مذكرة المشروع التمهيدي للمادة 404 الملغاة من القانون المدني والمقابلة للمادة 99 من قانون الإثبات :
1 - استلهم المشروع في نصوص هذه المادة ما ورد من الأحكام في المادة 304 من المشروع الفرنسي الإيطالي المعدلة للمادة 1352 من التقنين الفرنسي ، والمادتين 1957 و 1958 من التقنين الهولندي ، والمادة 1250 من التقنين الإسباني ، والمادتين 1239 و 1240 من التقنين الكندي ، والمادة 453 من التقنين المراکشی . وتتناول هذه النصوص حجية القرائن القانونية وتورد بشأنها قاعدتين ، تتعلق الأولى بمن تقرر القرينة لمصلحته ، وتتعلق الثانية من يحتج عليه بالقرينة.
2 - القاعدة الأولى : ولا يعدو موقف من يتمسك بقرينة عن مجرد الإستناد إلى واقعة قانونية ، يفترض القانون قيامها و يقيل بذلك من تحمل عبء إقامة الدليل عليها . بيد أن هذه الإقالة لا تتناول إلا تلك الواقعة ممثلة في القرينة القانونية ذاتها ، بمعنى أن من واجب من يتمسك بقرينة من القرائن أن يقيم الدليل على إجتماع الشروط التي يتطلبها القانون لقيامها .
3 - القاعدة الثانية : ويفرق الفقه بالنسبة لحجية القرائن القانونية بين القرائن القاطعة أو المطلقة ، وهي التي لا يجوز نقض دلالتها بإثبات العكس، والقرائن البسيطة ، وهي التي يجوز إسقاط دلالتها بإقامة الدليل العكس ، ويفرق الفقه كذلك بين إثبات العكس بالإقرار واليمين وبين إثبات العكس بسائر الطرق القانونية ، كالكتابة والبينة والقرائن وغيرها .
ويراعى أن هذه القاعدة الثانية تقضي وفقاً لنص المادة 542 بأن الأصل في القرينة هو جواز إثبات العكس و الإستثناء هو عدم جواز ذلك . ومؤدى هذا أن المشروع جعل من بساطة القرينة قاعدة عامة و أنزل القرائن القاطعة من هذه القاعدة منزلة الإستثناء .
4- القاعدة العامة : والأصل أن كل قرينة قانونية يجوز نقض دلالتها بإثبات العكس . وقد حرص المشروع على إبراز هذا الأصل ، ولو أن نصوص التقنينات الأجنبية لا تجزم به في عبارة صريحة . بل إن إلتزام ظاهر هذه النصوص يوحي على نقيض ذلك أن الأصل ، في منطقها ، أن تكون القرائن قاطعة وأن البساطة فيها ليست سوى مجرد إستثناء .
بيد أن أمثال تلك النصوص ونظيرها في المشروع الفرنسي الإيطالي ( المادة304) لا تواجه إلا طائفة خاصة من القرائن القانونية ، وهي التي يرتب القانون على قيامها بطلان بعض التصرفات أو نفي حق التقاضي . وقد يكون في حظر نقض دلالة هذه الطائفة الخاصة من القرائن القانونية من طريق إقامة الدليل العكسي ما يفيد أن الأصل ، فيما عدا هذا الحظر الذي خص بالنص ، أن تكون القرائن بسيطة ، وأن يباح إقامة الدليل على خلاف دلالتها . ثم إن المشاهد أن القرائن البسيطة بوجه عام أكثر عدداً من القرائن القاطعة ، وإزاء ذلك تكون بساطة القرينة هي القاعدة . على أن القواعد العامة في الإثبات تنهض لتوجيه هذا الأصل ، ذلك أن الدليل الكتابي يجوز نقضه إما بطريق الطعن بالتزوير وإما بإقامة الدليل العكسي، والقرينة القانونية ليست إلا حجة يقيمها الشارع، فإذا لم يقم الدليل بوجه عام على صحة هذه الحجة ، فهي لا تعدو أن تكون إحتمالاً يصح فيه الخطأ في بعض الأحوال، ولذلك يكون الأصل هو جواز إقامة الدليل العكسي لنفي القرينة ، فيما عدا الأحوال التي ينص فيها القانون صراحة على عدم جواز ذلك والأحوال التي تؤسس فيها القرينة على النظام العام .
5- الإستثناء : على أن المشروع لم يورد ما تضمنت نصوص التقنيات التي تقدمت الإشارة إليها من إستثناءات عرض المشروع الفرنسي الإيطالي لها بشيء من التعديل . فهذه النصوص تفرق في نطاق القرائن بين طوائف ثلاث :
(أ) القرائن القانونية المتعلقة بالنظام العام ، ولا يجوز قبول أي دليل عکسی بشأنها، ولو كان هذا الدليل إقراراً أو يميناً . ومن قبيل هذه القرائن حجية الشيء المقضي به.
(ب) القرائن القانونية التي لا تتعلق بالنظام العام والتي لم ينص القانون صراحة على جواز نقضها بإقامة دلیل مخالف . ولا يقبل إثبات العكس بشأن هذه القرائن إلا بالإقرار أو اليمين .
(جـ) القرائن القانونية غير المتعلقة بالنظام العام التي ينص القانون بشأنها على جواز إقامة الدليل العكسي . وهذه القرائن يجوز نقض دلالتها بجميع طرق الإثبات الكتابة والبيئة والقرائن والإقرار و اليمين .
1 ـ المقرر – فى قضاء محكمة النقض - أن عدم انطباق شروط المادة 917 من القانون المدنى لكون المتصرف إليه غير وارث وإن كان يؤدى إلى عدم جواز إعمال القرينة القانونية المنصوص عليها فى هذه المادة وبالتالى إلى عدم إعفاء الوارث الذى يطعن على التصرف بأنه ستر وصية من إثبات هذا الطعن إلا أن ذلك لا يمنعه من أن يتحمل هو عبء إثبات طعنه هذا وله فى سبيل ذلك أن يثبت احتفاظ المورث بحيازة العين التى تصرف فيها كقرينة قضائية يتوصل بها إلى إثبات مدعاه ، والقاضى بعد ذلك حر فى أن يأخذ بهذه القرينة أو لا يأخذ بها شأنها فى ذلك شأن سائر القرائن القضائية التى تخضع لمطلق تقديره .
(الطعن رقم 11308 لسنة 83 جلسة 2014/08/04)
2 ـ لما كان الثابت من مدونات الحكم المستأنف الذي أيده الحكم المطعون فيه أن قوام الاتهام المسند إلى المطعون ضده هو القرينة القانونية الواردة فى الفقرة الثانية من المادة 121 من القانون رقم 66 لسنة 1963 المضافة بالقانون رقم 75 لسنة 1980 التي افترضت العلم بالتهريب فى حق الحائز للبضائع والسلع الأجنبية بقصد الاتجار إذا لم يقدم المستندات الدالة على سداد الضرائب القانونية المقررة لها – كما هو الحال فى الدعوى الراهنة – وكانت المحكمة الدستورية العليا أصدرت حكمها بتاريخ 2/2/1992 ونشر فى الجريدة الرسمية بتاريخ 20/2/1992 بعدم دستورية المادة 121 من قانون الجمارك سالف الذكر وذلك فيما تضمنته فقرتها الثانية من افتراض العلم بالتهريب إذا لم يقدم من وجدت فى حيازته البضائع بقصد الاتجار المستندات الدالة على أنها قد سددت عنها الضرائب الجمركية المقررة . لما كان ذلك ، وكانت المادة 49 من القانون 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا نصت على أن " أحكام المحكمة فى الدعاوى الدستورية وقرارتها بالتفسير ملزمة لجميع سلطات الدولة والكافة ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص فى قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم ، فإذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقاً بنص جنائي تعتبر الأحكام التي صدرت بالإدانة استناداً إلى ذلك النص كأن لم تكن .... " مما لازمه أن يكون هذا الحكم وهو متعلق بنص جنائي مترتباً عليه بالضرورة إهدار القرينة القانونية على العلم بالتهريب التي قام اتهام المطعون ضده على أساسها ، ومن ثم فإن ما يتمسك به الطاعن بصفته بات لا جدوى منه إذ صار لا ينال من النتيجة التي خلص إليها الحكم بعد صدور حكم المحكمة الدستورية آنف الذكر ؛ لأن الطاعن بصفته لا يدعي أن هناك دليلاً آخر قبل المطعون ضده يثبت فى حقه بأن البضائع المضبوطة فى حوزته مهربة .
(الطعن رقم 15729 لسنة 4 جلسة 2014/07/15 س 65 )
3 ـ لما كان الثابت فى الأوراق وجود السندات المثبتة للأقساط السابقة على القسط الأخير الذى قام المطعون ضده بسداده فى يد الشركة الطاعنة (البائعة) التى طالبته بقيمتها وحكم لها به فى حكم التحكيم رقم 809 لسنة 1990 وأن السداد لم يكن يتم لدى الشركة الطاعنة مباشرة وإنما عن طريق بنك الاسكندرية فرع بنها ، الذى يتولى تحصيل الأقساط بموجب السندات الأذنية المثبتة لها وإضافتها إلى حسابها ، وبالتالى إن القرينة القانونية المستفادة من المادة 40 من القانون رقم 100 لسنة 1957 لا تكون قد توافرت شروطها ، وإذ أخذ الحكم المطعون فيه من تلك القرينة دليلاً على براءة ذمة المطعون ضده ( المشترى ) من باقى الأقساط فإنه يكون معيباً بالفساد فى الاستدلال الذى أدى به إلى الخطأ فى تطبيق القانون .
(الطعن رقم 2477 لسنة 64 جلسة 2003/04/17 س 54 ع 1 ص 645 ق 111)
4 ـ إذ كانت الفقرة الأولى من المادة 37 من قرار رئيس الجمهورية بالقانون 142 لسنة 1964 بنظام السجل العيني قد نصت على أن "يكون للسجل العيني قوة إثبات لصحة البيانات الواردة فيه" وكانت المادة الخامسة من قرار وزير العدل رقم 825 لسنة 1975 الصادر باللائحة التنفيذية للقانون المشار إليه قد نوهت على أن من بين الأعمال التي تباشرها مكاتب السجل العيني مراجعة المحررات التي يقدمها أصحاب الشأن وإثبات مضمونها فى صحائف الوحدات العقارية الخاصة بها والتأشير عليها بما يفيد قيدها فى السجل العيني بحيث ينتهي الأمر فى هذا الشأن إلى إجراء القيد الأول للعقار فى السجل العيني، وكان مفاد ذلك أن هذا القيد له حجية مطلقة فى ثبوت صحة البيانات الواردة فيه فى خصوص ملكية العقار المقيد به اسم صاحبه ولو كان هذا القيد قد تم على خلاف الحقيقة باعتبار أن تلك الحجية هي جوهر نظام السجل العيني والذي لا يتصور وجوده بدونها، وإن كان ذلك إلا أن شرط قيام القرينة القانونية القاطعة المنوه عنها والتي تفيد صحة البيانات العقارية المقيدة بالقيد الأول وعدم جواز إثبات عكسها هو أن تكون بيانات القيد الأول قد استقرت صحتها وتطهرت من عيوبها إما بفوات ميعاد الاعتراض عليها دون طعن فيها من صاحب المصلحة أو بالفصل فى موضوع الاعتراض برفضه بمعرفة اللجنة القضائية المختصة إذا قدم إليها فى الميعاد المقرر بخلاف ذلك لا يكتسب القيد الأول القوة المطلقة المنوه عنها بل يظل الباب مفتوحاً للاعتراض عليه بمعرفة صاحب المصلحة أمام القضاء العادي بعد انتهاء المدة المحددة لعمل اللجنة القضائية دون حسم لموضوع الاعتراض المقدم لها فى الميعاد، وهو الأمر المستفاد من أحكام المواد 21، 22، 23، 24، 39 من قانون السجل العيني سالف الذكر وأحكام الفصلين الأول والثاني من لائحة الإجراءات التي تتبع أمام اللجنة القضائية المبينة فى المادة 21 من القانون الأخير والصادر بها قرار وزير العدل رقم 553 لسنة 1976 والتي تقضي باختصاص اللجنة القضائية المشار إليها بالنظر فى الدعاوى والطلبات التي ترفع إليها خلال المدة القانونية من العمل بالقانون لإجراء تغيير فى بيانات السجل العيني، كما تبين هذه الأحكام الحالات التي يكون فيها حكم اللجنة نهائياً، وتلك التي يجوز فيها الطعن فى الحكم بالاستئناف أمام محكمة الاستئناف الواقع فى دائرتها القسم المساحي، فضلاً عن بيان الإجراءات التي تتبع أمام اللجنة، وأخيراً تلتزم اللجنة بالفصل فى موضوع الدعوى على وجه السرعة ولو فى غيبة أطرافها بعد التحقق من إخطارهم.
(الطعن رقم 1540 لسنة 70 جلسة 2001/06/17 س 52 ع 2 ص 907 ق 179)
5 ـ لما كان البين من الأوراق أن قائد السيارة أداة الحادث قدم للمحاكمة الجنائية وقضى غيابياً فى 11/1/1983 بإدانته وأعلنته النيابة العامة بهذا الحكم بتاريخ 29/12/1984 مخاطباً مع تابعه, وإذ كان الثابت من الشهادة الصادرة من نيابة المنيا المؤرخة 11/9/1986 أن المتهم لم يطعن على الحكم بالاستئناف حتى هذا التاريخ وكانت مواعيد الطعن فيه قد انقضت, ومن ثم فقد صار الحكم المشار إليه نهائياً وباتاً لما كان ما تقدم, وكانت القرينة القانونية الواردة فى المادة 398 من قانون الإجراءات الجنائية والتي تقبل إثبات العكس إنما هي مقررة لمصلحة المتهم المحكوم عليه الذي يكون له إثبات عدم علمه بالإعلان فيظل ميعاد الطعن مفتوحاً حتى تسقط الدعوى الجنائية بمضي المدة, ومن ثم فإنه لا يجوز لغيره سواء كان المسئول عن الحقوق المدنية أو المؤمن على المركبة أداة الحادث التحدي بإثبات ما يدحضها, وكان الحكم قد استخلص من إعلان المتهم مخاطباً مع تابعه ما يفيد تمام الإعلان المعتبر قانوناً ورتب على خلو الأوراق مما يفيد عدم الطعن على الحكم الجنائي بالاستئناف حتى فوات مواعيده أن ذلك الحكم صار باتاً.وخلت الأوراق بدورها مما يفيد تمسك المتهم المحكوم عليه بعدم علمه بالإعلان فإن دفع الطاعنة بعدم قبول الدعوى ( لعدم صيرورة الحكم الجنائي باتاً ) يكون على غير أساس وإذ التزم الحكم المطعون فيه هذا النظر فإنه لا يكون قد اخطأ فى القانون.
(الطعن رقم 859 لسنة 62 جلسة 1998/01/11 س 49 ع 1 ص 94 ق 21)
6 ـ مفاد نص المادة 45 من لائحه المخاذن والمشتريات المصدق عليها من مجلس الوزراء فى 1948/6/6 ان القانون وضع قرينة قانونية مقتضاها اعفاء الجهة الادارية من اثبات خطأ أمين المخزن عند وقوع عجز فى عهدته - التى تسلمها فعلاً - وافترض قيام هذا الخطأ من مجرد ثبوت وقوع ذلك ولا ترتفع هذه القرينة الا اذا ثبت ان العجز نشأ عن اسباب قهرية او ظروف خارجة عن ارادة الموظف لم يكن فى امكانه التحوط لها ولازم ذلك انتفاء قيام هذه القرينة القانونية افتراض الخطأ فى جانب رد العهدة اذا لم تكن قد سلمت اليه بالفعل او كان الجرد الذى اظهر العجز صورياً اذ يكون العجز فى هذه الحالة واقعاً فى عهد ليس فى صاحبها فى الواقع .
(الطعن رقم 6241 لسنة 65 جلسة 1996/10/31 س 47 ع 2 ص 1227 ق 221)
7 ـ إنتفاء شروط القرينة القانونية المنصوص عليها فى المادة 917 من القانون المدنى - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - لا يحول دون إستنباط إضافة التصرف إلى ما بعد الموت من قرائن أخرى قضائية ، و تقدير الأدلة و القرائن هو مما يستقل به قاضى الموضوع .
(الطعن رقم 1258 لسنة 53 جلسة 1987/03/24 س 38 ع 1 ص 433 ق 97)
8 ـ مؤدى نص المادة 18 من قانون التأمينات الإجتماعية الصادر بالقانون رقم 63 لسنة 1964 - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن المقاول وحده هو الملزم بأداء الإشتراكات بالنسبة للعمال الذين إستخدمهم لتنفيذ العمل بإعتباره رب العمل الحقيقى دون صاحب البناء الطرف الآخر فى عقد المقاولة ، و فى حالة عدم قيام الأخير بإخطار الهيئة العامة للتأمينات الإجتماعية بأسم المقاول و عنوانه فى الميعاد المقرر يكون للهيئة مطالبته بالتعويض إن كان له مقتض فلا تقيم واقعة عدم الإخطار هذه قرينة قانونية على أنه هو الذى أقام البناء بعمال تابعين له ما دامت المادة 18 المشار إليها قد إفتقدت الدعامة اللازمة لقيامها ذلك أن القرينة القانونية لا تقوم بغير نص فى القانون .
(الطعن رقم 704 لسنة 45 جلسة 1978/12/23 س 29 ع 2 ص 2008 ق 390)
9 ـ مؤدى المادة 392 من القانون المدنى المطابقة للمادة 12 من قانون الإثبات أنها شرعت قرينة قانونية على أن الصورة الرسمية للمحرر الرسمى - خطية كانت أو فوتوغرافية - تكون حجة بالقدر الذى تكون فيه مطابقة للأصل ما لم ينازع فى ذلك أحد الطرفين ، و لئن كانت مجرد المنازعة تكفى لإسقاط قرينة المطابقة إلا أنه ينبغى أن تكون هذه المنازعة صريحة فى إنعدام هذه المطابقة متسمة بالجدية فى إنكارها و إذ كان البين من مذكرة الطاعن المقدمة لمحكمة الموضوع أنها إقتصرت على القول بأن محاضر البوليس ليست من أدلة الإثبات المدنية فإن ذلك لا ينطوى على منازعة فى مدى التطابق بين صورة المحرر الرسمى و أصله ،, و ليس من شأنه إهدار القرينة القانونية آنفة الذكر ، و يكون الحكم فى مطلق حقه إذ عول على ما ورد بالصورة الرسمية للشكوى من أقوال منسوب صدورها إلى الطاعن .
(الطعن رقم 554 لسنة 44 جلسة 1978/05/24 س 29 ع 1 ص 1315 ق 257)
10 ـ جناية الغش فى عقد التوريد المنصوص عليها فى المادة 116 مكرراً من قانون العقوبات هي جريمة عمدية يشترط لقيامها توافر القصد الجنائي باتجاه إرادة المتعاقد إلى الإخلال بالعقد أو الغش فى تنفيذه مع علمه بذلك، لما كان ذلك، وكان سياق نص المادة السابقة قد خلا من القرينة المنشأة بالتعديل المدخل على المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 بالقانونين الرقيمين 522 سنة 1955 و80 لسنة 1961 التي افترض بها الشارع العلم بالغش إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة، ومن ثم فلا تناقض إذ دان الحكم المطعون فيه الطاعن بجنحة بيع لبن مغشوش مع علمه بذلك أخذاً بالقرينة القانونية المنصوص عليها بالقانونين رقمي 522 سنة 1955 و80 لسنة 1961 باعتبار أنه من المشتغلين بالتجارة وأخفق فى إثبات حسن نيته - ذلك لأن التناقض الذي يعيب الحكم هو ما يقع فى أسبابه بحيث ينفي بعضها ما أثبته البعض الآخر ولا يعرف أي الأمرين قصدته المحكمة ومن ثم فإنه لا يلزم فى توافر أركان جريمة بيع اللبن المغشوش فى حق الطاعن مع علمه بالغش الذي استقاه الحكم من القرينة الواردة بالمادة الثانية من القانون 48 سنة 41 المعدل قيام الجريمة المنصوص عليها فى المادة 116 مكرراً من قانون العقوبات وللمحكمة مطلق الحرية فى تقدير الدليل على حسن نية الطاعن من عدمه ولا تقبل منه المجادلة فى هذا الشأن أمام محكمة النقض إذ هو أمر من أطلاقات محكمة الموضوع - والجدل الموضوعي لا يقبل أمام محكمة النقض.
(الطعن رقم 1054 لسنة 46 جلسة 1977/01/17 س 28 ع 1 ص 119 ق 25)
11 ـ مفاد المادة الأولى من المرسوم بقانون رقم 240 لسنة 1952 ، و نص المادة الأولى من القانون رقم 587 لسنة 1954 ، أن المشرع وضع قاعدة تقضى بأن تتخذ الأرباح المقدرة عن سنة 1947 - ربحاً كانت أم خسارة بالنسبة إلى الممولين الخاضعين لربط الضريبة بطريق التقدير - أساساً لربط الضريبة عليهم فى السنوات من 1948 إلى 1954 ، و هذه القرينة القانونية التى فرضها لا تقبل المناقشة ، سواء من ناحية الممول أو مصلحة الضرائب ، و يترتب على ذلك أنه يتحتم تطبيق قاعدة الربط الحكمى فى جميع الحالات و إن إشتملت السنوات المقيسة على خسائر رأسمالية نتيجة حوادث عامة ، لا يغير من هذا النظر أن الحكومة تطبيقاً للمرسوم بقانون رقم 33 لسنة 1952 و القوانين المكملة له عوضت المنشأة المطعون عليها عن بعض ما لحقها من خسارة نتيجة حوادث 26 يناير سنة 1952 ، ذلك أن المشرع لم ينص فى المرسوم بقانون رقم 240 لسنة 1952 أو القانون رقم 587 لسنة 1954 و قد صدرا فى تاريخ لاحق ، على حكم خاص بالخسائر الرأسمالية التى ترتبت على هذه الحوادث ، مما يتعين معه عدم مخالفة قاعدة الربط الحكمى بالنسبة للخسائر المشار إليها .
