مذكرة المشروع التمهيدي للمادة 407 الملغاة من القانون المدني والمقابلة للمادة 100 من قانون الإثبات:
1- استلهم المشروع في هذه المادة أحكام التقنين الفرنسي (المادة 1353 ) والتقنين الإيطالي (المادة 1354) والتقنين الهولندي (المادة 1959 ) والتقنين الكندي ( المادة 1242) والتقنين المراكشي (المادتان 444 و 455 ) والتقنين الأسباني ( المادة 1253 ) والمشروع الفرنسي الإيطالى ( المادة 305 ) وبوجه خاص أحكام المادة 2519 من التقنين البرتغالي .
ويقوم الإثبات بالقرائن غير المقررة في القانون على تفسير القاضي لما هو معلوم من الأمارات والوقائع تفسيراً عقلياً لتكوين إعتقاده ، من طريق إستخلاص الواقعة المجهولة التي يراد إقامة الدليل عليها من مقدمات هذا المعلوم .
2- شروط قبول الإثبات بالقرائن : ورد الإثبات بالقرائن مع الإثبات بالبينة في المرتبة الثانية ، ولذلك نص على أنه لا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة . ويتفرع على ذلك أن جميع القواعد الخاصة بقبول الإثبات بالبينة تسري على القرائن دون أي إستثناء . وقد أخطأ التقنين الفرنسي ( المادة 1353 ) والتقنين الهولندي ( المادة 1959 ) والمشروع الفرنسي الإيطالي (المادة 303) في النص على عدم جواز الإثبات بالقرائن غير المقررة في القانون، إلا في الأحوال التي يجوز فيها الإثبات بالبينة ، (ما لم يطعن في الورقة بسبب غش أو تدليس ). ذلك أن سياق هذا الإستثناء قد يوحي بأن وقائع الغش والتدليس لا يجوز إثباتها بالبينة ، مع أنها من قبيل الوقائع القانونية التي يمتنع تحصیل دلیل کتابي مهيء بشأنها. ومن المحقق أن إثبات هذه الوقائع بالبينة جائز ، وهو جائز بالقرائن تفريعاً على ذلك ، ولهذا يكون الإستدراك الذي تقدمت الإشارة إليه خلواً من معنى الإستثناء ويكون إغفاله أكفل بدفع الشبه والتلبيس.
ولم يوفق المشروع الفرنسي الإيطالي كذلك في إضافة عبارة ( ما لم تكن القرينة مبنية على وقائع تعتبر تنفيذاً إرادياً جزئياً أو كلياً للتعهد المدعى به ) إلى نص المادة 303 فإذا كان بدء التنفيذ يستخلص من حالة الأمكنة أو من وجود المدعى عليه بها ، أي من وقائع تدل على التنفيذ الاختياري للتعهد المدعى به ، فمثل هذه الوقائع تعتبر من قبيل الإقرارات غير القضائية لا من قبيل القرائن .
3- حجية القرائن : وللقاضي كل السلطة في تقدير حجية القرائن ، على أن إجماع الفقه قد إنعقد على أن القاضي لا يتقيد بعدد القرائن ، ولا بتطابقها ، فقد تجزیء قرينة واحدة ، متى توافرت على قوة الإقناع . ولذلك لم ينقل المشروع عن التقنين الفرنسي والمشروع الفرنسي الإيطالي ما نصا عليه من إلزام القاضي ( بألا يقبل إلا قرائن قوية محددة متطابقة ) . فالفقه والقضاء على أن هذا النص ليس إلا مجرد توجيه ، مع أن ظاهره قد يوحي خطأ بأنه يقيم شرطاً لقبول الإثبات بالقرائن .
1- المقرر - في قضاء هذه المحكمة – أن نص المادة 100 من قانون الإثبات مفاده أن المشرع أجاز الإثبات بالقرائن القضائية في جميع الأحوال التي يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود ، وجعل تقدير تلك القرائن منوطاً باطمئنان قاضي الموضوع ومن ثم فإن مبدأ الثبوت بالكتابة يجوز تكملته بشهادة الشهود كما يجوز تكملته بالقرائن حتى يكون له ما للكتابة من قوة في الإثبات .
( الطعن رقم 13323 لسنة 89 ق - جلسة 27 / 4 / 2024 )
2 ـ نصت المادة 100 من قانون الإثبات على أنه ( يترك للقاضى استنباط كل قرينة لم يقررها القانون ) والقرينة هى استنباط أمر مجهول من أمر معلوم فمهمة القاضى أن يستنبط من الوقائع والدلائل الثابتة لديه حقيقة الأمر فى الواقعة المراد إثباتها .
(الطعن رقم 5562 لسنة 64 جلسة 2005/01/10 س 56 ص 77 ق 13) ( الدوائر المدنية )
3 ـ الترجيح بين البيانات من أهم واجبات قاضي الموضوع، ولذلك أطلق المشرع يده فنصت المادة 100 من قانون الإثبات على أن يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون.. حتى يتمكن القاضي من أن يستنبط من الوقائع الثابتة لديه دليلا على الواقعة المراد إثباتها فى ضوء فهم الواقع فى الدعوى وظروفها وملابساتها باستنباط سليم واستدلال سائغ.
(الطعن رقم 2715 لسنة 70 جلسة 2001/12/24 س 52 ع 2 ص 1315 ق 257) ( الدوائر المدنية )
4 ـ مفاد نص المادة 100 من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 أن لقاضى الموضوع السلطة المطلقة فى إستنباط القرائن التى يعتمد عليها فى تكوين عقيدته غير مقيد فى ذلك بالقاعدة التى تفرض عليه ألا يبنى إقتناعه على وقائع لم تثبت بالطرق القانونية أو على وثائق لم تكن محل مناقشة الخصوم ، فله أن يعتمد على القرينة المستفادة من تحقيقات أجريت فى غيبة الخصوم أو من محضر جمع إستدلالات أجرته الشرطة أو من شهادة شاهدى لم يؤد اليمين ، و لا رقابة عليه فيما يستخلصه سائغاً . و إذ كان البين من الأوراق أن المطعون عليها قدمت صورة رسمية من محضر الجنحة لإثبات وضع يدها على الشقة موضوع النزاع و وقوع إعتداء على حيازتها ، و إستدل الحكم المطعون فيه على ثبوت مدعاها بالقرائن التى إستخلصها من الوقائع التى تضمنها المحضر و من أقوال الشهود الذين سمعوا فيه و كان إستنباطه فى ذلك سائغاً ، فإنه لا تثريب على الحكم إن هو أقام قضاءه على القرائن التى إستنبطها من الأقوال الثابتة فى الصورة الرسمية لذلك المحضر ، و يكون النعى الموجه إلى هذه القرائن و تعييب الدليل المستمد منها مجادلة مضوعية فى تقدير محكمة الموضوع بغية الوصول إلى نتيجة أخرى غير التى أخذت بها و هو ما لم يجوز أمام محكمة النقض .
(الطعن رقم 711 لسنة 42 جلسة 1976/05/05 س 27 ع 1 ص 1063 ق 204) ( الدوائر المدنية )
5 ـ من المقرر - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة أنه فى الأحوال التى يكون الإثبات فيها جائزاً بالبينة و القرائن يصح الإستدلال بأقوال الشهود أمام الخبير أو فى أى تحقيق إدارى دون حلف يمين ، كقرينة ضمن قرائن أخرى .
(الطعن رقم 721 لسنة 42 جلسة 1977/06/30 س 28 ع 1 ص 1543 ق 268)
6 ـ الأصل فى القرائن أنها من إطلاقات محكمة الموضوع إلا أنه يشترط أن يكون إستنباطها سائغاً ، و أن يكون إستدلال الحكم له سنده من الأوراق و مؤديا إلى النتيجة التى بنى عليها قضاءه .
(الطعن رقم 80 لسنة 48 جلسة 1979/01/24 س 30 ع 1 ص 369 ق 72)
7 ـ النص فى الفقرة الأولى من المادة 62 من قانون الإثبات على أنه " يجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بالكتابة إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة يدل على أن المشرع قد جعل المبدأ الثبوت بالكتابة ما للكتابة من قوة فى الإثبات متى أكملة الخصوم بشهادة الشهود و يستوى فى ذلك أن يكون الإثبات بالكتابة مشترطاً بنص القانون ، أو بإتفاق الطرفين ، و لما كانت المادة 100 من القانون المشار إليه قد نصت على أن " يترك لتقدير القاضى إستنباط كل قرينه لم يقررها القانون ، و لا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا فى الأحوال التى يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود " فإن مفاد ذلك أن المشرع أجاز الإثبات بالقرائن القضائية فى جميع الأحوال التى يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود ، و جعل تقدير تلك القرائن منوطاً بإطمئنان محكمة الموضوع ، و من ثم فإن مبدأ الثبوت بالكتابة يجوز تكملتة بشهادة الشهود كما يجوز تكملتة بالقرائن القضائية حتى يكون له ما للكتابة من قوة فى الإثبات .
(الطعن رقم 24 لسنة 44 جلسة 1979/03/05 س 30 ع 1 ص 713 ق 132)
8 ـ محاضر جمع الإستدلالات التى تقدم صورها الرسمية فى الدعاوى المدنية لا تعدو أن تكون مستنداً من مستندات الدعوى ، من حق المحكمة أن تستخلص مما تضمنته من إستجوابات و معاينات مجرد قرينة تستهدى بها للتوصل إلى وجه الحق فى الدعوى المعروضة عليها فلها أن تأخذ بها و لها أن تهدرها و لها أن تنتفى جزءاً منها و تطرح سائره دون أن يكون لها تأثير عليها فى قضائه . و لقد كان ما قرره الحكم المطعون فيه من أن المعاينة الأولى التى أجريت فى محضر جمع الإستدلالات لها حجية و لا يجوز الطعن عليها إلا بالتزوير يعد بهذه المثابة خطأ فى تطبيق القانون ، إلا أنه لما كان الواضح أن ما ساقه الحكم المطعون عليه فى هذا الشأن . لا يعدو أن يكون فصله زائداً القول فيها فإن النعى فى شأنها يكون غير منتج .
(الطعن رقم 1020 لسنة 46 جلسة 1978/11/08 س 29 ع 2 ص 1699 ق 326)
9 ـ المقرر - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن حجية الأحكام القضائية فى المسائل المدنية لا تقوم إلا بين من كانوا طرفاً فى الخصومة حقيقة و حكماً و لا يستطيع الشخص الذى صدر لمصلحته حكم سابق الإحتجاج به على من كان خارجاً عن الخصومة و لم يكن ممثلاً فيها وفقاً للقواعد القانونية المقررة فى هذا الشأن ، و أنه و إن جاز الإستدلال بها فى دعوى أخرى لم يكن الخصم طرفاً فيها إلا أن ذلك لا يكون بإعتبارها أحكاماً لها حجية قبله و إنما كقرينة و عندئذ تخضع لتقرير محكمة الموضوع التى لها أن تستخلص منها ما تقتنع به متى كان إستخلاصها سائغاً ، و لها ألا تأخذ بها متى وجدت فى أوراق الدعوى ما يناقض من مدلولها شأنها فى ذلك شأن القرائن القضائية التى يستقل بتقديرها قاض الموضوع و لا رقابة لمحكمة النقض عليه فى ذلك .
(الطعن رقم 442 لسنة 45 جلسة 1978/11/22 س 29 ع 2 ص 1731 ق 334)
10 ـ الأصل فى القرائن أنها من إطلاقات محكمة الموضوع إلا أنه يشترط أن يكون إستنباطها سائغاً ، و أن يكون إستدلال الحكم له سنده من الأوراق و مؤديا إلى النتيجة التى بنى عليها قضاءه .
(الطعن رقم 80 لسنة 48 جلسة 1979/01/24 س 30 ع 1 ص 369 ق 72)
11 ـ للقاضى إستنباط القرنية التى يعتمد عليها فى تكوين عقيدت من أى تحقيق قضائى أو إدارى ، و من ثم فلا يعيب الحكم تعويله على أقوال وردت باحدى الشكاوى الإدارية و إتخاذه منها قرينه على التأجير من الباطن طالما أن استخلاصه سائغا و له سنده فى الأوراق .
(الطعن رقم 1290 لسنة 48 جلسة 1979/06/13 س 30 ع 2 ص 620 ق 302)
12 ـ استقلال محكمة الموضوع بتقدير القرائن القضائية وإطراح ما لا ترى الأخذ به منها ، محله أن تكون قد اطلعت عليها ، وأخضعتها لتقديرها ، أما إذا بان من الحكم أن المحكمة لم تطلع على تلك القرائن وبالتالى لم تبحثها ، فإن حكمها يكون قاصراً قصوراً يبطله .
(الطعن رقم 164 لسنة 42 جلسة 1976/04/14 س 27 ع 1 ص 945 ق 179)
13 ـ محكمة الموضوع غير ملزمة بالتحدث فى حكمها عن كل قرينة من القرائن بغير القانونية التى يدلى بها الخصوم إستدلالاً على دعواهم ، كما أنها غير مكلفة بأن تورد كل حجج الخصوم ونفندها طالما أنها أقامت قضاءها على ما يكفى لحمله .
(الطعن رقم 350 لسنة 39 جلسة 1974/11/21 س 25 ع 1 ص 1260 ق 214)
14 ـ متى إعتمد الحكم على أدلة و قرائن متساندة تؤدى فى مجموعها إلى ما خلص إليه من أن نية الطرفين قد إنصرفت إلى الوصية لا البيع المنجز ، فإنه لا يجوز للطاعنة المجادلة فى النتيجة التى إستخلصها الحكم بمناقشة كل قرينة على حدة لإثبات عدم كفايتها فى ذاتها .
