قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري،قانون التقاضى والإثبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة: 99
(مادة 62) :
إذا كان للشاهد عذر يمنعه من الحضور جاز أن ينتقل إليه القاضي المنتدب لسماع أقواله ، فإذا كان التحقيق أمام المحكمة جاز لها أن تندب أحد قضاتها لذلك ، ويدعى الخصوم لحضور تأدية هذه الشهادة ، ويحرر محضر بها يوقعه القاضي المنتدب والكاتب .
( م (81) إثبات مصري ، و(190) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ، و(75) بینات سوري ، و(65) إثبات سوداني وفيها إضافة : «ويمنح من لم يحضر منهم (من الخصوم) فرصة مناقشة أقوال الشاهد. - للخصوم أن يقدموا إلى المحكمة مذكرات مكتوبة عن الوقائع التي يرغبون في سؤال الشاهد فيها ، إذا فوضت محكمة أخرى في سؤاله» .
ونص في المادة (183) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية : «للمشهود عليه أن يبين للقاضي ما يخل بشهادة الشاهد شرعاً ، وكذلك له أن يوجه إلى الشهود بواسطة رئيس الجلسة الأسئلة التي يرى لزوم سؤالهم عنها ، وعلى الرئيس أن يوجه تلك الأسئلة إلا إذا رأت المحكمة أنها غير مفيدة ، فتقرر رفضها مع تدوين ذلك كله بالمحضر ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الأول ، الصفحة / 235
الشَّهَادَةُ:
مِنْ مَعَانِي الشَّهَادَةِ فِي اللُّغَةِ الْبَيَانُ وَالإْظْهَارُ لِمَا يَعْلَمُهُ، وَأَنَّهَا خَبَرٌ قَاطِعٌ. وَشَرْعًا: إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ صِيَغُهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَبَعًا لِتَضَمُّنِهَا شُرُوطًا فِي قَبُولِهَا كَلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ.
حُكْمُهَا:
لِلشَّهَادَةِ حَالَتَانِ: حَالَةُ تَحَمُّلٍ، وَحَالَةُ أَدَاءٍ.
فَأَمَّا التَّحَمُّلُ، وَهُوَ أَنْ يُدْعَى الشَّخْصُ لِيَشْهَدَ وَيَحْفَظَ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. فَإِنْ تَعَيَّنَ بِحَيْثُ لاَ يُوجَدُ غَيْرُهُ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الأْدَاءُ، وَهُوَ أَنْ يُدْعَى الشَّخْصُ لِيَشْهَدَ بِمَا عَلِمَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لقوله تعالي وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وقوله تعالى وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ طُرُقِ الْقَضَاءِ، لقوله تعالى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ.
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأْمَّةُ عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ يُبْنَى عَلَيْهَا الْحُكْمُ.
مَدَى حُجِّيَّتِهَا:
الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، أَيْ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ غَيْرُ مُقْتَصِرَةٍ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ حُجَّةً بِنَفْسِهَا إِذْ لاَ تَكُونُ مُلْزِمَةً إِلاَّ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا الْقَضَاءُ. وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْطِنِهِ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني ، الصفحة / 340
أَدَاءُ الشَّهَادَةِ
حُكْمُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
أَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ. وَقَوْلِهِ: وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا فَإِذَا تَحَمَّلَهَا جَمَاعَةٌ وَقَامَ بِأَدَائِهَا مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ الأْدَاءُ عَنِ الْبَاقِينَ، لأِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا حِفْظُ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِبَعْضِهِمْ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْكُلُّ أَثِمُوا جَمِيعًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) وَلأِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ الأْدَاءُ عِنْدَ الطَّلَبِ.
وَقَدْ يَكُونُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضَ عَيْنٍ إِذَا كَانَ لاَ يُوجَدُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ، وَتَوَقَّفَ الْحَقُّ عَلَى شَهَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الأْدَاءُ؛ لأِنَّهُ لاَ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إِلاَّ بِهِ.
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَأَسْبَابِهَا أَيْ فِي مَحْضِ حَقِّ الآْدَمِيِّ، وَهُوَ مَا لَهُ إِسْقَاطُهُ كَالدَّيْنِ وَالْقِصَاصِ فَلاَ بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَشْهُودِ لَهُ لِوُجُوبِ الأْدَاءِ، فَإِذَا طُلِبَ وَجَبَ عَلَيْهِ الأْدَاءُ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَأْثَمُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَبْلَ طَلَبِ الْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم : «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ» وَلأِنَّ أَدَاءَهَا حَقٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، فَلاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ رَبُّ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ الشَّاهِدَ تَحَمَّلَهَا اسْتُحِبَّ لِمَنْ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ إِعْلاَمُ رَبِّ الشَّهَادَةِ بِهَا.
وَإِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيمَا سِوَى الْحُدُودِ، كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ فَيَلْزَمُهُ الأْدَاءُ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الأَْدَاءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ.
وَأَمَّا فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَالسَّتْرُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ» وَلأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَرْءِ الْحَدِّ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الأْوْلَى السَّتْرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْجَانِي مُتَهَتِّكًا، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ.
- وَإِذَا وَجَبَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى إِنْسَانٍ وَلَكِنَّهُ عَجَزَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، كَأَنْ دُعِيَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَوْ كَانَ سَيَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ الأْدَاءُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ . وَقَوْلِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم : «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ». وَلأِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَضُرَّ نَفْسَهُ لِنَفْعِ غَيْرِهِ.
كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لاَ يَجِبُ الأْدَاءُ إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ غَيْرَ عَدْلٍ، قَالَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ: كَيْفَ أَشْهَدُ عِنْدَ رَجُلٍ لَيْسَ عَدْلاً، لاَ أَشْهَدُ.
كَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
يُعْتَبَرُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي أَدَائِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِكَذَا وَنَحْوَهُ؛ لأِنَّ الشَّهَادَةَ مَصْدَرُ شَهِدَ يَشْهَدُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الإْتْيَانِ بِفِعْلِهَا الْمُشْتَقِّ مِنْهَا؛ وَلأِنَّ فِيهَا مَعْنًى لاَ يَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الأْلْفَاظِ، وَلَوْ قَالَ: أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ أَوْ أَعْرِفُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، إِلاَّ أَنَّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لأِدَاءِ الشَّهَادَةِ صِيغَةً مَخْصُوصَةً بَلْ قَالُوا: الْمَدَارُ فِيهَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ عِلْمِ الشَّاهِدِ بِمَا شَهِدَ بِهِ كَرَأَيْتُ كَذَا أَوْ سَمِعْتُ كَذَا وَهُوَ الأْظْهَرُ عِنْدَهُمْ. وَلِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا شُرُوطٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَةٌ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس ، الصفحة / 31
إِشْهَادٌ
التَّعْرِيفُ:
الإْشْهَادُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَشْهَدَ، وَأَشْهَدْتُهُ عَلَى كَذَا فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَيْ: صَارَ شَاهِدًا، وَأَشْهَدَنِي عَقْدَ زَوَاجِهِ: أَيْ أَحْضَرَنِي .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلإْشْهَادِ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَسَيَقْتَصِرُ الْبَحْثُ عَلَى الإْشْهَادِ بِالْمَعْنَى الأْوَّلِ وَهُوَ: طَلَبُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّهَادَةُ:
قَدْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ دُونَ سَبْقِ إِشْهَادٍ، تَحْصُلُ بِطَلَبٍ أَوْ دُونَهُ، وَالإْشْهَادُ هُوَ طَلَبُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ.
ب - الاِسْتِشْهَادُ:
الاِسْتِشْهَادُ يَأْتِي بِمَعْنَى الإْشْهَادِ، أَيْ طَلَبُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، كَمَا فِي قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَقَدْ يَأْتِي الاِسْتِشْهَادُ بِمَعْنَى طَلَبِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَمَا يَأْتِي الاِسْتِشْهَادُ بِمَعْنَى أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ج - الإْعْلاَنُ (وَالإْشْهَارُ)
قَدْ يَتَحَقَّقُ الإْعْلاَنُ دُونَ الإْشْهَادِ، كَمَا لَوْ أَعْلَنُوا النِّكَاحَ بِحَضْرَةِ صِبْيَانٍ، أَوْ أَمَامَ نِسَاءٍ. وَقَدْ يَتَحَقَّقُ الإْشْهَادُ دُونَ الإْعْلاَنِ، كَإِشْهَادِ رَجُلَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ وَاسْتِكْتَامِهِمَا.
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
الإْشْهَادُ تَعْتَرِيهِ الأْحْكَامُ الْخَمْسَةُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي النِّكَاحِ وَيَكُونُ مَنْدُوبًا، كَالإْشْهَادِ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَجَائِزًا كَمَا فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَمَكْرُوهًا كَالإْشْهَادِ عَلَى الْعَطِيَّةِ، أَوِ الْهِبَةِ لِلأْوْلاَدِ إِنْ حَصَلَ فِيهَا تَفَاوُتٌ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَحَرَامًا كَالإْشْهَادِ عَلَى الْجَوْر.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى إِيجَابِ الإْشْهَادِ فِي كُلِّ مَا وَرَدَ الأْمْرُ بِهِ.
- الْخُرُوجُ لأِدَاءِ الشَّهَادَةِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لأِجْلِ الشَّهَادَةِ مُفْسِدٌ لِلاِعْتِكَافِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ، بِأَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُ، أَوْ لاَ يَتِمُّ النِّصَابُ إِلاَّ بِهِ، لاَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ لأِدَائِهَا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ إِمَّا بِحُضُورِ الْقَاضِي، أَوْ تُنْقَلُ عَنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ لأِدَاءِ الشَّهَادَةِ مَتَى تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَكَذَلِكَ التَّحَمُّلُ لِلشَّهَادَةِ إِذَا تَعَيَّنَ، فَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ وَلاَ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِذَلِكَ الْخُرُوجِ، لأِنَّهُ خُرُوجٌ وَاجِبٌ عَلَى الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس والعشرون ، الصفحة / 135
السُّكُوتُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالطَّلَبِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ. وَهَذَا إِذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَكَانَ الْقَاضِي عَادِلاً، وَيَكُونُ الْمَكَانُ قَرِيبًا، وَلاَ يَعْلَمُ بُطْلاَنَ الشُّهُودِ بِهِ، وَلاَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ خَوْفًا.
فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّكُوتُ؛ لأَِنَّ فِي سُكُوتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) وَهَذَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالرَّضَاعِ فَيَجِبُ الأَْدَاءُ حِسْبَةً بِلاَ طَلَبٍ.
إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُخَيَّرُ فِي الْحُدُودِ، وَسَتْرُهَا فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَبَرُّ، فَالأَْوْلَى فِيهَا الْكِتْمَانُ إِلاَّ لِمُتَهَتِّكٍ وَمَنِ اشْتُهِرَ بِالْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي.
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَخِلاَفٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة).
سَمَاعُ الشَّهَادَةِ:
الشَّهَادَةُ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِمَا عَلِمَهُ الشَّاهِدُ لقوله تعالي وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً(. وَقَوْلِهِ - جَلَّ ذِكْرُهُ ( إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ( وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا) وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلاَّ فَدَعْ.(
وَالْعِلْمُ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ يَحْصُلُ بِطَرِيقَتَيْنِ:
أ - الرُّؤْيَةُ:
وَتَكُونُ فِي الأَْفْعَالِ كَالْغَصْبِ وَالإِْتْلاَفِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالإِْكْرَاهِ وَنَحْوِهَا، كَمَا تَكُونُ فِي الصِّفَاتِ الْمَرْئِيَّةِ مِثْلِ الْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ وَالْمُؤَجَّرِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ.
ب - السَّمَاعُ: وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: سَمَاعُ الصَّوْتِ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي الأَْقْوَالِ سَوَاءٌ أَكَانَ السَّامِعُ مُبْصِرًا أَمْ غَيْرَ مُبْصِرٍ مِثْلُ مَا يَقَعُ بِهِ إِبْرَامُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى سَمَاعِ كَلاَمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، إِذَا عَرَفَهَا السَّامِعُ وَتَيَقَّنَ أَنَّهَا مَصْدَرُ مَا سَمِعَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس والعشرون ، الصفحة / 214
شَهَادَةٌ
التَّعْرِيفُ:
- مِنْ مَعَانِي الشَّهَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخَبَرُ الْقَاطِعُ، وَالْحُضُورُ وَالْمُعَايَنَةُ وَالْعَلاَنِيَةُ، وَالْقَسَمُ، وَالإِْقْرَارُ، وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. يُقَالُ: شَهِدَ بِكَذَا إِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَشَهِدَ كَذَا إِذَا حَضَرَهُ، أَوْ عَايَنَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُعَدَّى الْفِعْلُ (شَهِدَ) بِالْهَمْزَةِ، فَيُقَالُ: أَشْهَدْتُهُ الشَّيْءَ إِشْهَادًا، أَوْ بِالأَْلِفِ، فَقَالَ: شَاهَدْتُهُ مُشَاهَدَةً، مِثْلُ عَايَنْتُهُ وَزْنًا وَمَعْنًى.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ: قوله تعالي فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: «وَشَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمُعَايَنَةِ: قوله تعالي وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)
قَالَ الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ مَعْنَاهَا: «وَقَوْلُهُ( أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) ، يَعْنِي مُشَاهَدَةَ الْبَصَرِ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْقَسَمِ أَوِ الْيَمِينِ: قوله تعالي فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: «الشَّهَادَةُ مَعْنَاهَا الْيَمِينُ هَاهُنَا.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْقَاطِعِ: قوله تعالي وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا.
وَاسْتِعْمَالُهَا بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الإِْقْرَارِ: قوله تعالي شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ.
أَيْ مُقِرِّينَ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْسِ هِيَ الإِْقْرَارُ.
وَتُطْلَقُ الشَّهَادَةُ أَيْضًا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. (وَهِيَ قَوْلُنَا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وَتُسَمَّى الْعِبَارَةُ (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَمَعْنَاهُمَا هُنَا مُتَفَرِّعٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ (الإِْخْبَارُ وَالإِْقْرَارُ)، فَإِنْ مَعْنَى الشَّهَادَةِ هُنَا هُوَ الإِْعْلاَمُ وَالْبَيَانُ لأَِمْرٍ قَدْ عُلِمَ وَالإِْقْرَارُ الاِعْتِرَافُ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هُوَ: «أَعْلَمُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَأُبَيِّنُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْلَمُ وَأُبَيِّنُ أَنَّ مُحَمَّدًا مُبَلِّغٌ لِلأَْخْبَارِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُمِّيَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالتَّشَهُّدِ، وَهُوَ صِيغَةُ (تَفَعَّلَ) مِنَ الشَّهَادَةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ (التَّشَهُّدُ) عَلَى (التَّحِيَّاتِ) الَّتِي تُقْرَأُ فِي آخِرِ الصَّلاَةِ.
جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ. صلي الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمُ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْعَلاَنِيَةِقوله تعالي عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الآْيَةِ: «السِّرُّ وَالْعَلاَنِيَةُ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: قوله تعالي فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ).
فَهُوَ شَهِيدٌ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةَ، جَمْعُهُ شُهَدَاءُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الإِْخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ).
وَاسْتَعْمَلُوا اللَّفْظَ فِي الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شَهِيدٌ).
وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الْقَسَمِ كَمَا فِي اللِّعَانِ، (وَبَيَانُهُ فِي اللِّعَانِ).
كَمَا اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الإِْخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ
الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ الْبَحْثِ فِي هَذَا الْمُصْطَلَحِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الشَّهَادَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى.
فَعَرَّفَهَا الْكَمَالُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارُ صِدْقٍ لإِِثْبَاتِ حَقٍّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: بِأَنَّهَا إِخْبَارُ حَاكِمٍ مِنْ عِلْمٍ لِيَقْضِيَ بِمُقْتَضَاهُ.
وَعَرَّفَهَا الْجَمَلُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ.
وَعَرَّفَهَا الشَّيْبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا: الإِْخْبَارُ بِمَا عَلِمَهُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَوْ شَهِدْتُ.
وَتَسْمِيَتُهَا بِالشَّهَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ، لأَِنَّ الشَّاهِدَ يُخْبِرُ عَنْ مَا شَاهَدَهُ وَالإِْشَارَةُ إِلَيْهَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما - قَالَ: «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ.
وَتُسَمَّى «بَيِّنَةً» أَيْضًا؛ لأَِنَّهَا تُبَيِّنُ مَا الْتَبَسَ وَتَكْشِفُ الْحَقَّ فِي مَا اخْتُلِفَ فِيهِ.
وَهِيَ إِحْدَى الْحُجَجِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الدَّعْوَى.