(الطعن رقم 358 لسنة 35 جلسة 1973/03/28 س 24 ع 1 ص 521 ق 91)
12 ـ من المقرر أن محكمة الموضوع مكلفة بأن تمحص الواقعة المطروحة أمامها بجميع كيوفها وأوصافها وأن تطبق عليها نصوص القانون تطبيقاً صحيحاً على الوقائع الثابتة فى الدعوى ما دامت لم تخرج عن حدود الواقعة المرفوعة بها أصلاً، ومتى كان الثابت من مدونات الحكم أنه استخلص من الأوراق خلوها من دليل على اتجاه إرادة المطعون ضده للغش فى عقد التوريد ورتب على ذلك استبعاد الاتهام المسند إليه طبقاً لنص المادة 116 مكرر من قانون العقوبات، وأنزل حكم القانون صحيحاً على واقعة الدعوى فدان المطعون ضده بجنحة بيع لبن مغشوش مع علمه بذلك أخذاً بالقرينة القانونية المنصوص عليها بالقانونين 522 لسنة 1955 و80 لسنة 1961 باعتبار أنه من المشتغلين بالتجارة وأخفق فى إثبات حسن نيته، فإن ما تثيره الطاعنة يكون غير سديد.
(الطعن رقم 1298 لسنة 42 جلسة 1973/01/08 س 24 ع 1 ص 61 ق 15)
13 ـ يتعين لإدانة المتهم فى جريمة الغش المؤثمة بالقانون رقم 48 لسنة 1941 أن يثبت أنه كان يعلم بالغش الذي وقع، أما القرينة القانونية المنشأة بالتعديل المدخل على المادة الثانية من هذا القانون بالقانونين الرقيمين 522 لسنة 1955 و80 لسنة 1961 والتي افترض بها الشارع العلم بالغش إذا كان المخالف من المشتغلين بالتجارة فقد رفع بها عبء إثبات العلم عن كاهل النيابة دون أن ينال من قابليتها لإثبات العكس بغير اشتراط نوع معين من الأدلة لدحضها ودون أن يمس الركن المعنوي فى جنحة الغش والذي يلزم توافره حتماً للعقاب.
(الطعن رقم 43 لسنة 38 جلسة 1968/03/18 س 19 ع 1 ص 334 ق 62)
14 ـ أن مؤدى نص المادتين 136 ، 137 من القانون المدنى أن المشرع قد وضع قرينة قانونية يفترض بمقتضاها أن للدين سببا مشروعا وهو لم يذكر هذا السبب فى سند الدين فإن ذكر فإنه يعتبر السبب الحقيقى الذى قبل المدين أن يلتزم من أجله وإن ادعى المدين أن السبب المذكور فى السند غير صحيح أو أنه سبب صورى كان عليه أن يقيم الدليل على ذلك .
(الطعن رقم 8031 لسنة 78 جلسة 2015/06/25)
15 ـ لما كان من المقرر أن من حق محكمة الموضوع أن تستخلص واقعة الدعوى من أدلتها وسائر عناصرها ، إلا أن ذلك مشروط بأن يكون استخلاصها سائغاً ، وأن يكون الدليل الذى تعول عليه مؤدياً إلى ما رتبته عليه من نتائج من غير تعسف فى الاستنتاج ولا تنافر مع حكم العقل والمنطق ، ولما كان مدلول الزراعة المنهى عنها يشمل وضع البذور فى الأرض وما يتخذ نحو البذر من أعمال التعهد المختلفة اللازمة للزرع إلى حين نضجه وقلعه , وكان القانون رقم 182 لسنة 1960 فى شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها المعدل بالقانون رقم 122 لسنة 1989 قد خلا من النص على مسئولية مفترضة بالنسبة لمالك الأرض التى تزرع فيها النباتات الممنوعة , مما مفاده أنه يتعين لعقابه بالتطبيق لأحكام ذلك القانون أن يثبت ارتكابه الفعل المؤثم وهو مباشرة زراعة النبات . وإذ كان الحكم المطعون فيه قد خلص إلى إدانة الطاعنين بجريمة زراعة نبات الحشيش المخدر بقصد الاتجار فى غير الأحوال المصرح بها قانوناً , على سند من أقوال شهود الواقعة من أن الطاعنين هما الحائزان للأرض محل الضبط , وهو ما لا يجزئ عن ضرورة بيان مدى مباشرة الطاعنين زراعة النبات المخدر - على السياق المتقدم - ذلك أن مجرد ملكية أو حيازة الطاعنين للأرض المزروع بها النبات المخدر - بفرض صحتها - لا يدل بذاته على مباشرتهما لزراعة النبات المخدر ، والقول بغير ذلك فيه إنشاء لقرينة قانونية مبناها افتراض حيازة وزراعة المخدر من واقع حيازة أو ملكية الأرض المضبوط عليها أو فيها وهو ما لا يمكن إقراره قانوناً ما دام أن ثبوت الجريمة يجب أن يكون فعلياً لا افتراضياً , ولا يغير من ذلك ما ورد بالتحريات من أن الطاعنين يقومان بزراعة النبات المخدر فى الأرض محل الضبط ، إذ أنه لا يصلح وحده دليلاً يعول عليه فى شأن مباشرتهما زراعة النبات المخدر بتلك الأرض والعلم بحقيقة أمره ، لما هو مقرر أنه ولئن كان الأصل أن للمحكمة أن تعول فى تكوين عقيدتها على التحريات باعتبارها معززة لما ساقته من أدلة طالما أنها كانت مطروحة على بساط البحث إلا أنها لا تصلح وحدها لأن تكون قرينة معينة أو دليلاً أساسياً على ثبوت التهمة, ومن ثم فإن تدليل الحكم المطعون فيه يكون فى نطاق ما سلف غير سائغ وقاصراً عن حمل قضائه .
(الطعن رقم 7060 لسنة 79 جلسة 2011/12/07 ص 203 )
16 ـ من المقرر أن القصد الجنائي فى جريمة حيازة الجوهر المخدر بقصد التعاطي لا يتوافر بمجرد تحقق الحيازة المادية بل يجب أن يقوم الدليل على علم الجاني بأن ما يحوزه هو من الجواهر المخدرة المحظور حيازتها قانوناً ، وإذ كان الطاعن قد دفع بأنه لا يعلم بوجود المخدر بجهاز التسجيل المضبوط وأن آخر سلمه إليه بمحتوياته ، فإنه كان يتعين على الحكم المطعون فيه أن يورد ما يبرر اقتناعه بعلم الطاعن بوجود المخدر بجهاز التسجيل ، أما استناده إلى مجرد ضبط جهاز التسجيل معه وبه طربتين من الحشيش مخبأتين خلف سماعتي الجهاز - دون أن يرد على دفاع الطاعن فى هذا الشأن - فإن فيه إنشاء لقرينة قانونية مبناها افتراض العلم بالجوهر المخدر من واقع حيازته وهو ما لا يمكن إقراره قانوناً ما دام أن القصد الجنائي من أركان الجريمة ويجب أن يكون ثبوته فعلياً لا افتراضياً . لما كان ما تقدم، فإن منعى الطاعن يكون فى محله ، ويتعين نقض الحكم المطعون فيه والإعادة دون حاجة لبحث باقي أوجه الطعن.
(الطعن رقم 83624 لسنة 75 جلسة 2010/12/21 س 61 ص 721 ق 95)
17 ـ من المقرر أن القصد الجنائي فى جريمة جلب وحيازة مواد مخدرة باعتبارها ركناً من أركان الجريمة يجب أن يكون ثبوته فعلياً لا افتراضياً فهو لا يتوافر بمجرد تحقق الحيازة المادية بل يجب أن يقوم الدليل على علم الجاني بأن ما يحوزه هو من الجواهر المخدرة المحظور جلبها وإحرازها قانوناً وإلا كان ذلك إنشاء لقرينة قانونية مبناها افتراض العلم بالجوهر المخدر من واقع حيازته , وهو ما لا يمكن إقراره قانوناً .
(الطعن رقم 10323 لسنة 70 جلسة 2006/04/19 س 57 ص 594 ق 62)
18 ـ التقادم الصرفي الوارد فى المادة 194 من قانون التجارة الصادر بالأمر العالي فى 13 من نوفمبر سنة 1883 - المنطبق على الواقع فى الدعوى - يقوم على قرينة قانونية هي أن المدين أوفى بما تعهد به باعتبار أنه على الملتزمين فى الورقة التجارية الذي توجه إليهم دعوى الصرف ويكون من حقهم التمسك بالتقادم الصرفي تأييد دفاعهم ببراءة ذمتهم بحلف اليمين على أنه لم يكن فى ذمتهم شيء من الدين إذا دعوا للحلف وعلى من يقوم مقامهم أو ورثتهم أن يحلفوا يميناً على أنهم معتقدون حقيقة أنه لم يبق شيء مستحق من الدين، مما لازمه انه يشترط لإعمال هذه القرينة ألا يصدر من أي منهم ما يستخلص منه عدم حصول الوفاء بالدين.
(الطعن رقم 896 لسنة 69 جلسة 2001/06/26 س 52 ع 2 ص 987 ق 192)
القرائن القانونية :
أحياناً تكون الواقعة التي يرتب القانون عليها أثره المطلوب تقريره في الدعوى صعبة الإثبات ، فيتدخل المشرع بالنص على إعتبار هذه الواقعة ثابتة لمجرد إثبات واقعة أخرى . وبهذا يرد الإثبات لا على الواقعة الأصلية المرتبة للأثر القانوني بل على واقعة أخرى أيسر منها في الإثبات . وعندئذ يوجد ما يعرف بالقرينة القانونية . ومثالها ما تنص عليه المادة 587 مدنی من أن «الوفاء بقسط من الأجرة قرينة على الوفاء بالأقساط السابقة على هذا القسط» .
ويلاحظ أن القرينة القانونية لا تنقل بالضرورة عبء الإثبات ، ولكنها تؤدى دائماً إلى إستبدال محله . ولهذا - في المثال السابق - لا يعفى المدين من الإثبات ، ولكنه يلتزم بإثبات الوفاء بقسط الأجرة .
وأساس فكرة القرينة القانونية هو النظر إلى ما يرجح في غالب الأحيان . فقرينة الوفاء السابقة تقوم على أساس أنه في الغالب لا يقبل المؤجر إستيفاء أجرة قبل إستيفاء الأجرة السابقة عليها .
والقرينة القانونية لا توجد إلا بنص القانون . وقد تكون بسيطة أو مطلقة . القرينة البسيطة هي التي يمكن إثبات عكسها بكافة طرق الإثبات الجائزة . ومعنى هذا أنه إذا كانت فكرة القرينة تقوم على ما يرجح في الحالات العادية ، فإن للخصم أن يثبت أنه في ظروف القضية هذا الراجح لم يحدث ، وأن الحقيقة تخالفه . ففي المثال السابق ، يستطيع المؤجر أن يثبت أنه رغم إستيفائه القسط الأخير ، فإنه في الحقيقة لم يستوف ما سبقه من أقساط . ولهذا تنص المادة 587 مدني على قرينة الوفاء بالأقساط السابقة «... حتى يقدم الدليل على عكس ذلك». أما القرينة المطلقة فهي التي لا تقبل إثبات العكس . والأصل أن كل قرينة تعتبر بسيطة ما لم ينص القانون صراحة على خلاف ذلك .
ويلاحظ أن القول بأن القرينة المطلقة هي التي لا تقبل الإثبات العكسي ، ليس معناه أنه لا يمكن دحض هذه القرينة . ذلك أن القرينة ما دامت تعتبر دليل إثبات أي أداة لتكوين إقتناع القاضي ، فإنها بطبيعتها تقبل الإثبات العكسي . ولكن القرينة المطلقة تتميز بأنها لا تقبل الاثبات العكسي إلا بأحد دليلين : إقرار من الخصم الذي تقوم القرينة لصالحه بعكسها ، أو نكوله عن حلف اليمين الحاسمة . وعلة هذا أنه مهما كانت الإعتبارات التي تقوم عليها القرينة القانونية وتجعلها تنفق مع ما يحتمل في الغالب ، فإن هذا الإحتمال مهما كانت قوته لا يمكن أن يلغى الحقيقة الواقعة التي يدل عليها من الإقرار أو اليمين .
فإذا نص القانون على «قرينة قانونية» لا تقبل الإثبات العكسي ، فإننا لا نكون بصدد قرينة بالمعنى الصحيح وإنما يتعلق الأمر بقاعدة قانونية موضوعية . والمثال البارز لهذه القواعد هو حجية الأمر المقضي .(المبسوط في قانون القضاء المدني علماً وعملاً، الدكتور/ فتحي والي، طبعة 2017 دار النهضة العربية، الجزء : الثاني ، الصفحة : 117)
ونستطيع الآن أن نستخلص أهم الفروق ما بين القرائن القضائية والقرائن القانونية فيما يأتي :
( أ ) القرائن القضائية أدلة إيجابية ، أما القرائن القانونية فأدلة سلبية أي أنها تعفي من تقديم الدليل .
( ب ) لما كانت القرائن القضائية يستنبطها القاضي والقرائن القانونية يستنبطها المشرع ، فإنه يترتب علي ذلك أن القرائن القضائية لا يمكن حصرها لأنها تستنبط من ظروف كل قضية ، أما القرائن القانونية فمذكورة علي سبيل الحصر في نصوص التشريع .
( جـ ) القرائن القضائية كلها غير قاطعة ، فهي قابلة دائماً لإثبات العكس ، ويجوز دحضها بجميع الطرق ومنها البينة والقرائن ، أما القرائن القانونية فبعضها يجوز نقضه بإثبات العكس وبعضها قاطع لا يقبل الدليل العكسي .
ركن القرينة القانونية والمهمة التى تقوم بها هذه القرينة :
ركن القرينة القانونية هو نص القانون – القرينة القانونية والقرينة القضائية : قدمنا ، عند الكلام فى القرائن القضائية ، أن للقرينة القضائية عنصرين :
1- واقعة ثابتة يختارها القاضى وتسمى علامة أو أمارة .
2- وعملية إستنباط يقوم بها القاضى ليصل من هذه الواقعة الثابتة إلى الواقعة المراد إثباتها . وقلنا إن هذين العنصرين هما من عمل القاضى : الواقعة الثابتة هو الذى يختارها ، وعملية الإستنباط هو الذى يجريها . وللقاضى سلطة واسعة فى كل ذلك .
أما القرينة القانونية فعلى العكس من ذلك لا عمل فيها للقاضى ، بل أن العمل كله للقانون . فركن القرينة القانونية هو نص القانون وحده . فهو الذى يختار العنصر الأول ، أى الواقعة الثابتة . وهو الذى يجرى عملية الإستنباط فيقول : ما دامت هذه الواقعة قد ثبت ، فإن واقعة أخرى معينة تثبت بثبوتها . مثل ذلك ما تنص عليه المادة 91 من التقنين المدنى من أن وصول التعبير عن الإرادة إلى التعبير عن الإرادة . ويستنبط منها القانون واقعة أخرى ، هى العلم بهذا التعبير ، يعتبرها القانون هى أيضاً ثابتة . وقس على ذلك القرائن القانونية التى أقامها التقنين المدنى فى المادتين 238 و 239 وغيرهما من النصوص .
فعنصر القرينة القانونية إذن هو نص القانون ، ولا شيء غير ذلك . ولا يمكن أن تقوم قرينة قانونية بغير نص من القانون . وإذا وجد النص ، فقامت القرينة القانونية ، فإنه لا يمكن أن يقاس عليها قرينة قانونية أخرى بغير نص ، إعتماداً على المماثلة أو الأولوية . بل لابد من نص خاص أو مجموع من النصوص لكل قرينة قانونية .
ولا سلطة للقاضى فى القرينة القانونية كما قدمنا . ويغلب أن تكون القرينة القانونية فى الأصل قرينة قضائية ، إنتزعها القانون لحسابه ، فنص عليها ، وحدد مداها ، ونظم حجيتها ، ولم يدع للقاضى فيها عملاً . فالحقيقة القضائية هنا هى من عمل القانون وحده ، يفرضها على القاضى وعلى الخصوم . وذلك على خلاف الحقيقة القضائية المستمدة من القرينة القضائية ، فهى من عمل القاضى .
ومن هنا تتبين خطورة القرائن القانونية . فهى ، وإن كانت تقام على فكرة ما هو راجح الوقوع ، يقيمها القانون مقدماً ، ويعممها ، دون أن تكون أمامه الحالة بالذات التى تطبق فيها كما هو الأمر فى القرائن القضائية . ومن ثم تتخلف حالات –تتفاوت قلة وكثرة - لا تستقيم فيها القرينة القانونية .
مهمة القرينة القانونية هى الإعفاء من الإثبات : وتختلف القرينة القضائية عن القرينة القانونية فى أن الأولى تعتبر دليلاً إيجابياً فى الإثبات ، وإن كانت دليلاً غير مباشر . هى أولاً دليل إيجابى : لأن الخصم يتوسل بها إلى إثبات دعواه ، وعليه هو أن يستجمع عناصرها ويلم شتاتها ويتقدم إلى القاضى بإستنباط الواقعة المراد إستخلاصها منها ، والقاضى حر فى مسايرة الخصم ، فقد يسلم بثبوت الواقعة التى هى أساس القرينة وقد لا يسلم ، وقد يقر إستنباط الخصم وقد لا يقر ، ولكنه على كل حال ليس ملزماً أن يستجمع هو بنفسه القرائن وأن يستخلص منها دلالتها ، بل على الخصم يقع عبء تقديم القرينة ، وإن كان للقاضى أن يأخذ من تلقاء نفسه بقرينة فى الدعوى لم يتقدم بها الخصم . والقرينة القضائية ثانياً دليل غير مباشر : لأن الواقعة الثابتة ليست هى نفس الواقعة المراد إثباتها ، بل واقعة أخرى قريبة منها ومتعلقة بها ، بحيث إن ثبوت الواقعة الأولى على هذا النحو المباشر يعتبر إثباتاً للواقعة الثانية على نحو غير مباشر .
أما القرينة القانونية فهى ليست دليلاً للإثبات ، بل هى إعفاء منه . فالخصم الذى تقوم لمصلحته قرينة قانونية يسقط عن كاهله عبء الإثبات ، إذا القانون هو الذى تكفل بإعتبار الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة ، وأعفى الخصم من تقديم الدليل عليها . وتستوى فى ذلك القرينة القانونية القاطعة والقرينة القانونية البسيطة ، فسنرى أن القرينة القانونية البسيطة هى أيضاً إعفاء من الإثبات ، وأن جواز إقامة الدليل على عكسها ليس إلا نزولاً على أصل من أصول الإثبات يقضى بجواز نقض الدليل بالدليل .
والقرينة القانونية تعفى من الإثبات فى الدائرة التى رسمها لها القانون ، ولو فى تصرف قانونى تزيد قيمته على عشرة جنيهات ، أى فى دائرة لا تقبل فيها القرينة القضائية .
ولكن يجب على الخصم إثبات الواقعة التى تقوم عليها القرينة القانونية : على أن القرينة القانونية إذا كانت إعفاء من إثبات الواقعة المراد إثباتها ، فهى ليست إعفاء من إثبات الواقعة التى تقوم عليها القرينة ، والتى يعتبر القانون أن إثباتها هو إثبات للواقعة الأولى .
مثل ذلك أن التقنين المدنى ، فى المادة 587 ، يقضى بأن الوفاء بقسط من الأجرة قرينة على الوفاء بالأقساط السابقة على هذا القسط . فالقانون هنا أقام قرينة قانونية على واقعة الوفاء بقسط سابق من الأجرة ، وأقامها على واقعة الوفاء بقسط لاحق . فواقعة الوفاء بقسط سابق هى الواقعة المراد إثباتها ، وقد إعتبرها القانون ثابتة وأعفى المستأجر من إثباتها . وواقعة الوفاء بقسط لاحق هى الواقعة التى تقوم عليها القرينة ، ولم يعف القانون المستأجر من إثباتها ، بل يجب على هذا أن يثبتها وفقاً للقواعد العامة .فإن كان القسط اللاحق لا يزيد على عشرة جنيهات كان للمستأجر أن يثبت الوفاء به جميع الطرق ، وإن زاد على هذا المبلغ لم يجز إثبات الوفاء به إلا بالكتابة .
- فالقرينة القانونية هى نقل الإثبات من محل إلى آخر : ونرى من ذلك أن القرينة القانونية ليست فى الواقع إلا نقلاً للإثبات من محله الأصلى إلى محل آخر . فالواقعة المراد إثباتها –وهى المحل الأصلى - يزحزح القانون عنها الإثبات ، ويحوله إلى واقعة أخرى قريبة منها . فإذا ثبتت هذه الواقعة الأخرى ، إعتبرت الواقعة الأولى ثابتة بحكم القانون .
- الحكمة فى القرائن القانونية : وترجع الحكمة فى النص على القرائن القانونية إلى أمور ، منها ما يتعلق بالمصلحة العامة ، ومنها ما يتعلق بمصالح الأفراد .
أما ما يتعلق بالمصلحة العامة ، فقد يكون ذلك :
1- لتحقيق هذه المصلحة ، كما هو الأمر فى حجية الأمر المقضى . فقد وضع الشارع قرينة قانونية تقضى بأن الحكم صحيح فيما قضى به ، فلا تجوز العودة إلى مناقشته إلا بطريق من طرق الطعن المقررة . ولو لم يفعل الشارع ذلك لأصبحت الأحكام القضائية مقلقلة مزعزعة ، ولما اطمأن المحكوم له إلى حقه الثابت بالحكم ، فوجب وضع هذه القرينة القانونية تحقيقاً لمصلحة عامة . هى إحترام الأحكام ووضع حد للخصومة والنزاع .