(الطعن رقم 109 لسنة 38 جلسة 1973/04/10 س 24 ع 2 ص 577 ق 102)
15 ـ عدم توقيع جميع الشركاء على عقدى القسمة ، و كونها لا تصلح للإحتجاج بها على الطاعنين ليس من شأنه أن يحول دون وضع يد المطعون عليهم - شركاؤهم فى الملكية على الأطيان موضوع العقدين - وضعاً مؤديا لكسب الملك ، و لا يمنع من أن يتخذ الحكم من هذين العقدين قرينة على ثبوت وضع اليد ، تضاف إلى أقوال شاهدى الإثبات .
(الطعن رقم 255 لسنة 36 جلسة 1971/06/24 س 22 ع 2 ص 809 ق 132)
16 ـ تحقيق وضع اليد هو مما يجوز فيه قبول القرائن كدليل من أدلة الإثبات ، و إذ كان من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن إجراء التحقيق لإثبات وقائع يجوز إثباتها بالبينة ليس حقا للخصوم يتحتم إجابتهم إليه فى كل حاله ، بل أمر ذلك متروكا لمحكمة الموضوع ، ترفض الإجابة إليه متى رات بما لها من سلطة التقدير أنه لا حاجة لها به و أن فى أوراق الدعوى و القوانين المستنبطة من هذه الأوراق ما يكفى لتكوين عقيدتها ، و حسبها أن تبين فى حكمها القرائن المقبولة التى إستندت إليها و الأسباب السائغة التى إعتمدت عليها فى رفض طلب التحقيق .
(الطعن رقم 250 لسنة 36 جلسة 1970/12/22 س 21 ع 3 ص 1272 ق 208)
17 ـ المقرر - فى قضاء محكمة النقض - أن التحقيق الذي يصح اتخاذه سندا للحكم هو الذي يجرى وفقا للأحكام التي رسمها القانون لشهادة الشهود فى المادة 68 وما بعدها من قانون الإثبات، تلك الأحكام التي تقضي بأن يحصل التحقيق أمام المحكمة ذاتها بمعرفة قاضي تندبه لذلك وتوجب أن يحلف الشاهد اليمين إلى غير ذلك من الضمانات المختلفة التي تكفل حسن سير التحقيق توصلا إلى الحقيقة، أما ما يجريه الخبير من سماع شهود ولو أنه يكون بناء على ترخيص من المحكمة لا يعد تحقيقا بالمعنى المقصود إذ هو مجرد إجراء ليس الغرض منه إلا أن يهتدي به الخبير فى أداء المهمة، ولا يجوز الاعتماد على أقوال الشهود أمام الخبير إلا باعتبارها مجرد قرينة قضائية لا تصلح وحدها لإقامة الحكم عليها, وإنما يتعين أن تكون مضافة إلى قرائن أخرى تؤدي فى مجموعها إلى النتيجة التي انتهت إليها المحكمة.
(الطعن رقم 1008 لسنة 69 جلسة 2002/04/16 س 53 ع 1 ص 547 ق 104)
القرائن القضائية
القرينة القضائية هي ما يستخلصه القاضي منطقياً من وقائع ثابتة في القضية من أجل تأكيد وقائع ينقصها الإثبات . وتنص المادة (100) من قانون الإثبات على أن «يترك لتقدير القاضي إستنباط كل قرينة لم يقررها القانون» .
وعمل القاضي لإستنباط القرينة القضائية هو عمل ذهني يستخدم فيه ذكاءه ومنطقه . على أن هذا العمل لا يجب أن يستند إلى فراغ بل يجب أن يكون إستنباطاً من وقائع ثابتة . أي إستنباطأ من إمارات وظروف ثابتة . وهذه الإمارات والظروف لا تقع تحت حصر ، يختار منها القاضي ما يرى في إمكانه إستخراج قرائن منها. وسلطته ، سواء بالنسبة لإختيار هذه الإمارات والظروف أو لإستخراج القرائن منها ، كاملة لا تخضع لرقابة محكمة النقض ما دام تسبيبه كافياً .
وللقاضي أن يستند إلى قرينة قضائية واحدة أو إلى عدة قرائن متوافقة فيما بينها .
على أن إستقلال محكمة الموضوع بتقدير القرائن القضائية وإطراح ما لا يرى الأخذ به منها محله أن تكون قد اطلعت عليها وأخضعتها لتقديرها . أما إذا بان من الحكم أن المحكمة لم تطلع على تلك القرائن التي تمسك بها الخصم وبالتالي لم تبحثها ، فإن حكمها يكون قاصراً قصوراً يبطله .
وبسبب سلطة القاضي الواسعة في إستنباط القرائن ، فقد نص القانون على أنه لا يجوز الإثبات بموجبها إلا حيث يجوز الإثبات بشهادة الشهود (مادة 100 من قانون الإثبات) وعلى هذا لا يجوز بناء الحكم على قرينة قضائية إذا كان محل الإثبات واقعة تزيد قيمتها على ألف جنيه أو كان يراد إثبات ما يجاوز أو ما يخالف الكتابة إلا حيث توجد إحدى الحالات الإستثنائية التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة على خلاف هاتين القاعدتين . ومن ناحية أخرى ، فإن القرينة القضائية تقبل دائماً إثبات العكس ، ويمكن القيام بهذا الإثبات بكافة طرق الإثبات .( المبسوط في قانون القضاء المدني علماً وعملاً، الدكتور/ فتحي والي، طبعة 2017 دار النهضة العربية، الجزء : الثاني ، الصفحة : 265)
تعريف القرينة – نوعان من القرائن : عرفت المادة 1349 من التقنين المدنى الفرنسى القرائن بوجه عام بأنها هى " النتائج التى يستخلصها القانون أو القاضى من واقعة معلومة لمعرفة واقعة مجهولة " .
فهى إذن أدلة غير مباشرة ، إذ لا تقع الإثبات فيها على الواقعة ذاتها مصدر الحق ، بل على واقعة أخرى إذا ثبتت أمكن أن يستخلص منها الواقعة المراد إثباتها . وهذا ضرب من تحويل الإثبات من محل إلى آخر ، وسنعود إلى ذلك فيما بعد . مثل ذلك أن تكون الزوجية قرينة عى الصورية ، فالواقعة المعلومة هى قيام الزوجية بين المتعاقدين ، ويستدل القاضى من هذه الواقعة الثابتة على الواقعة المراد إثباتها ، وهى صورية العقد المبرم ما بين الزوجين . ومثل ذلك أيضاً أن يكون وجود سند الدين فى يد المدين قرينة على الوفاء ، فالواقعة المعلومة هى وجود سند الدين فى يد المدين ، ويستدل القاضى من هذه الواقعة على واقعة الوفاء . ومثل ذلك أخيراً أن يكون التصرف فى مرض الموت قرينة على التصرف وصية ، فالواقعة المعلومة هى إبرام التصرف فى مرض الموت ، ويستدل القاضى منها على أن هذا التصرف وصية .
والقرائن ، كما قدمنا ، إما قرائن قانونية أو قرائن قضائية . فالقرائن القانونية هى التى ينص عليها القانون . وهى ليست طريقاً للإثبات ، بل هى طريق يعفى من الإثبات ، فسنبحثها إذن مع الإقرار واليمين . والقرائن القضائية هى التى تترك لتقدير القاضى يستخلصها من ظروف القضية وملابساتها ، وهى وحدها موضع هذا البحث .
ونبحث : أولاً عناصر القرينة القضائية وسلطة القاضى فى تقديرها ثانياً : تكييف القرائن بوجه عام وتحولها من قرائن قضائية إلى قرائن قانونية .
عناصر القرينة القضائية وسلطة القاضى فى تقديرها:
عنصران للقرينة القضائية : للقرينة القضائية عنصران :1- واقعة ثابتة يختارها القاضى من بين وقائع الدعوى ، وتسمى هذه الواقعة بالدلائل أو الأمارات . وهذا هو العنصر المدى للقرينة
عملية إستنباط يقوم بها القاضى ، ليصل من هذه الواقعة الثابتة إلى الواقعة المراد إثباتها . وهذا هو العنصر المعنوى للقرينة .
واقعة ثابتة يختارها القاضى : قد يستخلص القاضى الدليل – إذا لم يوجد إقرار أو يمين أو قرينة قانونية – لا من ورقة مكتوبة ، ولا من بينة تسمع ، ولكن من ظروف القضية وملابستها ، أو كما يقول التقنين المدنى العراقى م 505 من قرائن يستخلصها من ظروف الدعوى بعد أن يقتنع بأن لها دلالة معينة . وسبيله إلى ذلك أن يختار بعض الوقائع الثابتة أمامه فى الدعوى . قد يختارها من الوقائع التى كانت محل مناقشة بين الخصوم . وقد يختارها من ملف الدعوى ، ولو من تحقيقات باطلة . بل قد يختارها من أوراق خارج الدعوى ، كتحقيق إدارى أو محاضر إجراءات جنائية ولو كانت هذه المحاضر قد إنتهت بالحفظ .
وقد تكون الواقعة التى إختارها القاضى ثابتة بالبينة أو بورقة مكتوبة، أو بيمين نكل الخصم عن حلفها، أو بإقرار من الخصم، أو بقرينة أخري دلت علي الواقعة التي تستنبط منها القرينة، أو بجملة من الطرق مجتمعه .
يقف القاضي إذن عند واقعة يختارها تثبت عنده ، ولتكن واقعة قرض ثبتت بورقة مكتوبة أو ببينة أو بقرينة أو بغير ذلك . والقاضي حر في إختيار الواقعة التي يقف عندها ، إذ يراها أكثر مواتاة للدليل وأيسر في إستنباط القرينة .
إستنباط الواقعة المراد إثباتها من الواقعة الثابتة : ويبدأ بعد ذلك أشق مجهود يبذله القاضي في إستخلاص الدليل . إذ عليه أن يستنبط من هذه الواقعة الثابتة الدليل على الواقعة التي يراد إثباتها ، فيتخذ من الواقعة المعلومة قرينة علي الواقعة المجهولة . ففي المثل المتقدم لا يكون القاضي متعنتاً إذا هو إستخلص من واقعة القرض التي إختارها أن المقترض كان في حاجة إلي المال عندما عقد القرض ، فإذا أدعي أنه اشتري ، بعد القرض بأيام قليلة وقبل أن يفي بالقرض ، داراً من المقرض بثمن يزيد كثيراً علي مبلغ القرض ، ودفع له الثمن في الحال ، كانت هذه الوقائع متعارضة مع دلالة الواقعة الثابتة . فإذا طعن شخص في عقد البيع الصادر من المقرض إلي المقترض بأنه بيع صوري ، أو دفع بصورية دفع الثمن ، كان للقاضي أن يستخلص من واقعة القرض وحاجة المقترض إلي المال وتعارض هذه الحاجة مع دفعه ثمنا كبيراً يزيد كثيراً علي مبلغ القرض ، كان له أن يستخلص من كل ذلك قرينة علي أن المقترض لم يدفع إلي المقرض ، فتكون هذه القرينة القضائية دليلاً علي الصورية .
سلطة القاضي واسعة في التقدير :
وقد رأينا فيما تقدم أن للقاضي سلطة واسعة في إستنباط القرائن القانونية . فهو حر في إختيار واقعة ثابتة ، من بين الوقائع المتعددة التي يراها أمامه ، لإستنباط القرينة منها ، ثم هو واسع السلطات في تقدير ما تحمله هذه الواقعة من الدلالة ، وهذا هو الإستنباط . وفيه تختلف الأنظار ، وتتفاوت المدارك . فمن القضاة من يكون إستنباطه سليماً فيستقيم له الدليل ، ومنهم من يتجافي إستنباطه مع منطق الواقع . ومن ثم كانت القرينة القضائية من أسلم الأدلة من حيث الواقعة الثابتة التي تستنبط منها القرينة ، ومن أخطرها من حيث صحة الإستنباط وإستقامته .
والقاضي ، فيما له من سلطان واسع في التقدير ، قد تقنعه قرينة واحدة قوية الدلالة ، ولا تقنعه قرائن متعددة إذا كانت هذه القرائن ضعيفة متهافتة .وأما ما يذكره التقنين المدني الفرنسي م 1353 من وجوب إجتماع قرائن قوية الدلالة دقيقة التحديد ظاهرة التوافق ، فليس إلا من قبيل توجيه القاضي .ويبقي حق التقدير النهائي في ذلك له . ولا تعقب عليه محكمة النقض في هذا التقدير ، ما دامت القرينة التي إعتبرها دليلاً علي ثبوت الواقعة تؤدي عقلاً إلي ثبوتها .
لا يجوز أن يثبت بالقرائن القضائية إلا ما يجوز إثباته بالبينة : ونري مما تقدم أن الإثبات بالقرائن القضائية لا يخلو من الخطر فالقاضي ، كما رأينا ، يتمتع في إستنباط القرينة القضائية بحرية واسعة ، في ميدان تتفاوت فيه الأفهام ، وتتباين الأنظار . فليس ثمة من إستقرار كاف في وزن الدليل ، وما يراه قاض قرينة منتجة في الإثبات لا يري قاض آخر فيه شيئاً .
من أجل ذلك كانت القرينة القضائية ، كدليل إثبات ، دون منزلة الكتابة ، فهي تتساوي في منزلتها مع البينة . ولا يجوز الإثبات بقرينة قضائية إلا حيث يجوز الإثبات بالبينة .م 100 من قانون الإثبات .
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلي ما سبق أن ذكرناه في عبء الإثبات من أن هذا العبء ينتقل في الواقع من خصم إلي خصم وفقاً للقرائن القضائية التي يستخلصها القاضي من ظروف الدعوي . فالقاضي يأخذ بالقرائن القضائية ، لا للإثبات الكامل فحسب ، بل أيضاً لنقل عبء الإثبات من جانب إلي جانب ، ثم لرده إلي الجانب الأول .
والقرينة القضائية كالبينة حجة متعدية غير ملزمة ، وهي أيضاً كالبينة غير قاطعة ، إذ هي دائماً تقبل إثبات العكس ، إما بالكتابة أو بالبينة أو بقرينة مثلها أو بغير ذلك ، فهي من هذه الناحية كالقرينة القانونية غير القاطعة .
