1- المقرر - في قضاء هذه المحكمة – أن اليمين لغةً هو الإخبار عن أمر مع الاستشهاد بالله تعالى على صدق الخبر فهو لا يعتبر عملًا مدنيًا فحسب بل هو أيضًا عمل ديني ، فطالب اليمين يلجأ إلى ذمة خصمه ، والحالف عندما يؤدي اليمين إنما يستشهد بالله ويستنزل عقابه وقد نصت مواد الباب السادس من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 في المواد من 114 حتى 130 على طلب اليمين الحاسمة وشروط توجيهها ويستدل منها على أن اليمين ملك للخصم لا للقاضي ويجوز للخصم توجيهها في أية حالة كانت عليها الدعوى وعلى القاضي أن يجيب الخصم لطلبه متى توافرت شروط توجيهها وهي أن تكون متعلقة بالدعوى ومنتجة فيها وغير مخالفة لقاعدة من النظام العام ويجوز للقاضي أن يرفضها إذا كانت غير منتجة أو كان في توجيهها تعسف من الخصم، وخلاصة القول أن توجيه اليمين الحاسمة احتكام لضمير الخصم لحسم النزاع كله أو في شقٍ منه عندما يعوز الخصم الدليل لإثبات دعواه لا سيما عندما يتشدد القانون في اقتضاء أدلة معينة للإثبات ويتمسك الخصم الآخر بذلك، فإن حلفها الخصم فقد أثبت إنكاره لصحة الادعاء ويتعين رفضه، وإن نكل كان ذلك بمثابة إقرار ضمني بصحة الادعاء ووجب الحكم عليه بمقتضى هذا الإقرار، وكان كل طلب أو وجه دفاع يدلي به الخصم لدى محكمة الموضوع ويطلب إليها بطريق الجزم أن تفصل فيه ويكون الفصل فيه مما يجوز أن يترتب عليه تغيير وجه الرأي في الدعوى ، يجب على محكمة الموضوع - وعلى ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة - أن تجيب عليه بأسبابٍ خاصة، فإن هي لم تفعل كان حكمها قاصرًا. لما كان ذلك، وكان الثابت أن الطاعن طلب توجيه اليمين الحاسمة للمطعون ضده ليحلف بأن الأموال التي قام بتحويلها إليه كانت على سبيل الدين وأن ذمته مشغولة بها، وإذ كانت الواقعة محل الحلف متعلقة بالنزاع ومنتجة فيه ، ورفض الحكم المطعون فيه هذا الطلب بمقولة أن اليمين غير حاسمة في إثبات براءة ذمته من الأموال المطالب بها بصرفها في الغرض المخصصة من أجله ولم يقدم الدليل على ذلك، وهو قول من الحكم لا يواجه دفاع الطاعن، ولا يصلح ردًا عليه على الرغم من أنه دفاع جوهري يتغير به - إن صح - وجه الرأي في الدعوى، فإنه يكون معيباً بالقصور والإخلال بحق الدفاع مما يعيبه ويوجب نقضه .
( الطعن رقم 16542 لسنة 91 ق - جلسة 27 / 9 / 2022 )
2- إذ كان الثابت بمذكرة دفاع الطاعنة المقدمة أمام محكمة أول درجة بجلسة ..... أنها نازعت فى اليمين الموجهة إليها من المطعون ضده مدعية أنها غير جائزة القبول فاقدة أهم شروطها إذ صدر الحكم بتوجيهها فى غيبتها بما كان يجب معه تكليفها بالحضور على يد محضر لحلف اليمين بالصيغة التى أقرتها المحكمة فى اليوم الذى حددته عملاً بالمادة 124 من قانون الإثبات كما أن المطعون ضده عدل قبل صدور الحكم بتوجيه اليمين عن توجيهها إليها مكتفياً بطلب إحالة الدعوى للتحقيق لإثبات المديونية المدعاة فإن الحكم الابتدائى إذ أطرح هذه المنازعة على قالة إن العدول عن حكم الحلف غير جائز وأن الأوراق خلت مما يفيد عدول المطعون ضده عن توجيهها وهو مالا يواجه دفاعها , واعتبرها ناكلة عن حلفها خاسرة لدعواها يكون قاصراً للتسبيب .