2 - لتضييق السبل على من يحاول الإحتيال على القانون . ذلك أن القانون قد يضع أحكاماً يعتبرها من النظام العام ، ويحتاط حتى لا تخالفها الناس فى تعاملها ولو بطريق غير مباشر ، فيضع قرائن قانونية تبطل ضروباً من التعامل تراد بها مخالفة هذه الأحكام . مثل ذلك القاعدة التى تقضى بأن الوصية لا يجوز أن تزيد على ثلث التركة ، قد تحتال الناس على مخالفتها بتسمية الوصية بيعاً أو هبة أو أى تصرف قانونى آخر . فوضع الشارع قرينة قانونية ، فى المادة 916 من التقنين المدنى ، تقضى بأن " كل عمل قانونى يصدر من شخص فى مرض الموت ، ويكون مقصوداً به التبرع ، يعتبر تصرفاً مضافاً إلى ما بعد الموت ، وتسرى عليه أحكام الوصية أياً كانت التسمية التى تعطى لهذا التصرف " . فجعل صدور التبرع فى مرض الموت قرينة على أن التبرع وصية .
وأما ما يتعلق بمصالح الأفراد ، فقد يكون ذلك :
1-لتعذر الإثبات فى بعض الأحوال تعذراً قد يصل على درجة الإستحالة ، فيعمد الشارع إلى وضع قرينة تعفى من هذا العبء . مثل ذلك مسئولية المتبوع عن تابعه ، فهى –كما يقال - مبنية على خطأ مفترض : علاقة التبعية وكون خطأ التابع قد وقع فى حال تأدية وظيفته أو بسببها قد جعلهما الشارع قرينة قانونية على الخطأ الصادر من المتبوع فى الرقابة على أعمال تابعه ، لتعذر إثبات هذا الخطأ فى أكثر الأحوال . ومثل ذلك أيضاً القاعدة التى تقضى بأن الولد للفراش ، فإبن المرأة المتزوجة هو إبن زوجها ، والزوجية قرينة قانونية على بنوة الإبن لأبيه ، لتعذر إثبات البنوة من الأب .
2 - للأخذ بالمألوف المتعارف بين الناس . فإذا جعل الشارع المخالصة بالأجرة عن قسط لاحق قرينة على الوفاء بالقسط السابق ، فذلك لأن المألوف بين الناس فى التعامل هو أن المؤجر لا يعطى المستأجر مخالصة عن قسط لاحق إلا بعد أن يكون قد استوفى جميع الأقساط السابقة .
حجية القرينة القانونية فى الإثبات :
القرينة القانونية القاطعة والقرينة القانونية غير القاطعة : قدمنا أن القرينة القانونية هى إعفاء من الإثبات . فالخصم الذى تقوم القرينة القانونية لصالحه معفى من إثبات الواقعة التى يستخلصها القانون من هذه القرينة . ولكن لما كان الأصل هو أن كل دليل يقبل إثبات العكس ، فالدليل الكتابى يقبل إثبات العكس بدليل كتابى مثله ، والبينة تقبل إثبات العكس بينة مثلها أو بدليل كتابى ، والقرائن القضائية تقبل إثبات العكس بقرائن مثلها أو بينة أو بدليل كتابى ، وذلك كله وفقاً لمبدأ أساسى فى الإثبات هو حرية الدفاع ، فإن هذا يؤدى بنا إلى النتيجة الآتية : كل قرينة قانونية –وقد أثبتت واقعة معينة - تقبل فى الأصل إثبات عكس هذه الواقعة وإذا كان الدليل الكتابى والبينة –وهما يثبتان الواقعة بطريق مباشر - يقبلان إثبات العكس ، فأولى بالقرينة القانونية –وهى تقتصر على الإعفاء من الإثبات - أن تقبل هى الأخرى إثبات العكس .
ويتبين من ذلك أن الأصل فى القرينة القانونية أن تكون غير قاطعة ، أى أنها تقبل إثبات العكس . فإذا هى لم تقبل إثبات العكس ، فذلك هو الإستثناء .
فمتى إذن نعتبر إستثناء أن القرينة قاطعة؟ يقودنا هذا إلى الكلام فى القرينة القاطعة ثم فى القرينة غير القاطعة .
القرينة القانونية القاطعة أو المطلقة :
التقنين المدنى المصرى : وهذا هو عين ما فعله المشرع المصرى فى التقنين المدنى الجديد . إذ نص ، كما رأينا ، فى المادة 404 على أنه " يجوز نقض هذه القرينة أى القرينة القانونية بالدليل العكسى ، ما لم يوجد نص يقضى بغير ذلك " .وقد أخذ بهذا النظر قانون الإثبات الجديد في المادة 99 .
والسياسة التشريعية التى جرى عليها المشرع المصرى فى التقنين المدنى الجديد هى أنه عندما يقف عند قرينة قانونية يريد جعلها قاطعة لا تقبل إثبات العكس ينص على ذلك ، وإن كان النص يأتى بطريق غير مباشر . فثل ذلك فى القرائن القانونية على الخطأ التى تقوم عليها المسئولية عن الحيوان والمسئولية عن الأشياء والمسئولية العقدية ومسئولية المستأجر عن الحريق .
فقد نصت المادة 176 على أن " حارس الحيوان ، ولو لم يكن مالكاً له ، مسئول عما يحدثه الحيوان من ضرر ، ولو ضل الحيوان أو تسرب ، ما لم يثبت الحارس أن وقوع الحادث كان بسبب أجنبى لا يد له فيه " . فأقام المشرع مسئولية حارس الحيوان على قرينة قانونية تفيد خطأ الحارس ، ولم يسمح للحارس أن يزحزح المسئولية عن عاتقه إلا بإثبات السبب الأجنبى . ومقتضى هذا أن الحارس –وقوام مسئوليته الخطأ والضرر وعلاقة السببية فيما بينهما - يستطيع أن ينفى علاقة السببية بإثبات عكسها وهو السبب الأجنبى . ولا يستطيع أن ينفى الخطأ لأن قرينته القانونية غير قابلة لإثبات العكس . وعلى هذا المنوال جرى فى المسئولية عن الأشياء م 178 ، وفى المسئولية العقدية م 215 ، وفى مسئولية المستأجر عن الحريق م 584 .
بل إن التقنين المصرى كثيراً ما ينص على أن قرينة قانونية معينة قابلة لإثبات العكس ، فى غير ضرورة ، إذ هى قابلة لإثبات العكس ولو لم ينص على ذلك ، رجوعاً إلى الأصل كما قدمنا . ولكنه يفعل ذلك منعاً للبس . نص فى الفقرة الثالثة من المادة 173 على أن " يستطيع المكلف بالرقابة أن يخلص من المسئولية إذا أثبت أنه قام بواجب الرقابة ، أو أثبت أن الضرر أن يخلص من المسئولية إذا أثبتت أنه قام بواجب الرقابة ، أو أثبت أن الضرر كان لابد واقعاً ولو قام بهذا الواجب بما ينبغى من العناية " . فأقام مسئولية المكلف بالرقابة على قرينة قانونية تفيد الخطأ ، ولكنه نص على جواز نفى الخطأ بإثبات عكس هذه القرينة ويكفى لذلك أن يثبت المكلف بالرقابة أنه قام بواجبه فى هذا الصدد . ونص فى الفقرة الأولى من المادة 137 على أن " كل إلتزام لم يذكر له سبب فى العقد يفترض أن له سبباً مشروعاً ، ما لم يقم الدليل على غير ذلك " . ونص فى المادة 91 على أن " ينتج التعبير عن الإرادة أثره فى الوقت الذى يتصل فيه بعلم من وجه إليه ، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ، ما لم يقم الدليل على عكس ذلك . وهو بعد أن نص على أن وصول التعبير قرينة على العلم وأن هذه القرينة القانونية قابلة لإثبات العكس ، لم ير حاجة فى أن يعود إلى النص على جواز إثبات العكس ، بعد أن زال كل لبس فى ذلك ، عندما عرض للتعاقد ما بين الغائبين فى المادة 97 ، فنص فى الفقرة الثانية من هذه المادة على أن " يفترض أن الموجب قد علم بالقبول فى المكان وفى الزمان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول " .
وإذا وقفنا عند مسئولية المتبوع عن تابعه ، فرأينا الفقرة الأولى من المادة 174 تنص على أن " يكون المتبوع مسئولاً عن الضرر الذى يحدثه تابعه بعمله غير المشروع ، متى كان واقعاً منه فى حال تأدية وظيفته أو بسببها " ، ولم نر المشرع بنص على عدم جواز إثبات العكس ، فلا نتوهم أننا أمام قرينة قانونية لم ينص المشرع على عدم جواز إثبات عكسها ، فتكون قابلة لإثبات العكس . فسنرى أن مسئولية المتبوع عن التابع إنما هى قاعدة موضوعية ، وليست قائمة على قرينة قانونية ، والأصل فى القواعد الموضوعية أنها لا تقبل إثبات العكس . كذلك التقادم ، مكسباً كان أو مسقطاً ، لا حاجة فيه إلى النص على عدم جواز إثبات العكس ، لأن الأمر فيه أمر قاعدة موضوعية لا أمر قرينة قانونية . وسنعود إلى هذه المسألة ببيان أوفى .
القرينة القانونية القاطعة يجوز دحضها بالإقرار واليمين :
وإذا قلنا أن القرينة القانونية القاطعة لا تقبل إثبات العكس ، فليس معنى ذلك أنها لا تدحض أبداً . ذلك أن عدم القابلية للدحض لا يكون إلا للقواعد الموضوعية على ما سنرى . أما القرائن القانونية ، ولو كانت قاطعة ، فهى قواعد إثبات . وأياً كانت المرتبة التى أرادها المشرع لها فى القطع والحسم . فهى لا تستعصى على أن تدحض بالإقرار واليمين ، ما دام المشرع قد شاء أن يبقيها فى حظيرة قواعد الإثبات ، ولم يرق بها إلى منزلة القواعد الموضوعية . وقد نص على ذلك صراحة التقنين المدنى الفرنسى فى المادة 1352 ، إذ قضى بعدم جواز إثبات ما ينقض القرينة القانونية القاطعة " مع عدم الإخلال بما سيتقرر فى خصوص اليمين والإقرار القضائيين " . وجمهرة الفقهاء فى فرنسا يفسرون هذا النص بأن إثبات عكس القرينة القانونية القاطعة لا يجوز إلا عن طريق الإقرار أو اليمين . وهذا الحكم يسرى أيضاً فى القانون المصرى دون نص صريح ، وقد إنعقد عليه الإجتماع . ذلك أن القرينة القانونية القاطعة لا تزال دليلاً من أدلة الإثبات ، بل لا تعدو أن تكون دليلاً سلبياً إذ تقتصر على الإعفاء من الإثبات كما قدمنا . فإذا نقضها من تقررت لمصلحته بإقراره أو يمينه . فقد دحضها ، ولم يعد هناك محل لإعفائه من إثبات لم يقبل هو أن يعفى نفسه منه .
وينبنى على ذلك أن المسئول مسئولية قائمة على قرينة قانونية قاطعة - كما فى المسئولية عن الحيوان وعن الأشياء والمسئولية العقدية ومسئولية المستأجر عن الحريق - لا يستطيع أن يثبت عكس هذه القرينة كما قدمنا ، ولكنه يستطيع دحضها بإقرار يصدر من خصمه إلى هذا الخصم فينكل .
وقد نصت المادة 378 فقرة أولى من التقنين المدنى على حقوق تتقادم بسنة واحدة ، ثم أضافت الفقرة الثانية من هذه المادة أنه " يجب على من يتمسك بأن الحق قد تقادم بسنة أن يحلف اليمين على أنه أدى الدين فعلاً . . " . وهذا يدل على أن المشرع قد جعل هذا التقادم القصير قائماً على قرينة قانونية قاطعة تفيد الوفاء بالحق ، ومن ثم أجاز دحض هذه القرينة بالنكول عن اليمين ، فيجوز من باب أولى دحضها بالإقرار .
ما لا يجوز دحضه بالإقرار أو اليمين ليس من القرائن القانونية بل هو من القواعد الموضوعية : على أن الفقه الفرنسى يذهب إلى القرينة القانونية القاطعة إذا كانت قائمة على إعتبارات روعيت فيها المصلحة العامة : كحجية الأمر المقضى والتقادم ، فإنه لا يجوز دحضها ، حتى بالإقرار أو اليمين ، لأن هذه الطريقين لا يجوز قبولهما فيما هو معتبر من النظام العام كما قدمنا . فيبقى الحكم قرينة قاطعة على ما قضى به ، حتى لو أقر من صدر الحكم لمصلحته بأنه حكم خاطئ . ويبقى الحق مقضياً أو مكسوباً بالتقادم ، حتى لو أقر من تم التقادم لمصلحته بأن الحق لم يقض أو لم يكسب ، وذلك فيما عدا التقادم المسقط بسنة واحدة الذى تقدم ذكره عند من يراه قائماً على قرينة قانونية .
والصحيح أن القرينة القانونية القاطعة يجوز دائماً دحضها بالإقرار أو اليمين . أما الذى لا يدحض بالإقرار أو اليمين ، كحجية الأمر المقضى والتقادم ، فليس بقرينة قانونية ، بل هو قاعدة موضوعية ، تقوم ، هى أيضاً كالقرينة القانونية ، على فكرة الراجح الغالب الوقوع .
القاعدة الموضوعية والقرينة القانونية : ذلك أنه يجب التمييز فى كثير من العناية بين القاعدة الموضوعية والقرينة القانونية . إذ توجد قواعد موضوعية يبنيها المشرع على الكثرة الغالبة من الأحوال فيقلبها إلى حقائق ثابتة ، مثلها فى ذلك مثل القرائن القانونية . فبلوغ الرشد تتفاوت فيه الناس ، ولا تكون سن الرشد واحدة للجميع ، ولكن المشرع لا يسعه أن يكل تحديد هذه السن –وأهميتها فى التعامل معروفة - إلى الظروف الذاتية لكل إنسان . فوجب أن يجعل بلوغ لجميع الناس عند سن معينة –الحادية والعشرين مثلاً - مراعياً فى ذلك الكثرة الغالبة من الأحوال ، متجاوزاً عن التفاوت ما بين إنسان وآخر ، حتى ينضبط التعامل ويستقر وهذا مثل للقاعدة الموضوعية التى يبنيها المشرع على فكرة الراجح الغالب الوقوع .
أما القرينة القانونية فقد قدمنا أنها قاعدة إثبات لا قاعدة موضوعية .خذ مثلاً القرينة القانونية التى تقضى بأنه الوفاء بقسط الأجرة اللاحق دليل على الوفاء بالقسط السابق . هذه قاعدة وضعها المشرع ، لا فى موضوع الحق وهو الوفاء بالأجرة وما يتصل به من أحكام ، بل فى إثباته أى كيف يثبت المستأجر أنه قام بوفاء الأجرة . وقد راعى المشرع فى وضعها –هنا أيضاً - الكثرة الغالبة من الأحوال ، إذ وجد أن المؤجر لا يعطى عادة مخالصة عن قسط لاحق إلا بعد أن يستوفى الأقساط السابقة ، فجعل من الوفاء بقسط لاحق قرينة قانونية على الوفاء بقسط سابق .
كيف يكون التمييز بين القاعدة الموضوعية والقرينة القانونية : والذى يقارب ما بين القاعدة الموضوعية والقرينة القانونية هو –كما قدمنا - أن كلاً منهما يقوم على الكثرة الغالبة من الأحوال أو على الراجح الغالب الوقوع . ولذلك يقع اللبس بينهما كثيراً . ولكنهما يختلفان فى أمرين جوهريين :
الأمر الأول : أن عامل الراجح الغالب الوقوع يختفى وراء القاعدة القانونية فتستغرقه ، ويكون منها بمثابة العلة من المعلول ، فمتى تقررت القاعدة توارت العلة خلفها ، ولم يعدها بعد ذلك مجال للظهور . أما هذا العامل فى القرينة القانونية فهو نفسه موضوع القرينة ، وإنما قامت القرينة لتقريرها ، فيبقى دائماً بازراً لا يختفى وراءها .
فإذا قلنا إن الإنسان يبلغ رشده فى الحادية والعشرين ، فقد دفع المشرع إلى تقرير هذه القاعدة الموضوعية أن هذا هو الذى يقع فى العادة . ولكن هذا الدافع ، أو هذه العلة ، تختفى وراء القاعدة ، وسواء وقع هذا فعلاً أو لم يقع ، فالإنسان يبلغ رشده –قانوناً - فى الحادية والعشرين ، ولو بلغ – طبيعة - قبل ذلك أو بعد ذلك .
وإذا قلنا إن الوفاء بقسط لاحق دليل على الوفاء بقسط سابق ، فقد راعى المشرع فى ذلك أيضاً أن هذا هو الذى يقع فى العادة ، ولكن هذه العلة لا تختفى وراء القرينة ، بل تبقى بارزة تعمل عملها كما سيأتى .
فالقانون لا يتقدم بالقرينة القانونية إلا مسببة ، أما القاعدة الموضوعية فيتقدم بها مجردة .
والأمر الثانى : يترتب على الأمر الأول . ذلك أن القاعدة الموضوعية لا تجوز معارضتها بالعلة فى تقريرها ، فقد إختفت هذه العلة وإستغرقتها القاعدة . فإذا برز إنسان فى التاسعة عشرة من عمره ، ودل بتفوقه فى الذكاء والعلم أنه أرشد ممن بلغ الحادية والعشرين ، فلا يزال هذا الإنسان قاصراً فى نظر القانون ، مهما بلغت منزلته من التفوق . وإذا وجد ، على العكس من ذلك ، إنسان فى الحادية والعشرين ، وقد بدت عليه علامات القصور العقلى ، فإنه يعتبر بالرغم من ذلك بالغاً سن الرشد ، إلا إذا كان القصور العقلى قد وصل به إلى حد الغفلة أو العته ، فعندئذ يحجر عليه . فالقاعدة الموضوعية قد إستغرقت علتها ، ولم يعد للعلة مجال للعمل .
أما القرينة القانونية فتجوز معارضتها بعلتها ، فإن العلة لم تستغرقها القرينة ، بل بقيت إلى جانبها بارزة . فإذا تقدم المؤجر بدليل يثبت أنه ، بالرغم من إستيفائه للقسط اللاحق ، لم يستوف القسط السابق ، سمع منه ذلك ، وإنهارت قرينة الوفاء بالقسط السابق . ذلك أن القرينة يتقدم بها المشرع مسببة بعلتها كما تقدم القول ، وكون الوفاء بالقسط اللاحق يكون ، فى الكثرة الغالبة من الأحوال ، المؤجر القسط اللاحق دون أن يستوفى القسط السابق . وقد أثبت المؤجر أن حالته هذه تندرج فى القلة من الأحوال لا فى الكثرة ، ففى خصوص هذه الحالة تخلفت القرينة لتخلف علتها ، فلا يعمل بها بعد أن دحضها المؤجر .
على أنه لا يجوز أن يفهم من ذلك أن كل قاعدة موضوعية هى قاعدة إجبارية يتحتم تطبيقها ولا يجوز إستبعادها ، وأن كل قرينة قانونية تقبل الإستبعاد بالدليل العكسى . فإن فى القواعد الموضوعية ما لا يفرضه المشرع فرضاً حتمياً فى كل الأحوال ، بل ينزل فيه أولاً عند إرادة أصحاب الشأن . فإذا قرر المشرع –فى المادة 462 من التقنين المدنى - أن نفقات عقد البيع تكون على المشترى ، فهو قد قرر بذلك قاعدة موضوعية إستغرقت علتها . ولكنه لم يرد إعمال هذه القاعدة إلا عندما لا يكون للمتعاقدين أية إرادة فى هذه المسألة . فإذا لم يكن بينهما إتفاق صريح أو ضمنى أو عرف على أن المصروفات يدفعها غير المشترى ، فالمشترى هو الذى يدفعها ، ما من ذلك بد ، ولا يجوز له أن يرفض دفعها بدعوى أن القاعدة الموضوعية التى تلزمه بها قد تخلفت علتها ، وأن حالته تندرج فى القلة من الأحوال التى لا يدفع فيها المشترى المصروفات ، ما دام لم يتفق مع البائع على ذلك . وهنا نرى أن القاعدة إنما هى قاعدة موضوعية قد إستغرقت علتها . لكن إذا إتفق المشترى مع البائع إتفاقاً صريحاً أو ضمنياً ، أو قام عرف ، على أن البائع هو الذى يدفع المصروفات ، فالمشرع لا يفرض قاعدته على إرادته المتعاقدين ، وتخلى القاعدة مكانها للإتفاق أو العرف . وهنا نرى أن هذه القاعدة الموضوعية ليست قاعدة إجبارية ، بل هى قاعدة تكميلية ، لا تهدر الإرادة لتحل محلها ، بل تملأ الفراغ الذى تتركه .
كذلك ليس صحيحاً أن كل قرينة قانونية تقبل الإستبعاد بالدليل العكسى . فمن القرائن القانونية ما يجعله المشرع قاطعاً لا يجوز أن يستبعد ، حتى يستقيم له غرضه من إستقرار التعامل . مثل ذلك ما فعله عندما إتخذ من التقادم بسنة واحدة قرينة قاطعة على الوفاء بحقوق ذكرها فى المادة 378 من التقنين المدنى . فهنا إتخذ التقادم قرينة على الوفاء بحقوق معينة ، كما اتخذ الوفاء بالقسط اللاحق قرينة على الوفاء بالقسط السابق . إلا أنه جعل القرينة الأولى قاطعة ، ولم يجز إثبات عكسها . وجعل القرينة الثانية ، كما رأينا ، قرينة غير قاطعة ، وأجاز إثبات عكسها . ولكن تبقى القرينة الأولى ، ولو كانت قاطعة ، قاعدة للإثبات ، فتوافق فى ذلك القرائن غير القاطعة ، وتفارق القواعد الموضوعية . فالتقادم بسنة قرينة قاطعة على الوفاء بحق معين ، ولكن هذه القرينة لا تعدو أن تكون طريقاً للإثبات ، أو إعفاء منه على الأصح . ويترتب على ذلك أن الخصم الذى تقررت القرينة القاطعة لمصلحته إذا نزل عنها ، وقال إن الدين باق فى ذمته ، أو نكل عن اليمين التى توجه إليه فى ذلك ، فإن إقراره هذا –الصريح أو الضمنى - يجعل القرينة تنهار ، بالرغم من أنها قاطعة . ومن ثم تكون كل القرائن القاطعة قابلة للدحض بالإقرار أو اليمين كما قدمنا .