تكييف القرائن بوجه عام وتحولها من قرائن قضائية إلي قرائن قانونية :
تكييف القرائن بوجه عام :
القرينة ليست إلا نقل الإثبات من الواقعة المراد إثباتها بالذات إلي واقعة أخري قريبة منها ، إذا ثبتت إعتبر ثبوتها دليلاً علي صحة الواقعة الأولي .
ويقول بارتان في هذا المعني : " تقتضي طبيعة الأمور أن نستبدل بإثبات الواقعة مصدر الحق المدعي به ، وهي واقعة يتعذر إثباتها ، إثبات واقعة أخري قريبة منها ومتصلة بها ويطلب الخصم من القاضي أن يستخلص من صحة الواقعة الثانية ، عن طريق إستنباط يطول أو يقصر ، صحة الواقعة الأولي التي لا يتمكن من إثباتها بطريق مباشر ، فيتحول محل الإثبات علي نحو ما وهذا ما إقترح تسميته بتحول الإثبات وهو من الخصائص الجوهرية للإثبات القضائي " .
ففي القرينة القضائية القاضي هو الذي يختار هذه الواقعة القريبة المتصلة بالواقعة المراد إثباتها . أما في القرينة القانونية فالقانون هو الذي يتولي هذا الإختيار .
وهذه الواقعة القريبة المتصلة - وهي الأمارة - لا تعطي للقاضي إلا علماً ظنياً . وبالإستنباط ينتقل القاضي من العلم الظني إلي العلم اليقيني ، ومن الراجح إلي المحقق.
تحول القرائن القضائية إلي قرائن قانونية :
يقول بارتان هنا أيضاً : " أن القرينة القانونية ليست في الواقع من الأمر إلا قرينة قضائية قام القانون بتعميمها وبتنظيمها وهذا صحيح من حيث التكييف والتأصيل . فالقرينة القانونية ليست في الأصل إلا قرينة قضائية تواترت وإضطرد وقوعها ، فاستقر عليها القضاء . ومن ثم لم تصبح هذه القرينة متغيرة الدلالة من قضية إلي أخري ، فرأي المشرع في إضطرادها وإستقرارها ما يجعلها جديرة بأن ينص علي توحيد دلالتها ، فتصبح بذلك قرينة قانونية .
والأمثلة علي ذلك كثيرة ، نذكر بعضها :
يشترط في نجاح الدعوي البوليصية في المعاوضات أن يكون المدين معسراً ، وأن يكون هناك تواطؤ بين المدين ومن تصرف له . فكان إعسار المدين تقوم عليه ، في ظل التقنين المدني السابق ، قرينة قضائية ، تحولت في التقنين المدني الجديد إلي قرينة قانونية ، إذ تنص المادة 239 من هذا التقنين علي أنه " إذا ادعي الدائن إعسار المدين ، فليس عليه إلا أن يثبت مقدار ما في ذمته من ديون ، وعلي المدين نفسه أن يثبت أن له مالاً يساوي قيمة الديون أو يزيد عليها " .
وكانت هناك ، في ظل التقنين السابق ، سلسلة من القرائن القضائية تقوم دليلاً علي غش المدين وتواطئه مع من تصرف له بعوض . وقد تحولت هذه القرائن القضائية إلي قرائن قانونية في التقنين المدني الحالي ، إذ تنص المادة 238 من هذا التقنين علي أنه " إذا كان تصرف المدين بعوض إشترط لعدم نفاذه في حق الدائن أن يكون منطوياً علي غش من المدين ، وأن يكون من صدر له التصرف علي علم بهذا الغش . ويكفي لإعتبار التصرف منطوياً علي الغش أن يكون قد صدر من المدين وهو عالم أنه معسر ، كما يعتبر من صدر له التصرف عالماً بغش المدين إذا كان قد علم أن هذا المدين معسر " .
وجري القضاء ، في ظل التقنين المدني السابق ، علي إعتبار الوفاء بقسط من الأجرة قرينة قضائية علي الوفاء بالأقساط السابقة .وإضطرد هذا القضاء وإستقر ، فإرتفعت هذه القرينة القضائية في التقنين المدني الجديد إلي منزلة القرينة القانونية ، إذ نصت المادة 587 من هذا التقنين علي أن " الوفاء بقسط من الأجرة قرينة علي الوفاء بالأقساط السابقة علي هذا القسط ، حتي يقوم الدليل علي عكس ذلك " .
وقد يقع ، علي النقيض من ذلك ، أن قرينة قانونية تنزل إلي قرينة قضائية ، كما وقع في القرينة المستفادة من وجود سند الدين في يد المدين .فقد كان التقنين المدني السابق م 219/ 284 يجعله قرينة قانونية علي الوفاء ، إلي أن يقيم الدائن دليل علي العكس م 220/ 285 ولن يستبق التقنين المدني الجديد هذا النص ، نزلت هذه القرينة القانونية إلي مرتبة القرينة القضائية .
وبالرغم من أن القرينة القضائية والقرينة القانونية من طبيعة واحدة من حيث التكييف والتأصيل ، إلا أنهما تختلفان من حيث مهمة كل منهما . فالقرينة القضائية طريق إيجابي من طرق الإثبات أما القرينة القانونية فهي ، كما قدمنا ، إعفاء من الإثبات ، مؤقت أو دائم وفقاً لما إذا كانت القرينة تقبل إثبات العكس أو لا تقبل ذلك .
ونستطيع الآن ان نستخلص أهم الفروق ما بين القرائن القضائية والقرائن القانونية فيما يأتي : ( أ ) القرائن القضائية أدلة إيجابية ، أما القرائن القانونية فأدلة سلبية أي أنها تعفي من تقديم الدليل . ( ب ) لما كانت القرائن القضائية يستنبطها القاضي والقرائن القانونية يستنبطها المشرع ، فإنه يترتب علي ذلك أن القرائن القضائية لا يمكن حصرها لأنها تستنبط من ظروف كل قضية ، أما القرائن القانونية فمذكورة علي سبيل الحصر في نصوص التشريع . ( جـ ) القرائن القضائية كلها غير قاطعة ، فهي قابلة دائماً لإثبات العكس ، ويجوز دحضها بجميع الطرق ومنها البينة والقرائن ، أما القرائن القانونية فبعضها يجوز نقضه بإثبات العكس وبعضها قاطع لا يقبل الدليل العكسي.(الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور/ عبد الرزاق السنهوري، تنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، الطبعة الثانية 1982 دار النهضة العربية، الجزء : الثاني المجلد الأول ، الصفحة : 435)
أولاً : تعريف القرائن القضائية :
القرائن القضائية هي إستنباط الأمور مجهولة من أمور معلومة وبعبارة أخرى هي القرائن التي يستنتجها القاضي بإجتهاده وذكائه في موضوع الدعوى وظروفها ولذا سميت أيضاً بالقرائن الموضوعية.(المستشار أحمد نشأت في رسالة الإثبات في الجزء الثاني ص415)
ثانياً : عناصرها :
وللقرينة القضائية عنصران :
1) واقعة ثابتة يختارها القاضي من بين وقائع الدعوى وتسمى هذه الواقعة بالدلائل أو الأمارات وهذا هو العنصر المادي للقرينة.
2) عملية إستنباط يقوم بها القاضي ليصل من هذه الواقعة الثابتة إلى الواقعة المراد إثباتها وهذا هو العنصر المعنوي للقرينة. فالقاضي قد يعتبر صلة القرابة بين البائع والمشتري قرينة على صورة البيع أو على علم المشتري بإعسار البائع أو يعتبر بقاء العقد دون تسجيل وإستمرار حيازة البائع للعقار المبيع حتى وفاته وعلاقة الزوجية وعدم وجود نقود لدی المشتري عند وفاته قرائن على أن عقد البيع يخفي وصية أو يعتبر قلة الثمن الذي بيع به المنقول أو الظروف الأخرى التي تم فيها البيع قرينة على سوء نية المشتري وعلمه بأن البائع ليس مالكاً للمنقول الذي باعه له.(الدكتور محمود جمال الدين زكي في الوجيز في النظرية العامة للإلتزامات الطبعة الثالثة ص 1116) .
ثالثاً: سلطة القاضي بشأنها :
ترك الشارع للقاضي الحرية الكاملة في الإستنتاج ولم يقيده بأي قيد ولم يشترط أي شرط فكل ما يقتنع به القاضي يحكم بمقتضاه وهو بطبيعة الحال لا يأخذ إلا بالقرائن القوية المتصلة بالواقعة المراد إثباتها إتصالاً وثيقاً محكماً بحيث يؤدي إستنتاجه إلى ما سيقضي به مباشرة ولا يخفي أن كل المسئولية في ذلك واقعة عليه وعلى ضميره دون غيره بخلاف الحال في الإثبات بالشهود فإن القاضي إذا أخطأ في الإكتفاء بها قد يكون بعض المسئولية واقعة على ضمائر الشهود وليس من الضروري أن توجد في الدعوى عدة قرائن إنما إذا كان هناك عدة قرائن يجب أن تكون هذه القرائن قوية محددة متوافقة إلا إذا كان بعضها كافية في ذاته غیر متعارض مع البعض الآخر وإذا أقام القاضي حكمه على عدة قرائن مجتمعة وظهر فساد بعضها ولم يعرف أيهما كان أساساً جوهرياً لحكمه كان هذا الحكم باطلاً كذلك إذا أقام حكمه على جملة قرائن ضعيفة ليس من شأنها أن تؤدي إلى ما إنتهى إليه إنما إذا أقيم الحكم على جملة قرائن تكمل بعضها البعض وتؤدي في مجموعها إلى النتيجة التي إنتهت إليها فإنه لا تجوز مناقشة كل قرينة على حدة لإثبات كفايتها في ذاتها.(المستشار أحمد نشأت في رسالة الإثبات الطبعة السابعة الجزء الثاني ص 417 وما بعدها).
وجدير بالذكر أن القاضي يتمتع بالنسبة للقرائن القضائية بسلطة قضائية لا يتمتع بها بالنسبة للأدلة الأخرى القاضي ألا يقتصر في إستنباطه للقرينة علی وقائع وظروف النزاع المطروح أمامه إنما له أن يستنبطه كذلك من خارج دائرة هذه النزاع مادامت الأوراق المتعلقة بها قد ضمت إلى الدعوى المعروضة ومن المقرر أن للقاضي أن يستمد القرينة من وقائع لم تحصل بين طرفي الخصومة فإذا أدعي شخص أنه مالك لقطعة أرض بمقتضى عقود قديمة وقدم خصمه خريطة مساحة بين فيها أن هذه الأرض كانت مملوكة للحكومة كان للقاضي أن يستنبط من هذه الخريطة قرينة على كذب المدعي في ادعائه الملكية على أنه ينبغي بطبيعة الحال أن يراعي حق الخصوم في الإطلاع على ما قدم من أدلة وتنفذ بها.(الدكتور توفيق حسن فرج في قواعد الإثبات طبعة 1981 ص 122)
رابعاً : الحالات التي يجوز فيها الإثبات بالقرائن القضائية :
لا يجوز الإثبات بالقرائن القضائية إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بشهادة الشهود فالشارع على هذا الوجه قد أنزل القرائن في الإثبات منزلة الشهادة بحيث يجوز الإثبات بالشهادة يجوز الإثبات بالقرائن وحيث لا يجوز الإثبات بالشهادة لا يجوز أيضاً الإثبات بالقرائن وجميع القواعد المتعلقة بالإثبات بالشهادة دون إستثناء تسري على القرائن وعلى ذلك يجوز القرائن في إثبات الوقائع المادية والتصرفات القانونية التجارية والتصرفات القانونية المدنية التي لا تجاوز قيمتها عشرين جنيهاً (قبل التعديل) ولا تجوز على العكس في إثبات التصرفات القانونية المدنية التي تزيد قيمتها على عشرين جنيهاً أو تكون غير محددة القيمة ولا في إثبات ما يخالف أو يجاوز الثابت في دليل كتابي إلا في الحالات الثلاث التي إستثنيت من هاتين القاعدتين وهي وجود مبدأ ثبوت بالكتابة ووجود مانع من الحصول على دليل كتابي وفقد السند الكتابي لسبب أجنبي. (الدكتور محمود جمال الدين زكي في الوجيز في النظرية العامة للالتزامات الطبعة الثالثة ص 1117 وما بعدها).
وعبء الإثبات ينتقل في الواقع من خصم إلى خصم وفقاً للقرائن القضائية التي يستخلصها القاضي من ظروف الدعوى فالقاضي يأخذ بالقرائن القضائية لا للإثبات الكامل فحسب بل أيضاً لنقل عبء الإثبات من جانب إلى جانب ثم لرده إلى الجانب الأول ، والقرينة القضائية كالبينة حجة متعدية غير ملزمة وهي أيضاً كالبينة غير قاطعة إذا هي دائماً تقبل إثبات العكس إما بالكتابة أو بالبيئة أو بقرينة مثلها أو بغير ذلك فهي من هذه الناحية كالقرينة غير القاطعة.