(الطعن رقم 5777 لسنة 75 جلسة 2006/02/12 س 57 ص 126 ق 27)
3- النص فى المادة 124 من قانون الإثبات - يدل - على أن المشرع لم يسو بين الحكم بتوجيه اليمين وغيره من الأحكام والقرارات والأوامر التي تصدر أثناء سير الدعوى ولا تنتهي بها الخصومة وما يترتب على النكول عن اليمين من أثر يتمثل فى أن يصبح الحكم الصادر على الناكل نهائياً لا يقبل الطعن بأي طريق من طرق الطعن, ما لم يكن مبني الطعن بطلان إجراءات توجيه اليمين أو أنها وجهت فى غير حالاتها, ولا يجوز السماح له بعد نكوله بحلف اليمين التي سبق له النكول عنها.
(الطعن رقم 17 لسنة 67 جلسة 1998/04/13 س 49 ع 1 ص 319 ق 80)
4- مفاد نص المادة 124 من قانون الإثبات أن من وجهت إليه اليمين و قام لديه عذر منعه من الحضور للحلف لا يعتبر ناكلا ، فإذا أبدى العذر للمحكمة تعين عليها أن تقول كلمتها فيه بعد تمحيص دليله .
(الطعن رقم 867 لسنة 52 جلسة 1983/02/24 س 34 ع 1 ص 547 ق 121) ( الدوائر المدنية )
5- إذا صدر الحكم بتوجيه اليمين الحاسمة فى غيبة المكلف بالحلف وجب تكليفه بالحضور على يد محضر لحلف اليمين بالصيغة التى أقرتها المحكمة و فى اليوم الذى حددته فإن حضر و إمتنع عن الحلف و لم يردها و لم ينازع إعتبر ناكلاً ، و إن تغيب تنظر المحكمة فى سبب غيابه فإن كان بغير عذر إعتبر ناكلاً كذلك .
(الطعن رقم 481 لسنة 51 جلسة 1984/12/06 س 35 ع 2 ص 1987 ق 377)
6- لما كان النزاع فى دعوى الإسترداد بين المسترد و الدائن الحاجز يدور حول بيان ما إذا كان المسترد هو المالك للمنقولات المحجوز عليها أو غير مالك لها فإن اليمين التى توجه فيها إلى المسترد لا تكون حاسمة إلا إن كان حلفها أو النكول عنها يحسم وحدة النزاع فى هذه المسألة .
(الطعن رقم 1778 لسنة 50 جلسة 1984/10/25 س 35 ع 2 ص 1762 ق 334)
7- الحكم الصادر بناء على النكول عن اليمين له قوة الشىء المقضى فيه و لا يقبل الطعن فيه بأى طريق من طرق الطعن فى الأحكام ما لم يكن الطعن مبنياً على مدى جواز اليمين أو تعلقها بالدعوى أو بطلان فى الإجراءات الخاصة بتوجيهها أو حلفها .
(الطعن رقم 340 لسنة 45 جلسة 1980/03/25 س 31 ع 1 ص 883 ق 174)
8- إذ كان الثابت بالأوراق أن اليمين الحاسمة التى وجهها الطاعن إلى المطعون عليه أمام محكمة أول درجة قد وجهت فى واقعة غير مخالفة للنظام العام و منصبة على المبلغ المطالب به و متعلقة بشخص من وجهت إليه ، و أن المطعون عليه قد أعلن بصحيفتها التى أقرتها محكمة أسوان الإبتدائية للحضور أمامها بجلسة 1972/3/21 التى حددتها لحضوره للحلف كما أعلن بها مرة أخرى للحضور أمام محكمة شبرا الجزئية - المحال إليها الأوراق لتحليفه - و أنه لما حضر المطعون عليه أمام محكمة شبرا بجلسة 1972/5/22 المحددة للحلف لم يحلف اليمين و لم ينازع فيها ، فإعتبرته محكمة أول درجة ناكلاً و أعملت فى حقه الأثر الذى رتبه القانون على النكول عن أدائها مما كان يقتضى عدم جواز الطعن فى الحكم لنهائيته .