الإنتقال من القاعدة الموضوعية إلى القرينة القانونية ومن القرينة القانونية إلى القاعدة الموضوعية رهن بإرادة المشرع : والإنتقال من القاعدة الموضوعية إلى القرينة القانونية ، أو من القرينة القانونية إلى القاعدة الموضوعية ، أمر موكول إلى المشرع . فكل من القاعدة الموضوعية والقرينة القانونية من صنعه . فهو إن شاء جعل ما يقرره من ذلك قاعدة موضوعية ، وإن شاء جعله قرينة قانونية ، وفقاً لما يقدر من الإعتبارات التى تتفاوت فى القوة والضعف فتحمله على المسلك الأول أو على المسلك الثانى . وله كذلك ، إن شاء ، أن يهبط بقاعدة موضوعية إلى قرينة قانونية ، وأن يرتفع بقرينة قانونية إلى قاعدة موضوعية .
وقد هبط المشرع المصرى فعلاً بالتقادم ، وهو فى الأصل قاعدة موضوعية ، إلى أن جعله قرينة قانونية فى حالة من حالاته . فعل ذلك كما قدمنا فى التقادم المسقط لحقوق معينة بسنة واحدة ، إذ أجاز دحض القرينة بالإقرار أو اليمين . ولو إستبقى التقادم هنا قاعدة موضوعية ، كما هو شأن سائر حالات التقادم المسقط كل حالات التقادم المكسب ، لما أجاز ذلك .
وإرتفع المشرع المصرى بقرينة قانونية إلى منزلة القاعدة الموضوعية ، عندما قرر ، فى المادة 948 من التقنين المدنى ، أن الحق فى الأخذ بالشفعة بإنقضاء أربعة أشهر من يوم تسجيل عقد البيع . فقد كان فى وسع المشرع أن يقتصر على جعل إنقضاء هذه المدة قرينة قانونية على أن الشفيع قد علم بالبيع ولم يأخذ بالشفعة فسقط حقه . ولكنه لو جعل القاعدة قرينة قانونية على هذا النحو ، لاقتضى ذلك أن يجيز للشفيع دحض هذه القرينة بإقرار المشترى أو يمينه . فإذا أقر المشترى أن الشفيع لا يعلم بالبيع بالرغم من إنقضاء أربعة أشهر على تسجيله ، أو نكل عن اليمين التى توجه إليه فى ذلك ، فإن القرينة القانونية القاطعة تنهار ، إذ يدحضها الإقرار أو اليمين ، ويستبقى الشفيع حقه فى الأخذ بالشفعة . من أجل ذلك لم ير المشرع أن يختار هذا الطريق . بل إرتفع بهذه القرينة إلى منزلة القاعدة الموضوعية ، فإستعصت بذلك على النقض ، ولم يجز دحضها حتى بالإقرار أو اليمين . وبمجرد أن ينقضى على تسجيل البيع أربعة أشهر دون أن يأخذ الشفيع بالشفعة فقط سقط حقه ، حتى لو أقر المشترى –صراحة ، أو ضمناً بأن نكل عن اليمين - أن الشفيع لم يعلم بالبيع .
والذى يحمل المشرع على الإنتقال بالقاعدة من مرتبة إلى مرتبة أخرى إعتبارات يراها هو ، وتترك إلى محض تقديره كما قدمنا . فقد رأى ، فى التقادم بسنة واحدة ، نظراً لإحتمال أن المدين لم يكن قد وفى بالدين فى هذه المدة القصيرة ، أن يحكم فى ذلك ضميره . فنزل بالقاعدة إلى مرتبة القرينة القانونية القاطعة ، ليجيز دحضها بالإقرار واليمين . وكان يستطيع أن ينزل بها إلى مرتبة أدنى ، فيجعلها قرينة قانونية غير قاطعة يجوز دحضها ، لا بالإقرار واليمين فحسب ، بل أيضاً بجميع الطرق التى قررها القانون ورأى ، فى سقوط الشفعة بأربعة اشهر ، أن الشفعة حق غير مرغوب فيه ، وأراد أن يحسم النزاع فى شأنه ، وأن يجعل سقوطه بهذه المدة أمراً لا يحتمل الجدل . فإرتفع بالقاعدة إلى أن تكون قاعدة موضوعية ، وجعلها بذلك لا تقبل الدحض حتى بالإقرار أو اليمين .
قواعد موضوعية تكيف خطأ بأنها قرائن قانونية : ويتبين من كل ذلك وجوب التمييز ما بين القواعد الموضوعية والقرائن القانونية . فكثيراً ما يقع الخلط بينها : تخلط القاعدة الموضوعية الإجبارية بالقرينة القانونية القاطعة ، وتخلط القاعدة الموضوعية التكميلية بالقرينة القانونية غير القاطعة .
وقد أسئ فهم بعض القواعد الموضوعية ، فكيف خطأ بأنها قرائن قانونية . وجعلت قرائن قاطعة لا يجوز إثبات عكسها . ولما كانت هذه القواعد قواعد إجبارية لا يجوز دحضها حتى بالإقرار واليمين ، مع أن القرائن القاطعة يجوز دائماً دحضها بهذين الطريقين كما قدمنا ، فقد قيل فى تبرير عدم قابليتها للدحض أنها قرائن قانونية قاطعة تتعلق بالنظام العام ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك . والصحيح أنها قواعد موضوعية إجبارية ، لا قرائن قانونية قاطعة ، وهذا وحده هو الذى يبرر أنها لا تدحض حتى بالإقرار واليمين . ومن هذه القواعد –عدا حجية الأمر المقضى والتقادم اللذين تقدم ذكرهما - الحيازة فى المنقول ، والتصرف فى مرض الموت ، ومسئولية المتبوع عن التابع .
فالحيازة فى المنقول قاعدة موضوعية إجبارية ، لا قرينة قانونية . فقد رأى المشرع أن يحمى حائز المنقول حسن النية بسلاح أقوى من سلاح القرينة القانونية ولو كانت قاطعة . ومن ثم أصبح من يحوز المنقول وهو حسن النية ، بفضل هذه القاعدة الموضوعية ، مالكاً له . وأصبحت ملكيته ثابتة مستقرة ، لا يزعزها حتى الإقرار أو اليمين . أراد المشرع أن يستقر التعامل فى المنقول ، وتلك إعتبارات عليا يستقل بتقديرها ، ويملك زمامها ، فيضع من القواعد ما يراه مناسباً لحماية الأوضاع القانونية المختلفة . تارة يكتفى بقرينة قانونية غير قاطعة . وطوراً يجعل القرينة القانونية قاطعة . وأخرى يرتفع عن نطاق القرائن وقواعد الإثبات ، ويرى أن الحماية المناسبة هى قاعدة موضوعية لا تقبل النقض بحال من الأحوال . هذا هو التدرج فى الحماية ، درجة فوق درجة ، يؤتيها المشرع من يشاء كما يشاء ، وهو فى كل ذلك يتوخى أن يكون لكل وضع قانونى الحماية التى تناسبه . وندرك من ذلك الصلة ما بين القرائن القانونية والقواعد الموضوعية ، فليس بينها من حجاب كثيف ، ولكنها مراحل متدرجة فى الحماية : القرينة القانونية غير القاطعة فى المرتبة الدنيا ، ثم القرينة القانونية القاطعة فى مرتبة أعلى ، ثم القاعدة الموضوعية فى القمة من مدارج الحماية .
وكذلك قل عن التصرف الصادر فى مرض الموت إذا قصد به التبرع . وضع له المشرع ، فى الفقرة الأولى من المادة 916 من التقنين المدنى ، قاعدة موضوعية تجعله تصرفاً مضافاً إلى ما بعد الموت . وهى قاعدة لا تقبل النقض ، ولو كان عن طريق الإقرار أو اليمين . والمشرع ليس فى حاجة هنا إلى التصريح بعدم جواز إثبات العكس ، لأنه فى صدد قاعدة موضوعية إجبارية ، لا فى صدد قرينة قانونية قاطعة . أما مجرد صدور التصرف فى مرض الموت ، فقد جعل منه المشرع ، فى الفقرة الثالثة من المادة 916 ، قرينة قانونية غير قاطعة تفيد أن التصرف قصد به التبرع ، ما لم يثبت من صدر له التبرع أن التصرف معاوضة .
ومسئولية المتبوع عن التابع لا تقوم على قرينة قانونية قاطعة بالخطأ كما يذهب الكثيرون ، بل هى مبنية على قاعدة موضوعية . وهذه القاعدة تقضى بأن المتبوع مسئول عن التابع على أساس الضمان أو النيابة أو الحلول . فهى مسئولية عن الغير . بل لعلها هى الحالة الوحيدة فى المسئولية عن الغير . ولم يجد المشرع حاجة ، وهو فى صدد قاعدة موضوعية إجبارية لا قرينة قانونية قاطعة ، أن ينص على عدم جواز إثبات العكس كما فعل عند ما واجه القرائن القانونية القاطعة فى مسئولية حارس الحيوان م 176 مدنى وفى مسئولية حارس الأشياء م 178 مدنى .
والتقادم ، مكسباً كان أو مسقطاً ، عدا التقادم المسقط بسنة واحدة وقد تقدم ذكره ، قاعدة قانونية إجبارية ، لا قرينة قانونية قاطعة . ومن ثم لا يقبل أن يدحض ، حتى بالإقرار واليمين .
وحجية الأمر المقضى لا تستند إلى قرينة قانونية قاطعة . بل هى قاعدة موضوعية ، لا تقبل النقض ، ولو بالإقرار أو اليمين . وقد وضعها التقنين المدنى المصرى –الجديد والقديم - خطأ بين القرائن القانونية ، ونص على عدم جواز نقضها بالدليل العكسى ، فجارى فى ذلك أكثر التقنينات ، ولم يتحرر من هذا الخطأ الشائع .
القرينة القانونية غير القاطعة أو النسبية أو البسيطة :
القرينة القانونية غير القاطعة تعفى من الإثبات كالقرينة القانونية القاطعة : القرينة القانونية غير القاطعة تعفى من تقررت القرينة لمصلحته من الإثبات : تعفيه إعفاء تاماً ولا تقتصر على نقل عبء الإثبات إلى خصمه ، شأنها فى ذلك شأن القرينة القانونية القاطعة .
مثل ذلك : تنص الفقرة الأولى من المادة 137 من التقنين المدنى على أن " كل إلتزام لم يذكر له سبب فى العقد يفترض أن له سبباً مشروعاً ، ما لم يقم الدليل على غير ذلك " . فهنا أعفى القانون الدائن من إثبات أن للإلتزام الذى يطالب به المدين سبباً مشروعاً ، مع أن السبب المشروع ركن فى الإلتزام ، وكان ينبغى أن يقوم الدائن بإثباته . وليس الأمر هنا هو نقل عبء الإثبات على عاتق المدين ، بل إن الدائن –وقد أعفى من الإثبات - يعتبر أنه قدم إثباتاً كاملاً على وجود السبب المشروع . وإذا كان النص يقول : " ما لم يقم دليل على غير ذلك " ، فليس ذلك إلا جرياً على الأصل من أن كل دليل تمكن معارضته بدليل ينقضه . فالخصم إذا قدم دليلاً كتابياً أو بينة على ما يدعيه فإنه يكون قد قدم دليلاً كاملاً ، ولكن هذا لا يمنع خصمه من أن يقدم دليلاً ينقض دليله . فالدليل العكسى فى القرينة غير القاطعة ليس نتيجة لنقل عبء الإثبات إلى الخصم الآخر ، بل هو تطبيق لأصل من أصول الإثبات يقضى بمقارعة الدليل بالدليل . ومن ثم يكون جواز إثبات العكس فى القرينة غير القاطعة هو إستصحاب للأصل ، وعدم جواز ذلك فى القرينة القاطعة هو خروج على الأصل فاقتضى نصاً خاصاً كما قدمنا .
ثم تنص الفقرة الثانية من نفس المادة على أن " يعتبر السبب المذكور فى العقد هو السبب الحقيقى حتى يقوم الدليل على ما يخالف ذلك ، فإذا قام الدليل على صورية السبب ، فعلى من يدعى أن للإلتزام سبباً آخر مشروعاً أن يثبت ما يدعيه " . فهنا أيضاً يعفى القانون الدائن من إثبات أن السبب المذكور فى العقد هو السبب الحقيقى ، وتقوم قرينة قانونية على أن السبب الحقيقى هو السبب المذكور فى العقد . ولما كانت القرينة غير قاطعة ، وجب إلتزام الأصل ، والترخيص للخصم الآخر أن ينقض الدليل المستفاد من هذه القرينة . وقد بين المشرع طريقاً خاصاً لنقض هذا الدليل ، هو أن يثبت المدين أن السبب المذكور فى العقد إنما هو سبب صورى لا حقيقة له . عند ذلك ينهار الدليل المستفاد من القرينة القانونية المتقدمة الذكر ، ولا يصبح السبب المذكور فى العقد هو السبب الحقيقى غير ثابت ، وعلى الدائن ، وهو الذى يدعى الدين فى ذمة مدينه ، أن يثبت أحد أركان هذا الدين وهو وجود السبب المشروع . وقس على ذلك سائر القرائن القانونية غير القاطعة التى نص عليها المشرع .
كيف يكون إثبات العكس فى القرائن القانونية غير القاطعة : لاشك فى أن القرينة القانونية غير القاطعة يمكن إثبات عكسها بدليل ذى قوة مطلقة . فيمكن إثبات العكس بإقرار من تقررت القرينة لمصلحته أو بنكوله عن اليمين ، وإذا كانت القرينة القانونية يمكن دحضها بهذين الطريقين كما قدمنا ، فأولى بالقرينة القانونية غير القاطعة أن تدحض بهما . كذلك يمكن إثبات عكس القرينة غير القاطعة –وفى هذا تختلف عن القرينة القاطعة - بالكتابة أو بمبدأ ثبوت بالكتابة معزز بالبينة أو القرائن القضائية ، وإذا إستحال الحصول على الكتابة أو إستحال تقديمها بعد الحصول عليها جاز الإثبات بالبينة أو بالقرائن القضائية .
ولاشك أيضاً فى أن القرينة القانونية غير القاطعة إذا إستخدمت فى إثبات واقعة مادية أو تصرف قانونى لا تزيد قيمته على عشرة جنيهات ، فإنه يمكن إثبات عكسها بالبينة أو بالقرائن القضائية ، إلى جانب الطرق المتقدمة ، وذلك وفقاً للقواعد العامة فى الإثبات .
ويقتصر الشك على ما إذا كانت القرينة القانونية غير القاطعة قد إستخدمت فى إثبات تصرف قانونى تزيد قيمته على عشرة جنيهات ، فهل يجوز إثبات العكس بالبينة أو بالقرائن القضائية على خلاف ما تقضى به القواعد العامة فى الإثبات ، أو أنه يجب إلتزام هذه القواعد فلا يجوز إثبات العكس إلا بالكتابة أو الإقرار أو اليمين؟ يرى بعض الفقهاء جواز إثبات العكس فى هذه الحالة بالبينة أو القرائن القضائية ، لأن القرينة القانونية لا تعدو أن تكون قرينة كسائر القرائن ، والقرينة تنقض بقرينة مثلها ولو كانت قرينة قانونية ، ومتى أمكن إثبات العكس بالقرينة القضائية جاز الإثبات أيضاً بالبينة . وكنا ممن يقول بهذا الرأى . ولكن متى تقرر أن القرينة القانونية تعفى من الإثبات ، ولو كانت غير قاطعة ، وترتب على ذلك أن من تقررت لمصلحته هذه القرينة يعتبر أنه قدم إثباتاً كاملاً على ما يدعيه ، كما قدمنا ، كانت النتيجة اللازمة أن الخصم الآخر أصبح هو المكلف بالإثبات ، فعليه أن يعارض الدليل بالدليل ، وعليه أن يفعل ذلك وفقا للقواعد العامة فى الإثبات لأن القانون لم ينص على شيء يخالف هذه القواعد فى هذه المسألة . ومن ثم إذا كانت القرينة القانونية غير القاطعة قد إستخدمت فى إثبات تصرف قانونى تزيد قيمته على عشرة جنيهات ، لم يجز إثبات عكسها إلا بالكتابة أو الإقرار أو اليمين . فلو أن المستأجر قدم إثباتاً للوفاء بقسط سابق من الأجرة يزيد على عشرة جنيهات القرينة القانونية المستفادة من وفائه بالقسط اللاحق ، فإنه يجوز للمؤجر أن يثبت أن المستأجر ، بالرغم من أنه وفى بالقسم اللاحق ، لم يقم بوفاء القسط السابق . ولكن لما كان هذا القسط السابق يزيد على عشرة جنيهات ، ولم يكن من الممكن إثبات وفائه بالبينة أو بالقرائن ، كذلك لا يجوز إثبات عدم وفائه إلا بالطريق التى يجوز بها إثبات الوفاء .
بعض القرائن القانونية غير القاطعة لا يجوز إثبات عكسها إلا على نحو خاص : ويوجد فى التقنين المدنى الفرنسى قرائن قانونية غير قاطعة يجوز إثبات عكسها ، ولكن المشرع نص على أن يكون هذا الإثبات على نحو خاص . ويذكر الفقهاء الفرنسيون عادة مثلاً لذلك القرينة التى تقضى بأن الولد للفراش ، وهى القرينة المنصوص عليها فى الفقرة الأولى من المادة 312 من التقنين المدنى الفرنسى . فهذه القرينة لا يجوز إثبات عكسها إلا على النحو الذى قررته المادتان 312 و 313 من التقنين المدنى الفرنسى . ويذكرون أيضاً القرينة التى تقضى بأن الحائط الذى يفصل ما بين بنائين يعد مشتركاً ، وهى القرية المنصوص عليها فى المادة 653 من التقنين المدنى الفرنسى . وهى أيضاً لا يجوز إثبات عكسها إلا بطرق معينة ذكرتها المواد 653و 666 و 670 من هذا التقنين .
ويمكن أن نجد التقنين المدنى المصرى نظائر لهذه القرائن . نذكر من ذلك :
1- ما نصت عليه المادة 239 من أنه " إذا ادعى الدائن إعسار المدين فليس عليه إلا أن ثبت مقدار ما فى ذمته من ديون ، وعلى المدين نفسه أن يثبت أن إذا أثبت أى مقدار من الديون فى ذمة مدينه ، قامت قرينة قانونية على أن هذا المدين معسر ، ولكنها قرينة غير قاطعة أجاز النص إثبات عكسها على نحو خاص ، بأن يثبت المدين أن عنده مالاً يساوى قيمة هذه الديون أو يزيد عليها .
2- ما نصت عليه المادة 963 من أنه " إذا تنازع أشخاص متعددون على حيازة حق واحد إعتبر بصفة مؤقتة أن حائزه هو من له الحيازة المادية ، إلا إذا ظهر أنه قد حصل على هذه الحيازة بطريقة معيبة " . وهذا نص يجعل الحيازة المادية قرينة على الحيازة القانونية ، وهى قرينة غير قاطعة ، جعل القانون الطريق لنقضها هو إثبات عيب في الحصول على الحيازة المادية.
3 -ما نص عليه التقنين المدنى فى مواطن كثيرة مثلاً المادة 176 والمادة 178 والمادة 215 من أن علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر –وتقوم على قرينة غير قاطعة - تنقض بإثبات السبب الأجنبى .
-4 ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 584 من أنه " إذا تعدد المستأجرون لعقار واحد ، كان كل منهم مسئولاً عن الحريق بنسبة الجزء الذى يشغله ، ويتناول ذلك المؤجر إن كان مقيماً فى العقار ، هذا ما لم يثبت أن النار إبتدأ شبوبها فى الجزء الذى يشغله أحد المستأجرين فيكون وحده مسئولاً عن الحريق " . فالمستأجر مسئول عن حريق العين المؤجرة مسئولية قائمة على خطأ عقدى مفروض ، يجوز نفيه بإثبات أنا النار إبتدأ شبوبها فى جزء يشغله أحد المستأجرين الآخرين.(الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور/ عبد الرزاق السنهوري، تنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، الطبعة الثانية 1982 دار النهضة العربية، الجزء الثاني ، المجلد الأول ، الصفحة : 450)
تعريف القرينة القانونية :
القرينة عموماً هي إستنباط الشارع أو القاضي لأمر مجهول من أمر معلوم وهي دليل غير مباشر لأنها لا تؤدي إلى ما يراد إثباته مباشرة بل تؤدي إليه بالواسطة أو الأمر المعلوم والقرائن القانونية من عمل الشارع أي القانون ولذلك سميت قانونية ويرجع تقديره لها إلى عدة أمور أهمها.
أولاً: ما يلاحظه الشارع من أحوال الناس وطبائعهم وعاداتهم في معاملاتهم وما تواضعوا عليه على وجه العموم وذلك مثلاً كدفع قسط من الأجرة فإنه قرينة على دفع القسط السابق طبقاً للمادة 587 من القانون المدني.
ثانياً: مراعاة الشارع للمصلحة العامة كقرينة قوة الشيء المحكوم به.
ثالثاً: مراعاة الشارع لمصلحة خاصة أخذاً بظواهر الأمور وتيسير المعاملة بين الناس أو لتقدير التحقق من أمر أو تقدير إثباته كحيازة المنقول فقد أعتبها الشارع قرينة على الملكية.
رابعاً: خوف الشارع من مخالفة الأحكام التي قررها والإحتيال عليها فمثلاً للوصية أحكام خاصة إلا إذا أجازها الورثة.