(الدكتور السنهوري في الوسيط الجزء الثاني المجلد الأول ص 446).(الشرح والتعليق على قانون الإثبات المدني، المستشار/ مصطفى مجدي هرجه، طبعة 2014، 2015 دار محمود، المجلد : الثاني ، الصفحة : 181)
القرائن القضائية أو الموضوعية : هي التي يستنبطها القاضي من موضوع الدعوي وظروفها وسميت قضائية لأنه من إستنباط القاضي وسميت موضوعية لأنها تستنبط من موضوع الدعوي وظروفها ، فهي دليل غير مباشر لأن الإثبات فيها لا يقع علي الواقعة ذاتها مصدر الحق وإنما علي واقعة أخري إذا ثبت أمكن أن يستخلص منها ثبوت الواقعة المراد إثباتها ، وللقرينة القضائية عنصران :
أولهما : عنصر مادي وهو واقعة ثابتة يختارها القاضي من بين وقائع الدعوي وتسمي هذه الواقعة بالدلائل أو الإمارات ، وقد يختار القاضي هذا العنصر من الوقائع التي كانت محل مناقشة بين الخصوم أو من ملف الدعوي ولو من تحقيقات باطلة وقد يختارها من أوراق خارج الدعوي كتحقيق إداري أو محاضر إجراءات جنائية ولو كانت هذه المحاضر قد إنتهت بالحفظ وقد تكون الواقعة التي إختارها ثابتة بالبينة أو بورقة مكتوبة أو بيمين نكل الخصم عن حلفها أو بإقرار من الخصم أو بقرينة أخري دلت علي الواقعة التي تستنبط منها القرينة أو بجملة من هذه الطرق مجتمعة.
كذلك يجوز للقاضي أن يستخلص القرينة القضائية من مناقشات الخصوم ، أو من شهود أحد الخصوم الذين سمعوا في الدعوي ، أو من تقرير الخبير المنتدب في الدعوي حتى ولو كان باطلاً ، أو من أقوال الشهود الذين سمعهم الخبير بغیر حلف يمين ، أو من أي مستند مقدم في الدعوي حتى ولو يكن الخصم طرفاً فيه ، أو من تصرف قانوني حتى ولو كان باطلاً ، وكذلك يجوز إستنباط القرينة القضائية من إمتناع الخصم عن تنفيذ ما أمرت المحكمة من إجراءات الإثبات فيجوز للقاضي أن يستنبط القرينة من إمتناع الخصم عن الحضور في الجلسة المحددة للإستجواب أو من إمتناعه عن الإجابة عن الأسئلة التي توجه إليه بالجلسة ، ونظراً لأن القرائن القضائية مبنية علي وقائع ثابتة وعلي إستنباط غيرها منها ، فتعتبر هذه القرائن قرائن موضوعية وتتنوع بقدر الوقائع أي أنها لا حصر لها، ويترتب علي ذلك أن لقاضي الموضوع السلطة المطلقة في إعتماد الوقائع التي يتخذها أساساً لإستنباطه ، فيجوز له أن يتخذ لذلك وقائع متعلقة بطرفي الخصومة أو بأحدهما أو حتى بوقائع أجنبية عنهما متى كانت هذه الوقائع ذات صلة بالوقائع المراد إثباتها تسمح بإستنباط الثانية من الأولي ، ولا يتقيد القاضي في ذلك بالقاعدة التي توجب عليه ألا يحكم إلا بما يظهر له من إجراءات الدعوي المعروضة وما يعرض عليه فيها من أدلة وألا يقضي بدلیل قدمه أحد الخصمين إلا بعد أن يمكن الخصم الأخر من مناقشته ، فيجوز له أن يستنبط القرائن من تحقيقات أجريت في غيبة الخصوم أو سبق تقديمها في دعاوي أخري أو إلي جهات إدارية أو تحقيق جنائي ولو صدر فيه قرار من النيابة بأن لا وجه لإقامة الدعوي أو علي محضر تحقيق أجرته الشرطة أو محضر تحري أو محضر جمع إستدلالات أو علي دفاتر تجارية غير منتظمة أو على أوراق ودفاتر منزلية أو إلي تسجيل صوتي أو علي حكم سبق صدوره في دعوي سابقة رغم إختلاف الموضوع والسبب في كلتا الدعوين ، وقد ذهب رأي في الفقه الفرنسي إلي القول بأن للقاضي في الأخذ بالقرائن القضائية أن يعول علي علمه الشخص بعض الوقائع إلا أننا نناهض هذا الرأي وحجتنا في ذلك واضحة ولن يعيينا تبيانها ، ذلك أنه من المسلم به في أصول القانون أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه الشخصي لا فرق في ذلك بين الدليل والقرينة حتى البسيط منها .
وإذا كان يجوز إستنباط القرينة القضائية من وقائع خارج الدعوى إلا أنه يشترط لذلك أن تكون الأوراق الخاصة بهذه الوقائع مقدمة ضمن مستندات الدعوى ، فيجوز للقاضي أن يستخلص من صورية إجراءات التقاضي - في دعوى سابقة إنتهت بالحكم بصحة ونفاذ بيع - قرينة على صورية هذا العقد إضراراً بالدائن الذي لم يكن ممثلاً في تلك الدعوى .
والعنصر الثاني : هو العنصر المعنوي وهو إستنباط الواقعة المراد إثباتها من الواقعة الثابتة ، إذا علي القاضي أن يستنبط من الواقعة الثابتة التي إختارها الدليل علي الواقعة التي يراد إثباتها فيتخذ من الواقعة المعلومة قرينة علي الواقعة المجهولة ، فإذا ثبت أن شخصاً إقترض من أخر مالاً جاز للقاضي أن يستنبط من ذلك أن المقترض كان في حاجة إلى المال عندما عقد القرض فإذا ادعي أنه اشتري بعد القرض بأيام قليلة وقبل أن يفي بالقرض داراً من المقرض بثمن يزيد كثيراً على مبلغ القرض ودفع له الثمن في الحال كانت هذه الوقائع متعارضة مع دلالة الواقعة الثابتة ، فإذا طعن شخص بصورية دفع الثمن كان للقاضي أن يستخلص من واقعة القرض وحاجة المقترض إلي المال وتعارض هذه الحاجة مع دفع ثمن كبير يزيد كثيراً علي مبلغ القرض كان له أن يستخلص من كل ذلك قرينة علي أن المقترض لم يدفع الثمن إلي المقترض فتكون هذه القرينة القضائية دليلاً علي الصورية.
هذا ومن المقرر أن للقاضي سلطة واسعة في إستنباط القرائن القضائية فهو حر في إختيار واقعة ثابتة من بين الوقائع المتعددة التي يراها أمامه لإستنباط القرينة منها ثم هو واسع السلطان في تقدير ما تحمله هذه الواقعة من الدلالة وهذا هو الإستنباط والقاضي فيما له من سلطان في التقدير قد تقنعه قرينة واحدة قوية الدلالة ولا تقنعه قرائن متعددة إذا كانت هذه القرائن ضعيفة متهافتة ولا تعقيب عليه من محكمة النقض في هذا التقدير ما دامت القرينة التي إعتبرها دليلاً على ثبوت الواقعة تؤدي عقلاً إلى ثبوتها .
ولذلك إنعقد إجماع الفقه علي أن القاضي لا يتقيد بعدد القرائن ولا بتطابقها ، فقد تجزي قرينة واحدة متى توافرت علي قوة الإقناع وتأسيساً علي ذلك فلا يشترط أن يبني القاضي حكمه علي عدة قرائن ، بل يكفي أن يكون عقيدته من قرينة واحدة ويبني حكمه عليها متى كانت قوية ومنتجة في الإثبات .
وإذا أقام القاضي حكمه علي عدة قرائن فإن أثرها لا يعدو أحد أمور ثلاثة :
أولها : إذا كان الحكم قد بني علي عدة قرائن متساندة يكمل بعضها بعضاً ، ففي هذه الحالة تعتبر هذه القرائن وحدة غير قابلة للتجزئة ولا يقبل من الخصم مناقشة كل قرينة علي حدة لإثبات عدم كفايتها بذاتها .
ثانيهما : أن يكون الحكم قد أقيم على أكثر من قرينة وحدد في أسبابه دلالة كل واحدة منها ، فإذا تبين فساد بعضها فلا يجوز تعييب الحكم كانت إحدى القرائن الأخرى صحيحة وتكفي لحمله .
ثالثهما : أن يكون الحكم قد أقيم علي جملة قرائن مجتمعة دون أن يبين القاضي في أسباب الحكم أثر كل قرينة علي حدة في تكوين عقيدته فإن فساد إحداها يؤدي إلي قصور الحكم.
ولا يجوز أن يثبت بالقرائن القضائية إلا ما يجوز إثباته بالبينة ، ذلك أن الإثبات بالقرائن يتمتع فيه القاضي بحرية واسعة كما هو الأمر في الشهادة فهو طريق إثبات لا يخلو من الخطر ، ومن ثم كانت القرينة القضائية تتساوي في منزلتها مع شهادة الشهود ، ولا يجوز الإثبات بقرينة إلا حيث يجوز الإثبات بشهادة الشهود ، ومن ثم لا يجوز الإثبات بها في التصرفات التي تزيد قيمتها علي خمسمائة جنيه . وإذا كانت جميع القواعد الموضوعة الخاصة بشهادة الشهود تسري علي القرائن القضائية فإن مقتضي هذا إذا أدلي الخصم بقرينة قضائية ليستدل بها على صحة ادعائه فمن حق الخصم الأخر أن يدحض مزاعم خصمه بالقرائن ، والقاضي حر في النهاية في تقدير القرائن القضائية التي أدلي بها كل من الطرفين فله أن يأخذ بالقرينة التي يقتنع بها ويترتب عليها حكمه في الدعوي .
ويجوز للقاضي أن يرفض طلب الإثبات بشهادة الشهود إذا توافرت في الدعوي القرائن القضائية التي تكفي لتكوين عقيدتها وإقامة حكمه عليها. وقاضي الموضوع وإن كان حراً في إختيار أية واقعة من الوقائع الثابتة في الدعوي ليستنبط منها القرينة القضائية فهو حر في تقدير ما تحمله هذه الواقعة من الدلالة ولا رقابة عليه في ذلك متى كانت القرينة التي إستخلصها مستمدة من واقعة ثابتة يقيناً وكان إستنباطه مقبولاً عقلاً وعلي ذلك إذا إستمد القاضي القرينة من واقعة محتملة أو غير مقطوع بها أو من واقعة لا وجود لها فعلاً أو كان قد إستمد القرينة من واقعة ثابتة ولكن إستخلاصه غير مقبول عقلاً أو يتعارض مع الثابت في الأوراق -- فإن حكمه يكون معيباً بما يستوجب نقضه .
(الوسيط السنهوري ، الجزء الثاني ، الطبعة الثانية ص 778 وما بعدها ، والوجيز لنفس المؤلف ص 636 ، ورسالة الإثبات لنشأت ، الجزء الثاني ص 68 ، والإثبات لمحمد عبد اللطيف ، الجزء الثاني ص 112 ، والتعليق علي الإثبات لأبو الوفا ص 227).
ومما هو جدير بالذكر أن دلالة الوقائع الثابتة علي الوقائع غير الثابتة ليست ملزمة للقاضي ، فالخصم يعرض علي القاضي الوقائع الثابتة التي يريد جعلها أساساً لإستنباط ما يدعي ، ويكون للقاضي مطلق الحرية في أن يختار منها ما يشاء وفي أن يستنبط مما يختاره منها ما يري الخضم إستنباطه أو عكس ما يراه الخصم طبقاً لإقتناعه بسلامة الإستنباط أو عدم سلامته ودون حاجة إلي إجراء تحقيق بنفسه ، دون أن يكون ملزماً أن يبين في مدونات الحكم أسباب إقتناعه ، ولا أسباب تفضيله قرينة علي أخري متناقضة معها ، ولا يخضع في تقدير ذلك لرقابة محكمة النقض ما دامت القرينة التي إعتبرها دليلاً علي ثبوت الواقعة تؤدي إلي ذلك في العقل والمنطق ، غير أنه ينبغي أن يستعمل في إستنباط القرينة منتهي الحيطة والحذر ، وذلك أن الإمارة التي يتخذها أساساً للإستنباط منها لا تعطيه إلا علماً ظنياً تختلف في تأويله الأنظار وتتفاوت في الإستنباط منه المدارك ، ومن ثم فلا يكون الطعن بالنقض في حكمه مقبولاً إذا بني علي خطئه في تأويل القرينة التي إعتمد عليها في تحصيل فهم الواقع في الدعوي ، طالما كان هذا التأويل معقولاً ومحتملاً أما إذا إستحال على أي وجه مقبول هذا التأويل في العقل والمنطق ، جاز الطعن عليه بالنقض لهذا السبب ، وتأسيساً علي ذلك ، فإنه لا يشترط أن تؤدي الإمارة أو الواقعة الثابتة إلي صحة الواقعة المراد إثباتها عقلاً وبطريق اللزوم الذي لا يحتمل غير هذا المعني ، وإلا فقد إنعدمت الحاجة إلي الإستنباط الذي يعتمد أساساً علي أقيسة منطقية لصيقة ومختلطة بصفات شخصية في القاضي ترجع إلى ما يتمتع به من ذوق وتقدير ، وتأثير كل ذلك علي وجدانه ، وما تطمئن إليه نفسه وما يتبع ذلك من إختلاف نتيجة هذا الإستنباط من قاض إلي أخر .
وللقرائن القضائية خصائص ثلاث :
أولها : إن دلالتها غير قاطعة فما يستنبط عن طريقها يسمح للخصم دائماً بدحضه بكافة وسائل الإثبات ، وإن كان القاضي يبقى في النهاية حراً في تكوين إعتقاده ، ولكن الواقع أن القرائن القضائية قد تبلغ من القوة حداً يستنبط منه القاضي الأمر المراد إثباته بشكل قاطع بما لا يدع مجالاً لإحتمال عكسه ، فلا يكون ثمة محل من الناحية العلمية لإثبات العكس وإن كان حق الخصم في ذلك معترفاً به من الناحية القانونية ، وقد لا تبلغ القرائن هذا الحد من القوة فيستنتج القاضي منها الأمر المراد إثباته علي سبيل الترجيح ويفسح للخصم المجال لإثبات العكس ، وقد لا تبلغ هذا الحد من القوة ، فيعتبرها القاضي مبدأ ثبوت فحسب يكلف المدعي بتكملته بدلائل أخري .