أَلْفَاظٌ ذَاتُ صِلَةٍ:
الإِْقْرَارُ:
الإِْقْرَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الإِْخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ.
الدَّعْوَى:
الدَّعْوَى: قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَلِ الْغَيْرِ أَوْ دُفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ.
فَيَجْمَعُ كُلًّا مِنَ الإِْقْرَارِ وَالدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، أَنَّهَا إِخْبَارَاتٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا: أَنَّ الإِْخْبَارَ إِنْ كَانَ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ فَإِقْرَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ، فَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ فِيهِ نَفْعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ نَفْعٌ فِيهِ لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ فَهُوَ الدَّعْوَى، انْظُرْ: الْمَوْسُوعَةَ الْفِقْهِيَّةَ مُصْطَلَحَ (إِقْرَارٌ) (6 67.
الْبَيِّنَةُ:
الْبَيِّنَةُ: عَرَّفَهَا الرَّاغِبُ بِأَنَّهَا: الدَّلاَلَةُ الْوَاضِحَةُ عَقْلِيَّةً أَوْ مَحْسُوسَةً. وَعَرَّفَهَا الْمَجْدَوِيُّ الْبَرَكَتِيُّ بِأَنَّهَا: الْحُجَّةُ الْقَوِيَّةُ وَالدَّلِيلُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْبَيِّنَةُ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ. وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ، وَتَارَةً ثَلاَثَةً بِالنَّصِّ فِي بَيِّنَةِ الْمُفَلِّسِ، وَتَارَةً شَاهِدَيْنِ وَشَاهِدًا وَاحِدًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً وَنُكُولاً وَيَمِينًا أَوْ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَيْمَانٍ، وَتَكُونُ شَاهِدَ الْحَالِ (أَيِ الْقَرَائِنَ) فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ.
وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا أَعَمَّ مِنَ الشَّهَادَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ.
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لقوله تعالي وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا). ). وقوله تعالي ).وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ). وَقَوْلُهُ (وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).
وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا كَسَائِرِ الأَْمَانَاتِ. فَإِذَا قَامَ بِهَا الْعَدَدُ الْكَافِي (كَمَا سَيَأْتِي) سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ.
وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِالشَّهَادَةِ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ.
فَإِذَا تَضَرَّرَ فِي التَّحَمُّلِ أَوِ الأَْدَاءِ، أَوْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ لاَ تَنْفَعُ، بِأَنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، أَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّبَذُّلِ فِي التَّزْكِيَةِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، لقوله تعالي وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ.. وَقَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ لاَ يَحْصُلُ مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ تَحَمُّلُهَا وَأَدَاؤُهَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَرْضًا عَيْنِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الشُّهُودِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْحُكْمُ، وَخِيفَ ضَيَاعُ الْحَقِّ.
وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ، أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ أَدَاءٌ ف 26 ح 2 ص 340 لِبَيَانِ الْخِلاَفِ فِي أَفْضَلِيَّةِ الشَّهَادَةِ أَوِ السَّتْرِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ:
ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْكِتَابُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).
وَقَوْلُهُ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
وَقَوْلُهُ(وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ).
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ – رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ.
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ». وَالْبَيِّنَةُ هِيَ الشَّهَادَةُ.
«قَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا لإِِثْبَاتِ الدَّعَاوَى».
أَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا لِحُصُولِ التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.
أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ:
أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خَمْسَةُ أُمُورٍ: الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ، وَالصِّيغَةُ.
وَرُكْنُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اللَّفْظُ الْخَاصُّ، وَهُوَ لَفْظُ (أَشْهَدُ) عِنْدَهُمْ.
سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ طَلَبُ الْمُدَّعِي الشَّهَادَةَ مِنَ الشَّاهِدِ، أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّ الْمُدَّعِي إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُدَّعِي كَوْنَهُ شَاهِدًا.
حُجِّيَّةُ الشَّهَادَةِ:
الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ تُظْهِرُ الْحَقَّ
وَلاَ تُوجِبُهُ وَلَكِنْ تُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَاهَا لأَِنَّهَا إِذَا اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.
شُرُوطُ الشَّهَادَةِ:
لِلشَّهَادَةِ نَوْعَانِ مِنَ الشُّرُوطِ:
شُرُوطُ تَحَمُّلٍ.
وَشُرُوطُ أَدَاءً.
فَأَمَّا شُرُوطُ التَّحَمُّلِ: فَمِنْهَا:
أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَاقِلاً وَقْتَ التَّحَمُّلِ، فَلاَ يَصِحُّ تَحَمُّلُهَا مِنْ مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ لاَ يَعْقِلُ؛ لأَِنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ الْحَادِثَةِ وَضَبْطِهَا، وَلاَ يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِآلَةِ الْفَهْمِ وَالضَّبْطِ، وَهِيَ الْعَقْلُ.
أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، فَلاَ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مِنَ الأَْعْمَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ إِذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ وَقَطَعَ بِأَنَّهُ صَوْتُ فُلاَنٍ.
أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّلُ عَنْ عِلْمٍ، أَوْ عَنْ مُعَايَنَةٍ لِلشَّيْءِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ لاَ بِغَيْرِهِ: لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: ذُكِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ.
وَلاَ يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْعِلْمِ، أَوِ الْمُعَايَنَةِ، إِلاَّ فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ، كَالنِّكَاحِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَوْتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُعَايَنَةُ.
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا رَآهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَ مِنْهُ، لأَِنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَالْخَتْمَ يُشْبِهُ الْخَتْمَ، كَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّزْوِيرُ، فَلاَ مُعَوَّلَ إِلاَّ عَلَى التَّذَكُّرِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَاضِي يَجِدُ فِي دِيوَانِهِ شَيْئًا لاَ يَحْفَظُهُ، كَإِقْرَارِ رَجُلٍ أَوْ شَهَادَةِ شُهُودٍ، أَوْ صُدُورِ حُكْمٍ مِنْهُ وَقَدْ خُتِمَ بِخَتْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي بِذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِهِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ لِلتَّحَمُّلِ: الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالإِْسْلاَمُ، وَالْعَدَالَةُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ وَقْتَ التَّحَمُّلِ صَبِيًّا عَاقِلاً، أَوْ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ فَاسِقًا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْفَاسِقُ، فَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ.
وَأَمَّا شُرُوطُ الأَْدَاءِ: فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّاهِدِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّهَادَةِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى النِّصَابِ (أَيْ عَدَدِ الشُّهُودِ).
أَوَّلاً: مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّاهِدِ:
أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ أَهْلاً لِلشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ بِتَوَفُّرِ شُرُوطِهَا فِيهِ. وَمِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ:
(1) - الْبُلُوغُ:
فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْطْفَالِ وَالصِّبْيَانِ لقوله تعالي وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ).
وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنَ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ - صلي الله عليه وسلم -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ»( ). وَلأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِ، فَلأََنْ لاَ يُؤْمَنَ عَلَى حِفْظِ حُقُوقِ غَيْرِهِ أَوْلَى( ).
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنْ يَتَّفِقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَأَنْ لاَ يَدْخُلَ بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ، وَاخْتُلِفَ فِي إِنَاثِهِمْ.
(2) - الْعَقْلُ:
فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ غَيْرِ الْعَاقِلِ إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ لاَ يَعْقِلُ مَا يَقُولُهُ وَلاَ يَصِفُهُ.
وَسَوَاءٌ أَذَهَبَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُحَصِّلٍ وَلاَ تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ: «وَلأَِنَّهُ لاَ يَأْثَمُ بِكَذِبِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يُتَحَرَّزُ مِنْهُ.
(3) - الْحُرِّيَّةُ:
فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ فِيهِ رِقٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، كَسَائِرِ الْوِلاَيَاتِ، إِذْ فِي، الشَّهَادَاتِ نُفُوذُ قَوْلٍ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ نَوْعُ وِلاَيَةٍ؛ وَلأَِنَّ مَنْ فِيهِ رِقٌّ مُشْتَغِلٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ فَلاَ يَتَفَرَّغُ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
(وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: رِقٌّ ج 23 ص 81).
(4) - الْبَصَرُ:
فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْعْمَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْعْمَى فِي الأَْفْعَالِ؛ لأَِنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِهَا الْبَصَرُ، وَكَذَا فِي الأَْقْوَالِ إِلاَّ فِيمَا يَثْبُتُ بِالاِسْتِفَاضَةِ؛ لأَِنَّهَا مُسْتَنَدُهَا السَّمَاعُ وَلَيْسَ الرُّؤْيَةَ، وَإِلاَّ فِي التَّرْجَمَةِ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي لأَِنَّهُ يُفَسِّرُ مَا سَمِعَهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي الأَْقْوَالِ دُونَ الأَْفْعَالِ فِيمَا لاَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنَ الأَْقْوَالِ إِذَا كَانَ فَطِنًا، وَلاَ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الأَْصْوَاتُ، وَتَيَقَّنَ الْمَشْهُودَ لَهُ، وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَْعْمَى إِذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ لأَِنَّهُ رَجُلٌ عَدْلٌ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَالْبَصِيرِ؛ وَلأَِنَّ السَّمْعَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْيَقِينُ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَنْ أَلِفَهُ الأَْعْمَى، وَكَثُرَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ، وَعَرَفَ صَوْتَهُ يَقِينًا، فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، فِيمَا تَيَقَّنَهُ كَالْبَصِيرِ، وَلاَ سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ حُصُولِ الْيَقِينِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَالِ.
وَذَهَبَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إِلَى السَّمَاعِ، وَلاَ خَلَلَ فِيهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْعْمَى لَوْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً تَحْتَاجُ إِلَى الْبَصَرِ، وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ فَإِنْ تَحَمَّلَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِالاِسْمِ وَالنَّسَبِ يُقِرُّ لِرَجُلٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ بَعْدَمَا عَمِيَ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَيَقَّنَ صَوْتَهُ لِكَثْرَةِ إِلْفِهِ لَهُ صَحَّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، جَازَ الْحُكْمُ بِهَا عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلاَ يُمْنَعُ الْحُكْمُ بِهَا، كَمَا لَوْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ قَبُولِ
شَهَادَتِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ؛ لأَِنَّ قِيَامَ الأَْهْلِيَّةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِتَصِيرَ حُجَّةً.
(5) - الإِْسْلاَمُ:
الأَْصْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُسْلِمًا فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى مُسْلِمٍ أَمْ عَلَى غَيْرِ مُسْلِمٍ، لقوله تعالي وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ). . وَقَوْلُهُ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) . وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلَيْسَ مِنَّا وَلأَِنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ الْكَذِبُ عَلَى خَلْقِهِ.
وَعَلَى هَذَا الأَْصْلِ جَرَى مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ.
لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الأَْصْلِ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَجَازُوهَا عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ)
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ شَهَادَةَ الذِّمِّيِّينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَشَهَادَةَ الْحَرْبِيِّينَ عَلَى أَمْثَالِهِمْ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا.
(6) - النُّطْقُ:
فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْخْرَسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى صِحَّةِ شَهَادَتِهِ إِذَا عُرِفَتْ إِشَارَتُهُ وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ قَبُولَ شَهَادَةِ الأَْخْرَسِ إِذَا أَدَّاهَا بِخَطِّهِ.
(7) - الْعَدَالَةُ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ لقوله تعالي وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).. وَلِهَذَا لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ.
وَالْعَدَالَةُ عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِالْمُحَافَظَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ وَأَدَاءِ الأَْمَانَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَأَنْ يَكُونَ صَلاَحُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ وَهِيَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَبُولِ.
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِالصَّلاَحِ فِي الدِّينِ وَهُوَ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِرَوَاتِبِهَا، وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ الإِْصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا أَيْضًا اسْتِعْمَالُ الْمُرُوءَةِ بِفِعْلِ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكِ مَا يُدَلِّسُهُ وَيَشِينُهُ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُرُوءَةَ شَرْطًا مُسْتَقِلًّا. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَدَالَةٌ)
وَالْعَدَالَةُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَبُولِ عَلَى الْقَاضِي لاَ جَوَازِهِ. فَإِذَا تَوَفَّرَتْ فِي الشَّاهِدِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِشَهَادَتِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الأَْغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ وَالأَْظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةُ وَالْمُرُوءَةُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الأَْغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ وَالأَْظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الْمَعْصِيَةَ وَخِلاَفَ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ.
(8) - التَّيَقُّظُ: أَوِ الضَّبْطُ:
لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُغَفَّلٍ لاَ يَضْبِطُ أَصْلاً أَوْ غَالِبًا لِعَدَمِ التَّوَثُّقِ بِقَوْلِهِ، أَمَّا مَنْ لاَ يَضْبِطُ نَادِرًا وَالأَْغْلَبُ فِيهِ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ فَتُقْبَلُ قَطْعًا؛ لأَِنَّ أَحَدًا لاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ.
(9) - أَلاَّ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ:
وَذَلِكَ لقوله تعالي وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
فَإِنْ تَابَ وَأَصْلَحَ:
فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ لقوله تعالي بَعْدَ الآْيَةِ السَّابِقَةِ مُبَاشَرَةً: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَلَوْ تَابَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِيمَا حُدَّ فِيهِ وَتُقْبَلُ فِيمَا عَدَاهُ إِنْ تَابَ.
وَمَنَاطُ الْخِلاَفِ فِي هَذِهِ الآْيَةِ فِي وُرُودِ الاِسْتِثْنَاءِ بَعْدَ مَذْكُورِينَ أَيَشْمَلُهُمْ كُلَّهُمْ أَمْ يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إِلَى الأَْخِيرِ وَهُوَ هُنَا التَّوْبَةُ مِنَ الْفِسْقِ فَقَطْ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِ عُمَرَ – رضي الله عنه - لِمَنْ جَلَدَهُ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِقَوْلِهِ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ.
وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ.
(10) - الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ:
يُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ
لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: «مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنْ لاَ شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ».
(11) - عَدَمُ التُّهْمَةِ:
لِلتُّهْمَةِ أَسْبَابٌ مِنْهَا:
أ - أَنْ يَجُرَّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ ضُرًّا، فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ بِجُرْحٍ قَبْلَ انْدِمَالِهِ، وَلاَ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالأَْدَاءِ، وَلاَ الإِْبْرَاءِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيَّةُ. ب - الْبَعْضِيَّةُ: فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ، وَلاَ فَرْعٍ لأَِصْلِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ.
ح - الْعَدَاوَةُ: فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ هُنَا، الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لاَ الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ، وَالسُّنِّيُّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ، وَكَذَا مَنْ
أَبْغَضَ الْفَاسِقَ لِفِسْقِهِ لاَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ أَنْ تَبْلُغَ حَدًّا يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ وَيَفْرَحُ لِمُصِيبَتِهِ، وَيَحْزَنُ لِمَسَرَّتِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَيُخَصُّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى الآْخَرِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ إِذْ لاَ تُهْمَةَ.
د - أَنْ يَدْفَعَ بِالشَّهَادَةِ عَنْ نَفْسِهِ عَارَ الْكَذِبِ، فَإِنْ شَهِدَ فَاسِقٌ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ ثُمَّ تَابَ بِشُرُوطِ التَّوْبَةِ فَشَهَادَتُهُ الْمُسْتَأْنَفَةُ مَقْبُولَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ أَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ الَّتِي رُدَّتْ لَمْ تُقْبَلْ.
هـ - الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمُبَادَرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ.
و - الْعَصَبِيَّةُ، فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ عُرِفَ بِهَا وَبِالإِْفْرَاطِ فِي الْحَمِيَّةِ كَتَعَصُّبِ قَبِيلَةٍ عَلَى قَبِيلَةٍ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ الْعَدَاوَةِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.
وَاسْتَدَلُّوا لاِشْتِرَاطِ عَدَمِ التُّهْمَةِ( ) بِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم «لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ وَلاَذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأَِهْلِ الْبَيْتِ.
ثَانِيًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى الشَّهَادَةِ نَفْسِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:
اشْتِرَاطُ وُجُودِ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنَ الْمُدَّعِي أَوْ نَائِبِهِ. أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا وُجُودُ الدَّعْوَى عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
(2) - مُوَافَقَتُهَا لِلدَّعْوَى (كَمَا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ).
(3) - الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ.
(4) - اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ (كَمَا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ).
(5) - تَعَذُّرُ حُضُورِ الأَْصْلِ (وَهَذَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ) كَمَا سَيَأْتِي.
(6) - أَنْ تُؤَدَّى بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. بِأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِكَذَا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَكْفِي مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ عِلْمِ الشَّاهِدِ كَأَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ كَذَا أَوْ سَمِعْتُ كَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ.
ثَالِثًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ:
أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِمَجْهُولٍ فَلاَ تُقْبَلُ. وَذَلِكَ لأَِنَّ شَرْطَ صِحَّةِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا.
(2) - كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ مَالاً أَوْ مَنْفَعَةً فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا شَرْعًا.
رَابِعًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى نِصَابِ الشَّهَادَةِ:
يَخْتَلِفُ عَدَدُ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَاتِ بِحَسَبِ الْمَوْضُوعِ الْمَشْهُودِ بِهِ:
أ - مِنَ الشَّهَادَاتِ مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لاَ امْرَأَةَ بَيْنَهُمْ وَذَلِكَ فِي الزِّنَا، لقوله تعالي (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ). الآْيَةَ.
وقوله تعالي ( لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ). الآْيَةَ.
وقوله تعالي وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
ب - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى مَنْ عُرِفَ بِغِنًى أَنَّهُ فَقِيرٌ لأَِخْذِ زَكَاةٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ ثَلاَثَةِ رِجَالٍ، يَشْهَدُونَ لَهُ.
لِحَدِيثِ قَبِيصَةَ «حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ.
ج - وَمِنْهَا مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ لاَ امْرَأَةَ فِيهِمَا، وَهُوَ مَا سِوَى الزِّنَى مِنَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَحَدِّ الْحِرَابَةِ، وَالْجَلْدِ فِي الْخَمْرِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا، مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ يُقْصَدُ مِنْهُ مَالٌ: كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالإِْيلاَءِ، وَالظِّهَارِ، وَالنَّسَبِ، وَالإِْسْلاَمِ،
وَالرِّدَّةِ، وَالْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيلِ، وَالْمَوْتِ وَالإِْعْسَارِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لاَ امْرَأَةَ فِيهِمَا.
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ فِي الطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ.
فَأَمَّا الطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَقَوْلُهُ: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ).
وَأَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ فِي النِّكَاحِ: «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّهُ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَلاَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ.
وَقِيسَ عَلَيْهَا مَا شَارَكَهَا فِي الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ.
د - وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ هُوَ مَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَقُّ مَالاً أَمْ غَيْرَ مَالٍ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوِصَايَةِ.
وَدَلِيلُهُ قوله تعالي وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).. وَقَصَرَ الْجُمْهُورُ قَبُولَ شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مَالٌ أَوْ بِمَعْنَى الْمَالِ، كَالْبَيْعِ، وَالإِْقَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالضَّمَانِ، وَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، كَالْخِيَارِ، وَالأَْجَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَجَازُوا فِيهِ أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي.
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ «أَنَّهُ صلي الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ.
وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَفِيَّةُ الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لأَِنَّ الآْثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا الشَّأْنِ لاَ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ.
هـ - وَمِنْهَا مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَهُوَ الْوِلاَدَةُ وَالاِسْتِهْلاَلُ وَالرَّضَاعُ، وَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ الأَْجَانِبُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمَسْتُورَةِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الأُْمُورُ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّلُ: ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي الْوِلاَدَةِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا، وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ غَيْرِ الْقَابِلَةِ إِلاَّ مَعَ غَيْرِهَا.
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ عَدْلَةٍ قَابِلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، إِلاَّ وِلاَدَةَ الْمُطَلَّقَةِ فَلاَ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الْوَاحِدَة اسْتِدْلاَلاً بِمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ – رضي الله عنه - «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ – رضي الله تعالي - أَنَّهُمَا أَجَازَا شَهَادَتَهَا.
الثَّالِثُ: ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ وَلاَ يُشْتَرَطُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُنَّ لَمَّا قُمْنَ فِي انْفِرَادِهِنَّ مَقَامَ الرِّجَالِ، وَجَبَ أَنْ يَقُمْنَ فِي الْعَدَدِ مَقَامَ الرِّجَالِ، وَأَكْثَرُ عَدَدِ الرِّجَالِ اثْنَانِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ عَدَدِ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ.
الرَّابِعُ: هُوَ مَا حُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ تُقْبَلُ ثَلاَثُ نِسْوَةٍ، وَلاَ يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْهُنَّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ. وَاسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ ضَمَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ إِلَى الرَّجُلِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لاَ يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَبْدَلَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَيَصِرْنَ ثَلاَثًا.
الْخَامِسُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَطَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ أَجَازَ الشَّهَادَةَ انْتَهَى بِأَقَلِّهَا إِلَى شَاهِدَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَأَقَامَ الثِّنْتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ، حَيْثُ أَجَازَهُمَا فَإِذَا أَجَازَ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا يَغِيبُ عَنِ الرِّجَالِ لَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُجِيزُوهَا إِلاَّ عَلَى أَصْلِ حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الشَّهَادَاتِ، فَيَجْعَلُونَ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ، وَإِذَا فَعَلُوا لَمْ يَجُزْ إِلاَّ أَرْبَعٌ، وَهَكَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ ذِكْرُهُ - وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
و - وَمِنْهَا مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ بِمُفْرَدِهِ فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ هِلاَلِ رَمَضَانَ اسْتِدْلاَلاً بِحَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما - قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَلَ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم .
أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ.
وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما - أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَلَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ وَأَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلاَلُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطَّبِيبِ الْوَاحِدِ فِي الشِّجَاجِ، وَالْبَيْطَارِ فِي عُيُوبِ الدَّوَابِّ.
وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا كَانَ بِتَكْلِيفٍ مِنَ الإِْمَامِ.
وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ.
حُكْمُ الإِْشْهَادِ:
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الإِْشْهَادِ عَلَى الْعُقُودِ بَيْنَ عُقُودِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَاجِبٌ وَشَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، لِقَوْلِهِ «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذَا تَمَّ الإِْعْلاَنُ.
أَمَّا عُقُودُ الْبُيُوعِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ وَاجِبٌ.
قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ وَإِذَا اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ أَوْ ثُلُثِ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، إِلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِي لقوله تعالي (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) لِلنَّدْبِ وَلَيْسَ لِلْوُجُوبِ، لِوُرُودِ الآْيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ.
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ بَاعَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم جَمَلَهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
فَدَلَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ.
وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم وَأَشْهَدَ، وَبَاعَ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى وَاشْتَرَى، وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، وَلَمْ يُشْهِدْ.
وَلَوْ كَانَ الإِْشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (وَالْوُجُوبُ فِي ذَلِكَ قَلِقٌ، أَمَّا فِي الدَّقَائِقِ فَصَعْبٌ شَاقٌّ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ التَّاجِرُ الاِسْتِئْلاَفَ بِتَرْكِ الإِْشْهَادِ، وَقَدْ يَكُونُ عَادَةً فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ، وَقَدْ يُسْتَحَى مِنَ الْعَالِمِ وَالرَّجُلِ الْكَبِيرِ الْمُوَقَّرِ فَلاَ يُشْهِدُ عَلَيْهِ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الاِئْتِمَانِ، وَيَبْقَى الأَْمْرُ بِالإِْشْهَادِ نَدْبًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الأَْغْلَبِ مَا لَمْ يَقَعْ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْهُ).
مُسْتَنَدُ عِلْمِ الشَّاهِدِ:
الأَْصْلُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ، لقوله تعالي (إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وقوله تعالي حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ(وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا).
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ بِالْعِلْمِ، وَلاَ تَصِحُّ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ.
وَيُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما - قَالَ: «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ
عَبَّاسٍ لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا أَقْوَى أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ وَالْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ.
لَكِنَّ الأُْمُورَ الْمَشْهُودَ بِهَا قَدْ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا:
فَمِنْهَا مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعَايِنَهُ الشَّاهِدُ كَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالرَّضَاعِ، وَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ هَذِهِ الأُْمُورَ إِلاَّ بِالْمُعَايَنَةِ بِبَصَرِهِ.
فَمِنْهَا أُمُورٌ لاَ يَصِحُّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا إِلاَّ بِالسَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي عُقُودِ النِّكَاحِ، وَالْبُيُوعِ، وَالإِْجَارَاتِ، وَالطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ الأَْصْوَاتَ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَيَكْتَفِي الْحَنَابِلَةُ فِيهَا بِالسَّمَاعِ إِذَا عَرَفَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَقِينًا وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ كَلاَمُهُمَا.
وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ عِلْمُهُ بِهَا عَنْ طَرِيقِ سَمَاعِ الأَْخْبَارِ الشَّائِعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُسْتَفِيضَةِ، كَالنَّسَبِ، وَالْمِلْكِ، وَالْمَوْتِ، وَالْوَقْفِ.
فَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا مُعْتَمِدًا عَلَى التَّسَامُعِ.
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ الشَّهَادَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ لأَِنَّ إِقَامَتَهَا فَرْضٌ، قَالَ تَعَالَى (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ).
أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ أَدَاؤُهَا يَسْتَدْعِي تَرْكَ عَمَلِهِ وَتَحَمُّلَ الْمَشَقَّةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا، لَكِنْ لَهُ أُجْرَةُ الرُّكُوبِ إِلَى مَوْضِعِ الأَْدَاءِ. قَالَ تَعَالَى( وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى: الْجَوَازِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ إِنْفَاقَ الإِْنْسَانِ عَلَى عِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَالشَّهَادَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلاَ يُشْتَغَلُ عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا أَخَذَ الرِّزْقَ جَمَعَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ. وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ عَلَى كَتْبِ الْوَثِيقَةِ.
الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ:
قَدْ لاَ يَسْتَطِيعُ الشَّاهِدُ الْمَقْبُولُ الشَّهَادَةِ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ بِنَفْسِهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ، لِسَفَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ، فَيُشْهِدُ عَلَى شَهَادَتِهِ شَاهِدَيْنِ تَتَوَفَّرُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُؤَهِّلُهُمَا لِلشَّهَادَةِ، وَيَطْلَبُ مِنْهُمَا تَحَمُّلَهَا وَالإِْدْلاَءَ بِهَا أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيَقُومُ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ مَقَامَهُ، فِي نَقْلِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِلَفْظِهَا الْمَخْصُوصِ فِي التَّحَمُّلِ وَالأَْدَاءِ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ فَلاَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الأَْصْلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ دَوَامَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الأَْصْلِ إِلَى حِينِ صُدُورِ الْحُكْمِ، فَمَتَى أَمْكَنَتْ شَهَادَةُ الأُْصُولِ قَبْلَ الْحُكْمِ وُقِفَ الْحُكْمُ عَلَى سَمَاعِهَا، وَلَوْ بَعْدَ سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ؛ لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى الأَْصْلِ فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْبَدَلِ.
وَمِمَّا يُجِيزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ أَنْ يَخَافَ الْمَوْتَ فَيَضِيعَ الْحَقُّ.
هَذَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ مُتَبَايِنَةً فِيمَا يَجُوزُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَمَا لاَ يَجُوزُ.
فَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي سَائِرِ الأُْمُورِ مَالاً أَوْ عُقُوبَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا: جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لاَ يَسْقُطُ بِشُبْهَةٍ، فَلاَ تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَإِنَّمَا قُلْنَا بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَلَيْسَتْ حَقًّا
لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَالنِّيَابَةُ لاَ تُجْزِئُ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَيْهَا، إِذْ شَاهِدُ الأَْصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، فَلَوْ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، وَصَارَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: جَوَازِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَإِلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِعُمُومِ قوله تعالي( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الأَْصْلَ قَدْ يَتَعَذَّرُ؛ وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ لاَزِمٌ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلأَِنَّهَا طَرِيقٌ يُظْهِرُ الْحَقَّ كَالإِْقْرَارِ فَيُشْهِدُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهَا إِنَّمَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِ عُقُوبَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرِ إِحْصَانٍ، كَالأَْقَارِيرِ، وَالْعُقُودِ، وَالنُّسُوخِ، وَالرَّضَاعِ، وَالْوِلاَدَةِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَقُّ الآْدَمِيِّ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ، وَتُقْبَلُ فِي إِثْبَاتِ عُقُوبَةِ الآْدَمِيِّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ. أَمَّا الْعُقُوبَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلاَ تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الأَْظْهَرِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِثْبَاتُ قَوْلٍ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ. خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي فِي الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ – رضي الله عنهما .لاَ يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إِلاَّ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِكُلٍّ مِنَ الأَْصْلَيْنِ اثْنَانِ؛ لأَِنَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى وَاحِدٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ شَهَادَتِهِ، فَلاَ تَقُومُ مَقَامَ شَهَادَةِ غَيْرِهِ.
وَلاَ يَصِحُّ تَحَمُّلُ شَهَادَةِ مَرْدُودِ الشَّهَادَةِ؛ لِسُقُوطِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَصِحُّ تَحَمُّلُ النِّسْوَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ تُثْبِتُ الأَْصْلَ لاَ مَا شَهِدَ بِهِ؛ وَلأَِنَّ التَّحَمُّلَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، وَهُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَمْ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَالنِّكَاحِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِنَّ، فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ، إِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشْهَبُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مُطْلَقًا، وَأَجَازَ أَصْبَغُ نَقْلَ امْرَأَتَيْنِ عَنِ امْرَأَتَيْنِ فِيمَا يَنْفَرِدْنَ بِهِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَلاَ تُجْزِئُ فِيهِ النِّسَاءُ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَلَوْ كُنَّ أَلْفًا، إِلاَّ مَعَ رَجُلٍ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى صِحَّةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، حَيْثُ يُقْبَلْنَ فِي أَصْلٍ وَفَرْعٍ، وَفَرْعِ فَرْعٍ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ مَا يَشْهَدُ بِهِ الأُْصُولُ فَدَخَلَ فِيهِ النِّسَاءُ، فَيُقْبَلُ رَجُلاَنِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُقْبَلُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى مِثْلِهِمْ أَوْ رَجُلَيْنِ أَصْلَيْنِ أَوْ فَرْعَيْنِ فِي الْمَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، وَتُقْبَلُ امْرَأَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ الْمَرْأَةُ.
وَإِذَا فَسَقَ الشَّاهِدُ الأَْصِيلُ أَوِ ارْتَدَّ، أَوْ نَشَأَتْ عِنْدَهُ عَدَاوَةٌ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ امْتَنَعَ الْقَاضِي مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ؛ لِسُقُوطِ شَهَادَةِ الأَْصْلِ وَلَوْ حَدَثَ الْفِسْقُ أَوِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ.
الاِسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالاِسْتِرْعَاءُ هُوَ: طَلَبُ الْحِفْظِ، أَيْ: بِأَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الأَْصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَاحْفَظْهَا، فَلِلْفَرْعِ وَلِمَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَخُصَّهُ بِالاِسْتِرْعَاءِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا سَمِعَ شَاهِدُ الْفَرْعِ الأَْصْلَ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ الأَْصْلِ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَيْضًا مَا إِذَا سَمِعَ الْفَرْعُ الأَْصْلَ يَذْكُرُ سَبَبَ الْحَقِّ بِأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ كَقَرْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ؛ لأَِنَّ مَنْ سَمِعَ إِقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ.
وَيُؤَدِّي شَاهِدُ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَحَمَّلَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ، فَإِنْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ بِحَقٍّ مُضَافٍ إِلَى سَبَبٍ يُوجِبُ الْحَقَّ ذَكَرَهُ، وَإِنْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ذَكَرَهُ، وَإِنْ أَشْهَدَهُ شَاهِدُ الأَْصْلِ عَلَى شَهَادَتِهِ أَوِ اسْتَرْعَاهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلاَنًا يَشْهَدُ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَهَكَذَا.
وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُومَ شَاهِدُ الْفَرْعِ بِتَعْدِيلِ شَاهِدِ الأَْصْلِ، وَيَقُومُ الْقَاضِي بِالْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ، فَإِنْ عَدَّلَهُ الْفَرْعُ وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّعْدِيلِ جَازَ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَا لَمْ يُعَدِّلْ شَاهِدَ الأَْصْلِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُ لَمْ يَنْقُلِ الشَّهَادَةَ عَنْهُ.
وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الأَْصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ؛ لأَِنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ، لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ.
أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الاِسْتِرْعَاءِ عَلَى بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الإِْنْسَانُ اضْطِرَارًا، كَالطَّلاَقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ، وَالتَّزْوِيجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَرْعَى كِتَابًا سِرًّا؛ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا التَّصَرُّفَ لأَِمْرٍ يَتَخَوَّفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيمَا عَقَدَ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا يَتَخَوَّفُهُ وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ شُهُودُ الاِسْتِرْعَاءِ. وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ أَمْثِلَةً لِمَا يَقُولُهُ الْمُسْتَرْعِي، فِي وَثِيقَةِ الاِسْتِرْعَاءِ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ الاِسْتِرْعَاءِ. فَقَالَ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْعَطَّارِ: يُصَدَّقُ الْمُسْتَرْعَى فِي الْحَبْسِ (يَعْنِي الْوَقْفَ) فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا وَيَكْتُبُ فِي ذَلِكَ: أَشْهَدَ فُلاَنٌ شُهُودَ هَذَا الْكِتَابِ بِشَهَادَةِ اسْتِرْعَاءٍ، وَاسْتِخْفَاءٍ لِلشَّهَادَةِ: أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ فِي دَارِهِ بِمَوْضِعِ كَذَا تَحْبِيسًا عَلَى بَنِيهِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لأَِمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى مَالِهِ الْمَذْكُورِ، وَلِيُمْسِكَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرْجِعَ فِيمَا عَقَدَ فِيهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا تَخَوَّفَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَا عَقَدَهُ فِيهِ وَجْهَ الْقُرْبَةِ، وَلاَ وَجْهَ الْحَبْسِ بَلْ لِمَا يَخْشَاهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِمَا يَعْقِدُهُ فِيهِ مِنَ التَّحْبِيسِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي تَارِيخِ كَذَا وَكَذَا.
وَمِمَّا ذَكَرُوهُ أَيْضًا أَنَّهُ إِذَا خَطَبَ مَنْ هُوَ قَاهِرٌ لِشَخْصٍ بَعْضَ بَنَاتِهِ فَأَنْكَحَهُ الْمَخْطُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ شُهُودَ الاِسْتِرْعَاءِ سِرًّا: أَنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُخَافُ عَدَاوَتُهُ.
وَأَنَّهُ إِنْ شَاءَ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ لِغَيْرِ نِكَاحٍ فَأَنْكَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا.
وَإِذَا بَنَى ظَالِمٌ أَوْ مَنْ يُخَافُ شَرُّهُ غُرْفَةً مُحْدَثَةً بِإِزَاءِ دَارِ رَجُلٍ وَفَتَحَ بَابًا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي دَارِهِ عَلَى وَجْهِ الاِسْتِطَالَةِ لِقُدْرَتِهِ، وَجَاهِهِ، فَيُشْهِدُ الرَّجُلُ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهُ لِخَوْفِهِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَضُرَّهُ أَوْ يُؤْذِيَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ مَتَى أَمْكَنَهُ، وَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ لِمَعْرِفَتِهِمْ وَأَنَّ الْمُحْدِثَ لِذَلِكَ مِمَّنْ يُتَّقَى شَرُّهُ، وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَتَى قَامَ بِطَلَبِ حَقِّهِ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: مَنْ لَهُ دَارٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فَبَاعَ أَخُوهُ جَمِيعَهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيهَا وَلَهُ سُلْطَانٌ، وَقُدْرَةٌ، وَخَافَ ضَرَرَهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَاسْتَرْعَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنِ الْكَلاَمِ فِي نَصِيبِهِ وَفِي الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ تَحَامُلِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، وَإِضْرَارِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ. فَإِذَا ذَهَبَتِ التَّقِيَّةُ، وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ بِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ أَثْبَتَهَا، وَأَثْبَتَ الْمِلْكَ، وَالاِشْتِرَاكَ، وَأَعْذَرَ إِلَى أَخِيهِ وَإِلَى الْمُشْتَرِي، قُضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ وَبِالشُّفْعَةِ
مَا يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِيهِ:
قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّطَوُّعِ: كَالطَّلاَقِ، وَالتَّحْبِيسِ وَالْهِبَةِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ السَّبَبُ إِلاَّ بِقَوْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ أَنِّي إِنْ طَلَّقْتُ فَإِنِّي أُطَلِّقُ خَوْفًا مِنْ أَمْرٍ أَتَوَقَّعُهُ مِنْ جِهَةِ كَذَا، أَوْ حَلَفَ بِالطَّلاَقِ وَكَانَ أَشْهَدَ أَنِّي إِنْ حَلَفْتُ بِالطَّلاَقِ فَإِنَّمَا هُوَ لأَِجْلِ إِكْرَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ وَالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ. وَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي الْبُيُوعِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ وَأَنَّ بَيْعَهُ لأَِمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ؛ لأَِنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلاَفُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ. وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا، وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ إِلاَّ أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ الإِْكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الإِْخَافَةَ فَيَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ إِذَا انْعَقَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ وَتَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ الإِْخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ.
الاِخْتِلاَفُ فِي الشَّهَادَةِ:
الشَّهَادَةُ إِذَا وَافَقَتِ الدَّعْوَى قُبِلَتْ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ؛ لأَِنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا.
وَيَنْبَغِي اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِتَكْمُلَ الشَّهَادَةُ.
فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا، وَشَهِدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا: فَلاَ تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ.
وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِلَى أَنَّ الاِتِّفَاقَ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ.
فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالآْخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ، لأَِنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلاَفِ الْمَعْنَى لأَِنَّهُ يُسْتَفَادُ بِاللَّفْظِ، وَهَذَا لأَِنَّ الأَْلْفَ لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الأَْلْفَيْنِ، بَلْ هُمَا جُمْلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَحَصَلَ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَصَارَ كَمَا إِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالِ.
وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الأَْلْفِ إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الأَْلْفَيْنِ.
وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الأَْلْفِ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَصَارَ كَالأَْلْفِ وَالأَْلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ.
أَمَّا إِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالآْخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ: قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الأَْلْفِ عِنْدَ الْجَمِيعِ حَتَّى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاِتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى؛ لأَِنَّ الأَْلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الأَْوَّلَ.
وَمَتَى كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ فَاخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي زَمَنِهِ، أَوْ مَكَانِهِ، أَوْ صِفَةٍ لَهُ تَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْفِعْلَيْنِ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا.
مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ بِدِمَشْقَ، وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ بِمِصْرَ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا أَبْيَضَ وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا أَسْوَدَ: فَلاَ تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ؛ لأَِنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ شَاهِدَانِ.
تَعَارُضُ الشَّهَادَاتِ:
قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ مُدَّعِيًا وَيُقِيمُ عَلَى دَعْوَاهُ بَيِّنَةً (شَهَادَةً) كَامِلَةً، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ أَوْ فِي مِلْكٍ مُقَيَّدٍ بِذِكْرِ سَبَبِ التَّمَلُّكِ.
فَإِنْ كَانَتَا فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ، لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَبَبُ التَّمَلُّكِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الدَّعْوَى تَارِيخًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا أَوْ فِي يَدِهِمَا مَعًا.
أ - فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا: فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَلأَِنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو الْيَدِ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَجَعَلَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْخَارِجُ، فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَتُرَدُّ بَيِّنَةُ الْيَدِ؛ وَلأَِنَّهَا أَكْثَرُ إِثْبَاتًا، لأَِنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْخَارِجِ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لاَ تُثْبِتُهُ، لأَِنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ بِالْيَدِ، وَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ إِثْبَاتًا كَانَتْ أَقْوَى.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَرْجِيحِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ؛ لأَِنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ، فَتَبْقَى الْيَدُ دَلِيلاً عَلَى الْمِلْكِ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ نَتْجُهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ.
ب - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ: إِنْ: لَمْ يُؤَرِّخَا وَقْتًا: قُضِيَ بِالشَّيْءِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ، وَكَذَا إِذَا أَرَّخَا وَقْتًا بِعَيْنِهِ. وَإِذَا أُرِّخَتْ إِحْدَاهُمَا تَارِيخًا أَسْبَقَ مِنَ الثَّانِيَةِ: فَالأَْسْبَقُ أَوْلَى، لأَِنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ خَارِجَيْنِ، لِوُجُودِهَا عِنْدَ غَيْرِهِمَا، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِمَا وَصْفُ (الْمُدَّعِي) فَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُمَا، وَيُحْكَمُ لِلأَْسْبَقِ؛ لأَِنَّ الأَْسْبَقَ يُثْبِتُ الْمِلْكِيَّةَ فِي وَقْتٍ لاَ يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِنْ تَعَذَّرَ تَرْجِيحُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِوَجْهٍ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ، وَالْحَالُ؛ أَنَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا: سَقَطَتَا؛ لِتَعَارُضِهِمَا، وَبَقِيَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِيَدِ حَائِزِهِ. وَفِي ذَلِكَ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَيْنًا وَهِيَ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَهُوَ مُنْكِرٌ وَلَمْ يَنْسِبْهَا لأَِحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، وَكَانَتَا مُطَلَّقَتِي التَّارِيخِ أَوْ مُتَّفِقَتَيْهِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً وَالأُْخْرَى مُؤَرَّخَةً: سَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ، لِتَنَاقُضِ مُوجِبِيهِمَا وَلاَ مُرَجِّحَ، وَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَمِينًا.
وَفِي قَوْلٍ: تُسْتَعْمَلُ الْبَيِّنَتَانِ، وَتُنْزَعُ الْعَيْنُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ، وَعَلَى هَذَا تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ مُنَاصَفَةً فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُرَجَّحُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: تُوقَفُ حَتَّى يَبِينَ الأَْمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَنْكَرَ الثَّالِثُ دَعْوَى الْمُدَّعِيَيْنِ، فَقَالَ: لَيْسَتْ لَهُمَا وَلاَ لأَِحَدِهِمَا: أُقْرِعَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ: حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بَيِّنَةٌ: تَعَارَضَتَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي عَدَمِ الْيَدِ، فَتَسْقُطَانِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْعَمَلِ بِإِحْدَاهُمَا.
ج - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِمَا مَعًا:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ( ) إِلَى التَّفْصِيلِ:
فَإِنْ لَمْ تُؤَرَّخَا تَارِيخًا، وَكَذَا إِذَا أُرِّخَتَا تَارِيخًا مُعَيَّنًا وَكَانَ تَارِيخُهُمَا سَوَاءً: قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ الآْخَرِ؛ لأَِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا النِّصْفِ خَارِجٌ فَهُوَ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي.
وَإِنْ أُرِّخَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى: قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالتَّارِيخِ لِلاِحْتِمَالِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ لِصَاحِبِ التَّارِيخِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ فِي أَيْدِيهِمَا كَمَا كَانَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ تَسَاقُطُ الْبَيِّنَتَيْنِ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِهَا مِنَ الآْخَرِ، وَقِيلَ: تُجْعَلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ الْقِسْمَةِ، وَلاَ يَجِيءُ الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ، إِذْ لاَ مَعْنَى لَهُ، وَفِي الْقُرْعَةِ وَجْهَانِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ إِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَسَاوَتِ الْبَيِّنَتَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: تَعَارَضَتَا وَتَسَاقَطَتَا؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَنْفِي مَا تُثْبِتُهُ الأُْخْرَى، فَلاَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِمَا، وَلاَ بِإِحْدَاهُمَا فَتَتَسَاقَطَانِ، وَيَصِيرُ الْمُتَنَازِعَانِ كَمَنْ لاَ بَيِّنَةَ لَهُ، فَيَتَحَالَفَانِ، وَيَتَنَاصَفَانِ مَا بِأَيْدِيهِمَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى تَرْجِيحِ إِحْدَاهُمَا بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ فِي الْبَيِّنَةِ الأَْصْلِيَّةِ لاَ الْمُزَكِّيَةِ، وَفِي رَأْيِ بَعْضِهِمْ تُرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ إِذَا أَفَادَتِ الْكَثْرَةُ الْعِلْمَ، بِحَيْثُ تَكُونُ الْكَثْرَةُ جَمْعًا يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ.
وَإِنْ كَانَتَا فِي مِلْكٍ مُقَيَّدٍ بِسَبَبِهِ:
وَذَلِكَ بِأَنْ يُذْكَرَ الْمِلْكُ عَنْ طَرِيقِ الإِْرْثِ مَثَلاً أَوْ عَنْ طَرِيقِ الشِّرَاءِ أَوِ النِّتَاجِ.
فَفِي الإِْرْثِ يُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَسْبَقَ، فَيُقْضَى بِهِ لِلأَْسْبَقِ.
أَمَّا إِذَا كَانَا خَارِجَيْنِ، بِأَنْ كَانَ الشَّيْءُ عِنْدَ غَيْرِهِمَا: فَيُقْسَمُ الشَّيْءُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُقْضَى بِهِ لِلأَْسْبَقِ إِذَا ذَكَرَا تَارِيخًا.
وَفِي الشِّرَاءِ: إِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِهِ وَلاَ تَارِيخَ لَهُمَا، وَكَذَا إِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا سَوَاءٌ، تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا، وَيُتْرَكُ الشَّيْءُ لِلَّذِي فِي يَدِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ: فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ، وَإِذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ يُقْضَى لَهُمَا بِالشَّيْءِ نِصْفَيْنِ.
وَفِي النِّتَاجِ: بِأَنْ يَذْكُرَ أَنَّ هَذِهِ النَّاقَةَ نَتَجَتْ عِنْدَهُ، أَيْ: وَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى إِذَا لَمْ يُؤَرِّخَا، أَوْ أَرَّخَا وَقْتًا وَاحِدًا؛ لأَِنَّ النِّتَاجَ لاَ يَتَكَرَّرُ.
لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي نَاقَةٍ، فَقَالَ. كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نَتَجَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ عِنْدِي. وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ.
أَمَّا مَا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ، كَالْبِنَاءِ، وَالنَّسْجِ، وَالصُّنْعِ، وَالْغَرْسِ: فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى. أَمَّا إِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمَا الْمِلْكَ وَالآْخَرُ النِّتَاجَ: فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لأَِنَّهَا تُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ.
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مَا يَلِي:
أ - إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ الْمِلْكَ بِالاِسْتِقْلاَلِ وَادَّعَى الآْخَرُ الْمِلْكَ بِالاِشْتِرَاكِ فِي مَالٍ، وَالْحَالُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ أَيْ ذُو يَدٍ: فَبَيِّنَةُ الاِسْتِقْلاَلِ أَوْلَى.
ب - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ التَّمْلِيكِ عَلَى بَيِّنَةِ الْعَارِيَّةُ.
ج - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْبَيْعِ عَلَى بَيِّنَةِ الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالإِْجَارَةِ وَتُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الإِْجَارَةِ عَلَى بَيِّنَةِ الرَّهْنِ.
د - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ عَلَى بَيِّنَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ.
هـ - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْعَقْلِ عَلَى بَيِّنَةِ الْجُنُونِ أَوِ الْعَتَهِ.
و - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْحُدُوثِ عَلَى بَيِّنَةِ الْقِدَمِ.
كَثْرَةُ الْعَدَدِ وَقُوَّةُ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ:
إِذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ سِوَى كَثْرَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى بِأَنْ كَانَتِ الأُْولَى عَشَرَةَ شُهُودٍ وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ شَاهِدَيْنِ فَقَطْ، أَوْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَاهُمَا بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ بِأَنْ كَانَتْ أَظْهَرَ زُهْدًا وَأَوْفَرَ تَحَرُّجًا مِنَ الأُْخْرَى.
فَهَلْ تَتَرَجَّحُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى؟.
ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى تَرْجِيحِهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُغَلَّبُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَإِنَّمَا هُمَا سَوَاءٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ.
وَبِقَوْلِهِ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
فَمَنَعَ النَّصُّ مِنَ الاِجْتِهَادِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ وَلأَِنَّهُ لَمَّا جَازَ الاِقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ، وَعَلَى قَبُولِ الْعَدْلِ مَعَ مَنْ هُوَ أَعْدَلُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس والثلاثون ، الصفحة / 8
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ: هُوَ الْعِلْمُ بِمَا يُشْهَدُ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا كَانَ الشُّهُودُ جَمَاعَةً، فَلَوِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ عَنِ التَّحَمُّلِ أَثِمُوا جَمِيعًا، لأِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّاهِدُ وَاحِدًا فَيَتَعَيَّنُ التَّحَمُّلُ فِيهِ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، لأِنَّ التَّحَمُّلَ يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ وَيُخْشَى ضَيَاعُ الْحُقُوقِقَالَ تَعَالَى: (وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الآْيَةُ الأْمْرَيْنِ: التَّحَمُّلَ وَالأْدَاءَ.
وَأَمَّا أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْمُتَحَمِّلِ إِذَا طَلَبَهَا الْمُدَّعِي فَفَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا كَانَ الْمُتَحَمِّلُونَ جَمَاعَةً، فَإِذَا امْتَنَعُوا أَثِمُوا جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِوَإِذَا كَانَ الْمُتَحَمِّلُ وَاحِدًا تَعَيَّنَ الأْدَاءُ فِيهِ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَدَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ قال تعالى : (وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).
وَالتَّفْصِيلُ فِي (شَهَادَةٌ ف 5).