والقرينة القانونية تكون عادة من عمل الشارع أصلاً ولكنها قد تكون قرينة قضائية يقلبها الشارع إلى قرينة قانونية إقتناعاً بصحتها مثل التصرف في مرض الموت والوصية، وقد تقوم القرينة القانونية على واقعة حقيقة وأما أن يفترضها الشارع لمصلحة خاصة أو عامة. (في تفصيل ذلك المستشار أحمد نشأت في رسالة الإثبات الطبعة السابعة ص 188 وما بعدها).
والقرينة القانونية لا عمل فيها للقاضي بل أن العمل كله للقانون فركن القرينة القانونية هو نص القانون وحده. فهو الذي يختار العنصر الأول أي الواقعة الثانية وهو الذي يجري عملية الإستنباط فيقول مادامت هذه الورقة قد ثبتت فإن واقعة أخرى معينة تثبت بثبوتها فعنصر القرينة القانونية إذن هو نص القانون ولا شيء غير ذلك ولا يمكن أن تقوم قرينة قانونية بغير نص من القانون ولا شيء غير ذلك ولا يمكن أن تقوم قرينة قانونية بغير نص من القانون وإذا وجد النص فقامت القرينة القانونية فإنه لا يمكن أن يقاس عليها قرينة قانونية أخرى بغیر نص إعتماداً على المماثلة أو الأولوية بل لابد من نص خاص أو مجموع من النصوص لكل قرينة قانونية. ( والدكتور السنهوري في الوسيط الجزء الثاني المجلد الأول ص 779)
جاء بمذكرة المشروع التمهيدي تعليقاً على نص المادة 404 من القانون المدني المقابلة لنص المادة 99 من قانون الإثبات أن المشروع قد استلهم في نصوص هذه المادة ما ورد من أحكام في قوانين بلاد مختلفة عددها وتتناول هذه الخصوص حجية القرائن القانونية وتقرر بشأنها قاعدتين تتعلق الأولى بمن تقرر القرينة لمصلحة وتتعلق الثانية بمن يحتج عليه بالقرينة.
القاعدة الأولى : موقف من يتمسك بقرينة عن مجرد الإستناد إلى واقعة قانونية يفترض القانون قيامها ويقبل بذلك من تحمل عبء إقامة الدليل عليها بيد أن هذه الإقالة لا تتناول إلا تلك الواقعة ممثلة في القرينة القانونية ذاتها بمعنی أن من واجب من يتمسك بقرينة من القرائن أن يقيم الدليل على إجتماع الشروط التي يتطلبها القانون لقيامها.
والقاعدة الثانية : ويفرق الفقه بالنسبة لحجية القرائن القانونية بين القرائن القاطعة أو المطلقة وهي التي لا يجوز نقض دلالتها بإثبات العكس والقرائن البسيطة وهي التي يجوز إسقاط دلالتها بإقامة الدليل العكسي ويفرق الفقه كذلك بين إثبات العكس بالإقرار واليمين وبين إثبات العكس بسائر الطرق القانونية كالكتابة والبينة والقرائن وغيرها ويراعى أن هذه القرينة الثانية تقضي.. بأن الأصل في القرينة هو جواز إثبات العكس والإستثناء هو عدم جواز ذلك ومؤدي هذا أن المشرع جعل من بساطة القرينة قاعدة عامة وأنزل القرائن القاطعة من هذه القاعدة منزلة الإستثناء... ولذلك يكون الأصل هو جواز إقامة الدليل العكسي لنفي القرينة فيما عدا الأحوال التي ينص فيها القانون صراحة على عدم جواز ذلك والأحوال التي تؤسس فيها القرينة من النظام العام ومشروع القانونين الفرنسي والإيطالي يفرق في نطاق القرائن بين طوائف ثلاث :
أ) القرائن القانونية المتعلقة بالنظام العام ولا يجوز قبول أي دليل عكسي بشأنها ولو كان هذا الدليل إقراراً أو يميناً ومن قبيل هذه القرائن حجية الشيء المقضي به.
ب) القرائن القانونية التي لا تتعلق بالنظام العام والتي لم ينص القانون صراحة على جواز نقضها بإقامة دليل مخالف ولا يقبل إثبات العكس بشأن هذه القرائن إلا بالإقرار أو اليمين.
ج) القرائن القانونية غير المتعلقة بالنظام العام التي ينص القانون بشأنها على جواز إقامة الدليل العكسي وهذه القرائن يجوز نقض دلالتها بجميع طرق الإثبات كالكتابة والبينة والقرائن والإقرار واليمين.
4) كما قيل أن القرائن القانونية نوعان قرائن قانونية غير قاطعة أي بسيطة ويجوز إثبات ما يخالفها بكافة طرق الإثبات المقررة قانوناً ولو كان من تعفي القرينة من إثباته عملاً قانونياً يجاوز قيمته عشرين جنيهاً كالوفاء في قرينة براءة ذمة المدعي.
وقرائن قانونية قاطعة وهي أيضاً نوعان أحدهما يتعلق بالنظام العام كقرينة النسب المبينة على قاعدة الولد للفراش وحجية الشيء المحكوم فيه وهذا لا يقبل إثبات العكس والثاني لا يتعلق بالنظام العام كقرينة الحيازة في المنقول سند الملكية وهذا لا يقبل إثبات العكس إلا عن طريق إستجواب من قامت القرينة في صالحه للحصول على إقراره وليس في إباحة إثبات العكس بأحد هذين الأمرين ما يتعارض مع الحكمة التي من أجلها جعلت هذه القرائن قاطعة لأن إقرار الشخص الذي تقررت القرينة لمصلحته أو نكوله عن اليمين يزيد بشكل قاطع على أن الإستنباط الذي قام به المشرع بصفة عامة وبني على أساسه هذه القرينة لا يطابق واقع في هذه الحالة الفردية فلا محل للأخذ به وقد جرى الفقه والقضاء المصري على ذلك. (البيان للأستاذين صلاح حمدي ولبيب حلیم الطبعة الأولى ص 172 وما بعدها) .
ويلاحظ أنه لا تصرف للقاضي في القرائن القانونية ولو إعتقد عدم صحتها لأنها تقررت بنص القانون وهو لا يقول في حكمة أنه حكم بناء على قرينة ذا وإنما بناء على المادة كذا ويكفي لمن كانت القرينة في مصلحته أن يتمسك بالمادة التي نصت عليها ولذلك يصح القول بأن القرائن القانونية ليست وسائل إثبات وإنما تغني عن الإثبات أو تعفي من الإثبات. وإذا تمسك شخص بقرينة قانونية ولو من باب إحتیاط ولم يفصل الحكم في ذلك جاز للخصم المتمسك بها الرجوع إلى ذات المحكمة التي أصدرت الحكم وإنما على من يتمسك بقرينة قانونية أن يثبت الواقعة التي يقيمها عليها ويثبت توافر شروطها القانونية.
( المستشار أحمد نشأت في رسالة الإثبات الطبعة السابعة ص 191).(الشرح والتعليق على قانون الإثبات المدني، المستشار/ مصطفى مجدي هرجه، طبعة 2014، 2015 دار محمود، المجلد : الثاني ، الصفحة : 167)
القرينة هي إستنباط الشارع أو القاضي لأمر مجهول من أمر معلوم ، وهي بذلك دليل غير مباشر لأنها تؤدي إلى ما يراد إثباته مباشرة ، بل تؤدي إليه بالواسطة أو الأمر المعلوم. وهي أقل ضماناً من غيرها لأنها إستنتاجات ، وكثيراً ما تكذب شواهد الأمور وما أكثر خطأ الإنسان في إستنتاجه منها .
ولذلك لم يبح الشارع الإثبات بالقرائن إلا من حيث نص على ذلك نصاً صريحاً في أحوال تبرر ذلك ، أو في الأحوال القليلة الأهمية أو عند الضرورة كما هي الحال في الإثبات بالشهود .
والقرائن نوعان : قرائن قانونية وهي التي يستخلصها المشرع وينص عليها ، وقرائن قضائية وهي التي يستخلصها القاضي من ظروف الدعوي . فالقرائن القانونية هي من عمل الشارع وهي تنقل عبء الإثبات إلي عاتق أو تعفي من الإثبات نهائياً والذي حدا بالمشرع إلي النص علي قرائن يكون لها هذا الأثر هو حرصه علي تحقيق مصلحة عامة أو حماية مصلحة خاصة تقضي ظروف صاحبها أن تكون محل رعاية من جانب القانون ، فقد يكون غرض الشارع من النص علي القرينة هو تحقيق مصلحة عامة، كما هي الحال في القرينة الخاصة بحجية الأمر المقضي ( مادة 101 من هذا القانون ).
ومقتضي هذه القرينة يعتبر الحكم الحائز لحجية الأمر المقضي عنواناً للحقيقة قرينة علي صحة ما فصل فيه ، فلا يجوز قبول دليل بنقض هذه القرينة لأن الصالح العام يقتضي أن تتوافر الثقة في أحكام القضاء ، وأن يوضع حداً للخصومة بشأن موضوع معين ، وقد يكون الغرض من القرينة هو الوقوف في وجه التحايل علي القانون لحماية مصلحة خاصة. مثل ذلك أن المشرع يعتبر التصرف الذي يصدر من شخص في مرض الموت ويكون مقصوداً به التبرع ، في حكم الوصية ، محافظة علي حقوق الورثة كلهم أو بعضهم ( مادة 916 مدني ) ، وقد يري المشرع أن الإثبات يتعذر في بعض الحالات إلي درجة كبيرة فيقيم قرينة تعفي من الإثبات مثل ذلك أن مسئولية المتبوع عن الضرر الذي يحدثه تابعه أساسها الخطأ المفترض في رقابة المتبوع لتابعه وفي توجيهه ، وقد رأي المشرع أن يصعب علي المضرور إثبات هذا الخطأ في أغلب الحالات ، فجعل علاقة التبعية قاطعة علي خطأ المتبوع (م 174 مدني). وقد يستخلص المشرع القرينة من أحوال الناس وطبائعهم وعاداتهم في التعامل . فمثلاً جعل المشرع التأشير علي سند الدين بما يستفاد منه براءة ذمة المدين قرينة علي هذه البراءة ما دام أن السند لم يخرج من حيازة الدائن (م 19 إثبات) لأن المألوف عادة بين الناس أن الدائن لا يؤشر علي سند الدين ، أو يجعل غيره يؤشر بما يفيد براءة ذمة المدين إلا إذا قام المدين بالوفاء . وأساس القرينة القانونية هو واقعة قانونية معينة يشترط القانون أن يثبت قيماها لإنطباق حكم هذه القرينة ، فعلي من يتمسك بقرينة قانونية أن يثبت قيام هذه الواقعة بشروطها القانونية ، فمثلاً يكون علي من يتمسك بقرينة الحيازة في وقت سابق معين مع كونها قائمة حالاً - قرينة علي قيامها في المدة ما بين الزمنین - أن يثبت قيام هذه الحيازة في وقت سابق معين ، وفي الوقت الحالي بشروطها التي يتطلبها القانون ، وإذا تمسك المستأجر بقرينة براءة ذمته من أقساط الأجرة السابقة المنصوص عليها في المادة 587 مدني وجب عليه أن يثبت وفاء القسط الأخير من الأجرة .
ومن ناحية أخرى فإن من يحتج عليه بقرينة قانونية بسيطة لا يلزم بإثبات شيء من الأمور التي إعتبرها المشرع شروطاً لإنطباق تلك القرينة ، إلا أنه متى قدم خصمه دليلاً علي توافر هذه الشروط ، جاز له أن ينازع في توافرها، وأن يدحض هذا الدليل إذا كانت القرينة بسيطة ، أما إذا كانت القرينة قاطعة كحجية الأمر المقضي المنصوص عليها في المادة 101 من قانون الإثبات أو قرينة النسب المثبتة أن الولد للفراش فلا يجوز له دحض هذا الدليل .
ونظراً لأن القرينة القانونية إعفاء إستثنائي من عبء الإثبات الذي تقضي به القواعد العامة ، كان لابد للأخذ بها في كل حالة من وجود نص عليها .
وإذا ثبت قيام الواقعة القانونية أساس القرينة كان علي القاضي أن يأخذ بالقرينة وليس له سلطة تقدير مدى مطابقتها لحقيقة الواقع.
وتوافر الشروط التي يتطلبها القانون لقيام القرينة مسألة قانونية يخضع فيها قاضي الموضوع لرقابة محكمة النقض.
وإذا كان من شان القرينة أنها تنقل عبء الإثبات أو تغني نهائياً عن الإثبات فهي في كلتا الحالتين تورد إستثناء علي القاعدة العامة في الإثبات والإستثناء لا يتوسع في تفسيره ولا يقاس عليه . ومقتضي ذلك أنه لا قرينة قانونية إلا بنص عليه منها لا يتوسع في تفسيره .
وهناك نوعان من القرائن القانونية :
النوع الأول :
قرائن قانونية بسيطة أو غير قاطعة ، وهي التي يجوز نقضها بالدليل العكسي ومن أمثلتها إعتبار التأشير بما يفيد براءة ذمة المدين علي سند لم يخرج من حيازة الدائن قرينة علي هذه البراءة وإعتبار الوفاء بقسط من الأجرة في عقد الإيجار قرينة علي الوفاء بالأقساط السابقة علي هذا القسط (م 587 مدني ) وإعتبار قيام الحيازة في وقت سابق معين مع كونها قائمة حالاً قرينة علي قيامها في المدة ما بين الزمنین .
وقد ذهب رأي في الفقه إلي أن نقض القرينة القانونية البسيطة يجوز بجميع طرق الإثبات حتى لو كانت بصدد تصرف تزيد قيمته علي خمسمائة جنيه ، ويجوز إثبات عكس القرينة بالكتابة والإقرار واليمين وهو ممكن أيضاً بشهادة الشهود والقرائن . ومتى جاز الإثبات بالقرائن جاز الإثبات كذلك بشهادة الشهود غير أن الدكتور السنهوري يري أنه يتعين التقيد في إثبات عكس القرينة القانونية البسيطة بقواعد الإثبات . فإذا كانت قد استخدمت في إثبات تصرف قانوني تزيد قيمته علي خمسمائة جنيه لم يجز إثبات عكسها إلا بالكتابة أو الإقرار أو اليمين ، ويؤيده في هذا الرأي المستشار محمد عبد اللطيف والدكتور سليمان مرقص الذي يوضح أن القرينة القانونية إذ تعفي أحد الخصوم من عبء الإثبات الواقع عليه ، فإن أثرها يقتصر علي هذا الإعفاء ، ولا تمس القواعد المتعلقة بإطلاق الأدلة وتقييدها ، وعلي ذلك يعتبر الخصم الذي تغنيه القرينة القانونية عن إثبات إدعائه بأية طريقة أخري كأنه قد نهض بعبء الإثبات الواقع عليه أصلاً وينتقل عبء الإثبات منه إلى خصمه كما تفرضه القواعد العامة ذاتها ، طالما أن النص الذي أنشأ القرينة القانونية لم يدخل أي تعديل علي حكم تلك القواعد العامة .
ويستطرد المستشار محمد عبد اللطيف بأنه تأسيساً علي ذلك يتعين تطبيق تلك القواعد العامة ذاتها علي طريقة إثبات عكس القرينة القانونية ، فإذا كانت الواقعة التي أغنت القرينة القانونية عن إثباتها مما يجوز إثباته أصلاً بالبينة والقرائن جاز إثبات عكس القرينة القانونية بأحد هذين الطريقين أو بهما معاً، أما إن كانت يجب إثباته بالكتابة أو بما يقوم مقامها من إقرار أو يمين ، كما هو شأن التصرفات المدنية التي تجاوز قيمتها مائة جنيه ، فإنه إذا كان إثبات عكسها يقتضي إثبات عكس القرينة القانونية إلا بالكتابة أو الإقرار أو اليمين ، ما لم يوجد مسوغ من مسوغات الإثبات بالبينة والقرائن فيما يجب أصلاً إثباته بالكتابة أو ما يقوم مقامها، إما إن كان إثبات عكسها يكفي فيه ثبوت واقعة قانونية أو نفي حدوث تصرف قانوني أو إتفاق ، فلا محل لإشتراط الكتابة أو ما يقوم مقامها ، بل يجوز إثبات عكس القرينة القانونية بالقرائن القضائية والبينة ، ويضرب المثل علي الحالة الأولي بما نصت عليه المادة 2/192 من القانون المدني من أنه إذا كان الكفلاء قد إلتزموا بعقود متوالية ، فإن كل واحد منهم يكون مسئولاً عن الدين كله ، إلا إذا كان قد إحتفظ لنفسه بحق التقسيم ، ويقول أن هذه الفقرة قد أنشأت قرينة قانونية علي أن الكفلاء الذين ضمنوا دیناً واحداً بعقود متوالية قد إلتزم كل منهم بالدين كله ، وأجازت لكل منهم إثبات العكس بإقامة الدليل على أنه إحتفظ لنفسه بحق تقسيم الإلتزام بالدين فيما بين الكفلاء جميعاً ، .. ونظراً لأن إدعاءه الإحتفاظ بهذا الحق هو إدعاء بإتفاق في هذا الخصوص أي بتصرف أو عمل قانوني ، فإنه يتعين أن يكون إثباته بالكتابة إذا كانت قيمة الدين تجاوز خمسمائة جنيه ويسوق المثل علي الحالة الثانية بقرينة الوفاء بقسط الأجرة السابقة التي نصت المادة 587 مدني علي قيامها بمجرد ثبوت الوفاء بقسط لاحق، فلأن العكس الواجب إثباته لإدحاضها هو نفي الوفاء بالأجرة السابقة لا حصول تصرف قانوني أو إتفاق ، فإنه يجوز إثباته بكافة الطرق بما فيها البينة والقرائن ، ويطبق المؤلف نفس المبدأ علي القرينة التي نصت عليها المادة 137 مدني التي تقضي بأن كل إلتزام لم يذكر له سبب في العقد يفترض أن له سبباً مشروعاً ما لم يقم الدليل علي غير ذلك ، ونظراً لأن إثبات عكسها يتطلب إثبات عدم مشروعية سبب الإلتزام ، وهو ما تجيز القواعد العامة إثباته بكافة الطرق ، وبالتالي يجوز إثباته بالبينة والقرائن ( مؤلفه في أصول الإثبات وإجراءاته في المسائل المدنية ، الطبعة الرابعة لسنة 1991 ، المجلد الثاني ص 130 وما بعدها ) ، ونحن نؤيد هذا الرأي لأنه يتفق مع القواعد القانونية الصحيحة .
وجدير بالذكر إن إثبات عكس القرينة القانونية يجب أن يقتصر علي عدم مطابقتها للواقع في القضية المعينة التي يتمسك فيها أحد الخصوم بتلك القرينة ، ولا يجوز بأي حال مناقشة صحتها بوجه عام ، أي إثبات خطأ الإستنباط الذي بناها المشرع عليه .
ولا جدال في أنه إذا كانت القرينة القانونية مقررة لإثبات واقعة مادية ، أو كانت قد إستخدمت لإثبات تصرف قانوني لا تزيد قيمته علي خمسمائة جنيه ، فإنه يجوز إثبات عكسها بالبينة والقرائن القضائية كما سبق القول .
غير أن هناك بعض القرائن القانونية غير القاطعة لا يجوز إثبات عكسها إلا في حالة محدودة بذاتها أو بوسيلة معينة بالذات ومن أمثلتها القرينة المنصوص عليها في المادة 176 مدني التي تقضي بإعتبار حارس الحيوان مسئولاً عما يحدث الحيوان من ضرر ، فهذه القرينة مقررة لمصلحة المضرور فلا يستطيع الحارس نقض الدلالة المستفادة من هذه القرينة إلا في حالة محدودة ، وهي أن يثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي لا يد له فيه.
وحينما صدر قانون الأحوال الشخصية رقم 44 لسنة 1979 نصت المادة 6 مكرر منه علي أن يعتبر إضراراً بالزوجة إقتران زوجها بأخرى بغير رضاها ولو لم تكن قد إشترطت عليه في عقد الزواج عدم الزواج عليها ، ومؤدي هذه المادة أنها كانت تقيم قرينة بسيطة حاصلها أن مجرد إقتران الزوج بأخرى فيه إضرار بالزوجة التي في عصمته وهذه القرينة كانت تلقي علي الزواج عبء إثبات أن زواجه بأخرى كان برضاء زوجته الصريح أو الضمني ، فإذا لم يثبت ذلك قضي للزوجة بالطلاق دون أن تكون مكلفة بإثبات علمها بالزواج الجديد إلا أن هذا القانون قد حل محله القانون 100 لسنة 1985، وقد ألغي هذه القرينة علي عاتق الزوجة إثبات الضرر الذي أصابه من الزواج الآخر.
مزيد من الأمثلة علي القرائن البسيطة :
المادة 299 مدني التي تفترض أن المدينين المتضامنين جميعهم ذوو مصلحة في الدين وكل منهم ملزم بتحمل نصيبه منه إلا إذا أثبتوا أن أحدهم هو وحده صاحب المصلحة في الدين ، فيلزم حينئذ صاحب المصلحة بتحمل كل الدين نحو الباقين .
المادة 817 مدني التي تنص على أن الحائط الذي يكون وقت إنشائه فاصلاً بين بناءين يعد مشتركاً حتى مغرقهما ، ما لم يقم دليل على العكس .
المادة 917 مدني التي تعفي من يطعن في تصرف المورث بإنطوائه علي وصيته من عبء إثبات هذا الطعن.
المادتان 924 ، 925 مدني اللتان تفرضان فيمن بني في ملك غيره حسن النية ، وتوجبان علي صاحب الأرض أن يثبت سوء نية الباني.
المادة 951 /2 مدني التي تقضي بأنه عند الشك يفترض أن مباشر الحيازة إنما يجوز لنفسه ، فإن كان إستمرار الحيازة سابقة إفترض أن هذا الإستمرار هو لحساب البادئ بها .
المادة 964 مدني التي تنص على أن من كان حائزاً للحق إعتبر صاحبه حتى يقوم الدليل على العكس .