وثانيهما: إن ما يثبت بها يعتبر حجية متعدية أي أنه يعتبر ثابتاً بالنسبة إلي الكافة ، لأن أساسه وقائع مادية ثابتة يتحقق منها القاضي شخصياً ، ويبني عليها إستنباطه فتنتفي بذلك شبهة إصطناع أحد الخصوم دليلاً لنفسه أو تسليمه بحق عليه لخصمه إضراراً بالغير .
وثالثهما : إن المشرع إعتبرها - كما سبق أن أوضحنا - من الأدلة المقيدة أي التي لا يجوز الإثبات بها في جميع الأحوال ، لأنه قدر فيها إحتمال خطا القاضي في الإستنباط فحد من خطر هذا الإحتمال بقصر الإثبات بالقرائن علي الأحوال التي يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود ، ولكنه أجاز التعويل عليها في جميع هذه الأحوال دون إستثناء .
(راجع في شرح ما تقدم الوافي في أصول الإثبات وإجراءاته في المواد المدنية للدكتور سليمان مرقص ، المجلد الثاني ، الطبعة الرابعة ص85 وما بعدها ).
ورغم أن القرائن القضائية كما بينا أنفا أدلة غير مباشرة ، كما أنه ليس لها حجية ملزمة ولا قاطعة إلا أن أهميتها من الناحية العملية لا تقع تحت حصر ، وهذا يرجع أولاً : إلي تنوعها و عدم حصرها ، وثانياً : إلي سلطة القاضي الواسعة في الأخذ بها ، وقد توسعت المحاكم في الإلتجاء إليها بقصد التخفيف . من عبء الإثبات الواقع علي المدعي في كثير من الأحوال وإلقائه علي عائق المدعي عليه .
(أحكام النقض أرقام 62، 65، 66، 68)، بل إن محكمة النقض في حكم شهير لها إعتبرت أن القرائن قد تكون أحياناً أقوي من البيئة والإقرار ( الحكم رقم 61).
وقد ذهب رأي في الفقه إلى أنه في حالة ما إذا تكرر ورود دلائل يعينها في قضايا من نوع معين وإطرد إستنباط القضاء لمعين معين من هذه الدلائل ، فإن إطراد القضاء علي هذا الوجه ينتهي بأن يجعل لهذه الدلائل عملاً قوة تعادل قوة القرائن القانونية بالرغم من عدم ورود نص عليها في القانون (إدوار عيد الجزء الثاني ص335 ) ، ويؤيد الدكتور السنهوري هذا الرأي ويضيف إليه أنه يمكن مع الوقت أن يكون هذا القضاء عرفاً قضائياً يعتبر مصدراً منشئاً لقرينة قانونية بهذا المعني (الجزء الثاني من الوسيط بند 18)، بل أن المشرع قد يتدخل أحياناً لرفع القرينة القضائية المطردة إلي مرتبة القرينة القانونية بنص صریح ومثال ذلك ما سار عليه القضاء قبل صدور القانون المدني الحالي من إعتبار حارس البناء مسئولاً عن تهدمه لمجرد ثبوت عيب في البناء أو نقص في صيانته إستناداً منه إلى أن وجود هذا العيب أو النقص يكفي لإستنباط قرينة قانونية علي خطأ الحارس فلما إطرد الأخذ بهذه القرينة القضائية رسخ في الأذهان أن هذه القرينة ملزمة وذهبت بعض الأحكام إلي إعتبارها قرينة قانونية وإنتهي المشرع في المادة 177 من التقنين المدني الحالي إلي إنشاء قرينة قانونية علي خطأ حارس البناء تقوم علي مجرد تهدم البناء ، ومثال ذلك أيضاً ما إطرد عليه القضاء في ظل القانون المدني الملغي من أن دفع المستأجر الأجرة المستحقة عن مدة معينة يمكن أن يستنبط منه قرينة قضائية علي دفع الأجرة عن المدة السابقة حيث تبني التقنين المدني الحالي هذه القرينة ورفعها إلى قرينة قانونية بما نص عليه في المادة 587 من القانون المدني الجديد.(التعليق على قانون الإثبات، المستشار/ عز الدين الديناصوري، والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات الأستاذ/ خيري راضي المحامي، الناشر/ دار الكتب والدراسات العربية، الجزء الثاني ، الصفحة : 842)
يجوز للمحكمة أن تبني حكمها علي قرينة واحدة :
يشترط في هذه الحالة أن تكون قوية ومنتجة في الإثبات ، وأن تستمد من واقعة ثابتة يقيناً ويتعين علي المحكمة أن تدفق وتحتاط في هذا لما له من أثر خطير ، كما يتعين علي محكمة الدرجة الثانية أن تعمل سلطتها في الإشراف على تقدير محكمة أول درجة لهذه القرينة وأن تتحقق من أنها لم تستمدها من واقعة محتملة أو غير مقطوع بها أو من واقعة لا وجود لها فعلاً ، كذلك فإنه يجوز للمحكمة أن تستمد القرينة من واقعة ثابتة إذا كان إستخلاصها غير مقبول عقلاً ، أو يتعارض مع الثابت في الأوراق .
إذا كان الحكم قد بني علي عدة قرائن متساندة فإن فساد إحداها يؤدي بالدليل المستمد من تساندها :
في حالة ما إذا كانت المحكمة قد أقامت قضاءها علي عدة قرائن متساندة دون أن يبين الحكم أثر كل منها في تكوين عقيدة المحكمة فإن فساد إحدى هذه القرائن يؤدي بالدليل المستمد فيها، ومن ثم يضحي الحكم مشوباً بالفساد في الإستدلال جديراً بالنقض.
القرائن في الشريعة الإسلامية :
وجد المدققون في نصوص الفقه الإسلامي طائفة من القرائن الشرعية تعدل القرائن القانونية منها :
1 - ثبوتاً نسب الولد من أبيه وهو الزوج شرعاً ، فالولد للفراش ، وقيام الزوجية قرينة على أن الولد من الزوج ، وهذه القرينة تقبل إثبات العكس ولكن بطريق خاص هو طريق اللعان.
2 - الحكم بموت المفقود إذا مات أقرانه ، وإتخاذ ذلك قرينة علي موته.
3- التصرف في مرض الموت قرينة على أن التصرف وصية.
4- تصرفات المفلس الضارة بالدائنين مردودة لقيام القرينة على سوء قصده.
5- وجود سند الدين تحت يد المدين قرينة ظاهرة علي إيفاء المدين.
(طرق القضاء في الشريعة الإسلامية للأستاذ أحمد إبراهيم ص 427 وما بعدها).(التعليق على قانون الإثبات، المستشار/ عز الدين الديناصوري، والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات الأستاذ/ خيري راضي المحامي، الناشر/ دار الكتب والدراسات العربية، الجزء الثالث، الصفحة : 870)
تعريف القرينة القضائية :
القرينة القضائية أو الموضوعية هي التي يستنبطها القاضي من موضوع الدعوى وظروفها، وسميت قضائية لأنها من إستنباط القاضي وسميت موضوعية لأنها تستنبط من موضوع الدعوى وظروفها .
وقد قضت محكمة النقض بأن :
إذ أن وضع اليد واقعة تقبل الإثبات بالطرق كافة بما فيها القرائن، والقرائن القضائية من الأدلة التي لم يحدد القانون حجيتها والتي أطلق للقاضي في الأخذ بنتيجتها وعدم الأخذ بها، كما أطلق له في أن ينزل كل قرينة منها من حيث الأهمية والتقدير المنزلة التي يراها». (طعن رقم 120 لسنة 15 ق جلسة 1946 / 1 / 10 ).
القرينة القضائية قد تنتهي إلى أن تصبح قرينة قانونية :
القرينة القضائية قد تنتهى إلى أن تصبح قرينة قانونية. من ذلك مثلاً أن المحاكم المصرية كانت تتخذ من بقاء العين في حيازة البائع مع إشتراطه على المشتري عدم التصرف فيها مادام البائع حیاً، قرينة على أن التصرف وصية. فلما جاء القانون المدني أخذ بهذه القرينة وجعل منها قرينة نص عليها في المادة 917. وكذلك الشأن بالنسبة للقرينة التي تقدر أن الوفاء بقسط من الأجرة قرينة على الوفاء بالأقساط السابقة على هذا القسط (المادة 587 مدنی)، هذه القرينة القانونية التي أخذ بها القانون المدني الجديد كانت من قبل قرينة قضائية جرى عليها القضاء قبل صدور القانون المدني الجديد .
سلطة القاضي في القرائن القضائية:
تنص المادة (100) على أن: «يترك لتقدير القاضي إستنباط كل قرينة لم يقررها القانون .... إلخ» - فالمشرع يترك للقاضی الحرية في إستنباط القرائن القضائية. ويترك له سلطة واسعة في التقدير، فهو في هذا النطاق لا يوجهه سوى إقتناعه، فيستطيع أن ينفى عما يبحثه من أمارات كل دلالة في الإثبات، ويستطيع أن يخلع عليها دلالة معينة تختلف قوتها بإختلاف كل حالة .
ولابد إذن من وجود واقعة ثابتة يقف عندها القاضي، ثم لابد من أن يستنبط القاضي من هذه الواقعة الدليل على الواقعة المراد إثباتها. وعلى هذا إذا كانت الواقعة التي يستنبط منها القاضي واقعة محتملة وغير ثابتة بيقين ، فإنها لا تصلح مصدراً للإستنباط .
فيجوز للقاضي أن يستخلص القرينة القضائية من مناقشة الخصوم أو من شهود أحد الخصوم الذين سمعوا في الدعوى أو من تقرير الخبير المنتدب في الدعوى حتى لو كان باطلاً، أو من أقوال الشهود الذين سمعهم الخبير بغير حلف يمين، أو من أي مستند يقدم في الدعوى حتى ولو لم يكن الخصم طرفاً فيه، أو من أي تصرف قانوني حتى لو كان باطلاً .
وكذلك يجوز إستنباط القرينة القضائية من إمتناع الخصم عن تنفيذ ما أمرت به المحكمة من إجراءات الإثبات، فيجوز للقاضی أن يستنبط القرينة من إمتناع الخصم عن الحضور في الجلسة المحدد للإستجواب أو من إمتناعه عن الإجابة عن الأسئلة التي توجه إليه بالجلسة.
كما يستنبط القاضي القرينة من تحقيقات أجريت في غيبة الخصم أو سبق تقديمها في دعاوى أخرى أو إلى جهات إدارية أو تحقيق جنائي ولو صدر قرار من النيابة بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية فيه أو محضر تحرى أو محضر جمع إستدلالات أو من دفاتر تجارية غير منتظمة أو أوراق أو دفاتر منزلية أو تسجيل صوتي أو حكم سبق صدوره في دعوى سأبقة رغم إختلاف الموضوع والسبب في كلتا الدعويين.
والقاضي لا يقتصر على إستنباط القرينة من وقائع وظروف النزاع المطروح أمامه، إنما له أن يستنبطها كذلك من خارج دائرة النزاع، مادامت الأوراق المتعلقة بها قد ضمت إلى الدعوى المعروضة حتى إذا كانت الوقائع لم تحصل بين طرفي الخصومة. فإذا أدعي شخص أنه مالك لقطعة أرض بمقتضی عقود قديمة، فقدم خصمه خريطة مساحية مبين فيها أن هذه الأرض كانت مملوكة للحكومة، كان القاضي أن يستنبط من هذه الخريطة قرينة على كذب المدعي في إدعائه الملكية .
إثبات عكس القرينة القضائية :
يقع عبء إثبات عكس القرينة القضائية على عاتق خصم من تمسك بها، لأنه يعتبر مدعياً خلاف الثابت فرضاً بمقتضى هذه القرينة.
الحالات التي يجوز فيها الإثبات بالقرائن :
تنص المادة (100) في عجزها على أنه: «ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود » .
ومعنى ذلك أن القرائن القضائية تعادل الإثبات بشهادة الشهود، فيرد الإثبات بالقرائن مع الإثبات بشهادة الشهود في المرتبة الثانية. فما يمكن إثباته بشهادة الشهود يمكن إثباته أيضاً بالقرائن القضائية.
وعلى ذلك فإن الإثبات بالقرائن يجوز في التصرفات المدنية إذا لم تجاوز قيمة التصرف ألف جنيه ، وفي المسائل التجارية بصفة عامة، وكذلك بالنسبة للوقائع المادية ، فكل هذه الحالات يجوز الإثبات فيها بشهادة الشهود.
ولكن لا يجوز الإثبات بالقرائن في التصرفات المدنية التي تجاوز قيمتها ألف جنيه، كما لا يجوز قبولها في إثبات ما يخالف الثابت بالكتابة أو ما يجاوزها، ولا في الحالات الخاصة التي تجب فيها الكتابة للإثبات كالصلح والكفالة. ولكن القرائن تجوز إستثناء من ذلك في حالة ما إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة أو إذا وجد مانع من الحصول على دليل كتابي، أو إذا فقد المستند الكتابي بسبب أجنبي. وكل هذه الأحكام تتبع بالنسبة للإثبات بشهادة الشهود .
وقد جاء بمذكرة المشروع التمهيدي للتقنين المدني أنه :
شروط قبول الإثبات بالقرائن : ورد الإثبات بالقرائن مع الإثبات بالبينة في المرتبة الثانية ، ولذلك نص على أنه لا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة . ويتفرع على ذلك أن جميع القواعد الخاصة بقبول الإثبات بالبينة تسري على القرائن دون أي إستثناء . وقد أخطأ التقنين الفرنسي ( المادة 1353 ) والتقنين الهولندي ( المادة 1959 ) والمشروع الفرنسي الإيطالي (المادة 303) في النص على عدم جواز الإثبات بالقرائن غير المقررة في القانون، إلا في الأحوال التي يجوز فيها الإثبات بالبينة ، (ما لم يطعن في الورقة بسبب غش أو تدليس ). ذلك أن سياق هذا الإستثناء قد يوحي بأن وقائع الغش والتدليس لا يجوز إثباتها بالبينة ، مع أنها من قبيل الوقائع القانونية التي يمتنع تحصیل دلیل کتابي مهيء بشأنها. ومن المحقق أن إثبات هذه الوقائع بالبينة جائز ، وهو جائز بالقرائن تفريعاً على ذلك ، ولهذا يكون الإستدراك الذي تقدمت الإشارة إليه خلواً من معنى الإستثناء ويكون إغفاله أكفل بدفع الشبه والتلبيس.
