مذكرة المشروع التمهيدي للمادة 415 الملغاة من القانون المدني والمقابلة للمادة 119 من قانون الإثبات:
1- نص التقنين الفرنسي في ( المادة 1392) على اليمين المتممة وتبعه في ذلك التقنين الإيطالي ( المادة 1374 ) والتقنين الهولندي ( المادة 1977) والتقنين المصرى ( المادة 223 / 228 ) والتقنين البرتغالي ( المادة 2533). ثم أبقي واضعو المشروع الفرنسي الإيطالي ( المادة 319) على هذه اليمين رغم ما وجه إليها من نقد.
وقد أشار بعض الفقهاء بوجوب حذف اليمين المتممة لأن المروءة متى توافرت، فلا حاجة لليمين لصد الخصم عن المطالبة بغير المستحق، وهي إذا انتفت لم يستشعر الخصم جرجاً من الحنث بها. ثم إن القاضي لايحتاج إلى اليمين لتمكين الاطمئنان من نفسه، لأن من يخفق في إثبات دعواه يبوء بالخسارة ولا يستشعر القاضي حرجاً في القضاء لخصمه عليه، لأنه ينزل في ذلك على حكم القانون.
بيد أن هذا النظر يغفل خصائص اليمين بوصفها طريقة للإثبات، وطبيعة هذه اليمين والغاية منها. لأن اليمين طريق اضطرارية، فمن المعقول أن يمكن القاضي من الالتجاء إليها في ظل الضمانات التي يقررها القانون، أي حيث لا يكون الطلب أو الدفع مجرداً من كل دليل، و حيث يكون هذا الدليل غير كاف في ذاته، ويراعى.
أن اليمين نظام تقتضيه العدالة فهي، والحال هذه، عامل يعين على سير العدالة. فضلاً عن أن القانون يترك للقاضي حرية التقدير بشأن ضرورة توجهها وتعيين من توجه إليه من الخصوم. وغني عن البيان أن هذا التقدير ينبغي أن يناط، بوجه خاص، بما يتوافر في الخصم من بواعث الثقة، ولهذا لم ير وجه للتنويه بعدم جواز توجيه اليمين المتممة إذا كان من توجه إليه غير أهل لأي ثقة، كما يفهم ذلك من عبارة المادة 2533 فقرة 3 من التقنين البرتغالى. ويلاحظ أن اليمين شرعت لعلاج مساوی نظام تقييد الدليل، ونظام حيدة القاضي إزاء دعاوى الخصوم، فيجب والحال هذه أن تؤدي وظيفتها كاملة. هذا، ويلاحظ من الناحية العملية، أن القاضي لا يلجأ إلى اليمين المتممة إلا في كثير من الحيطة والاعتدال، بعد تقدر جدوى هذه اليمين تقديراً يعتد فيه بشخصية الخصم. إزاء كل أولئك رؤى الإبقاء على اليمين المتممة في نصوص المشروع.
2- وقد استقى نص الفقرة الثانية من المادة 1367 من التقنين الفرنسي، والمادة 1375 من التقنين الإيطالي، والمادة 1978 من التقنين الهولندي، والمادة 2533 من التقنين البرتغالي، والمادة 320 من المشروع الفرنسي الإيطالي. ولم يجعل التقنين المصرى ( المادة 223 / 288 ) قبول هذه اليمين جائزاً إلا ( إذا تبين أن الأوراق المقدمة للإثبات غير كافية ). وقد عرضت هذه الفقرة لشروط جواز قبول اليمين المتممة وحجيتها، فهي تختلف عن اليمين الحاسمة في أنها لا تكون جائزة القبول، إلا حيث لا يكون الدليل کاملاً، وحيث لا تكون الدعوى خالية من كل دلیل. فإعمال هذه اليمين يفترض أن الادعاء قريب الاحتمال، فينبغي أن يكون ثمة مبدأ ثبوت، لا يكفي بمجرده لتكوين دليل كامل، وإن انطوى فيه معنی تعزيز هذا الاحتمال. فإذا توافر في الدعوى دليل كامل انتفت جدوى اليمين المتممة وامتنع قبولها، لأن القاضي يلزم بالتقيد بهذا الدليل والقضاء للمدعي على أساسه، وينبغي
كذلك ألا تكون الدعوى خالية من كل دليل، لأنها تكون في هذه الحالة غير وقريبة الاحتمال، لأن توافر مبدأ الثبوت القانوني هو الذي أسبغ عليها هذا الوصف. ويعتبر مبدأ ثبوت قانوني في رأي الفقه والقضاء : (أ) الإقرار الجزئي (ب) والبينة والقرائن إذا كانت القيمة أقل من عشرة جنيهات، لأن هذه أو تلك قد تعتبر غير كافية في ذاتها (ج) ومبدأ الثبوت بالكتابة إذا زادت القيمة عن عشرة جنيهات أو كان الإثبات بالبينة عسيراً أو مستحيلاً (د) ودفاتر التجار بشأن ما يوردون متى كانت منتظمة.
3 - وتعتبر اليمين المتممة دليلاً تكميلياً إضافياً كما هو ظاهر من اسمها. ويجوز أن يرتب علها الفصل في النزاع ولكن قد لا يكون توجهها ضرورياً لهذا الفصل ولا تعتبر هذه اليمين إجراء من إجراءات التحقيق التي تيسر للقاضي تحصيل دليل خاص تقتضيه العدالة ويكون له ما لغيره من قوة الإلزام، لأنها تفترض توافر عناصر إثبات لها مكانتها وإن كانت أدنى من مرتبة الدليل.
وهي تختلف كذلك عن اليمين الحاسمة، لأنها لا تنقل مصير النزاع إلى نطاق الذمة على وجه التخصيص والإفراد، بل يظل النزاع محصورة في حدود أحكام القانون، وإن جاوز هذه الحدود إلى ذلك النطاق استكمالاً للدليل. ولهذه العلة لا تعتبر اليمين المتممة حجة قاطعة ملزمة، بل يكون للقاضي مطلق الخيار في الاعتداد بها، أو التجاوز عنها، فله أن يقضي على أساس اليمين التي أديت، أو على أساس عناصر إثبات أخرى، اجتمعت له قبل أداء هذه اليمين أو بعد أدائها. ويتضح من ذلك أن عبارة و ليبني على ذلك حكمه في موضوع الدعوى، ( المادة 553 فقرة 2 من المشروع ) ليس لها بصدد اليمين المتممة ذات الدلالة التي تستخلص منها بالنسبة اليمين الحاسمة.
ومع ذلك فاليمين المتممة طريق من طرق الإثبات، فيجوز نقض دلالتها بإثبات العكس، ويجوز للمضرور في هذه الحالة أن يدعي مدنياً للمطالبة بالتعويضات أمام المحاكم الجنائية، ويجوز له أيضاً أن يطعن في الحكم بالطرق المقررة.
1- المقرر - في قضاء هذه المحكمة – أن اليمين لغةً هو الإخبار عن أمر مع الاستشهاد بالله تعالى على صدق الخبر فهو لا يعتبر عملًا مدنيًا فحسب بل هو أيضًا عمل ديني ، فطالب اليمين يلجأ إلى ذمة خصمه ، والحالف عندما يؤدي اليمين إنما يستشهد بالله ويستنزل عقابه وقد نصت مواد الباب السادس من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 في المواد من 114 حتى 130 على طلب اليمين الحاسمة وشروط توجيهها ويستدل منها على أن اليمين ملك للخصم لا للقاضي ويجوز للخصم توجيهها في أية حالة كانت عليها الدعوى وعلى القاضي أن يجيب الخصم لطلبه متى توافرت شروط توجيهها وهي أن تكون متعلقة بالدعوى ومنتجة فيها وغير مخالفة لقاعدة من النظام العام ويجوز للقاضي أن يرفضها إذا كانت غير منتجة أو كان في توجيهها تعسف من الخصم، وخلاصة القول أن توجيه اليمين الحاسمة احتكام لضمير الخصم لحسم النزاع كله أو في شقٍ منه عندما يعوز الخصم الدليل لإثبات دعواه لا سيما عندما يتشدد القانون في اقتضاء أدلة معينة للإثبات ويتمسك الخصم الآخر بذلك، فإن حلفها الخصم فقد أثبت إنكاره لصحة الادعاء ويتعين رفضه، وإن نكل كان ذلك بمثابة إقرار ضمني بصحة الادعاء ووجب الحكم عليه بمقتضى هذا الإقرار، وكان كل طلب أو وجه دفاع يدلي به الخصم لدى محكمة الموضوع ويطلب إليها بطريق الجزم أن تفصل فيه ويكون الفصل فيه مما يجوز أن يترتب عليه تغيير وجه الرأي في الدعوى ، يجب على محكمة الموضوع - وعلى ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة - أن تجيب عليه بأسبابٍ خاصة، فإن هي لم تفعل كان حكمها قاصرًا. لما كان ذلك، وكان الثابت أن الطاعن طلب توجيه اليمين الحاسمة للمطعون ضده ليحلف بأن الأموال التي قام بتحويلها إليه كانت على سبيل الدين وأن ذمته مشغولة بها، وإذ كانت الواقعة محل الحلف متعلقة بالنزاع ومنتجة فيه ، ورفض الحكم المطعون فيه هذا الطلب بمقولة أن اليمين غير حاسمة في إثبات براءة ذمته من الأموال المطالب بها بصرفها في الغرض المخصصة من أجله ولم يقدم الدليل على ذلك، وهو قول من الحكم لا يواجه دفاع الطاعن، ولا يصلح ردًا عليه على الرغم من أنه دفاع جوهري يتغير به - إن صح - وجه الرأي في الدعوى، فإنه يكون معيباً بالقصور والإخلال بحق الدفاع مما يعيبه ويوجب نقضه .
( الطعن رقم 16542 لسنة 91 ق - جلسة 27 / 9 / 2022 )
2 ـ إذ كان البين من الأوراق أن الطاعنة تمسكت فى مذكرتها المقدمة لمحكمة الاستئناف بجلسة 12 فبراير سنة 2006 ، وأمام الخبير المنتدب بدفاع حاصله أنها شركة مساهمة ولديها دفاتر تجارية يتوفر لها الحجية فى الإثبات وفقاً لأحكام القانون ، وأن المديونية محل التداعى ثابتة بهذه الدفاتر ، المستمد منها كشف الحساب المقدم فى الدعوى ، وكان الحكم المطعون فيه قد أغفل هذا الدفاع ولم يعن بفحصه وتحقيقه توطئه للاعتداد بالدليل المستمد من البيانات الثابتة فى الدفاتر التجارية والخاصة بالطاعنة فى حالة اتفاقها مع البيانات الثابتة فى الدفاتر التجارية للمطعون ضده إذا كانت كل منها مطابقة لأحكام القانون ، أو إجراء الموازنة بين الدليل المستمد منها وما يناقضه من أدلة أخرى تقدم من كل منهما فى حالة اختلاف البيانات الثابتة بدفاترهما ، أو عند تخلف المطعون ضده عن تقديم دفاتره . لما كان ذلك ، وكان الحكم المطعون فيه قد أسس قضاءه برفض الدعوى على سند من أداء المطعون ضده اليمين المتممة دون أن يفطن إلى أن القانون لم يجعل لمجرد حلفها حجية قاطعة ملزمة فى الإثبات أو يعنى ابتداءً بفحص دفاع الطاعنة وفقاً للقواعد التى نصت عليها المادة 70 من قانون التجارة والسالفة البيان، فإنه يكون معيباً .
(الطعن رقم 18028 لسنة 76 جلسة 2009/04/14 س 60 ص 485 ق 80)
3 ـ أنه يشترط لتوجيه اليمين المتممة ألا تكون الدعوى خالية من أى دليل ، وأن يكون بها مبدأ ثبوت يجعل الادعاء قريب الاحتمال وإن كان لا يكفى بمجرده لتكوين دليل كامل فيستكمله القاضى باليمين المتممة .
(الطعن رقم 8179 لسنة 64 جلسة 2004/11/27 س 55 ع 1 ص 771 ق 141)
4 ـ إذ كان الطاعن قد أقام دعواه بفسخ عقد البيع المؤرخ 20 / 12 / 1985 على سند من إخلال المطعون ضده بالتزامه بالوفاء له بكامل ثمن المبيع ، وكان البين من بنود هذا العقد أن المطعون ضده سدد للطاعن جزءاً من الثمن وقت العقد ، وحرر له ثلاث شيكات بباقى الثمن ، وكانت الأوراق قد خلت مما يفيد قيام الطاعن بصرف قيمتها الأمر الذى تعتبر معه هذه الشيكات مبرئة لذمة المطعون ضده من باقى الثمن ، وينبنى على ذلك أنه لا يصح الاستناد إلى تلك الشيكات واتخاذها دليلاً على انقضاء الالتزام بالوفاء طالما لم يثبت تحصيل قيمتها ، ومن ثم فإنه إزاء خلو الأوراق من دليل على وفاء المطعون ضده بالتزامه قبل الطاعن ، ينتفى القول بتوافر مناط توجيه اليمين المتممة إليه لإثبات وفائه بهذا الالتزام . وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر ، وجرى فى قضائه على أن مجرد تحرير المطعون ضده هذه الشيكات وتسليمها للطاعن يعد دليلاً - عززه بتوجيه اليمين المتممة إليه فى غير حالاتها - على وفائه بالتزامه بسداد كامل ثمن المبيع ، رتب على ذلك قضاءه بتأييد الحكم الإبتدائى الصادر برفض الدعوى ، فإنه يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون ، وقد حجبه هذا الخطأ عن التحقق من استيداء الطاعن قيمة تلك الشيكات ، مما يعيبه أيضاً بالقصور فى التسبيب .
(الطعن رقم 8179 لسنة 64 جلسة 2004/11/27 س 55 ع 1 ص 771 ق 141)
5 ـ النص فى المادة 119 من قانون الإثبات فى المواد المدنية والتجارية على أن للقاضي أن يوجه اليمين المتممة من تلقاء نفسه إلى أي من الخصمين ليبنى على ذلك حكمه فى موضوع الدعوى أو فى قيمة ما يحكم به. ويشترط فى توجيه هذه اليمين ألا يكون فى الدعوى دليل كامل وألا تكون الدعوى خالية من أي دليل إنما يدل وعلى ما أفصحت عنه المذكرة الإيضاحية للقانون المدني بشأن المادة 415 منه المقابلة للمادة 119 المشار إليها على أن اليمين المتممة تعتبر دليلا تكميليا إضافيا كما هو ظاهر من اسمها ويجوز أن يرتب عليها الفصل فى النزاع ولكن قد لا يكون توجيهها ضروريا لهذا الفصل فهي إجراء من إجراءات التحقيق التي تيسر للقاضي تحصيل دليل خاص تقتضيه العدالة ويكون لها ما لغيره من قوة الإلزام لأنها تفترض توافر عناصر الإثبات لها مكانتها وان كانت ادني من مرتبة الدليل وهى بذلك تختلف عن اليمين الحاسمة إذ لا تنقل مصير النزاع إلى نطاق الذمة على وجه التخصيص والإفراد بل يظل النزاع محصورا فى حدود أحكام القانون وان جاوز هذه الحدود إلى ذلك النطاق استكمالا للدليل ولهذه العلة لا تعتبر حجة قاطعة ملزمة.
(الطعن رقم 290 لسنة 67 جلسة 1998/03/19 س 49 ع 1 ص 244 ق 61)
6ـ لما كان اعتبار الحكم المطعون فيه قد أعتبر اليمين المتممة حاسمة للنزاع وذلك بما أورده فى مدوناته عند تخلف الطاعنة ووكيلها عن المثول أمام المحكمة لأدائها من أن " ....... الأمر الذي ترى معه المحكمة عدم حضور المستأنف عليهما سالفي الذكر ( الطاعنة ووكيلها ) لأداء اليمين الموجهة لهما نكولا منهما عن أدائها ومن ثم يكون النزاع حول تسلمهما مبلغ 14000 جنيه أربعة عشر ألف جنيه من المستأنف ( المطعون ضده الأول ) المنوه عنه بحكم اليمين قد انحسم وبرأت ذمة المستأنف منه من تاريخ تسليمه لهما ......." فانه يكون بذلك قد خلط بين أحكام اليمين الحاسمة وتلك الخاصة باليمين المتممة إذ ليس من المحتم أن يقضى ضد من نكل اليمين المتممة فقد تظهر بعد النكول أدلة جديدة تكمل الأدلة الناقصة أو لا تظهر ولكن القاضي يعيد النظر فى الأدلة التي كان يحسبها ناقصة فيرجع عن رأيه ويقدر أنها كافية، لما كان ما سلف جميعه ، فان الحكم المطعون فيه يكون قد اخطأ فى تطبيق القانون.
(الطعن رقم 290 لسنة 67 جلسة 1998/03/19 س 49 ع 1 ص 244 ق 61)
7 ـ مفاد نص المادة 82 من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 أن القانون لم يجعل القرابة أو المصاهرة بين الخصم و شاهده سبباً لرد الشاهد أو عدم سماع شهادته - و من باب أولى - سائر صلات المودة ، و ما شابها إلا أن الشهادة - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - تختلف عن الإقرار و اليمين الحاسمة و كذلك اليمين المتممة فى أنها تقتضى المغيرة بين شخص الخصم و شخص من يشهد به - و ذلك إلتزاماً بالقاعدة السائدة من أن الخصم لا يجوز له أن يصطنع لنفسه دليلاً على خصمه لما يداخله من شبهة مصلحته الخاصة فيما يدلى به من معلومات بشأن الواقعة المشهود عليها و إذ كانت تلك الخشية هى المدار فى رد الشهادة - أو قبولها و هى متحققة بتيقين فى شهادة الشريك فى ملكية العقار إذا ما تناولت الشهادة وقائع تنتهى إلى الحكم بإخلاء العين المؤجرة و تسليمها إلى المؤجر إذ من شأن هذا القضاء أن تحقيق مصلحة الشريكين معاً و هى تطهير العين المملوكة لهما من حق الإيجار المحملة به و خلوصها من شاغلها و من ثم يكون الشريك الشاهد قد شهد لنفسه و بطريق الزوم - إفادة شريكه الآخر بتلك الشهادة لأن الحكم بإنهاء عقد الإيجار يصدر لصالح جميع الشركات فى ملكية العقار سواء من إختصم منهم فى الدعوى أو من لم يختصم فيها .
(الطعن رقم 821 لسنة 58 جلسة 1990/03/26 س 41 ع 1 ص 878 ق 145
8 ـ لا تثريب على محكمة الموضوع إن لم تستعمل حقها فى توجيه اليمين المتممة إذ هو من الرخص القانونية التى تستعملها إن شاءت بلا إلزام عليها فى ذلك و لو تحققت شروط الحق فى توجيهها .
(الطعن رقم 102 لسنة 44 جلسة 1977/11/15 س 28 ع 2 ص 1673 ق 288)
9 ـ تقدير الدليل هو مما يستقل به قاضى الموضوع ، فله أن يعتبر كشف الحساب المقدم فى الدعوى دليلاً كاملاً على صحتها أو لا يعتبره كذلك ، و من ثم فلا تثريب عليه إذا رأى من كشف الحساب المقدم أن المطعون عليهم أرجح دليلاً من الطاعن و قضى من ثم بتوجيه اليمين المتممة إليهم لإستكمال إقتناعه .
(الطعن رقم 429 لسنة 37 جلسة 1973/03/22 س 24 ع 1 ص 463 ق 83)
10ـ توجيه اليمين المتممة و إن كان إجراء يتخذه القاضى من تلقاء نفسه وقوفاً على الحقييقة إلا أن له السلطة التامة فى تقدير نتيجة ، إذ اليمين المتممة دليل تكميلى ذو قوة محدودة ، و لأن العبرة أساساً هى بمدى إطمئنانه إلى صحة الواقعة محل النزاع فى مجموعها سواء حلف اليمين جميع الورثة - الموجهة إليهم - أو بعضهم .
(الطعن رقم 429 لسنة 37 جلسة 1973/03/22 س 24 ع 1 ص 463 ق 83)
11 ـ اليمين المتممة إجراء يتخذه القاضى من تلقاء نفسه رغبة منه فى تحرى الحقيقة ليستكمل به دليلاً ناقصاً فى الدعوى ، و هذه اليمين و إن كانت لا تحسم النزاع إلا أن للقاضى بعد حلفها أن يقضى على أساسها بإعتبارها مكملة لعناصر الإثبات الأخرى القائمة فى الدعوى ليبنى على ذلك حكمه فى موضوعها أو فى قيمة ما يحكم به .
(الطعن رقم 7 لسنة 38 جلسة 1973/02/27 س 24 ع 1 ص 342 ق 60)
12ـ يشترط لتوجيه اليمين المتممة ألا تكون الدعوى خالية من أى دليل و أن يكون بها مبدأ ثبوت يجعل الإدعاء قريب الإحتمال و إن كان لا يكفى بجرده لتكوين دليل كامل فيستكمله القاضى باليمين المتممة، و لقاضى الموضوع الحرية فى تعيين من يوجه إليه هذه اليمين من الخصوم و هو يراعى فى ذلك من كانت أدلته أرجح و من كان أجدر بالثقة فيه و الإطمئنان إليه .
(الطعن رقم 220 لسنة 33 جلسة 1968/10/29 س 19 ع 3 ص 1276 ق 192)
13 ـ لايشترط فى الدليل الناقص الذى يكمل باليمين المتممة أن يكون كتابة أو مبدأ ثبوت بالكتابة بل يصح أن يكون بينة أو قرائن يرى فيها القاضى مجرد مبدأ ثبوت عادى وإن كان يجعل الإدعاء قريب الإحتمال إلا أنه غير كاف بمجرده لتكوين دليل كامل يقنعه فيستكمله باليمين المتممة ومن ثم فلا تثريب على محكمة الإستئناف إذا هى عمدت إلى تكلمة القرائن التى تجمعت لديها باليمين المتممة وإذ هى رأت بعد حلف هذه اليمين أن الدليل قد إكتمل لديها على إنقضاء الدين .
(الطعن رقم 208 لسنة 31 جلسة 1966/01/06 س 17 ع 1 ص 55 ق 7)
14 ـ لما كانت اليمين المتممة ليست إلا إجراء يتخذه القاضي من تلقاء نفسه رغبة منه فى تحرى الحقيقة وكانت هذه اليمين لا تحسم النزاع فإن القاضي - من بعد توجيه هذا اليمين- يكون مطلق الخيار أن يقضي على أساس اليمين التي أديت أو على أساس عناصر إثبات أخرى اجتمعت له قبل حلف هذه اليمين أو بعد حلفها. ولا تتقيد محكمة الاستئناف بما رتبته محكمة أول درجة على اليمين المتممة التي وجهتها ومن ثم فلا تثريب عليها إن هي لم تقض بإلغاء حكم توجيه اليمين المتممة مع إلغائها الحكم الابتدائي الصادر فى موضوع الدعوى وحسبها أن تورد فى أسباب حكمها ما جعلها تطرح نتيجة هذه اليمين. ذلك أن الحكم بتوجيه اليمين هو من الأحكام التي تصدر قبل الفصل فى الموضوع ولا تنته به الخصومة كلها أو بعضها.
(الطعن رقم 328 لسنة 26 جلسة 1962/05/03 س 13 ع 1 ص 571 ق 86)
15 ـ اليمين المتممة ليست إلا اجراء يتخذه القاضى من تلقاء نفسه رغبة منه فى تحرى الحقيقة ثم يكون له من بعد اتخاذه سلطة مطلقة فى تقدير نتيجته . فهى ليست حجة ملزمة للقاضى بل له أن يأخذ بها بعد أن يؤديها الخصم أو لايأخذ بها و لا تتقيد محكمة الاستئناف بما رتبته عليها محكمة أول درجة لأنها لاتحسم النزاع و لا تحول دون استئناف الحكم المؤسس عليها ، من ثم فلا يعيب الحكم عدم رده على الدفع بعدم قبول الاستئناف المؤسس على أن اليمين المتممة قد حسمت النزاع إذ هو دفع غير منتج لا يتغير باغفاله وجه الحكم فى الدعوى .
(الطعن رقم 242 لسنة 21 جلسة 1955/01/13 س 6 ع 2 ص 473 ق 58)
16 ـ ان شرط توجيه اليمين المتممة هو أن يكون لدى كل من الطرفين مبدأ ثبوت لا يرقى إلى مرتبة الدليل الكامل فاذا ما وجهت المحكمة اليمين الى أحد الخصمين و حلفها و قدرت من ذلك أن الدليل الكامل قد توافر على صحة ما يدعيه فليس فى ذلك ما يناقض ما سبق أن قررته فى حكمها الصادر بتوجيه اليمين من أن كلا من الطرفين يستند فى دعواه إلى دليل له قيمته .
(الطعن رقم 103 لسنة 19 جلسة 1951/04/05 س 2 ع 3 ص 622 ق 103)
اليمين المتممة :
توجه اليمين المتممة من القاضي من تلقاء نفسه وليس من الخصم على أنه لا يوجد ما يمنع الخصم من أن يقدم طلباً إلى القاضي لكي يوجهها، ويخضع الطلب عندئذ لمطلق سلطة القاضي. ويمكن للقاضي أن يوجهها سواء أمام أول درجة أو لأول مرة أمام الاستئناف، كما يمكن توجيهها من قاضي الأمور المستعجلة. وتخويل القاضي سلطة توجيه اليمين المتممة من تلقاء نفسه يعتبر خروجاً على مبدأ إلقاء عبء الإثبات على الخصوم.
ويجب لكي يستطيع القاضي توجيه اليمين المتممة أن تتعلق بواقعة قانونية يتوافر فيها - فضلاً عن الشروط العامة الواجب توافرها في الواقعة محل الإثبات - ما يلى : (أ) أن تكون متعلقة بشخص من يوجه إليه اليمين أو تكون يمين علم. ويرجع في إيضاح هذا الشرط إلى ما سبق ذكره بالنسبة لليمين الحاسمة. (ب) أن تكون قد قدمت بشأنها أدلة إثبات وألا تكون هذه الأدلة كافية لاقتناع القاضي ( 119/ 2 إثبات). ويستقل قاضى الموضوع - كما قدمنا - بتقدير كفاية الدليل. وبالتالي بتقدير متى تقوم الحاجة لتوجيه يمين متممة). فإذا كانت قد قدمت أدلة إثبات كافية فلا حاجة لتوجيه اليمين المتممة إذ عندئذ لا تعود الواقعة صالحة لأن تكون محلاً للإثبات. ومن ناحية أخرى، فانه إذا لم يكن هناك أي دليل في القضية، فلا يجوز توجيه هذا اليمين. وفي هذا تختلف اليمين المتممة عن اليمين الحاسمة. ذلك أنه إذا كانت اليمين الحاسمة هي دليل من لا دليل لديه، فان اليمين المتممة تفترض وجود أدلة جعلت القاضي يصدق الواقعة دون أن يصل في ذلك إلى ما يطمئنه تماماً.(المبسوط في قانون القضاء المدني علماً وعملاً، الدكتور/ فتحي والي، طبعة 2017 دار النهضة العربية، الجزء : الثاني، الصفحة : 240)
اليمين المتممة
ما هي اليمين المتممة :
اليمين المتممة هي يمين يوجهها القاضي من تلقاء نفسه لأى من الخصمين، عندما يرى أن هذا الخصم قدم دليلاً غير كاف على دعواه، ليتمم الدليل باليمين. وقد جعل القانون للقاضي هذا – على خلاف العادة – دوراً إيجابياً فى الإثبات. فأباح له، إذا لم يقدم أى من الخصمين دليلاً كافياً على ما يدعيه، أن يختار منهما من يرجح عنده صدق قوله، فيوجه إليه يميناً يتمم بها أدلته غير الكافية. ومن ثم سميت اليمين باليمين المتممة.
ونذكر منذ البداية أن اليمين المتممة تختلف اختلافاً جوهرياً عن اليمين الحاسمة، فى أن اليمين الأولى يوجهها القاضى لا الخصم، ولا يوجهها إذا كانت الدعوى خالية من أى دليل، ولا يتحتم عليه أن يأخذ بما تؤدى إليه من حلف أو نكول فقد يرفض طلب من حلفه ويجيب طلب من نكل. ثم إن مهمة اليمين المتممة غير مهمة اليمين الحاسمة، فاليمين المتممة إنما توجه لاستكمال أدلة ناقصة، أما اليمين الحاسمة فتقوم وحدها دليلاً يستبعد أى دليل آخر.
تكييف اليمين المتممة : وهناك فرق جوهرى آخر بين اليمين المتممة واليمين الحاسمة. فقد رأينا فيما قدمناه أن توجيه اليمين الحاسمة من الخصم إلى خصمه هو تصرف قانوني بإرادة منفردة. أما توجيه اليمين المتممة من القاضي فهو ليس إلا واقعة مادية، يلجأ إليها القاضي لاستكمال الأدلة. فتتمحض اليمين المتممة إذن طريقاً من طرق الإثبات ذات القوى المحدودة وذات الأثر التكميلي، ولا تنطوى على أى تصرف قانوني.
من يوجه اليمين المتممة : يوجهها القاضي من تلقاء نفسه، لا الخصم. ولا يتقيد القاضي فى ذلك بطلب الخصوم، فلو طلبها خصم فللقاضي أن يقدر هذا الطلب، فيوجهها أو لا يوجهها. وله أن يوجهها، كما قدمنا، حتى لو لم يطلب الخصم توجيهها.
لمن توجه اليمين المتممة : وتوجه لأى من الخصمين بحسب تقدير القاضي. فإن رأي القاضي أن أحد الخصمين - المدعي أو المدعى عليه – قدم أدلة على ادعائه فى الدعوى أو فى الدفع أرجح من أدلة الخصم الآخر وإن كانت فى ذاتها غير كافية، ورأى إلى جانب ذلك أن هذا الخصم ذلك الدليل الراجح أولى بالثقة فيه والاطمئنان إليه، وجه إليه هو، دون الخصم الآخر، اليمين المتممة ليستكمل أدلته بها. وإن رأى الخصمين متكافئين فى كل ما تقدم، فالظاهر أنه يوجه اليمين المتممة إلى المطلوب من الخصمين لا الطالب، لأن الأصل براءة الذمة على أن القاضى فى كل هذا إنما يسير بحسب اقتناعه وبمقدار ما يطمئن إلى أي من الخصمين، دون أن يتقيد بقاعدة معينة، فمن من الخصمين رآه أجدر بالثقة حلفه اليمين.
ولا تشترط أهلية خاصة فى الخصم الذى توجه إليه اليمين. بل تكفي فيه أهلية التقاضي، لأن اليمين المتممة ليست تصرفاً قانونياً، بل هى وسيلة من وسائل التحقيق والإثبات كما قدمنا. وسنرى أنه لا يصح التوكيل فى حلف اليمين المتممة.
ولا يجوز توجيه اليمين المتممة إلى غير خصم أصلي في الدعوى. فلا توجه إلى الدائن الذى يرفع الدعوى باسم مدينه، بل توجه إلى هذا المدين بعد إدخاله فى الدعوى.
متى توجه اليمين المتممة : توجه فى أية حالة كانت عليها الدعوى، إلى أن يصدر حكم نهائي حائز لقوة الشئ المقضي. ويجوز توجيهها بعد إقفال باب المرافعة، فيعيد القاضي القضية إلى المرافعة إذا رأى محلاً لذلك. كما يجوز توجيهها لأول مرة أمام المحكمة الاستئنافية، فى أية حالة كانت عليها الدعوى على الوجه المتقدم الذكر.
ولكنها لا توجه إلى خصم إلا لاستكمال أدلته. فيجب إذن – كما يقول النص – ألا يكون فى الدعوى دليل كامل، وألا تكون الدعوى خالية من أى دليل. أى يجب أن يكون فى الدعوى مبدأ ثبوت بالكتابة أو بغير الكتابة على حسب الأحوال. ذلك أنه إذا كان فى الدعوى دليل كامل، لم تصبح هناك حاجة لليمين المتممة، وقضى لمصلحة صاحب هذا الدليل. وإذا كانت الدعوى خالية من أى دليل، لم يصح توجيه ليمين المتممة لأي من الخصمين، لأن هذه اليمين لا توجه إلا لاستكمال أدلة ناقصة، فلا تحل مكان أدلة غير موجودة كما هو شأن اليمين الحاسمة، وإنما يقضي فى هذه الحالة على الخصم الذى خلت دعواه من أى دليل.
والدليل الناقص الذى تكمله اليمين المتممة يختلف باختلاف ما إذا كان الادعاء يجوز إثباته بالبينة والقرائن أو لابد من الكتابة فى إثباته. فإذا كان الإثبات جائزاً بالبينة والقرائن، فالدليل الناقص يصح أن يكون بينة أو قرائن ليست كافية لإقناع القاضي فيستكملها باليمين المتممة، ويكون ذلك فى ادعاء لا تجاوز قيمته عشرة جنيهات وكذلك فى جميع المواد التجارية، أما إذا كان الإثبات بالكتابة واجباً، فالدليل الناقص يجب أن يكون مبدأ الثبوت بالكتابة، لا مجرد بينة أو قرائن، إلا فى الحالات التى تجوز فيها البينة والقرائن بدلاً من الكتابة لمسوغ قانوني، كما إذا كان هناك مانع من الحصول على الكتابة أو فقدت الكتابة بسبب أجنبى بعد الحصول عليها.
موضوع اليمين المتممة : ولما كانت اليمين المتممة هي لتكملة دليل ناقص، فالواقعة التي يحلف عليها الخصم هى تلك التى تكمل دليله ليثبت ادعاؤه، دعوى كانت أو دفعاً. فهى إذن لابد أن تكون واقعة غير مخالفة للقانون ولا للنظام العام ولا للآداب، ويجب أن يكون من شأنها أن تكلم الدليل الناقص فى تقدير القاضي.
ويغلب أن تكون الواقعة التى يحلف عليها الخصم اليمين المتممة هى واقعة الادعاء بأجمعها، كأن يحلف الدائن أن له فى ذمة المدين مبلغ كذا بسبب القرض، فيستكمل بهذه اليمين مبدأ ثبوت بالكتابة قدمه الإثبات عقد القرض. ولكن لا شئ يمنع من أن تكون الواقعة مجرد قرينة من شأنها، إذا ثبتت، أن تضاف إلى أدلة أخرى موجودة فيثبت المدعى به بمجموع هذه الأدلة. مثل ذلك أن يحلف المدين يميناً متممة على أنه أقرض الدائن، بعد حلول الدين المدعى به، مبلغاً من المال، ليستخلص من واقعة القرض قرينة تضاف إلى مبدأ ثبوت بالكتابة لإثبات براءة ذمته من الدين المدعى به.
كذلك يغلب أن تكون الواقعة التى يحلف عليها الخصم اليمين المتممة واقعة شخصية. فإن لم تكن شخصية كان الحلف على عدم العلم. ذلك أن اليمين المتممة، كاليمين الحاسمة، قد تكون يميناً على عدم العلم. مثل ذلك أن يوجه القاضي اليمين المتممة إلى ورثة المدعي عليه يحلفون أنهم لا يعلمون أن مورثهم قد تسلم الوديعة المدعي بها من المدعي. وليست يمين عدم العلم هذه يمين استيثاق ضرورة، شأنها فى ذلك شأن يمين عدم العلم الحاسمة، ولكن يمين الاستيثاق هى التى قد تكون فى بعض صورها يميناً بعدم العلم.
جواز الرجوع في اليمين المتممة : واليمين المتممة يجوز الرجوع فيها دائماً. وقد رأينا أن القاضى هو الذى يوجهها. فإذا وجهها إلى أحد الخصمين، ثم بدا له بعد ذلك أن يرجع، بأن كشف عن أدلة جديدة أكملت الأدلة الناقصة أو نقضتها فلم يعد هناك مسوغ لتوجيه اليمين المتممة، جاز له الرجوع. بل يجوز له الرجوع لمجرد أن يكون قد غير رأيه دون حاجة إلى الكشف عن أدلة جديدة، فقد يعيد النظر فى تقدير الأدلة الموجودة فيراها كاملة وكان يظنها قبل توجيه اليمين ناقصة، أو لا يرى فيها دليلاً بعد أن كان يظنها أدلة ناقصة، فيرجع عندئذ عن توجيه اليمين المتممة بعد أن يكون قد وجهها.
الفروق الجوهرية بين اليمين الحاسمة و اليمين المتممة :
وقد آن أن نلخص الفروق الجوهرية بين اليمين الحاسمة واليمين المتممة، ومردها جميعاً يرجع إلى أن اليمين الحاسمة تحكيم يتقيد به الخصوم والقاضي، أما اليمين المتممة فوسيلة تكميلية من وسائل التحقيق والإثبات لا يتقيد بها أحد.
