَبْلَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ «بِمُصَدِّقٍ غَيْرِ بَيِّنَةٍ»، أَيْ أَنْ لاَ يَكُونَ الأْمْرُ الْمُصَدِّقُ الَّذِي تَجَرَّدَ عَنْهُ قَوْلُ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَيِّنَةُ، فَإِنَّهُ يَظَلُّ مُدَّعِيًا وَلَوْ لَمْ يَتَجَرَّدْ قَوْلُهُ مِنْهَا.

ثُمَّ إِنَّ الأْمْرَ الْمُصَدِّقَ الَّذِي إِذَا اعْتَضَدَ بِهِ جَانِبُ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ كَانَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ هُمَا:

الأْصْلُ وَالظَّاهِرُ:

أَمَّا الأْصْلُ فَهُوَ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَعْمُولُ بِهَا فِي الْوَاقِعَةِ الْمَخْصُوصَةِ، أَوِ الدَّلاَلَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ، أَوِ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ الأْوَّلِ. وَقَدْ ذَكَرُوا مِنَ الأْصُولِ:

الأْصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ الْحُقُوقِ قَبْلَ عِمَارَتِهَا:

فَمَنِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى آخَرَ، فَأَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ كَانَ الْمُنْكِرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، لأِنَّ الأْصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَقَدْ عَضَّدَهُ هَذَا الأْصْلُ، فَكَانَ الْقَوْلُ لَهُ بِيَمِينِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ. وَلَوِ اعْتَرَفَ الْمَطْلُوبُ بِالدَّيْنِ وَادَّعَى الْقَضَاءَ، لَكَانَ الطَّالِبُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذَا الدَّفْعِ، لأِنَّ الأْصْلَ اسْتِصْحَابُ عِمَارَةِ الذِّمَّةِ بَعْدَ ثُبُوتِ شُغْلِهَا، فَكَانَ الْقَوْلُ لَهُ بِيَمِينِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلآْخَرِ بَيِّنَةٌ.

الأصْلُ فِي الإْنْسَانِ الصِّحَّةُ قَبْلَ ثُبُوتِ مَرَضِهِ، وَيَكُونُ مُدَّعِي الْمَرَضِ مُدَّعِيًا خِلاَفَ الأْصْلِ، فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَإِذَا وَقَعَ طَلاَقُ رَجُلٍ لِزَوْجَتِهِ طَلاَقًا بَائِنًا، ثُمَّ مَاتَ، فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ تَدَّعِي أَنَّهُ طَلَّقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِكَيْ تَرِثَ مِنْهُ، فَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ، كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُدَّعِيَةً خِلاَفَ الأْصْلِ الَّذِي يَقْضِي بِأَنَّ الإْنْسَانَ سَلِيمٌ حَتَّى يَثْبُتَ مَرَضُهُ، فَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ وَالْقَوْلُ لِلْوَرَثَةِ.

الأْصْلُ عَدَمُ الْمَضَارَّةِ وَالتَّعَدِّي، فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى الطَّبِيبِ الْعَمْدَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَادَّعَى الطَّبِيبُ الْخَطَأَ، فَإِنَّ الْقَوْلَ لَهُ.

الأْصْلُ فِي الإْنْسَانِ الْجَهْلُ بِالشَّيْءِ حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ بِالْعِلْمِ، فَإِذَا قَامَ الشَّرِيكُ يَطْلُبُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ بِالشُّفْعَةِ مِمَّنِ اشْتَرَاهَا، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مُرُورِ عَامٍ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ، فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عِلْمَ الشَّرِيكِ بِالْبَيْعِ، وَادَّعَى هُوَ جَهْلَهُ بِذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّرِيكِ، وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْمُدَّعِي، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي تَشْهَدُ أَنَّ الشَّرِيكَ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِالْعَقْدِ.

الأْصْلُ فِي الإْنْسَانِ الْفَقْرُ، لِسَبْقِهِ، حَيْثُ يُولَدُ خَالِيَ الْيَدِ، فَيَكْتَسِبُ بِعَمَلِهِ، فَيُصْبِحُ غَنِيًّا، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ مَحْمُولُونَ عَلَى الْمُلاَءِ لِغَلَبَتِهِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا تَعَارَضَ فِيهِ الأْصْلُ وَالْغَالِبُ، وَقُدِّمَ الأْخِيرُ فِيهِ، وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ زَاعِمَ الإْعْسَارِ يُعْتَبَرُ مُدَّعِيًا، وَإِنْ وَافَقَهُ الأَصْلُ الَّذِي هُوَ الْفَقْرُ، فَهُوَ الْمُدَّعِي وَالْمَطَالِبُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الإْعْسَارِ.

وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَيُسْتَفَادُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْعُرْفُ، وَالْقَرَائِنُ الْمُغَلِّبَةُ عَلَى الظَّنِّ.

الأْوَّلُ: الْعُرْفُ، وَيُسَمِّيهِ بَعْضُهُمُ الْمَعْهُودَ وَالْغَالِبَ وَالْعَادَةَ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى حُجِّيَّتِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).

وَقَدْ قَالُوا: الْعُرْفُ مُقَدَّمٌ عَلَى الأْصْلِ، وَكُلُّ أَصْلٍ كَذَّبَهُ الْعُرْفُ، رُجِّحَ هَذَا الأْخِيرُ عَلَيْهِ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَسَائِلِ، مِنْهَا مَا لَوِ ادَّعَى الصَّالِحُ التَّقِيُّ الْعَظِيمُ الْمَنْزِلَةَ أَوِ الشَّأْنَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ وَأَدْنَاهُمْ عِلْمًا وَدِينًا دِرْهَمًا وَاحِدًا، فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ، وَالأْصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَيُقَدَّمُ الأْصْلُ عَلَى الْغَالِبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.

الأْمْرُ الثَّانِي: الْقَرَائِنُ وَظَوَاهِرُ الْحَالِ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ، فَمَنْ حَازَ شَيْئًا مُدَّةً يَتَصَرَّفُ فِيهِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ قَوْلُ الْحَائِزِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِيَّةِ، وَيَكُونُ الآْخَرُ مُدَّعِيًا، لأِنَّ قَوْلَهُ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنَ الْوَاقِعِ وَالْقَرَائِنِ، فَيُكَلَّفُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَقَعَتْ دَعْوَاهُ بِيَمِينِ الْحَائِزِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ، إِمَّا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَإِمَّا لِلضَّرُورَةِ: كَمَا فِي قَوْلِ الأْمَنَاءِ فِي تَلَفِ الأْمَانَاتِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مَعَ أَنَّ الأْصْلَ عَدَمُهُ، لأِنَّهُ أَمْرٌ عَارِضٌ، وَإِنَّمَا قُبِلَ كَيْلاَ يَزْهَدَ النَّاسُ فِي قَبُولِ الأْمَانَاتِ، فَتَفُوتُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ. وَكَمَا فِي قَوْلِ الْغَاصِبِ بِتَلَفِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مَعَ يَمِينِهِ، لِلضَّرُورَةِ، وَيُعْتَبَرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَاعْتُبِرَ مُدَّعِيًا لَكَانَ مَصِيرُهُ الْخُلُودَ فِي السِّجْنِ.

ثَانِيًا: ذَهَبَ مُعْظَمُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ: مَنْ يَلْتَمِسُ خِلاَفَ الظَّاهِرِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ: مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ. وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ، وَظَاهِرٌ بِغَيْرِهِ، وَيُطْلِقُونَ كَثِيرًا لَفْظَ «الأْصْلِ» عَلَى النَّوْعِ الأْوَّلِ، وَإِذَا ذَكَرُوا الظَّاهِرَ فِي مُقَابَلَةِ الأْصْلِ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ النَّوْعَ الثَّانِيَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ بِغَيْرِهِ. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي التَّعْرِيفِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُقْصَدُ بِهِ النَّوْعَانِ جَمِيعًا.

وَالظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ هُوَ أَقْوَى أَنْوَاعِ الظَّاهِرِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنَ الأْصُولِ، كَالظَّاهِرِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْبَرَاءَةِ الأْصْلِيَّةِ: بَرَاءَةِ الذِّمَمِ مِنَ الْحُقُوقِ، وَالأْجْسَادِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَبَرَاءَةِ الإْنْسَانِ مِنَ الأْفْعَالِ وَالأْقْوَالِ جَمِيعِهَا.

وَالظَّاهِرُ بِغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْعُرْفِ وَالْعَوَائِدِ، أَوْ مِنَ الْقَرَائِنِ وَدَلاَئِلِ الْحَالِ.

وَإِذَا تَعَارَضَ الظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ مَعَ الظَّاهِرِ بِغَيْرِهِ فَغَالِبًا مَا يُقَدِّمُ الشَّافِعِيَّةُ الأْوَّلَ، وَيَكُونُ الَّذِي يَدَّعِي خِلاَفَهُ مُدَّعِيًا يُكَلَّفُ بِالْبَيِّنَةِ إِنْ لَمْ يُقِرَّ خَصْمُهُ، وَالآْخَرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوِ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا الْحَاضِرِ أَنَّهُ لاَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، فَالأْصْلُ يَقْضِي بِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ، وَالظَّاهِرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ يَقْضِي بِأَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَالشَّافِعِيَّةُ يُقَدِّمُونَ الأْوَّلَ عَلَى الثَّانِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الزَّوْجِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، حَيْثُ يَجْعَلُونَ الْمَرْأَةَ مُدَّعِيَةً، وَالزَّوْجُ مُدَّعًى عَلَيْهِ.