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري،قانون التقاضى والإثبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة: 99
(مادة 62) :
إذا كان للشاهد عذر يمنعه من الحضور جاز أن ينتقل إليه القاضي المنتدب لسماع أقواله ، فإذا كان التحقيق أمام المحكمة جاز لها أن تندب أحد قضاتها لذلك ، ويدعى الخصوم لحضور تأدية هذه الشهادة ، ويحرر محضر بها يوقعه القاضي المنتدب والكاتب .
( م (81) إثبات مصري ، و(190) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ، و(75) بینات سوري ، و(65) إثبات سوداني وفيها إضافة : «ويمنح من لم يحضر منهم (من الخصوم) فرصة مناقشة أقوال الشاهد. - للخصوم أن يقدموا إلى المحكمة مذكرات مكتوبة عن الوقائع التي يرغبون في سؤال الشاهد فيها ، إذا فوضت محكمة أخرى في سؤاله» .
ونص في المادة (183) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية : «للمشهود عليه أن يبين للقاضي ما يخل بشهادة الشاهد شرعاً ، وكذلك له أن يوجه إلى الشهود بواسطة رئيس الجلسة الأسئلة التي يرى لزوم سؤالهم عنها ، وعلى الرئيس أن يوجه تلك الأسئلة إلا إذا رأت المحكمة أنها غير مفيدة ، فتقرر رفضها مع تدوين ذلك كله بالمحضر ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الأول ، الصفحة / 235
الشَّهَادَةُ:
مِنْ مَعَانِي الشَّهَادَةِ فِي اللُّغَةِ الْبَيَانُ وَالإْظْهَارُ لِمَا يَعْلَمُهُ، وَأَنَّهَا خَبَرٌ قَاطِعٌ. وَشَرْعًا: إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ صِيَغُهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَبَعًا لِتَضَمُّنِهَا شُرُوطًا فِي قَبُولِهَا كَلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ.
حُكْمُهَا:
لِلشَّهَادَةِ حَالَتَانِ: حَالَةُ تَحَمُّلٍ، وَحَالَةُ أَدَاءٍ.
فَأَمَّا التَّحَمُّلُ، وَهُوَ أَنْ يُدْعَى الشَّخْصُ لِيَشْهَدَ وَيَحْفَظَ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. فَإِنْ تَعَيَّنَ بِحَيْثُ لاَ يُوجَدُ غَيْرُهُ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الأْدَاءُ، وَهُوَ أَنْ يُدْعَى الشَّخْصُ لِيَشْهَدَ بِمَا عَلِمَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لقوله تعالي وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وقوله تعالى وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ طُرُقِ الْقَضَاءِ، لقوله تعالى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ.
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأْمَّةُ عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ يُبْنَى عَلَيْهَا الْحُكْمُ.
مَدَى حُجِّيَّتِهَا:
الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، أَيْ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ غَيْرُ مُقْتَصِرَةٍ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ حُجَّةً بِنَفْسِهَا إِذْ لاَ تَكُونُ مُلْزِمَةً إِلاَّ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا الْقَضَاءُ. وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْطِنِهِ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني ، الصفحة / 340
أَدَاءُ الشَّهَادَةِ
حُكْمُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
أَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ. وَقَوْلِهِ: وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا فَإِذَا تَحَمَّلَهَا جَمَاعَةٌ وَقَامَ بِأَدَائِهَا مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ الأْدَاءُ عَنِ الْبَاقِينَ، لأِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا حِفْظُ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِبَعْضِهِمْ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْكُلُّ أَثِمُوا جَمِيعًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) وَلأِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ الأْدَاءُ عِنْدَ الطَّلَبِ.
وَقَدْ يَكُونُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضَ عَيْنٍ إِذَا كَانَ لاَ يُوجَدُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ، وَتَوَقَّفَ الْحَقُّ عَلَى شَهَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الأْدَاءُ؛ لأِنَّهُ لاَ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إِلاَّ بِهِ.
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَأَسْبَابِهَا أَيْ فِي مَحْضِ حَقِّ الآْدَمِيِّ، وَهُوَ مَا لَهُ إِسْقَاطُهُ كَالدَّيْنِ وَالْقِصَاصِ فَلاَ بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَشْهُودِ لَهُ لِوُجُوبِ الأْدَاءِ، فَإِذَا طُلِبَ وَجَبَ عَلَيْهِ الأْدَاءُ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَأْثَمُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَبْلَ طَلَبِ الْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم : «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ» وَلأِنَّ أَدَاءَهَا حَقٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، فَلاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ رَبُّ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ الشَّاهِدَ تَحَمَّلَهَا اسْتُحِبَّ لِمَنْ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ إِعْلاَمُ رَبِّ الشَّهَادَةِ بِهَا.
وَإِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيمَا سِوَى الْحُدُودِ، كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ فَيَلْزَمُهُ الأْدَاءُ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الأَْدَاءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ.
وَأَمَّا فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَالسَّتْرُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ» وَلأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَرْءِ الْحَدِّ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الأْوْلَى السَّتْرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْجَانِي مُتَهَتِّكًا، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ.
- وَإِذَا وَجَبَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى إِنْسَانٍ وَلَكِنَّهُ عَجَزَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، كَأَنْ دُعِيَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَوْ كَانَ سَيَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ الأْدَاءُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ . وَقَوْلِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم : «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ». وَلأِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَضُرَّ نَفْسَهُ لِنَفْعِ غَيْرِهِ.
كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لاَ يَجِبُ الأْدَاءُ إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ غَيْرَ عَدْلٍ، قَالَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ: كَيْفَ أَشْهَدُ عِنْدَ رَجُلٍ لَيْسَ عَدْلاً، لاَ أَشْهَدُ.
كَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
يُعْتَبَرُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي أَدَائِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِكَذَا وَنَحْوَهُ؛ لأِنَّ الشَّهَادَةَ مَصْدَرُ شَهِدَ يَشْهَدُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الإْتْيَانِ بِفِعْلِهَا الْمُشْتَقِّ مِنْهَا؛ وَلأِنَّ فِيهَا مَعْنًى لاَ يَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الأْلْفَاظِ، وَلَوْ قَالَ: أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ أَوْ أَعْرِفُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، إِلاَّ أَنَّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لأِدَاءِ الشَّهَادَةِ صِيغَةً مَخْصُوصَةً بَلْ قَالُوا: الْمَدَارُ فِيهَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ عِلْمِ الشَّاهِدِ بِمَا شَهِدَ بِهِ كَرَأَيْتُ كَذَا أَوْ سَمِعْتُ كَذَا وَهُوَ الأْظْهَرُ عِنْدَهُمْ. وَلِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا شُرُوطٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَةٌ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس ، الصفحة / 31
إِشْهَادٌ
التَّعْرِيفُ:
الإْشْهَادُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَشْهَدَ، وَأَشْهَدْتُهُ عَلَى كَذَا فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَيْ: صَارَ شَاهِدًا، وَأَشْهَدَنِي عَقْدَ زَوَاجِهِ: أَيْ أَحْضَرَنِي .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلإْشْهَادِ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَسَيَقْتَصِرُ الْبَحْثُ عَلَى الإْشْهَادِ بِالْمَعْنَى الأْوَّلِ وَهُوَ: طَلَبُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّهَادَةُ:
قَدْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ دُونَ سَبْقِ إِشْهَادٍ، تَحْصُلُ بِطَلَبٍ أَوْ دُونَهُ، وَالإْشْهَادُ هُوَ طَلَبُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ.
ب - الاِسْتِشْهَادُ:
الاِسْتِشْهَادُ يَأْتِي بِمَعْنَى الإْشْهَادِ، أَيْ طَلَبُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، كَمَا فِي قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَقَدْ يَأْتِي الاِسْتِشْهَادُ بِمَعْنَى طَلَبِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَمَا يَأْتِي الاِسْتِشْهَادُ بِمَعْنَى أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ج - الإْعْلاَنُ (وَالإْشْهَارُ)
قَدْ يَتَحَقَّقُ الإْعْلاَنُ دُونَ الإْشْهَادِ، كَمَا لَوْ أَعْلَنُوا النِّكَاحَ بِحَضْرَةِ صِبْيَانٍ، أَوْ أَمَامَ نِسَاءٍ. وَقَدْ يَتَحَقَّقُ الإْشْهَادُ دُونَ الإْعْلاَنِ، كَإِشْهَادِ رَجُلَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ وَاسْتِكْتَامِهِمَا.
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
الإْشْهَادُ تَعْتَرِيهِ الأْحْكَامُ الْخَمْسَةُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي النِّكَاحِ وَيَكُونُ مَنْدُوبًا، كَالإْشْهَادِ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَجَائِزًا كَمَا فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَمَكْرُوهًا كَالإْشْهَادِ عَلَى الْعَطِيَّةِ، أَوِ الْهِبَةِ لِلأْوْلاَدِ إِنْ حَصَلَ فِيهَا تَفَاوُتٌ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَحَرَامًا كَالإْشْهَادِ عَلَى الْجَوْر.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى إِيجَابِ الإْشْهَادِ فِي كُلِّ مَا وَرَدَ الأْمْرُ بِهِ.
- الْخُرُوجُ لأِدَاءِ الشَّهَادَةِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لأِجْلِ الشَّهَادَةِ مُفْسِدٌ لِلاِعْتِكَافِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ، بِأَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُ، أَوْ لاَ يَتِمُّ النِّصَابُ إِلاَّ بِهِ، لاَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ لأِدَائِهَا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ إِمَّا بِحُضُورِ الْقَاضِي، أَوْ تُنْقَلُ عَنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ لأِدَاءِ الشَّهَادَةِ مَتَى تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَكَذَلِكَ التَّحَمُّلُ لِلشَّهَادَةِ إِذَا تَعَيَّنَ، فَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ وَلاَ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِذَلِكَ الْخُرُوجِ، لأِنَّهُ خُرُوجٌ وَاجِبٌ عَلَى الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس والعشرون ، الصفحة / 135
السُّكُوتُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالطَّلَبِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ. وَهَذَا إِذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَكَانَ الْقَاضِي عَادِلاً، وَيَكُونُ الْمَكَانُ قَرِيبًا، وَلاَ يَعْلَمُ بُطْلاَنَ الشُّهُودِ بِهِ، وَلاَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ خَوْفًا.
فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّكُوتُ؛ لأَِنَّ فِي سُكُوتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) وَهَذَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالرَّضَاعِ فَيَجِبُ الأَْدَاءُ حِسْبَةً بِلاَ طَلَبٍ.
إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُخَيَّرُ فِي الْحُدُودِ، وَسَتْرُهَا فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَبَرُّ، فَالأَْوْلَى فِيهَا الْكِتْمَانُ إِلاَّ لِمُتَهَتِّكٍ وَمَنِ اشْتُهِرَ بِالْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي.
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَخِلاَفٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة).
سَمَاعُ الشَّهَادَةِ:
الشَّهَادَةُ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِمَا عَلِمَهُ الشَّاهِدُ لقوله تعالي وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً(. وَقَوْلِهِ - جَلَّ ذِكْرُهُ ( إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ( وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا) وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلاَّ فَدَعْ.(
وَالْعِلْمُ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ يَحْصُلُ بِطَرِيقَتَيْنِ:
أ - الرُّؤْيَةُ:
وَتَكُونُ فِي الأَْفْعَالِ كَالْغَصْبِ وَالإِْتْلاَفِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالإِْكْرَاهِ وَنَحْوِهَا، كَمَا تَكُونُ فِي الصِّفَاتِ الْمَرْئِيَّةِ مِثْلِ الْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ وَالْمُؤَجَّرِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ.
ب - السَّمَاعُ: وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: سَمَاعُ الصَّوْتِ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي الأَْقْوَالِ سَوَاءٌ أَكَانَ السَّامِعُ مُبْصِرًا أَمْ غَيْرَ مُبْصِرٍ مِثْلُ مَا يَقَعُ بِهِ إِبْرَامُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى سَمَاعِ كَلاَمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، إِذَا عَرَفَهَا السَّامِعُ وَتَيَقَّنَ أَنَّهَا مَصْدَرُ مَا سَمِعَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس والعشرون ، الصفحة / 214
شَهَادَةٌ
التَّعْرِيفُ:
- مِنْ مَعَانِي الشَّهَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخَبَرُ الْقَاطِعُ، وَالْحُضُورُ وَالْمُعَايَنَةُ وَالْعَلاَنِيَةُ، وَالْقَسَمُ، وَالإِْقْرَارُ، وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. يُقَالُ: شَهِدَ بِكَذَا إِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَشَهِدَ كَذَا إِذَا حَضَرَهُ، أَوْ عَايَنَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُعَدَّى الْفِعْلُ (شَهِدَ) بِالْهَمْزَةِ، فَيُقَالُ: أَشْهَدْتُهُ الشَّيْءَ إِشْهَادًا، أَوْ بِالأَْلِفِ، فَقَالَ: شَاهَدْتُهُ مُشَاهَدَةً، مِثْلُ عَايَنْتُهُ وَزْنًا وَمَعْنًى.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ: قوله تعالي فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: «وَشَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمُعَايَنَةِ: قوله تعالي وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)
قَالَ الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ مَعْنَاهَا: «وَقَوْلُهُ( أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) ، يَعْنِي مُشَاهَدَةَ الْبَصَرِ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْقَسَمِ أَوِ الْيَمِينِ: قوله تعالي فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: «الشَّهَادَةُ مَعْنَاهَا الْيَمِينُ هَاهُنَا.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْقَاطِعِ: قوله تعالي وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا.
وَاسْتِعْمَالُهَا بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الإِْقْرَارِ: قوله تعالي شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ.
أَيْ مُقِرِّينَ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْسِ هِيَ الإِْقْرَارُ.
وَتُطْلَقُ الشَّهَادَةُ أَيْضًا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. (وَهِيَ قَوْلُنَا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وَتُسَمَّى الْعِبَارَةُ (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَمَعْنَاهُمَا هُنَا مُتَفَرِّعٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ (الإِْخْبَارُ وَالإِْقْرَارُ)، فَإِنْ مَعْنَى الشَّهَادَةِ هُنَا هُوَ الإِْعْلاَمُ وَالْبَيَانُ لأَِمْرٍ قَدْ عُلِمَ وَالإِْقْرَارُ الاِعْتِرَافُ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هُوَ: «أَعْلَمُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَأُبَيِّنُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْلَمُ وَأُبَيِّنُ أَنَّ مُحَمَّدًا مُبَلِّغٌ لِلأَْخْبَارِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُمِّيَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالتَّشَهُّدِ، وَهُوَ صِيغَةُ (تَفَعَّلَ) مِنَ الشَّهَادَةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ (التَّشَهُّدُ) عَلَى (التَّحِيَّاتِ) الَّتِي تُقْرَأُ فِي آخِرِ الصَّلاَةِ.
جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ. صلي الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمُ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْعَلاَنِيَةِقوله تعالي عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الآْيَةِ: «السِّرُّ وَالْعَلاَنِيَةُ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: قوله تعالي فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ).
فَهُوَ شَهِيدٌ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةَ، جَمْعُهُ شُهَدَاءُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الإِْخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ).
وَاسْتَعْمَلُوا اللَّفْظَ فِي الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شَهِيدٌ).
وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الْقَسَمِ كَمَا فِي اللِّعَانِ، (وَبَيَانُهُ فِي اللِّعَانِ).
كَمَا اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الإِْخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ
الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ الْبَحْثِ فِي هَذَا الْمُصْطَلَحِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الشَّهَادَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى.
فَعَرَّفَهَا الْكَمَالُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارُ صِدْقٍ لإِِثْبَاتِ حَقٍّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: بِأَنَّهَا إِخْبَارُ حَاكِمٍ مِنْ عِلْمٍ لِيَقْضِيَ بِمُقْتَضَاهُ.
وَعَرَّفَهَا الْجَمَلُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ.
وَعَرَّفَهَا الشَّيْبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا: الإِْخْبَارُ بِمَا عَلِمَهُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَوْ شَهِدْتُ.
وَتَسْمِيَتُهَا بِالشَّهَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ، لأَِنَّ الشَّاهِدَ يُخْبِرُ عَنْ مَا شَاهَدَهُ وَالإِْشَارَةُ إِلَيْهَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما - قَالَ: «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ.
وَتُسَمَّى «بَيِّنَةً» أَيْضًا؛ لأَِنَّهَا تُبَيِّنُ مَا الْتَبَسَ وَتَكْشِفُ الْحَقَّ فِي مَا اخْتُلِفَ فِيهِ.
وَهِيَ إِحْدَى الْحُجَجِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الدَّعْوَى.