ويترتب على هذا الأصل الفروق الجوهرية الآتية بين اليمينين :
أولاً : اليمين الحاسمة يوجهها الخصم تحت رقابة القاضي. أما اليمين المتممة فيوجهها القاضي وحده.
ثانياً : لا يجوز للخصم الرجوع فى اليمين الحاسمة بعد أن يقبلها الخصم الآخر. وللقاضي أن يرجع عن توجيه اليمين المتممة فى أى وقت بعد توجيهها.
ثالثاً : اليمين الحاسمة نتائجها محتمة : يكسب من يحلفها، ويخسر من ينكل عنها، أما اليمين المتممة فليست لها نتائج محتمة، ولا يتقيد القاضي بموجبها حلفها الخصم أو نكل.
رابعاً : اليمين الحاسمة يجوز ردها على الخصم الآخر، أما اليمين المتممة فلا ترد.(الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور/ عبد الرزاق السنهوري، تنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، الطبعة الثانية 1982 دار النهضة العربية، الجزء : الثاني المجلد الأول، الصفحة : 744).
وعلى ذلك فاليمين المتممة هي اليمين التي يوجهها القاضي من تلقاء نفسه إلى أي من الخصمين ليستكمل بها اقتناعه عندما يرى أن ما قدمه الخصم من أدلة لم يكن كافية وفي هذا المجال يبدو كذلك دور القاضي الإيجابي في الإثبات على أنه إذا كان للقاضي أن يوجه اليمين المتممة فإنه لا يوجهها إلا إذا كان هناك دليل ناقص ويرى تكملته ولكن إذا لم يكن هناك دليل أصلاً فلا يوجهها وهذا على خلاف اليمين الحاسمة فاليمين المتممة تكمل دليلاً ناقصاً أما الحاسمة فتقوم وحدها دليلاً يستبعد أي دليل آخر. (الدكتور توفيق حسن فرج في قواعد الإثبات طبعة 1981 ص 182).
إذا طلب أحد خصوم الدعوى توجيه اليمين المتممة فليس ثمة ما يمنع القاضي من أن يطلب منه هو حلفها وليس من الضروري أن توجه اليمين المتممة في أمر يحسم النزاع بل يجوز توجيهها في نقطة غير فاصلة في النزاع بحيث تستكمل أدلة أخرى قائمة فيه. وتملك محكمة الدرجة الثانية (محكمة الاستئناف) أن توجه اليمين المتممة لأول مرة وتملك رفض توجيهها وعلى ما تتبينه وتقدره من أدلة الدعوى وتملك الحكم بأن أدلة الدعوى كانت كافية للحكم فيها أو أصبحت كافية دون حاجة إلى توجيه اليمين أو الأخذ بنتيجتها كما تملك توجيه اليمين في الاستئناف الذات الحكم الذي سبق لمحكمة الدرجة الأولى أن وجهت إليه اليمين كما تملك توجيهها إلى خصمه والحكم له في الدعوى بعكس ما قضت محكمة الدرجة الأولى بشرط أن تبني حكمها على أسباب سائغة.
( الدكتور أحمد أبو الوفا في التعليق على نصوص قانون الإثبات الطبعة الثانية ص 332 وما بعدها).
يقول المستشار أحمد نشأت أن اليمين المتممة كما هو ظاهر من اسمها هي اليمين التي يوجهها القاضي لأحد الخصمين ليتم بها اقتناعه وعرفها المرحوم الأستاذ فتحي زغلول بأنها اليمين التي يطلبها القاضي من أحد الخصمين توكيداً للأدلة التي قدمها ويضيف المستشار أحمد نشأت أنه يحسن بالقاضي ألا يلجأ إليها إلا نادرة لأن اليمين المتممة في الواقع تخرج به عن وظيفته إذ ليس من وظيفة القاضي أصلاً أن يضيف للخصم دليلاً على الأدلة التي قدمها في الدعوى وإنما وظيفته تنحصر في تقدير الأدلة المقدمة إليه من الخصوم ويظهر أن الشارع قد شرعها ليخلصه من وساس الضمير في الأحوال التي يرى فيها أن الأدلة تكاد تكفي للحكم ولكنها ليست قاطعة أو على الأقل جعلت ادعاء الخصم قریب الاحتمال وفي الوقت نفسه لا يستطيع عدم الأخذ بها وإهمالها فسمح له بأن يريح نمته بإلغاء جزء من مسئوليته على عاتق ذمة الخصم الذي إذا ثبت فيما بعد أن يمينه كانت كاذبة وقع تحت طائلة المادة 301 من قانون العقوبات ومع ذلك فإن القاضي الذي يوجهها يستطيع بالرغم من حلفها أن لا يأخذ بها.
( المستشار أحمد نشأت في رسالة الإثبات الطبعة السابعة الجزء الثاني ص 160 وما بعدها).(الشرح والتعليق على قانون الإثبات المدني، المستشار/ مصطفى مجدي هرجه، طبعة 2014، 2015، دار محمود، المجلد : الثاني، الصفحة : 345)
اليمين المتممة ليس الغرض منها أن تكون طريقة يلجأ إليها الخصم عندما يعوزه الدليل لكي يتسم بها النزاع، بل يقصد بها إدارة القاضي وإراحة ضميره عندما تكون الأدلة المقدمة في الدعوى غير كافية فهي ليست عقداً ولا صلحاً ولا عملاً قانونياً ولا حتى دليلاً، وإنما هي إجراء يتخذه القاضي رغبة منه في استقصاء الحقيقة، ثم يكون له بعد اتخاذه سلطة مطلقة في تقدير نتيجته، فهی ليست حجة ملزمة القاضي ولا تتقيد محكمة الاستئناف بما رتبته عليها محكمة أول درجة لأنها إجراء من إجراءات التحقيق، فهي ملك القاضي يوجهها من تلقاء نفسه، ولا يجوز أن يوجهها أحد الخصمين إلى الآخر، وغاية الأمر أن كلاً من الخصمين يستطيع أن يقترح على القاضي توجيهها، أو أن يوجه نظره إلى ذلك.
ويرى الأستاذ عبد السلام ذهني أن اليمين المتممة لا يمكن توجيهها إلى المتهم في الدعوى المدنية المرتبطة بالدعوى الجنائية شأنها في ذلك شأن اليمين الحاسمة.
ويشترط لتوجيه اليمين المتممة في الأحوال التي يجب فيها الإثبات بالكتابة وجود مبدأ ثبوت بالكتابة، وفي غيرها يكفي وجود بينة ناقصة أو قرينة ضعيفة أو دفاتر تجارية منتظمة فيما يتعلق بما يورده التجار لعملائهم ولا مانع من أن يكون فيها مبدأ ثبوت بالكتابة، وبناء على ذلك لا يجوز توجيهها في الحالتين الآتيتين:
1- إذا قدم الخصم دليلاً قانونياً كاملاً على دعواه لأن الدعوى تكون ثابتة فلا محل فيها لتكمل أدلتها باليمين المتممة.
2 - إذا لم يعزز الخصم دعواه بمبدأ ثبوت قانوني أي بدلیل ناقص من نوع الدليل الجائز ثباتها به قانوناً.
ويجوز للقاضي أن يوجهها إلى المدعي، أو إلى المدعي عليه حسبما يتراءى له من ظروف الدعوى ودرجة احتمال صحتها ومقدار ما يوحية إليه هذا الخصم أو ذلك من ثقة، والغالب أن يوجهها إلى الخصم الذي لم يكتمل دليله ليثبت ادعاؤه ويشترط فيها ما يشترط في موضوع اليمين الحاسمة ما عدا كونه حاسماً للنزاع (يراجع التعليق على المادة 114)، وإذا كانت الواقعة التي توجه اليمين بشأنها ليست متعلقة بشخص من وجهت إليه اكتفى منه بأن يحلف على نفي علمه بها لأن هذا العلم أو عدمه أمر متعلق بشخصه، ويجوز للقاضي بعد أن يوجه اليمين المتممة وقبل الحلف أن يرجع في توجيهها إذا كشف عن أدلة جديدة أكملت الأدلة الناقصة أو نقضتها أو إذا أعاد النظر في تقدير الأدلة الموجودة فرأها كاملة أو لم ير فيها دليلاً. (الوجيز للسنهوری ص 704، والوسيط لنفس المؤلف، الطبعة الثانية ص 744، والوجيز في الإثبات لسليمان مرقص ص 160، وأصول الإثبات لنفس المؤلف، الطبعة الخامسة، الجزء الأول ص 844).
ولا يلزم أن تكون الواقعة التي توجه عليها اليمين المتممة هي الواقعة التي يقوم عليها الادعاء كله، بل يجوز أن تكون واقعة فرعية تفرعت عنها تصلح أن تكون مجرد قرينة على ثبوت تلك الواقعة الأولى أو على نفيها كما لو كان موضوع الدعوى المطالبة بقرض فدفعها المدعى عليه بأنه سبق أن وفاة ثم أقرض هو المدعي مبلغاً آخر بعد حلول أجل الدين وسداده، وأن المدعي قام بدوره بالوفاء بهذا الدين الأخر، فإن هذه الواقعة لو صحت تصلح قرينة على أن المدعى عليه سبق أن أوفي الفرض الأول، وبالتالي يجوز توجيه اليمين المتممة عليها ليستخلص القاضي مما يترتب على حلقها قرينة على وفاء القرض الأول.
ويجوز للقاضي توجيه اليمين المتممة في أي حالة تكون عليها الدعوى، فيجوز له بعد إقفال باب المرافعة في الدعوى أن يعيد الدعوى للمرافعة ويأمر بتوجيه اليمين المتممة، كذلك يجوز توجيهها لأول مرة أمام المحكمة الاستئنافية.
وقد ذهب رأي في الفقه إلى أنه يجوز توجيهها أمام محكمة النقض في الحالات التي يجوز فيها المحكمة النقض أن تفصل في موضوع الدعوى باعتبار، أن في هذه الحالة تعتبر محكمة موضوع. (سليمان مرقص، المرجع السابق ص 850 ).
ليس من المحتم أني يحكم القاضي ضد من نكل عن أداء اليمين المتممة:
في حالة ما إذا قضت المحكمة بتوجيه اليمين المتممة ونكل الموجهة إليه عن أدائها سواء بعدم حلفها أو بعدم حضوره لأدائها رغم إعلانه قانوناً، فليس من المحتم أن يحكم القاضي ضد هذا الناكل وإلا كان في ذلك خلط بين أحكام اليمين الحاسمة وتلك الخاصة باليمين المتممة، إذ لا ينحسم النزاع بنكول الموجهة إليه اليمين المتممة عن أدائها فقد تظهر - كما قالت محكمة النقض - بعد النكول أدلة جديدة تكمل الأدلة الناقصة أو لا تظهر، ولكن القاضي يعيد النظر في الأدلة التي كان يحسبها ناقصة فيرجع عن رأيه ويقدر أنها كافية.(التعليق على قانون الإثبات، المستشار/ عز الدين الدناصوري، والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات الأستاذ/ خيري راضي المحامي، الناشر/ دار الكتب والدراسات العربية، الجزء الرابع، الصفحة :1424)
تعريف اليمين المتممة :
اليمين المتسمة إجراء يتخذه القاضي من تلقاء نفسه يوجهه إلى أحد خصوم الدعوى رغبة منه في تحري الحقيقة ليستكمل ليلاً ناقصاً في الدعوى. وهذه اليمين وإن كانت لا تحسم النزاع إلا أن القاضي بعد حلفها أن يقضي على أساسها باعتبارها مكملة لعناصر الإثبات الأخرى القائمة في الدعوى ليبني على ذلك حكمه في موضوعها أو في قيمة ما يحكم به.
ونحن هنا نخرج من نطاق الاحتكام إلى الذمة بالمعنى الذي رأيناه في اليمين الحاسمة، إلى نطاق الإثبات فاليمين المتممة في طبيعتها ليست سوى وسيلة أو إجراء التحقيق يتخذه القاضي لإكمال فكرته وتنوير ضميره حيث تكون الأدلة غير كافية للنهوض بذلك.
وهذه اليمين شرعت لعلاج مساوئ نظام تقييد الأدلة ونظام حيدة القاضي إزاء دعاوى الخصوم.
والملاحظ من الناحية العملية أن القاضي لا يلجأ إلى هذه اليمين إلا في كثير من الحيطة والاعتدال، بعد تقدير جدوى هذه اليمين تقديراً يعتد فيه بشخصية الخصم.
من الذي يوجه اليمين المتممة؟
اليمين المتممة توجه من القاضي وليس من الخصوم، وإنما لا يوجد ما يمنع أي من الخصوم من أن يقترح على القاضي توجيه هذه اليمين إلى خصم معين، أو يوجه نظره إلى ذلك ويبقى القاضي حراً في توجيهها من عدمه.
لمن توجه اليمين المتممة؟
تنص المادة ( 199/ 1 ) على أن «للقاضي أن يوجه اليمين المتممة من تلقاء نفسه إلى أي من الخصمين». وقد ترك القانون القاضي اختيار الخصم الذي توجه إليه اليمين دون أي قيد إلا أن الغالب أن يختار القاضي الخصم الذي يطمئن إلى صدقه أو الذي تكون أدلته أقرب إلى الرجحان. وإن كانت ناقصة في ذاتها، فيوجه إليه هذه اليمين حتى يستكمل أدلته. وقد يكون الخصم الذي توجه إليه اليمين هو المدعي أو المدعى عليه حسبما يتراءى للقاضي من ظروف الدعوى ودرجة احتمال صحتها ومقدار ما يوحيه إليه هذا الخصم أو ذاك من ثقة. والغالب أن يوجهها إلى الخصم الذي قدم ما يجعل دعواه قريبة التصديق أو الذي يراه أجدر بالثقة. فهی توجه إلى المدعي لتأييد دعواه وتوجه إلى المدعى عليه لتأييد عدم أحقية المدعي.
إلا أن الغالب أن يوجهها القاضي إلى الخصم الذي قدم ما يجعل دعواه قريبة للصدق أو الذي يراه أجدر بالثقة.
أما إذا تعادلت الاعتبارات جميعاً في الجانبين كان من المستحسن أن توجه اليمين إلى المدعى عليه حتى لا تجعل المدعي قاضياً فيما يدعيه.
ولكنه لا يجوز توجيه اليمين إلى الخصمين معاً، ويقع هذا التوجيه باطلاً سواء أحلف الاثنان أم نكلاً أم حلف أحدهما ونكل الآخر.
ونظراً لأن اليمين المتممة ليست تصرفاً قانونياً، بل هي مجرد واقعة مادية تستخدم كوسيلة من وسائل التحقيق والإثبات، فإنه لا يشترط في الخصم الذي توجه إليه أهلية خاصة، وإنما يكفي في ذلك أهلية التقاضي، لأن توجيه هذه اليمين إنما يكون من القاضي و لا من أحد الخصوم، فلا دخل لإرادة هؤلاء في ذلك.
واليمين المتممة لا توجه إلا إلى الخصم الأصلي في الدعوى، فإذا لم يكن الخصم كذلك فلا يجوز توجيهها له. وبهذا لا يجوز توجيه هذه اليمين إلى الدائن الذي يرفع الدعوى غير المباشرة باسم مدينه، بل توجه إلى هذا الأخير بعد إدخاله في الدعوى.
وإذا مات من وجهت إليه اليمين قبل أدائها اعتبرت كأنها لم توجه، حتى لو كان قد قبل أن يحلفها قبل موته، شأنها في ذلك شأن اليمين الحاسمة. وللقاضي في هذه الحالة أن يوجه يمين العلم إلى ورثة هذا الخصم، أو يوجه اليمين إلى الخصم الآخر، أو يقضي على أساس الأدلة الموجودة في الدعوى.
شروط توجيه اليمين المتممة :
تنص الفقرة الثانية من المادة على أنه: «ويشترط في توجيه هذه اليمين ألا يكون في الدعوى دليل كامل، وألا تكون الدعوى خالية من أي دليل».
ويبين من هذا النص أنه يشترط لتوجيه اليمين المتممة، توافر شرطين هما:
1- ألا يكون في الدعوى دليل كامل:
ذلك لأن اليمين المتممة، بحسب وظيفتها ليست إلا تتمة لدليل غير كامل. فإذا وجد في الدعوى الدليل الكامل فلا يجوز للقاضى أن يوجه اليمين لانتفاء الحاجة إليها، وإنما يجب عليه أن يقضي على أساس ذلك الدليل.
2- ألا تكون الدعوى خالية من أي دليل :
يشترط لتوجيه اليمين المتممة ألا تكون الدعوى خالية من أي دلیل، أي يجب أن يوجد في الدعوى مبدأ ثبوت قانوني، وهذا أيضاً شرط تقتضيه وظيفة اليمين المتممة، فإذا كانت الدعوى خالية من أي دليل فلا يجوز توجيه هذه اليمين، لأنها ليست إلا وسيلة تكميلية، فلا يصح أن تكون هي الدليل الوحيد في الدعوى، وهذا فارق جوهري بين اليمين المتممة واليمين الحاسمة، إذ أن هذه الأخيرة بحكم طبيعتها ووظيفتها يصح توجيهها عند عدم وجود أي دليل في الدعوى. والدليل الناقص الذي تكمله اليمين المتممة يختلف باختلاف ما إذا كان الادعاء يجوز إثباته بشهادة الشهود والقرائن أو لابد من الكتابة في إثباته. فإذا كان الإثبات جائزاً بالبينة والقرائن، فالدليل الناقص يصح أن يكون بينة أو قرائن ليست كافية لإقناع القاضي فيستكملها باليمين المتممة، أما إذا كان الإثبات بالكتابة واجباً، فالدليل الناقص يجب أن يكون مبدأ ثبوت بالكتابة، لا مجرد بينة أو قرائن، إلا في الحالات التي تجوز فيها البينة والقرائن بدلاً من الكتابة لمسوغ قانوني. كما إذا كان هناك مانع من الحصول على الكتابة أو فقدت الكتابة بسبب أجنبي بعد الحصول عليها وتصلح دفاتر التجار مبدأ ثبوت يجوز توجيه اليمين فيما يجوز إثباته بالبينة.
شروط تتفق فيها اليمين المتممة مع اليمين الحاسمة:
تتفق اليمين المتممة مع اليمين الحاسمة في الشروط الآتية:
1) أنها يجب أن ترد على واقعة، ويصح أن تنصب على الحق المدعى به، ولكن لا يجوز أن يكون موضوعها حكماً قانونياً.
2) أن تكون الواقعة التي يرد عليها الحلف منتجة في الدعوى بحيث تؤدي إلى تقوية مبدأ الثبوت الموجود في الدعوى وتنوير القاضي في شأنه.
3) ألا تكون الواقعة مما يحرم القانون توجيه اليمين في شأنه، وألا تكون مخالفة للنظام العام.
4) أن تتعلق الواقعة بشخص الحالف، فإذا لم يكن كذلك أمكن تحليفه على العلم بها إلا أنه لا يشترط أن تكون حاسمة للنزاع.
العدول عن توجيه اليمين المتممة:
يجوز للقاضي العدول عن توجيه اليمين المتممة حتى بعد قبول الخصم الحلف، إذ قد يرى بعد تمعن في الدعوى أنه لا حاجة له بها وقد تعرض له أدلة جديدة تغنيه عنها.
نطاق اليمين المتممة:
توجه اليمين المتممة في كل نزاع مدنی، عدا ما يحرم القانون توجيه اليمين فيه، أو ما يخالف النظام العام، شأنها في ذلك شأن اليمين الحاسمة.
ويجوز توجيه اليمين المتممة أمام أي قضاء مدني أو تجاري أو أمام هيئة محكمين، ولكن لا يجوز توجيهها أمام القضاء الإداري أو القضاء الجنائي.
وإنما إذا رفع المضرور من الجريمة دعوى مستقلة أمام المحكمة المدنية للمطالبة بالتعويض فإنه يحق للقاضي أن يوجه اليمين من تلقاء نفسه، حتى لو كانت الواقعة التي ترد عليها اليمين تكون جريمة يعاقب عليها.
موضوع اليمين المتممة:
الغالب أن تكون الواقعة التي يحلف عليها الخصم اليمين المتممة هي واقعة الادعاء بأجمعها، كأن يحلف الدائن أن له في ذمة المدين مبلغ كذا بسبب القرض، فيستكمل بهذه اليمين مبدأ ثبوت بالكتابة قدمه لإثبات عقد القرض.
إلا أنه من الجائز أن تكون الواقعة التي يرد عليها الحلف فرعية تفرعت عن موضوع الادعاء تصلح أن تكون مجرد قرينة على ثبوته أو على نفيه كما لو كان موضوع الادعاء المطالبة بقرض فدفعها المدعى عليه بأنه سبق أن وفاة ثم أقرض هو المدعي مبلغاً آخر بعد حلول أجل الدين وسداده، وأن المدعي قام بدوره بالوفاء بهذا الدين الآخر. فإن هذه الواقعة لو صحت تصلح قرينة على أن المدعى عليه سبق أن أوفي القرض الأول، وبالتالي يجوز توجيه اليمين المتممة عليها ليستخلص القاضي مما يترتب على حلفها قرينة على وفاء القرض الأول.
توجيه اليمين المتممة في أية حالة كانت عليها الدعوى:
يجوز توجيه اليمين المتممة في أية حالة كانت عليها الدعوى، سواء أمام محكمة أول درجة أو أمام محكمة ثاني درجة. كما يجوز أن توجه لأول مرة أمام محكمة النقض في الحالات التي يجوز فيها المحكمة النقض أن تفصل في موضوع الدعوى. بل يجوز حتی بعد إقفال باب المرافعة، بناء على طلب من الخصم، أو من تلقاء نفس القاضي بأن يعيد القاضي الدعوى للمرافعة ليحلف أحد الخصمين اليمين.
وكثيراً ما يكون توجيه اليمين بعد دراسة الدعوى وتمحيصها ووزن أدلتها وزناً صحيحاً يرتاح معها القاضي بتوجيهها إلى أحد الخصمين.
حجية اليمين المتممة:
اليمين المتممة - كما ذكرنا - ليست إلا إجراء يتخذه القاضي من تلقاء نفسه رغبة منه في تحري الحقيقة.
وهذه اليمين ليست حجة ملزمة للقاضي، بل له أن يأخذ بها بعد أن يؤديها الخصم أو لا يأخذ بها ويقضي بناء على عناصر أخرى أمامه. وإذا نكل عنها الخصم فلا يتحتم القضاء ضده بسبب هذا النكول.
إذ قد تظهر بعد النكول أدلة جديدة تكمل الأدلة الناقصة أو لا تظهر ولكن القاضي يعيد النظر في الأدلة التي كان يحسبها ناقصة فيرجع عن رأيه ويقدر أنها كافية.
ومن باب أولى تستطيع محكمة ثانى درجة أن تعيد النظر في الحكم الصادر بناء على اليمين المتممة، ولها ألا تعتد بهذا اليمين دون حاجة إلى إثبات كذبها، وله أيضاً أن يوجه اليمين إلى الخصم الآخر.
كما أن هذه اليمين لا تفيد الخصوم، فيكون في وسع الخصم الحالف أن ينقض دلالة اليمين بإثبات العكس، كما هي الحال في أي دليل آخر. وإذا كان قد صدر حكم بناء على هذه اليمين أمكن الخصم أن يطعن فيه بالاستئناف کي يصل إلى إثبات كذبها.
وقد رأينا أن القاضي لا يتقيد بتوجية اليمين، ويستطيع العدول عنها، إذا ظهر له قبل الحلف ما يكفي لتكوين اقتناعه.(موسوعة البكري القانونية في قانون الإثبات، المستشار/ محمد عزمي البكري، طبعة 2017، دار محمود، المجلد : الرابع، الصفحة : 1987)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون التقاضي والإثبات ، الطبعة الأولى 2013م – 1434ه، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 151 . (مادة 139): إذا كلف القاضي من توجه إليه اليمين، في الدعاوى المتعلقة بالمعاملات، باليمين ونكل عنها صراحة بقوله: لا أحلف. أو دلالة بالسكوت بلا عذر - حكم القاضي بنكوله، وإذا أراد أن يحلف بعد الحكم فلا يلتفت إليه ويبقى الحكم على حاله. (م (1751) من المجلة). المذكرة الإيضاحية: 1- هل يفترض القضاء فور النكول - أي عقبه - بدون تراخ؟ في المسألة خلاف قال في الدر: إنه لم ير في ذلك ترجيحا وفي تكملة الفتح أن فيه اختلافا، ولم يذكر الترجيح أيضا . 2- قضي عليه بالنكول، ثم أراد أن يحلف فلا يلتفت إليه، والقضاء على حاله؛ لأنه أبطل حقه بالنكول فلا ينقض القضاء. وإنما قيدنا بالقضاء؛ لأنه لو نكل ثم أراد أن يحلف بعد نكوله قبل القضاء - جاز ذلك وقبل منه؛ لأن النكول لا يصير حجة ملزمة إلا إذا اتصل به القضاء، ولو كان حلفه بعد العرض ثلاثا - وهذه جهة أخرى - لضعف النكول؛ لأن المدعى عليه يملك إبطاله قبل القضاء مع أنه لا يملك إبطال الإقرار الصادر عنه. 3- أما لو قضي عليه بالنكول، ثم جاء المدعي بالبينة - فإنه يقضي بها كما يقضي بها بعد الإقرار، وفائدة قبولها بعد لزوم حق المدعي بالقضاء - تعدية الحكم إلى غيره. 4- لو ادعى على آخر دينا مؤجلا فأنكر، لا يحلف على الدين المؤجل في أظهر القولين، وعلله الحموي بأنه قبل حلول الأجل لا تسوغ له المطالبة به حتى يترتب على إنكاره التحليف. أحمد إبراهيم، طرق القضاء، ص (247) - (248)). وقال في التبصرة ((1): (191)): «وإذا تم نکوله بالنطق أو الامتناع من اليمين على ما تقدم، ثم قال بعد ذلك: أنا أحلف. لم يقبل منه، ولم يلزم ذلك خصمه، إلا أن يشاء، وهذا مثل من قام له شاهد بحق وأبى أن يحلف معه ورد اليمين على المطلوب، ثم بدا له وأراد أن يحلف فليس له ذلك» . قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري،قانون التقاضى والإثبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434ه، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحات: 45 ، 46 ، 47 ، 48 (مادة 14) : طرق القضاء هي : الإقرار ، والإستجواب ، والشهادة ، والكتابة ، واليمين ، والقرائن ، والمعاينة ، والخبرة. المذكرة الإيضاحية : اختلف الفقهاء في بيان أدلة ثبوت الدعوى ( أي: الحجج الشرعية أو طرق القضاء). وقد حصرها البعض في سبعة هي : البينة ، والإقرار ، واليمين ، والنكول ، والقسامة ، وعلم القاضي ، والقرينة القاطعة (الدر، ورد المحتار). وقال في التكملة : والحاصل أن القضاء في الإقرار مجاز (لأن الحق يثبت به بدون حكم ، وإنما يأمره القاضي بدفع ما لزمه بإقراره، وليس لزوم الحق بالقضاء ، فجعل الإقرار من طرق القضاء إنما هو بحسب الظاهر ، وإلا فالحق يثبت به لا بالقضاء)، والقسامة داخلة في اليمين ، وعلم القاضي مرجوح، والقرينة مما انفرد به ابن الفرس ، فرجعت الحجج التي هي أسباب الحكم إلى ثلاث - أي البينة واليمين والنكول . (انظر أحمد إبراهيم، طرق القضاء، ص (7) - (11) و(219) وما بعدها) وذكر ابن القيم في الطرق الحكمية خمسة وعشرين طريقا ترجع عند النظر، إلى: القرائن والعلامات الظاهرة، الشهادة، اليمين، النكول، اليد (أي الحيازة)، الإنكار، الإقرار، الخط، القرعة، القافة (أي: الخبرة في أمور النسب). وذكر ابن فرحون في التبصرة : الشهادة والخط والإقرار والقرائن والقرعة والقافة . وفي مجلة الأحكام العدلية نجد أن طرق القضاء هي : الإقرار ، والشهادة ، واليمين ، والنكول ، والخط ، والقرينة القاطعة . وقد ذكرت لائحة ترتيب المحاكم الشرعية الصادر بها المرسوم بقانون رقم (78) لسنة 1931 في المادة (123) أربعة أدلة ، هي: الإقرار ، والشهادة ، والنكول عن الحلف، والقرينة القاطعة ولكنها تكلمت في الباب الثالث الخاص بالأدلة على الأدلة الخطية (في الفصل الثاني بعد الإقرار) ، ثم على اليمين والنكول (في الفصل السادس) ، وعلى المعاينة (في الفصل السابع) ، وعلى الخبرة في الفصل الثامن) ، كما تكلمت على إستجواب الخصوم (في الفصل السابع من الباب الثاني م (115) وما بعدها) وبذا زادت الأدلة فيها على الأربعة المذكورة في المادة (123) وذلك على خلاف ما ذهب إليه المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم ؛ إذ قال في طرق القضاء (ص (9) - (10)) : «أقول : إن الناظر فيما جاء في اللائحة في حجية الأوراق الرسمية والعرفية ، وفي استجواب الخصوم ومعاينة المحكمة وأهل الخبرة - يراه لا يخرج عن هذه الحجج الثلاث ؛ إذ كله يرجع إلى الإقرار ، وأن الإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان ، وهو الذي يجب التعويل عليه كما سيأتي». ولكن بالرجوع إلى المادة (134) من تلك اللائحة نجد أنها نصت على أن الأوراق الرسمية - أكانت سندات أم محررات - تكون حجة على أي شخص كان فيها تدون بها مما لا يدخلها دائما في الإقرار ، وكذلك إستجواب الخصوم ومعاينة المحكمة وأهل الخبرة لا تدخل دائما في الإقرار . وبالرجوع إلى القوانين العربية الخاصة بالإثبات نجد أنها : الأدلة الكتابية ، والشهادة ، والقرائن ، والإستجواب ، والإقرار ، واليمين ، والمعاينة ، والخبرة . (م (1) من قانون البينات السوري ، و(11) من قانون الإثبات السوداني ، وقانون الإثبات المصري ، وانظر السنهوري ، الوسيط ، ج (2) ص (89) وما بعدها) . وإذا ألقينا نظرة فاحصة وجدنا أن طرق إثبات الدعوى ترجع إلى: الإقرار ، والشهادة ، والكتابة ، واليمين ، والنكول ، والقرينة ، والمعاينة ، والخبرة . أما القسامة - وهي خاصة بالقضاء بالدية - فهي يمين. وأما علم القاضي فالفتوى على أنه ليس طريقا للقضاء لفساد الزمان وهو ما أخذ به هذا القانون في المادة (6) منه. وأما القافة فهي خاصة بالنسب وهو من الأحوال الشخصية وخارج عن نطاق هذا القانون . وقد جرت بعض التقنينات على عدم النص على طرق القضاء بإعتبار أن ذلك من عمل الفقه ، ولكن تقنينات أخرى جرت على النص عليها ، کلائحة ترتيب المحاكم الشرعية ، وقانون البينات السوري ، وقانون الإثبات السوري ، وقد روعي إتباع نهج التقنينات الأخيرة في هذا القانون زيادة في البيان . وقد سار القانون على معالجة طرق القضاء بالترتيب الآتي : 1- الإقرار . 2- إستجواب الخصوم . 3- الشهادة . 4 - الكتابة . 5- اليمين . 6- القرائن . 7- المعاينة . 8- الخبرة . وقد روعي في هذا الترتيب نظرة الفقه الإسلامي من تقديم الإقرار بوصفه أقوى الأدلة ، يليه الإستجواب بوصفه وسيلة للإقرار ، ثم الشهادة ، ويليها الكتابة لأنها في الغالب إما أن تكون إقرارا أو شهادة، ثم اليمين ، وبقية الأدلة . وقد خصص باب لكل طريق من هذه الطرق . الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الثالث ، الصفحة / 335 يمين الاستظهار: ذكر بعض الفقهاء يمين الاستظهار، وفسرها الدسوقي المالكي بأنها مقوية للحكم فقط، فلا ينقض الحكم بدونها. وأما ما يتوقف عليه الحكم فهو يمين القضاء، أو يمين الاستبراء. ويحلف المدعي يمين الاستظهار إذا ادعى على ميت أو غائب، وأقام شاهدين بالحق. فمن يمين الاستظهار ما قال الرملي الشافعي: أنه لو ادعى من لزمته الزكاة ممن استولى عليهم البغاة دفع الزكاة إلى البغاة، فإنه يصدق بلا يمين لبناء الزكاة على التخفيف، ويندب الاستظهار بيمينه على صدقه إذا اتهم، خروجا من خلاف من أوجبها. وذكر المالكية في المرأة تريد الفراق من زوجها الغائب لعدم النفقة، فإن كانت الغيبة بعيدة أجلها القاضي بحسب ما يراه، فإذا انقضت المدة استظهر عليها باليمين. والحنفية، والحنابلة ذكروا استحلاف المدعي إذا ادعى على ميت أو غائب وأقام بينة. الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / السابع ، الصفحة / 245 أيمان التعريف: 1 - الأيمان: جمع يمين، وهي مؤنثة وتذكر. وتجمع أيضا على (أيمن) ومن معاني اليمين لغة: القوة والقسم، والبركة، واليد اليمنى، والجهة اليمنى. ويقابلها: اليسار، بمعنى: اليد اليسرى، والجهة اليسرى. أما في الشرع، فقد عرفها صاحب غاية المنتهى من الحنابلة بأنها: توكيد حكم بذكر معظم على وجه مخصوص. ومقتضى هذا التعريف تخصيص اليمين بالقسم، لكن يستفاد من كلام الحنابلة في مواضع كثيرة من كتبهم تسمية التعليقات الستة أيمانا، وهي تعليق الكفر والطلاق والظهار والحرام والعتق والتزام القربة، وقرر ذلك ابن تيمية في مجموع الفتاوى. حكمة التشريع: من أساليب التأكيد المتعارفة في جميع العصور أسلوب التأكيد باليمين، إما لحمل المخاطب على الثقة بكلام الحالف، وأنه لم يكذب فيه إن كان خبرا، ولا يخلفه إن كان وعدا أو وعيدا أو نحوهما، وإما لتقوية عزم الحالف نفسه على فعل شيء يخشى إحجامها عنه، أو ترك شيء يخشى إقدامها عليه، وإما لتقوية الطلب من المخاطب أو غيره وحثه على فعل شيء أو منعه عنه. فالغاية العامة لليمين قصد توكيد الخبر ثبوتا أو نفيا. تقسيمات اليمين (أولا) تقسيم اليمين بحسب غايتها العامة تنقسم اليمين بحسب غايتها العامة إلى قسمين: القسم الأول: اليمين المؤكدة للخبر، سواء أكان ماضيا أم حاضرا أم مستقبلا، وسواء أكان إثباتا أم نفيا، وسواء أكان مطابقا للواقع أم مخالفا. واليمين على ما طابق الواقع تسمى (اليمين الصادقة) كقوله تبارك وتعالى: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم فهذا أمر للنبي صلي الله عليه وسلم أن يحلف بربه عز وجل على أنهم سيبعثون يوم القيامة، ثم يحاسبون على أعمالهم. واليمين على ما خالف الواقع إن كان الحالف بها كاذبا عمدا تسمى (اليمين الغموس) لأن ها تغمس صاحبها في الإثم. ومن أمثلتها ما حكاه الله عز وجل عن المنافقين في آيات كثيرة منها: قوله تعالي ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون. فهذا من المنافقين حلف على أنهم من المؤمنين، وهم كاذبون فيه، وما حملهم على الكذب إلا أنهم يخافون غضب المؤمنين عليهم. وإن كان الحالف بها متعمدا صدقها، غير أنه أخطأ في اعتقاده، لم تكن غموسا ولا صادقة، وإنما تكون (لغوا) على بعض الأقوال. ومن أمثلتها أن يقول إنسان: والله إن الشمس طلعت، بناء على إشارة الساعة والتقويم، ثم يتبين أنه لم تكن طلعت، وأنه أخطأ النظر، أو كان بالساعة خلل، أو بالتقويم خطأ. القسم الثاني: اليمين المؤكدة للإنشاء. والإنشاء إما حث أو منع، والمقصود بالحث: حمل الحالف نفسه أو غيره على فعل شيء في المستقبل. والمقصود بالمنع: حمل الحالف نفسه أو غيره على ترك شيء في المستقبل. مثال الحث: والله لأفعلن كذا، أو لتفعلن كذا، أو ليفعلن فلان كذا. ومثال المنع: والله لا أفعل كذا، أو لا تفعل كذا، أو لا يفعل فلان كذا. وهذه اليمين تسمى (منعقدة) أو (معقودة) متى تمت شرائطها، وسيأتي بيانها. ومما هو جدير بالملاحظة أن قول القائل: لأفعلن، أو لا أفعل يدل على حث نفسه على الفعل أو الترك حقيقة إن كان يتحدث في خلوة، نحو: والله لأصومن غدا، أو لا أشرب الخمر، أو لأقتلن فلانا، أو لا أفعل ما أمرني به. وأما إن كان يتحدث في مواجهة غيره، فإنه يدل على حث نفسه ظاهرا، وقد يكون هذا الظاهر موافقا للحقيقة، بأن يكون عازما على الوفاء، وقد يكون مخالفا لها، بأن يكون عازما على عدم الوفاء. وقول القائل: لتفعلن أو لا تفعل يدل على حث المخاطب على الفعل أو الترك، ويكون بمثابة الأمر إن كان من أعلى لأدنى، والدعاء إن كان من أدنى لأعلى، والالتماس