ولم يوفق المشروع الفرنسي الإيطالي كذلك في إضافة عبارة ( ما لم تكن القرينة مبنية على وقائع تعتبر تنفيذاً إرادياً جزئياً أو كلياً للتعهد المدعى به ) إلى نص المادة 303 فإذا كان بدء التنفيذ يستخلص من حالة الأمكنة أو من وجود المدعى عليه بها ، أي من وقائع تدل على التنفيذ الاختياري للتعهد المدعى به ، فمثل هذه الوقائع تعتبر من قبيل الإقرارات غير القضائية لا من قبيل القرائن .
رقابة محكمة النقض على محكمة الموضوع في إستنباط القرينة القضائية :
الأصل في إستنباط القرائن القضائية أنه من إطلاقات محكمة الموضوع ، لا رقابة عليها في ذلك لمحكمة النقض، طالما كان إستنباطها سائغاً وإستدلال الحكم له سنده من الأوراق ومؤدياً إلى النتيجة التي بني عليها قضاءه.
للقرائن القضائية حجية متعدية :
ما يثبت بالقرائن القضائية له حجية متعدية أي أنه يعتبر ثابتاً بالنسبة إلى الكافة لأن أساسه وقائع مادية ثابتة يتحقق منها القاضی شخصياً، ويبني عليها إستنباطه فتنتفى بذلك شبهة إصطناع أحد الخصوم دليلاً لنفسه أو تسليمه بحق عليه لخصمه إضراراً بالغير .
يجوز للمحكمة أن تبني حكمها على قرينة واحدة :
يجوز للمحكمة أن تبني حكمها على قرينة واحدة، متى كانت هذه القرينة منتجة وقوية في الإثبات، وأن تستمد من واقعة ثابتة يقيناً وإنما يجب على المحكمة أن تدقق وتحتاط في هذا لما له من أثر خطير ، كما يتعين على محكمة ثانى درجة أن تعمل سلطتها في الإشراف على تقدير محكمة أول درجة لهذه القرينة ، وأن تتحقق من أنها لم تستمدها من واقعة محتملة أو غير مقطوع بها أو من واقعة لا وجود لها فعلاً ، كذلك فإنه لا يجوز للمحكمة أن تستمد القرينة من واقعة ثابتة إذا كان إستخلاصها غير مقبول عاقلاً ، أو - يتعارض مع الثابت بالأوراق .
وجاء بمذكرة المشروع التمهيدي للتقنين المدني عن حجية القرائن أنه: «وللقاضي كل السلطة في تقدير حجية القرائن، علی أن إجماع الفقه قد انعقد على أن القاضي لا يتقيد بعدد القرائن، ولا بتطابقها، فقد تجزئ قرينة واحدة، متى توافرت على قوة الإقناع. ولذلك لم ينقل المشروع عن التقنين الفرنسي، والمشروع الفرنسي الإيطالي ما نص عليه من إلزام القاضي «بألا يقبل إلا قرائن قوية محددة متطابقة». فالفقه والقضاء على أن هذا النص ليس إلا مجرد توجيه، مع أن ظاهره قد يوحى خطأ بأنه يقيم شرطاً لقبول الإثبات بالقرائن».(موسوعة البكري القانونية في قانون الإثبات، المستشار/ محمد عزمي البكري، طبعة 2017، دار محمود، المجلد : الثالث ، الصفحة : 1369 )
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون التقاضي والإثبات الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 169 .
القرينة القضائية :
(مادة 149): يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون. ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالشهادة.
(م (407) مدني مصري، و(1740) - (1741) من المجلة).
المذكرة الإيضاحية:
1- يقوم الإثبات بالقرائن غير المقررة في القانون على تفسير القاضي ؛ لما هو معلوم من الأمارات والوقائع تفسيراً عقلياً لتكوین اعتقاده ، من طريق استخلاص الواقعة المجهولة التي يراد إقامة الدليل عليها من مقومات هذا المعلوم.
2- شروط قبول الإثبات بالقرائن:
ويرد الإثبات بالقرائن في المرتبة الثانية، ولذلك نص على أنه: «لا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالشهادة». ويتفرع على ذلك أن جميع القواعد الخاصة بقبول الإثبات بالشهادة - تسري على القرائن دون استثناء.
3- حجية القرائن:
وللقاضي كل السلطة في تقدير حجية القرائن، على أن إجماع الفقه قد انعقد على أن القاضي لا يتقيد بعدد القرائن، ولا بتطابقها ، فقد تجزيء قرينة واحدة متى توافرت على قوة الإقناع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري،قانون التقاضى والإثبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحات: 45 ، 46 ، 47 ، 48
(مادة 14) :
طرق القضاء هي : الإقرار ، والإستجواب ، والشهادة ، والكتابة ، واليمين ، والقرائن ، والمعاينة ، والخبرة.
المذكرة الإيضاحية :
اختلف الفقهاء في بيان أدلة ثبوت الدعوى ( أي: الحجج الشرعية أو طرق القضاء). وقد حصرها البعض في سبعة هي : البينة ، والإقرار ، واليمين ، والنكول ، والقسامة ، وعلم القاضي ، والقرينة القاطعة (الدر، ورد المحتار). وقال في التكملة : والحاصل أن القضاء في الإقرار مجاز (لأن الحق يثبت به بدون حكم ، وإنما يأمره القاضي بدفع ما لزمه بإقراره، وليس لزوم الحق بالقضاء ، فجعل الإقرار من طرق القضاء إنما هو بحسب الظاهر ، وإلا فالحق يثبت به لا بالقضاء)، والقسامة داخلة في اليمين ، وعلم القاضي مرجوح، والقرينة مما انفرد به ابن الفرس ، فرجعت الحجج التي هي أسباب الحكم إلى ثلاث - أي البينة واليمين والنكول .
(انظر أحمد إبراهيم، طرق القضاء، ص (7) - (11) و(219) وما بعدها)
وذكر ابن القيم في الطرق الحكمية خمسة وعشرين طريقاً ترجع عند النظر، إلى:
القرائن والعلامات الظاهرة، الشهادة، اليمين، النكول، اليد (أي الحيازة)، الإنكار، الإقرار، الخط، القرعة، القافة (أي: الخبرة في أمور النسب).
وذكر ابن فرحون في التبصرة : الشهادة والخط والإقرار والقرائن والقرعة والقافة .
وفي مجلة الأحكام العدلية نجد أن طرق القضاء هي : الإقرار ، والشهادة ، واليمين ، والنكول ، والخط ، والقرينة القاطعة .
وقد ذكرت لائحة ترتيب المحاكم الشرعية الصادر بها المرسوم بقانون رقم (78) لسنة 1931 في المادة (123) أربعة أدلة ، هي: الإقرار ، والشهادة ، والنكول عن الحلف، والقرينة القاطعة ولكنها تكلمت في الباب الثالث الخاص بالأدلة على الأدلة الخطية (في الفصل الثاني بعد الإقرار) ، ثم على اليمين والنكول (في الفصل السادس) ، وعلى المعاينة (في الفصل السابع) ، وعلى الخبرة في الفصل الثامن) ، كما تكلمت على إستجواب الخصوم (في الفصل السابع من الباب الثاني م (115) وما بعدها) وبذا زادت الأدلة فيها على الأربعة المذكورة في المادة (123) وذلك على خلاف ما ذهب إليه المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم ؛ إذ قال في طرق القضاء (ص (9) - (10)) : «أقول : إن الناظر فيما جاء في اللائحة في حجية الأوراق الرسمية والعرفية ، وفي استجواب الخصوم ومعاينة المحكمة وأهل الخبرة - يراه لا يخرج عن هذه الحجج الثلاث ؛ إذ كله يرجع إلى الإقرار ، وأن الإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان ، وهو الذي يجب التعويل عليه كما سيأتي». ولكن بالرجوع إلى المادة (134) من تلك اللائحة نجد أنها نصت على أن الأوراق الرسمية - أكانت سندات أم محررات - تكون حجة على أي شخص كان فيها تدون بها مما لا يدخلها دائماً في الإقرار ، وكذلك إستجواب الخصوم ومعاينة المحكمة وأهل الخبرة لا تدخل دائماً في الإقرار .
وبالرجوع إلى القوانين العربية الخاصة بالإثبات نجد أنها : الأدلة الكتابية ، والشهادة ، والقرائن ، والإستجواب ، والإقرار ، واليمين ، والمعاينة ، والخبرة .
(م (1) من قانون البينات السوري ، و(11) من قانون الإثبات السوداني ، وقانون الإثبات المصري ، وانظر السنهوري ، الوسيط ، ج (2) ص (89) وما بعدها) .
وإذا ألقينا نظرة فاحصة وجدنا أن طرق إثبات الدعوى ترجع إلى: الإقرار ، والشهادة ، والكتابة ، واليمين ، والنكول ، والقرينة ، والمعاينة ، والخبرة . أما القسامة - وهي خاصة بالقضاء بالدية - فهي يمين. وأما علم القاضي فالفتوى على أنه ليس طريقاً للقضاء لفساد الزمان وهو ما أخذ به هذا القانون في المادة (6) منه. وأما القافة فهي خاصة بالنسب وهو من الأحوال الشخصية وخارج عن نطاق هذا القانون .
وقد جرت بعض التقنينات على عدم النص على طرق القضاء بإعتبار أن ذلك من عمل الفقه ، ولكن تقنينات أخرى جرت على النص عليها ، کلائحة ترتيب المحاكم الشرعية ، وقانون البينات السوري ، وقانون الإثبات السوري ، وقد روعي إتباع نهج التقنينات الأخيرة في هذا القانون زيادة في البيان .
وقد سار القانون على معالجة طرق القضاء بالترتيب الآتي :
1- الإقرار .
2- إستجواب الخصوم .
3- الشهادة .
4 - الكتابة .
5- اليمين .
6- القرائن .
7- المعاينة .
8- الخبرة .
وقد روعي في هذا الترتيب نظرة الفقه الإسلامي من تقديم الإقرار بوصفه أقوى الأدلة ، يليه الإستجواب بوصفه وسيلة للإقرار ، ثم الشهادة ، ويليها الكتابة لأنها في الغالب إما أن تكون إقراراً أو شهادة، ثم اليمين ، وبقية الأدلة .
وقد خصص باب لكل طريق من هذه الطرق .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الأول ، الصفحة / 244
الْقَضَاءُ بِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ:
الْقَرِينَةُ لُغَةً: الْعَلاَمَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُطْلَبُ الْحُكْمُ بِهِ دَلاَلَةً وَاضِحَةً بِحَيْثُ تُصَيِّرُهُ فِي حَيِّزِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ إِنْسَانٌ مِنْ دَارٍ، وَمَعَهُ سِكِّينٌ فِي يَدَيْهِ، وَهُوَ مُتَلَوِّثٌ بِالدِّمَاءِ، سَرِيعُ الْحَرَكَةِ، عَلَيْهِ أَثَرُ الْخَوْفِ، فَدَخَلَ إِنْسَانٌ أَوْ جَمْعٌ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَوَجَدُوا بِهَا شَخْصًا مَذْبُوحًا لِذَلِكَ الْحِينِ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِدِمَائِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ غَيْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي وُجِدَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الدَّارِ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ، إِذْ لاَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ قَاتِلُهُ وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ ذَبَحَ نَفْسَهُ، أَوْ أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ الرَّجُلِ قَتَلَهُ ثُمَّ تَسَوَّرَ الْحَائِطَ وَهَرَبَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ:
فَأَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى ( وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ (فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا أَتَوْا بِقَمِيصِهِ إِلَى أَبِيهِمْ تَأَمَّلَهُ، فَلَمْ يَرَ خَرْقًا وَلاَ أَثَرَ نَابٍ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى كَذِبِهِمْ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ «فَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ لاِبْنَيْ عَفْرَاءَ، لَمَّا تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ. فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ فَقَالاَ: لاَ. فَقَالَ: أَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمَا قَالَ: هَذَا قَتَلَهُ، وَقَضَى لَهُ بِسَلَبِهِ». فَاعْتَمَدَ صلي الله عليه وسلم عَلَى الأْثَرِ فِي السَّيْفِ.
وَأَمَّا عَمَلُ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُ حُكْمُ عُمَرَ رضي الله عنه بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إِذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ. وَجَعَلَ ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي أَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ إِذَا قَاءَ الْخَمْرَ.
وَقَدْ سَاقَ ابْنُ الْقَيِّمِ كَثِيرًا مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي قَضَى فِيهَا الصَّحَابَةُ رضي الله عنه بِنَاءً عَلَى الْقَرَائِنِ، وَانْتَهَى إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِ» بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيِّنَةِ مَا يُظْهِرُ صِحَّةَ دَعْوَى الْمُدَّعِي. فَإِذَا ظَهَرَ صِدْقُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحُكْمِ، وَمِنْهَا الْقَرِينَةُ، حَكَمَ لَهُ .
- الْقَرَائِنُ الْقَوِيَّةُ: كَتَبَسُّمِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ، وَضَحِكِهَا ضَحِكَ سُرُورٍ وَابْتِهَاجٍ، وَسُكُوتِهَا وَقَبْضِهَا مَهْرَهَا، عِنْدَ إِعْلاَمِ وَلِيِّهَا إِيَّاهَا أَنَّهُ زَوَّجَهَا مِنْ فُلاَنٍ، فَإِنَّهَا قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى إِجَازَتِهَا، بِخِلاَفِ بُكَائِهَا بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ وَوَلْوَلَتِهَا، فَهِيَ قَرِينَةٌ عَلَى الرَّفْضِ.