المادة 3/965 مدني التي تنص علي أن حسن النية الذي يجب أن تقترن به الحيازة يفترض دائماً ما لم يقم الدليل علي العكس.
المادة 971 مدني التي تنص على أنه إذا ثبت قيام الحيازة في وقت سابق معين وكانت قائمة حالاً ، فإن ذلك يكون قرينة على قيامها في المدة ما بين الزمنين ، ما لم يقم الدليل على العكس .
- المادة 2/976 مدني التي تجعل الحيازة في ذاتها قرينة علي وجود السبب الصحيح وحسن النية ما لم يقم الدليل علي العكس .
المادة 11 من قانون الإثبات التي تفترض أن ما دون في الورقة الرسمية من أمور قام بها محررها في حدود مهمته ، أو وقعت من ذوي الشأن في حضوره مطابق للواقع ما لم يتبين بالطرق المقررة قانوناً .
المادة 1/16 من قانون الإثبات التي تعتبر البرقية مطابقة لأصلها حتى يقوم الدليل علي عكس ذلك .
المادة 1/15 من قانون الإثبات وما يستفاد منها بطريق مفهوم المخالفة من إفتراض الصدق في محتويات الورقة العرفية - عدا تاريخها - ما لم يثبت عکسها بكتابة أخري وفقاً للمادة 61.
النوع الثاني من القرائن :
قرائن قانونية قاطعة وهي التي لا يجوز نقض دلالتها بإثبات العكس ومنها القرينة المتعلقة بحجية الأمر المقضي (م 101 إثبات) ، وقرينة خطأ المتبوع في رقابة تابعه (م 174 مدني) ، علي أنه فيما يتعلق بعدم جواز إسقاط القرينة القاطعة بالدليل العكسي يجب التفرقة بين نوعين من القرائن القاطعة ، أولهما : قرائن تتعلق بالنظام العام لأنها وضعت لحماية مصلحة عامة وهذه لا يجوز نقضها بأي دليل عكسي ولو كان هذا الدليل إقراراً أو يميناً ، ومثلها قرينة حجية الأمر المقضي وقرينة النسب المبنية على أن الولد للفراش ، وثانيهما : قرائن ليست وثيقة الصلة بالنظام العام لأنها وضعت لحماية مصلحة خاصة ، وهذه لا يقبل إثبات عكسها إلا بالإقرار أو اليمين ، ومثلها إعتبار حيازة المنقول بسبب صحيح وحسن نية قرينة على ملكية الحائز لها ، فهذه قرينة قاطعة ولكن إذا أقر الحائز بأنه غير مالك أو نكل عن يمين وجهت إليه في هذا الشأن سقطت قرينة الملكية لأن هذه القرينة قد أقامها الشارع لحماية مصلحة خاصة ، فإذا أقر صاحب المصلحة صراحة أو ضمناً بعدم مطابقة هذه القرينة لحقيقة الواقع إنتفت القرينة ، وبذلك يكون تحريم إثبات العكس في هذا النوع من القرائن القاطعة قاصراً علي الإثبات بالطرق العادية وهي الكتابة والبينة والقرائن القضائية.
هذا وبيان ما إذا كانت القرينة القانونية بسيطة أو قاطعة مسألة قانون تخضع لرقابة محكمة النقض ، وكذلك الحكم فيما يتعلق بجواز نقض القرينة القاطعة بالإقرار واليمين أو عدم جوازه .
والقاعدة هي جواز نقض القرينة القانونية بالدليل العكسي وهذا ظاهر من نص هذه المادة الذي جعل الأصل هو جواز نقض القرينة بالدليل العكسي ، والإستثناء هو عدم جواز ذلك فإذا لم ينص القانون إثبات عكس القرينة ، فإنه يجوز إثبات عكسها عملاً بالأصل العام .
هذا ويري الدكتور السنهوري أن ما لا يجوز دحضه بالإقرار واليمين ليس من القرائن القانونية بل هو من القواعد الموضوعية .
(راجع في كل ما تقدم الوسيط السنهوري ، الجزء الثاني ، الطبعة الثانية ص 773 وما بعدها والوجيز لنفس المؤلف ص 712 ، ورسالة الإثبات لنشأت ، الجزء الثاني ، الطبعة الخامسة ص67 والإثبات في المواد المدنية لعبد المنعم الصدة ص 135 والوافي في الإثبات في المواد المدنية للدكتور سليمان مرقص ، الطبعة الرابعة ، المجلد الثاني ص 84 وما بعدها ، وقانون الإثبات لمحمد عبد اللطيف ، الجزء الثاني ص125 ).
مزيد من الأمثلة على القرائن القاطعة :
1- المادة 968 من القانون المدني التي تقرر کسب الملكية بالتقادم الطويل .
2 - القواعد الموضوعية المبينة في القانون المدني التي تجعل سن التمييز سبع سنوات أو سن الرشد إحدي و عشرين سنة أو سن البلوغ الطبيعي خمس عشرة سنة .
3 - المادة 96 من القانون المدني التي تقضي بأنه إذا إقترن القبول بما يزيد في الإيجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه ، إعتبر رفضاً يتضمن إيجاباً جديداً .
4- المادة 111 مدني التي تنص على أنه إذا كان الصبي مميزاً كانت تصرفاته المالية صحيحة متى كانت نافعة محضاً وباطلة متى كانت ضارة ضرراً محضاً المادة 114 / 1 مدني التي تقضي بأن يقع باطلاً تصرف المجنون أو المعتوه إذا صدر التصرف بعد تسجيل قرار الحجر .
المادة 374 مدني التي تنص علي تقادم الإلتزامات بوجه عام بإنقضاء خمس عشرة سنة.
المادة 375 مدني التي تنص علي تقادم الإلتزامات الدورية المتجددة بإنقضاء خمس سنوات .
المادة 968 مدني التي تقرر کسب الملكية بالتقادم الطويل .
المادة 1/976 من القانون المدني التي تقرر کسب ملكية المنقول بمجرد الحيازة مع السبب الصحيح وحسن النية.
المادة 188 من الدستور التي تنص على جواز الإعتذار بالجهل بالقانون.
المادة 214 من قانون المرافعات التي تنص على جواز إعلان الطعن إلي المطعون عليه في محله المختار المبين في ورقة إعلان الحكم لما تعيينه هذا المحل من قيام قرينة قانونية - حسبما قررته محكمة النقض علي قبول إعلانه بالطعن فيه .(التعليق على قانون الإثبات، المستشار/ عز الدين الديناصوري، والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات الأستاذ/ خيري راضي المحامي، الناشر/ دار الكتب والدراسات العربية، الجزء الثاني ، الصفحة : 810)
تعريف القرينة :
القرينة هي إستنباط الشارع أو القاضي الأمر مجهول من أمر معلوم، فهي تستنبط من موضوع الدعوى وظروفها، فهي دليل غير مباشر لأنها لا تؤدى إلى ما يراد إثباته مباشرة - كحالة ما إذا شهد شاهد بأنه رأى زيداً قد دفع ما عليه من الدين أو كما إذا قدم زيد مخالصة من دائنه، وإنما يرد الإثبات على واقعة أخرى إذا ثبتت أمكن أن يستخلص منها ثبوت الواقعة المراد إثباتها. ومثال ذلك القرينة المنصوص عليها بالمادة 19 من قانون الإثبات التي تقضي بأن التأشير على سند الدين بما يفيد براءة ذمة المدين ولو لم يكن موقعاً من الدائن - وهذا هو الأمر المعلوم - يؤدى إلى إستنتاج براءة ذمة المدين - وهو الأمر المجهول لعدم توقيع التأشير أو عدم إعطاء المدين مخالصة موقعه.
وللقرينة عنصران :
أولهما: عنصر مادي وهو واقعة ثابتة يختارها القاضي من بين وقائع الدعوى، وتسمى هذه الواقعة بالدلائل أو الأمارات.
وثانيهما: عنصر معنوي وهو إستنباط الواقعة المراد إثباتها من الواقعة الثابتة التي إختارها للتدليل على الواقعة التي يراد إثباتها فيتخذ من الواقعة المعلومة قرينة على الواقعة المجهولة .
والقرائن على العموم - ما عدا القرائن القانونية القاطعة - أقل ضماناً من غيرها لأنها إستنتاجات، وكثيراً ما تكذب ظواهر الأمور، وما أكثر خطأ الإنسان من إستنتاجاته. ولذلك لم يبح الشارع الإثبات بالقرائن إلا حيث نص على ذلك نصاً صريحاً فی أحوال تبرر ذلك، إما في الأحوال قليلة الأهمية أو عند الضرورة كما هي الحال في الإثبات بالشهود. ولذلك يجوز إثبات ما يخالفها بجميع طرق الإثبات بما في ذلك شهادة الشهود والقرائن .
نوعا القرائن:
القرائن نوعان: قرائن قانونية وقرائن قضائية أو موضوعية.
فالقرائن القانونية هي التي نص عليها القانون بنص صريح، ولذلك سميت قانونية، وهي إستنباط الشارع.
أما القرائن القضائية أو الموضوعية، فهي التي يستنتجها القاضي من موضوع الدعوى وظروفها، وسميت قضائية لأنها من إستنباط القاضي، وسميت أيضاً موضوعية لأنها تستنبط من موضوع الدعوى أو ظروفها.
القرائن القانونية :
القرائن القانونية - كما ذكرنا سلفاً - من عمل الشارع أي القانون، ولذلك سميت قانونية.
ويرجع تقدير المشرع القرينة القانونية إلى عدة أمور :
أولاً : ما يلاحظه الشارع من أحوال الناس وطبائعهم وعاداتهم في معاملاتهم وما تواضعوا عليه على وجه العموم، فمثلاً من طبيعة الإنسان وعاداته ألا يؤشر أو يترك غيره يؤشر علی سند تنين بما يفيد براءة ذمة المدين إلا إذا كان المدين قد وفي دينه، فيعتبر ذلك التأشير قرينة على الوفاء، إلا إذا أثبت الدائن العكس. وكذلك من طبيعة الإنسان وعادته ألا يترك سند مديونيته للمدين إلا إذا أخذ دينه، فإذا ما وجد سند الدين تحت يد المدين كان ذلك - تحت أحكام القانون المدني السابق - قرينة على تخلصه من الدين إلا إذا أثبت المدين العكس، ودفع قسط من الأجرة قرينة على دفع القسط السابق طبقاً للمادة 587 من القانون المدني، فقد إعتاد الناس على ألا يعطى المؤجر للمستأجر لسكن مثلاً إيصالاً بأجرة شهر ما إلا إذا كان خالصاً بأجرة الشهور السابقة.
ثانياً : مراعاة الشارع لمصلحة خاصة أخذاً بظواهر الأمور وتيسيراً للمعاملة بين الناس أو لتعذر التحقق من أمر أو تعذر إثباته، كحيازة المنقول، فإن الشارع إعتبرها قرينة على ملكيته - حسب ظاهر الحيازة، فقد نصت المادة 976 من القانون القائم على أن: «1 - من حاز بسبب صحيح منقولاً أو حقاً عينياً على منقول أو سنداً لحامله فإنه يصبح مالكاً له إذا كان حسن النية وقت حيازته.
2- فإذا كان حسن النية والسبب الصحيح قد توافر لدى الحائز في إعتباره الشيء خالياً من التكاليف والقيود العينية فإنه يكسب الملكية خالصة منها.
3- والحيازة في ذاتها قرينة على وجود السبب الصحيح وحسن النية ما لم يقم الدليل على عكس ذلك».
وكذلك قرينة خطأ المتبوع أو المخدوم عندما يخطئ التابع أو الخادم، فإن الشارع إعتبر خطأ التابع أو الخادم قرينة قانونية على أن المتبوع أو المخدوم قد أخطأ في إختياره أو لم يحسن مراقبته ولذلك نصت المادة 174 من القانون المدني على أن المتبوع يكون مسئولاً عن الضرر الذي يحدثه تابعه بعمله غير المشروع متى كان واقعاً منه في حالة تأدية وظيفته أو بسببها.
ثالثاً: خوف الشارع من مخالفة الأحكام التي قررها والإحتيال عليها، فمثلاً للوصية أحكام خاصة إلا إذا أجازها الورثة، فخوفاً من الإيصاء في شكل تصرف آخر إعتبر الشارع أن التصرف في مرض الموت المقصود به التبرع قرينة على أنه وصية، ولذلك أعطاه حكم الوصية، وللورثة أن يثبتوا أن تصرف مورثهم كان في مرض الموت بجميع طرق الإثبات، ولا يحتج عليهم بتاريخ سند التصرف، إلا إذا كان ثابتاً قبل المرض، وإذا أثبت الورثة أن التصرف صدر من مورثهم وهو في مرض الموت إعتبر التصرف صادراً على سبيل التبرع، ما لم يثبت من صدر له التصرف عكس ذلك. كل هذا ما لم توجد أحكام خاصة تخالفه (م 916 مدنى ) .
والقرينة القانونية تكون عادة من عمل الشارع أصلاً ولكنها قد تكون قرينة قضائية يقلبها الشارع إلى قرينة قانونية إقتناعاً بصحتها كالشأن في التصرف في مرض الموت والوصية (المادة 916 مدنی).
ومن القرائن القانونية ما هو منصوص عنه في القانون المدني أو القانون التجاري أو قانون المرافعات. وأكثر القرائن القانونية في قانون المرافعات قاطعة، لا يجوز إثبات عكسها، کإفتراض علم المعلن إليه بمضمون الإعلان الذي يتم في موطنه، ولو لم يتسلم هو شخصياً صورة الإعلان، وإفتراض علم الخصم بما يدور في جلسات نظر الدعوى متى أعلن بصحيفة الدعوى إعلاناً صحيحاً وأعذر عملاً بالمادة 84 لجلسة تالية عند تخلفه عن الحضور في الجلسة الأولى، مالم ينص القانون على ما يخالف ذلك .
القرينة القانونية تعفي من الإثبات :
نصت المادة (99) على أن القرينة القانونية تعفي من قررت لمصلحته من أية طريقة أخرى من طرق الإثبات.
فالقرينة القانونية - ليست كالقرينة القضائية - وإنما تعفي من تقررت لمصلحته من إثبات ما تشهد به هذه القرينة.
فالخصم الذي تقررت القرينة لمصلحته يسقط عن كاهله عبء الإثبات، فالقاضي عندما يطبق القرينة لا يقول إنه يطبق قرينة ولكن يقول إنه يطبق نصاً.
غير أن هذه القرينة وإن كانت تعفي من تقررت لمصلحته من أية طريقة أخرى من طرق الإثبات، إلا أنها لا تعفيه من إثبات الواقعة التي تقوم عليها القرينة. فيجب أن يبرهن على توافر الواقعة التي تقوم عليها القرينة. فهو بهذا يقوم بإثبات غير مباشر .
ففي حالة القرينة الخاصة بالوفاء بقسط من الأجرة يعتبر الوفاء بقسط لاحق قرينة على الوفاء بالقسط السابق (مادة 587 مدنی).
تقوم القرينة على واقعة الوفاء بقسط لاحق ، فينبغي إثبات هذه الواقعة. أي واقعة الوفاء بقسط لاحق، حتى تقوم القرينة .
فإذا قام المستأجر بإثبات واقعة الوفاء بقسط لاحق قامت القرينة على الوفاء بالقسط السابق. فالمسألة إذن مسألة نقل الإثبات من محل إلى محل ولكن المشرع يتدخل لتسهيل الأمر نظراً لصعوبة إثبات الوفاء بالأقساط السابقة في بعض الصور، فيضع هذه القرينة. والقرينة القانونية تعفي من الإثبات في الدائرة التي رسمها القانون - ولو في تصرف قانوني تزيد قيمته على ألف جنيه ، أي في دائرة لا تقبل فيها القرينة القضائية.
نوعا القرائن القانونية :
القرائن القانونية نوعان : قرائن قانونية قاطعة ، وقرائن قانونية غير قاطعة أو بسيطة .
والقرائن القانونية القاطعة هي التي لا يقبل إثبات ما ينقضها، أي أن الخصم لا يمكنه أن يثبت ما يخالفها، كقرينة الملكية المستفادة من وضع اليد المدة الطويلة، وقرينة قوة الشيء المحكوم به، وقرينة بلوغ سن الرشد ببلوغ 21 سنة.
أما القرائن القانونية غير القاطعة أو البسيطة، فهي التي تقبل إثبات ما ينقضها كالقرينة المنصوص عليها في المادة 971 من القانون المدني التي تنص على أنه إذا ثبت، قيام الحيازة (وضع اليد) في وقت سابق معين وكانت قائمة حال فإن ذلك يكون قرينة على قيامها في المدة بين الزمنين ما لم يقم الدليل على العكس.
ولما كانت المادة (99) تنص على أنه: «يجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك». فقد أوضحت أن الأصل في القرينة القانونية أن تكون غير قاطعة أي يجوز نقضها بالدليل العكسي أي أن المشرع جعل الأصل هو جواز نقض القرينة بالدليل العكسي والإستثناء هو عدم جواز ذلك. وينهض بقيام هذا الأصل أن القرينة القانونية هي في الحقيقة حجة يقيمها الشارع بناء على الغالب في الأحوال ، فهي ليست إلا إحتمالاً قد يخطئ في بعض الحالات، وبذلك يجب أن يتاح للخصم إقامة الدليل على عدم مطابقة القرينة لحقيقة الواقع.
وواضح من هذه القاعدة أن المشرع ليس في حاجة إلى أن ينص بشأن كل قرينة على جواز نقضها بالدليل العكسي بينما يجب عليه أن ينص على عدم جواز إثبات العكس بالنسبة إلى القرينة التي يريد أن يجعلها قاطعة لأن هذه إن وجدت تكون من قبيل الإستثناء .
ويلاحظ أن القرائن القانونية القاطعة نوعان :
النوع الأول : يشمل قرائن تتعلق بالنظام العام لأنها وضعت لحماية مصلحة عامة ، وهذه لا يجوز نقضها بأي دليل، ولو كان هذا الدليل إقراراً أو يميناً ومثلها قرينة حجية الأمر المقضى.
والنوع الثاني : يشمل قرائن لا تتعلق بالنظام العام لأنها وضعت لحماية مصلحة خاصة، وهذه يجوز إثبات عكسها.
إثبات عكس القرينة القانونية القاطعة بالإقرار واليمين :
إذا كانت القرائن القانونية القاطعة لا تقبل إثبات العكس، فليس معنى ذلك أنها لا تدحض أبداً. فالقرائن حتى القاطعة إنما هي قواعد إثبات. ومادامت كذلك فهي تقبل أن تدحض بالإقرار واليمين. فهذه القرينة لا تعدو أن تكون دليلاً سلبياً إذ تقتصر على الإعفاء من الإثبات كما قدمنا. فإذا نقضها من تقررت لمصلحته بإقراره أو يمينه، فقد دحضها، ولم يعد هناك محل لإعفائه من إثبات لم يقبل هو أن يعفي نفسه منه .
وينبني على ذلك أن المسئول مسئولية قائمة على قرينة قانونية قاطعة - كما في المسئولية من الحيوان وعن الأشياء والمسئولية العقدية ومسئولية المستأجر عن الحريق - لا يستطيع أن يثبت عكس هذه القرينة كما قدمنا. ولكنه يستطيع دحضها بإقرار يصدر من خصمه الذي تقررت القرينة لصالحه بعدم حصول الواقعة المتنازع عليها التي تفترض القرينة حصولها أو بنكول هذا الشخص عن حلف اليمين التي توجه إليه في هذا الشأن .
وتطبيقاً لذلك نصت الفقرة الأولى من المادة 378 مدنی على حقوق تتقادم بسنة واحدة، ثم أضافت الفقرة الثانية من هذه المادة أنه: «يجب على من يتمسك بأن الحق قد تقادم بسنة أن يحلف اليمين على أنه أدى الدين فعلاً». وهذا يدل على أن المشرع قد جعل هذا التقادم القصير قائماً على قرينة قانونية قاطعة تفيد الوفاء بالحق، ومن ثم أجاز دحض هذه القرينة بالنكول عن اليمين، فيجوز من باب أولى دحضها بالإقرار.
هل هناك نوع ثالث من القرائن القانونية ؟
يذهب رأى في الفقه والقضاء إلى وجود نوع ثالث من القرائن هو القرائن القاطعة التي لا يجوز نقضها وإثبات عكسها بأي دليل، أي ولا بالإقرار أو اليمين، ويمثل لذلك بالنص الذي يقرر أن من حاز بسبب صحيح منقولاً فإنه يصبح مالكاً له إذا كان حسن النية وقت حيازته (المادة 977 مدنی). فهذا النص في نظر أصحاب هذا الرأي يعتبر حيازة المنقول دليلاً وقرينة على أن الحائز هو المالك، وهذه القرينة قاطعة لا يجوز إثبات عکسها ولو بالإقرار أو اليمين.
كذلك النص المتضمن مسئولية حارس الحيوان أو حارس الآلات الميكانيكية عن الضرر الذي تحدثه هذه الأشياء يعتبر في نظر أصحاب الرأي المتقدم قرينة على إرتكاب حارسه خطأ ، وهذه القرينة قاطعة لا تقبل إثبات العكس بأي طريق . (المادة 178 من القانون المدني).
والواقع أن القرائن القانونية بإعتبارها قواعد إثبات لابد أن تقبل إثبات العكس، ولو كان ذلك بطرق محددة كالإقرار واليمين وليس بكل طرق الإثبات. ذلك أن الغرض من القرائن القانونية هو تسهيل الإثبات بنقل محله وإستبدال الواقعة المطلوب إثباتها أصلاً وهي الواقعة المتنازع عليها، بواقعة أخرى متصلة بها، فهي طريق غير مباشر للإثبات، وما يدفع الشارع إلى النص على القرائن القانونية هو الأخذ بالإحتمالي الغالب أو الراجح. فإذا أمكن أن نثبت لسن طريق مباشر عدم صحة الإستنباط الذي قام به الشارع، أي عدم حصول الواقعة الأصلية المتنازع عليها، فإن ذلك يجب أن يسقط بداهة الدلالة المستفادة على حصولها بطريق غير مباشر هو طريق ثبوت واقعة أخرى متصلة بها، فالقرينة تقوم على الإحتمال، ومهما كانت درجة هذا الإحتمال ورجحانه فإنه لا يمكن أن يقف أمام اليقين الثابت بالإقرار أو اليمين، وإذا كان الشارع يقيد أحياناً طريق الإثبات المباشر الذي ينقض القرينة فيشترط الإقرار أو اليمين. فإن الأمر لا يمكن أن يصل إلى حد منع إثبات العكس كلية.