إن كان بين متماثلين. ثم إنه قد يكون حقيقيا، وقد يكون ظاهريا فقط بقصد المجاملة أو غيرها. هذا، وتنقسم اليمين على المستقبل إلى: يمين بر، ويمين حنث. (فيمين البر) هي ما كانت على النفي، نحو: والله لا فعلت كذا، بمعنى: لا أفعل كذا، وسميت يمين بر لأن الحالف بار حين حلفه، ومستمر على البر ما لم يفعل. (ويمين الحنث) ما كانت على الإثبات، نحو: والله لأفعلن كذا، وإنما سميت يمين حنث لأن الحالف لو استمر على حالته حتى مضى الوقت أو حصل اليأس حنث. ( ثانيا) تقسيم اليمين بحسب صيغتها العامة القسم الأول: القسم المنجز بالصيغة الأصلية لليمين، وتكون بذكر اسم الله تعالى، مثل (والله) (والرحمن) أو صفة له مثل (وعزة الله) (وجلاله). وكان الناس في الجاهلية يحلفون بالله وبمعبوداتهم كاللات والعزى، وبما يعظمونه من المخلوقات مما لا يعبدون كالآباء والأمهات والكعبة، وبما يحمدونه من الأخلاق كالأمانة. وفي صدر الإسلام بطل تعظيمهم للأصنام ونحوها مما كانوا يعبدونه من دون الله، فبطل حلفهم بها إلا ما كان سبق لسان، واستمر حلفهم بما يحبونه ويعظمونه من المخلوقات، فنهاهم رسول الله صلي الله عليه وسلم عن ذلك وأمرهم بالاقتصار على الحلف بالله تعالى، وسيأتي بيان ذلك كله تفصيلا. - القسم الثاني: التعليق، ويمكن تحصيل الغاية العامة من اليمين - وهي تأكيد الخبر أو الحث أو المنع - بطريق آخر، وهو ترتيب المتكلم جزاء مكروها له في حالة مخالفة الواقع أو تخلف المقصود. ولهذا الجزاء أنواع كثيرة بحسب العادة، لكن لم يعتبر الفقهاء منها إلا ستة أنواع وهي: الكفر، والطلاق، والظهار، والحرام، والعتق، والتزام القربة. وأمثلتها: إن فعلت كذا، أو: إن لم أفعل كذا، أو: إن لم يكن الأمر كما قلت فهو بريء من الإسلام. أو: فامرأته طالق، أو: فامرأته عليه كظهر أمه، أو: فحلال الله عليه حرام، أو: فعبده حر، أو فعليه حجة. وقد يكون الطريق المحصل للغاية ترتيب جزاء محبوب للمخاطب على فعل أمر محبوب للمتكلم، كما لو قال إنسان لعبده: إن بشرتني فأنت حر، فهذا الجزاء محبوب للمخاطب من حيث كونه تخلصا من الرق، وإن كان شاقا على المتكلم من حيث كونه إزالة للملك، غير أنه يستسهله لما فيه من مكافأة على فعل ما يحبه وشكر لله عز وجل على ذلك. والجزاء المحبوب لا يتصور كونه ظهارا ولا كفرا، فهو منحصر في العتق والتزام القربة والطلاق والحرام، كتطليق ضرة المخاطبة وتحريمها. وسيأتي تفصيل ذلك كله. التعليق بصورة القسم: قد يعدل الحالف عن أداء الشرط والجملة الشرطية، ويأتي بالجزاء بدون الفاء، ويذكر بعده جملة شبيهة بجواب القسم، فيقول: هو يهودي ليفعلن كذا، أو لا يفعل كذا، أو امرأته طالق لا يفعل كذا، أو ليفعلن كذا، فالجملة التي بدئ الكلام بها جزاء لشرط محذوف، تدل عليه الجملة المذكورة بعد، وسيأتي بيان ذلك. الجواب الإنشائي يتضمن الخبر: القسم حينما يكون إنشائيا للحث أو المنع، فالحلف عليه لا يمكن أن يكون حلفا على الإنشاء المحض، فإن هذا الإنشاء يحصل معناه بمجرد النطق به، فلا يحتاج إلى حلف. فإن الذي يحتاج إلى الحلف، هو الأمر الذي يخشى تخلفه، وهو الوفاء بمضمون الجملة الإنشائية. فمن حلف فقال: والله لأقضينك حقك غدا، وقد حث نفسه على القضاء، وهذا الحث قد حصل بمجرد النطق، فهو غير محتاج إلى القسم من حيث ذاته، فالقسم إذن إنما هو على الحث المستتبع لأثره، وهو حصول القضاء بالفعل في غد، وهذا المعنى خبري، ولهذا لو لم يقضه حقه لكان حانثا. فمن قال: لأقضينك حقك. أثبت معنيين: (أحدهما) إنشائي، وهو حث نفسه على القضاء، وهذا هو المعنى الصريح. (وثانيهما) خبري، وهو الإخبار بأن هذا القضاء سيحصل في الغد، وهذا المعنى ضمني، واليمين إنما أتي بها من أجل هذا المعنى الضمني. ولهذا لا يصح في اللغة العربية أن يجاب القسم بفعل الأمر، ولا بفعل النهي، فلا يقال: والله قم، أو لا تقم. مرادفات اليمين: قال الكمال: أسماء هذا المعنى التوكيدي ستة: الحلف والقسم والعهد والميثاق والإيلاء واليمين. فاليمين مرادفة للألفاظ الخمسة التي ذكرت معها. وهناك ألفاظ أخرى، فقد أفاد صاحب البدائع أنه لو قال إنسان: أشهد أو أعزم أو شهدت أو عزمت بالله لأفعلن كذا. كان يمينا؛ لأن العزم معناه الإيجاب؛ ولأن الشهادة وردت في قوله تعالي إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون) فالآية الثانية أفادت أن شهادتهم يمين. ويؤخذ من هذا أن الشهادة والعزم من مرادفات اليمين عرفا، وأفاد أيضا أن الذمة كالعهد والميثاق، فمن قال: علي ذمة الله لأفعلن كان يمينا. وأفاد ابن عابدين أنه لو نذر الإنسان صوما، كأن قال: لله علي أن أصوم، فإن لم ينو شيئا، أو نوى النذر ولم يخطر اليمين بباله، أو نوى النذر ونفى اليمين كان نذرا فقط. وإن نوى اليمين ونفى النذر كان يمينا فقط. وعليه الكفارة إن أفطر. وإن نواهما معا، أو نوى اليمين ولم يخطر بباله النذر كان نذرا ويمينا، حتى لو أفطر قضى وكفر عن يمينه. ويؤخذ من هذا أن صيغة النذر تكون يمينا بالنية عند الحنفية، فتكون من قبيل الكناية، بخلاف الألفاظ السابقة، فظاهر كلامهم أنها صريحة عندهم، وإن كان بعضها كناية عند غيرهم كما سيأتي. وسيأتي الخلاف في النذر المبهم مثل علي نذر. وسيأتي أيضا أن الكفالة والأمانة المضافين لله كالعهد عند الشافعية، فقد قالوا: من قال: علي عهد الله، أو ميثاقه، أو ذمته، أو كفالته، أو أمانته لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا، كان قوله ذلك يمينا بالنية. هذا ما في كتب الفقه، وقد يجد الباحث في كتب اللغة ألفاظا أخرى كالنفل. ففي القاموس المحيط: نفل: حلف. وهو من باب نصر. ويؤخذ من لسان العرب أن (نفل) (وانتفل) و (أنفل) معناها حلف، ويقال: نفلته بتشديد الفاء أي: حلفته. أيمان خاصة أ - الإيلاء: هو أن يحلف الزوج على الامتناع من وطء زوجته مطلقا أو مدة أربعة أشهر، سواء أكان الحلف بالله تعالى أم بتعليق الطلاق أو العتق أو نحوهما. ولهذا الإيلاء أحكام خاصة مأخوذة من قوله تعالي للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) ولتفصيلها (ر: إيلاء). ب - اللعان: اللعان في اللغة: مصدر لاعن، بمعنى شاتم، فإذا تشاتم اثنان، فشتم كل منهما الآخر بالدعاء عليه، بأن يلعنه الله، قيل لهما: تلاعنا، ولاعن كل منهما صاحبه. واللعان في الشرع لا يكون إلا أمام القاضي، وهو: قول الزوج لامرأته مشيرا إليها: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنى. وإذا كانت حاملا أو ولدت ولدا واعتقد أنه ليس منه زاد: وأن هذا الحمل أو الولد ليس مني. ويكرر ذلك كله أربع مرات، ويزيد بعد الرابعة: وعليه لعنة الله إن كان من الكاذبين. ولعان المرأة زوجها إذا لم تصدقه أن تقول بعد لعانه إياها: أشهد بالله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى، وتزيد لإثبات نسبة الحمل أو الولد: وأن هذا الولد منه. وتكرر ذلك كله أربع مرات، وتزيد بعد الرابعة: وعليها غضب الله إن كان من الصادقين. ولعان الحاكم بين الزوجين هو: أن يحضرهما، ويأمر الزوج بملاعنة زوجته إن كان مصرا على قذفها، وليس معه أربعة شهود عدول، ولم تعترف الزوجة بما قاله، ثم يأمر الزوجة - بعد انتهاء الزوج من الملاعنة - أن تلاعنه، فإذا لاعنته فرق بينهما. ومعلوم أن قول كل من الزوج والزوجة: أشهد بالله معناه أقسم بالله، فعلى هذا يكون اللعان يمينا خاصة لها أحكام تخصها، ولتفصيلها (ر: لعان). ج - القسامة: القسامة في اللغة لها معان: منها اليمين. وفي الشرع: أن يقسم خمسون من أولياء القتيل على استحقاقهم دية قتيلهم، إذا وجدوه قتيلا بين قوم، ولم يعرف قاتله. فإن لم يكونوا خمسين رجلا أقسم الموجودون خمسين يمينا. فإن امتنعوا وطلبوا اليمين من المتهمين ردها القاضي عليهم، فأقسموا بها على نفي القتل عنهم. فإن حلف المدعون استحقوا الدية. وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية. على خلاف وتفصيل ينظر في (قسامة). د - اليمين المغلظة: هي اليمين التي غلظت بالزمان، والمكان، وزيادة الأسماء والصفات، وبحضور جمع، وبالتكرار. فالتغليظ بالزمان هو: أن يكون الحلف بعد العصر، وعصر الجمعة أولى من غيره. والتغليظ بالمكان: أن يكون الحلف عند منبر المسجد الجامع من جهة المحراب، وكونه على المنبر أولى. أما التغليظ في مكة، فهو أن يكون بين الركن الأسود والمقام. والتغليظ بالزمان والمكان يكون في اللعان والقسامة وبعض الدعاوى. والتغليظ بزيادة الأسماء والصفات نحو: والله الطالب الغالب المدرك المهلك الذي يعلم السر وأخفى، ونحو: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية. وهذا التغليظ يكون في بعض الدعاوى. والتغليظ بحضور جمع هو: أن يحضر الحلف جماعة من أعيان البلدة وصلحائها، أقلهم أربعة. وهذا التغليظ يكون في اللعان. والتغليظ بالتكرار هو: تكرار اليمين خمسين مرة. وهذا يكون في القسامة. ولتفصيل ذلك كله (ر: لعان وقسامة ودعوى). ه - أيمان البيعة: مما أحدثه الحجاج بن يوسف الثقفي، أن حلف الناس على بيعتهم لعبد الملك بن مروان بالطلاق والعتاق واليمين بالله وصدقة المال. فكانت هذه الأيمان الأربعة أيمان البيعة القديمة المبتدعة. ثم أحدث المستحلفون من الأمراء عن الخلفاء والملوك وغيرهم أيمانا كثيرة، تختلف فيها عاداتهم، ومن أحدث ذلك فعليه إثم ما ترتب على هذه الأيمان من الشر. فإذا حلف إنسان بأيمان البيعة، بأن قال: علي أيمان البيعة، أو أيمان البيعة تلزمني إن فعلت كذا أو إن لم أفعل كذا مثلا: فالمالكية اختلفوا، فقال أبو بكر بن العربي: أجمع المتأخرون على أنه يحنث فيها بالطلاق لجميع نسائه، والعتق لجميع عبيده، وإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبة واحدة، والمشي إلى مكة، والحج ولو من أقصى المغرب، والتصدق بثلث جميع أمواله، وصيام شهرين متتابعين. ثم قال: جل الأندلسيين قالوا: إن كل امرأة له تطلق ثلاثا ثلاثا، وقال القرويون: إنما تطلق واحدة واحدة. وألزمه بعضهم صوم سنة إذا كان معتادا للحلف بذلك. وقال الشافعي وأصحابه: إن لم يذكر في لفظه طلاقها أو عتاقها أو حجها أو صدقتها لم يلزمه شيء، سواء أنواه أم لم ينوه، إلا أن ينوي طلاقها أو عتاقها، فاختلف أصحابه، فقال العراقيون: يلزمه الطلاق والعتاق، فإن اليمين بهما تنعقد بالكناية مع النية، وقال صاحب التتمة: لا يلزمه ذلك وإن نواه ما لم يتلفظ به؛ لأن الصريح لم يوجد، والكناية إنما يترتب عليها الحكم فيما يتضمن الإيقاع، فأما الالتزام فلا. والحنابلة اختلفوا، فقال أبو القاسم الخرقي: إن نواها لزمته، سواء أعرفها أم لم يعرفها. وقال أكثر الأصحاب ومنهم صاحب المغني: إن لم يعرفها لم تنعقد يمينه بشيء مما فيها، وفي غاية المنتهى: يلزم بأيمان البيعة - وهي يمين رتبها الحجاج تتضمن اليمين بالله تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال - ما فيها إن عرفها ونواها، وإلا فلغو. و- أيمان المسلمين: جاء في كتب المالكية: أن هذه العبارة تشمل ستة أشياء، وهي: اليمين بالله تعالى، والطلاق البات لجميع الزوجات، وعتق من يملك من العبيد والإماء، والتصدق بثلث المال، والمشي بحج، وصوم عام. وهذا الشمول للستة إنما يكون عند تعارف الحلف بها، فإن تعورف الحلف ببعضها لم تشمل ما سواه. وذهب الشافعية إلى تحريم تحليف القاضي بالطلاق أو العتاق أو النذر. قال الشافعي: ومتى بلغ الإمام أن قاضيا يستحلف الناس بطلاق أو عتق أو نذر عزله عن الحكم؛ لأنه جاهل. وقال الحنابلة: يلزم بالحلف بأيمان المسلمين ظهار وطلاق وعتاق ونذر ويمين بالله تعالى مع النية. كما لو حلف بكل منها على انفراد. ولو حلف بأيمان المسلمين على نية بعض ما ذكر تقيد حلفه به، ولو حلف بها وأطلق بأن لم ينو كلها ولا بعضها لم يلزمه شيء؛ لأن ه لم ينو بلفظه ما يحتمله فلم تكن يمينا. ز - أيمان الإثبات والإنكار: يذكر الفقهاء في مبحث الدعوى أيمانا للإثبات والإنكار. (منها): اليمين المنضمة، ويصح تسميتها باليمين المتممة، وهي التي تضم إلى شهادة شاهد واحد، أو شهادة امرأتين لإثبات الحقوق المالية. (ومنها): يمين المنكر بكسر الكاف، أو يمين المدعى عليه، وصورتها: أن يدعي إنسان على غيره بشيء، ولا يجد بينة، فيبين له القاضي أن له الحق في طلب اليمين من المدعى عليه ما دام منكرا، فيأمره القاضي أن يحلف، فإذا حلف سقطت الدعوى. (ومنها): يمين الرد، وصورتها: أن يمتنع المدعى عليه في الحالة السابق ذكرها عن اليمين، فيردها القاضي على المدعي، فيحلف على دعواه، ويستحق ما ادعاه. (ومنها): يمين الاستظهار، وصورتها: أن يترك الميت أموالا في أيدي الورثة، فيدعي إنسان حقا على هذا الميت، فعند بعض الفقهاء لا تثبت الدعوى في مواجهة الورثة بالبينة فقط، بل لا بد من ضم اليمين من المدعي، وقد تجب يمين الاستظهار في مسائل أخرى. ولبيان كل ما سبق تفصيلا (ر: إثبات ودعوى). إنشاء اليمين وشرائطها تقدم أن اليمين تنقسم من حيث صيغتها إلى قسم وتعليق، ومن هنا حسن تقسيم الكلام إلى قسمين. إنشاء القسم وشرائطه معلوم أن الإنسان إذا قال: أقسم بالله لأفعلن كذا، فهذه الصيغة تحتوي على جملتين، أولاهما: الجملة المكونة من فعل القسم وفاعله الضمير، وحرف القسم وهو الباء، والمقسم به وهو مدخول الباء. وثانيتهما: الجملة المقسم عليها. وتفصيل الكلام على الوجه الآتي. أ - فعل القسم: ذهب الحنفية إلى أن فعل القسم إذا ذكر بصيغة المضارع أو الماضي، كأقسمت أو حلفت، أو حذف وذكر مكانه المصدر نحو: قسما أو حلفا بالله، أو لم يذكر نحو: الله أو بالله كان ذلك كله يمينا عند الإطلاق. وعند المالكية إذا قال: أحلف أو أقسم أو أشهد أو أعزم، وقال بعد كل واحد منها: بالله، فهي يمين. وقول القائل: عزمت عليك بالله ليس بيمين، بخلاف: عزمت بالله، أو: أعزم بالله كما تقدم. والفرق هو أن التصريح بكلمة (عليك) جعله غير يمين بخلاف (أقسم) فإنها إذا زيد بعدها كلمة عليك لم تخرجها عن كونها يمينا؛ لأن (أقسم) صريح في اليمين. وقول الشخص: يعلم الله، ليس بيمين، فإن كان كاذبا فعليه إثم الكذب، ولا يكون كافرا بذلك، ولا بقوله: أشهد الله، إلا إن قصد أنه عز وجل يخفى عليه الواقع، ولا يكون القسم أيضا بقوله: الله راع، أو حفيظ، أو حاشا لله، أو معاذ الله. وقال الشافعية: من قال لغيره: آليت، أو أقسمت، أو أقسم عليك بالله، أو أسألك بالله لتفعلن كذا، أو لا تفعل كذا، أو قال: بالله لتفعلن كذا، أو لا تفعل كذا، فإما أن يريد يمين نفسه أو لا: فإن أراد يمين نفسه فيمين؛ لصلاحية اللفظ لها مع اشتهاره على ألسنة حملة الشرع. وإن لم يرد يمين نفسه، بل أراد الشفاعة، أو يمين المخاطب، أو أطلق لم تكن يمينا. فإن قال: والله، أو حلفت عليك بالله كان يمينا عند الإطلاق؛ لعدم اشتهاره في الشفاعة أو يمين المخاطب. وإن قال: آليت، أو أقسمت، أو أقسم بالله، ولم يقل: عليك كان يمينا عند الإطلاق أيضا. وقال الحنابلة: إذا قال أقسمت، أو أقسم، أو شهدت، أو أشهد، أو حلفت، أو أحلف، أو عزمت، أو أعزم، أو آليت، أو أولي، أو قسما، أو حلفا، أو ألية، أو شهادة، أو يمينا، أو عزيمة، وأتبع كلا من هذه الألفاظ بقوله (بالله) مثلا كانت يمينا، سواء أنوى بها إنشاء اليمين أم أطلق، فإن نوى بالفعل الماضي إخبارا عن يمين مضت، أو بالمضارع وعدا بيمين مستقبلة، أو نوى بقوله: عزمت وأعزم وعزيمة: قصدت أو أقصد أو قصدا، لم يكن يمينا يقبل منه ذلك. وليس من اليمين قوله: أستعين بالله، وأعتصم بالله، وأتوكل على الله، وعلم الله، وعز الله، وتبارك الله، والحمد لله، وسبحان الله، ونحو ذلك ولو نوى اليمين؛ لأن ها لا تحتمل اليمين شرعا ولا لغة ولا عرفا. ولو قال: أسألك بالله لتفعلن لم تكن الصيغة يمينا إن أطلق أو قصد السؤال أو الإكرام أو التودد، بخلاف ما لو قصد اليمين فإنها تكون يمينا. ب - حروف القسم: هي: الباء والواو والتاء. أما الباء فهي الأصل، ولهذا يجوز أن يذكر قبلها فعل القسم، وأن يحذف، ويجوز أن تدخل على الظاهر والمضمر، نحو: أقسم بك يا رب لأفعلن كذا. وتليها الواو، وهي تدخل على الظاهر فقط، ويحذف معها فعل القسم وجوبا. وتليها التاء، ولا تدخل إلا على لفظ الجلالة، كما في قوله تعالي حكاية عن نبيه إبراهيم عليه السلام ) وتالله لأكيدن أصنامكم وربما دخلت على (رب) نحو: تربي، وترب الكعبة، ويجب معها حذف فعل القسم أيضا. وإذا وجب حذف الفعل وجب حذف المصادر أيضا، نحو قسما. ويقوم مقام باء القسم حروف أخرى، وهي الهاء والهمزة واللام. أما الهاء فمثالها: ها الله، بفتح الهاء ممدودة ومقصورة مع قطع همزة لفظ الجلالة ووصلها، وإذا وصلت حذفت. وأما الهمزة فمثالها: آلله، ممدودة ومقصورة مع وصل همزة لفظ الجلالة، وذلك بأن تحذف. وأما اللام، فقد أفاد صاحب البدائع: أن من قال (لله) بلام الجر بدل الباء كانت صيغته يمينا. ولا تستعمل اللام إلا في قسم متضمن معنى التعجب، كقول ابن عباس رضي الله عنهما : «دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج. وفي مغني اللبيب والقاموس وشرحه ما يفيد أن اللام تستعمل للقسم والتعجب معا، وتختص بلفظ الجلالة. هذا ما قاله الحنفية ونحوه بقية المذاهب. حذف حرف القسم: إن لم يذكر الحالف شيئا من أحرف القسم، بل قال: الله لأفعلن كذا مثلا، كان يمينا بغير حاجة إلى النية سواء أكسر الهاء على سبيل الجر بالحرف المحذوف، أم فتحها على سبيل نزع الخافض، أم ضمها على سبيل الرفع بالابتداء، ويكون الخبر محذوفا وتقديره: قسمي أو أقسم به، أم سكنها إجراء للوصل مجرى الوقف. وبقاء الجر عند حذف الحرف خاص بلفظ الجلالة، فلا يجوز في العربية أن يقال: الرحمن لأفعلن كذا بكسر النون. كذا قيل. لكن الراجح أنه يجوز وإن كان قليلا، وأيا ما كان فاللحن لا يمنع انعقاد اليمين. هذا مذهب الحنفية والمالكية. وقال الشافعية: لو قال: الله، بحذف حرف القسم. لم يكن يمينا إلا بالنية، سواء جر الاسم أم نصبه أم رفعه أم سكنه. وقال الحنابلة: يصح قسم بغير حروفه، نحو: الله لأفعلن، جرا ونصبا. فإن رفع فيمين أيضا إلا إذا كان الرافع يعرف العربية ولم ينو اليمين، فلا يكون يمينا لأن ه إما مبتدأ أو معطوف بخلاف من لا يعرف العربية، فلو رفع كان يمينا لأن اللحن لا يضر. ج - اللفظ الدال على المقسم به: اللفظ الدال على المقسم به: هو ما دخل عليه حرف القسم، بشرط أن يكون اسما لله تعالى أو صفة له. والمقصود بالاسم: ما دل على الذات المتصفة بجميع صفات الكمال، وهو لفظ الجلالة (الله) وكذلك ترجمته بجميع اللغات، أو على الذات المتصفة بصفة من صفاته تعالى، سواء أكان مختصا به كالرحمن، ورب العالمين، وخالق السموات والأرض، والأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، والذي نفسي بيده، والذي بعث الأنبياء بالحق، ومالك يوم الدين. أم كان مشتركا بينه وبين غيره كالرحيم والعظيم والقادر والرب والمولى والرازق والخالق والقوي والسيد، فهذه الأسماء قد تطلق على غيره تعالى، قال تعالى في وصف الرسول صلي الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم ) وقال عز وجل في حكاية ما قاله الهدهد لسليمان عليه السلام وصفا لملكة سبأ ( ولها عرش عظيم) . وقال سبحانه في وصف أهل الحديقة الذين عزموا على البخل بثمرها ( وغدوا على حرد قادرين) ومعنى الحرد: المنع، والمراد منع المساكين، وقال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام لأحد صاحبيه في السجن: اذكرني عند ربك وقال عز وجل مخاطبا لزوجين من أزواج الرسول صلي الله عليه وسلم وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) وقال جل شأنه مخاطبا لمن يقسمون الميراث ( وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه). وقال سبحانه مخاطبا لعيسى عليه السلام وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني) وقال تعالى حكاية عن قول إحدى المرأتين لأبيها عن موسى عليه السلام إن خير من استأجرت القوي الأمين وقال سبحانه وتعالى: ( وألفيا سيدها لدى الباب). (والمقصود بالصفة): اللفظ الدال على معنى تصح نسبته إلى الله تعالى، سواء كان صفة ذات أم صفة فعل. وصفة الذات هي: التي يتصف سبحانه وتعالى بها لا بضدها كوجوده. وصفة الفعل هي: التي يتصف الله عز وجل بها وبضدها باعتبار ما تتعلق به، كرحمته وعذابه. ولا تنعقد اليمين بكل اسم له تعالى أو صفة له على الإطلاق، بل ذلك مقيد بشرائط مفصلة تختلف فيها المذاهب. فالحنفية لهم في ذلك أقوال، أرجحها: أن الاسم يجوز الإقسام به، سواء أكان مختصا أم مشتركا، وسواء أكان الحلف به متعارفا أم لا، وسواء أنوى به الله تعالى أم لا. لكن لو نوى بالاسم المشترك غير الله لم يكن يمينا، وإذا كان الاسم غير وارد في الكتاب أو السنة لم يكن يمينا إلا إذا تعورف الحلف به، أو نوى به الله تعالى. وأما الصفة فلا يصح الإقسام بها إلا إذا كانت مختصة بصفته تعالى، سواء أكان الحلف بها متعارفا أم لا، أو كانت مشتركة بين صفته تعالى وغيرها وتعورف الحلف بها، وسواء في الصفة كونها صفة ذات وكونها صفة فعل. وقال المالكية: تنعقد اليمين باسم الله تعالى وصفته الذاتية المختصة. وأما المشتركة فإن اليمين تنعقد بها ما لم يرد بها غير صفته تعالى. وأما صفة الفعل ففي الانعقاد بها خلاف. وقال الشافعية والحنابلة: تنعقد اليمين باسم الله تعالى المختص به إن أراد الله تعالى أو أطلق، فإن أراد غيره لم يقبل ظاهرا ولا باطنا عندهم. وتنعقد أيضا باسمه الذي يغلب إطلاقه عليه، ولا يطلق على غيره إلا مقيدا كالرب، وهذا إن أراد الله تعالى أو أطلق، فإن أراد غيره قبل ظاهرا وباطنا عندهم جميعا. وتنعقد أيضا بالاسم المشترك الذي لا يغلب إطلاقه على الله تعالى كالحي والسميع، وكذا باللفظ الذي يشمله وإن لم يكن اسما له تعالى كالشيء، لكن يشترط في انعقادها بهذا النوع أن يريد الحالف الله تعالى، فإن أراد غيره أو أطلق لم تنعقد يمينه. ولم يفصل الحنابلة في ذلك، بل قالوا: إن الصفة المضافة تنعقد اليمين بها، أما غير المضافة - كأن يقال: والعزة - فلا تنعقد بها إلا بإرادة صفته تعالى. وأما الاسم الذي لا يعد من أسمائه، ولا يصح إطلاقه عليه فلا تنعقد به اليمين، ولو أريد به الله تعالى، ومثل له الشافعية بقول بعض العوام (والجناب الرفيع) فالجناب للإنسان فناء داره، وهو مستحيل في حق الله تعالى، والنية لا تؤثر مع الاستحالة. أما صفة الفعل، فقد صرح الشافعية بعدم انعقاد اليمين بها، وسكت الحنابلة عنها، وأطلقوا انعقاد اليمين بصفته تعالى المضافة إليه، وظاهر ذلك أنها تنعقد عندهم بصفته الفعلية. الحلف بالقرآن والحق أ - الحلف بالقرآن أو المصحف: المعتمد في مذهب الحنفية: أن الحلف بالقرآن يمين؛ لأن القرآن كلام الله تعالى الذي هو صفته الذاتية، وقد تعارف الناس الحلف به، والأيمان تبنى على العرف. أما الحلف بالمصحف، فإن قال الحالف: أقسم بما في هذا المصحف فإنه يكون يمينا. أما لو قال: أقسم بالمصحف، فإنه لا يكون يمينا؛ لأن المصحف ليس صفة لله تعالى، إذ هو الورق والجلد، فإن أراد ما فيه كان يمينا للعرف. وقال المالكية: ينعقد القسم بالقرآن وبالمصحف، وبسورة البقرة أو غيرها، وبآية الكرسي أو غيرها، وبالتوراة وبالإنجيل وبالزبور؛ لأن كل ذلك يرجع إلى كلامه تعالى الذي هو صفة ذاتية، لكن لو أراد بالمصحف النقوش والورق لم يكن يمينا. وقال الشافعية: تنعقد اليمين بكتاب الله والتوراة والإنجيل ما لم يرد الألفاظ، وبالقرآن وبالمصحف ما لم يرد به ورقه وجلده؛ لأن ه عند الإطلاق لا ينصرف عرفا إلا لما فيه من القرآن. وقال الحنابلة: الحلف بكلام الله تعالى والمصحف والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور يمين، وكذا الحلف بسورة أو آية. ب - الحلف بالحق، أو حق الله: لا شك أن الحق من أسمائه تعالى الواردة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، غير أنه ليس من الأسماء المختصة به، وقد مثل به الشافعية للأسماء التي تنصرف عند الإطلاق إلى الله تعالى، ولا تنصرف إلى غيره إلا بالتقييد، فعلى هذا من قال: والحق لأفعلن كذا، إن أراد الله تعالى أو أطلق كان يمينا بلا خلاف، وإن أراد العدل أو أراد شيئا ما من الحقوق التي تكون للإنسان على الإنسان قبل منه ذلك ظاهرا وباطنا. وأما (حق) المضاف إلى الله تعالى، أو إلى اسم أو صفة من الأسماء والصفات التي تنعقد اليمين بها ففيه خلاف. فالحنفية نقلوا عن أبي حنيفة ومحمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف أن من قال: (وحق الله) يكن يمينا. ووجهه صاحب البدائع بأن حقه تعالى هو الطاعات والعبادات، فليس اسما ولا صفة لله عز وجل. وعن أبي يوسف في رواية أخرى أنه يمين؛ لأن الحق من صفاته تعالى، وهو حقيقة، فكأن الحالف قال: والله الحق، والحلف به متعارف. واختار صاحب الاختيار هذه الرواية، وتبعه ابن نجيم في البحر الرائق. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: ينعقد القسم بحق الله، ومرجعه إلى العظمة والألوهية، فإن قصد الحالف به الحق الذي على العباد من التكاليف والعبادة فليس بيمين. حذف المقسم به إذا لم يذكر الحالف المقسم به بل قال: أقسم، أو أحلف، أو أشهد، أو أعزم لأفعلن كذا، أو آليت لا أفعل كذا كان يمينا عند أبي حنيفة وصاحبيه. وقال المالكية: لو حذف الحالف قوله (بالله) بعد قوله أحلف أو أقسم أو أشهد كان يمينا إن نواه - أي نوى الحلف بالله - بخلاف ما لو حذفه بعد قوله أعزم فإنه لا يكون يمينا وإن نواه. والفرق بين هذا الفعل والأفعال الثلاثة السابقة، أن العزم معناه الأصلي القصد والاهتمام، فلا يكون بمعنى القسم إلا إذا ذكر بعده المقسم به، بأن يقول (بالله)، مثلا، بخلاف الأفعال الثلاثة السابقة، فإنها موضوعة للقسم فيكفي فيها أن ينوي المقسم به عند حذفه. وقال الشافعية: لو حذف المتكلم المحلوف به لم تكن الصيغة يمينا ولو نوى اليمين بالله، سواء ذكر فعل القسم أم حذفه. وقال الحنابلة: لو حذف الحالف قوله (بالله) مثلا بعد نطقه بالفعل أو الاسم الدال على القسم، نحو: قسما، لم تكن الصيغة يمينا، إلا إذا نوى الحلف بالله. اللفظ الدال على المقسم عليه اللفظ الدال على المقسم عليه هو الجملة التي يريد الحالف تحقيق مضمونها من إثبات أو نفي، وتسمى جواب القسم. ويجب في العربية تأكيد الإثبات باللام مع نون التوكيد إن كان الفعل مضارعا، وباللام مع قد إن كان ماضيا. يقال: والله لأفعلن كذا، أو لقد فعلت كذا. وأما النفي فلا يؤكد فيه الفعل، بل يقال: والله لا أفعل كذا، أو ما فعلت كذا. فإذا ورد فعل مضارع مثبت ليس فيه لام ولا نون توكيد اعتبر منفيا بحرف محذوف، كما في قوله تعالي ( تالله تفتأ تذكر يوسف) أي: لا تفتأ. وعلى هذا لو قال إنسان: والله أكلم فلانا اليوم، كان حالفا على نفي تكليمه، فيحنث إذا كلمه؛ لأن الفعل لما لم يكن فيه لام ولا نون توكيد قدرت قبله (لا) النافية. هذا إذا لم يتعارف الناس خلافه، فإن تعارفوا أن مثل ذلك يكون إثباتا، كان حالفا على الإثبات وإن كان خطأ في اللغة العربية. هكذا يؤخذ من كتب الحنفية والحنابلة، ولا نظن أنه محل خلاف، فإنه من الوضوح بمكان. الصيغ الخالية من أداة القسم والمقسم به قد يأتي الحالف بصيغ خالية من أداة القسم ومن اسم الله تعالى وصفته، أو خالية من الأداة وحدها، وتعتبر عند بعض الفقهاء أيمانا كاليمين بالله تعالى. أ - لعمر الله: إذا قيل: لعمر الله لأفعلن كذا، كان هذا قسما مكونا من مبتدأ مذكور وخبر مقدر، والتقدير: لعمر الله قسمي، أو يميني، أو أحلف به. وهي في قوة قولك: وعمر الله، أي بقائه، هذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة. وقال الشافعية: إن هذه الصيغة كناية؛ لأن العمر يطلق على الحياة والبقاء، ويطلق أيضا على الدين وهو العبادات، فيحتمل أن يكون معناه: وحياة الله وبقائه، أو دينه، فيكون يمينا على الاحتمالين الأولين دون الثالث، فلا بد من النية. ب - وأيمن الله: جاء هذا الاسم في كتب الحنفية والمالكية وغيرهم مسبوقا بالواو، وظاهره أن الواو للقسم، ويكون إقساما ببركته تعالى أو قوته، وجاء في كتب الحنابلة مسبوقا بالواو أيضا مع تصريح بعضهم بأن نونه مضمومة وأنه مبتدأ. ومعلوم أن الجملة قسم فقط، فلا يترتب عليها حكم إلا إذا جيء بعدها بجملة الجواب، مثل لأفعلن كذا. ج - علي نذر، أو نذر لله: - قال الحنفية: إذا قال قائل: علي نذر، أو نذر الله لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا، كان ذلك يمينا، فإذا لم يوف بما ذكره كان عليه كفارة يمين. ولو قال: علي نذر، أو نذر لله، ولم يزد على ذلك، فإن نوى بالنذر قربة من حج أو عمرة أو غيرهما لزمته، وإن لم ينو شيئا كان نذرا لكفارة اليمين، كأنه قال: علي نذر لله أن أؤدي كفارة يمين، فيكون حكمه حكم اليمين التي حنث فيها صاحبها؛ لقوله صلي الله عليه وسلم : «النذر يمين، وكفارته كفارة اليمين» هذا مذهب الحنفية. وقال المالكية: تلزم كفارة في النذر المبهم. وله أربع صور (الأولى) علي نذر (الثانية) لله علي نذر (الثالثة) إن فعلت كذا أو إن شفى الله مريضي فعلي نذر (الرابعة) إن فعلت كذا أو إن شفى الله مريضي فلله علي نذر، ففي الصورتين الأوليين تلزم الكفارة بمجرد النطق، وفي الصورتين الأخريين تلزم الكفارة بحصول المعلق عليه سواء أكان القصد الامتناع أم الشكر. وقال الشافعية: من قال: علي نذر، أو إن شفى الله مريضي فعلي نذر، لزمته قربة غير معينة، وله أن يختار ما شاء من القرب، كتسبيح وتكبير وصلاة وصوم. ومن قال: إن كلمت زيدا فعلي نذر أو فلله علي نذر، يخير بين القربة وبين كفارة يمين، فإن اختار القربة فله اختيار ما شاء من القرب، وإن اختار كفارة اليمين كفر بما يجب في اليمين التي حنث صاحبها فيها. ومن قال: إن كلمت زيدا فعلي كفارة نذر، كان عليه عند الحنث كفارة يمين، والصيغة في جميع هذه الأمثلة صيغة نذر وليست صيغة يمين، إلا الصيغة التي فيها (إن كلمت زيدا... إلخ) فيجوز تسميتها يمينا؛ لأن ها من نذر اللجاج والغضب. وقال الحنابلة: من قال: علي نذر إن فعلت كذا، وفعله، فعليه كفارة يمين في الأرجح، وقيل: لا كفارة عليه، وقيل: إن نوى اليمين فعليه الكفارة وإلا فلا، ولو قال: لله علي نذر ولم يعلقه بشيء، فعليه كفارة يمين أيضا في الأرجح. د - علي يمين، أو يمين الله: - قال الحنفية: إذا قال: علي يمين، أو يمين الله لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا، فهاتان الصيغتان من الأيمان عند أبي حنيفة والصاحبين، وقال زفر: لو قال: علي يمين ولم يضفه لله تعالى، لم يكن يمينا عند الإطلاق. ووجهه: أن اليمين يحتمل أن يكون بغير الله، فلا تعتبر الصيغة يمينا بالله إلا بالنية. ويستدل لأبي حنيفة والصاحبين بأن إطلاق اليمين ينصرف إلى اليمين بالله تعالى، إذ هي الجائزة شرعا، هذا إذا ذكر المحلوف عليه. فإن لم يذكر، بل قال الحالف: علي يمين، أو يمين الله، ولم يزد على ذلك، وأراد إنشاء الالتزام لا الإخبار بالتزام سابق، فعليه كفارة يمين؛ لأن هذه الصيغة تعتبر من صيغ النذر، وقد سبق أن النذر المطلق الذي لم يذكر فيه المنذور يعتبر نذرا للكفارة، فيكون حكمه حكم اليمين. وقال المالكية: إن التزام اليمين له أربع صيغ كالنذر المبهم، وأمثلتها: علي يمين، ولله علي يمين، وإن شفى الله مريضي أو كلمت زيدا فعلي يمين، إن شفى الله مريضي أو إن كلمت زيدا فلله علي يمين. ولا يخفى أن المقصود موجب اليمين، فالكلام على حذف مضاف كما يقول الحنفية. وقال الشافعية: إن قول القائل: علي يمين، لا يعتبر يمينا سواء أكان مطلقا أو معلقا؛ لأنه التزام لليمين أي الحلف، وليس ذلك قربة كالصلاة والصيام فهو لغو. وقال الحنابلة: من قال: علي يمين إن فعلت كذا، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه لغو، كما يقول الشافعية. والثاني: أنه كناية فلا يكون يمينا إلا بالنية، والثالث وهو الأرجح: أنه يمين بغير حاجة إلى النية. ه - علي عهد الله، أو ميثاقه، أو ذمته: - قال الحنفية: إذا قيل: علي عهد الله أو ذمة الله أو ميثاق الله لا أفعل كذا مثلا، فهذه الصيغ من الأيمان؛ لأن اليمين بالله تعالى هي عهد الله على تحقيق الشيء أو نفيه، قال تعالى: ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها فجعل العهد يمينا، والذمة هي العهد، ومن ذلك تسمية الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار: بأهل الذمة، أي أهل العهد، والعهد والميثاق من الأسماء المترادفة، وإذن فالكلام على حذف مضاف، والتقدير: علي موجب عهد الله وميثاقه وذمته. فإن لم يذكر اسم الله تعالى، أو لم يذكر المحلوف عليه فالحكم كما سبق في «علي يمين. وقال المالكية والحنابلة: من صيغ اليمين الصريحة: علي عهد الله لا أفعل، أو لأفعلن كذا مثلا فتجب بالحنث كفارة إذا نوى اليمين، أو أطلق، فإن لم ينو اليمين بل أريد بالعهد التكاليف التي عهد بها الله تعالى إلى العباد لم تكن يمينا. وزاد المالكية: أن قول القائل: أعاهد الله، ليس بيمين على الأصح؛ لأن المعاهدة من صفات الإنسان لا من صفات الله، وكذا قوله: لك علي عهد، أو أعطيك عهدا. وقال الشافعية: من كنايات اليمين: علي عهد الله أو ميثاقه أو ذمته أو أمانته أو كفالته لأفعلن كذا أو لا أفعل كذا، فلا تكون يمينا إلا بالنية؛ لأن ها تحتمل غير اليمين احتمالا ظاهرا. و - علي كفارة يمين: .