(الطعن رقم 340 لسنة 45 جلسة 1980/03/25 س 31 ع 1 ص 883 ق 174)
9- النص فى المادتين 1/114 و 124 من قانون الإثبات يدل - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - على أن اليمين الحاسمة ملك للخصم لا للقاضى ، و أن على القاضى أن يجيب طلب توجيهها متى توافرت شروطها إلا إذا بان له إن طالبها بتعسف فى هذا الطلب ، و إنه إذا صدر الحكم بتوجيه اليمين الحاسمة فى غيبة المكلف بالحلف وجب تكليفه بالحضور على يد محضر لحلف اليمين بالصيغة التى أقرتها المحكمة و فى اليوم الذى حددته، فإن حضر و إمتنع عن الحلف و لم يردها و لم ينازع أعتبر ناكلاً ، و إن تغيب تنظر المحكمة فى سبب غيابه فإن كان بغير عذر أعتبر ناكلاً كذلك .
(الطعن رقم 574 لسنة 42 جلسة 1976/04/06 س 27 ع 1 ص 871 ق 167)
فإذا لم ينازع في توجيه اليمين إليه أو رفض منازعته ، فإن له أن يتخذ أحد مواقف ثلاثة: :
أ- أن ينكل عن حلف اليمين : وعندئذٍ يعتبر خاسراً لدعواه أو لدفعه (118 إثبات) ويحكم عليه فيها، ويعتبر الخصم ناکلاً إذا لم يحضر في الجلسة المحددة لحلف اليمين إلا أن يكون تغيبه لعذر تقبله المحكمة ، أو إذا حضر وسكت (123 إثبات) ، أو قال أنه لا يذكر الواقعة المستحلف عليها ، أو رفض صراحة الحلف، أو إذا حلف مع إدخال تغيير على صيغة اليمين الموجهة إليه إلا أن يكون التغيير مجرد تغيير لفظی غیر مؤثر.
ب- أن يرد اليمين على خصمه : وبهذا لا يكتفي من يوجه إليه اليمين بموقف سلبي هو الرفض ولكنه يطلب ممن وجه إليه اليمين أن يحلفه هو والحق في رد اليمين وسيلة لإيجاد توازن بين مركزي الطرفين بالنسبة لهذا الدليل ، كما أنه يعتبر ضماناً لجديته إذ يؤدي إلى أن من يوجه اليمين يجب أن يكون متأكداً من قوة مركزه لاحتمال رد اليمين عليه وقيامه هو بحلفه، ويعتبر رد اليمين بمثابة طلب حلف يمين موجه إلى الخصم ، ولهذا يجب أن يتوافر فيه ما تقدم من شروط بالنسبة للأهلية اللازمة وبالنسبة للواقعة محل اليمين . وتطبيقاً لهذا لا يجوز رد اليمين على الخصم إلا إذا كانت الواقعة المستحلف عليها مشتركة بين الخصمين ، فإن كانت خاصة بمن وجهت إليه اليمين دون خصمه فليس له ردها عليه ( 114/ 2 إثبات) .
ولمن رد عليه اليمين أن ينكل عنها فيعتبر خاسراً لدعواه (118 إثبات) أو يحلفها فيكسبها ، وليس له أن يردها مرة أخرى على من ردها عليه وإلا ما انتهي أبداً تحقيق القضية، على أنه لا يوجد ما يمنع من وجه إليه اليمين أن يوجه إلى خصمه يميناً بشأن واقعة مختلفة، وعندئذٍ يعتبر ناکلاً بالنسبة لليمين الموجهة إليه ، وموجها ابتداءً يميناً جديدة لخصمه، وهذه اليمين الأخيرة إذ لا تعتبر رداً، ليمين سابقة ، فإنه يمكن لمن وجهت إليه أن يردها على من وجهها .