والنصوص السابقة التي أوردها الشارع بإعتبارها مقررة القرائن قاطعة لا تقبل إثبات العكس بأي طريق هى نصوص متضمنة لقواعد موضوعية لا لقواعد إثبات.
فالنص الذي يقرر أنه لا يجوز إثبات أن حيازة الشخص للمنقول بحسن نية لم تكن مستندة إلى حق الملكية، لا يتضمن قاعدة من قواعد الإثبات، بل هو يقرر قاعدة موضوعية مقتضاها أن حيازة المنقول بحسن نية تكسب الحائز ملكيته، فالحيازة إذن سبب لإكتساب الملكية وليست مجرد دليل أو قرينة عليها.
والنص الذي يقرر مسئولية حارس الحيوان وحارس الآلة عن الضرر الناشئ عنهما، لا يتعلق بالإثبات، بل يقرر قاعدة موضوعية مقتضاها أن الحارس يسأل عن الضرر دون حاجة إلى أن يكون قد إرتكب خطأ، فحصول الضرر من شیء من تلك الأشياء مصدر للإلتزام بالتعويض، وليس مجرد دليل أو قرينة على حصول الخطأ، والدليل على ذلك أن الحارس يظل مسئولاً حتی ولو ثبت إنتفاء الخطأ في جانبه بإقرار المضرور ذاته .
قوة القرائن القانونية :
متى وجد النص على القرينة وتوافرت شروطه في حالة معينة وتمسك ذو الشأن بالقرينة القانونية وجب على القاضي أن يحكم بمقتضاها، أي أن القرينة القانونية قوة ملزمة.
غير أنه يلاحظ أن المشرع عندما أنشأ هذه القرينة وبناها على الغالب من الأحوال لم يفته إحتمال عدم مطابقتها لكل حالة على حدة، فكان من الطبيعي أن يسمح للخصم الذي يتمسك ضده بالقرينة أن يثبت أن ما إستنبطه المشرع ونص عليه بصيغة عامة لا يطابق الواقع في حالته، أي يسمح له بإثبات عكس هذه القرينة. فلا يحكم القاضي بمقتضى القرينة القانونية إلا إذا عجز من يضار بها عن إثبات عكسها. وعندئذ فقط يكون القاضي مقيداً بالقرينة القانونية لا يملك تقدير مطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع.
رقابة محكمة النقض على تطبيق القرائن القانونية :
لأن القرائن القانونية مقررة بنصوص خاصة تبين في صيغة عامة شروط إنطباقها، يعتبر توافر هذه الشروط مسألة قانونية يخضع فيها قاضي الموضوع لرقابة محكمة النقض وكذلك الأمر فيما يتعلق بإعتبار القرينة القانونية قاطعة أو إعتبارها غير قاطعة وإجازة إثبات عكسها بكافة الطرق ، وفيما يتعلق بإعتبار القرينة القاطعة متعلقة بالنظام العام أو غير متعلقة به من حيث إجازة إثبات عکسها من طريق الإستجواب أو اليمين أو عدم إجازته .
طرق إثبات ما يخالف القرينة القانونية :
ذهب رأي إلى أن إثبات عكس القرينة القانونية لا يكون إلا بالطرق التي تجيزها قواعد الإثبات العامة، فلا تقبل شهادة الشهود والقرائن إذا كان موضوع الإثبات تصرفاً قانونياً تجاوز قيمته ألف جنيه (م60 من قانون الإثبات) فلا يقبل إثبات العكس إلا بالكتابة أو الإقرار أو اليمين ويوضح بعض أنصار هذا الرأي رأيهم بأن القرينة القانونية إذ تعفي أحد الخصوم من عبء الإثبات الواقع عليه، فإن أثرها يقتصر على هذا الإجماع. ولا تمس القواعد المتعلقة بإطلاق الأدلة وتقيدها. وعلى ذلك يعتبر الخصم الذي تغنيه القرينة القانونية عن إثبات ادعائه بأية طريقة أخرى كأنه قد نهض بعبء الإثبات الواقع عليه أصلاً وينتقل عبء الإثبات منه إلى خصمه كما تفرضه القواعد العامة ذاتها، طالما أن النص الذي أنشأ القرينة القانونية لم يدخل أي تعديل على حكم تلك القواعد العامة.
بينما ذهب رأي آخر إلى أنه يجوز إثبات ما يخالف القرينة القانونية غير القاطعة بكافة طرق الإثبات، ولو كانت ما تعفي القرينة من إثباته تصرفاً قانونياً تجاوز قيمته ألف جنيه كالوفاء في قرينة براءة ذمة المدين .
والأمر ظاهر فيما يتعلق بالإثبات، بالكتابة أو بالإقرار أو باليمين لأن هذه الأدلة مطلقة يجوز الإثبات بها في جميع الأحوال وهذا الرأي هو ما نأخذ به.
وجدير بالذكر أن إثبات عكس القرينة القانونية يجب أن يقتصر على عدم مطابقتها للواقع في القضية المعينة التي يتمسك فيها أحد الخصوم بتلك القرينة. ولا يجوز بأي حال مناقشة صحتها بوجه عام، أي إثبات خطأ الإستنباط الذي بناها المشرع عليه .
القرينة القانونية التي تقبل إثبات العكس
تنص المادة 587 من التقنين المدنى على أن ((الوفاء بقسط من الأجرة قرينة على الوفاء بالأقساط السابقة على هذا القسط حتى يقوم الدليل على عكس ذلك)).
فقد جعل النص من الوفاء بقسط من الأجرة قرينة على الوفاء بالأقساط السابقة، لأن المعتاد أن المؤجر لا يقبل أن يقبض أجرة شهر معين إلا إذا قبض أجرة الشهر الذي يسبقه.
وبذلك لا يطلب من المستأجر الإحتفاظ بإيصالات دفع الأجرة مدة خمس سنوات وهي المدة التي تسقط فيها الأجرة بالتقادم. ويكفيه أن يحتفظ بالإيصال الأخير.
عدم ذكر سبب العقد قرينة على أن له سبباً مشروعاً :
تنص المادة (137) من التقنين المدني على أن :
(( 1- كل إلتزام لم يذكر له سبب في العقد يفترض أن له سبباً مشروعاً، ما لم يقم الدليل على غير ذلك.
2- ويعتبر السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقى حتی يقوم الدليل على ما يخالف ذلك، فإذا قام الدليل على صورية السبب فعلى من يدعي أن للإلتزام سبباً آخر مشروعاً أن يثبت ما يدعيه )).
3- قرينة ملكية صاحب الأرض كل ما على الأرض أو تحتها من بناء أو غراس أو منشآت أخري :
تنص المادة (922) من التقنين المدني على أن:
((1-كل ما على الأرض أو تحتها من بناء أو غراس أو منشآت أخرى، يعتبر من عمل صاحب الأرض أقامه على نفقته ويكون مملوكاً له.
٢- ويجوز مع ذلك أن يقام الدليل على أن أجنبياً قد أقام هذه المنشآت على نفقته، كما يجوز أن يقام الدليل على أن مالك الأرض قد خول أجنبياً ملكية منشآت كانت قائمة من قبل أو خوله الحق في إقامة هذه المنشآت وتملكها )).
4- قرينة العلم بالتعبير عن الإرادة إيجاباً أو قبولاً أو غيرهما :
تنص المادة (91) من التقنين المدني على أن :
((ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به. ما لم يقم الدليل على عكس ذلك )).
5- حيازة الحق قرينة علي ملكيته :
تنص المادة (964 ) من التقنين المدني على أن :
((من كان حائزاً للحق إعتبر صاحبه حتى يقوم الدليل علي العكس)) .
6- قرينة إفتراض حسن النية لدى الحائز :
نصت المادة 965 من التقنين المدني على أن :
((1- يعد حسن النية من يحوز الحق وهو يجهل أنه يعتدي على حق الغير، إلا إذا كان هذا الجهل ناشئاً عن خطأ جسيم.
2- فإذا كان الحائز شخصاً معنوياً فالعبرة بنية من يمثله.
3- وحسن النية يفترض دائماً ما لم يقم الدليل على العكس)).
7- تصرف الشخص لأحد ورثته وإحتفاظه بحيازة العين وبحقه في الإنتفاع بها على حياته قرينة على أن التصرف وصية:
تنص المادة (917) من التقنين المدني على أن:
((إذا تصرف شخص لأحد ورثته وإحتفظ بأية طريقة كانت بحيازة العين التي تصرف فيها، وبحقه في الإنتفاع بها مدى حياته، إعتبر التصرف مضافاً إلى ما بعد الموت وتسري عليه أحكام الوصية ما لم يقم دليل يخالف ذلك)).
8- وقوع عجز بعهدة أمين المخزن قرينة علي ثبوت الخطأ من جانبه.
9- قرينة مطابقة الصورة الرسمية للحكم لأصل الحكم .(موسوعة البكري القانونية في قانون الإثبات، المستشار/ محمد عزمي البكري، طبعة 2017، دار محمود، المجلد : الثالث ، الصفحة : 1339)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون التقاضي والإثبات ، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 165 ، 166.
تنقسم القرائن إلى قرائن شرعية وقرائن قضائية، والأولى ما نص عليه الشارع أو استنبطه أئمة الشريعة باجتهادهم، والثانية ما يستنبطه القاضي من الحادثة التي ينظرها وما يكتنفها.
القرينة الشرعية:
يعرف الشرع الإسلامي القرائن الشرعية (القانونية) ومنها:
- ثبوت نسب الولد من أبيه وهو الزوج شرعاً ، فالولد للفراش، وقيام الزوجية قرينة
على أن الولد من الزوج وهذه القرينة تقبل إثبات العكس ولكن بطريق خاص وهو طريق اللعان.
- الحكم بموت المفقود إذا مات أقرانه، واتخاذ ذلك قرينة على موته.
- التصرف في مرض الموت قرينة على أن التصرف وصية.
- تصرفات المفلس الضارة بالدائنين مردودة لقيام القرينة على سوء قصده .
- وجود سند الدين تحت يد المدين قرينة ظاهرة على إيفاء الدين.
(انظر: أحمد إبراهيم، طرق القضاء، ص (427) - (430)، والسنهوري ، الوسيط جـ (2) الهامش (1) ص (600) - (601). وابن فرحون، تبصرة الحكام، جـ (1) ص (202) وج (2) ص (111). وابن القيم، الطرق الحكمية، ص (3) وما بعدها و(46) وما بعدها).
(مادة 146): القرينة الشرعية تغني من قررت لمصلحته عن أية طريقة أخرى من طرق الإثبات، على أنه يجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي، ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك.
(م (404) مدني مصري، و(99) إثبات مصري، و(502) مدني عراقي، و(89)
بینات سوري، و(67) إثبات سوداني).
المذكرة الإيضاحية:
1- يتناول هذا النص حجية القرائن الشرعية ويورد بشأنها قاعدتين: الأولى: تتعلق
بمن تقرر القرينة لمصلحته. والثانية: تتعلق بمن يحتج عليه بالقرينة.
2- القاعدة الأولى: لا يعدو موقف من يتمسك بقرينة عن مجرد الاستناد إلى واقعة شرعية يفترض القانون قيامها، ويقيل بذلك من تحمل عبء إقامة الدليل عليها، بيد أن هذه الإقالة لا تتناول إلا تلك الواقعة ممثلة في القرينة الشرعية ذاتها، بمعنى أن من واجب من يتمسك بقرينة من القرائن أن يقيم الدليل على اجتماع الشروط التي يتطلبها القانون لقيامها.
3- القاعدة الثانية: يفرق الفقه - بالنسبة لحجية القرائن - بين القرائن القاطعة أو المطلقة، وهي التي لا يجوز نقض دلالتها بإثبات العكس، وبين القرائن البسيطة، وهي التي يجوز إسقاط دلالتها بإقامة الدليل العكسي ويفرق الفقه كذلك بين إثبات العكس بالإقرار باليمين، وبين إثبات العكس بسائر الطرق القانونية كالكتابة والبينة والقرائن وغيرها.
ويراعى أن هذه القاعدة الثانية تقضي - وفقاً لهذا النص - بأن الأصل في القرينة هو جواز إثبات العكس، والاستثناء هو عدم جواز ذلك.
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري،قانون التقاضى والإثبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحات: 45 ، 46 ، 47 ، 48
(مادة 14) :
طرق القضاء هي : الإقرار ، والإستجواب ، والشهادة ، والكتابة ، واليمين ، والقرائن ، والمعاينة ، والخبرة.
المذكرة الإيضاحية :
اختلف الفقهاء في بيان أدلة ثبوت الدعوى ( أي: الحجج الشرعية أو طرق القضاء). وقد حصرها البعض في سبعة هي : البينة ، والإقرار ، واليمين ، والنكول ، والقسامة ، وعلم القاضي ، والقرينة القاطعة (الدر، ورد المحتار). وقال في التكملة : والحاصل أن القضاء في الإقرار مجاز (لأن الحق يثبت به بدون حكم ، وإنما يأمره القاضي بدفع ما لزمه بإقراره، وليس لزوم الحق بالقضاء ، فجعل الإقرار من طرق القضاء إنما هو بحسب الظاهر ، وإلا فالحق يثبت به لا بالقضاء)، والقسامة داخلة في اليمين ، وعلم القاضي مرجوح، والقرينة مما انفرد به ابن الفرس ، فرجعت الحجج التي هي أسباب الحكم إلى ثلاث - أي البينة واليمين والنكول .
(انظر أحمد إبراهيم، طرق القضاء، ص (7) - (11) و(219) وما بعدها)
وذكر ابن القيم في الطرق الحكمية خمسة وعشرين طريقاً ترجع عند النظر، إلى:
القرائن والعلامات الظاهرة، الشهادة، اليمين، النكول، اليد (أي الحيازة)، الإنكار، الإقرار، الخط، القرعة، القافة (أي: الخبرة في أمور النسب).
وذكر ابن فرحون في التبصرة : الشهادة والخط والإقرار والقرائن والقرعة والقافة .
وفي مجلة الأحكام العدلية نجد أن طرق القضاء هي : الإقرار ، والشهادة ، واليمين ، والنكول ، والخط ، والقرينة القاطعة .
وقد ذكرت لائحة ترتيب المحاكم الشرعية الصادر بها المرسوم بقانون رقم (78) لسنة 1931 في المادة (123) أربعة أدلة ، هي: الإقرار ، والشهادة ، والنكول عن الحلف، والقرينة القاطعة ولكنها تكلمت في الباب الثالث الخاص بالأدلة على الأدلة الخطية (في الفصل الثاني بعد الإقرار) ، ثم على اليمين والنكول (في الفصل السادس) ، وعلى المعاينة (في الفصل السابع) ، وعلى الخبرة في الفصل الثامن) ، كما تكلمت على إستجواب الخصوم (في الفصل السابع من الباب الثاني م (115) وما بعدها) وبذا زادت الأدلة فيها على الأربعة المذكورة في المادة (123) وذلك على خلاف ما ذهب إليه المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم ؛ إذ قال في طرق القضاء (ص (9) - (10)) : «أقول : إن الناظر فيما جاء في اللائحة في حجية الأوراق الرسمية والعرفية ، وفي استجواب الخصوم ومعاينة المحكمة وأهل الخبرة - يراه لا يخرج عن هذه الحجج الثلاث ؛ إذ كله يرجع إلى الإقرار ، وأن الإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان ، وهو الذي يجب التعويل عليه كما سيأتي». ولكن بالرجوع إلى المادة (134) من تلك اللائحة نجد أنها نصت على أن الأوراق الرسمية - أكانت سندات أم محررات - تكون حجة على أي شخص كان فيها تدون بها مما لا يدخلها دائماً في الإقرار ، وكذلك إستجواب الخصوم ومعاينة المحكمة وأهل الخبرة لا تدخل دائماً في الإقرار .
وبالرجوع إلى القوانين العربية الخاصة بالإثبات نجد أنها : الأدلة الكتابية ، والشهادة ، والقرائن ، والإستجواب ، والإقرار ، واليمين ، والمعاينة ، والخبرة .
(م (1) من قانون البينات السوري ، و(11) من قانون الإثبات السوداني ، وقانون الإثبات المصري ، وانظر السنهوري ، الوسيط ، ج (2) ص (89) وما بعدها) .
وإذا ألقينا نظرة فاحصة وجدنا أن طرق إثبات الدعوى ترجع إلى: الإقرار ، والشهادة ، والكتابة ، واليمين ، والنكول ، والقرينة ، والمعاينة ، والخبرة . أما القسامة - وهي خاصة بالقضاء بالدية - فهي يمين. وأما علم القاضي فالفتوى على أنه ليس طريقاً للقضاء لفساد الزمان وهو ما أخذ به هذا القانون في المادة (6) منه. وأما القافة فهي خاصة بالنسب وهو من الأحوال الشخصية وخارج عن نطاق هذا القانون .
وقد جرت بعض التقنينات على عدم النص على طرق القضاء بإعتبار أن ذلك من عمل الفقه ، ولكن تقنينات أخرى جرت على النص عليها ، کلائحة ترتيب المحاكم الشرعية ، وقانون البينات السوري ، وقانون الإثبات السوري ، وقد روعي إتباع نهج التقنينات الأخيرة في هذا القانون زيادة في البيان .
وقد سار القانون على معالجة طرق القضاء بالترتيب الآتي :
1- الإقرار .
2- إستجواب الخصوم .
3- الشهادة .
4 - الكتابة .
5- اليمين .
6- القرائن .
7- المعاينة .
8- الخبرة .
وقد روعي في هذا الترتيب نظرة الفقه الإسلامي من تقديم الإقرار بوصفه أقوى الأدلة ، يليه الإستجواب بوصفه وسيلة للإقرار ، ثم الشهادة ، ويليها الكتابة لأنها في الغالب إما أن تكون إقراراً أو شهادة، ثم اليمين ، وبقية الأدلة .
وقد خصص باب لكل طريق من هذه الطرق .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الأول ، الصفحة / 244
الْقَضَاءُ بِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ:
الْقَرِينَةُ لُغَةً: الْعَلاَمَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُطْلَبُ الْحُكْمُ بِهِ دَلاَلَةً وَاضِحَةً بِحَيْثُ تُصَيِّرُهُ فِي حَيِّزِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ إِنْسَانٌ مِنْ دَارٍ، وَمَعَهُ سِكِّينٌ فِي يَدَيْهِ، وَهُوَ مُتَلَوِّثٌ بِالدِّمَاءِ، سَرِيعُ الْحَرَكَةِ، عَلَيْهِ أَثَرُ الْخَوْفِ، فَدَخَلَ إِنْسَانٌ أَوْ جَمْعٌ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَوَجَدُوا بِهَا شَخْصًا مَذْبُوحًا لِذَلِكَ الْحِينِ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِدِمَائِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ غَيْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي وُجِدَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الدَّارِ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ، إِذْ لاَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ قَاتِلُهُ وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ ذَبَحَ نَفْسَهُ، أَوْ أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ الرَّجُلِ قَتَلَهُ ثُمَّ تَسَوَّرَ الْحَائِطَ وَهَرَبَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ:
فَأَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى ( وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ (فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا أَتَوْا بِقَمِيصِهِ إِلَى أَبِيهِمْ تَأَمَّلَهُ، فَلَمْ يَرَ خَرْقًا وَلاَ أَثَرَ نَابٍ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى كَذِبِهِمْ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ «فَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ لاِبْنَيْ عَفْرَاءَ، لَمَّا تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ. فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ فَقَالاَ: لاَ. فَقَالَ: أَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمَا قَالَ: هَذَا قَتَلَهُ، وَقَضَى لَهُ بِسَلَبِهِ». فَاعْتَمَدَ صلي الله عليه وسلم عَلَى الأْثَرِ فِي السَّيْفِ.
وَأَمَّا عَمَلُ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُ حُكْمُ عُمَرَ رضي الله عنه بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إِذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ. وَجَعَلَ ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي أَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ إِذَا قَاءَ الْخَمْرَ.
وَقَدْ سَاقَ ابْنُ الْقَيِّمِ كَثِيرًا مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي قَضَى فِيهَا الصَّحَابَةُ رضي الله عنه بِنَاءً عَلَى الْقَرَائِنِ، وَانْتَهَى إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِ» بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيِّنَةِ مَا يُظْهِرُ صِحَّةَ دَعْوَى الْمُدَّعِي. فَإِذَا ظَهَرَ صِدْقُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحُكْمِ، وَمِنْهَا الْقَرِينَةُ، حَكَمَ لَهُ .
- الْقَرَائِنُ الْقَوِيَّةُ: كَتَبَسُّمِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ، وَضَحِكِهَا ضَحِكَ سُرُورٍ وَابْتِهَاجٍ، وَسُكُوتِهَا وَقَبْضِهَا مَهْرَهَا، عِنْدَ إِعْلاَمِ وَلِيِّهَا إِيَّاهَا أَنَّهُ زَوَّجَهَا مِنْ فُلاَنٍ، فَإِنَّهَا قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى إِجَازَتِهَا، بِخِلاَفِ بُكَائِهَا بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ وَوَلْوَلَتِهَا، فَهِيَ قَرِينَةٌ عَلَى الرَّفْضِ.