وَمِنَ الْقَرَائِنِ الْقَوِيَّةِ السُّكُوتُ فِي مَوْطِنِ الْحَاجَةِ إِلَى الإْبْطَالِ، كَسُكُوتِ صَاحِبِ الْحَاجَةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ حَاجَتِهِ يَبِيعُهَا صَغِيرُهُ الْمُمَيِّزُ فِي السُّوقِ وَغَيْرِهَا.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني ، الصفحة / 228
إِثْبَاتُ الإْحْصَانِ فِي الْقَذْفِ:
كُلُّ مُسْلِمٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْعِفَّةِ مَا لَمْ يُقِرَّ بِالزِّنَى، أَوْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةٍ عُدُولٍ، فَإِذَا قُذِفَ إِنْسَانٌ بِالزِّنَى فَالْمُطَالَبُ بِإِثْبَاتِ الزِّنَى وَعَدَمِ الْعِفَّةِ هُوَ الْقَاذِفُ، لقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.
وَأَمَّا الْمَقْذُوفُ فَلاَ يُطَالَبُ بِإِثْبَاتِ الْعِفَّةِ؛ لأِنَّ النَّاسَ مَحْمُولُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يُثْبِتَ الْقَاذِفُ خِلاَفَهُ، فَإِذَا أَقَرَّ الْقَاذِفُ بِإِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ ثَبَتَ الإْحْصَانُ.
وَإِنْ أَنْكَرَ الْقَاذِفُ الإْحْصَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الْبُرْهَانَ عَلَى سُقُوطِ عِفَّةِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإْثْبَاتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمَقْذُوفَ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث ، الصفحة / 262
مَا يَثْبُتُ بِهِ الاِسْتِخْلاَفُ فِي الْقَضَاءِ:
كُلُّ لَفْظٍ يُفِيدُ الاِسْتِخْلاَفَ يَصِحُّ بِهِ وَيَنْعَقِدُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَلْفَاظِ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ أَمْ لاَ، وَكَذَلِكَ أَيُّ دَلِيلٍ أَوْ قَرِينَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الاِسْتِخْلاَفُ يُعْمَلُ بِهَا وَيُعَوَّلُ عَلَيْهَا.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع عشر ، الصفحة / 139
مَدَى ثُبُوتِ الْحُدُودِ بِالْقَرَائِنِ:
تَخْتَلِفُ الْقَرَائِنُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحُدُودِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا - مِنْ حَدٍّ لآِخَرَ.
فَالْقَرِينَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الزِّنَى: هِيَ ظُهُورُ الْحَمْلِ فِي امْرَأَةٍ غَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ أَوْ لاَ يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ.
وَالْقَرِينَةُ فِي الشُّرْبِ: الرَّائِحَةُ، وَالْقَيْءُ، وَالسُّكْرُ، وَوُجُودُ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَفِي السَّرِقَةِ وُجُودُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَوُجُودُ أَثَرٍ لِلْمُتَّهَمِ فِي مَوْضِعِ السَّرِقَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَفِي كُلٍّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ فُصِّلَتْ فِي مَوَاطِنِهَا وَتُنْظَرُ فِي كُلِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (قَرِينَةٌ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الرابع والعشرون ، الصفحة / 42
- الْقَرَائِنُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِعِلْمِ الإِْمَامِ وَالْقَاضِي، فَلاَ يُقِيمَانِهِ بِعِلْمِهِمَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى ثُبُوتِهِ بِعِلْمِهِ. وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ) ف 28).
- الْقَرَائِنُ:
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالإِْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ. وَيَرَى بَعْضُهُمْ جَوَازَ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ إِقَامَةُ الْحَدِّ وَضَمَانُ الْمَالِ، بِالْقَرَائِنِ وَالأَْمَارَاتِ إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةَ الدَّلاَلَةِ بِاعْتِبَارِهَا مِنَ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ «لَمْ يَزَلِ الأَْئِمَّةُ وَالْخُلَفَاءُ يَحْكُمُونَ بِالْقَطْعِ إِذَا وُجِدَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ مَعَ الْمُتَّهَمِ، وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ وَالإِْقْرَارِ فَإِنَّهُمَا خَبَرَانِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَوُجُودُ الْمَالِ مَعَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ لاَ تَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شُبْهَةٌ».
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس والعشرون ، الصفحة / 214
شَهَادَةٌ
التَّعْرِيفُ:
- مِنْ مَعَانِي الشَّهَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخَبَرُ الْقَاطِعُ، وَالْحُضُورُ وَالْمُعَايَنَةُ وَالْعَلاَنِيَةُ، وَالْقَسَمُ، وَالإِْقْرَارُ، وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. يُقَالُ: شَهِدَ بِكَذَا إِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَشَهِدَ كَذَا إِذَا حَضَرَهُ، أَوْ عَايَنَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُعَدَّى الْفِعْلُ (شَهِدَ) بِالْهَمْزَةِ، فَيُقَالُ: أَشْهَدْتُهُ الشَّيْءَ إِشْهَادًا، أَوْ بِالأَْلِفِ، فَقَالَ: شَاهَدْتُهُ مُشَاهَدَةً، مِثْلُ عَايَنْتُهُ وَزْنًا وَمَعْنًى.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ: قوله تعالي فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: «وَشَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمُعَايَنَةِ: قوله تعالي وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)
قَالَ الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ مَعْنَاهَا: «وَقَوْلُهُ( أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) ، يَعْنِي مُشَاهَدَةَ الْبَصَرِ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْقَسَمِ أَوِ الْيَمِينِ: قوله تعالي فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: «الشَّهَادَةُ مَعْنَاهَا الْيَمِينُ هَاهُنَا.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْقَاطِعِ: قوله تعالي وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا.
وَاسْتِعْمَالُهَا بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الإِْقْرَارِ: قوله تعالي شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ).
أَيْ مُقِرِّينَ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْسِ هِيَ الإِْقْرَارُ.
وَتُطْلَقُ الشَّهَادَةُ أَيْضًا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. (وَهِيَ قَوْلُنَا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وَتُسَمَّى الْعِبَارَةُ (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَمَعْنَاهُمَا هُنَا مُتَفَرِّعٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ (الإِْخْبَارُ وَالإِْقْرَارُ)، فَإِنْ مَعْنَى الشَّهَادَةِ هُنَا هُوَ الإِْعْلاَمُ وَالْبَيَانُ لأَِمْرٍ قَدْ عُلِمَ وَالإِْقْرَارُ الاِعْتِرَافُ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هُوَ: «أَعْلَمُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَأُبَيِّنُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْلَمُ وَأُبَيِّنُ أَنَّ مُحَمَّدًا مُبَلِّغٌ لِلأَْخْبَارِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُمِّيَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالتَّشَهُّدِ، وَهُوَ صِيغَةُ (تَفَعَّلَ) مِنَ الشَّهَادَةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ (التَّشَهُّدُ) عَلَى (التَّحِيَّاتِ) الَّتِي تُقْرَأُ فِي آخِرِ الصَّلاَةِ.
جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ. صلي الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمُ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْعَلاَنِيَةِقوله تعالي عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الآْيَةِ: «السِّرُّ وَالْعَلاَنِيَةُ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: قوله تعالي فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ).
فَهُوَ شَهِيدٌ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةَ، جَمْعُهُ شُهَدَاءُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الإِْخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ).
وَاسْتَعْمَلُوا اللَّفْظَ فِي الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شَهِيدٌ).
وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الْقَسَمِ كَمَا فِي اللِّعَانِ، (وَبَيَانُهُ فِي اللِّعَانِ).
كَمَا اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الإِْخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ
الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ الْبَحْثِ فِي هَذَا الْمُصْطَلَحِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الشَّهَادَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى.
فَعَرَّفَهَا الْكَمَالُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارُ صِدْقٍ لإِِثْبَاتِ حَقٍّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: بِأَنَّهَا إِخْبَارُ حَاكِمٍ مِنْ عِلْمٍ لِيَقْضِيَ بِمُقْتَضَاهُ.
وَعَرَّفَهَا الْجَمَلُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ.
وَعَرَّفَهَا الشَّيْبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا: الإِْخْبَارُ بِمَا عَلِمَهُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَوْ شَهِدْتُ.
وَتَسْمِيَتُهَا بِالشَّهَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ، لأَِنَّ الشَّاهِدَ يُخْبِرُ عَنْ مَا شَاهَدَهُ وَالإِْشَارَةُ إِلَيْهَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما - قَالَ: «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ.
وَتُسَمَّى «بَيِّنَةً» أَيْضًا؛ لأَِنَّهَا تُبَيِّنُ مَا الْتَبَسَ وَتَكْشِفُ الْحَقَّ فِي مَا اخْتُلِفَ فِيهِ.
وَهِيَ إِحْدَى الْحُجَجِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الدَّعْوَى.
أَلْفَاظٌ ذَاتُ صِلَةٍ:
الإِْقْرَارُ:
الإِْقْرَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الإِْخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ.
الدَّعْوَى:
الدَّعْوَى: قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَلِ الْغَيْرِ أَوْ دُفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ.
فَيَجْمَعُ كُلًّا مِنَ الإِْقْرَارِ وَالدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، أَنَّهَا إِخْبَارَاتٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا: أَنَّ الإِْخْبَارَ إِنْ كَانَ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ فَإِقْرَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ، فَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ فِيهِ نَفْعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ نَفْعٌ فِيهِ لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ فَهُوَ الدَّعْوَى، انْظُرْ: الْمَوْسُوعَةَ الْفِقْهِيَّةَ مُصْطَلَحَ (إِقْرَارٌ) (6 67.
الْبَيِّنَةُ:
الْبَيِّنَةُ: عَرَّفَهَا الرَّاغِبُ بِأَنَّهَا: الدَّلاَلَةُ الْوَاضِحَةُ عَقْلِيَّةً أَوْ مَحْسُوسَةً. وَعَرَّفَهَا الْمَجْدَوِيُّ الْبَرَكَتِيُّ بِأَنَّهَا: الْحُجَّةُ الْقَوِيَّةُ وَالدَّلِيلُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْبَيِّنَةُ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ. وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ، وَتَارَةً ثَلاَثَةً بِالنَّصِّ فِي بَيِّنَةِ الْمُفَلِّسِ، وَتَارَةً شَاهِدَيْنِ وَشَاهِدًا وَاحِدًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً وَنُكُولاً وَيَمِينًا أَوْ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَيْمَانٍ، وَتَكُونُ شَاهِدَ الْحَالِ (أَيِ الْقَرَائِنَ) فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ.
وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا أَعَمَّ مِنَ الشَّهَادَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ.
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لقوله تعالي وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا). ). وقوله تعالي ).وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ). وَقَوْلُهُ (وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).
وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا كَسَائِرِ الأَْمَانَاتِ. فَإِذَا قَامَ بِهَا الْعَدَدُ الْكَافِي (كَمَا سَيَأْتِي) سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ.
وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِالشَّهَادَةِ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ.
فَإِذَا تَضَرَّرَ فِي التَّحَمُّلِ أَوِ الأَْدَاءِ، أَوْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ لاَ تَنْفَعُ، بِأَنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، أَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّبَذُّلِ فِي التَّزْكِيَةِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، لقوله تعالي وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ.. وَقَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ لاَ يَحْصُلُ مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ تَحَمُّلُهَا وَأَدَاؤُهَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَرْضًا عَيْنِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الشُّهُودِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْحُكْمُ، وَخِيفَ ضَيَاعُ الْحَقِّ.
وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ، أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ أَدَاءٌ ف 26 ح 2 ص 340 لِبَيَانِ الْخِلاَفِ فِي أَفْضَلِيَّةِ الشَّهَادَةِ أَوِ السَّتْرِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ:
ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْكِتَابُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى:(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).
وَقَوْلُهُ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
وَقَوْلُهُ(وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ).
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ – رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ.
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ». وَالْبَيِّنَةُ هِيَ الشَّهَادَةُ.
«قَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا لإِِثْبَاتِ الدَّعَاوَى».
أَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا لِحُصُولِ التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.
أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ:
أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خَمْسَةُ أُمُورٍ: الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ، وَالصِّيغَةُ.
وَرُكْنُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اللَّفْظُ الْخَاصُّ، وَهُوَ لَفْظُ (أَشْهَدُ) عِنْدَهُمْ.
سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ طَلَبُ الْمُدَّعِي الشَّهَادَةَ مِنَ الشَّاهِدِ، أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّ الْمُدَّعِي إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُدَّعِي كَوْنَهُ شَاهِدًا.
حُجِّيَّةُ الشَّهَادَةِ:
الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ تُظْهِرُ الْحَقَّ
وَلاَ تُوجِبُهُ وَلَكِنْ تُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَاهَا لأَِنَّهَا إِذَا اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.
شُرُوطُ الشَّهَادَةِ:
لِلشَّهَادَةِ نَوْعَانِ مِنَ الشُّرُوطِ:
شُرُوطُ تَحَمُّلٍ.
وَشُرُوطُ أَدَاءً.
فَأَمَّا شُرُوطُ التَّحَمُّلِ: فَمِنْهَا:
أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَاقِلاً وَقْتَ التَّحَمُّلِ، فَلاَ يَصِحُّ تَحَمُّلُهَا مِنْ مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ لاَ يَعْقِلُ؛ لأَِنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ الْحَادِثَةِ وَضَبْطِهَا، وَلاَ يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِآلَةِ الْفَهْمِ وَالضَّبْطِ، وَهِيَ الْعَقْلُ.
أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، فَلاَ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مِنَ الأَْعْمَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ إِذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ وَقَطَعَ بِأَنَّهُ صَوْتُ فُلاَنٍ.
أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّلُ عَنْ عِلْمٍ، أَوْ عَنْ مُعَايَنَةٍ لِلشَّيْءِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ لاَ بِغَيْرِهِ: لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: ذُكِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «الرَّجُلُ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ.
وَلاَ يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْعِلْمِ، أَوِ الْمُعَايَنَةِ، إِلاَّ فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ، كَالنِّكَاحِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَوْتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُعَايَنَةُ.
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا رَآهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَ مِنْهُ، لأَِنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَالْخَتْمَ يُشْبِهُ الْخَتْمَ، كَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّزْوِيرُ، فَلاَ مُعَوَّلَ إِلاَّ عَلَى التَّذَكُّرِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَاضِي يَجِدُ فِي دِيوَانِهِ شَيْئًا لاَ يَحْفَظُهُ، كَإِقْرَارِ رَجُلٍ أَوْ شَهَادَةِ شُهُودٍ، أَوْ صُدُورِ حُكْمٍ مِنْهُ وَقَدْ خُتِمَ بِخَتْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي بِذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِهِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ لِلتَّحَمُّلِ: الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالإِْسْلاَمُ، وَالْعَدَالَةُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ وَقْتَ التَّحَمُّلِ صَبِيًّا عَاقِلاً، أَوْ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ فَاسِقًا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْفَاسِقُ، فَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث والثلاثون ، الصفحة / 156
قَرِينَةٌ
التَّعْرِيفُ:
- الْقَرِينَةُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَرَنَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، أَيْ شَدَّهُ إِلَيْهِ وَوَصَلَهُ بِهِ، كَجَمْعِ الْبَعِيرَيْنِ فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَكَالْقَرْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَوْ كَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ أَوِ اللُّقْمَتَيْنِ عِنْدَ الأْكْلِ، وَتَأْتِي الْمُقَارَنَةُ بِمَعْنَى الْمُرَافَقَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، وَمِنْهُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجَةِ قَرِينَةٌ، وَعَلَى الزَّوْجِ قَرِينٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ صَرِيحًا.
مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرِينَةِ:
- الْقَرِينَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا وَرَدَ فِي قوله تعالي فِي سُورَةِ يُوسُفَ (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلاَمَةَ صِدْقِهِمْ، قَرَنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْعَلاَمَةِ عَلاَمَةً تُعَارِضُهَا، وَهِيَ سَلاَمَةُ الْقَمِيصِ مِنَ التَّمْزِيقِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ افْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ وَهُوَ لاَبِسُ الْقَمِيصِ وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عليه السلام اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، فَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الآْيَةِ عَلَى إِعْمَالِ الأْمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) عَلَى جَوَازِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْعَلاَمَةِ، إِذْ أَثْبَتُوا بِذَلِكَ كَذِبَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِيمَا نَسَبَتْهُ لِيُوسُفَ عليه الصلاة والسلام.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «الأْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا»، فَجَعَلَ صُمَاتَهَا قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى الرِّضَا، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا رَضِيَتْ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الأْدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ.
كَمَا سَارَ عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ فِي الْقَضَايَا الَّتِي عَرَضَتْ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانُ، رضي الله عنهم - وَلاَ يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفٌ - بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ، أَوْ قَاءَهَا، وَذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله، وَمِنْهُ مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إِذَا ظَهَرَ لَهَا حَمْلٌ وَلاَ زَوْجَ لَهَا، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالي (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ).
الْقَرَائِنُ الْقَاطِعَةُ وَغَيْرُ الْقَاطِعَةِ:
- إِنَّ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَقْوَى حَتَّى يُفِيدَ الْقَطْعَ، وَمِنْهَا مَا يَضْعُفُ وَيُمَثِّلُونَ لِحَالَةِ الْقَطْعِ بِمُشَاهَدَةِ شَخْصٍ خَارِجٍ مِنْ دَارٍ خَالِيَةٍ خَائِفًا مَدْهُوشًا فِي يَدِهِ سِكِّينٌ مُلَوَّثَةٌ بِالدَّمِ، فَلَمَّا وَقَعَ الدُّخُولُ لِلدَّارِ رُئِيَ فِيهَا شَخْصٌ مَذْبُوحٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَشَخَّطُ فِي دِمَائِهِ، فَلاَ يُشْتَبَهُ هُنَا فِي كَوْنِ ذَلِكَ الشَّخْصِ هُوَ الْقَاتِلُ، لِوُجُودِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ.
وَأَمَّا الْقَرِينَةُ غَيْرُ قَطْعِيَّةِ الدَّلاَلَةِ وَلَكِنَّهَا ظَنِّيَّةٌ أَغْلَبِيَّةٌ، وَمِنْهَا الْقَرَائِنُ الْعُرْفِيَّةُ أَوِ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ وَقَائِعِ الدَّعْوَى وَتَصَرُّفَاتِ الْخُصُومِ، فَهِيَ دَلِيلٌ أَوَّلِيٌّ مُرَجِّحٌ لِزَعْمِ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مَعَ يَمِينِهِ مَتَى اقْتَنَعَ بِهَا الْقَاضِي وَلَمْ يَثْبُتْ خِلاَفُهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لاَ تَرُدُّ حَقًّا وَلاَ تُكَذِّبُ دَلِيلاً وَلاَ تُبْطِلُ أَمَارَةً صَحِيحَةً، هَذَا وَقَدْ دَرَجَتْ مَجَلَّةُ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحُكْمِ فِي الْمَادَّةِ (1740) وَعَرَّفَتْهَا بِأَنَّهَا الأْمَارَةُ الْبَالِغَةُ حَدَّ الْيَقِينِ وَذَلِكَ فِي الْمَادَّةِ (1741).
الأْخْذُ بِالْقَرَائِنِ:
- قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ رحمه الله فِي تَبْصِرَتِهِ نَاقِلاً عَنِ الإْمَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَقِيهِ الْمَالِكِيِّ قَوْلَهُ: عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الأْمَارَاتِ وَالْعَلاَمَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا مَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي الْحُكْمِ بِهَا، وَقَدْ جَاءَ الْعَمَلُ بِهَا فِي مَسَائِلَ اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمَذَاهِبُ الأْرْبَعَةُ، وَبَعْضُهَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ خَاصَّةً.
عَلَى أَنَّ ضَبْطَ كُلِّ الصُّوَرِ الَّتِي تَعْمَلُ فِيهَا الْقَرِينَةُ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ، إِذْ أَنَّ الْوَقَائِعَ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ، وَالْقَضَايَا مُتَنَوِّعَةٌ، فَيَسْتَخْلِصُهَا الْقَاضِي بِفَهْمِهِ وَذَكَائِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ جَانِبًا مِنَ الصُّوَرِ لِلاِسْتِنَارَةِ بِهَا، وَلِلتَّدْلِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِالْقَرَائِنِ الَّتِي تَوَلَّدَتْ عَنْهَا، وَهَذَا الْبَعْضُ مِنْهَا:
الأْولَى: أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ وَطْءِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ إِذَا أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ لَيْلَةَ الزِّفَافِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَدْلاَنِ أَنَّ هَذِهِ فُلاَنَةُ بِنْتُ فُلاَنٍ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْطِقِ النِّسَاءُ أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتُهُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ.
الثَّانِيَةُ: اعْتِمَادُ النَّاسِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى الصِّبْيَانِ وَالإْمَاءِ الْمُرْسَلَةِ مَعَهُمُ الْهَدَايَا إِلَيْهِمْ، فَيَقْبَلُونَ أَقْوَالَهُمْ، وَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْمُرْسَلَ بِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ إِذْنَ الصِّبْيَانِ فِي الدُّخُولِ لِلْمَنْزِلِ.
الرَّابِعَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنَ الإْنْسَانِ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ، وَمَا لاَ يَتْبَعُهُ الإْنْسَانُ نَفْسُهُ لِحَقَارَتِهِ، كَالتَّمْرَةِ وَالْفَلْسِ، وَكَجِوَازِ أَخْذِ مَا بَقِيَ فِي الْحَوَائِطِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ بَعْدَ انْتِقَالِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَتَخْلِيَتِهِ وَتَسْيِيبِهِ، كَجَوَازِ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْحَبِّ عِنْدَ الْحَصَادِ مِمَّا لاَ يَعْتَنِي صَاحِبُ الزَّرْعِ بِلَقْطِهِ، وَكَأَخَذِ مَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْخِرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَقَّرَاتِ.
الْخَامِسَةُ: الشُّرْبُ مِنَ الْمَصَانِعِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الشَّارِبُ إِذْنَ أَرْبَابِهَا فِي ذَلِكَ لَفْظًا، اعْتِمَادًا عَلَى دَلاَلَةِ الْحَالِ.
السَّادِسَةُ: قَوْلُهُمْ فِي الرِّكَازِ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَنْزٌ، وَيَأْخُذُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ عَلاَمَاتُ الْكُفْرِ كَالصَّلِيبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ رِكَازٌ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ عَلَى بَيْعِ السِّلْعَةِ قَبْضُ ثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ لَفْظًا، اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ الْحَالِ.
الثَّامِنَةُ: الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَاعْتِبَارُهُ فِي الأْحْكَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ رُجُوعًا إِلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.
التَّاسِعَةُ: جَوَازُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِوَاصِفِ عِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا.
الْعَاشِرَةُ: النَّظَرُ فِي أَمْرِ الْخُنْثَى، وَالاِعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الأْمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحْدَى حَالَتَيْهِ الذُّكُورَةِ أَوِ الأْنُوثَةِ.
الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ: مَعْرِفَةُ رِضَا الْبِكْرِ بِالزَّوْجِ بِصُمَاتِهَا.
الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ: إِذَا أَرْخَى السِّتْرَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَخَلاَ بِهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا طَلَّقَهَا وَقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَمَسَّهَا وَادَّعَتْ هِيَ الْوَطْءَ صُدِّقَتْ، وَكَانَ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلاً.
وَمِنْ هَذَا الْعَرْضِ يَبْدُو اتِّفَاقُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِقَرَائِنِ الأْحْوَالِ بِصِفَةٍ مُطْلَقَةٍ بِدُونِ قُيُودٍ وَلاَ حُدُودٍ، وَمَصَادِرُ مَذْهَبَيْهِمْ تَشْهَدُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ عَمِلُوا بِالْقَرَائِنِ فِي حُدُودٍ ضَيِّقَةٍ، وَيَعْتَدُّونَ بِالْقَرِينَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْحَالِيَّةِ، وَبِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ نُجَيْمٍ عِنْدَ إِحْصَائِهِ لِلْحُجَجِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الْقَاضِي، فَقَالَ: إِنَّ الْحُجَّةَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، أَوْ إِقْرَارٌ، أَوْ نُكُولٌ عَنْ يَمِينٍ، أَوْ يَمِينٌ، أَوْ قَسَامَةٌ، أَوْ عِلْمُ الْقَاضِي بَعْدَ تَوَلِّيهِ، أَوْ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ، وَقَالَ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ مِنَ الدَّعْوَى.
وَذُكِرَ أَنَّهُ لاَ يُقْضَى بِالْقَرِينَةِ إِلاَّ فِي مَسَائِلَ ذَكَرَهَا فِي الشَّرْحِ فِي بَابِ التَّحَالُفِ.
وَقَدْ نَصَّ الْمُزَنِيُّ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالظُّنُونِ، بَعْدَ ذِكْرِ النِّزَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَتَنَازُعِ عَطَّارٍ وَدَبَّاغٍ، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ اسْتِعْمَالُ الظُّنُونِ لَقُضِيَ بِالْعِطْرِ لِلْعَطَّارِ، وَالدِّبَاغِ لِلدَّبَّاغِ.
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الإْمَامُ الْجَصَّاصُ صُوَرًا كَثِيرَةً عَمِلُوا فِي بَعْضِهَا بِالْقَرَائِنِ، كَالاِخْتِلاَفِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلزَّوْجَةِ، وَمَا لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلزَّوْجِ، فَحَكَمُوا بِظَاهِرِ هَيْئَةِ الْمَتَاعِ.
وَمِمَّا يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ يُعْمِلُونَ الْقَرَائِنَ - إِنِ اعْتَبَرُوهَا عَامِلَةً - فِي خُصُوصِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلاَ يُعْمِلُونَهَا فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ، فَاعْتَبَرُوا مَثَلاً سُكُوتَ الْبِكْرِ أَوْ صَمْتَهَا قَرِينَةً عَلَى الرِّضَا، وَقَبْضَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِحَضْرَةِ الْمَالِكِ مَعَ سُكُوتِهِ إِذْنًا بِالْقَبْضِ، وَوَضْعَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ قَرِينَةً عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ، وَقَبُولَ التَّهْنِئَةِ فِي وِلاَدَةِ الْمَوْلُودِ أَيَّامَ التَّهْنِئَةِ الْمُعْتَادَةِ قَرِينَةً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَاعْتَبَرُوا عَلاَمَةَ الْكَنْزِ، وَقَالُوا إِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الإْسْلاَمِ كَانَتْ لُقَطَةً، وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الْكُفْرِ فَفِيهَا الْخُمُسُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ الاِبْنُ تَعْلِيقًا عَلَى رِسَالَةِ وَالِدِهِ الْمُسَمَّاةِ نَشْرَ الْعُرْفِ فِي بِنَاءِ بَعْضِ الأْحْكَامِ عَلَى الْعُرْفِ فَقَالَ: لِلْمُفْتِي الآْنَ أَنْ يُفْتِيَ عَلَى عُرْفِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَإِنْ خَالَفَ زَمَانَ الْمُتَقَدِّمِينَ.