- قال الحنفية: إن القائل: علي يمين، مقصوده: علي موجب يمين وهو الكفارة. فلو قال: علي كفارة يمين، يكون حكمه حكم من قال: علي يمين، وقد سبق (ر: ف 39). وقال المالكية: قول القائل: علي كفارة، كقوله: علي نذر، وله صيغ أربع كصيغ النذر. ويؤخذ من هذا أن من قال: علي كفارة يمين، حكمه هو هذا الحكم بعينه (ر: ف 39). وقال الشافعية: من قال: علي كفارة يمين فعليه الكفارة من حين النطق عند عدم التعليق، فإن علق بالشفاء ونحوه مما يحبه، أو بتكليم زيد ونحوه مما يكرهه، فعليه كفارة اليمين بحصول المعلق عليه. وقال الحنابلة: من قال: علي يمين إن فعلت كذا، ثم فعله فعليه كفارة يمين على الراجح كما سبق. ويؤخذ من ذلك أن من قال: علي كفارة يمين إن فعلت كذا، ثم فعله، وجبت عليه كفارة اليمين على الأرجح عندهم. ز - علي كفارة نذر: - سبق حكم القائل: علي نذر. ويؤخذ منه أن من قال: علي كفارة نذر تجب عليه كفارة يمين عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وقد صرح الشافعية بمقتضى ذلك، فقالوا: من قال: علي كفارة نذر، وجبت عليه كفارة يمين منجزة في الصيغة المنجزة، ومعلقة في الصيغة المعلقة. ح - علي كفارة: - سبق أن المالكية يوجبون كفارة يمين على من قال: علي كفارة من غير أن يضيف الكفارة إلى اليمين أو النذر أو غيرهما. ولم نجد في المذاهب الأخرى حكم هذه الصيغة عند الإطلاق، ولا شك أن حكمها عند النية هو وجوب ما نوى مما يصدق عليه اسم الكفارة. ط - تحريم العين أو الفعل: - ذهب الحنفية إلى أن تحريم الإنسان العين أو الفعل على نفسه يقوم مقام الحلف بالله تعالى، وذلك كأن يقول: هذا الثوب علي حرام، أو لبسي لهذا الثوب علي حرام، سواء أكانت العين التي نسب التحريم إليها أو إلى الفعل المضاف لها مملوكة له أم لا، كأن قال متحدثا عن طعام غيره: هذا الطعام علي حرام، أو أكل هذا الطعام علي حرام، وسواء أكانت العين المذكورة من المباحات أم لا، كأن قال: هذه الخمر علي حرام، أو شرب هذه الخمر علي حرام. فكل صيغة من هذه الصيغ تعتبر يمينا، لكن إذا كانت العين محرمة من قبل، أو مملوكة لغيره لم تكن الصيغة يمينا إلا بالنية، بأن ينوي إنشاء التحريم. فإن نوى الإخبار بأن الخمر حرام عليه شرعا، أو بأن ثوب فلان حرم عليه شرعا، لم تكن الصيغة يمينا، وكذا إن أطلق؛ لأن المتبادر من العبارة هو الإخبار. ثم إن تحريم العين لا معنى له إلا تحريم الفعل المقصود منها، كما في تحريم الشرع لها في نحو قوله تعالي (حرمت عليكم أمهاتكم) وقوله ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير). وقوله صلي الله عليه وسلم : «كل مسكر حرام» فتحريم الأمهات ونحوهن ينصرف إلى الزواج. وتحريم الميتة ونحوها والمسكر ينصرف كله إلى التناول بأكل أو شرب. - وفيما يلي أمثلة لصيغ التحريم التي تعتبر أيمانا، مع بيان ما يقع به حنث في كل منها: ) لو قال: هذا الطعام أو المال أو الثوب أو الدار علي حرام، حنث بأكل الطعام، وإنفاق المال، ولبس الثوب، وسكنى الدار، وعليه الكفارة، ولا يحنث بهبة شيء من ذلك، ولا بالتصدق به. لو قالت امرأة لزوجها: أنت علي حرام، أو حرمتك على نفسي، حنثت بمطاوعته في الجماع، وحنثت أيضا بإكراهه إياها عليه بناء على أن الحنث لا يشترط فيه الاختيار. لو قال لقوم: كلامكم علي حرام، حنث بتكليمه لواحد منهم، ولا يتوقف الحنث على تكليم جميعهم، ومثل ذلك ما لو قال: كلام، الفقراء، أو كلام أهل هذه القرية، أو أكل هذا الرغيف علي حرام، فإنه يحنث بكلام واحد، وأكل لقمة، بخلاف ما لو قال: والله لا أكلمكم، أو لا أكلم الفقراء، أو أهل هذه القرية، أو لا آكل هذا الرغيف، فإنه لا يحنث إلا بتكليم الجميع وأكل جميع الرغيف. لو قال: هذه الدنانير علي حرام حنث إن اشترى بها شيئا؛ لأن العرف يقتضي تحريم الاستمتاع بها لنفسه، بأن يشتري ما يأكله أو يلبسه مثلا، ولا يحنث بهبتها ولا بالتصدق بها. واستظهر ابن عابدين: أنه لا يحنث لو قضى بها دينه، ثم قال: فتأمل. لو قال: كل حل علي حرام، أو حلال الله أو حلال المسلمين علي حرام، كان يمينا على ترك الطعام والشراب إلا أن ينوي غير ذلك، وهذا استحسان. وقال المالكية: تحريم الحلال في غير الزوجة لغو لا يقتضي شيئا، إلا إذا حرم الأمة ناويا عتقها، فإنها تعتق، فمن قال: الخادم أو اللحم أو القمح علي حرام إن فعلت كذا، ففعله، فلا شيء عليه، ومن قال: إن فعلت كذا فزوجتي علي حرام، أو فعلي الحرام، يلزمه بت طلاق المدخول بها - ثلاثا - ما لم ينو أقل من الثلاث فيلزمه ما نوى، أما غير المدخول بها فيلزمه طلقة واحدة ما لم ينو أكثر. هذا هو مشهور المذهب، وقيل: يلزمه في المدخول بها واحدة بائنة كغير المدخول بها ما لم ينو أكثر، وقيل: يلزمه في غير المدخول بها ثلاث كالمدخول بها ما لم ينو أقل. ولو قال: كل حلال علي حرام، فإن استثنى الزوجة لم يلزمه شيء، وإلا لزمه فيها ما ذكر. وقال الشافعية: لو قال إنسان لزوجته: أنت علي حرام، أو حرمتك، ونوى طلاقا واحدا أو متعددا أو ظهارا وقع، ولو نوى تحريم عينها أو وطئها أو فرجها أو رأسها أو لم ينو شيئا أصلا - وأطلق ذلك، أو أقته كره، ولم تحرم الزوجة عليه، ولزمه كفارة يمين، وليس ذلك يمينا؛ لأن ه ليس إقساما بالله تعالى ولا تعليقا للطلاق أو نحوه. ويشترط في لزوم الكفارة ألا تكون زوجته محرمة بحج أو عمرة، وألا تكون معتدة من وطء شبهة، فإن كانت كذلك لم تجب الكفارة على المعتمد. ولو حرم غير الزوجة كالثوب والطعام والصديق والأخ لم تلزمه كفارة. وقال الحنابلة: من حرم حلالا سوى الزوجة لم يحرم عليه شرعا، ثم إذا فعله ففي وجوب الكفارة قولان، أرجحهما: الوجوب، ويستوي في التحريم تنجيزه وتعليقه بشرط، ومثال المنجز: ما أحل الله علي حرام، ولا زوجة لي، وكسبي علي حرام، وهذا الطعام علي كالميتة أو كالدم أو كلحم الخنزير. ومثال المعلق: إن أكلت من هذا الطعام فهو علي حرام. وإنما لم يحرم عليه ما حرمه على نفسه لأن الله عز وجل سمى التحريم يمينا حيث قال: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم. واليمين لا تحرم الحلال، وإنما توجب الكفارة بالحنث، وهذه الآية أيضا دليل على وجوب الكفارة. وأما تحريم الزوجة فهو ظهار، سواء أنوى به الظهار أو الطلاق أو اليمين أم لم ينو شيئا على الراجح. ولو قال: ما أحل الله علي من أهل ومال فهو حرام - وكان له زوجة - كان ذلك ظهارا وتحريما للمال، وتجزئه كفارة الظهار عنهما. قيام التصديق بكلمة نعم مقام اليمين - الصحيح من مذهب الحنفية أن من عرض عليه اليمين فقال: نعم كان حالفا، ولو قال رجل لآخر عليك: عهد الله إن فعلت كذا فقال: نعم. فالحالف المجيب، ولا يمين على المبتدئ ولو نواه؛ لأن قوله: عليك صريح في التزام اليمين على المخاطب، فلا يمكن أن يكون يمينا على المبتدئ، بخلاف ما إذا قال: والله لتفعلن، وقال الآخر: نعم، فإنه إذا نوى المبتدئ التحليف والمجيب الحلف، كان الحالف هو المجيب وحده، وإذا نوى كل منهما الحلف يصير كل منها حالفا. وقال الشافعية: لو قيل لرجل: طلقت زوجتك، أو أطلقت زوجتك؟ استخبارا - فقال: نعم، كان إقرارا، وإن كان الالتماس الإنشاء كان تطليقا صريحا، وإن جهل الحال حمل على الاستخبار. هذا ما قالوه في الطلاق، ويقاس عليه ما لو قال إنسان لآخر: حلفت، أو أحلفت بالله لا تكلم زيدا؟ فقال: نعم. ففي ذلك تفصيل: فإن كان للاستخبار كان إقرارا محتملا للصدق والكذب، فيحنث بالتكليم إن كان صادقا، ولا يحنث به إن كان كاذبا. وإن كان الالتماس الإنشاء كان حلفا صريحا. وإن جهل حال السؤال حمل على الاستخبار، فيكون الجواب إقرارا والله أعلم، ولم يعثر للمذاهب الأخرى على نص في هذا. الحلف بغير الله تعالى بحرف القسم وما يقوم مقامه: - علم مما تقدم أن صيغة اليمين بحرف القسم وما يقوم مقامه تنحصر شرعا في اليمين بالله تعالى. فالحلف بغيره بحرف القسم وما يقوم مقامه لا يعتبر يمينا شرعية، ولا يجب بالحنث فيه كفارة. ومن أمثلته: أن يحلف الإنسان بأبيه أو بابنه أو بالأنبياء أو بالملائكة عليهم السلام أو بالعبادات: كالصوم والصلاة، أو بالكعبة أو بالحرم أو بزمزم أو بالقبر والمنبر أو غير ذلك من المخلوقات. سواء أتى الحالف بهذه الألفاظ عقب حرف القسم أم أضاف إليها كلمة: «حق» أو «حرمة» أو «حياة» أو نحو ذلك. وسواء أكان الحلف بحرف من حروف القسم أم بصيغة ملحقة بما فيه هذه الحروف، مثل لعمرك ولعمري وعمرك الله وعلي عهد رسول الله لأفعلن كذا. وقد ورد النهي عنه في عدة أحاديث (منها) قوله صلي الله عليه وسلم : «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله. (ومنها) قوله علية الصلاه والسلام : «من حلف بغير الله فقد أشرك». وفي رواية فقد كفر. (ومنها) قوله صلوات اللهوسلامة «من حلف بالأمانة فليس منا. (ومنها) ما أخرجه النسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «حلفت باللات والعزى، فأتيت رسول الله صلي الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وانفث عن شمالك ثلاثا، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم لا تعد». وفي رواية أخرى رواها النسائي عنه أيضا قال: «حلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم : بئسما قلت، ائت رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبره، فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فلقيته فأخبرته فقال لي: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، وانفث عن شمالك ثلاث مرات، ولا تعد له. (ومنها) ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : «من حلف منكم فقال في حلفه: باللات، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق. . - وورد عن الصحابة رضي الله عنه استنكار الحلف بغير الله تعالى. فمن ذلك ما رواه الحجاج بن المنهال بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقا وما رواه عبد الرزاق بسنده عن وبرة قال: قال ابن مسعود أو ابن عمر: «لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا»، وما رواه عبد الرزاق بسنده عن ابن الزبير رضي الله عنه : أن عمر قال له - وقد سمعه يحلف بالكعبة -: لو أعلم أنك فكرت فيها قبل أن تحلف لعاقبتك، احلف بالله فأثم أو ابرر. أثر الحلف بغير الله: - لا خلاف بين الفقهاء في أن الحلف بغير الله تعالى لا تجب بالحنث فيه كفارة، إلا ما روي عن أكثر الحنابلة من وجوب الكفارة على من حنث في الحلف برسول الله صلي الله عليه وسلم لأن ه أحد شطري الشهادتين اللتين يصير بهما الكافر مسلما، وعن بعضهم: أن الحلف بسائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام تجب بالحنث فيه الكفارة أيضا، لكن الأشهر في مذهبهم أنه لا كفارة بالحنث في الحلف بنبينا وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ولا خلاف بين الفقهاء أيضا في أن الحلف بغير الله منهي عنه، لكن في مرتبة هذا النهي اختلاف، والحنابلة قالوا: إنه حرام إلا الحلف بالأمانة، فإن بعضهم قال بالكراهة، والحنفية قالوا مكروه تحريما، والمعتمد عند المالكية والشافعية أنه تنزيها. وصرح الشافعية أنه إن كان بسبق اللسان من غير قصد فلا كراهة، وعليه يحمل حديث الصحيحين في قصة الأعرابي - الذي قال لا أزيد على هذا ولا أنقص - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «أفلح وأبيه إن صدق». شرائط القسم يشترط في انعقاد القسم وبقائه شرائط، وهي ثلاثة أنواع: (أولا) الشرائط التي ترجع إلى الحالف يشترط في انعقاد اليمين وبقائها شرائط في الحالف. - (الأولى) البلوغ. (والثانية) العقل. وهاتان شريطتان في أصل الانعقاد، فلا تنعقد يمين الصبي - ولو مميزا - ولا المجنون والمعتوه والسكران - غير المتعدي بسكره - والنائم والمغمى عليه؛ لأن ها تصرف إيجاب، وهؤلاء ليسوا من أهل الإيجاب. ولا خلاف في هاتين الشريطتين إجمالا. وإنما الخلاف في السكران المتعدي بسكره والصبي إذا حنث بعد بلوغه. أما السكران المتعدي، فالجمهور يرون صحة يمينه إن كانت صريحة تغليظا عليه. وأبو ثور والمزني وزفر والطحاوي والكرخي ومحمد بن سلمة وغيرهم يرون عدم انعقاد يمينه كالسكران غير المتعدي، وتفصيل ذلك في (الحجر). وأما الصبي فالجمهور يرون أن يمينه لا تنعقد، وأنه لو حنث - ولو بعد البلوغ - لم تلزمه كفارة، وعن طاوس أن يمينه معلقة، فإن حنث بعد بلوغه لزمته الكفارة. وحجة الجمهور قوله صلي الله عليه وسلم : «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ. - (الشريطة الثالثة) الإسلام، وإلى هذا ذهب الحنفية والمالكية. فلا تنعقد اليمين بالله تعالى من الكافر ولو ذميا، وإذا انعقدت يمين المسلم بطلت بالكفر، سواء أكان الكفر قبل الحنث أم بعده، ولا ترجع بالإسلام بعد ذلك. وقال الشافعية والحنابلة لا يشترط الإسلام في انعقاد اليمين ولا بقائها، فالكافر الملتزم للأحكام - وهو الذمي والمرتد - لو حلف بالله تعالى على أمر، ثم حنث وهو كافر، تلزمه الكفارة عند الشافعية والحنابلة، لكن إذا عجز عن الكفارة المالية لم يكفر بالصوم إلا إن أسلم. وهذا الحكم إنما هو في الذمي، وأما المرتد فلا يكفر في حال ردته، لا بالمال ولا بالصوم، بل ينتظر، فإذا أسلم كفر؛ لأن ماله في حال الردة موقوف، فلا يمكن من التصرف فيه. ومن حلف حال كفره ثم أسلم وحنث، فلا كفارة عليه عند الحنفية والمالكية. وعليه الكفارة عند الشافعية والحنابلة إن كان حين الحلف ملتزما للأحكام. - (الشريطة الرابعة) التلفظ باليمين، فلا يكفي كلام النفس عند الجمهور خلافا لبعض المالكية. ولا بد من إظهار الصوت بحيث يسمع نفسه إن كان صحيح السمع، ولم يكن هناك مانع من السماع كلغط وسد أذن. واشتراط الإسماع ولو تقديرا هو رأي الجمهور، الذي يرون أن قراءة الفاتحة في الصلاة يشترط في صحتها ذلك. وقال المالكية والكرخي من الحنفية: لا يشترط الإسماع، وإنما يشترط أن يأتي بالحروف مع تحريك اللسان ولو لم يسمعها هو ولا من يضع أذنه بقرب فمه مع اعتدال السمع وعدم الموانع. هذا وإن الحنفية والشافعية والحنابلة قد صرحوا بأن إشارة الأخرس باليمين تقوم مقام النطق. وقال الشافعية: إن الكتابة لو كانت بالصريح تعتبر كناية؛ لأن ها تحتمل النسخ، وتجربة القلم والمداد وغيرها، وبأن إشارة الأخرس إن اختص بفهمها الفطن فهي كناية تحتاج إلى النية، وإن فهمها كل إنسان فهي صريحة. الطواعية والعمد في الحالف: - لا تشترط عند الحنفية الطواعية - أي الاختيار - في الحالف، ولا العمد - أي القصد - فتصح عندهم يمين المكره والمخطئ، وهو من أراد غير الحلف فسبق لسانه إلى الحلف، كأن أراد أن يقول: اسقني الماء، فقال: والله لا أشرب الماء؛ لأن ها من التصرفات التي لا تحتمل الفسخ فلا يؤثر فيها الإكراه والخطأ، كالطلاق والعتاق والنذر وسائر التصرفات التي لا تحتمل الفسخ. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: تشترط الطواعية والعمد، فلا تنعقد يمين المكره ولا المخطئ غير أن الشافعية يقولون في المكره على اليمين: إذا نوى الحلف صحت يمينه. لأن الإكراه لا يلغي اللفظ، وإنما يصير به الصريح كناية، وهذا الذي قالوه لا يستبعد أن يكون متفقا عليه، فإن إلغاء كلام المكره لا وجه له، إلا أنه إنما قصد دفع الأذى عن نفسه، ولم يقصد استعمال اللفظ في معناه، فإذا قصد استعماله في معناه كان هذا أمرا زائدا لا تدعو إليه الضرورة. وقال الشافعية أيضا: لا يلزم المكره التورية وإن قدر عليها. والتورية هي: أن يطلق الإنسان لفظا هو ظاهر في معنى ويريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، ولكنه خلاف ظاهره. عدم اشتراط الجد في الحالف: - الجد - بكسر الجيم - في التصرفات القولية معناه: أن ينطق الإنسان باللفظ راضيا بأثره، سواء أكان مستحضرا لهذا الرضى أم غافلا عنه، فمن نطق باللفظ الصريح ناويا معناه، أو غافلا عن هذه النية، مريدا أثره أو غافلا عن هذه الإرادة يقال له جاد، فإن أراد تجريد اللفظ عن أثره من غير تأويل ولا إكراه، فنطق به لعبا أو مزاحا كان هازلا، والهزل لا أثر له في التصرفات القولية الصريحة التي لا تحتمل الفسخ، فمن حلف بصيغة صريحة لاعبا أو مازحا انعقدت يمينه لقوله صلي الله عليه وسلم : «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة. ويقاس على ما في الحديث سائر التصرفات الصريحة التي لا تحتمل الفسخ، ومنها صيغة اليمين الصريحة، وأما الكناية فمعلوم أنه يشترط فيها النية، ومعلوم أن الهازل لا نية له. قصد المعنى والعلم به: - صرح الشافعية بأن الألفاظ الصريحة يشترط فيها: العلم بالمعنى، والكناية يشترط فيها: قصد المعنى، ذكروا هذا في الطلاق وليس خاصا به كما هو ظاهر، فيؤخذ منه أنه يشترط في اليمين إذا كانت بلفظ صريح: أن يعلم المتكلم بمعناها، فلو حلف أعجمي بلفظ عربي صريح كوالله لأصومن غدا، بناء على تلقين إنسان له، من غير أن يعلم معناه لم ينعقد. ولو قال إنسان: أشهد بالله لأفعلن كذا لم ينعقد إلا إذا قصد معنى اليمين؛ لأنه كناية عند الشافعية كما سبق. واشتراط النية في الكناية لا يختلف فيه أحد. وأما العلم بالمعنى فقد صرح الحنفية بعدم اشتراطه في الطلاق بالنسبة للقضاء، ومقتضاه أنهم يشترطونه في اليمين الصريحة ديانة، لأنه مصدق فيما بينه وبين الله تعالى. أثر التأويل في اليمين: - صرح المالكية والشافعية بأن التأويل الذي تنقطع به جملة اليمين عن جملة المحلوف عليه يقبل، وعبارة المالكية: لو قال أردت بقولي: (بالله) وثقت أو اعتصمت بالله، ثم ابتدأت قولي: لأفعلن، ولم أقصد اليمين صدق ديانة بلا يمين. وعبارة الشافعية: إذا قال: والله لأفعلن كذا، ثم قال: أردت والله المستعان، أو قال: بالله وقال: أردت وثقت أو استعنت بالله، ثم استأنفت فقلت: لأفعلن كذا من غير قسم يقبل ظاهرا وباطنا. وإذا تأول نحو هذا التأويل في الطلاق والإيلاء لا يقبل ظاهرا لتعلق حق الغير به. ومما ينبغي التنبه له أن التأويل لا يختص بهذه المذاهب، فالمتصفح لكتب المذاهب الأخرى يجد تأويلات مقبولة عندهم، ولا شك أن التأويل إنما يقبل إذا لم يكن هناك مستحلف ذو حق، وكان التأويل غير خارج عما يحتمله اللفظ. (ثانيا) الشرائط التي ترجع إلى المحلوف عليه يشترط في انعقاد اليمين بالله وبقائها منعقدة أربع شرائط ترجع إلى المحلوف عليه، وهو مضمون الجملة الثانية التي تسمى جواب القسم. - (الشريطة الأولى): أن يكون المحلوف عليه أمرا مستقبلا. وهذه شريطة لانعقاد اليمين بالله تعالى عند الحنفية والحنابلة، خلافا للشافعية الذين يقولون بانعقاد اليمين الغموس على ماض وحاضر، كقوله: والله لا أموت، ومستقبل كقوله: والله لأصعدن السماء. وللمالكية الذين يقولون بانعقاد الغموس على حاضر ومستقبل. ومما ينبغي التنبه له أن الحنابلة يشترطون الاستقبال في كل ما فيه كفارة، كالحلف بتعليق الكفر أو القربة أو الظهار بخلاف الطلاق والعتاق. - (الشريطة الثانية): أن يكون المحلوف عليه متصور الوجود حقيقة عند الحلف - أي ليس مستحيلا عقلا - وهذه شريطة لانعقاد اليمين بالله عند أبي حنيفة ومحمد وزفر. ووجه اشتراطها: أن اليمين إنما تنعقد لتحقيق البر، فإن من أخبر بخبر أو وعد بوعد يؤكده باليمين لتحقيق الصدق، فكان المقصود هو البر، ثم تجب الكفارة ونحوها خلفا عنه، فإذا لم يتصور الأصل - وهو البر - لم يوجد الخلف - وهو الكفارة - فلا تنعقد اليمين. ولم يشترط أبو يوسف هذه الشريطة لأن ه لا يلزم من استحالة الأصل عقلا عدم الخلف. ومفهوم هذه الشريطة: أن المحلوف عليه إذا كان يستحيل وجوده عقلا عند الحلف، لم تنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر. لكن هذا المفهوم ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل يعلم من الكلام على المثال الآتي: إذا قال إنسان: والله لأشربن ماء هذا الكوز، أو قال: والله لأشربن ماء هذا الكوز اليوم، وكان الكوز خاليا من الماء عند الحلف، فالشرب الذي هو المحلوف عليه مستحيل وجوده عند الحلف عقلا، فلا تنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر إن كان الحالف عند حلفه لا يعلم خلو الكوز من الماء، وأما إن كان يعلم ذلك فاليمين منعقدة عند أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف وغير منعقدة عند زفر، وهي رواية عن أبي حنيفة. هذا ما أفاده صاحب البدائع. وقال الحنابلة في هذه المسألة: تنعقد وعليه الكفارة في الحال. - (الشريطة الثالثة): أن يكون المحلوف عليه متصور الوجود حقيقة بعد الحلف، إن كانت اليمين مقيدة بوقت مخصوص. وهذه الشريطة إنما تشترط لبقاء اليمين بالله منعقدة عند أبي حنيفة ومحمد وزفر، فلو لم توجد هذه الشريطة بطلت اليمين بعد انعقادها، وخالف أبو يوسف في هذه الشريطة أيضا. وتوجيه الاشتراط وعدمه كما في الشريطة الثانية، ومفهوم هذه الشريطة يتضح بالمثال الآتي: إذا قال إنسان والله لأشربن ماء هذا الكوز اليوم أو قال والله لأشربن ماء هذا الكوز، ولم يقيده بوقت، وكان في الكوز ماء وقت الحلف، فصبه الحالف أو صبه غيره أو انصب بنفسه في النهار. ففي صورة التقييد باليوم تبطل بعد انعقادها؛ لأن الشرب المحلوف عليه صار مستحيلا بعد الحلف في الوقت الذي قيد به، وفي صورة الإطلاق تبقى منعقدة، فيحنث بالصب أو الانصباب، وتجب عليه الكفارة. - (الشريطة الرابعة): أن يكون المحلوف عليه متصور الوجود عادة عند الحلف - أي ليس مستحيلا عادة - وهذه شريطة لانعقاد اليمين بالله عند زفر، خلافا لأبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف. فلو قال والله لأصعدن السماء، أو: والله لأمسن السماء، أو: والله لأحولن هذا الحجر ذهبا، لم تنعقد اليمين عند زفر، سواء أقيدها بوقت مخصوص كأن قال: اليوم أو غدا، أو لم يقيدها، وقال أبو حنيفة ومحمد: إنها تنعقد؛ لأن المحلوف عليه جائز عقلا، وقال أبو يوسف: إنها تنعقد أيضا؛ لأن المحلوف عليه أمر مستقبل. وتوجيه قول زفر: أن المستحيل عادة يلحق بالمستحيل حقيقة، فإذا لم تنعقد اليمين في الثاني لم تنعقد في الأول. وتوجيه قول أبي حنيفة ومحمد: أن الحكم بالانعقاد في هذه الصورة فيه اعتبار الحقيقة، والحكم بعدم الانعقاد فيه اعتبار العادة، ولا شك أن اعتبار الحقيقة أولى. وتوجيه قول أبي يوسف: أن الحالف جعل الفعل شرطا للبر، فيكون عدمه موجبا للحنث، سواء أكان ذلك الفعل ممكنا عقلا وعادة، كقوله: والله لأقرأن هذا الكتاب، أم مستحيلا عقلا وعادة كقوله: والله لأشربن ماء هذا الكوز، ولا ماء فيه أم مستحيلا عادة لا عقلا كقوله: والله لأحولن هذا الحجر ذهبا. الحلف على فعل غير الحالف: - المذهب عند الحنابلة أن من حلف على غيره وهو غائب: والله ليفعلن كذا، أو على حاضر: والله لتفعلن كذا، فلم يطعه، حنث الحالف والكفارة عليه، لا على من أحنثه. وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية بين الحلف على من يظن أنه يطيعه، والحلف على من لا يظنه كذلك. فقال: من حلف على غيره يظن أنه يطيعه فلم يفعل، فلا كفارة لأن ه لغو، بخلاف من حلف على غيره في غير هذه الحالة، فإنه إذا لم يطعه حنث الحالف ووجبت الكفارة عليه. (ثالثا) شرائط ترجع إلى الصيغة - يشترط لانعقاد اليمين بالله تعالى شريطتان ترجعان إلى صيغتها. (الأولى): عدم الفصل بين المحلوف به والمحلوف عليه بسكوت ونحوه، فلو أخذه الوالي وقال: قل: بالله، فقال مثله، ثم قال: لآتين يوم الجمعة فقال الرجل مثله، لا يحنث بعدم إتيانه؛ للفصل بانتظار ما يقول، ولو قال: علي عهد الله ورسوله لا أفعل كذا، لا يصح؛ للفصل بما ليس يمينا، وهو قوله: وعهد رسوله. (الثانية): خلوها عن الاستثناء، والمقصود به التعليق بمشيئة الله أو استثناؤها، أو نحو ذلك مما لا يتصور معه الحنث، نحو أن يقول الحالف: إن شاء الله تعالى، أو إلا أن يشاء الله، أو ما شاء الله، أو إلا أن يبدو لي غير هذا، إلى غير ذلك من الأمثلة التي سيأتي بيانها، فإن أتى بشيء من ذلك بشرائطه لم تنعقد اليمين. صيغة اليمين التعليقية: - التعليق في اللغة: مصدر علق الشيء بالشيء وعليه: أنشبه فيه ووضعه عليه وجعله مستمسكا. وفي الاصطلاح: ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى، والجملة التي ربط مضمونها هي جملة الجزاء، والتي ربط هذا المضمون بمضمونها هي جملة الشرط. ففي مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، ربط المتكلم حصول مضمون الجزاء - وهو الطلاق - بحصول مضمون الشرط - وهو دخولها الدار - ووقفه عليه، فلا يقع إلا بوقوعه. وليس كل تعليق يمينا، وإنما اليمين حقيقة أو مجازا تعليقات مخصوصة تذكر فيما يأتي. أ - أجزاء الصيغة: - معلوم أنه لو قال إنسان: إن فعلت كذا فامرأتي طالق مثلا، فهذه صيغة تعليق تحتوي على: أداة شرط، فجملة شرطية، فجملة جزائية. والحديث عن هذه الثلاثة كما يلي: أداة الشرط: - ذكر أهل النحو واللغة أدوات كثيرة للشرط منها «إن» - بكسر الهمزة - وقد تزاد بعدها: ما، كما في قوله تعالي فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون). ومنها «إذا» وقد تزاد بعدها: ما، ومنها «من» «وما» «ومهما» «وحيثما» «وكيفما». «ومتى» وقد تزاد بعدها: ما، وأين وقد تزاد بعدها: ما أيضا. - وقد يقوم مقام هذه الأدوات أدوات أخرى وإن لم تعد في اللغة من أدوات التعليق، ومنها: كل وكلما وباء الجر. جملة الشرط: - جملة الشرط هي التي تدخل عليها أداة الشرط، وهي جملة فعلية ماضوية أو مضارعية، وهي للاستقبال في الحالتين، فإن أراد المتكلم التعليق على أمر مضى أدخل على الفعل جملة الكون. وإيضاح ذلك أن قول القائل: إن خرجت، أو: إن تخرجي يفيد التعليق على خروج في المستقبل. فإذا اختلف الرجل مع امرأته، فادعى أنها خرجت بالأمس، فقالت: لم أخرج، فأراد تعليق طلاقها على هذا الخروج الماضي، فإنه يأتي بفعل الكون فيقول: إن كنت خرجت بالأمس فأنت طالق. جملة الجزاء: - هي الجملة التي يأتي بها المتكلم عقب جملة الشرط، جاعلا مضمونها متوقفا على مضمون جملة الشرط، وقد يأتي الجزاء قبل جملة الشرط والأداة، وفي هذه الحالة تكون جزاء مقدما عند بعض النحاة، ودليل الجزاء عند بعضهم، والجزاء عند هؤلاء يكون مقدرا بعد الشرط. - أقسام اليمين التعليقية: - قسم صاحب البدائع اليمين إلى يمين بالله ويمين بغيره. وفي أثناء كلامه على اليمين بالله ألحق بها تعليق الكفر، ثم قسم اليمين بغير الله إلى ما كانت بحرف القسم كالحلف بالأنبياء وغيرهم، وما كان بالتعليق، وحصر التعليق في الطلاق والعتاق والتزام القربة. وبهذا تبين أن التعليقات التي تعتبر أيمانا عند الحنفية محصورة في أربعة، وهي: تعليق الطلاق، وتعليق العتاق، وتعليق التزام القربة، وتعليق الكفر، وإنما أفرد تعليق الكفر. عن التعليقات الثلاثة لمخالفته إياها في الحكم، فإن حكمها عند الحنفية تحقق الجزاء، إن كانت طلاقا أو عتقا، والتخيير بين الجزاء وكفارة اليمين إن كان الجزاء التزام قربة، بخلاف تعليق الكفر، فليس حكمه تحقق الجزاء وهو الكفر عند تحقق الشرط، بل حكمه عندهم هو الكفارة كاليمين بالله تعالى. وفي مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وإعلام الموقعين لابن القيم ما يفيد: أن تعليق الظهار وتعليق الحرام كلاهما يمين. وبهذا تكون التعليقات التي تسمى عند بعض الفقهاء أيمانا منحصرة في هذه الستة. تعليق الطلاق: - قال الحنفية: تعليق الطلاق يعتبر يمينا، سواء أكان المقصود به الحث، نحو: إن لم تدخلي الدار فأنت طالق، أو المنع نحو: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو تحقيق الخبر نحو: إن لم يكن الأمر كما قلته ففلانة طالق: أو غير ذلك نحو: إذا جاء الغد فأنت طالق. وهذه الصورة الأخيرة محل نزاع بين هؤلاء وبين من يوافقهم في تسمية تعليق الطلاق يمينا كالمالكية والشافعية والحنابلة، فهم لا يسمونه يمينا؛ لأن ه لا يقصد به ما يقصد باليمين من تأكيد الحث والمنع والخبر، فإن مجيء الغد ليس داخلا في مقدوره، ولا مقدورها فهما لا يستطيعان منعه. - وقد اختلف الفقهاء في تعليق الطلاق عند تحقق شرائط الطلاق الشرعية من ناحيتين. (أولاهما) أنه يقع عند وقوع ما علق عليه أو لا يقع. (ثانيتهما) أنه يسمى يمينا أو لا يسمى. أما الناحية الأولى فخلاصتها أن للفقهاء في وقوع الطلاق المعلق وعدم وقوعه قولين: (القول الأول) أنه يقع إذا تحقق ما علق عليه، سواء أكان جاريا مجرى اليمين أم لا، وإلى هذا ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. (القول الثاني) التفرقة بين ما جرى مجرى اليمين وما لم يجر مجراه. فالأول لا يقع وإن وقع ما علق عليه، والثاني يقع عند وقوع ما علق عليه، وهذا رأي ابن تيمية وابن القيم جمعا بين ما روي عن الصحابة من الوقوع وعدمه. وهل تجب كفارة اليمين فيما جرى مجرى اليمين أو لا تجب؟ اختار ابن تيمية وابن القيم وجوب الكفارة؛ لأن ها يمين منعقدة يشملها قوله تعالي ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) ولتفصيل ذلك (ر: طلاق). وأما الناحية الثانية فخلاصتها: أن من قال بالوقوع - وهم الجمهور - اختلفوا في تسميته يمينا، فالحنفية يجعلونه يمينا متى كان تعليقا محضا، وإن لم يقصد به ما يقصد باليمين كما تقدم، وكذا يقولون في تعليق العتق والتزام القربة. والمالكية والشافعية والحنابلة يقولون جميعا: إن تعليق الطلاق يسمى يمينا على الراجح عند أكثرهم، ومن لم يسمه يمينا منهم لا يخالف من يسميه يمينا إلا في التسمية، ولهذا لو حلف إنسان ألا يحلف، ثم علق طلاقا على وجه اليمين، حنث عند من يسمي هذا التعليق يمينا، ولم يحنث عند من لا يسميه يمينا. تعليق التزام القربة: - قال الحنفية: تعليق التزام القربة يسمى يمينا، سواء أقصد به ما يقصد بالأيمان أم لا. فلو قال: إن كلمت فلانا، أو: إن لم أكلم فلانا، أو: إن لم يكن الأمر كما قلته فعلي حجة أو عمرة أو صيام أو صلاة، فهذا كله يسمى نذرا، ويسمى أيضا يمينا، وهو جار مجرى اليمين، فإنه في المثال الأول: يؤكد منع نفسه من تكليم فلان. وفي المثال الثاني: يؤكد حث نفسه على تكليمه. وفي المثال الثالث: يؤكد الخبر الذي يناقض مضمون الشرط المعلق عليه. ولو قال: إذا جاء رمضان فعلي عمرة فهو نذر أيضا، ويسمى يمينا عند الحنفية. - وقد اختلف الفقهاء في تعليق التزام القربة من ناحيتين: أما الناحية الأولى: فخلاصتها أن النذر إما أن يكون جاريا مجرى اليمين أو لا. فإن كان جاريا مجرى اليمين - ويسمى نذر اللجاج والغضب - ففيه ثلاثة أقوال للفقهاء: (الأول) أن القائل يخير عند وقوع الشرط بين الإتيان بما التزمه وبين كفارة اليمين، وهذا القول هو آخر القولين عند الإمام أبي حنيفة، وهو الراجح عند الحنفية. وهو أيضا أرجح الأقوال عند الشافعي. وبه قال أحمد. وهو قول أكثر أهل العلم من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة وفقهاء الحديث. (الثاني) أن القائل يلزمه عند وقوع الشرط ما التزمه، وهو قول مالك وأحد أقوال الشافعي. (الثالث) أن القائل يلزمه عند وقوع الشرط كفارة يمين، ويلغي ما التزمه، وهذا أحد الأقوال للشافعي. وإن لم يكن جاريا مجرى اليمين لزم الوفاء به بشرائط مخصوصة فيها خلاف الفقهاء. وتفصيل ذلك في مصطلح: (نذر). - أما الناحية الثانية: فخلاصتها أن النذر المعلق الذي لا يجري مجرى اليمين يسميه الحنفية يمينا، كما سموا الطلاق المعلق يمينا وإن لم يقصد به ما قصد بالأيمان، وأما غير الحنفية فلم نعثر على أن أحدا منهم سمى ما لم يجر مجرى الأيمان يمينا، وما جرى مجرى الأيمان - وهو اللجاج يسمى - يمينا عند من قال بوجوب الكفارة أو بالتخيير بين ما التزمه وبين، الكفارة. والقائلون بوجوب ما التزمه مختلفون: فمنهم من يسميه يمينا كابن عرفة من المالكية، ومنهم من لا يسميه يمينا. تعليق الكفر: - قال الحنفية: إن تعليق الكفر على ما لا يريده الإنسان بقصد تأكيد المنع منه أو الحث على نقيضه أو الإخبار بنقيضه يعتبر يمينا شرعية ملحقة باليمين بالله تعالى. وهذا الذي قاله الحنفية يروى عن عطاء وطاوس والحسن والشعبي والثوري والأوزاعي وإسحاق، ويروى أيضا عن زيد بن ثابت رضي الله عنه . حكى ذلك كله ابن قدامة في المغني، وحكاه ابن تيمية في فتاويه عن أكثر أهل العلم، وهو إحدى روايتين عن أحمد، وهي الرواية الراجحة عند أكثر الحنابلة. وقال المالكية والشافعية: إنه ليس بيمين. ووافقهم أحمد في إحدى الروايتين. وهو أيضا قول الليث وأبي ثور وابن المنذر، وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنه وأبي هريرة رضي الله عنه وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار. وهذه الحكاية تخالف حكاية صاحب المغني عن عطاء فلعل له قولين، وكذا حكايته عن جمهور فقهاء الأمصار تختلف عن حكاية ابن تيمية القول الأول عن أكثر أهل العلم. أمثلة الكفر المعلق على الشرط: - منها: أن يخبر الإنسان عن نفسه أنه إن فعل كذا، أو إن لم يفعل كذا أو إن حصل كذا، أو إن لم يحصل كذا، أو إن لم يكن الأمر كذا، فهو يهودي أو نصراني أو مجوسي، أو كافر أو شريك الكفار أو مرتد، أو بريء من الله أو من رسول الله أو من القرآن أو كلام الله أو الكعبة أو القبلة، أو بريء مما في المصحف، أو بريء مما في هذا الدفتر إذا كان في الدفتر شيء من القرآن ولو البسملة، أو بريء من المؤمنين أو من الصلاة أو الصيام أو الحج. ومنها: أن يخبر عن نفسه أنه يعبد الصليب، أو يستحل الخمر أو الزنى إن لم يفعل كذا. ويستدل لمن قال: إنه ليس يمينا بأنه ليس حلفا باسم الله تعالى ولا صفته، فلا يكون يمينا، كما لو قال: عصيت الله تعالى فيما أمرني إن فعلت كذا أو إن لم أفعل كذا، وكما لو حلف بالكعبة أو بأبيه. ويستدل لمن قال إنه يمين بما يأتي: أ - روي عن الزهري عن خارجة بن زيد عن أبيه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه «سئل عن الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها فيحنث في هذه الأشياء؟ فقال: عليه كفارة يمين. ب - إن الحالف بذلك لما ربط مالا يريده بالكفر كان رابطا لنقيضه بالإيمان بالله، فكان مثل الحالف بالله؛ لأن ه يربط الشيء المحلوف عليه بإيمانه بالله تعالى. تعليق الظهار: - الظهار - كقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي - يشبه القسم من حيث إنه قول يستوجب الامتناع عن شيء، ويقتضي الكفارة غير أنها أعظم من كفارة القسم. ومن هنا سمى بعض العلماء الظهار يمينا، وقد نقل ابن تيمية عن أصحاب الحنابلة كالقاضي أبي يعلى وغيره أن من قال: أيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا لزمه ما يفعله في اليمين بالله والنذر والطلاق والعتاق والظهار. تعليق الحرام: سبق الكلام على تحريم العين أو الفعل، وأنه يعد يمينا عند بعض الفقهاء وإن كان منجزا. كما سبق أن قول الرجل: الحرام يلزمني لأفعلن كذا، يعد طلاقا أو ظهارا أو عتاقا أو يمينا. وأيا ما كان، فتعليق الحرام يقال فيه ما قيل في تعليق الطلاق والظهار، فلا حاجة للإطالة به. ومن أمثلته أن يقول: إن فعلت كذا أو إن لم أفعل كذا أو إن كان الأمر كذا أو إن لم يكن الأمر كذا فزوجتي علي حرام. هذه أمثلة للتعليق الصريح. وأما التعليق المقدر فمن أمثلته: علي الحرام، أو الحرام يلزمني، أو زوجتي علي حرام لأفعلن كذا أو لا أفعل كذا، أو لقد كان كذا أو لم يكن كذا. وقد نقل ابن القيم في قول القائل أنت علي حرام وقوله: ما أحل الله علي حرام. وقوله: أنت علي كالميتة والدم ولحم الخنزير خمسة عشر مذهبا، ويكفي هنا الإشارة إليها. وقد سبق بيان المذاهب فيها. ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية اختيار مذهب فوق الخمسة عشرة، وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهارا ولو نوى به الطلاق، وإن حلف به كان يمينا مكفرة، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة، وإذا حلف كان يمينا من الأيمان، كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة وأسهب في الاستدلال على ذلك. شرائط اليمين التعليقية: - يشترط في اليمين التعليقية شرائط بعضها يرجع إلى منشئ التعليق، وبعضها يرجع إلى جملة الشرط، وبعضها إلى جملة الجزاء. شرائط منشئ التعليق (وهو الحالف): - يشترط فيه شرائط مفصلة في الحالف بالله تعالى. ما يشترط في جملة الشرط: - يشترط لصحة التعليق شرائط تتعلق بالجملة الشرطية، وهي مفصلة في المواضع التي يعتبر تعليقها يمينا، ونشير هنا إليها إجمالا وهي: (الشريطة الأولى): أن يكون مدلول فعلها معدوما ممكن الوجود. فالمحقق نحو: إن كانت السماء فوقنا فامرأتي طالق، يعتبر تنجيزا لا تعليقا، والمستحيل نحو: إن دخل الجمل في سم الخياط فزوجتي كذا، يعتبر لغوا لعدم تصور الحنث. - (الشريطة الثانية): الإتيان بجملة الشرط، فلو أتى بأداة الشرط ولم يأت بالجملة - ولا دليل عليها - كان الكلام لغوا، ومثاله أن يقول: أنت طالق إن، أو يقول بعد جملة الطلاق «إن كان» أو «إن لم يكن» أو «إلا» أو «لولا» ففي كل هذه الأمثلة يكون الكلام لغوا عند أبي يوسف، وهو المفتى به عند الحنفية كما في الدر المختار، وقال محمد: تطلق للحال. - (الشريطة الثالثة): وصلها بجملة الجزاء، فلو قال: إن دخلت الدار، ثم سكت، ولو بقدر التنفس بلا تنفس وبلا ضرورة، أو تكلم كلاما أجنبيا ثم قال: فأنت طالق، لم يصح التعليق، بل يكون طلاقا منجزا. - (الشريطة الرابعة): ألا يقصد المتكلم بالإتيان بها المجازاة، فإن قصدها كانت جملة الجزاء تنجيزا لا تعليقا. مثال ذلك أن تنسب امرأة إلى زوجها أنه فاسق، فيقول لها: إن كنت كما قلت فأنت كذا، فيتنجز الطلاق، سواء أكان كما قالت أم لا؛ لأن ه في الغالب لا يريد إلا إيذاءها بالطلاق المنجز عقوبة لها على شتمه. فإن قال: قصدت التعليق، لم يقبل قضاء، بل يدين على ما أفتى به أهل بخارى من الحنفية. - (الشريطة الخامسة): أن يكون مستقبلا إثباتا أو نفيا، وهذه الشريطة إنما تشترط في تعليق الكفر لا في تعليق الطلاق ونحوه. ثم إن الذين يشترطونها في تعليق الكفر إنما هم الذين يشترطونها في اليمين بالله تعالى. والخلاصة أن تعليق الطلاق ونحوه يصح في الماضي كما يصح في المستقبل؛ لأن ه لا يعتبر غموسا عند مخالفة الواقع، بخلاف تعليق الكفر، فمن قال: إن كان الأمر على خلاف ما قلته، أو: إن لم يكن الأمر كما قلته، أو: إن كان الأمر على ما قال فلان فامرأتي كذا، أو: فعلي صوم شهر، أو: فهو يهودي، فإن كان ما أثبته منفيا في الواقع، أو ما نفاه ثابتا في الواقع طلقت امرأته في الصورة الأولى، وتخير بين ما التزمه من الصيام وبين كفارة اليمين في الصورة الثانية، ولم يلزمه في الصورة الأخيرة كفارة يمين عند من يقول بعدم كفارة اليمين الغموس وسيأتي ذلك. ما يشترط في جملة الجزاء: - ليس كل تعليق يصلح أن يكون يمينا شرعا، وإنما الذي يصلح ما كان جزاؤه واحدا من ستة، وهي: الطلاق والعتاق والتزام القربة والكفر والظهار والحرام. فيشترط في جملة الجزاء: أن يكون مضمونها واحدا في هذه الستة، وقد صرح الحنفية بالأربعة الأول فقط، ولم يذكروا تعليق الظهار، ولا تعليق الحرام، لكنهم جعلوا تحريم الحلال في حكم اليمين بالله تعالى، وهو يشمل المنجز والمعلق، فلم يبق خارجا عن كلامهم سوى تعليق الظهار. ويشترط في جملة الجزاء شريطة ثانية وهي: ألا يذكر فيها استثناء بنحو إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله، فمن قال: إن فعلت كذا فأنت طالق إن شاء الله، أو قال أنت طالق إن شاء الله إن فعلت كذا، أو قال أنت طالق إن فعلت كذا إن شاء الله بطل تعليقه. وإلى هذا ذهب الحنفية والشافعية. وخالف المالكية والحنابلة، فقالوا: لا يصح التعليق بالمشيئة فيما لا كفارة فيه، ومثل له المالكية بالطلاق والعتاق والتزام القربة، ومثل له الحنابلة بالطلاق والعتاق فقط؛ لأن التزام القربة بقصد اليمين يلزم فيه ما التزمه عند المالكية، ويخير فيه عند الحنابلة بين ما التزمه وبين كفارة اليمين، فعلى هذا يصح الاستثناء عند المالكية في: الحلف بالله تعالى، وبالظهار، وقول القائل: علي نذر أو علي يمين أو علي كفارة. وعند الحنابلة في: الحلف بالله، والظهار، وفي تعليق النذر بقصد الحلف، وتعليق الكفر. وهذا المنقول عن المالكية والحنابلة هو أشهر القولين عن مالك وإحدى الروايتين عن أحمد. وقد رجح ابن تيمية الرواية الأخرى الموافقة لقول الجمهور، فقال: هذا القول هو الصواب المأثور عن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وجمهور التابعين كسعيد بن المسيب والحسن. لكن جرى صاحب المنتهى وغيره على اختصاص المشيئة بما يكفر عنه فتكون الرواية الأولى هي الراجحة عند متأخري الحنابلة. التعليق الذي لا يعد يمينا شرعا: - لما كانت التعليقات الستة السابقة إنما تعد أيمانا في بعض الصور، وما عداها من التعليقات لا يعد يمينا أصلا كان التعليق الذي لا يعد يمينا نوعين. أحدهما: ما لم يقصد به الحث ولا المنع ولا تحقيق الخبر، وقد خالف الحنفية في ذلك فعدوه يمينا، واشترطوا أن يكون تعليقه تعليقا محضا. وثانيهما: كل تعليق من الستة اختلت فيه شريطة من شرائط صحة التعليق. تعليق غير الستة: - كل تعليق لغير الستة لا يعد يمينا شرعا وإن كان القائل يقصد به تأكيد الحمل على شيء أو المنع عنه أو الخبر. ومن أمثلة ذلك أن يقول: إن فعلت كذا فأنا بريء من الشفاعة؛ لأن إنكار الشفاعة بدعة، وليس كفرا، أو يقول: فصلاتي وصيامي لهذا الكافر قاصدا أن ثوابهما ينتقل إلى هذا الكافر، فهذا القول ليس كفرا، فإن قصد به أن صلاته وصيامه عبادة لهذا الكافر، أي: أنه يعبده كانت يمينا لأن هذا كفر. ومن الأمثلة: إن فعل كذا فعليه غضب الله أو سخطه أو لعنته، أو فهو زان أو سارق أو شارب خمر أو آكل ربا، فليس شيء من ذلك يمينا شرعا. هذا متفق عليه بين الفقهاء. معنى الاستثناء: - المراد بالاستثناء هنا هو التعليق بمشيئة الله تعالى أو نحوه مما يبطل الحكم، كما لو قال قائل: سأفعل كذا إن شاء الله. وإنما سمي هذا التعليق استثناء لشبهه بالاستثناء المتصل في صرف اللفظ السابق عن ظاهره. وبعضهم يسمي هذا التعليق (استثناء تعطيل) لأن ه يعطل العقد أو الوعد أو غيرهما. والفقهاء يذكرون هذا الاستثناء في الأيمان حينما يقولون: إن من شرائط صحة اليمين عدم الاستثناء فإنهم لا يريدون إلا الاستثناء، بمعنى التعليق بمشيئة الله تعالى ونحوه، فإنه هو الذي لو وجد لبطل حكم اليمين. والضابط الذي يجمع صور الاستثناء بالمشيئة: كل لفظ لا يتصور معه الحنث في اليمين، كما لو قال الحالف عقب حلفه: إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله، أو ما شاء الله، أو إلا أن يبدو لي غير هذا، أو إن أعانني الله، أو يسر الله، أو قال: بعون الله أو بمعونة الله أو بتيسيره. التعليق بالاستطاعة: - لو قال الحالف: والله لأفعلن كذا إن استطعت أو: لأفعلن كذا إلا ألا أستطيع، فإن أراد بها الاستطاعة الخاصة بالفعل المحلوف عليه لم يحنث أبدا لأن ها مقارنة للفعل، فلا توجد ما لم يوجد الفعل. وإن أراد الاستطاعة العامة، وهي سلامة الآلات والأسباب والجوارح والأعضاء، فإن كانت له هذه الاستطاعة فلم يفعل حنث، وإلا لم يحنث. وهذا لأن لفظ الاستطاعة يحتمل كلا من المعنيين. قال الله تعالى في شأن المشركين أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون. وقال عز وجل حاكيا خطاب الخضر لموسى عليهما السلام قال إنك لن تستطيع معي صبرا والمراد في الآيتين الاستطاعة المقارنة للفعل، وقال سبحانه وتعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وقال جل شأنه والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم. والمراد بالاستطاعة في الموضعين سلامة الأسباب والآلات. فإن لم يكن له نية وجب أن يحمل على المعنى الثاني - وهو سلامة الأسباب - لأن هذا هو الذي يراد في العرف والعادة، فينصرف إليه اللفظ عند الإطلاق. أثر الاستثناء وما يؤثر فيه: - والاستثناء المتصل «بإلا» ونحوها متى وجدت شرائطه أفاد التخصيص في اليمين القسمية والتعليقية، وفي غير اليمين أيضا، ومن أمثلة ذلك: والله لا آكل سمنا إلا في الشتاء، وإن أكلته في غير الشتاء فنسائي طوالق إلا فلانة، أو فعبيدي أحرار إلا فلانا، وإن كلمت زيدا فعلي المشي إلى مكة إلا أن يكلمني ابتداء. ومن أمثلتها أيضا قول القائل: لفلان علي عشرة دنانير إلا ثلاثة، وأنت طالق ثلاثا إلا اثنتين كما سبق. والاستثناء بمعنى تعليق المشيئة ونحوه يفيد إبطال الكلام الذي قبله، سواء أكان يمينا قسمية أم يمينا تعليقية أم غيرهما، وإلى هذا ذهب الجمهور. وذهب مالك في أشهر القولين، وأحمد في إحدى الروايتين - وهي أرجحهما - إلى أنه لا يفيد الإبطال، إلا في اليمين بالله تعالى وما في معناها مما فيه كفارة، فالطلاق والعتاق لا يبطلان بتعليق المشيئة، سواء أكانا منجزين أم معلقين، فمن قال: أنت طالق إن شاء الله، أو إذا طلعت الشمس فأنت طالق إن شاء الله، أو إن خرجت من الدار فأنت طالق إن شاء الله، يقع طلاقه منجزا في المثال الأول، ويقع عند طلوع الشمس في المثال الثاني، وعند خروجها من الدار في المثال الثالث، وأما تعليق التزام القربة بقصد اليمين فعند المالكية: يلزمه فيه ما التزمه، فلا يصح تعليقه بالمشيئة فلا تبطل اليمين به، وعند الحنابلة تجب فيه الكفارة فيصح عندهم تعليقه بالمشيئة. وهناك قول ثالث ذهب إليه ابن تيمية في فتاواه، وهو: أن المشيئة تفيد الإبطال في كل ما كان حلفا سواء أكان قسما بالله أم تعليقا للطلاق وغيره، ولا تفيد الإبطال فيما ليس حلفا كتنجيز الطلاق والعتاق والتزام القربة وتعليقها بغير قصد الحلف كتعليقها على طلوع الشمس. - هذا ويمكن الاستدلال على ما ذهب إليه الجمهور بقوله صلي الله عليه وسلم : «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه» فقوله صلي الله عليه وسلم : «من حلف» يشمل الحالف بالصيغة القسمية وبالصيغة التعليقية، ويقاس عليه كل عقد وكل حل. شرائط صحة الاستثناء: - يشترط لصحة الاستثناء شرائط: (الشريطة الأولى): الدلالة عليه باللفظ أو ما يقوم مقامه من كتابة أو إشارة أخرس - كما تقدم في شرائط الحالف - ثم إن كانت باللفظ وجب الإسماع ولو بالقوة عند الجمهور، خلافا للمالكية والكرخي من الحنفية. ثم اشتراط الدلالة باللفظ وما يقوم مقامه يخرج به ما لو نوى الاستثناء من غير أن يدل عليه، فلا تكفي النية في الاستثناء، لكن قال المالكية: إن النية تكفي في الاستثناء بإلا وأخواتها قبل انتهاء النطق باليمين، وكالاستثناء بإلا سائر التخصيصات كالشرط، والصفة، والغاية، ومثال الشرط: والله لا أكلم زيدا إن لم يأتني، ومثال الصفة: لا أكلمه وهو راكب؛ لأن المراد بالصفة ما يشمل الحال، ومثال الغاية: لا أكلمه حتى تغرب الشمس. وتفصيله في (استثناء وطلاق). - وقال الحنابلة: يشترط نطق غير المظلوم الخائف؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه» ومعلوم أن قوله صلي الله عليه وسلم فقال... يدل على اشتراط النطق باللسان؛ لأن القول هو اللفظ، وأما المظلوم الخائف فتكفيه نيته؛ لأن يمينه غير منعقدة، أو لأن ه بمنزلة المتأول. - (الشريطة الثانية): أن يصل المتكلم الاستثناء بالكلام السابق، فلو فصل عنه بسكوت كثير بغير عذر، أو بكلام أجنبي لم يصح الاستثناء، فلا يخصص ما قبله إن كان استثناء بنحو إلا، ولا يلغيه إن كان بنحو المشيئة. ومن الأعذار: التنفس والسعال والجشاء والعطاس وثقل اللسان وإمساك إنسان فم المتكلم، فالفصل بالسكوت لهذه الأعذار كلها لا يضر. والمراد بالسكوت الكثير ما كان بقدر التنفس بغير تنفس، على ما أفاده الكمال بن الهمام. والمراد بالكلام الأجنبي ما لم يفد معنى جديدا، كما لو قال: أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا واحدة إن شاء الله، فهذا العطف لغو؛ لأن الثلاث هي أكثر الطلاق فلا يصح الاستثناء. - وهذه الشريطة إجمالا (وهي عدم الفصل بلا عذر) متفق عليها بين عامة أهل العلم، وإنما الخلاف في الفاصل من سكوت أو كلام، متى يعد مانعا من الاستثناء ومتى لا يعد؟ والتفاصيل التي سبق ذكرها هي التي نص عليها الحنفية، وفي كتب المذاهب الأخرى تفاصيل يطول الكلام عليها، فلتراجع في مواضعها من كتب الفقه. وقد روي عن بعض الصحابة والتابعين عدم اشتراط هذه الشريطة، فقد أخرج ابن جرير والطبراني وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ويقرأ قوله تعالي ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت) وهو رواية عن الإمام أحمد، وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير في رجل حلف ونسي أن يستثني، قال: له ثنياه إلى شهر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء أنه قال: من حلف على يمين فله الثنيا حلب ناقة قال: وكان طاوس يقول: ما دام في مجلسه، وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن إبراهيم النخعي قال: يستثني ما دام في كلامه. ومما يؤيد اشتراط عدم الفصل أنه لو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام، ولا سيما إلى الغاية المروية عن ابن عباس، لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق، ولم يعلم صدق ولا كذب. وأيضا لو صح هذا لأقر الله نبيه أيوب علية السلام بالاستثناء رفعا للحنث، فإنه أقل مؤنة مما أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى: وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث. - (الشريطة الثالثة) القصد: وهذه الشريطة ذكرها المالكية وعنوا بها: قصد اللفظ مع قصد معناه، وخرج بذلك أمران. أحدهما: أن يجري اللفظ على لسان الحالف من غير قصد، فلا يعتبر الاستثناء بإلا مخصصا، ولا الاستثناء بالمشيئة مبطلا. ثانيهما: ما لو قصد التبرك بذكر المشيئة، أو قصد الإخبار بأن هذا الأمر يحصل بمشيئة الله تعالى، ففي هذه الحال لا تبطل اليمين، بل تبقى منعقدة، وكذا لو لم يقصد شيئا، بأن قصد مجرد النطق بلفظ الاستثناء بنوعيه من غير أن ينوي تخصيص اليمين وحلها. وقد اتفق المالكية على أن قصد الاستثناء إن كان مع اليمين من أولها أو في أثنائها صح الاستثناء، فإن كان بعد الفراغ من النطق باليمين صح على المشهور، فعليه لو حلف، فذكره إنسان قائلا: قل إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله أو نحو ذلك، فقاله بغير فصل، ولم يكن في نيته من قبل فإنه يصح، ولم يذكر الحنفية هذه الشريطة. والشافعية والحنابلة شرطوا القصد مع العلم بالمعنى، وشرطوا كون القصد قبل الفراغ من اليمين، وقالوا: لو لم يقصد الاستثناء إلا بعد الفراغ من اليمين لم يصح؛ لأن ه يلزم عليه رفع اليمين بعد انعقادها، وقالوا أيضا: يصح تقديم الاستثناء وتوسيطه. - (الشريطة الرابعة): أن يكون حلفه في غير توثق بحق. وهذه الشريطة نص عليها المالكية. وإيضاحها: أنه يشترط في صحة الاستثناء أن يكون الحلف الذي ذكر معه الاستثناء في غير توثق بحق، كما لو شرط عليه في عقد نكاح ألا يضر زوجته في عشرة، أو لا يخرجها من بلدها، وكأن يشرط عليه في بيع أن يأتي بالثمن في وقت كذا، وطلب منه يمين على ذلك، فحلف واستثنى سرا لم يفده الاستثناء عند سحنون وأصبغ وابن المواز؛ لأن اليمين على نية المستحلف عند هؤلاء، وهذا هو المشهور عند المالكية، خلافا لما قاله ابن القاسم في العتبية من أنه ينفع الاستثناء فيما ذكر، فلا تلزمه الكفارة، لكن يحرم عليه بمنعه حق الغير. والذي يتصفح كتب المذاهب الأخرى يجد أنه ما من مذهب إلا يرى أصحابه أن اليمين تكون على نية المستحلف في بعض الصور - وسيأتي ذلك - فيمكن التعبير عن هذه الشريطة بأن يقال: يشترط في صحة الاستثناء ألا يكون على خلاف نية المستحلف، في الصور التي يجب فيها مراعاة نيته. أحكام اليمين - تقدم أن اليمين إما أن تكون قسمية، وإما أن تكون تعليقية. ولكل منهما أحكام. أحكام اليمين القسمية: أحكام اليمين القسمية تختلف باختلاف أنواعها، وفيما يلي بيان هذه الأنواع ثم بيان أحكامها. أنواع اليمين القسمية: قسم الحنفية اليمين بالله تعالى وما ألحق بها كتعليق الكفر - من حيث الكذب وعدمه - إلى ثلاثة أنواع، وهي: اليمين الغموس، واليمين اللغو، واليمين المعقودة. - فاليمين الغموس: هي الكاذبة عمدا في الماضي أو الحال أو الاستقبال، سواء أكانت على النفي أم على الإثبات كأن يقول: والله ما فعلت كذا، وهو يعلم أنه فعله، أو والله لقد فعلت كذا، وهو يعلم أنه لم يفعله، أو: والله ما لك علي دين، وهو يعلم أن للمخاطب دينا عليه، أو: والله لا أموت أبدا. وكأن يقول: إن كنت فعلت كذا، أو إن لم أكن فعلته، أو إن كان لك علي دين، أو إن مت فأنا يهودي أو نصراني. هذا تعريفها عند الحنفية. وذهب المالكية إلى أن الغموس هي الحلف بالله مع شك من الحالف في المحلوف عليه، أو مع ظن غير قوي، أو مع تعمد الكذب، سواء أكان على ماض نحو: والله ما فعلت كذا، أو لم يفعل زيد كذا، مع شكه في عدم الفعل، أو ظنه عدمه ظنا غير قوي، أو جزمه بأنه قد فعل، أم كان على حاضر نحو: والله إن زيدا لمنطلق أو مريض، وهو جازم بعدم ذلك، أو متردد في وجوده على سبيل الشك أو الظن غير القوي، أم كان على مستقبل نحو: والله لآتينك غدا، أو لأقضينك حقك غدا وهو جازم بعدم ذلك، أو متردد في حصوله على سبيل الشك أو الظن غير القوي. وقال الشافعية والحنابلة: إن الغموس هي المحلوفة على ماض مع كذب صاحبها وعلمه بالحال. والحنفية والشافعية والحنابلة لا يوافقون المالكية على التوسع في تفسير الغموس. - واليمين اللغو: اختلفوا في تفسيرها أيضا، فقال الحنفية: هي اليمين الكاذبة خطأ أو غلطا في الماضي أو في الحال، وهي: أن يخبر إنسان عن الماضي أو عن الحال على الظن أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه، سواء أكان ذلك في النفي أم في الإثبات، وسواء أكانت إقساما بالله تعالى أم تعليقا للكفر، كقوله: والله ما كلمت زيدا، وفي ظنه أنه لم يكلمه، والواقع أنه كلمه. هكذا روي عن محمد، وهو الذي اقتصر عليه أصحاب المتون من الحنفية. وروى محمد عن أبي حنيفة أن اللغو: ما يجري بين الناس من قولهم لا والله وبلى والله، أي من غير قصد اليمين. والتحقيق أنه يعتبر عند الحنفية نوعا آخر من اللغو، فيكون اللغو عندهم نوعين وكلاهما في الماضي والحاضر دون المستقبل. وقال المالكية: إن اللغو هو الحلف بالله على شيء يعتقده على سبيل الجزم أو الظن القوي فيظهر خلافه سواء أكان المحلوف عليه إثباتا أم نفيا، وسواء أكان ماضيا أم حاضرا أم مستقبلا. ويلاحظ أنهم مثلوا بالمستقبل بما لو قال «والله لأفعلن كذا» مع الجزم أو الظن القوي بفعله ثم لم يفعله. وقال الشافعية: اليمين اللغو هي التي يسبق اللسان إلى لفظها بلا قصد لمعناها، كقولهم «لا والله» «وبلى والله» في نحو صلة كلام أو غضب سواء أكان ذلك في الماضي أم الحال أم المستقبل. وهم يخالفون الحنفية في هذا الأخير، وهو ما كان في المستقبل. وذهب الحنابلة إلى أن لغو اليمين كما يقول الشافعية، ووافقوهم أيضا في أن من حلف على ماض كاذبا جاهلا صدق نفسه، أو ظانا صدق نفسه، فتبين خلافه لا تنعقد يمينه، ويؤخذ من هذا أن ما يسميه الحنفية وغيرهم لغوا يوافقهم الشافعية على حكمه، وإن لم يسموه لغوا. ونقل صاحب غاية المنتهى عن الشيخ تقي الدين أن من حلف على مستقبل ظانا صدق نفسه فتبين بخلافه لا تنعقد يمينه، وكذا من حلف على غيره ظانا أنه يطيعه فلم يفعل فلا كفارة فيه أيضا؛ لأن ه لغو، ثم قال: والمذهب خلافه. ثم من هؤلاء من يوجب الكفارة، لقوله تعالي في هذه الآية فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) أي حلفتم وحنثتم. ومنهم من لا يوجب الكفارة لما يأتي في بيان حكم اليمين بالله تعالى. - ووجه قول الشافعية ومن وافقهم: ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنزلت هذه الآية - لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم - في قول الرجل: لا والله وبلى والله ومعلوم أن السيدة عائشة رضي الله عنها شهدت التنزيل وقد جزمت بأن الآية نزلت في هذا المعنى، قال الشوكاني في نيل الأوطار: إن القرآن الكريم قد دل على عدم المؤاخذة في يمين اللغو، وذلك يعم الإثم والكفارة، فلا يجبان، والمتوجه الرجوع في معرفة معنى اللغو إلى اللغة العربية، وأهل عصره صلي الله عليه وسلم أعرف الناس بمعاني كتاب الله تعالى؛ لأن هم مع كونهم من أهل اللغة قد كانوا من أهل الشرع ومن المشاهدين للرسول صلي الله عليه وسلم والحاضرين في أيام النزول، فإذا صح عن أحدهم تفسير لم يعارضه ما يرجح عليه أو يساويه وجب الرجوع إليه، وإن لم يوافق ما نقله أئمة اللغة في معنى ذلك اللفظ؛ لأن ه يمكن أن يكون المعنى الذي نقله إليه شرعيا لا لغويا، والشرعي مقدم على اللغوي كما تقرر في الأصول، فكان الحق فيما نحن بصدده، هو أن اللغو ما قالته عائشة . فثبت أن اليمين اللغو هي التي لا يقصدها الحالف، وإن كانت على مستقبل. وأيضا أن الله تعالى قابل اليمين اللغو باليمين المكسوبة بالقلب بقوله عز وجل: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم. والمكسوبة هي المقصودة، فكانت غير المقصودة داخلة في قسم اللغو بلا فصل بين ماضيه وحاله ومستقبله تحقيقا للمقابلة. ووجه قول الحنفية ومن وافقهم: أن الله عز وجل قابل اللغو بالمعقودة، وفرق بينهما بالمؤاخذة ونفيها، فوجب أن تكون اللغو غير المعقودة تحقيقا للمقابلة، واليمين على المستقبل معقودة سواء أكانت مقصودة أم لا، فلا تكون لغوا. - وأيضا اللغو في اللغة: اسم للشيء الذي لا حقيقة له، قال الله تعالى: لا يسمعون فيها لغوا أي باطلا، وقال عز وجل خبرا عن الكفرة وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه وذلك يتحقق في الحلف على ظن من الحالف أن الأمر كما حلف عليه، والحقيقة بخلافه، وكذا ما يجري على اللسان من غير قصد لكن في الماضي أو الحال فهو ما لا حقيقة له. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: اللغو أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقا وليس بحق. وبه تبين أن المراد من قول عائشة رضي الله عنه : أن اللغو في الأيمان قول الرجل لا والله وبلى والله، إنما أردت به التمثيل لا الحصر، وأيضا إنه خاص بالماضي والحاضر ليكون النوعان متماثلين. - واليمين المعقودة: وهي اليمين على أمر في المستقبل غير مستحيل عقلا، سواء أكان نفيا أم إثباتا، نحو: والله لا أفعل كذا أو والله لأفعلن كذا. هذا قول الحنفية. وأفاد المالكية أن اليمين المنعقدة هي: ما لم تكن غموسا ولا لغوا. ومن تأمل في معنى الغموس واللغو عندهم لم يجد ما يسمى منعقدة سوى الحلف بالله على ما طابق الواقع من ماض أو حاضر، أو ما يطابقه من مستقبل؛ لأن ما عدا ذلك إما غموس وإما لغو، لكن يلحق بالمنعقدة الغموس واللغو في المستقبل، وكذا الغموس في الحاضر كما سيأتي في الأحكام. وأفاد الشافعية أن كل يمين لا تعد لغوا عندهم فهي منعقدة، فيدخل فيها الغموس، كما يدخل فيها الحلف على المستقبل الممكن. وبيان ذلك أن اليمين إن كان التلفظ بها غير مقصود كانت لغوا، سواء أكانت في الماضي أم في الحال أم في المستقبل، وإن كان التلفظ بها مقصودا، وكانت إخبارا مبنيا على اليقين أو الظن أو الجهل، وتبين خلافها كانت لغوا أيضا، ما لم يجزم الحالف بأن الذي حلف عليه هو الواقع، فحينئذ تكون منعقدة ويحنث فيها. وإن كانت إخبارا مبنيا على اعتقاد مخالفة الواقع يقينا أو ظنا فهي غموس، وهي منعقدة أيضا. وإن كانت للحث أو المنع وكان المحلوف عليه ممكنا فإنها تكون منعقدة أيضا. وأما إذا كان واجبا فإنها صادقة قطعا ولا تعد يمينا. وإن كان مستحيلا فهي كاذبة قطعا وتكون منعقدة وحانثة. وقال الحنابلة: إن اليمين على المستقبل إذا كان التلفظ بها مقصودا، وكان الحالف مختارا، وكانت على ممكن أو على إثبات مستحيل أو نفي واجب، لكن الشيخ تقي الدين أخرج منها من حلف على مستقبل ظانا صدق نفيه فتبين بخلافه، ومن حلف على غيره ظانا أنه يطيعه فلم يطعه. - وتنوع اليمين إلى الأنواع الثلاثة التي أساسها الكذب وعدمه هو اصطلاح الحنفية والشافعية وموافقوهم لا يقسمون اليمين إلى الأنواع الثلاثة، وإنما يقسمونها - من حيث القصد وعدمه - إلى قسمين فقط، وهما: اللغو والمعقودة. فاللغو هي التي لم تقصد، وكذا التي قصدت وكانت إخبارا عن الظن، والمعقودة هي التي قصدت وكانت للحمل أو المنع، أو كانت للإخبار صدقا أو كذبا عمدا. أحكام الأيمان القسمية: حكم اليمين الغموس: اليمين الغموس لها حكمان: حكم الإتيان بها، والحكم المترتب على تمامها. وبيان ذلك فيما يلي: حكم الإتيان بها: - الإتيان باليمين الغموس حرام، ومن الكبائر بلا خلاف؛ لما فيه من الجرأة العظيمة على الله تعالى، حتى قال الشيخ أبو منصور الماتريدي؛ كان القياس عندي أن متعمد الحلف بالله تعالى على الكذب يكفر؛ لأن اليمين به عز وجل جعلت لتعظيمه، والمتعمد لليمين به على الكذب مستخف به، لكنه لا يكفر؛ لأن ه ليس غرضه الجرأة على الله والاستخفاف به، وإنما غرضه الوصول إلى ما يريده من تصديق السامع له. ونظير هذا ما يروى أن رجلا سأل أبا حنيفة قائلا: إن العاصي يطيع الشيطان، ومن أطاع الشيطان فقد كفر، فكيف لا يكفر العاصي؟ فقال: إن ما يفعله العاصي هو في ظاهره طاعة للشيطان، ولكنه لا يقصد هذه الطاعة فلا يكفر؛ لأن الكفر عمل القلب، وإنما يعد مؤمنا عاصيا فقط. ثم إنه لا يلزم من كونها من الكبائر أن تكون جميعها مستوية في الإثم، فالكبائر تتفاوت درجاتها حسب تفاوت آثارها السيئة، فالحلف الذي يترتب عليه سفك دم البريء، أو أكل المال بغير حق أو نحوهما، أشد حرمة من الحلف الذي لا يترتب عليه شيء من ذلك. - وقد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في ذم اليمين الغموس وبيان أنها من الكبائر والترهيب من الإقدام عليها. منها: ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله صلي الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية. وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: «جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلي الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلي الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه. قال: يا رسول الله: إن الرجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع عن شيء. فقال: ليس له منه إلا يمينه. فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم لما أدبر: لئن حلف على مال ليأكله ظلما، ليلقين الله وهو عنه معرض. وقال الرسول صلي الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبد الله بن أنيس «من أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، والذي نفسي بيده لا يحلف رجل على مثل جناح بعوضة إلا كانت كيا في قلبه يوم القيامة. وعن جابر بن عتيك رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك. الترخيص في اليمين الغموس للضرورة: - إن حرمة اليمين الغموس هي الأصل، فإذا عرض ما يخرجها عن الحرمة لم تكن حراما، ويدل على هذا. (أولا) قوله تعالي من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم. فإذا كان الإكراه يبيح كلمة الكفر فإباحته لليمين الغموس أولى. (ثانيا) آيات الاضطرار إلى أكل الميتة وما شاكلها، كقوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم. فإذا أباحت الضرورة تناول المحرمات أباحت النطق بما هو محرم. - وإليك نصوص بعض المذاهب في بيان ما تخرج به اليمين الغموس عن الحرمة. (أ) قال الدردير في أقرب المسالك وشرحه، والصاوي في حاشيته ما خلاصته: لا يقع الطلاق على من أكره على الطلاق ولو ترك التورية مع معرفته بها، ولا على من أكره على فعل ما علق عليه الطلاق. وندب أو وجب الحلف ليسلم الغير من القتل بحلفه وإن حنث هو، وذلك فيما إذا قال ظالم: إن لم تطلق زوجتك، أو إن لم تحلف بالطلاق قتلت فلانا، قال ابن رشد: إن لم يحلف لم يكن عليه حرج، أي لا إثم عليه ولا ضمان، ومثل الطلاق: النكاح والإقرار واليمين. (ب) قال النووي: الكذب واجب إن كان المقصود واجبا، فإذا اختفى مسلم من ظالم، وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة، وسأل عنها ظالم يريد أخذها وجب عليه الكذب بإخفائها، حتى لو أخبره بوديعة عنده فأخذها الظالم قهرا وجب ضمانها على المودع المخبر، ولو استحلفه عليها لزمه أن يحلف، ويوري في يمينه، فإن حلف ولم يور حنث على الأصل وقيل: لا يحنث. (ج) وقال موفق الدين بن قدامة: من الأيمان ما هي واجبة، وهي التي ينجي بها إنسانا معصوما من هلكة، كما روي عن سويد بن حنظلة قال: «خرجنا نريد النبي صلي الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، فحلفت أنا: أنه أخي، فذكرت ذلك للنبي صلي الله عليه وسلم فقال النبي صلي الله عليه وسلم صدقت، المسلم أخو المسلم» فهذا ومثله واجب؛ لأن إنجاء المعصوم واجب، وقد تعين في اليمين فيجب، وكذلك إنجاء نفسه، مثل: أن تتوجه عليه أيمان القسامة في دعوى القتل عليه وهو بريء. الحكم المترتب على تمامها: - في الحكم المترتب على تمام الغموس ثلاثة آراء. الرأي الأول: أنها لا كفارة عليها سواء أكانت على ماض أم حاضر، وكل ما يجب إنما هو التوبة، ورد الحقوق إلى أهلها إن كان هناك حقوق، وهذا مذهب الحنفية. الرأي الثاني: أن فيها الكفارة، وهذا مذهب الشافعية، ويلاحظ أنهم في تعريف الغموس خصوها بالماضي، لكن من المعلوم أن إيجاب الكفارة في الحلف على الماضي يستلزم إيجابها في الحلف على الحاضر والمستقبل؛ لأن هم قالوا: إن كل ما عدا اللغو معقود. الرأي الثالث: التفصيل، وقد أوضحه المالكية بناء على توسعهم في معناها، فقالوا: من حلف على ما هو متردد فيه أو معتقد خلافه فلا كفارة عليه إن كان ماضيا، سواء أكان موافقا للواقع أم مخالفا، وعليه الكفارة إن كان حاضرا أو مستقبلا وكان في الحالين مخالفا للواقع. وإلى التفصيل ذهب الحنابلة أيضا، حيث اقتصروا في تعريف الغموس على ما كانت على الماضي، وشرطوا في كفارة اليمين أن تكون على مستقبل فيؤخذ من مجموع كلامهم أن الحلف على الكذب عمدا لا كفارة فيه إن كان على ماض أو حاضر، وفيه الكفارة إن كان على مستقبل. - احتج القائلون بوجوب الكفارة في الغموس بأنها مكسوبة معقودة، إذ الكسب فعل القلب، والعقد: العزم، ولا شك أن من أقدم على الحلف بالله تعالى كاذبا متعمدا فهو فاعل بقلبه وعازم ومصمم، فهو مؤاخذ. وقد أجمل الله عز وجل المؤاخذة في سورة البقرة فقال: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم. وفصلها في سورة المائدة، فقال: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين. على أن اليمين الغموس أحق بالتكفير من سائر الأيمان المعقودة؛ لأن ظاهر الآيتين، ينطبق عليها من غير تقدير، فإن الله عز وجل جعل المؤاخذة في سورة البقرة على الكسب بالقلب، وفي سورة المائدة على تعقيد الأيمان وإرادتها، وهذا منطبق أعظم انطباق على اليمين الغموس؛ لأن ها حانثة من حين إرادتها والنطق بها، فالمؤاخذة مقارنة لها، بخلاف سائر الأيمان المعقودة، فإنه لا مؤاخذة عليها إلا عند الحنث فيها، فهي محتاجة في تطبيق الآيتين عليها إلى تقدير، بأن يقال: إن المعنى: ولكن يؤاخذكم بالحنث فيما كسبت قلوبكم، وبالحنث في أيمانكم المعقودة، وكذلك قوله تعالي ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم معناه: إذا حلفتم وحنثتم. - واستدل الحنفية ومن وافقهم على عدم وجوب الكفارة في اليمين الغموس بما يأتي: أولا: قال الله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. ثانيا: ما رواه الأشعث بن قيس وعبد الله بن مسعود كل منهما عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان. ووجه الاستدلال بالآية والحديثين وما معناهما: أن هذه النصوص أثبتت أن حكم الغموس العذاب في الآخرة، فمن أوجب الكفارة فقد زاد على النصوص. ثالثا: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : «خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن، والفرار من الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق. حكم اليمين اللغو: - سبق بيان اختلاف المذاهب في تفسير يمين اللغو، فمن فسروها باليمين على الاعتقاد أو باليمين غير المقصودة ذهبوا إلى أنها لا إثم فيها من حيث ذاتها ولا كفارة لها. لكن لما فسرها المالكية بمعنى شامل للمستقبل قالوا: إنها تكفر إذا كانت على مستقبل وحنث فيها، كما لو حلف: أن يفعل كذا، أو ألا يفعل كذا غدا، وهو معتقد أن ما حلف على فعله سيحصل، وما حلف على عدم فعله لن يحصل، فوقع خلاف ما اعتقده وهم لا يخالفون الحنفية في ذلك، غير أن الحنفية لا يسمون الحلف على المستقبل لغوا كما تقدم. ومن فسروها باليمين على المعاصي اختلفوا، هل تكفر بالحنث أو لا تكفر؟ فمنهم من قال: لا كفارة لها، لقوله تعالي لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) لأن المراد أن الله عز وجل لا يؤاخذ من حلف على المعصية إذا لم ينفذ ما حلف عليه، وذلك أن التنفيذ حرام، واجتنابه واجب، فإذا اجتنبه فقد أدى ما عليه، فلا يطالب بكفارة. ومنهم من قال: يجب على الحالف الحنث، وإذا حنث وجبت عليه الكفارة؛ لأن قوله تعالي لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) يراد به أن الله عز وجل لا يؤاخذ من حلف على المعصية إذا حنث ولم ينفذ، فلا يعاقبه على هذا الحنث، بل يوجبه عليه، ويأمره به، فإذا حنث وجب عليه التكفير، عملا بقوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم. فإن المراد به: أن ما ذكر هو كفارة الأيمان مطلقا لغوا ومعقودة. وهذا كله في اليمين بالله تعالى، وأما اليمين بغيره فسيأتي الكلام على اللغو فيها. أحكام اليمين المعقودة: اليمين المعقودة لها ثلاثة أحكام: حكم الإتيان بها، وحكم البر والحنث فيها، والحكم المترتب على البر والحنث. وبيانها كما يلي: أ - حكم الإتيان بها: - قال الحنفية والمالكية: إن الأصل في اليمين بالله تعالى الإباحة، والإكثار منها مذموم. وهذا هو الحكم الأصلي لليمين، فلا ينافي أنه قد تعرض لليمين أمور تخرجها عن هذا الحكم، كما في المذاهب الآتية التي ذكرت الأحكام تفصيلا. وقال الشافعية: الأصل في اليمين الكراهة إلا في طاعة، أو لحاجة دينية، أو في دعوى عند حاكم، أو في ترك واجب على التعيين أو فعل حرام وهذا إجمال توضيحه فيما يلي: الأصل في اليمين الكراهة، لقوله تعالي ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس. وقوله عز وجل: . واحفظوا أيمانكم. ولحديث: «إنما الحلف حنث أو ندم. وقد يقال: إن الآية الأولى يحتمل أن يكون معناها: لا تجعلوا الحلف بالله حاجزا لما حلفتم على تركه من أنواع الخير، بناء على أن العرضة معناها: الحاجز والمانع، والأيمان معناها: الأمور التي حلفتم على تركها. ويحتمل أن يكون معناها: لا تجعلوا الله نصبا لأيمانكم، فتبذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل؛ لأن في ذلك نوع جرأة على الله تعالى. فالآية الأولى لا تدل على حكم الحلف، وعلى الاحتمال الثاني تدل على كراهة الإكثار، لا كراهة أصل الحلف. والآية الثانية: يحتمل أن يكون معناها طلب حفظ الأيمان المحلوفة عن الحنث، إذا كان الوفاء بها لا مانع منه، فتدل على كراهة الحنث أو حرمته، ولا شأن لها بالإقدام على الحلف، ويحتمل أن يكون معناها طلب حفظ الأيمان التي في القلوب عن الإظهار، فيكون المطلوب ترك الأيمان حذرا مما يترتب عليها من الحنث والكفارة، وعلى هذا يكون الإقدام على اليمين مكروها إلا لعارض يخرجه عن الكراهة إلى حكم آخر. والحديث المتقدم بعد الآيتين السابقتين ضعيف الإسناد كما يؤخذ من فيض القدير، وعلى فرض صحته فالحصر فيه إنما يصح فيمن يكثر الحلف من غير مبالاة، فيقع في بعض الأحيان في الحنث، وفي بعضها يأتي بما حلف عليه كارها له مستثقلا إياه، نادما على ما كان منه من الحلف. - ومذهب الحنابلة شبيه بمذهب الحنفية، إذ الأصل عندهم الإباحة، إلا أنهم فصلوا، فقالوا: تنقسم اليمين إلى واجبة، ومندوبة، ومباحة، ومكروهة، وحرام. فتجب لإنجاء معصوم من مهلكة، ولو نفسه، كأيمان قسامة توجهت على بريء من دعوى قتل. وتندب لمصلحة، كإزالة حقد وإصلاح بين متخاصمين ودفع شر وهو صادق فيها. وتباح على فعل مباح أو تركه، كمن حلف لا يأكل سمكا مثلا أو ليأكلنه، وكالحلف على الخبر بشيء هو صادق فيه، أو يظن أنه صادق. وتكره على فعل مكروه، كمن حلف ليصلين وهو حاقن أو ليأكلن بصلا نيئا ومنه الحلف في البيع والشراء؛ لقوله صلي الله عليه وسلم : «الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة» أو على ترك مندوب كحلفه لا يصلي الضحى. وتحرم على فعل محرم، كشرب خمر، أو على ترك واجب، كمن حلف لا يصوم رمضان وهو صحيح مقيم. ثم إن إباحتها على فعل مباح أو تركه ما لم تتكرر، فالتكرار خلاف السنة، فإن أفرط فيه كره، لقوله تعالي ولا تطع كل حلاف مهين. وهو ذم له يقتضي كراهة الإكثار. وهذا التقسيم لا تأباه المذاهب الأخرى. ب - حكم البر والحنث فيها: - اليمين المعقودة إما أن تكون على فعل واجب أو ترك معصية أو عكسهما، أو فعل ما هو أولى أو ترك ما تركه أولى أو عكسهما، أو فعل ما استوى طرفاه أو تركه. فاليمين على فعل واجب أو ترك معصية، كوالله لأصلين الظهر اليوم، أو لا أسرق الليلة، يجب البر فيها ويحرم الحنث، ولا خلاف في ذلك كما لا يخفى. واليمين على فعل معصية أو ترك واجب، كوالله لأسرقن الليلة أو لا أصلي الظهر اليوم يحرم البر فيها ويجب الحنث، وظاهر أنه لا خلاف في ذلك أيضا. لكن ينبغي التنبه إلى أن الحلف على المعصية المطلقة عن التوقيت يلزمه فيها العزم على الحنث؛ لأن الحنث فيها إنما يكون بالموت ونحوه. واليمين على فعل ما فعله أولى أو على ترك ما تركه أولى - كوالله لأصلين سنة الصبح أو لا ألتفت في الصلاة - يطلب البر فيها وهو أولى من الحنث. هكذا عبر الحنفية القدامى بالأولوية، وبحث الكمال بن الهمام في ذلك بأن لقوله تعالي واحفظوا أيمانكم. يدل على وجوب البر وعدم جواز الحنث، ورجح ذلك ابن عابدين وغيره. وقال الشافعية والحنابلة: يسن البر ويكره الحنث في هذه الحالة. واليمين على ترك ما فعله أولى، أو فعل ما تركه أولى - كوالله لا أصلي سنة الصبح أو لألتفتن في الصلاة - يطلب الحنث فيها وهو أولى من البر. هذا مذهب الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة: يسن الحنث في هذه الحالة ويكره البر. واليمين على فعل ما استوى طرفاه أو على تركه - كوالله لأتغدين هذا اليوم أو لا أتغدى هذا اليوم - يطلب البر فيها، وهو أولى من الحنث. هكذا قال الحنفية القدامى، ومقتضى بحث الكمال وجوب البر وعدم جواز الحنث. وقال الشافعية: البر أفضل، ما لم يتأذ بذلك صديقه، كمن حلف لا يأكل كذا، وكان صديقه يتأذى من ترك أكله إياه، فينعكس الحكم ويكون الحنث أفضل. ومقصود الشافعية بالأفضلية الأولوية، وهي الاستحباب غير المؤكد، ويقال لمقابلها خلاف الأولى أو خلاف الأفضل، وهو أقل من المكروه. وقال الحنابلة: يخير بين البر والحنث، والبر أولى، فمذهبهم كمذهب الشافعية. الحلف على الغير واستحباب إبرار القسم: - قد يحلف الإنسان على فعل أو ترك منسوبين إليه، نحو: والله لأفعلن أو لا أفعل، وهذا هو الغالب. وقد يحلف على فعل أو ترك منسوبين إلى غيره، كقوله: والله لتفعلن أو لا تفعل، وقوله: والله ليفعلن فلان كذا أو لا يفعله. وأحكام البر والحنث السابق ذكرها إنما هي فيمن حلف على فعل نفسه أو تركها. وأما من حلف على فعل غيره أو تركه، مخاطبا كان أو غائبا، فإنه يتفق حكم التحنيث والإبرار فيه مع حكم الحنث والبر السابقين في بعض الصور ويختلف في بعضها. أ - فمن حلف على غيره أن يفعل واجبا أو يترك معصية وجب إبراره؛ لأن الإبرار في هذه الحالة إنما هو قيام بما أوجبه الله أو انتهاء عما حرمه الله عليه. ب - ومن حلف على غيره أن يفعل معصية أو يترك واجبا لم يجز إبراره، بل يجب تحنيثه؛ لحديث: «لا طاعة لأحد في معصية الله تبارك وتعالى. ج - ومن حلف على غيره أن يفعل مكروها أو يترك مندوبا فلا يبره، بل يحنثه ندبا؛ لأن طاعة الله مقدمة على طاعة المخلوق. د - ومن حلف على غيره أن يفعل مندوبا أو مباحا، أو يترك مكروها أو مباحا فهذا يطلب إبراره على سبيل الاستحباب، وهو المقصود بحديث الأمر بإبرار القسم الذي رواه الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله صلي الله عليه وسلم بسبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام. وظاهر الأمر الوجوب، لكن اقترانه بما هو متفق على عدم وجوبه - كإفشاء السلام - قرينة صارفة عن الوجوب. ومما يدل على عدم الوجوب أيضا أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يبر قسم أبي بكر رضي الله عنه ، فقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنه حديثا طويلا يشتمل على رؤيا قصها أبو بكر رضي الله عنه وجاء في هذا الحديث «أنه قال لرسول الله بأبي أنت وأمي: أصبت أم أخطأت؟ فقال: أصبت بعضا وأخطأت بعضا. قال: فوالله لتحدثني بالذي أخطأت، قال: لا تقسم. فقوله صلي الله عليه وسلم «لا تقسم» معناه لا تكرر القسم الذي أتيت به؛ لأني لن أجيبك، ولعل هذا الصنيع من رسول الله صلي الله عليه وسلم لبيان الجواز، فإنه صلي الله عليه وسلم ا يفعل خلاف المستحسن إلا بقصد بيان الجواز، وهو يدل على أن الأمر في الحديث السابق ليس للوجوب، بل للاستحباب. ج - الحكم المترتب على البر والحنث: - اليمين المعقودة إذا بر فيها الحالف لم تلزمه كفارة كما لا يخفى، وإذا حنث - بأن انتفى ما أثبته أو ثبت ما نفاه - لزمته الكفارة، سواء أكان حالفا على فعل معصية أو ترك واجب أم لا، وسواء أكان كاذبا عمدا أو خطأ أم لا، وسواء أكان قاصدا للحلف أم لا. هذا مذهب الحنفية ومن وافقهم، فهم يوجبون الكفارة على من حنث في اليمين بالله تعالى على أمر مستقبل ليس مستحيلا عقلا عند أبي حنيفة ومحمد، وليس مستحيلا عادة أيضا عند زفر، سواء أكان الحالف قاصدا أم غير قاصد، وكذا من حلف بتعليق الكفر. - والمالكية يخالفون الحنفية في أمور: أحدها: أنهم يوجبون الكفارة في الغموس إذا كانت على أمر حاضر أو مستقبل، والحنفية لا يوجبون الكفارة فيها إلا إذا كانت على أمر مستقبل ممكن عقلا. ثانيها: أنهم يوجبون الكفارة في الحلف على المستقبل المستحيل عقلا إن كان عالما باستحالته أو مترددا فيها، والحنفية لا يوجبونها مطلقا. ثالثها: أنهم يفصلون في اليمين غير المقصودة، فيقولون: من أراد النطق بكلمة فنطق باليمين بدلها لخطأ لسانه لم تنعقد، ومن أراد النطق بشيء فنطق معه باليمين زيادة بغير قصد كانت كاليمين المقصودة، فيكفرها إن كانت مستقبلية مطلقا، وكذا إن كانت غموسا حاضرة، والحنفية لم نر لهم تفصيلا في غير المقصودة، فقد أطلقوا القول بعدم اشتراط القصد. رابعها: أنهم لا يقولون بالكفارة في تعليق الكفر، والحنفية يجعلونه كناية عن اليمين بالله تعالى، فيوجبون الكفارة فيه إن كان على أمر مستقبل غير مستحيل عقلا. وليس المقصود بالكناية أنها تحتاج إلى النية، وإنما المقصود أنها لفظ أطلق وأريد لازم معناه، كما يقول علماء البلاغة. - والشافعية يخالفون في أمور: أحدها: أنهم يوجبون الكفارة في الغموس على ماض، ويلزم من ذلك إيجابها في الغموس على حاضر ومستقبل، فإن الغموس عندهم منعقدة مطلقا. ثانيها: أنهم يوجبون الكفارة في الحلف على المستحيل عقلا، ماضيا كان أو حاضرا أو مستقبلا، إلا إن كانت اليمين غير مقصودة، أو كان جاهلا بالاستحالة. ثالثها: أنهم يقولون: إن اليمين غير المقصودة تعد لغوا مطلقا، سواء أكان معنى عدم القصد خطأ اللسان، أم كان معناه سبق اللسان إلى النطق بها، فلا كفارة فيها ولو على مستقبل. ويقولون فيمن حلف على غير الواقع، جاهلا بمخالفته للواقع: لا تنعقد يمينه. سواء أكان المحلوف عليه ماضيا أم حاضرا أم مستقبلا، إلا إذا قصد أن المحلوف عليه هو كما حلف عليه في الواقع ونفس الأمر، فتجب فيه الكفارة حينئذ. رابعها: أنهم لا يوجبون الكفارة في تعليق الكفر مطلقا. ونقل ابن قدامة عن قوم من فقهاء السلف أن من حلف على معصية فالكفارة ترك المعصية، ومعنى هذا: أن اليمين على المعصية تنعقد ويجب الحنث، وليس فيها الكفارة المعهودة. الحنث في اليمين معناه وما يتحقق به: - أما معناه فهو: مخالفة المحلوف عليه، وذلك بثبوت ما حلف على عدمه، أو عدم ما حلف على ثبوته. وأما ما يتحقق به فيختلف باختلاف المحلوف عليه، وإليك البيان. المحلوف عليه إما ماض أو حاضر أو مستقبل. - أما الماضي: فالحنفية والمالكية والحنابلة ومن وافقهم لا يعتبرون اليمين عليه معقودة أصلا، فلا حنث فيها بالكذب عمدا أو خطأ. وأما الشافعية ومن وافقهم فيعتبرون اليمين عليه معقودة إذا كان الحالف كاذبا عمدا، وحينئذ يكون الحنث مقارنا للانعقاد، وتجب الكفارة من حين تمام الإتيان بها. - وأما الحاضر: فهو كالماضي، إلا أن المالكية متفقون مع الفريق الثاني القائل بانعقاد اليمين عليه إن كان الحالف كاذبا عمدا، ثم إنهم توسعوا فضموا إلى الكذب العمد ما تردد فيه المتكلم، بأن حلف على ما يظنه ظنا ضعيفا، أو يشك فيه، أو يظن نقيضه ظنا ضعيفا، وسبق ذلك في تعريف الغموس وحكمها. - وأما المستقبل: فاليمين عليه إن وجدت فيها شرائط الانعقاد، فأما أن تكون على نفي أو إثبات، وكل منهما إما مطلق وإما مقيد بوقت. أما اليمين على النفي المطلق: فالحنث فيها يتحقق بثبوت ما حلف على نفيه، سواء أكان ذلك عقب اليمين أم بعده بزمان قصير أو طويل، وهل يمنع الحنث نسيان أو خطأ في الاعتقاد، أو خطأ لساني أو جنون أو إغماء أو إكراه؟ وهل يحنث بالبعض إذا كان المحلوف عليه ذا أجزاء أو لا يحنث إلا بالجميع؟ كل ذلك محل خلاف يعلم مما يأتي في شرائط الحنث. - وأما اليمين على النفي المؤقت: فالحنث فيها يتحقق بحصول الضد في الوقت، لا بحصوله قبله أو بعد تمامه. وفي النسيان ونحوه الخلاف الذي سبقت الإشارة إليه. - وأما اليمين على الإثبات المطلق: فالحنث فيها يتحقق باليأس من البر، إما بموت الحالف قبل أن يفعل ما حلف على فعله، وإما بفوت محل المحلوف عليه، كما لو قال: والله لألبسن هذا الثوب، فأحرقه هو أو غيره. هذا مذهب الحنفية، وفصل غيرهم في فوت المحل بين ما كان باختيار الحالف وما كان بغير اختياره، فما كان باختياره يحنث به، وما كان بغير اختياره ففيه تفصيل يعلم من شرائط الحنث. وذهب المالكية إلى أن الحنث في هذه الحالة - وهي الحلف على الإثبات المطلق - يحصل أيضا بالعزم على الضد، وذلك بأن ينوي عدم الإتيان بالمحلوف ما دام حيا، وهذا الحنث محتم لا يزول بالرجوع عن العزم على قول ابن المواز وابن شاس وابن الحاجب والقرافي، وهو ظاهر كلام خليل في مختصره والدردير في أقرب المسالك واعتمده البناني، خلافا للقائلين بالتفصيل بين الطلاق وغيره، حيث ذهبوا إلى أن الحلف بالطلاق على الإثبات المطلق يحنث فيه بالعزم على الفوات، والحلف بالعتق وبالقربة وبالله تعالى لا يحنث الحالف بها بالعزم المذكور إلا إذا استمر عليه، فإن رجع عن عزمه رجعت اليمين كما كانت، ولم يحنث إلا بالفوات. وهذا الذي ذهب إليه المالكية لم يوافقهم عليه أحد من أهل المذاهب الأخرى. - وأما اليمين على الإثبات المؤقت: فالحنث فيها يتحقق باليأس من البر في الوقت، إن كان الحالف والمحلوف عليه قائمين، كأن قال: والله لآكلن هذا الرغيف اليوم، فغربت الشمس وهو حي والرغيف موجود ولم يأكله. وإن مات الحالف في الوقت ولم يفت محل المحلوف عليه لم يعتبر حانثا بالموت ولا بمضي الوقت بعده عند الحنفية جميعا؛ لأن هم يرون أن الحنث إنما يقع في آخر أجزاء الوقت في اليمين المؤقتة، والحالف ميت في هذا الجزء الأخير، ولا يوصف الميت بالحنث، ويحنث عند غيرهم على تفصيل يعلم من شرائط الحنث. وإن فات محل المحلوف عليه في الوقت، كأن أكل الرغيف إنسان آخر، ولم يمت الحالف، لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر لأن هم يشترطون إمكان البر، خلافا لأبي يوسف، حيث قال بالحنث في هذه الحالة؛ لأن ه لا يشترط هذه الشريطة. واختلفت الرواية عنه في وقت الحنث: فروي عنه أنه لا يحنث إلا آخر الوقت، وروي عنه أنه يحنث في الحال - أي حال فوت محل المحلوف عليه - وهذه الرواية الثانية هي الصحيحة عنه. وفي المذاهب الأخرى تفصيل بين فوت المحل باختيار الحالف، وفوته بغير اختياره، وبين حصول الفوت أول الوقت، أو بعد أوله، مع التفريط أو عدمه، وكل ذا يعلم من الشرائط الآتية. - ومما ينبغي التنبه إليه أن المؤقتة إذا لم يبدأ وقتها من حين الحلف فمات الحالف، أو فات المحل قبل بدء الوقت فلا حنث في الصورتين، وخالف الحنابلة في الثانية، فقالوا بالحنث فيها، وذلك كما لو قال: والله لأشربن ماء هذا الكوب غدا، فمات هو أو شرب الماء إنسان آخر قبل فجر الغد، فإنه لا يعد حانثا في الحالين عند الأكثرين. ومما ينبغي التنبه له أيضا: أن التوقيت في اليمين المؤقتة يشمل التوقيت نصا، والتوقيت دلالة، كما لو قيل لإنسان: أتدخل دار فلان اليوم؟ فقال: والله لأدخلنها، أو والله لا أدخلها، فالمحلوف عليه مؤقت باليوم دلالة؛ لوقوعه جوابا عن السؤال المحتوي على قيد التوقيت باليوم، وهذا من يمين الفور، وسيأتي بيانها والخلاف فيها. شرائط الحنث: - الجمهور القائلون بأن الحنث هو السبب الوحيد، أو ثاني السببين للكفارة، أو شريطة لها، لم يصرحوا بشرائط للحنث، وإنما ذكروا أمورا يختلف الرأي فيها، إذا كان الحنث فعلا أو تركا، ومن هذه الأمور: العمد والطواعية والتذكر والعقل. وقد سبق أن الحنفية لا يشترطون في الحلف الطواعية ولا العمد، وهم لا يشترطونهما في الحنث أيضا، وكذلك لا يشترطون فيه التذكر ولا العقل، فمن حلف أو حنث مخطئا أو مكرها وجبت عليه الكفارة. وكذا من حلف ألا يفعل شيئا ففعله وهو ذاهل أو ساه أو ناس أو مجنون أو مغمى عليه فعليه الكفارة. فإن لم يفعل المحلوف عليه، بل فعله به غيره قهرا عنه لم يحنث، كما لو حلف ألا يشرب هذا الماء، فصبه إنسان في حلقه قهرا؛ لأن ه في هذه الحالة ليس شاربا، فلم يفعل ما حلف على الامتناع منه. ومن أمثلة النسيان في الحنث: ما لو قال إنسان: والله لا أحلف، ثم حلف ناسيا لهذه اليمين، فإنه يجب عليه كفارة بهذا الحلف الثاني من حيث كونه حنثا في اليمين الأولى، ثم إذا حنث في هذه اليمين الثانية وجبت عليه كفارة أخرى على القول بعدم تداخل الكفارات وسيأتي الخلاف في ذلك. وقال المالكية: إن اليمين إما يمين بر، نحو والله لا أفعل كذا، وإما يمين حنث، نحو والله لأفعلن كذا. - أما يمين البر: فيحنث فيها بفعل ما حلف على تركه - وكذا بفعل بعضه إن كان ذا أجزاء - عمدا أو نسيانا أو خطأ قلبيا، بمعنى اعتقاد أنه غير المحلوف عليه، وإنما يحنث بها إذا لم يقيد يمينه بالعمد أو العلم، فإن قيدها بالعمد، بأن قال: لا أفعله عمدا، لم يحنث بالخطأ، وإن قيد بالعلم، بأن قال: لا أفعله عالما، أو لا أفعله ما لم أنس لم يحنث بالنسيان. ولا يحنث في يمين البر بالخطأ اللساني، كما لو حلف: لا يذكر فلانا، ثم سبق لسانه بذكر اسمه، وكذا لا يحنث فيها بالإكراه على فعل ما حلف على الامتناع منه، وذلك بقيود ستة: أ - ألا يعلم أنه يكره على الفعل. ب - ألا يأمر غيره بإكراهه له ج - ألا يكون الإكراه شرعيا. د - ألا يفعل ثانيا طوعا بعد زوال الإكراه. ه - ألا يكون الحلف على شخص بأنه لا يفعل كذا، والحالف هو المكره له على فعله. و - ألا يقول في يمينه: لا أفعله طائعا ولا مكرها. فإن وجد واحد من هذه الستة حنث بالإكراه ووجبت الكفارة. - وأما يمين الحنث: فيحنث فيها بالإكراه على ترك المحلوف عليه حتى يفوت، كما لو قال: والله لأدخلن دار زيد غدا، فمنع من دخولها بالإكراه حتى غربت شمس الغد، فإنه يحنث. ويؤخذ من هذا: أنه يحنث أيضا بالترك ناسيا ومخطئا، بأن لم يتذكر الحلف من الغد، أو تذكره ودخل دارا أخرى يعتقد أنها الدار المحلوف عليها، ولم يتبين له الحال حتى مضى الغد. وإذا فات المحلوف عليه في يمين الحنث بمانع، فإما أن يكون المانع شرعيا أو عاديا أو عقليا. - فإن كان المانع شرعيا حنث بالفوات مطلقا، سواء أتقدم المانع على الحلف ولم يعلم به أم تأخر، وسواء أفرط فيه حتى فات أم لا، وسواء أكانت اليمين مؤقتة أم لا. مثال ذلك: ما لو حلف أن يباشر زوجته غدا فطرأ الحيض، أو تبين أنه كان موجودا قبل الحلف ولم يعلم به، فيحنث عند مالك وأصبغ خلافا لابن القاسم، فإن لم يقيد بالغد لم يحنث، بل ينتظر حتى تطهر فيباشرها. - وإن كان المانع عاديا، فإن تقدم على اليمين ولم يعلم به فحلف لم يحنث مطلقا، أقت أم لا، فرط أم لا، وإن تأخر حنث مطلقا، خلافا لأشهب حيث قال بعدم الحنث. مثال ذلك: أن يحلف ليذبحن هذا الكبش، أو ليلبسن هذا الثوب، أو ليأكلن هذا الطعام، فسرق المحلوف عليه أو غصب، أو منع الحالف من الفعل بالإكراه، أو تبين أنه سرق قبل اليمين أو غصب ولم يكن يعلم بذلك عند الحلف. ومحل الحنث من المانع الشرعي والمانع العادي، إذا أطلق الحالف اليمين فلم يقيد بإمكان الفعل ولا بعدمه، أو قيد بالإطلاق، كأن قال: لأفعلن كذا وسكت، أو لأفعلن كذا قدرت عليه أم لا، فإن قيد بالإمكان فلا حنث، بأن قال: لأفعلنه إن أمكن، أو ما لم يمنع مانع. - وإن كان المانع عقليا، فإن تقدم ولم يكن قد علم به لم يحنث مطلقا كما في المانع العادي، وإن تأخر فإما إن تكون اليمين مؤقتة أو غير مؤقتة. فإن كانت مؤقتة، وفات المحلوف عليه قبل ضيق الوقت، لم يحنث إن حصل المانع عقب اليمين، وكذا إن تأخر ولم يكن قد فرط، فإن تأخر مع التفريط حنث. مثال ذلك: ما لو حلف ليذبحن هذا الحمام أو ليلبسن هذا الثوب، فمات الحمام أو أحرق الثوب وكان قد أطلق اليمين، أو أقت بقوله: هذا اليوم، أو هذا الشهر مثلا. وصورة تقدم المانع: أن يكون غائبا عن المنزل مثلا، فيقول: والله لأذبحن الحمام الذي بالمنزل، أو لألبسن الثوب الذي في الخزانة، ثم يتبين له بعد الحلف موت الحمام أو احتراق الثوب قبل أن يحلف. وقال الشافعية: لا يحنث من خالف المحلوف عليه جاهلا أو ناسيا أو مكرها أو مقهورا، ولا تنحل اليمين في جميع هذه الصور، ولا يحنث أيضا إن تعذر البر بغير اختياره. ومن أمثلة الجهل: ما لو حلف لا يسلم على زيد، فسلم عليه في ظلمة وهو لا يعرف أنه زيد، وما لو حلف لا يدخل على بكر، فدخل دارا هو فيها ولم يعلم أنه فيها. وأمثلة النسيان والإكراه ظاهرة. ومثال القهر: ما لو حلف: لا يدخل دار خالد، فحمل وأدخل قهرا، ويلحق به من حمل بغير أمره ولم يمتنع؛ لأن ه لا يسمى داخلا، بخلاف من حمل بأمره فإنه يحنث لأن ه يسمى داخلا، كما لو ركب دابة ودخل بها. ومن صور تعذر البر بغير اختياره، ما لو قال: والله لآكلن هذا الطعام غدا، فتلف الطعام بغير اختيار الحالف، أو مات الحالف قبل فجر الغد، فإنه لا يحنث، بخلاف ما لو تلف باختياره، فإنه يحنث، وفي وقت حنثه خلاف، فقيل: هو وقت التلف، وقيل: هو غروب شمس الغد، والراجح أن الحنث يتحقق بمضي زمن إمكان الأكل من فجر الغد. ومن صور الفوت بغير اختياره: ما لو تلف في الغد بغير اختياره، أو مات في الغد قبل التمكن من أكله. وقالوا أيضا: لو حلف لا يأكل هذين الرغيفين، أو لا يلبس هذين الثوبين، أو ليفعلن ذلك، تعلق الحنث والبر بالمجموع ولو متفرقا، وكذا لو عطف بالواو نحو: لا أكلم زيدا وعمرا، أو لا آكل اللحم والعنب، أو لأكلمن زيدا وعمرا، أو لآكلن اللحم والعنب، فإن الحنث والبر يتعلق بهما، فلا يحنث في المثالين الأولين، ولا يبر في المثالين الأخيرين إلا بفعل المجموع ولو متفرقا. . - ويستثنى في حالة النفي ما لو كرر حرف النفي، كأن قال: والله لا أكلم زيدا ولا عمرا. فإنه يحنث بتكليم أحدهما، وتبقى اليمين، فيحنث حنثا ثانيا بتكليم الثاني. وإن قال: لا أكلم أحدهما أو واحدا منهما وأطلق، حنث بكلام واحد وانحلت اليمين. وإن قال: لا آكل هذه الرمانة فأكلها إلا حبة لم يحنث، أو قال: لآكلن هذه الرمانة، فأكلها إلا حبة لم يبر. وخرج بالحبة: القشر ونحوه مما لا يؤكل من الرمانة عادة. والحنابلة يوافقون الشافعية في كل ما سبق، ما عدا تفويت البر، فقد قالوا: لو حلف إنسان ليشربن هذا الماء غدا، فتلف قبل الغد أو فيه حنث، ولا يحنث بجنونه أو إكراهه قبل الغد مع استمرار ذلك إلى خروج الغد، ولا يحنث أيضا بموته قبل الغد. ولو حلف ليشربن هذا الماء اليوم أو أطلق، فتلف قبل مضي وقت يسع الشرب لم يحنث، بخلاف ما لو تلف بعد مضي ذلك الوقت فإنه يحنث، وقيل: يحنث في الحالين. بيان الكفارة: كفارة اليمين بالله تعالى إذا حنث فيها وهي منعقدة قد ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز حيث قال( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) فقد بينت الآية الكريمة أن كفارة اليمين المعقودة واجبة على التخيير ابتداء، والترتيب انتهاء، فالحالف إذا حنث وجب عليه إحدى خصال ثلاث: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإذا عجز عن الثلاث وجب عليه صيام ثلاثة أيام. ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك؛ لأن ه نص قرآني قاطع، غير أن في التفاصيل اختلافات منشؤها الاجتهاد، وموضع بسطها (الكفارات). هل تتعدد الكفارة بتعدد اليمين؟ - لا خلاف في أن من حلف يمينا فحنث فيها وأدى ما وجب عليه من الكفارة أنه لو حلف يمينا أخرى وحنث فيها تجب عليه كفارة أخرى، ولا تغني الكفارة الأولى عن كفارة الحنث في هذه اليمين الثانية. وإنما الخلاف فيمن حلف أيمانا وحنث فيها، ثم أراد التكفير، هل تتداخل الكفارات فتجزئه كفارة واحدة؟ أو لا تتداخل فيجب عليه لكل يمين كفارة؟ فإن الكفارات تتداخل على أحد القولين عند الحنفية وأحد الأقوال عند الحنابلة، ولا تتداخل عند المالكية ولا الشافعية. وتفصيل ذلك في (الكفارات). ومثل الحلف بالله الحلف بالنذور، ومثله أيضا الحلف بالطلاق عند ابن تيمية، كما لو قال: إن فعلت كذا فأنت طالق، قاصدا المنع، أو يلزمني الطلاق إن فعلت كذا. أحكام اليمين التعليقية حكم تعليق الكفر: - سبق بيان الخلاف في أن تعليق الكفر على ما لا يريده الإنسان يعتبر يمينا أو لا يعتبر. فالقائلون بعدم اعتباره يمينا لا يرتبون على الحنث فيه كفارة، فيستوي عندهم أن يبر فيه وأن يحنث، لكنهم يذكرون حكم الإقدام عليه. والقائلون باعتباره يمينا يجعلونه في معنى اليمين بالله تعالى. وفي البدائع ما خلاصته: أن الحلف بألفاظ الكفر يمين استحسانا؛ لأن ه متعارف بين الناس، فإنهم يحلفون بهذه الألفاظ من عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير. ولو لم يكن ذلك حلفا شرعيا لما تعارفوه؛ لأن الحلف بغير الله تعالى معصية، فدل تعارفهم على أنهم جعلوا ذلك كناية عن الحلف بالله عز وجل وإن لم يعقل وجه الكناية. وقال إبراهيم الحلبي ما خلاصته: يمكن تقرير وجه الكناية، بأن يقال مقصود الحالف بهذه الصيغة الامتناع عن الشرط، وهو يستلزم النفرة عن الكفر بالله تعالى، وهي تستلزم تعظيم الله، كأن قال: والله العظيم لا أفعل كذا. وبناء على ذلك يكون كاليمين بالله تعالى في شرائط انعقاده وبقائه، وفي تقسيمه إلى غموس ولغو ومنعقد، وفي أحكام الإقدام عليه والبر والحنث فيه وما يترتب على الحنث. غير أنه لما كان فيه نسبة الكفر إلى المتكلم معلقة على شرط أمكن القول بأنه تارة يحكم عليه بالكفر، وتارة لا، وإذا حكم عليه بالكفر عند النطق لم يكن منعقدا عند الحنفية؛ لأن هم يشترطون الإسلام في انعقاد اليمين بالله تعالى فكذلك يشترطونه في انعقاد تعليق الكفر، وإذا حكم عليه بالكفر بمباشرة الشرط بعد الحلف بطل عندهم بعد انعقاده، كما تبطل اليمين بالله بعد انعقادها إذا كفر قائلها، وقد تقدم ذلك. حكم الإقدام عليه: - معلوم أن من نطق بكلمة الكفر منجزة يكون كافرا حالا متى توفرت شرائط الردة، ومن علقها على أمر بغير قصد اليمين يكون كافرا في الحال أيضا وإن كان ما علقها عليه مستقبلا؛ لأن الرضى بالكفر ولو في المستقبل ارتداد عن الإسلام في الحال، وذلك كأن يقول إنسان: إذا كان الغد فهو يهودي، أو إذا شفاه الله على يد هذا النصراني فهو نصراني. وأما من علق الكفر بقصد اليمين فالأصل فيه أنه لا يكفر، سواء أعلقه على ماض أم حاضر أم مستقبل، وسواء أكان كاذبا أم لم يكن؛ لأن ه إنما يقصد المنع من الشرط أو الحث على نقيضه أو الإخبار بنقيضه - وإن لم يكن حقا - ترويجا لكذبه. فمن قال: إن كلمت فلانة، أو إن لم أكلمها فهو بريء من الإسلام، فمقصوده منع نفسه من التكليم في الصورة الأولى أو حث نفسه عليه في الصورة الثانية حذرا من الكفر، فلا يكون راضيا بالكفر، ومن قال: إن لم أكن اشتريت هذا بدينار فهو يهودي، وأراد بهذا حمل المخاطب على تصديق ما ادعاه وكان كاذبا عمدا لا يكون راضيا بالكفر؛ لأن ه إنما أراد ترويج كذبه بتعليق الكفر على نقيضه. هذا هو الأصل، ولكن قد يكون المتكلم جاهلا، فيعتقد أن الحلف بصيغة الكفر كفر، أو يعتقد أنه يكفر بإقدامه على ما حلف على تركه أو إحجامه عما حلف على فعله. ففي الصورة الأولى يعتبر كافرا بمجرد الحلف لأن ه تكلم بما يعتقده كفرا، فكان راضيا بالكفر حالا. وفي الصورتين الثانية والثالثة يكفر بالإقدام على ما حلف على تركه والإحجام عما حلف على فعله؛ لأن ه عمل عملا يعتقده كفرا، فكان راضيا بالكفر، ولا يكفر بمجرد النطق باليمين في هاتين الصورتين إلا إذا كان حين النطق عازما على الحنث؛ لأن العزم على الكفر كفر. - وصفوة القول أن الحلف بالكفر لا يعد كفرا، إلا إذا كان قائله راضيا بالكفر، وهذا هو الأصح عند الحنفية في الغموس وغيرها، ويقابله رأيان في الغموس - أي الحلف على الكذب العمد. أحدهما: أنه لا يكفر وإن اعتقد الكفر. ثانيهما: أنه يكفر وإن لم يعتقد الكفر. ووجه الأول: أنه لا يلزم من اعتقاد الكفر الرضى به، فكم من إنسان يقدم على ما يعتقده كفرا لغرض دنيوي، وقلبه مطمئن بالإيمان. والحالف غرضه ترويج كذبه أو إظهار امتناعه، فهو حينما ينطق بما يعتقده كفرا إنما يأتي به صورة محضة خالية من الرضى بالكفر. ووجه الثاني: أن الحالف لما علق الكفر بأمر محقق كان تنجيزا في المعنى، كأنه قال ابتداء: هو كافر، ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين أنه صلي الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال. حكم الإقدام على تعليق الكفر في بقية المذاهب: - قال المالكية: يحرم تعليق الكفر بقصد الحلف، ولا يرتد إن فعل المحلوف عليه، وليتب إلى الله مطلقا، سواء أفعله أم لم يفعله، لأن ه ارتكب ذنبا. فإن قصد الإخبار عن نفسه بالكفر كان ردة، ولو كان ذلك هزلا وقال الشافعية: يحرم تعليق الكفر الذي يقصد به اليمين عادة، ولا يكفر به إذا قصد تبعيد نفسه عن المحلوف عليه أو أطلق، فإن قصد حقيقة التعليق، أو قصد الرضى بالكفر كفر من فوره، دون توقف على حصول المعلق عليه، إذ الرضى بالكفر كفر، ثم إن كفر وجبت عليه التوبة والعودة إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين، وإن لم يكفر وجبت عليه التوبة أيضا، وندب له أن يستغفر الله عز وجل كأن يقول: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. وندب له أن ينطق بالشهادتين. ومن مات أو غاب وتعذرت مخاطبته، وكان قد علق الكفر ولم يعرف قصده، فمقتضى كلام الأذكار للنووي أنه لا يحكم بكفره، وهذا هو الراجح، خلافا لما اعتمده الإسنوي من الحكم بكفره إذا لم تكن هناك قرينة تصرفه عن الكفر. وعند الحنابلة: يحرم الإقدام على اليمين بالكفر، سواء أكان بصورة التعليق نحو: إن فعل كذا فهو يهودي، أم بصورة القسم نحو: هو يهودي ليفعلن كذا. وإن قصد أنه يكفر عند وجود الشرط كفر منجزا. حكم البر والحنث فيه: - إذا قصد بتعليق الكفر تأكيد خبر، فإن كان صادقا كان الحالف بارا، وإن كان كاذبا كان الحالف حانثا، والبر في الصورة الأولى، والحنث في الصورة الثانية مقارنان لتمام اليمين، فلا حكم لهما سوى حكم الإقدام. وإنما يكون للبر والحنث حكم مستقل إذا كان المقصود تأكيد الحث أو المنع، فإنهما حينئذ يكونان متأخرين. والخلاصة: أن تعليق الكفر بقصد اليمين إن كان صادقا أو غموسا أو لغوا فليس للبر في الأول والحنث في الأخيرين حكم سوى حكم الإقدام على التعليق. وإن كان منعقدا، فحكم البر والحنث فيه هو حكم البر والحنث في اليمين بالله تعالى المنعقدة، وقد سبق بيانه واختلاف الفقهاء فيه تفصيلا. ما يترتب على الحنث فيه: - سبق أن الفقهاء اختلفوا في تعليق الكفر بقصد اليمين، أهو يمين شرعية أم لا؟ فمن قال: إنه ليس بيمين قال: لا تجب الكفارة بالحنث فيه، ومن قال: إنه يمين قال: إنما تجب الكفارة بالحنث فيه إن كان منعقدا، فإن كان لغوا لم تجب فيه كفارة، وإن كان غموسا ففيه الخلاف الذي في اليمين الغموس بالله تعالى. أحكام تعليق الطلاق والظهار والحرام والتزام القربة: مقارنة بينها وبين اليمين بالله تعالى: - سبق أن تعليق الكفر في معنى اليمين بالله تعالى، وأنه بناء على ذلك يعتبر فيه ما يعتبر فيها من شرائط وأقسام وأحكام. وليس لبقية التعليقات هذه الصفة، فهي تخالف اليمين بالله تعالى في أمور: الأمر الأول: أنها تعتبر من قبيل الحلف بغير الله، فينطبق عليه حديث النهي عن الحلف بغير الله، بخلاف تعليق الكفر فقد قرر الحنفية أنه كناية عن اليمين بالله تعالى، فلا يكون منهيا عنه لذاته، لكنهم قرروا أيضا أن يمين الطلاق والعتاق إذا كانت للاستيثاق جازت على الأصح كما تقدم. الأمر الثاني: أنها لا تنقسم عند الحنفية والمالكية إلى غموس ولغو ومنعقدة، بل تعتبر كلها منعقدة، سواء أقصد بها تأكيد خبر أم تأكيد حث أو منع، فمن حلف بالطلاق ونحوه كاذبا متعمدا وقع طلاقه، وكذا من كان معتقدا أنه صادق وكان مخطئا في اعتقاده لأن الطلاق والعتق والتزام القربة يستوي فيها الهزل والجد؛ لحديث: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة. ويقاس بالطلاق العتاق والتزام القربة، فإذا كان هزل هذه الثلاثة جدا، فالكذب في الحلف بها يكون جدا أيضا، وكان القياس أن تكون اليمين بالله تعالى كذلك؛ لأن هزلها جد أيضا كما سبق، لكن لم يلحق فيها الغموس واللغو بالهزل لأدلة أخرجتهما. الأمر الثالث: أن هذه التعليقات يقع جزاؤها عند الجمهور بوقوع الشرط، فتعليق الطلاق يقع به الطلاق عند تحقق ما علق عليه، وكذا تعليق العتاق، وأما تعليق التزام القربة فيخير الحالف به بين ما التزمه وبين كفارة اليمين، وهناك أقوال غير ذلك سبق بيانها. حكم الإقدام عليه: - يرى الحنفية أن الحلف بغير الله تعالى لا يجوز ويدخل في ذلك عندهم الإقسام بغير الله تعالى، نحو «وأبي»، كما يدخل الحلف بالطلاق ونحوه من التعليقات، لكنهم استثنوا من ذلك تعليق الكفر، فقد جعلوه كناية عن اليمين بالله تعالى كما تقدم، واستثنوا أيضا تعليق الطلاق والعتاق بقصد الاستيثاق، فأجازوه لشدة الحاجة إليه خصوصا في زماننا هذا، كما تقدم. وصرح الحنابلة بكراهة الحلف بالطلاق والعتاق ولمعرفة باقي المذاهب في ذلك يرجع إليها في مواضع هذه التصرفات من كتب الفقه. حكم البر والحنث فيه: - إذا قصد بشيء من هذه التعليقات تأكيد خبر، وكان صادقا في الواقع، لم يتصور فيها حنث؛ لأن ها مبرورة حين النطق بها، وليس للبر فيها حكم سوى حكم الإقدام عليها. وإن كان كاذبا في الواقع لم يتصور فيها بر؛ لأن الحنث مقارن لتمام الإتيان بها، وليس له حكم سوى حكم الإقدام عليها. وإن قصد بشيء منها تأكيد الحث أو المنع، فحكم البر والحنث فيها هو حكم الحنث والبر في اليمين بالله تعالى المنعقدة، فيختلف باختلاف المحلوف عليه وما يؤدي إليه، وقد سبق بيانه وبيان الاختلاف فيه، كما سبق حكم الإبرار إن كان حلفا على الغير. ما يترتب على الحنث فيه: - يرى الجمهور أن الحنث في هذه التعليقات يترتب عليه حصول الجزاء، إلا تعليق التزام القربة، فإنه عند الحنث بتحقق الشرط يتخير الحالف بين ما التزمه وبين كفارة اليمين. انحلال اليمين: اليمين إما مؤكدة للخبر الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وإما مؤكدة للحث أو المنع. - فالمؤكدة للخبر: إن كان ماضيا أو حاضرا فهي منحلة من حين النطق بها، سواء أكانت صادقة أم غموسا أم لغوا؛ لأن البر والحنث والإلغاء يقتضي كل منها انحلال اليمين. وإن كان مستقبلا صدقا يقينا فهي منحلة أيضا من حين النطق بها، نحو: والله لأموتن، أو ليبعثن الله الخلائق؛ لأن ها بارة من حين النطق بها، ولا يتوقف برها على حصول الموت والبعث. وإن كان مستقبلا كذبا عمدا، كقول القائل: والله لأشربن ماء هذا الكوز، وهو يعلم أنه لا ماء فيه، فهي غموس، وقد سبق الخلاف في انعقادها: فمن قال بانعقادها يقول: إن الحنث قارن الانعقاد فوجبت الكفارة وانحلت، ومن قال بعدم انعقادها قال: إنها لا حاجة بها إلى الانحلال كما لا يخفى. وإن كان مستقبلا كذبا خطأ، بأن كان الحالف يعتقده صدقا، فحكمها عند الشافعية وابن تيمية حكم اللغو، فهي منحلة من حين انعقادها، أو غير منعقدة أصلا، وعند غيرهم حكمها حكم اليمين على الحث والمنع وسيأتي قريبا. - والمؤكدة للحث أو المنع تنحل بأمور: الأول: الردة - والعياذ بالله تعالى - وهي تحل اليمين بالله تعالى وما في معناها من تحريم الحلال وتعليق الكفر بقصد اليمين، وإنما ذلك عند الحنفية والمالكية، فإنهم يشترطون في بقاء انعقاد اليمين الإسلام، كما يشترطونه في أصل الانعقاد، فالردة عندهم تبطل الانعقاد، سواء أكانت قبل الحنث أم بعده، ولا يرجع الانعقاد بالرجوع إلى الإسلام. الثاني: ذكر الاستثناء بالمشيئة بشرائطه المتقدمة. فمن حلف ولم يخطر بباله الاستثناء انعقدت يمينه، فإذا وصل بها الاستثناء انحلت، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وخالف الشافعية والحنابلة فقالوا: لا بد من قصد الاستثناء قبل فراغ اليمين، ثم وصل الاستثناء به، ففي هذه الحالة يكون الاستثناء مانعا من انعقاد اليمين. الثالث: فوات المحل في اليمين على الإثبات المؤقت، نحو: والله لأشربن ماء هذا الكوز اليوم، فإذا صبه الحالف أو غيره انحلت اليمين عند الحنفية؛ لأن البر لا يجب إلا آخر اليوم - أي الوقت المتصل بغروب الشمس - وفي هذا الوقت لا يمكنه البر؛ لحصول الفراغ من الماء قبله، فلا يحنث، وبهذا يعلم انحلال يمينه من حين فراغ الكوز. وغير الحنفية يرون أن فوات المحل إذا كان بغير اختيار الحالف وقبل تمكنه من البر يحل يمينه، كما لو انصب الكوز عقب اليمين من غير اختياره، أو أخذه إنسان فشربه ولم يتمكن من أخذه منه. الرابع: البر في اليمين، بأن يفعل كل ما حلف على فعله، أو يستمر على ترك كل ما حلف على تركه. الخامس: الحنث، فإن اليمين إذا انعقدت، ثم حصل الحنث بوقوع ما حلف على نفيه، أو باليأس من وقوع ما حلف على ثبوته، فهذا الحنث تنحل به اليمين. السادس: العزم على الحنث في اليمين على الإثبات المطلق، وهذا عند المالكية، فلو قال: والله لأتزوجن، ثم عزم على عدم الزواج طول حياته، فمن حين العزم تنحل اليمين، ويعتبر حانثا، وتجب عليه الكفارة، ولو رجع عن عزمه لم ترجع اليمين. السابع: البينونة في الحلف بالطلاق، فمن قال لامرأته: إن فعلت كذا فأنت طالق، ثم بانت منه بخلع أو بانقضاء العدة في طلاق رجعي، أو بإكمال الطلاق ثلاثا، أو بغير ذلك، ثم عادت إليه بنكاح جديد لم يعد التعليق لانحلاله بالبينونة. جامع الأيمان الأمور التي تراعى في ألفاظ الأيمان: معلوم أن اللفظ الذي يأتي به الحالف يشتمل على أفعال وأسماء وحروف لها معان لغوية أو عرفية، وأنها تارة تكون مقيدة بقيود لفظية، وتارة تقوم القرائن على تقييدها، وقد يقصد الحالف معنى يحتمله لفظه أو لا يحتمله، وكل هذا يختلف البر والحنث تبعا لاختلافه. وقد اختلف الفقهاء فيما تجب مراعاته عند اختلاف اللغة والعرف والنية والسياق وغير ذلك. وفيما يلي بيان القواعد التي تتبع مرتبة مع بيان اختلاف المذاهب فيها. القاعدة الأولى: مراعاة نية المستحلف: 153 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: «يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك» والمعنى: يمينك التي تحلفها، محمولة على المعنى الذي لو نويته، وكنت صادقا، لاعتقد خصمك أنك صادق فيها، وهو المعنى الذي يخطر بباله حين استحلافه إياك، وهو في الغالب يكون متفقا مع ظاهر اللفظ، ومقتضى هذا أن التورية بين يدي المستحلف لا تنفع الحالف، بل تكون يمينه غموسا تغمسه في الإثم. وهذا متفق عليه بين أكثر الفقهاء، غير أن لهم تفصيلات وشرائط بيانها فيما يلي: - مذهب الحنفية: حكى الكرخي أن المذهب كون اليمين بالله تعالى على نية الحالف إن كان مظلوما، فإن كان ظالما فعلى نية المستحلف، لكن فرق القدوري بين اليمين على الماضي وعلى المستقبل، فقال: إذا كانت اليمين على ماض ففيها التفصيل السابق؛ لأن المؤاخذة عليها إن كانت كاذبة إنما هي بالإثم، كالمظلوم إذا نوى بها ما يخرجها عن الكذب، صحت نيته فلم يأثم، لأن ه لم يظلم بها أحدا، بخلاف الظالم إذا نوى بيمينه ما يخرجها عن الكذب فإن نيته باطلة، وتكون يمينه على نية المستحلف فتكون كاذبة ظاهرا وباطنا، ويأثم لأن ه ظلم بها غيره. وإذا كانت على مستقبل فهي على نية الحالف من غير تفصيل؛ لأن ها حينئذ عقد، والعقد على نية العاقد. واليمين بالطلاق ونحوه تعتبر فيها نية الحالف، ظالما كان أو مظلوما، إذا لم ينو خلاف الظاهر، فلا تطلق زوجته لا قضاء ولا ديانة، لكنه يأثم - إن كان ظالما - إثم الغموس، فلو نوى خلاف الظاهر - كما لو نوى الطلاق عن وثاق - اعتبرت نيته ديانة لا قضاء، فيحكم القاضي عليه بوقوع الطلاق سواء أكان ظالما أم مظلوما. وقال الخصاف: تعتبر نيته قضاء إن كان مظلوما. - مذهب المالكية: اختلف المالكية في هذه المسألة، فقال سحنون وأصبغ وابن المواز: إن اليمين على نية المستحلف. وقال ابن القاسم إنها على، نية الحالف، فينفعه الاستثناء، فلا تلزمه كفارة، ولكن يحرم ذلك عليه من حيث إنه منع حق غيره، وهذا الذي قاله ابن القاسم خلاف المشهور. ثم إن القائلين بأنها على نية المستحلف اختلفوا في كونها على نية المحلوف له عند عدم استحلافه، فذهب خليل إلى أنها لا تكون على نيته، وذهب الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير إلى أنها تكون على نيته، وسبق في شرائط صحة الاستثناء بيان موضح تكون فيه اليمين على نية المستحلف أو المحلوف له عندهم. - مذهب الشافعية: اليمين تكون على نية المستحلف بشرائط: الشريطة الأولى: أن يكون المستحلف ممن يصح أداء الشهادة عنده كالقاضي والمحكم والإمام، فإن لم يكن كذلك كانت على نية الحالف، وألحق ابن عبد السلام الخصم بالقاضي، عملا بحديث: «يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك» أي خصمك. الشريطة الثانية: أن يستحلفه القاضي ونحوه بطلب من الخصم، فإن استحلفه بلا طلب منه كانت اليمين على نية الحالف. الشريطة الثالثة: ألا يكون الحالف محقا فيما نواه على خلاف نية المستحلف، فإن ادعى زيد أن عمرا أخذ من ماله كذا بغير إذنه وسأل رده، وكان عمر وقد أخذه من دين له عليه، فأجاب بنفي الاستحقاق، فقال زيد للقاضي: حلفه أنه لم يأخذ من مالي شيئا بغير إذني. وكان القاضي يرى إجابته لذلك، فيجوز لعمرو أن يحلف أنه لم يأخذ شيئا من ماله بغير إذنه، وينوي أنه لم يأخذه بغير استحقاق، فيمينه في هذه الحالة تكون على نيته المقيدة، لا على نية القاضي المطلقة، ولا يأثم بذلك. الشريطة الرابعة: أن يكون الاستحلاف بالله تعالى لا بالطلاق ونحوه، لكن إذا كان المستحلف يرى جواز التحليف بالطلاق كالحنفي، كانت اليمين على نيته لا على نية الحالف. - مذهب الحنابلة: يرجع في اليمين إلى نية الحالف فهي مبناها ابتداء، إلا إذا كان الحالف ظالما، ويستحلفه لحق عليه، فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف. القاعدة الثانية: مراعاة نية الحالف: إذا لم يكن مستحلف أصلا، أو كان مستحلف ولكن عدمت شريطة من الشرائط التي يتوقف عليها الرجوع إلى نية المستحلف، روعيت نية الحالف التي يحتملها اللفظ، وفيما يلي بيان أقوال الفقهاء في ذلك: - مذهب الحنفية: الأصل عندهم أن الكلام ينصرف إلى العرف إذا لم يكن للحالف نية، فإن كانت له نية شيء واللفظ يحتمله انعقدت اليمين باعتباره، فمن حلف لا يدخل بيتا فدخل المسجد لا يحنث إذا لم ينوه؛ لأن المسجد لا يعتبر في العرف بيتا، وإن كان الله في كتابه قد سماه بيتا. - مذهب المالكية: إن لم تجب مراعاة نية المستحلف وجبت مراعاة نية الحالف، فهي تخصص العام وتقيد المطلق وتبين المجمل ثم إن النية المخصصة والمقيدة لها ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن تكون مساوية لظاهر اللفظ، بأن يحتمل اللفظ إرادتها وعدم إرادتها على السواء بلا ترجيح لأحدهما على الآخر، كحلفه لزوجته: إن تزوج في حياتها فالتي يتزوجها طالق أو فعليه المشي إلى مكة، فتزوج بعد طلاقها، وقال: كنت نويت أني إن تزوجت عليها في حياتها وهي في عصمتي، وهي الآن ليست في عصمتي. ففي هذه الحالة يصدق في اليمين بالله تعالى أو الطلاق أو التزام قربة في كل من الفتوى والقضاء. ومن ذلك ما لو حلف: لا يأكل لحما، فأكل لحم طير، وقال: كنت أردت لحم غير الطير، فإنه يصدق مطلقا أيضا. الحالة الثانية: أن تكون نيته مقاربة لظاهر اللفظ، وإن كان أرجح منها، كحلفه لا يأكل لحما أو سمنا إذا ادعى أنه نوى لحم البقر وسمن الضأن، فأكل لحم الضأن وسمن البقر، ففي هذه الحالة يصدق في حلفه بالله، وبتعليق القربة ما عدا الطلاق، إذا رفع أمره للقاضي وأقيمت عليه البينة، فإنه يحكم بالطلاق، ومثل البينة الإقرار. ويقبل منه ما ادعاه في الفتوى مطلقا، فلا يعد حانثا في جميع أيمانه. ومن ذلك ما لو حلف: لا يكلم فلانا فكلمه، وقال: إني كنت نويت ألا أكلمه شهرا أو ألا أكلمه في المسجد، وقد كلمته بعد شهر أو في غير المسجد، فيقبل في الفتوى مطلقا، ويقبل في القضاء في غير الحلف بالطلاق. وكذلك لو حلف: ألا يبيعه أو ألا يضربه، ثم وكل إنسانا في بيعه أو أمره بضربه، وقال: إني كنت أردت الامتناع عن تكليمه وضربه بنفسي. الحالة الثالثة: أن تكون نيته بعيدة عن ظاهر اللفظ، كقوله: إن دخلت دار فلان فزوجتي طالق، إذا ادعى أنه أراد زوجته الميتة، ثم دخل الدار استنادا إلى هذه النية لم يقبل منه ما ادعاه لا في القضاء ولا في الفتوى، إلا إذا كانت هناك قرينة دالة على هذه الدعوى. - مذهب الشافعية: في أسنى المطالب: من حلف على شيء ولم يتعلق به حق آدمي، فقال: أردت مدة شهر فقط ونحوه مما يخصص اليمين قبل منه ظاهرا وباطنا؛ لأن ه أمين في حقوق الله تعالى لا في حق آدمي كطلاق وإيلاء، فلا يقبل قوله ظاهرا ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، أو حلف: لا يكلم أحدا، وقال: أردت زيدا مثلا لم يحنث بغيره عملا بنيته. ثم اللفظ الخاص لا يعمم بالنية، مثل أن يمن عليه رجل بما نال منه، فحلف لا يشرب له ماء من عطش لم يحنث بغيره، من طعام وثياب وماء من غير عطش وغيرها، وإن نواه وكانت المنازعة بينهما تقتضي ما نواه؛ لانعقاد اليمين على الماء من عطش خاصة، وإنما تؤثر النية إذا احتمل اللفظ ما نوى بجهة يتجوز بها. وقد يصرف اللفظ إلى المجاز بالنية، كلا أدخل دار زيد، ونوى مسكنه دون ملكه، فيقبل في غير حق آدمي - كأن حلف بالله - لا في حق آدمي، كأن حلف بطلاق. مذهب الحنابلة: إن لم يكن مستحلف، أو كان مستحلف ولم يكن الحالف ظالما رجع إلى نيته هو - سواء أكان مظلوما أم لا - وإنما يرجع إلى نيته إن احتملها لفظه، كأن ينوي السقف والبناء السماء، وبالفراش والبساط الأرض، وباللباس الليل، وبالأخوة أخوة الإسلام. ثم إن كان الاحتمال بعيدا لم يقبل قضاء، وإنما يقبل ديانة، وإن كان قريبا أو متوسطا قبل قضاء وديانة. فإن لم يحتمل أصلا لم تنصرف يمينه إليه، بل تنصرف إلى ظاهر اللفظ، وذلك كأن يقول: والله لا آكل، وينوي عدم القيام دون عدم الأكل. ومن أمثلة النية المحتملة احتمالا قريبا: ما لو نوى التخصيص، كأن يحلف: لا يدخل دار زيد، وينوي تخصيص ذلك باليوم، فيقبل منه حكما، فلا يحنث بالدخول في يوم آخر، ولو كان حلفه بالطلاق. القاعدة الثالثة: مراعاة قرينة الفور أو البساط، أو السبب: إذا عدمت نية المستحلف المحق ونية الحالف، وكانت اليمين عامة أو مطلقة في الظاهر، لكن كان سببها الذي أثارها خاصا أو مقيدا كان ذلك مقتضيا تخصيص اليمين أو تقييدها. وهذا السبب يسمى عند المالكية بساط اليمين، وعند الحنابلة السبب المهيج لليمين، ويعبر الحنفية عن هذه اليمين بيمين الفور. وفيما يلي أقوال الفقهاء في ذلك: - فمذهب الحنفية: إذا لم يكن المحلوف عليه مقيدا نصا، ولكن دلت الحال على تقييده بشيء، فإن ذلك القيد يراعى في اليمين استحسانا عند