أَمَّا إِذَا تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ فِي قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ، كَأَنْ يَكُونَا مُسْتَفَادَيْنِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَصْلَيْنِ فِي قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مُدَّعِيًا مُكَلَّفًا بِالْبَيِّنَةِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ الأْمِّ مَا نَصُّهُ: إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَكْرَاهُ بَيْتًا مِنْ دَارٍ شَهْرًا بِعَشَرَةٍ، وَادَّعَى الْمُكْتَرِي أَنَّهُ اكْتَرَى الدَّارَ كُلَّهَا ذَلِكَ الشَّهْرَ بِعَشَرَةٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ.

وَيَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الشُّقَّةَ لَيْسَتْ بَعِيدَةً بَيْنَ الْمِعْيَارِ الَّذِي قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَجْلِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْمِعْيَارِ الَّذِي قَالَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، بَلْ إِنَّهُمَا يَكَادَانِ يَتَشَابَهَانِ، وَالْخِلاَفُ بَيْنَهُمَا مُنْحَصِرٌ فِي التَّطْبِيقِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَتَعَارَضُ أَمْرَانِ مِنْ أُمُورِ الظَّاهِرِ: فَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ الأْصْلَ أَقْوَى مَنَابِعِ الظُّهُورِ غَالِبًا، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ دَلاَئِلَ الْحَالِ مِنْ عُرْفٍ وَقَرَائِنَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدَّمَ الأْقْوَى فِي نَظَرِهِ، وَجَعَلَ مُخَالِفَهُ مُدَّعِيًا وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ.

الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأْخْرَى، وَهُوَ تَعْرِيفُ الْمُدَّعِي بِأَنَّهُ: مَنْ إِذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. مَنْ إِذَا تَرَكَهَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى اشْتِقَاقِ تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ تَعْرِيفِ الدَّعْوَى نَفْسِهَا: فَالْمُدَّعِي - عِنْدَهُمْ - هُوَ مُنْشِئُ الدَّعْوَى، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ مَنْ تَوَجَّهَتْ ضِدُّهُ الدَّعْوَى، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ:

الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ يُضِيفُ إِلَى نَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ عَلَى الآْخَرِ وَإِذَا سَكَتَ تُرِكَ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ مَنْ يُضَافُ اسْتِحْقَاقُ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَإِذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ يُطَالِبُ غَيْرَهُ بِحَقٍّ يَذْكُرُ اسْتِحْقَاقَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُطَالِبُهُ غَيْرُهُ بِحَقٍّ يَذْكُرُ اسْتِحْقَاقَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ يَلْتَمِسُ قِبَلَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا أَوْ حَقًّا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ مَنْ يَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ.

الْفَائِدَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

أَهَمُّ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ تَعْيِينُ الطَّرَفِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ عِبْءُ الإِْثْبَاتِ، وَالطَّرَفُ الَّذِي لاَ يُكَلَّفُ إِلاَّ بِالْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لِلطَّرَفِ الأْوَّلِ. وَهَذَا الأْمْرُ هُوَ مَدَارُ الْقَضَاءِ وَعَمُودُهُ، إِذْ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ لاَ يَبْقَى عَلَى الْقَاضِي سِوَى تَطْبِيقِ الْقَوَاعِدِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْبَيِّنَاتِ وَالتَّرْجِيحِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ عَرَفَ الْمُدَّعِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَلْتَبِسْ عَلَيْهِ مَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا.

وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، لأِنَّ جَانِبَهُ ضَعِيفٌ، إِذْ هُوَ يُرِيدُ تَغْيِيرَ الْحَالِ الْمُسْتَقِرِّ بِمَا يَزْعُمُهُ، وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: فَالْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، هُوَ أَنَّ لَهُ سَبَبًا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ دُونَ الْمُدَّعِي فِي مُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَهُوَ كَوْنُ السِّلْعَةِ بِيَدِهِ إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ كَوْنُ ذِمَّتِهِ بَرِيئَةً عَلَى الأْصْلِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَمِ إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ.

وَالْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى الْمُدَّعِي إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ هُوَ تَجَرُّدُ دَعْوَاهُ مِنْ سَبَبٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ.

وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَذَهَبَ دِمَاءُ قَوْمٍ وَأَمْوَالُهُمْ».

mobile-nav تواصل
⁦+201002430310⁩