وَمِنَ الْقَرَائِنِ الْقَوِيَّةِ السُّكُوتُ فِي مَوْطِنِ الْحَاجَةِ إِلَى الإْبْطَالِ، كَسُكُوتِ صَاحِبِ الْحَاجَةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ حَاجَتِهِ يَبِيعُهَا صَغِيرُهُ الْمُمَيِّزُ فِي السُّوقِ وَغَيْرِهَا.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث ، الصفحة / 262
مَا يَثْبُتُ بِهِ الاِسْتِخْلاَفُ فِي الْقَضَاءِ:
كُلُّ لَفْظٍ يُفِيدُ الاِسْتِخْلاَفَ يَصِحُّ بِهِ وَيَنْعَقِدُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَلْفَاظِ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ أَمْ لاَ، وَكَذَلِكَ أَيُّ دَلِيلٍ أَوْ قَرِينَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الاِسْتِخْلاَفُ يُعْمَلُ بِهَا وَيُعَوَّلُ عَلَيْهَا.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع عشر ، الصفحة / 139
مَدَى ثُبُوتِ الْحُدُودِ بِالْقَرَائِنِ:
تَخْتَلِفُ الْقَرَائِنُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحُدُودِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا - مِنْ حَدٍّ لآِخَرَ.
فَالْقَرِينَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الزِّنَى: هِيَ ظُهُورُ الْحَمْلِ فِي امْرَأَةٍ غَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ أَوْ لاَ يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ.
وَالْقَرِينَةُ فِي الشُّرْبِ: الرَّائِحَةُ، وَالْقَيْءُ، وَالسُّكْرُ، وَوُجُودُ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَفِي السَّرِقَةِ وُجُودُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَوُجُودُ أَثَرٍ لِلْمُتَّهَمِ فِي مَوْضِعِ السَّرِقَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَفِي كُلٍّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ فُصِّلَتْ فِي مَوَاطِنِهَا وَتُنْظَرُ فِي كُلِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (قَرِينَةٌ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الحادي والعشرون ، الصفحة / 22
دَلِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
الدَّلِيلُ لُغَةً: هُوَ الْمُرْشِدُ وَالْكَاشِفُ، مِنْ دَلَلْتُ عَلَى الشَّيْءِ وَدَلَلْتُ إِلَيْهِ.
وَالْمَصْدَرُ دُلُولَةٌ وَدَلاَلَةٌ، بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا. وَالدَّالُّ وَصْفٌ لِلْفَاعِلِ.
وَالدَّلِيلُ مَا يُتَوَصَّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ وَلَوْ ظَنًّا، وَقَدْ يَخُصُّهُ بَعْضُهُمْ بِالْقَطْعِيِّ.
وَلِذَلِكَ كَانَ تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّهُ «أَدِلَّةُ الْفِقْهِ» جَارِيًا عَلَى الرَّأْيِ الأَْوَّلِ الْقَائِلِ بِالتَّعْمِيمِ فِي تَعْرِيفِ الدَّلِيلِ بِمَا يَشْمَلُ الظَّنِّيَّ؛ لأَِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الإِْجْمَالِيَّةِ تَشْمَلُ مَا هُوَ قَطْعِيٌّ، كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَمَا هُوَ ظَنِّيٌّ كَالْعُمُومَاتِ وَأَخْبَارِ الآْحَادِ وَالْقِيَاسِ وَالاِسْتِصْحَابِ. وَمِنْ هُنَا عَرَّفَهُ فِي الْمَحْصُولِ وَفِي الْمُعْتَمَدِ بِأَنَّهُ: «طُرُقُ الْفِقْهِ»؛ لِيَشْمَلَ الْقَطْعِيَّ وَالظَّنِّيَّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْمَارَةُ:
الأَْمَارَةُ فِي اللُّغَةِ: الْعَلاَمَةُ وَزْنًا وَمَعْنًى - كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ - وَهِيَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: مَا أَوْصَلَ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ ظَنِّيٍّ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الأَْمَارَةِ وَالدَّلِيلِ. وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ: الأَْمَارَةُ مَا يُؤَدِّي النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيهِ إِلَى الظَّنِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْلِيًّا أَمْ شَرْعِيًّا. أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَالأَْمَارَاتُ الْعَقْلِيَّةُ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ كَذَلِكَ.
ب - الْبُرْهَانُ:
الْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ وَالدَّلاَلَةُ، وَيُطْلَقُ خَاصَّةً عَلَى مَا يَقْتَضِي الصِّدْقَ لاَ مَحَالَةَ. وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ مَا فَصَلَ الْحَقَّ عَنِ الْبَاطِلِ، وَمَيَّزَ الصَّحِيحَ مِنَ الْفَاسِدِ بِالْبَيَانِ الَّذِي فِيهِ.
ج - الْحُجَّةُ:
الْحُجَّةُ: الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ، وَهُوَ مَا تَثْبُتُ بِهِ الدَّعْوَى مِنْ حَيْثُ الْغَلَبَةُ عَلَى الْخَصْمِ.
وَالْحُجَّةُ الإِْقْنَاعِيَّةُ، هِيَ الَّتِي تُفِيدُ الْقَانِعِينَ الْقَاصِرِينَ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَرُبَّمَا تُفْضِي إِلَى الْيَقِينِ بِالاِسْتِكْثَارِ
الأَْدِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلأَْحْكَامِ:
الأَْدِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلأَْحْكَامِ نَوْعَانِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الإِْجْمَالِيَّةُ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَثِيرٌ جَمَعَهَا الْقَرَافِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ الذَّخِيرَةِ، مِنْهَا: الاِسْتِحْسَانُ، وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ، وَالْعُرْفُ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَالاِسْتِصْحَابُ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا وَيُقْصَدُ بِالأَْحْكَامِ: الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالإِْبَاحَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْحُرْمَةُ. وَالأَْحْكَامُ الْوَضْعِيَّةُ: كَالشَّرْطِ، وَالْمَانِعِ، وَالسَّبَبِ وَنَحْوِهَا.
الدَّلِيلُ الإِْجْمَالِيُّ وَالدَّلِيلُ التَّفْصِيلِيُّ:
عَرَّفَ الأُْصُولِيُّونَ أُصُولَ الْفِقْهِ لَقَبًا بِأَنَّهُ «أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الإِْجْمَالِيَّةُ» مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَوْضُوعَهُ الأَْدِلَّةُ الإِْجْمَالِيَّةُ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَهِيَ الأَْدِلَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ أَدِلَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا إِلاَّ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الأَْرْبَعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهِيَ الاِسْتِحْسَانُ، وَالاِسْتِصْحَابُ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَالاِسْتِصْلاَحُ. وَعِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ يَبْحَثُ فِي إِثْبَاتِ حُجِّيَّةِ الأَْدِلَّةِ وَطُرُقِ دَلاَلَتِهَا عَلَى الأَْحْكَامِ.
وَالدَّلِيلُ إِنْ نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ كَانَ دَلِيلاً إِجْمَالِيًّا، وَإِنْ نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ كَانَ دَلِيلاً تَفْصِيلِيًّا. وَمِثَالُ ذَلِكَ قوله تعالي وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ. فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ، وَأَنَّ الأَْمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، كَانَ دَلِيلاً إِجْمَالِيًّا.
وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِوُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ كَانَ دَلِيلاً تَفْصِيلِيًّا.
الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ وَالدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ:
تَنْقَسِمُ الأَْدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ وَالدَّلاَلَةُ:
قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلاَلَةِ، كَبَعْضِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ).
وَقَطْعِيُّ الثُّبُوتِ ظَنِّيُّ الدَّلاَلَةِ، كَبَعْضِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِي تَأْوِيلِهَا.
وَظَنِّيُّ الثُّبُوتِ قَطْعِيُّ الدَّلاَلَةِ، كَأَخْبَارِ الآْحَادِ ذَاتِ الْمَفْهُومِ الْقَطْعِيِّ.
وَظَنِّيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلاَلَةِ، كَأَخْبَارِ الآْحَادِ الَّتِي مَفْهُومُهَا ظَنِّيٌّ.
وَرَتَّبَ أُصُولِيُّو الْحَنَفِيَّةِ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ:
فَبِالْقِسْمِ الأَْوَّلِ يَثْبُتُ الْفَرْضُ، وَبِالْقِسْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ، وَبِالْقِسْمِ الرَّابِعِ يَثْبُتُ الاِسْتِحْبَابُ وَالسُّنِّيَّةُ.
وَهَذَا التَّقْسِيمُ جَارٍ عَلَى اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ. وَيُنْظَرُ فِي تَفْصِيلِ مَا تَقَدَّمَ: الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ فِي مَوَاضِعِهِ. وَكَذَلِكَ مُصْطَلَحُ: «اسْتِدْلاَل» «وَتَرْجِيح».
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الرابع والعشرون ، الصفحة / 42
- الْقَرَائِنُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِعِلْمِ الإِْمَامِ وَالْقَاضِي، فَلاَ يُقِيمَانِهِ بِعِلْمِهِمَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى ثُبُوتِهِ بِعِلْمِهِ. وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ) ف 28).
- الْقَرَائِنُ:
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالإِْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ. وَيَرَى بَعْضُهُمْ جَوَازَ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ إِقَامَةُ الْحَدِّ وَضَمَانُ الْمَالِ، بِالْقَرَائِنِ وَالأَْمَارَاتِ إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةَ الدَّلاَلَةِ بِاعْتِبَارِهَا مِنَ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ «لَمْ يَزَلِ الأَْئِمَّةُ وَالْخُلَفَاءُ يَحْكُمُونَ بِالْقَطْعِ إِذَا وُجِدَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ مَعَ الْمُتَّهَمِ، وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ وَالإِْقْرَارِ فَإِنَّهُمَا خَبَرَانِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَوُجُودُ الْمَالِ مَعَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ لاَ تَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شُبْهَةٌ».
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث والثلاثون ، الصفحة / 156
قَرِينَةٌ
التَّعْرِيفُ:
- الْقَرِينَةُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَرَنَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، أَيْ شَدَّهُ إِلَيْهِ وَوَصَلَهُ بِهِ، كَجَمْعِ الْبَعِيرَيْنِ فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَكَالْقَرْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَوْ كَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ أَوِ اللُّقْمَتَيْنِ عِنْدَ الأْكْلِ، وَتَأْتِي الْمُقَارَنَةُ بِمَعْنَى الْمُرَافَقَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، وَمِنْهُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجَةِ قَرِينَةٌ، وَعَلَى الزَّوْجِ قَرِينٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ صَرِيحًا.
مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرِينَةِ:
- الْقَرِينَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا وَرَدَ فِي قوله تعالي فِي سُورَةِ يُوسُفَ (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلاَمَةَ صِدْقِهِمْ، قَرَنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْعَلاَمَةِ عَلاَمَةً تُعَارِضُهَا، وَهِيَ سَلاَمَةُ الْقَمِيصِ مِنَ التَّمْزِيقِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ افْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ وَهُوَ لاَبِسُ الْقَمِيصِ وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عليه السلام اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، فَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الآْيَةِ عَلَى إِعْمَالِ الأْمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) عَلَى جَوَازِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْعَلاَمَةِ، إِذْ أَثْبَتُوا بِذَلِكَ كَذِبَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِيمَا نَسَبَتْهُ لِيُوسُفَ عليه الصلاة والسلام.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «الأْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا»، فَجَعَلَ صُمَاتَهَا قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى الرِّضَا، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا رَضِيَتْ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الأْدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ.
كَمَا سَارَ عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ فِي الْقَضَايَا الَّتِي عَرَضَتْ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانُ، رضي الله عنهم - وَلاَ يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفٌ - بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ، أَوْ قَاءَهَا، وَذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله، وَمِنْهُ مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إِذَا ظَهَرَ لَهَا حَمْلٌ وَلاَ زَوْجَ لَهَا، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالي (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ).
الْقَرَائِنُ الْقَاطِعَةُ وَغَيْرُ الْقَاطِعَةِ:
- إِنَّ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَقْوَى حَتَّى يُفِيدَ الْقَطْعَ، وَمِنْهَا مَا يَضْعُفُ وَيُمَثِّلُونَ لِحَالَةِ الْقَطْعِ بِمُشَاهَدَةِ شَخْصٍ خَارِجٍ مِنْ دَارٍ خَالِيَةٍ خَائِفًا مَدْهُوشًا فِي يَدِهِ سِكِّينٌ مُلَوَّثَةٌ بِالدَّمِ، فَلَمَّا وَقَعَ الدُّخُولُ لِلدَّارِ رُئِيَ فِيهَا شَخْصٌ مَذْبُوحٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَشَخَّطُ فِي دِمَائِهِ، فَلاَ يُشْتَبَهُ هُنَا فِي كَوْنِ ذَلِكَ الشَّخْصِ هُوَ الْقَاتِلُ، لِوُجُودِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ.
وَأَمَّا الْقَرِينَةُ غَيْرُ قَطْعِيَّةِ الدَّلاَلَةِ وَلَكِنَّهَا ظَنِّيَّةٌ أَغْلَبِيَّةٌ، وَمِنْهَا الْقَرَائِنُ الْعُرْفِيَّةُ أَوِ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ وَقَائِعِ الدَّعْوَى وَتَصَرُّفَاتِ الْخُصُومِ، فَهِيَ دَلِيلٌ أَوَّلِيٌّ مُرَجِّحٌ لِزَعْمِ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مَعَ يَمِينِهِ مَتَى اقْتَنَعَ بِهَا الْقَاضِي وَلَمْ يَثْبُتْ خِلاَفُهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لاَ تَرُدُّ حَقًّا وَلاَ تُكَذِّبُ دَلِيلاً وَلاَ تُبْطِلُ أَمَارَةً صَحِيحَةً، هَذَا وَقَدْ دَرَجَتْ مَجَلَّةُ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحُكْمِ فِي الْمَادَّةِ (1740) وَعَرَّفَتْهَا بِأَنَّهَا الأْمَارَةُ الْبَالِغَةُ حَدَّ الْيَقِينِ وَذَلِكَ فِي الْمَادَّةِ (1741).
الأْخْذُ بِالْقَرَائِنِ:
- قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ رحمه الله فِي تَبْصِرَتِهِ نَاقِلاً عَنِ الإْمَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَقِيهِ الْمَالِكِيِّ قَوْلَهُ: عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الأْمَارَاتِ وَالْعَلاَمَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا مَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي الْحُكْمِ بِهَا، وَقَدْ جَاءَ الْعَمَلُ بِهَا فِي مَسَائِلَ اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمَذَاهِبُ الأْرْبَعَةُ، وَبَعْضُهَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ خَاصَّةً.
عَلَى أَنَّ ضَبْطَ كُلِّ الصُّوَرِ الَّتِي تَعْمَلُ فِيهَا الْقَرِينَةُ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ، إِذْ أَنَّ الْوَقَائِعَ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ، وَالْقَضَايَا مُتَنَوِّعَةٌ، فَيَسْتَخْلِصُهَا الْقَاضِي بِفَهْمِهِ وَذَكَائِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ جَانِبًا مِنَ الصُّوَرِ لِلاِسْتِنَارَةِ بِهَا، وَلِلتَّدْلِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِالْقَرَائِنِ الَّتِي تَوَلَّدَتْ عَنْهَا، وَهَذَا الْبَعْضُ مِنْهَا:
الأْولَى: أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ وَطْءِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ إِذَا أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ لَيْلَةَ الزِّفَافِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَدْلاَنِ أَنَّ هَذِهِ فُلاَنَةُ بِنْتُ فُلاَنٍ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْطِقِ النِّسَاءُ أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتُهُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ.
الثَّانِيَةُ: اعْتِمَادُ النَّاسِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى الصِّبْيَانِ وَالإْمَاءِ الْمُرْسَلَةِ مَعَهُمُ الْهَدَايَا إِلَيْهِمْ، فَيَقْبَلُونَ أَقْوَالَهُمْ، وَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْمُرْسَلَ بِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ إِذْنَ الصِّبْيَانِ فِي الدُّخُولِ لِلْمَنْزِلِ.
الرَّابِعَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنَ الإْنْسَانِ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ، وَمَا لاَ يَتْبَعُهُ الإْنْسَانُ نَفْسُهُ لِحَقَارَتِهِ، كَالتَّمْرَةِ وَالْفَلْسِ، وَكَجِوَازِ أَخْذِ مَا بَقِيَ فِي الْحَوَائِطِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ بَعْدَ انْتِقَالِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَتَخْلِيَتِهِ وَتَسْيِيبِهِ، كَجَوَازِ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْحَبِّ عِنْدَ الْحَصَادِ مِمَّا لاَ يَعْتَنِي صَاحِبُ الزَّرْعِ بِلَقْطِهِ، وَكَأَخَذِ مَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْخِرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَقَّرَاتِ.
الْخَامِسَةُ: الشُّرْبُ مِنَ الْمَصَانِعِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الشَّارِبُ إِذْنَ أَرْبَابِهَا فِي ذَلِكَ لَفْظًا، اعْتِمَادًا عَلَى دَلاَلَةِ الْحَالِ.
السَّادِسَةُ: قَوْلُهُمْ فِي الرِّكَازِ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَنْزٌ، وَيَأْخُذُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ عَلاَمَاتُ الْكُفْرِ كَالصَّلِيبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ رِكَازٌ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ عَلَى بَيْعِ السِّلْعَةِ قَبْضُ ثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ لَفْظًا، اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ الْحَالِ.
الثَّامِنَةُ: الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَاعْتِبَارُهُ فِي الأْحْكَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ رُجُوعًا إِلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.
التَّاسِعَةُ: جَوَازُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِوَاصِفِ عِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا.
الْعَاشِرَةُ: النَّظَرُ فِي أَمْرِ الْخُنْثَى، وَالاِعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الأْمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحْدَى حَالَتَيْهِ الذُّكُورَةِ أَوِ الأْنُوثَةِ.
الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ: مَعْرِفَةُ رِضَا الْبِكْرِ بِالزَّوْجِ بِصُمَاتِهَا.
الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ: إِذَا أَرْخَى السِّتْرَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَخَلاَ بِهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا طَلَّقَهَا وَقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَمَسَّهَا وَادَّعَتْ هِيَ الْوَطْءَ صُدِّقَتْ، وَكَانَ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلاً.
وَمِنْ هَذَا الْعَرْضِ يَبْدُو اتِّفَاقُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِقَرَائِنِ الأْحْوَالِ بِصِفَةٍ مُطْلَقَةٍ بِدُونِ قُيُودٍ وَلاَ حُدُودٍ، وَمَصَادِرُ مَذْهَبَيْهِمْ تَشْهَدُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ عَمِلُوا بِالْقَرَائِنِ فِي حُدُودٍ ضَيِّقَةٍ، وَيَعْتَدُّونَ بِالْقَرِينَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْحَالِيَّةِ، وَبِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ نُجَيْمٍ عِنْدَ إِحْصَائِهِ لِلْحُجَجِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الْقَاضِي، فَقَالَ: إِنَّ الْحُجَّةَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، أَوْ إِقْرَارٌ، أَوْ نُكُولٌ عَنْ يَمِينٍ، أَوْ يَمِينٌ، أَوْ قَسَامَةٌ، أَوْ عِلْمُ الْقَاضِي بَعْدَ تَوَلِّيهِ، أَوْ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ، وَقَالَ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ مِنَ الدَّعْوَى.
وَذُكِرَ أَنَّهُ لاَ يُقْضَى بِالْقَرِينَةِ إِلاَّ فِي مَسَائِلَ ذَكَرَهَا فِي الشَّرْحِ فِي بَابِ التَّحَالُفِ.
وَقَدْ نَصَّ الْمُزَنِيُّ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالظُّنُونِ، بَعْدَ ذِكْرِ النِّزَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَتَنَازُعِ عَطَّارٍ وَدَبَّاغٍ، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ اسْتِعْمَالُ الظُّنُونِ لَقُضِيَ بِالْعِطْرِ لِلْعَطَّارِ، وَالدِّبَاغِ لِلدَّبَّاغِ.
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الإْمَامُ الْجَصَّاصُ صُوَرًا كَثِيرَةً عَمِلُوا فِي بَعْضِهَا بِالْقَرَائِنِ، كَالاِخْتِلاَفِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلزَّوْجَةِ، وَمَا لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلزَّوْجِ، فَحَكَمُوا بِظَاهِرِ هَيْئَةِ الْمَتَاعِ.
وَمِمَّا يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ يُعْمِلُونَ الْقَرَائِنَ - إِنِ اعْتَبَرُوهَا عَامِلَةً - فِي خُصُوصِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلاَ يُعْمِلُونَهَا فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ، فَاعْتَبَرُوا مَثَلاً سُكُوتَ الْبِكْرِ أَوْ صَمْتَهَا قَرِينَةً عَلَى الرِّضَا، وَقَبْضَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِحَضْرَةِ الْمَالِكِ مَعَ سُكُوتِهِ إِذْنًا بِالْقَبْضِ، وَوَضْعَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ قَرِينَةً عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ، وَقَبُولَ التَّهْنِئَةِ فِي وِلاَدَةِ الْمَوْلُودِ أَيَّامَ التَّهْنِئَةِ الْمُعْتَادَةِ قَرِينَةً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَاعْتَبَرُوا عَلاَمَةَ الْكَنْزِ، وَقَالُوا إِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الإْسْلاَمِ كَانَتْ لُقَطَةً، وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الْكُفْرِ فَفِيهَا الْخُمُسُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ الاِبْنُ تَعْلِيقًا عَلَى رِسَالَةِ وَالِدِهِ الْمُسَمَّاةِ نَشْرَ الْعُرْفِ فِي بِنَاءِ بَعْضِ الأْحْكَامِ عَلَى الْعُرْفِ فَقَالَ: لِلْمُفْتِي الآْنَ أَنْ يُفْتِيَ عَلَى عُرْفِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَإِنْ خَالَفَ زَمَانَ الْمُتَقَدِّمِينَ.