أَلْفَاظٌ ذَاتُ صِلَةٍ:
الإِْقْرَارُ:
الإِْقْرَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الإِْخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ.
الدَّعْوَى:
الدَّعْوَى: قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَلِ الْغَيْرِ أَوْ دُفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ.
فَيَجْمَعُ كُلًّا مِنَ الإِْقْرَارِ وَالدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، أَنَّهَا إِخْبَارَاتٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا: أَنَّ الإِْخْبَارَ إِنْ كَانَ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ فَإِقْرَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ، فَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ فِيهِ نَفْعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ نَفْعٌ فِيهِ لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ فَهُوَ الدَّعْوَى، انْظُرْ: الْمَوْسُوعَةَ الْفِقْهِيَّةَ مُصْطَلَحَ (إِقْرَارٌ) (6 67.
الْبَيِّنَةُ:
الْبَيِّنَةُ: عَرَّفَهَا الرَّاغِبُ بِأَنَّهَا: الدَّلاَلَةُ الْوَاضِحَةُ عَقْلِيَّةً أَوْ مَحْسُوسَةً. وَعَرَّفَهَا الْمَجْدَوِيُّ الْبَرَكَتِيُّ بِأَنَّهَا: الْحُجَّةُ الْقَوِيَّةُ وَالدَّلِيلُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْبَيِّنَةُ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ. وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ، وَتَارَةً ثَلاَثَةً بِالنَّصِّ فِي بَيِّنَةِ الْمُفَلِّسِ، وَتَارَةً شَاهِدَيْنِ وَشَاهِدًا وَاحِدًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً وَنُكُولاً وَيَمِينًا أَوْ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَيْمَانٍ، وَتَكُونُ شَاهِدَ الْحَالِ (أَيِ الْقَرَائِنَ) فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ.
وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا أَعَمَّ مِنَ الشَّهَادَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ.
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لقوله تعالي وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا). ). وقوله تعالي ).وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ). وَقَوْلُهُ (وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).
وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا كَسَائِرِ الأَْمَانَاتِ. فَإِذَا قَامَ بِهَا الْعَدَدُ الْكَافِي (كَمَا سَيَأْتِي) سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ.
وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِالشَّهَادَةِ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ.
فَإِذَا تَضَرَّرَ فِي التَّحَمُّلِ أَوِ الأَْدَاءِ، أَوْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ لاَ تَنْفَعُ، بِأَنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، أَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّبَذُّلِ فِي التَّزْكِيَةِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، لقوله تعالي وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ.. وَقَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ لاَ يَحْصُلُ مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ تَحَمُّلُهَا وَأَدَاؤُهَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَرْضًا عَيْنِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الشُّهُودِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْحُكْمُ، وَخِيفَ ضَيَاعُ الْحَقِّ.
وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ، أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ أَدَاءٌ ف 26 ح 2 ص 340 لِبَيَانِ الْخِلاَفِ فِي أَفْضَلِيَّةِ الشَّهَادَةِ أَوِ السَّتْرِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ:
ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْكِتَابُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).
وَقَوْلُهُ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
وَقَوْلُهُ(وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ).
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ – رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ.
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ». وَالْبَيِّنَةُ هِيَ الشَّهَادَةُ.
«قَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا لإِِثْبَاتِ الدَّعَاوَى».
أَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا لِحُصُولِ التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.
أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ:
أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خَمْسَةُ أُمُورٍ: الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ، وَالصِّيغَةُ.
وَرُكْنُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اللَّفْظُ الْخَاصُّ، وَهُوَ لَفْظُ (أَشْهَدُ) عِنْدَهُمْ.
سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ طَلَبُ الْمُدَّعِي الشَّهَادَةَ مِنَ الشَّاهِدِ، أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّ الْمُدَّعِي إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُدَّعِي كَوْنَهُ شَاهِدًا.
حُجِّيَّةُ الشَّهَادَةِ:
الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ تُظْهِرُ الْحَقَّ
وَلاَ تُوجِبُهُ وَلَكِنْ تُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَاهَا لأَِنَّهَا إِذَا اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.
شُرُوطُ الشَّهَادَةِ:
لِلشَّهَادَةِ نَوْعَانِ مِنَ الشُّرُوطِ:
شُرُوطُ تَحَمُّلٍ.
وَشُرُوطُ أَدَاءً.
فَأَمَّا شُرُوطُ التَّحَمُّلِ: فَمِنْهَا:
أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَاقِلاً وَقْتَ التَّحَمُّلِ، فَلاَ يَصِحُّ تَحَمُّلُهَا مِنْ مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ لاَ يَعْقِلُ؛ لأَِنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ الْحَادِثَةِ وَضَبْطِهَا، وَلاَ يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِآلَةِ الْفَهْمِ وَالضَّبْطِ، وَهِيَ الْعَقْلُ.
أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، فَلاَ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مِنَ الأَْعْمَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ إِذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ وَقَطَعَ بِأَنَّهُ صَوْتُ فُلاَنٍ.
أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّلُ عَنْ عِلْمٍ، أَوْ عَنْ مُعَايَنَةٍ لِلشَّيْءِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ لاَ بِغَيْرِهِ: لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: ذُكِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ.
وَلاَ يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْعِلْمِ، أَوِ الْمُعَايَنَةِ، إِلاَّ فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ، كَالنِّكَاحِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَوْتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُعَايَنَةُ.
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا رَآهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَ مِنْهُ، لأَِنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَالْخَتْمَ يُشْبِهُ الْخَتْمَ، كَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّزْوِيرُ، فَلاَ مُعَوَّلَ إِلاَّ عَلَى التَّذَكُّرِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَاضِي يَجِدُ فِي دِيوَانِهِ شَيْئًا لاَ يَحْفَظُهُ، كَإِقْرَارِ رَجُلٍ أَوْ شَهَادَةِ شُهُودٍ، أَوْ صُدُورِ حُكْمٍ مِنْهُ وَقَدْ خُتِمَ بِخَتْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي بِذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِهِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ لِلتَّحَمُّلِ: الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالإِْسْلاَمُ، وَالْعَدَالَةُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ وَقْتَ التَّحَمُّلِ صَبِيًّا عَاقِلاً، أَوْ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ فَاسِقًا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْفَاسِقُ، فَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ.
وَأَمَّا شُرُوطُ الأَْدَاءِ: فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّاهِدِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّهَادَةِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى النِّصَابِ (أَيْ عَدَدِ الشُّهُودِ).
أَوَّلاً: مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّاهِدِ:
أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ أَهْلاً لِلشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ بِتَوَفُّرِ شُرُوطِهَا فِيهِ. وَمِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ:
(1) - الْبُلُوغُ:
فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْطْفَالِ وَالصِّبْيَانِ لقوله تعالي وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ).
وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنَ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ - صلي الله عليه وسلم -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ»( ). وَلأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِ، فَلأََنْ لاَ يُؤْمَنَ عَلَى حِفْظِ حُقُوقِ غَيْرِهِ أَوْلَى( ).
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنْ يَتَّفِقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَأَنْ لاَ يَدْخُلَ بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ، وَاخْتُلِفَ فِي إِنَاثِهِمْ.
(2) - الْعَقْلُ:
فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ غَيْرِ الْعَاقِلِ إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ لاَ يَعْقِلُ مَا يَقُولُهُ وَلاَ يَصِفُهُ.
وَسَوَاءٌ أَذَهَبَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُحَصِّلٍ وَلاَ تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ: «وَلأَِنَّهُ لاَ يَأْثَمُ بِكَذِبِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يُتَحَرَّزُ مِنْهُ.
(3) - الْحُرِّيَّةُ:
فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ فِيهِ رِقٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، كَسَائِرِ الْوِلاَيَاتِ، إِذْ فِي، الشَّهَادَاتِ نُفُوذُ قَوْلٍ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ نَوْعُ وِلاَيَةٍ؛ وَلأَِنَّ مَنْ فِيهِ رِقٌّ مُشْتَغِلٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ فَلاَ يَتَفَرَّغُ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
(وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: رِقٌّ ج 23 ص 81).
(4) - الْبَصَرُ:
فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْعْمَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْعْمَى فِي الأَْفْعَالِ؛ لأَِنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِهَا الْبَصَرُ، وَكَذَا فِي الأَْقْوَالِ إِلاَّ فِيمَا يَثْبُتُ بِالاِسْتِفَاضَةِ؛ لأَِنَّهَا مُسْتَنَدُهَا السَّمَاعُ وَلَيْسَ الرُّؤْيَةَ، وَإِلاَّ فِي التَّرْجَمَةِ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي لأَِنَّهُ يُفَسِّرُ مَا سَمِعَهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي الأَْقْوَالِ دُونَ الأَْفْعَالِ فِيمَا لاَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنَ الأَْقْوَالِ إِذَا كَانَ فَطِنًا، وَلاَ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الأَْصْوَاتُ، وَتَيَقَّنَ الْمَشْهُودَ لَهُ، وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَْعْمَى إِذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ لأَِنَّهُ رَجُلٌ عَدْلٌ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَالْبَصِيرِ؛ وَلأَِنَّ السَّمْعَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْيَقِينُ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَنْ أَلِفَهُ الأَْعْمَى، وَكَثُرَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ، وَعَرَفَ صَوْتَهُ يَقِينًا، فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، فِيمَا تَيَقَّنَهُ كَالْبَصِيرِ، وَلاَ سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ حُصُولِ الْيَقِينِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَالِ.
وَذَهَبَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إِلَى السَّمَاعِ، وَلاَ خَلَلَ فِيهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْعْمَى لَوْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً تَحْتَاجُ إِلَى الْبَصَرِ، وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ فَإِنْ تَحَمَّلَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِالاِسْمِ وَالنَّسَبِ يُقِرُّ لِرَجُلٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ بَعْدَمَا عَمِيَ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَيَقَّنَ صَوْتَهُ لِكَثْرَةِ إِلْفِهِ لَهُ صَحَّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، جَازَ الْحُكْمُ بِهَا عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلاَ يُمْنَعُ الْحُكْمُ بِهَا، كَمَا لَوْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ قَبُولِ
شَهَادَتِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ؛ لأَِنَّ قِيَامَ الأَْهْلِيَّةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِتَصِيرَ حُجَّةً.
(5) - الإِْسْلاَمُ:
الأَْصْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُسْلِمًا فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى مُسْلِمٍ أَمْ عَلَى غَيْرِ مُسْلِمٍ، لقوله تعالي وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ). . وَقَوْلُهُ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) . وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلَيْسَ مِنَّا وَلأَِنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ الْكَذِبُ عَلَى خَلْقِهِ.
وَعَلَى هَذَا الأَْصْلِ جَرَى مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ.
لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الأَْصْلِ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَجَازُوهَا عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ)
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ شَهَادَةَ الذِّمِّيِّينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَشَهَادَةَ الْحَرْبِيِّينَ عَلَى أَمْثَالِهِمْ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا.
(6) - النُّطْقُ:
فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْخْرَسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى صِحَّةِ شَهَادَتِهِ إِذَا عُرِفَتْ إِشَارَتُهُ وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ قَبُولَ شَهَادَةِ الأَْخْرَسِ إِذَا أَدَّاهَا بِخَطِّهِ.
(7) - الْعَدَالَةُ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ لقوله تعالي وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).. وَلِهَذَا لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ.
وَالْعَدَالَةُ عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِالْمُحَافَظَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ وَأَدَاءِ الأَْمَانَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَأَنْ يَكُونَ صَلاَحُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ وَهِيَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَبُولِ.
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِالصَّلاَحِ فِي الدِّينِ وَهُوَ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِرَوَاتِبِهَا، وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ الإِْصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا أَيْضًا اسْتِعْمَالُ الْمُرُوءَةِ بِفِعْلِ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكِ مَا يُدَلِّسُهُ وَيَشِينُهُ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُرُوءَةَ شَرْطًا مُسْتَقِلًّا. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَدَالَةٌ)
وَالْعَدَالَةُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَبُولِ عَلَى الْقَاضِي لاَ جَوَازِهِ. فَإِذَا تَوَفَّرَتْ فِي الشَّاهِدِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِشَهَادَتِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الأَْغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ وَالأَْظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةُ وَالْمُرُوءَةُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الأَْغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ وَالأَْظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الْمَعْصِيَةَ وَخِلاَفَ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ.
(8) - التَّيَقُّظُ: أَوِ الضَّبْطُ:
لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُغَفَّلٍ لاَ يَضْبِطُ أَصْلاً أَوْ غَالِبًا لِعَدَمِ التَّوَثُّقِ بِقَوْلِهِ، أَمَّا مَنْ لاَ يَضْبِطُ نَادِرًا وَالأَْغْلَبُ فِيهِ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ فَتُقْبَلُ قَطْعًا؛ لأَِنَّ أَحَدًا لاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ.
(9) - أَلاَّ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ:
وَذَلِكَ لقوله تعالي وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
فَإِنْ تَابَ وَأَصْلَحَ:
فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ لقوله تعالي بَعْدَ الآْيَةِ السَّابِقَةِ مُبَاشَرَةً: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَلَوْ تَابَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِيمَا حُدَّ فِيهِ وَتُقْبَلُ فِيمَا عَدَاهُ إِنْ تَابَ.
وَمَنَاطُ الْخِلاَفِ فِي هَذِهِ الآْيَةِ فِي وُرُودِ الاِسْتِثْنَاءِ بَعْدَ مَذْكُورِينَ أَيَشْمَلُهُمْ كُلَّهُمْ أَمْ يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إِلَى الأَْخِيرِ وَهُوَ هُنَا التَّوْبَةُ مِنَ الْفِسْقِ فَقَطْ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِ عُمَرَ – رضي الله عنه - لِمَنْ جَلَدَهُ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِقَوْلِهِ: تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَكَ.
وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ.
(10) - الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ:
يُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ
لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: «مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنْ لاَ شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ».
(11) - عَدَمُ التُّهْمَةِ:
لِلتُّهْمَةِ أَسْبَابٌ مِنْهَا:
أ - أَنْ يَجُرَّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ ضُرًّا، فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ بِجُرْحٍ قَبْلَ انْدِمَالِهِ، وَلاَ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالأَْدَاءِ، وَلاَ الإِْبْرَاءِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيَّةُ. ب - الْبَعْضِيَّةُ: فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ، وَلاَ فَرْعٍ لأَِصْلِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ.
ح - الْعَدَاوَةُ: فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ هُنَا، الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لاَ الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ، وَالسُّنِّيُّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ، وَكَذَا مَنْ
أَبْغَضَ الْفَاسِقَ لِفِسْقِهِ لاَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ أَنْ تَبْلُغَ حَدًّا يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ وَيَفْرَحُ لِمُصِيبَتِهِ، وَيَحْزَنُ لِمَسَرَّتِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَيُخَصُّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى الآْخَرِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ إِذْ لاَ تُهْمَةَ.
د - أَنْ يَدْفَعَ بِالشَّهَادَةِ عَنْ نَفْسِهِ عَارَ الْكَذِبِ، فَإِنْ شَهِدَ فَاسِقٌ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ ثُمَّ تَابَ بِشُرُوطِ التَّوْبَةِ فَشَهَادَتُهُ الْمُسْتَأْنَفَةُ مَقْبُولَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ أَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ الَّتِي رُدَّتْ لَمْ تُقْبَلْ.
هـ - الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمُبَادَرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ.
و - الْعَصَبِيَّةُ، فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ عُرِفَ بِهَا وَبِالإِْفْرَاطِ فِي الْحَمِيَّةِ كَتَعَصُّبِ قَبِيلَةٍ عَلَى قَبِيلَةٍ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ الْعَدَاوَةِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.
وَاسْتَدَلُّوا لاِشْتِرَاطِ عَدَمِ التُّهْمَةِ( ) بِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم «لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ وَلاَذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأَِهْلِ الْبَيْتِ.
ثَانِيًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى الشَّهَادَةِ نَفْسِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:
اشْتِرَاطُ وُجُودِ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنَ الْمُدَّعِي أَوْ نَائِبِهِ. أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا وُجُودُ الدَّعْوَى عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
(2) - مُوَافَقَتُهَا لِلدَّعْوَى (كَمَا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ).
(3) - الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ.
(4) - اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ (كَمَا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ).
(5) - تَعَذُّرُ حُضُورِ الأَْصْلِ (وَهَذَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ) كَمَا سَيَأْتِي.
(6) - أَنْ تُؤَدَّى بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. بِأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِكَذَا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَكْفِي مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ عِلْمِ الشَّاهِدِ كَأَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ كَذَا أَوْ سَمِعْتُ كَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ.
ثَالِثًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ:
أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِمَجْهُولٍ فَلاَ تُقْبَلُ. وَذَلِكَ لأَِنَّ شَرْطَ صِحَّةِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا.
(2) - كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ مَالاً أَوْ مَنْفَعَةً فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا شَرْعًا.
رَابِعًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى نِصَابِ الشَّهَادَةِ:
يَخْتَلِفُ عَدَدُ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَاتِ بِحَسَبِ الْمَوْضُوعِ الْمَشْهُودِ بِهِ:
أ - مِنَ الشَّهَادَاتِ مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لاَ امْرَأَةَ بَيْنَهُمْ وَذَلِكَ فِي الزِّنَا، لقوله تعالي (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ). الآْيَةَ.
وقوله تعالي ( لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ). الآْيَةَ.
وقوله تعالي وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
ب - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى مَنْ عُرِفَ بِغِنًى أَنَّهُ فَقِيرٌ لأَِخْذِ زَكَاةٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ ثَلاَثَةِ رِجَالٍ، يَشْهَدُونَ لَهُ.
لِحَدِيثِ قَبِيصَةَ «حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ.
ج - وَمِنْهَا مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ لاَ امْرَأَةَ فِيهِمَا، وَهُوَ مَا سِوَى الزِّنَى مِنَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَحَدِّ الْحِرَابَةِ، وَالْجَلْدِ فِي الْخَمْرِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا، مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ يُقْصَدُ مِنْهُ مَالٌ: كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالإِْيلاَءِ، وَالظِّهَارِ، وَالنَّسَبِ، وَالإِْسْلاَمِ،
وَالرِّدَّةِ، وَالْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيلِ، وَالْمَوْتِ وَالإِْعْسَارِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لاَ امْرَأَةَ فِيهِمَا.
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ فِي الطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ.
فَأَمَّا الطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَقَوْلُهُ: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ).
وَأَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ فِي النِّكَاحِ: «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّهُ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَلاَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ.
وَقِيسَ عَلَيْهَا مَا شَارَكَهَا فِي الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ.
د - وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَا يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ هُوَ مَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَقُّ مَالاً أَمْ غَيْرَ مَالٍ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوِصَايَةِ.
وَدَلِيلُهُ قوله تعالي وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).. وَقَصَرَ الْجُمْهُورُ قَبُولَ شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مَالٌ أَوْ بِمَعْنَى الْمَالِ، كَالْبَيْعِ، وَالإِْقَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالضَّمَانِ، وَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، كَالْخِيَارِ، وَالأَْجَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَجَازُوا فِيهِ أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي.
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ «أَنَّهُ صلي الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ.
وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَفِيَّةُ الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لأَِنَّ الآْثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا الشَّأْنِ لاَ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ.
هـ - وَمِنْهَا مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَهُوَ الْوِلاَدَةُ وَالاِسْتِهْلاَلُ وَالرَّضَاعُ، وَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ الأَْجَانِبُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمَسْتُورَةِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الأُْمُورُ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّلُ: ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي الْوِلاَدَةِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا، وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ غَيْرِ الْقَابِلَةِ إِلاَّ مَعَ غَيْرِهَا.
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ عَدْلَةٍ قَابِلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، إِلاَّ وِلاَدَةَ الْمُطَلَّقَةِ فَلاَ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الْوَاحِدَة اسْتِدْلاَلاً بِمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ – رضي الله عنه - «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ – رضي الله تعالي - أَنَّهُمَا أَجَازَا شَهَادَتَهَا.
الثَّالِثُ: ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ وَلاَ يُشْتَرَطُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُنَّ لَمَّا قُمْنَ فِي انْفِرَادِهِنَّ مَقَامَ الرِّجَالِ، وَجَبَ أَنْ يَقُمْنَ فِي الْعَدَدِ مَقَامَ الرِّجَالِ، وَأَكْثَرُ عَدَدِ الرِّجَالِ اثْنَانِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ عَدَدِ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ.
الرَّابِعُ: هُوَ مَا حُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ تُقْبَلُ ثَلاَثُ نِسْوَةٍ، وَلاَ يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْهُنَّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ. وَاسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ ضَمَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ إِلَى الرَّجُلِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لاَ يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَبْدَلَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَيَصِرْنَ ثَلاَثًا.
الْخَامِسُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَطَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ أَجَازَ الشَّهَادَةَ انْتَهَى بِأَقَلِّهَا إِلَى شَاهِدَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَأَقَامَ الثِّنْتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ، حَيْثُ أَجَازَهُمَا فَإِذَا أَجَازَ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا يَغِيبُ عَنِ الرِّجَالِ لَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُجِيزُوهَا إِلاَّ عَلَى أَصْلِ حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الشَّهَادَاتِ، فَيَجْعَلُونَ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ، وَإِذَا فَعَلُوا لَمْ يَجُزْ إِلاَّ أَرْبَعٌ، وَهَكَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ ذِكْرُهُ - وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
و - وَمِنْهَا مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ بِمُفْرَدِهِ فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ هِلاَلِ رَمَضَانَ اسْتِدْلاَلاً بِحَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما - قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَلَ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم .
أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ.
وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما - أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَلَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ وَأَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلاَلُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطَّبِيبِ الْوَاحِدِ فِي الشِّجَاجِ، وَالْبَيْطَارِ فِي عُيُوبِ الدَّوَابِّ.
وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا كَانَ بِتَكْلِيفٍ مِنَ الإِْمَامِ.
وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ.
حُكْمُ الإِْشْهَادِ:
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الإِْشْهَادِ عَلَى الْعُقُودِ بَيْنَ عُقُودِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَاجِبٌ وَشَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، لِقَوْلِهِ «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذَا تَمَّ الإِْعْلاَنُ.
أَمَّا عُقُودُ الْبُيُوعِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ وَاجِبٌ.
قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ وَإِذَا اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ أَوْ ثُلُثِ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، إِلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِي لقوله تعالي (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) لِلنَّدْبِ وَلَيْسَ لِلْوُجُوبِ، لِوُرُودِ الآْيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ.
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ بَاعَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم جَمَلَهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
فَدَلَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ.
وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم وَأَشْهَدَ، وَبَاعَ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى وَاشْتَرَى، وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، وَلَمْ يُشْهِدْ.
وَلَوْ كَانَ الإِْشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (وَالْوُجُوبُ فِي ذَلِكَ قَلِقٌ، أَمَّا فِي الدَّقَائِقِ فَصَعْبٌ شَاقٌّ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ التَّاجِرُ الاِسْتِئْلاَفَ بِتَرْكِ الإِْشْهَادِ، وَقَدْ يَكُونُ عَادَةً فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ، وَقَدْ يُسْتَحَى مِنَ الْعَالِمِ وَالرَّجُلِ الْكَبِيرِ الْمُوَقَّرِ فَلاَ يُشْهِدُ عَلَيْهِ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الاِئْتِمَانِ، وَيَبْقَى الأَْمْرُ بِالإِْشْهَادِ نَدْبًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الأَْغْلَبِ مَا لَمْ يَقَعْ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْهُ).
مُسْتَنَدُ عِلْمِ الشَّاهِدِ:
الأَْصْلُ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ، لقوله تعالي (إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وقوله تعالي حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ(وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا).
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ بِالْعِلْمِ، وَلاَ تَصِحُّ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ.
وَيُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما - قَالَ: «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ
عَبَّاسٍ لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا أَقْوَى أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ وَالْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ.
لَكِنَّ الأُْمُورَ الْمَشْهُودَ بِهَا قَدْ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا:
فَمِنْهَا مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعَايِنَهُ الشَّاهِدُ كَالْقَتْلِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالرَّضَاعِ، وَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ هَذِهِ الأُْمُورَ إِلاَّ بِالْمُعَايَنَةِ بِبَصَرِهِ.
فَمِنْهَا أُمُورٌ لاَ يَصِحُّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا إِلاَّ بِالسَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي عُقُودِ النِّكَاحِ، وَالْبُيُوعِ، وَالإِْجَارَاتِ، وَالطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ الأَْصْوَاتَ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَيَكْتَفِي الْحَنَابِلَةُ فِيهَا بِالسَّمَاعِ إِذَا عَرَفَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَقِينًا وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ كَلاَمُهُمَا.
وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ عِلْمُهُ بِهَا عَنْ طَرِيقِ سَمَاعِ الأَْخْبَارِ الشَّائِعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُسْتَفِيضَةِ، كَالنَّسَبِ، وَالْمِلْكِ، وَالْمَوْتِ، وَالْوَقْفِ.
فَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا مُعْتَمِدًا عَلَى التَّسَامُعِ.
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ الشَّهَادَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ لأَِنَّ إِقَامَتَهَا فَرْضٌ، قَالَ تَعَالَى (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ).
أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ أَدَاؤُهَا يَسْتَدْعِي تَرْكَ عَمَلِهِ وَتَحَمُّلَ الْمَشَقَّةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا، لَكِنْ لَهُ أُجْرَةُ الرُّكُوبِ إِلَى مَوْضِعِ الأَْدَاءِ. قَالَ تَعَالَى( وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى: الْجَوَازِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ إِنْفَاقَ الإِْنْسَانِ عَلَى عِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَالشَّهَادَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلاَ يُشْتَغَلُ عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا أَخَذَ الرِّزْقَ جَمَعَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ. وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ عَلَى كَتْبِ الْوَثِيقَةِ.
الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ:
قَدْ لاَ يَسْتَطِيعُ الشَّاهِدُ الْمَقْبُولُ الشَّهَادَةِ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ بِنَفْسِهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ، لِسَفَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ، فَيُشْهِدُ عَلَى شَهَادَتِهِ شَاهِدَيْنِ تَتَوَفَّرُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُؤَهِّلُهُمَا لِلشَّهَادَةِ، وَيَطْلَبُ مِنْهُمَا تَحَمُّلَهَا وَالإِْدْلاَءَ بِهَا أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيَقُومُ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ مَقَامَهُ، فِي نَقْلِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِلَفْظِهَا الْمَخْصُوصِ فِي التَّحَمُّلِ وَالأَْدَاءِ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ فَلاَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الأَْصْلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ دَوَامَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الأَْصْلِ إِلَى حِينِ صُدُورِ الْحُكْمِ، فَمَتَى أَمْكَنَتْ شَهَادَةُ الأُْصُولِ قَبْلَ الْحُكْمِ وُقِفَ الْحُكْمُ عَلَى سَمَاعِهَا، وَلَوْ بَعْدَ سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ؛ لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى الأَْصْلِ فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْبَدَلِ.
وَمِمَّا يُجِيزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ أَنْ يَخَافَ الْمَوْتَ فَيَضِيعَ الْحَقُّ.
هَذَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ مُتَبَايِنَةً فِيمَا يَجُوزُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَمَا لاَ يَجُوزُ.
فَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي سَائِرِ الأُْمُورِ مَالاً أَوْ عُقُوبَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا: جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لاَ يَسْقُطُ بِشُبْهَةٍ، فَلاَ تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَإِنَّمَا قُلْنَا بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَلَيْسَتْ حَقًّا
لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَالنِّيَابَةُ لاَ تُجْزِئُ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَيْهَا، إِذْ شَاهِدُ الأَْصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، فَلَوْ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، وَصَارَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: جَوَازِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَإِلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِعُمُومِ قوله تعالي( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الأَْصْلَ قَدْ يَتَعَذَّرُ؛ وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ لاَزِمٌ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلأَِنَّهَا طَرِيقٌ يُظْهِرُ الْحَقَّ كَالإِْقْرَارِ فَيُشْهِدُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهَا إِنَّمَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِ عُقُوبَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرِ إِحْصَانٍ، كَالأَْقَارِيرِ، وَالْعُقُودِ، وَالنُّسُوخِ، وَالرَّضَاعِ، وَالْوِلاَدَةِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَقُّ الآْدَمِيِّ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ، وَتُقْبَلُ فِي إِثْبَاتِ عُقُوبَةِ الآْدَمِيِّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ. أَمَّا الْعُقُوبَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلاَ تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الأَْظْهَرِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِثْبَاتُ قَوْلٍ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ. خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي فِي الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ – رضي الله عنهما .لاَ يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إِلاَّ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِكُلٍّ مِنَ الأَْصْلَيْنِ اثْنَانِ؛ لأَِنَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى وَاحِدٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ شَهَادَتِهِ، فَلاَ تَقُومُ مَقَامَ شَهَادَةِ غَيْرِهِ.
وَلاَ يَصِحُّ تَحَمُّلُ شَهَادَةِ مَرْدُودِ الشَّهَادَةِ؛ لِسُقُوطِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَصِحُّ تَحَمُّلُ النِّسْوَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ تُثْبِتُ الأَْصْلَ لاَ مَا شَهِدَ بِهِ؛ وَلأَِنَّ التَّحَمُّلَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، وَهُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَمْ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَالنِّكَاحِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِنَّ، فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ، إِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشْهَبُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مُطْلَقًا، وَأَجَازَ أَصْبَغُ نَقْلَ امْرَأَتَيْنِ عَنِ امْرَأَتَيْنِ فِيمَا يَنْفَرِدْنَ بِهِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَلاَ تُجْزِئُ فِيهِ النِّسَاءُ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَلَوْ كُنَّ أَلْفًا، إِلاَّ مَعَ رَجُلٍ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى صِحَّةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، حَيْثُ يُقْبَلْنَ فِي أَصْلٍ وَفَرْعٍ، وَفَرْعِ فَرْعٍ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ مَا يَشْهَدُ بِهِ الأُْصُولُ فَدَخَلَ فِيهِ النِّسَاءُ، فَيُقْبَلُ رَجُلاَنِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُقْبَلُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى مِثْلِهِمْ أَوْ رَجُلَيْنِ أَصْلَيْنِ أَوْ فَرْعَيْنِ فِي الْمَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، وَتُقْبَلُ امْرَأَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ الْمَرْأَةُ.
وَإِذَا فَسَقَ الشَّاهِدُ الأَْصِيلُ أَوِ ارْتَدَّ، أَوْ نَشَأَتْ عِنْدَهُ عَدَاوَةٌ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ امْتَنَعَ الْقَاضِي مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ؛ لِسُقُوطِ شَهَادَةِ الأَْصْلِ وَلَوْ حَدَثَ الْفِسْقُ أَوِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ.
الاِسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالاِسْتِرْعَاءُ هُوَ: طَلَبُ الْحِفْظِ، أَيْ: بِأَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الأَْصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَاحْفَظْهَا، فَلِلْفَرْعِ وَلِمَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَخُصَّهُ بِالاِسْتِرْعَاءِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا سَمِعَ شَاهِدُ الْفَرْعِ الأَْصْلَ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ الأَْصْلِ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَيْضًا مَا إِذَا سَمِعَ الْفَرْعُ الأَْصْلَ يَذْكُرُ سَبَبَ الْحَقِّ بِأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ كَقَرْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ؛ لأَِنَّ مَنْ سَمِعَ إِقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ.
وَيُؤَدِّي شَاهِدُ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَحَمَّلَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ، فَإِنْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ بِحَقٍّ مُضَافٍ إِلَى سَبَبٍ يُوجِبُ الْحَقَّ ذَكَرَهُ، وَإِنْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ذَكَرَهُ، وَإِنْ أَشْهَدَهُ شَاهِدُ الأَْصْلِ عَلَى شَهَادَتِهِ أَوِ اسْتَرْعَاهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلاَنًا يَشْهَدُ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَهَكَذَا.
وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُومَ شَاهِدُ الْفَرْعِ بِتَعْدِيلِ شَاهِدِ الأَْصْلِ، وَيَقُومُ الْقَاضِي بِالْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ، فَإِنْ عَدَّلَهُ الْفَرْعُ وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّعْدِيلِ جَازَ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَا لَمْ يُعَدِّلْ شَاهِدَ الأَْصْلِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُ لَمْ يَنْقُلِ الشَّهَادَةَ عَنْهُ.
وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الأَْصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ؛ لأَِنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ، لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ.
أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الاِسْتِرْعَاءِ عَلَى بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الإِْنْسَانُ اضْطِرَارًا، كَالطَّلاَقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ، وَالتَّزْوِيجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَرْعَى كِتَابًا سِرًّا؛ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا التَّصَرُّفَ لأَِمْرٍ يَتَخَوَّفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيمَا عَقَدَ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا يَتَخَوَّفُهُ وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ شُهُودُ الاِسْتِرْعَاءِ. وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ أَمْثِلَةً لِمَا يَقُولُهُ الْمُسْتَرْعِي، فِي وَثِيقَةِ الاِسْتِرْعَاءِ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ الاِسْتِرْعَاءِ. فَقَالَ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْعَطَّارِ: يُصَدَّقُ الْمُسْتَرْعَى فِي الْحَبْسِ (يَعْنِي الْوَقْفَ) فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا وَيَكْتُبُ فِي ذَلِكَ: أَشْهَدَ فُلاَنٌ شُهُودَ هَذَا الْكِتَابِ بِشَهَادَةِ اسْتِرْعَاءٍ، وَاسْتِخْفَاءٍ لِلشَّهَادَةِ: أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ فِي دَارِهِ بِمَوْضِعِ كَذَا تَحْبِيسًا عَلَى بَنِيهِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لأَِمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى مَالِهِ الْمَذْكُورِ، وَلِيُمْسِكَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرْجِعَ فِيمَا عَقَدَ فِيهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا تَخَوَّفَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَا عَقَدَهُ فِيهِ وَجْهَ الْقُرْبَةِ، وَلاَ وَجْهَ الْحَبْسِ بَلْ لِمَا يَخْشَاهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِمَا يَعْقِدُهُ فِيهِ مِنَ التَّحْبِيسِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي تَارِيخِ كَذَا وَكَذَا.
وَمِمَّا ذَكَرُوهُ أَيْضًا أَنَّهُ إِذَا خَطَبَ مَنْ هُوَ قَاهِرٌ لِشَخْصٍ بَعْضَ بَنَاتِهِ فَأَنْكَحَهُ الْمَخْطُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ شُهُودَ الاِسْتِرْعَاءِ سِرًّا: أَنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُخَافُ عَدَاوَتُهُ.
وَأَنَّهُ إِنْ شَاءَ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ لِغَيْرِ نِكَاحٍ فَأَنْكَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا.
وَإِذَا بَنَى ظَالِمٌ أَوْ مَنْ يُخَافُ شَرُّهُ غُرْفَةً مُحْدَثَةً بِإِزَاءِ دَارِ رَجُلٍ وَفَتَحَ بَابًا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي دَارِهِ عَلَى وَجْهِ الاِسْتِطَالَةِ لِقُدْرَتِهِ، وَجَاهِهِ، فَيُشْهِدُ الرَّجُلُ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهُ لِخَوْفِهِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَضُرَّهُ أَوْ يُؤْذِيَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ مَتَى أَمْكَنَهُ، وَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ لِمَعْرِفَتِهِمْ وَأَنَّ الْمُحْدِثَ لِذَلِكَ مِمَّنْ يُتَّقَى شَرُّهُ، وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَتَى قَامَ بِطَلَبِ حَقِّهِ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: مَنْ لَهُ دَارٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فَبَاعَ أَخُوهُ جَمِيعَهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيهَا وَلَهُ سُلْطَانٌ، وَقُدْرَةٌ، وَخَافَ ضَرَرَهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَاسْتَرْعَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنِ الْكَلاَمِ فِي نَصِيبِهِ وَفِي الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ تَحَامُلِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، وَإِضْرَارِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ. فَإِذَا ذَهَبَتِ التَّقِيَّةُ، وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ بِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ أَثْبَتَهَا، وَأَثْبَتَ الْمِلْكَ، وَالاِشْتِرَاكَ، وَأَعْذَرَ إِلَى أَخِيهِ وَإِلَى الْمُشْتَرِي، قُضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ وَبِالشُّفْعَةِ
مَا يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِيهِ:
قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّطَوُّعِ: كَالطَّلاَقِ، وَالتَّحْبِيسِ وَالْهِبَةِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ السَّبَبُ إِلاَّ بِقَوْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ أَنِّي إِنْ طَلَّقْتُ فَإِنِّي أُطَلِّقُ خَوْفًا مِنْ أَمْرٍ أَتَوَقَّعُهُ مِنْ جِهَةِ كَذَا، أَوْ حَلَفَ بِالطَّلاَقِ وَكَانَ أَشْهَدَ أَنِّي إِنْ حَلَفْتُ بِالطَّلاَقِ فَإِنَّمَا هُوَ لأَِجْلِ إِكْرَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ وَالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ. وَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي الْبُيُوعِ مِثْلَ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ وَأَنَّ بَيْعَهُ لأَِمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ؛ لأَِنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلاَفُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ. وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا، وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ إِلاَّ أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ الإِْكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الإِْخَافَةَ فَيَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ إِذَا انْعَقَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ وَتَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ الإِْخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ.
الاِخْتِلاَفُ فِي الشَّهَادَةِ:
الشَّهَادَةُ إِذَا وَافَقَتِ الدَّعْوَى قُبِلَتْ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ؛ لأَِنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا.
وَيَنْبَغِي اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِتَكْمُلَ الشَّهَادَةُ.
فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا، وَشَهِدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا: فَلاَ تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ.
وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِلَى أَنَّ الاِتِّفَاقَ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ.
فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالآْخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلِ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ، لأَِنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلاَفِ الْمَعْنَى لأَِنَّهُ يُسْتَفَادُ بِاللَّفْظِ، وَهَذَا لأَِنَّ الأَْلْفَ لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الأَْلْفَيْنِ، بَلْ هُمَا جُمْلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَحَصَلَ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَصَارَ كَمَا إِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالِ.
وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الأَْلْفِ إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الأَْلْفَيْنِ.
وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الأَْلْفِ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَصَارَ كَالأَْلْفِ وَالأَْلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ.
أَمَّا إِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالآْخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ: قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الأَْلْفِ عِنْدَ الْجَمِيعِ حَتَّى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاِتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى؛ لأَِنَّ الأَْلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الأَْوَّلَ.
وَمَتَى كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ فَاخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي زَمَنِهِ، أَوْ مَكَانِهِ، أَوْ صِفَةٍ لَهُ تَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْفِعْلَيْنِ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا.
مِثْلَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ بِدِمَشْقَ، وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ بِمِصْرَ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا أَبْيَضَ وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا أَسْوَدَ: فَلاَ تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ؛ لأَِنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ شَاهِدَانِ.
تَعَارُضُ الشَّهَادَاتِ:
قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ مُدَّعِيًا وَيُقِيمُ عَلَى دَعْوَاهُ بَيِّنَةً (شَهَادَةً) كَامِلَةً، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ أَوْ فِي مِلْكٍ مُقَيَّدٍ بِذِكْرِ سَبَبِ التَّمَلُّكِ.
فَإِنْ كَانَتَا فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ، لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَبَبُ التَّمَلُّكِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الدَّعْوَى تَارِيخًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا أَوْ فِي يَدِهِمَا مَعًا.
أ - فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا: فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَلأَِنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو الْيَدِ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَجَعَلَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْخَارِجُ، فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَتُرَدُّ بَيِّنَةُ الْيَدِ؛ وَلأَِنَّهَا أَكْثَرُ إِثْبَاتًا، لأَِنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْخَارِجِ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لاَ تُثْبِتُهُ، لأَِنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ بِالْيَدِ، وَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ إِثْبَاتًا كَانَتْ أَقْوَى.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَرْجِيحِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ؛ لأَِنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ، فَتَبْقَى الْيَدُ دَلِيلاً عَلَى الْمِلْكِ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ نَتْجُهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ.
ب - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ: إِنْ: لَمْ يُؤَرِّخَا وَقْتًا: قُضِيَ بِالشَّيْءِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ، وَكَذَا إِذَا أَرَّخَا وَقْتًا بِعَيْنِهِ. وَإِذَا أُرِّخَتْ إِحْدَاهُمَا تَارِيخًا أَسْبَقَ مِنَ الثَّانِيَةِ: فَالأَْسْبَقُ أَوْلَى، لأَِنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ خَارِجَيْنِ، لِوُجُودِهَا عِنْدَ غَيْرِهِمَا، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِمَا وَصْفُ (الْمُدَّعِي) فَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُمَا، وَيُحْكَمُ لِلأَْسْبَقِ؛ لأَِنَّ الأَْسْبَقَ يُثْبِتُ الْمِلْكِيَّةَ فِي وَقْتٍ لاَ يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِنْ تَعَذَّرَ تَرْجِيحُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِوَجْهٍ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ، وَالْحَالُ؛ أَنَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا: سَقَطَتَا؛ لِتَعَارُضِهِمَا، وَبَقِيَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِيَدِ حَائِزِهِ. وَفِي ذَلِكَ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَيْنًا وَهِيَ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَهُوَ مُنْكِرٌ وَلَمْ يَنْسِبْهَا لأَِحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، وَكَانَتَا مُطَلَّقَتِي التَّارِيخِ أَوْ مُتَّفِقَتَيْهِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً وَالأُْخْرَى مُؤَرَّخَةً: سَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ، لِتَنَاقُضِ مُوجِبِيهِمَا وَلاَ مُرَجِّحَ، وَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَمِينًا.
وَفِي قَوْلٍ: تُسْتَعْمَلُ الْبَيِّنَتَانِ، وَتُنْزَعُ الْعَيْنُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ، وَعَلَى هَذَا تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ مُنَاصَفَةً فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُرَجَّحُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: تُوقَفُ حَتَّى يَبِينَ الأَْمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَنْكَرَ الثَّالِثُ دَعْوَى الْمُدَّعِيَيْنِ، فَقَالَ: لَيْسَتْ لَهُمَا وَلاَ لأَِحَدِهِمَا: أُقْرِعَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ: حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بَيِّنَةٌ: تَعَارَضَتَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي عَدَمِ الْيَدِ، فَتَسْقُطَانِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْعَمَلِ بِإِحْدَاهُمَا.
ج - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِمَا مَعًا:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ( ) إِلَى التَّفْصِيلِ:
فَإِنْ لَمْ تُؤَرَّخَا تَارِيخًا، وَكَذَا إِذَا أُرِّخَتَا تَارِيخًا مُعَيَّنًا وَكَانَ تَارِيخُهُمَا سَوَاءً: قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ الآْخَرِ؛ لأَِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا النِّصْفِ خَارِجٌ فَهُوَ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي.
وَإِنْ أُرِّخَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى: قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالتَّارِيخِ لِلاِحْتِمَالِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ لِصَاحِبِ التَّارِيخِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ فِي أَيْدِيهِمَا كَمَا كَانَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ تَسَاقُطُ الْبَيِّنَتَيْنِ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِهَا مِنَ الآْخَرِ، وَقِيلَ: تُجْعَلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ الْقِسْمَةِ، وَلاَ يَجِيءُ الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ، إِذْ لاَ مَعْنَى لَهُ، وَفِي الْقُرْعَةِ وَجْهَانِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ إِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَسَاوَتِ الْبَيِّنَتَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: تَعَارَضَتَا وَتَسَاقَطَتَا؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَنْفِي مَا تُثْبِتُهُ الأُْخْرَى، فَلاَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِمَا، وَلاَ بِإِحْدَاهُمَا فَتَتَسَاقَطَانِ، وَيَصِيرُ الْمُتَنَازِعَانِ كَمَنْ لاَ بَيِّنَةَ لَهُ، فَيَتَحَالَفَانِ، وَيَتَنَاصَفَانِ مَا بِأَيْدِيهِمَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى تَرْجِيحِ إِحْدَاهُمَا بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ فِي الْبَيِّنَةِ الأَْصْلِيَّةِ لاَ الْمُزَكِّيَةِ، وَفِي رَأْيِ بَعْضِهِمْ تُرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ إِذَا أَفَادَتِ الْكَثْرَةُ الْعِلْمَ، بِحَيْثُ تَكُونُ الْكَثْرَةُ جَمْعًا يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ.
وَإِنْ كَانَتَا فِي مِلْكٍ مُقَيَّدٍ بِسَبَبِهِ:
وَذَلِكَ بِأَنْ يُذْكَرَ الْمِلْكُ عَنْ طَرِيقِ الإِْرْثِ مَثَلاً أَوْ عَنْ طَرِيقِ الشِّرَاءِ أَوِ النِّتَاجِ.
فَفِي الإِْرْثِ يُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَسْبَقَ، فَيُقْضَى بِهِ لِلأَْسْبَقِ.
أَمَّا إِذَا كَانَا خَارِجَيْنِ، بِأَنْ كَانَ الشَّيْءُ عِنْدَ غَيْرِهِمَا: فَيُقْسَمُ الشَّيْءُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُقْضَى بِهِ لِلأَْسْبَقِ إِذَا ذَكَرَا تَارِيخًا.
وَفِي الشِّرَاءِ: إِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِهِ وَلاَ تَارِيخَ لَهُمَا، وَكَذَا إِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا سَوَاءٌ، تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا، وَيُتْرَكُ الشَّيْءُ لِلَّذِي فِي يَدِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ: فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ، وَإِذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ يُقْضَى لَهُمَا بِالشَّيْءِ نِصْفَيْنِ.
وَفِي النِّتَاجِ: بِأَنْ يَذْكُرَ أَنَّ هَذِهِ النَّاقَةَ نَتَجَتْ عِنْدَهُ، أَيْ: وَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى إِذَا لَمْ يُؤَرِّخَا، أَوْ أَرَّخَا وَقْتًا وَاحِدًا؛ لأَِنَّ النِّتَاجَ لاَ يَتَكَرَّرُ.
لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي نَاقَةٍ، فَقَالَ. كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نَتَجَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ عِنْدِي. وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ.
أَمَّا مَا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ، كَالْبِنَاءِ، وَالنَّسْجِ، وَالصُّنْعِ، وَالْغَرْسِ: فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى. أَمَّا إِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمَا الْمِلْكَ وَالآْخَرُ النِّتَاجَ: فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لأَِنَّهَا تُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ.
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مَا يَلِي:
أ - إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ الْمِلْكَ بِالاِسْتِقْلاَلِ وَادَّعَى الآْخَرُ الْمِلْكَ بِالاِشْتِرَاكِ فِي مَالٍ، وَالْحَالُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ أَيْ ذُو يَدٍ: فَبَيِّنَةُ الاِسْتِقْلاَلِ أَوْلَى.
ب - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ التَّمْلِيكِ عَلَى بَيِّنَةِ الْعَارِيَّةُ.
ج - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْبَيْعِ عَلَى بَيِّنَةِ الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالإِْجَارَةِ وَتُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الإِْجَارَةِ عَلَى بَيِّنَةِ الرَّهْنِ.
د - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ عَلَى بَيِّنَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ.
هـ - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْعَقْلِ عَلَى بَيِّنَةِ الْجُنُونِ أَوِ الْعَتَهِ.
و - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْحُدُوثِ عَلَى بَيِّنَةِ الْقِدَمِ.
كَثْرَةُ الْعَدَدِ وَقُوَّةُ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ:
إِذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ سِوَى كَثْرَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى بِأَنْ كَانَتِ الأُْولَى عَشَرَةَ شُهُودٍ وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ شَاهِدَيْنِ فَقَطْ، أَوْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَاهُمَا بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ بِأَنْ كَانَتْ أَظْهَرَ زُهْدًا وَأَوْفَرَ تَحَرُّجًا مِنَ الأُْخْرَى.
فَهَلْ تَتَرَجَّحُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى؟.
ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى تَرْجِيحِهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُغَلَّبُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَإِنَّمَا هُمَا سَوَاءٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ.
وَبِقَوْلِهِ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
فَمَنَعَ النَّصُّ مِنَ الاِجْتِهَادِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ وَلأَِنَّهُ لَمَّا جَازَ الاِقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ، وَعَلَى قَبُولِ الْعَدْلِ مَعَ مَنْ هُوَ أَعْدَلُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس والثلاثون ، الصفحة / 8
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ: هُوَ الْعِلْمُ بِمَا يُشْهَدُ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا كَانَ الشُّهُودُ جَمَاعَةً، فَلَوِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ عَنِ التَّحَمُّلِ أَثِمُوا جَمِيعًا، لأِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّاهِدُ وَاحِدًا فَيَتَعَيَّنُ التَّحَمُّلُ فِيهِ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، لأِنَّ التَّحَمُّلَ يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ وَيُخْشَى ضَيَاعُ الْحُقُوقِقَالَ تَعَالَى: (وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الآْيَةُ الأْمْرَيْنِ: التَّحَمُّلَ وَالأْدَاءَ.
وَأَمَّا أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْمُتَحَمِّلِ إِذَا طَلَبَهَا الْمُدَّعِي فَفَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا كَانَ الْمُتَحَمِّلُونَ جَمَاعَةً، فَإِذَا امْتَنَعُوا أَثِمُوا جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِوَإِذَا كَانَ الْمُتَحَمِّلُ وَاحِدًا تَعَيَّنَ الأْدَاءُ فِيهِ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَدَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ قال تعالى : (وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).
وَالتَّفْصِيلُ فِي (شَهَادَةٌ ف 5).