أبي حنيفة، وهو الراجح. مثال ذلك: أن تخرج اليمين جوابا لكلام مقيد، أو بناء على أمر مقيد، ولكن الحالف لا يذكر في يمينه هذا القيد نصا، كما لو قال إنسان: تعال تغد معي، فقال: والله لا أتغدى، فلم يتغد معه، ثم رجع إلى منزله فتغدى، فإنه لا يحنث لأن كلامه خرج جوابا للطلب، فينصرف إلى المطلوب، وهو الغداء المدعو إليه، فكأنه قال: والله لا أتغدى الغداء الذي دعوتني إليه. وقال زفر: يحنث؛ لأن ه منع نفسه عن التغدي عاما، فلو صرف لبعض دون بعض كان ذلك تخصيصا بغير مخصص، وذا هو القياس. - مذهب المالكية: إن لم يوجد مستحلف ذو حق، ولم يكن للحالف نية صريحة، أو كان له نية صريحة ولكنه لم يضبطها، روعي بساط يمينه في التعميم والتخصيص والتقييد، والبساط هو السبب الحامل على اليمين، ومثله كل سياق وإن لم يكن سببا، ويعتبر البساط قرينة على النية وإن لم تكن صريحة ولا منضبطة، وعلامته صحة تقييد اليمين بقوله ما دام هذا الشيء موجودا. ومن أمثلته: ما لو حلف لا يشتري لحما، أو لا يبيع في السوق، إذا كان الحامل على الحلف زحمة أو وجود ظالم، فيمينه تقيد بذلك، فلا يحنث بشراء اللحم ولا بالبيع في السوق إذا انتفت الزحمة والظالم، سواء أكان حلفه بالله أم بتعليق الطلاق ونحوه، ويستوي في ذلك القضاء والفتيا، لكن لا بد في القضاء من إقامة بينة على وجود البساط. ومن الأمثلة أيضا: ما لو كان خادم المسجد يؤذيه، فحلف لا يدخله، فإن معناه أنه لا يدخله ما دام هذا الخادم فيه، وكذا لو كان فاسق بمكان فقال إنسان لزوجته: إن دخلت هذا المكان فأنت طالق، وكان وجود هذا الفاسق الحامل على الحلف، فإن الحلف يقيد بوجوده، فإن زال فدخلت امرأته المكان لم تطلق. ومن ذلك: ما لو من إنسان على آخر، فحلف لا يأكل له طعاما، فإنه يقتضي ألا ينتفع منه بشيء فيه المنة، سواء أكان طعاما أم كسوة أو غيرهما، فهذا تعميم لليمين بالبساط. فإن لم يكن السبب الحامل على اليمين داعيا إلى مخالفة الظاهر لم يكن بساطا، كما لو حلف إنسان: لا يكلم فلانا أو لا يدخل داره، وكان السبب في ذلك أنه شتمه أو تشاجر معه، فهذا السبب لا يدعو إلى مخالفة الظاهر، وهو الامتناع من التكليم ومن دخول الدار أبدا. - مذهب الشافعية: يتضح من الاطلاع على كتب المذهب الشافعي أن المعتبر - بعد نية المستحلف ونية الحالف - هو ظاهر اللفظ، بقطع النظر عن السبب الحامل على اليمين، فلو كانت اليمين عامة أو مطلقة في الظاهر - لكن كان سببها الذي أثارها خاصا أو مقيدا - لم يكن ذلك مقتضيا تخصيص اليمين أو تقييدها عندهم. - مذهب الحنابلة: إن لم يوجد مستحلف ذو حق، ولم ينو الحالف ما يوافق ظاهر اللفظ أو يخصصه، أو يكون اللفظ مجازا فيه، رجع إلى السبب المهيج لليمين لأن ه يدل على النية، وإن كان القائل غافلا عنها، فمن حلف: ليقضين زيدا حقه غدا فقضاه قبله لم يحنث، إذا كان سبب يمينه أمرا يدعو إلى التعجيل وقطع المطل، وإنما يحنث بالتأخير عن غد، فإن كان السبب مانعا من التعجيل حاملا على التأخير إلى غد فقضاه قبل حنث، وفي هذه الصورة لا يحنث بالتأخير عن غد، فإن لم يكن سبب يدعو إلى التعجيل أو التأخير حنث بهما عند الإطلاق عن النية، وأما إذا نوى التعجيل أو التأخير فإنه يعمل بنيته كما تقدم، فعند نية التعجيل يحنث بالتأخير دون التقديم، وعند التأخير يكون الحكم عكس ذلك. ومن حلف على شيء لا يبيعه إلا بمائة، وكان الحامل له على الحلف عدم رضاه بأقل من مائة، حنث ببيعه بأقل منها، ولم تحنث ببيعه بأكثر إلا إذا كان قد نوى المائة بعينها لا أكثر ولا أقل. ومن حلف لا يبيعه بمائة، وكان الحامل له على الحلف أنه يستقل المائة، حنث ببيعه بها، وكذا يحنث ببيعه بأقل منها ما لم ينو تعين المائة، ولا يحنث ببيعه بأكثر من المائة ما لم ينو تعينها. ومن دعي لغداء، فحلف لا يتغدى، لم يحنث بغداء آخر عند الإطلاق؛ لأن السبب الحامل على الحلف هو عدم إرادته لهذا الغداء المعين، وإنما يحنث بالغداء الآخر إذا نوى العموم، فإن النية الموافقة للظاهر تقدم على السبب المخصص كما علم مما مر. ومن حلف لا يشرب لفلان ماء من عطش، وكان السبب عدم رضاه بمنته، حنث بأكل خبزه واستعارة دابته، وما ماثل ذلك من كل ما فيه منة تزيد على شرب الماء من العطش، بخلاف ما هو أقل منة من شرب الماء كقعوده في ضوء ناره، وهذا كله عند الإطلاق عن النية، فإن نوى ظاهر اللفظ عمل به. ومن حلف لا يدخل بلدا، وكان السبب ظلما رآه فيها، أو حلف لا رأى منكرا إلا رفعه إلى الوالي، وكان السبب طلب الوالي ذلك منه، ثم زال الظلم في المثال الأول، وعزل الوالي في المثال الثاني، لم يحنث بدخول البلد بعد زوال الظلم، ولا بترك رفع المنكر إلى الوالي بعد عزله، فإن عاد الظلم أو عاد الوالي للحكم حنث بمخالفة ما حلف عليه، ويستوي في هذا الحكم ما لو أطلق الحالف لفظه عن النية، وما لو نوى التقييد بدوام الوصف الحامل على اليمين. - هذا وإذا تعارضت النية والسبب، وكان أحدهما موافقا لظاهر اللفظ، والثاني أعم منه عمل بالموافق، فمن حلف لا يأوي مع امرأته بدار فلان ناويا جفاءها، وكان السبب الحامل على اليمين هو عدم ملاءمة الدار عمل بالسبب، فلا يحنث باجتماعه معها في دار أخرى، وإن كان ذلك مخالفا لنيته. فإن كان ناويا عدم الاجتماع معها في الدار بخصوصها، وكان السبب الحامل على اليمين يدعو إلى الجفاء العام فالحكم كما سبق، عملا بالنية الموافقة للظاهر، وإن كان ذلك مخالفا للسبب. فإن وجدت نية ولا سبب، أو كان السبب يدعو إلى الجفاء ولا نية، أو اتفقا معا في الجفاء حنث بالاجتماع معها مطلقا، وإن اتفقا في تخصيص الدار لم يحنث بغيرها. القاعدة الرابعة: مراعاة العرف الفعلي والقولي والشرعي والمعنى اللغوي: - من تصفح كتب المذاهب وجد عباراتها في هذا الموضوع تختلف. فالحنفية يذكرون مراعاة العرف فاللغة، ولا يقسمون العرف إلى فعلي وقولي وشرعي، ولعلهم اكتفوا بأن الكلمة إذا أطلقت لم تتنازعها أعراف مختلفة؛ لأن ها قد يكون المشهور فيها هو الفعلي فقط أو القولي فقط أو الشرعي فقط، فلا حاجة لترتيبها. والمالكية ذكر بعضهم العرف الفعلي وقدمه على القولي، وأغفله بعضهم، ومنهم من قدم الشرعي على اللغوي، ومنهم من عكس. والشافعية لم يفصلوا في العرف، ثم إنهم تارة يقدمون العرف على اللغة، وتارة يعكسون. والحنابلة قدموا المعنى الشرعي، وأتبعوه بالعرفي فاللغوي، ولم يقسموا العرفي إلى فعلي وقولي. أ - مذهب الحنفية: الأصل في الألفاظ التي يأتي بها الحالف أن يراعي فيها معنى المفردات في اللغة، وأن يراعي المعنى التركيبي من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد بالوقت أو بغيره من القيود، ومعاني الحروف التي فيها كالواو والفاء وثم وأو. وإنما يراعى المعنى اللغوي إذا لم يكن كلام الناس بخلافه، فإن كان كلام الناس بخلافه وجب حمل اللفظ على ما تعارفه الناس، فيكون حقيقة عرفية. ومن أدلة تقديم المعنى العرفي على اللغوي الأصلي ما روي أن رجلا جاء إلى ابن عباس رضي الله عنة ، وقال: إن صاحبا لنا مات وأوصى ببدنة، أفتجزي عنه البقرة؟ فقال: «ممن صاحبكم؟ فقال من بني رباح، فقال:» متى اقتنت بنو رباح البقر؟ إنما البقر للأزد، وذهب وهم صاحبكم إلى الإبل. فهذا الأثر أصل أصيل في حمل الكلام المطلق على ما يريده الناس، ولا شك أن إرادة الناس تذهب إلى المعنى العرفي، فيما له معنى لغوي ومعنى عرفي، فالظاهر عند إطلاق اللفظ إرادة المعنى العرفي، ولهذا لو قال الغريم لغريمه: والله لأجرنك في الشوك، لم يرد به حقيقته اللغوية عادة، وإنما يريد شدة المطل، فلا يحنث بعدم جره في الشوك، وإنما يحنث بإعطائه الدين من غير مماطلة. ولو حلف: ألا يجلس في سراج، فجلس في الشمس لم يحنث، وإن كان الله سبحانه وتعالى سماها سراجا في قوله: ( وجعل الشمس سراجا) وكذا لا يحنث من جلس على الأرض، وكان قد حلف ألا يجلس على بساط، وإن كان الله عز وجل سمى الأرض بساطا في قوله: (والله جعل لكم الأرض بساطا) وكذا من حلف ألا يمس وتدا، فمس جبلا لا يحنث، وإن سماه الله سبحانه وتدا في قوله: ( والجبال أوتادا) وكذا من حلف لا يركب دابة فركب إنسانا لا يحنث؛ لأن ه لا يسمى دابة في العرف، وإن كان يسمى دابة في اللغة. وهذا كله حيث لم يجعل اللفظ في العرف مجازا عن معنى آخر، كما لو حلف: لا يضع قدمه في دار فلان، فإنه صار مجازا عن الدخول مطلقا، ففي هذا لا يعتبر اللفظ أصلا، حتى لو وضع قدمه ولم يدخل لا يحنث؛ لأن المعنى الأصلي والعرفي للفظ قد هجر، وصار المراد به معنى آخر، ومثله: لا آكل من هذه الشجرة - وهي من الأشجار التي لا تثمر ولم تجر العادة بأكل شيء منها - فهذه العبارة تنصرف إلى الانتفاع بثمنها، فلا يحنث بتناول شيء منها ومضغه وابتلاعه. ب - مذهب المالكية: - إذا لم يوجد مستحلف ذو حق، ولم ينو الحالف نية معتبرة، ولم يكن لليمين بساط دال على مخالفة الظاهر، فالمعتمد اعتبار العرف الفعلي، كما لو حلف: لا يأكل خبزا، وكان أهل بلده لا يأكلون إلا خبز القمح، فأكل القمح عندهم عرف فعلي، فهو مخصص للخبز الذي حلف على عدم أكله، فلا يحنث بأكل خبز الذرة. فإن لم يكن عرف فعلي اعتبر العرف القولي، كما لو كان عرف قوم استعمال لفظ الدابة في الحمار وحده، ولفظ الثوب فيما يلبس من جهة الرأس ويسلك في العنق، فحلف حالف منهم: ألا يشتري دابة أو ثوبا، فلا يحنث بشراء فرس ولا عمامة. فإن لم يكن عرف فعلي ولا قولي اعتبر العرف الشرعي، فمن حلف: لا يصلي في هذا الوقت، أو لا يصوم غدا، أو لا يتوضأ الآن، أو لا يتيمم حنث بالشرعي من ذلك دون اللغوي، فلا يحنث بالدعاء، ولا بالصلاة على النبي صلي الله عليه وسلم ، مع أنهما يسميان صلاة في اللغة، ولا يحنث بالإمساك عن الطعام والشراب من غير نية، وإن كان يسمى صياما في اللغة، ولا بغسل اليدين إلى الرسغين، مع أنه يسمى وضوءا في اللغة، ولا بقصده إنسانا والذهاب إليه مع أنه يسمى تيمما في اللغة. فإن لم يوجد ما يدل على مخالفة الظاهر اللغوي، من نية أو بساط أو عرف فعلي أو قولي أو شرعي، حملت اليمين على الظاهر اللغوي، فمن حلف لا يركب دابة أو لا يلبس ثوبا، وليس له نية، ولا لأهل بلده عرف في دابة معينة أو ثوب معين، حنث بركوبه التمساح ولبسه العمامة؛ لأن ذلك هو المدلول اللغوي. ج - مذهب الشافعية: 170 - الأصل عندهم أن يتبع المعنى اللغوي عند ظهوره وشموله، ثم يتبع العرف إذا كان مطردا وكانت الحقيقة بعيدة، مثل لا آكل من هذه الشجرة، فإنه يحمل على الثمر لا الورق، ولو حلف: لا يأكل الرأس، حمل على رءوس النعم، وهي البقر والإبل والغنم؛ لأن ها هي المتعارفة، حتى إن اختص بعضها ببلد الحالف، بخلاف رأس الطير والحوت والظبي ونحوها فلا تحمل اليمين على شيء منها إلا إذا جرت العادة ببيعها في بلد الحالف؛ لأن ها لا تفهم من اللفظ عند إطلاقه. د - مذهب الحنابلة: - إن عدمت النية والسبب رجع في اليمين إلى ما تناوله الاسم شرعا فعرفا فلغة، فاليمين على الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والوضوء والبيع ونحوها من كل ما له معنى شرعي ومعنى لغوي تحمل على المعنى الشرعي عند الإطلاق، ويحمل على الصحيح دون الفاسد، فيما عدا الحج والعمرة. ولو قيد حالف يمينه بما لا يصح شرعا، كأن حلف لا يبيع الخمر، ففعل، حنث بصورة ذلك العقد الفاسد لتعذر الصحيح. ومن حلف على الراوية والظعينة والدابة ونحو ذلك، مما اشتهر مجازه حتى غلب على حقيقته، بحيث لا يعرفها أكثر الناس، فهذا حلف على أسماء لها معان عرفية وهي التي اشتهرت، ومعان لغوية وهي التي صارت كالمجهولة. فالراوية في اللغة: اسم لما يستقى عليه من الحيوانات، واشتهرت في المزادة، وهي وعاء يحمل فيه الماء في السفر كالقربة ونحوها. والظعينة في اللغة: اسم للناقة التي يظعن عليها، ثم اشتهرت في المرأة في الهودج. والدابة في اللغة اسم لما دب ودرج، واشتهرت في ذوات الأربع من خيل وبغال وحمير ويراعى في الحلف عليها المعنى العرفي لا اللغوي. ومن حلف: لا يأكل لحما أو شحما أو رأسا أو بيضا أو لبنا، أو ذكر نحو ذلك من الأسماء اللغوية، وهي التي لم يغلب مجازها على حقيقتها، يراعى في يمينه المعنى اللغوي، فيحنث الحالف على ترك أكل اللحم بأكل سمك ولحم خنزير ونحوه، ولا بمرق اللحم، ولا بالمخ والشحم والكبد والكلية والمصران والطحال والقلب والألية والدماغ والقانصة والكارع ولحم الرأس واللسان؛ لأن مطلق اللحم لا يتناول شيئا من ذلك، فإن نوى الامتناع من تناول الدسم حنث بذلك كله. ويحنث الحالف على ترك أكل الشحم بجميع الشحوم، حتى شحم الظهر والجب والألية والسنام؛ لأن الشحم ما يذوب من الحيوان بالنار، لا باللحم الأحمر ولا الكبد والطحال والرأس والكلية والقلب والقانصة ونحوها. والحالف على الامتناع من أكل الرءوس يحنث بجميع الرءوس: رأس الطير ورأس السمك ورأس الجراد. والحالف على الامتناع من أكل البيض يحنث بكل بيض، حتى بيض السمك والجراد. والحالف على الامتناع من أكل اللبن يحنث بكل ما يسمى لبنا، حتى لبن الظبية والآدمية، وسواء أكان حليبا أم رائبا أم مجمدا، ويحنث بالمحرم كلبن الخنزيرة والأتان، ولا يحنث بأكل الزبد أو السمن أو الكشك أو المصل أو الجبن أو الأقط ونحوه مما يعمل من اللبن ويختص باسم . الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الثامن ، الصفحة / 177 ما تثبت به البكارة عند التنازع: أجاز جمهور الفقهاء قبول شهادة النساء في البكارة والثيوبة. واختلفوا في العدد المشترط: فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن البكارة تثبت بشهادة امرأة ثقة، والثنتان أحوط وأوثق. وأجاز أبو الخطاب من الحنابلة شهادة الرجل في ذلك. وذهب المالكية - على ما صرح به خليل والدردير في شرحيه - إلى أنها تثبت بشهادة امرأتين. لكن قال الدسوقي في باب النكاح: إن أتى الرجل بامرأتين، أو امرأة واحدة تشهد له على ما تصدق فيه الزوجة قبلت. وقال الشافعية: تثبت البكارة بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، أو شهادة أربع نسوة . ومناط قول شهادة المرأة في إثبات البكارة أن موضعها عورة لا يطلع عليه الرجال إلا للضرورة، وروى مالك عن الزهري: «مضت السنة أنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، من ولادة النساء وعيوبهن» وقيس على ذلك البكارة والثيوبة. وتثبت البكارة كذلك باليمين حسب. الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الثامن عشر ، الصفحة / 78 حلف التعريف: لحلف لغة اليمين: وأصلها العقد بالعزم والنية. قال أبو هلال العسكري: والحلف من قولك: سيف حليف أي: قاطع ماض. فإذا قلت: حلف بالله، فكأنك قلت: قطع المخاصمة بالله. وقال ابن فارس: الحلف بمعنى اليمين أصله من الحلف بمعنى الملازمة. وذلك أن الإنسان يلزمه الثبات على اليمين. واصطلاحا: توكيد حكم بذكر معظم على وجه مخصوص. حكمة التحليف ومشروعيته: التحليف تكليف أحد الخصمين اليمين ويجري التحليف للفصل في الخصومات وإنهاء النزاع في الدعاوى، وثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: للمدعى عليه: «احلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما له عندك شيء». وقوله صلى الله عليه وسلم للأشعث بن قيس: بينتك وإلا فيمينه. صفة التحليف: الحلف المنعقد هو القسم بالله تعالى أو بصفاته، مثل: لا، ومقلب القلوب، وبالذي رفع سبعا وبسط سبعا، وهذا مصداقا لقوله تعالى: ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون). وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله بقوله«ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا، فليحلف بالله أو ليصمت» وزاد في رواية أخرى «فقال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكرا ولا آثرا». (ر: أيمان) - فقرة (17) وإثبات - فقرة (23) وإيلاء فقرة (1). الحقوق التي يجري فيها التحليف: الحقوق على ضربين: أحدهما: حق لله تعالى. والثاني: حق للعباد. وحق الله على قسمين: فالأول: الحدود ولا يجري التحليف فيها، لأن المقصود من اليمين النكول، وهو لا يعدو أن يكون بذلا أو إقرارا فيه شبهة، والحدود لا بذل فيها ولا تقام بحجة فيها شبهة. ولأنه لو رجع عن إقراره قبل منه وخلي سبيله من غير يمين فلأن لا يستحلف مع الإقرار أولى ولأنه يستحب ستره، لقوله صلى الله عليه وسلم لهزال في قصة ماعز: «لو سترته بثوبك لكان خيرا لك». الثاني: الحقوق المالية كدعوى الساعي الزكاة على رب المال، لأن ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة، ولو ادعى عليه كفارة يمين أو ظهار أو نذر صدقة أو غيرها فالقول قوله في نفي ذلك من غير يمين، لأنه لا حق للمدعي فيه ولا ولاية عليه، فإن تضمنت الدعوى حقا لآدمي مثل سرقة يحلف المدعى عليه لحق الآدمي دون حق الله عز وجل ويضمن. وحقوق العباد تنقسم إلى قسمين: أحدهما: ما هو مال أو المقصود منه مال، فهذا تشرع فيه اليمين بلا خلاف بين أهل العلم. فإذا لم تكن بينة للمدعي حلف المدعى عليه وبرئ، وقد ثبت هذا في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض. الثاني: ما ليس بمال ولا المقصود منه مال كحد قذف، وقود، وما يطلع عليه الرجال غالبا كنكاح، وطلاق، ورجعة، وعتق، وإسلام، وردة، وجرح، وتعديل. فعند أبي حنيفة والمالكية لا يستحلف فيها لأن النكول عند أبي حنيفة بذل، وهذه المسائل لا يصح فيها البذل، وعند الصاحبين النكول إقرار فيه شبهة، وعليه يجري التحليف فيها عندهما. أما عند المالكية فكل دعوى لا تثبت إلا بعدلين لا يستحق فيها شيء إلا بشهادة رجلين عدلين إذ لا فائدة في رد اليمين أو إثباتها، لأنه إن حلفها لا يثبت المدعى به لتوقف ثبوتها على العدلين إلا القسامة وجراح العمد، وفي بعضها خلاف وهي المسماة عندهم بأحكام تثبت في البدن ليست بمال ويطلع عليها الرجال غالبا. وعند الشافعية، والحنابلة على أحد القولين وهو المتبع عندهم، أنه يجري التحليف لأنه عند الشافعية الدعاوى التي تثبت برجلين أو رجل وامرأتين تثبت برجل ويمين. واستدلوا «بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بهما في الحقوق والأموال» ثم الأئمة من بعده. والحنابلة على قولين: أحدهما: لا يستحلف المدعى عليه ولا تعرض عليه اليمين قال أحمد – رحمه الله -: لم أسمع من مضى جوزوا الأيمان إلا في الأموال والعروض خاصة كما سلف. الثاني: يستحلف في الطلاق والقصاص والقذف. وقال الخرقي: إذا قال ارتجعتك فقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها مع يمينها. قال ابن قدامة: فيتخرج من هذا أنه يستحلف في كل حق لآدمي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه». وهذا عام في كل مدعى عليه، وهو ظاهر في دعوى الدماء بذكرها في الدعوى مع عموم الأحاديث، ولأنها دعوى صحيحة في حق لآدمي، فجاز أن يحلف فيها المدعى عليه، كدعوى المال. أثر التحليف في الخصومة: الجمهور على أن اليمين تفيد قطع الخصومة في الحال لا البراءة من الحق. والمالكية اعتدوا بالحلف وقالوا: تكون اليمين كافية في إسقاط الخصومة وفي منع إقامة البينة بعد ذلك، إلا إذا كان للمدعي عذر في عدم الإتيان بالبينة وذلك كنسيان حين تحليفه خصمه.وللتفصيل (ر: إثبات) فقرة (28). صفة المحلوف عليه: يحلف على البت في فعله، وكذا فعل غيره إن كان إثباتا، وإن كان نفيا فعلى نفي العلم. وجملة الأمر أن الأيمان كلها على البت والقطع إلا على نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم. وعلى هذا أبو حنيفة ومالك والشافعي. وقال الشعبي والنخعي: كلها على العلم. وذكر ابن أبي موسى رواية عن أحمد وذكر أحمد حديث الشيباني عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون» ولأنه لا يكلف ما لا علم له به، وحمل ابن قدامة حديث القاسم بن عبد الرحمن على اليمين على نفي فعل الغير. مثال البت: ادعى عليه أنه ضرب فلانا واعتدى عليه، فيحلف على البتات لأنه فعل النفس. مثال العلم: ادعى أحد دينا على ميت في مواجهة وارثه بسبب فيحلف الوارث على نفي العلم: والله لا أعلم أن أبي فعل ذلك لكونه فعل للغير. وتفرد الحنفية بتقسيم الحلف إلى حلف على السبب أو على الحاصل. والمقصود بالسبب: وقوع سبب الحق المدعى أو عدم وقوعه. والمقصود بالحاصل: بقاء العقد المثبت للحق أو عدم بقائه: أن العقد يحتمل الارتفاع كالنكاح يرتفع بالطلاق، والبيع بالإقالة. مثال الحلف على السبب: دعوى عقد بيع موجب لتملك عين والكفالة لاشتغال الذمة وتوجه المطالبة، فهو يمين منصب على نفس السبب المؤدي إلى حصول مسببه هل هو واقع أو لا؟. والحلف على الحاصل: يكون في الأشياء التي تقع ثم قد ترتفع برافع كالنكاح والطلاق والغصب، فيحلف على الحاصل بالله ما بينكما نكاح قائم، وما هي بائن منك الآن، وما يجب عليه رده. أي إلى الآن لم يزل حاصلا باقيا أم لا. قال صاحب معين الحكام: الاستحلاف على قسمين: أحدهما: على العقود الشرعية، والآخر على الفعال الحسية. أما الأول فهو أن القاضي يحلفه على الحاصل بالعقد بالله ما له قبلك ما ادعى من الحق، ولا يحلفه على السبب وهو البيع والإجارة والكفالة ونحوها، وروي عن أبي يوسف يحلفه على السبب بالله ما اشتريت، ولا استأجرت، ولا كفلت ونحوها، إلا أن يعرض للقاضي فيقول: كم من مشتر أو مستأجر يفسخ العقد فيحلفه على الحاصل، لأن اليمين تجب على حسب الدعوى ودفعه، والدعوى وقع في العقد لا في الحاصل به. وأما القسم الثاني وهو الاستحلاف على الأفعال الحسية وهي نوعان: نوع يستحلف على الحاصل لا على السبب كالغصب والسرقة إن كان المغصوب والمسروق قائما، يحلفه بالله ما هذا الثوب لهذا ولا عليك تسليمه ولا تسليمه شيء منه إلى المدعي، وإن كان مستهلكا يستحلف على القيمة لا غير. وأما النوع الثاني وهو ما إذا ادعى على رجل أنه وضع على حائطه خشبة، أو بنى عليه بناء، أو أجرى على سطحه، أو في داره ميزابا أو فتح عليه في حقه بابا، أو رمى ترابا في أرضه أو ميتة أو نحو ذلك، مما يجب على صاحبه نقله وأراد استحلافه على ذلك، فإنه يحلفه على السبب بالله ما فعلت هذا، لأنه ليس في التحليف هنا ضرر بالمدعى عليه، إذ بعدما ثبت هذا الحق للمدعي وهو استحقاق رفع هذه الأشياء عن أرضه، لا يتضرر بسقوطه بسبب من الأسباب، فإنه لو أذن له في الابتداء أن يضع الخشبة على حائطه أو يلقي الميتة في أرضه، كان ذلك إعارة منه، فمتى بدا له كان له أن يطالبه برفعه، وإن باع منه ذلك لا يجوز، لأن هذا بيع الحق وبيع الحق لا يجوز. أ. ه. أي فهذه الأفعال الحسية كالأسباب التي لا ترتفع برافع نحو دعوى العبد المسلم العتق على مولاه، فالتحليف على السبب لا يضر المدعى عليه. حق التحليف: إذا حلف المدعى عليه بطلب الخصم قبل أن يكلفه الحاكم فلا تعتبر يمينه، ويلزم أن يحلف من قبل الحاكم مرة أخرى. والجمهور على أنه لا يجوز للقاضي استحلاف المدعى عليه إلا بعد طلب اليمين من المدعي لأنه حق له، فلا يستوفيه من غير إذنه. ولا يعتد بتحليف قاض قبل مطالبة المدعي، لأنها يمين قبل وقتها، للمدعي أن يطالب بإعادتها. واستثنى الحنفية خمسة مواطن: الأول: إذا ادعى أحد من التركة حقا بالإجماع. الثاني: إذا استحق أحد المال. الثالث: لو أراد مشتر رد مبيع لعيبه. الرابع: تحليف الحاكم الشفيع عند الحكم له بالشفعة بأنه لم يبطل شفعته. والخامس: المرأة، إذا طلبت فرض نفقة على زوجها الغائب.(ر: إثبات) - فقرة (17) (22). النية في التحليف: ذهب الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) إلى أن اليمين على نية الحالف إذا كان مظلوما، وإن كان ظالما فعلى نية المستحلف، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك». إذ المقصود هو الترهيب وردع الحالف عن جحوده خوفا من اليمين الغموس. وقال الغزالي: وينظر في اليمين إلى نية القاضي وعقيدته، فلا يصح تورية الحالف ولا قوله إن شاء الله بحيث لا يسمع القاضي. وأتى ابن قدامة بمثال للحالف مظلوما وهي واقعة حصلت للصحابي سويد بن حنظلة رضي الله عنه. قال سويد: «خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا، فحلفت أنه أخي. فخلى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: أنت أبرهم وأصدقهم، المسلم أخو المسلم». قال ابن قدامة والحال الثالثة: لم يكن ظالما ولا مظلوما قال: فظاهر كلام أحمد أنه له تأويله وأورد عن أنس رضي الله عنه «أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله احملني فقال: إني حاملك على ولد الناقة فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تلد الإبل إلا النوق. وقال المالكية - عدا ابن القاسم -: اليمين على نية المستحلف، وقال ابن القاسم: هي على نية الحالف فينفعه الاستثناء فلا تلزمه كفارة ولكن يحرم ذلك عليه. الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الحادي والعشرون ، الصفحة / 22 دليل التعريف: الدليل لغة: هو المرشد والكاشف، من دللت على الشيء ودللت إليه. والمصدر دلولة ودلالة، بكسر الدال وفتحها وضمها. والدال وصف للفاعل. والدليل ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري ولو ظنا، وقد يخصه بعضهم بالقطعي. ولذلك كان تعريف أصول الفقه بأنه «أدلة الفقه» جاريا على الرأي الأول القائل بالتعميم في تعريف الدليل بما يشمل الظني؛ لأن أصول الفقه التي هي أدلة الفقه الإجمالية تشمل ما هو قطعي، كالكتاب والسنة المتواترة، وما هو ظني كالعمومات وأخبار الآحاد والقياس والاستصحاب. ومن هنا عرفه في المحصول وفي المعتمد بأنه: «طرق الفقه»؛ ليشمل القطعي والظني. الألفاظ ذات الصلة: أ - الأمارة: الأمارة في اللغة: العلامة وزنا ومعنى - كما في المصباح - وهي عند الأصوليين: ما أوصل إلى مطلوب خبري ظني. ولم يفرق الفقهاء بين الأمارة والدليل. وعند المتكلمين: الأمارة ما يؤدي النظر الصحيح فيه إلى الظن، سواء أكان عقليا أم شرعيا. أما الفقهاء فالأمارات العقلية عندهم أدلة كذلك. ب - البرهان: البرهان: الحجة والدلالة، ويطلق خاصة على ما يقتضي الصدق لا محالة. وهو عند الأصوليين ما فصل الحق عن الباطل، وميز الصحيح من الفاسد بالبيان الذي فيه. ج - الحجة: الحجة: البرهان اليقيني، وهو ما تثبت به الدعوى من حيث الغلبة على الخصم. والحجة الإقناعية، هي التي تفيد القانعين القاصرين عن تحصيل المطالب بالبراهين القطعية العقلية وربما تفضي إلى اليقين بالاستكثار الأدلة المثبتة للأحكام: الأدلة المثبتة للأحكام نوعان: متفق عليه ومختلف فيه. فالمتفق عليه أربعة وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، التي ترجع إليها أدلة الفقه الإجمالية، والمختلف فيه كثير جمعها القرافي في مقدمة الذخيرة، منها: الاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذريعة، والعرف، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستصحاب، وإجماع أهل المدينة، وغيرها ويقصد بالأحكام: الأحكام التكليفية الخمسة: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والحرمة. والأحكام الوضعية: كالشرط، والمانع، والسبب ونحوها. الدليل الإجمالي والدليل التفصيلي: عرف الأصوليون أصول الفقه لقبا بأنه «أدلة الفقه الإجمالية» من حيث إن موضوعه الأدلة الإجمالية، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهي الأدلة المتفق عليها، وما يتبعها من أدلة مختلف فيها إلا أنها ترجع إلى الأربعة المتفق عليها، وهي الاستحسان، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستصلاح. وعلم أصول الفقه يبحث في إثبات حجية الأدلة وطرق دلالتها على الأحكام. والدليل إن نظر إليه من حيث هو مع قطع النظر عما يتعلق به من الأحكام كان دليلا إجماليا، وإن نظر إليه من حيث ما يتعلق به من الأحكام كان دليلا تفصيليا. ومثال ذلك قوله تعالي وأقيموا الصلاة. فمن حيث إنه أمر، وأن الأمر يفيد الوجوب، كان دليلا إجماليا. ومن حيث إنه أمر يتعلق بوجوب الصلاة على وجه الخصوص كان دليلا تفصيليا. الدليل القطعي والدليل الظني: تنقسم الأدلة السمعية إلى أربعة أقسام من حيث الثبوت والدلالة: قطعي الثبوت والدلالة، كبعض النصوص المتواترة التي لم يختلف فيها، كقوله تعالى ( تلك عشرة كاملة). وقطعي الثبوت ظني الدلالة، كبعض النصوص المتواترة التي يختلف في تأويلها. وظني الثبوت قطعي الدلالة، كأخبار الآحاد ذات المفهوم القطعي. وظني الثبوت والدلالة، كأخبار الآحاد التي مفهومها ظني. ورتب أصوليو الحنفية على هذا التقسيم ثبوت الحكم بقدر دليله: فبالقسم الأول يثبت الفرض، وبالقسم الثاني والثالث يثبت الوجوب، وبالقسم الرابع يثبت الاستحباب والسنية. وهذا التقسيم جار على اصطلاح الحنفية في التفريق بين الفرض والواجب، خلافا للجمهور. وينظر في تفصيل ما تقدم: الملحق الأصولي في مواضعه. وكذلك مصطلح: «استدلال» «وترجيح». الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الحادي والأربعون ، الصفحة / 368 الأيمان التي لا ترد بالنكول: ثمة أيمان لا ترد بالنكول عند بعض الفقهاء وتتمثل هذه الأيمان فيما يلي: أ - يمين التهمة، لأنها تجب للمدعي إذا كان اتهامه للمدعى عليه مبنيا على الشك، إذ الشاك لا يحلف. ب - اليمين المؤكدة، وهي التي تطلب من المدعي مع توافر البينة إذا شك القاضي في عدالة الشهود، أو إذا كان المدعى عليه غائبا، وسبب عدم صحة الرد: أنه لو أبيح رد اليمين لأدى ذلك إلى إبطاله البينة باليمين، والبينة أقوى منه. ج - يمين القذف، لعدم جواز الحد برد اليمين. د - اليمين المتممة، وهي يمين المدعي مع وجود شاهد واحد، وسبب عدم صحة ردها أنها تنوب عن الشهادة فصارت بمنزلة الشهادة. ه - يمين اللعان: لأنها بمنزلة الشهادة على المرأة، ولا تردها المرأة إذ وضعت لدرء حد الزنا عنها. و - اليمين المردودة على المدعي عند نكول المدعى عليه عنها، فإذا نكل المدعي عن اليمين المردودة عليه في هذه الحالة، ولم يتعلل بشيء، ولم يطلب مهلة لأداء اليمين سقط حقه منها، وليس له ردها على المدعى عليه، لأن اليمين المردودة لا ترد.