جـ- أن يحلف اليمين : وفقاً للصيغة التي تقرها المحكمة، ويجب أن تتضمن الصيغة كلمة «أحلف». وللحالف تأدية اليمين وفقاً للأوضاع المقررة بديانته (128 إثبات) . ويتم حلف اليمين في نفس الجلسة التي توجه فيها أو يفصل فيها في المنازعة بشأن جوازها أو تعلقها بالدعوى، على أن للمحكمة منح الخصم ميعاداً للحلف إذا رأت ذلك مناسباً (124 إثبات). ويتم حلف اليمين شفوياً، على أنه إذا كان الخصم أخرساً فإنه يؤدي اليمين كتابةً إن كان يعرفها وإلا فبالإشارة (129 إثبات) . ويجب أن يقوم الخصم بنفسه بحلف اليمين ، فليس له أن يوكل غيره في ذلك إذ الحلف يتضمن معنى الاحتكام للضمير . على أنه إذا كان الخصم شخصاً اعتبارياً فإن اليمين توجه إلى ممثله ، وهو الذي يحلفها ، بشرط أن يتعلق الأمر بواقعة شخصية بالنسبة له أو تكون يمين علم، وإذا كان هناك عذر يمنع من وجهت إليه اليمين من الحضور أمام المحكمة للحلف ، انتقلت المحكمة لمكانه أو ندبت أحد قضاتها لتحليفه فيه (126 إثبات) .(المبسوط في قانون القضاء المدني علماً وعملاً، الدكتور/ فتحي والي، طبعة 2017 دار النهضة العربية، الجزء : الثاني ، الصفحة : 234)
أولاً: الخصم الذي توجه إليه اليمين وهو حاضر بنفسه الجلسة أو الذي يُعلن بها فيحضر لا يخرج مسلكه عادة عن أحد الخطط الآتية:
الأولى: أن يقر بصحة الواقعة المطلوبة الحلف عليها.
الثانية: أن يرد اليمين على من وجهها إليه.
الثالثة: أن يرفض الحلف أو رد اليمين.
الرابعة: أن يحلف اليمين.
وفيما يلي تفصيل لازم:
الخطة الأولى: الإقرار بصحة الواقعة المطلوبة الحلف عليها :فإذا أجاب الخصم على اليمين الموجهة إليه بالاعتراف بالوقائع المطلوب الحلف عليها كان لهذا الاعتراف قوة الإقرار القضائي في الإثبات وتأخذ المحكمة به في الحكم الذي تصدره في الدعوى بغير حاجة للحلف لإن الغرض من توجيه اليمين قد تحقق بتسليم الخصم بنقطة النزاع.
الخطة الثانية: رد اليمين: لكل خصم توجه إليه اليمين الحق في أن يردها على الخصم التي يوجهها إليه على أنه لا يجوز الرد إذا انصبت اليمين على واقعة لا يشترك فيها الخصمان بل يستقل بها شخص من وجهت إليه اليمين ويجب على من ترد عليه اليمين أن يحلفها وإلا اعتبر ناکلاً وخسر دعواه ولا يجوز له أن يردها على خصمه من جديد ولا يجوز لمن رد اليمين على خصمه أن يرجع في ذلك متى قبل خصمه أن يحلف.
الخطة الثالثة: رفض الحلف أو الرد: إذا رفض من وجهت إليه اليمين أن يحلفها ولم يردها على خصمه وإذا ردت عليه ورفض الحلف اعتبر ناكلاً وقضى عليه بطلبات الخصم باعتبار أن الواقعة المطلوب الحلف عليها صحيحة لأن النكول عن الحلف يعتبر التزاماً وتترتب عليه نتائج الإقرار القضائي ولكن لا يعتبر رفض الحلف نکولاً إذا كانت الواقعة المطلوب الحلف عليها غير متعلقة بشخص الحالف وكل ما يلتزم به هذا الشخص هو أن يؤدي اليمين عن عدم علمه بالواقعة المذكورة.
ويعتبر تخلف الشخص المطلوب تحليفه اليمين عن الحضور لأدائها نكولاً عنها ما لم يكن التخلف لعذر، وإذا قضي عليه قضي عليه بطلبات موجه اليمين جاز له عند الطعن إبداء هذا العذر والقيام بهذا الحلف والوصول لإبطال الحكم المترتب على قرينة النكول المستفادة من غيابه.
الخطة الرابعة: حلف اليمين: وهذه هي الخطة التي يتبعها في أغلب الأحيان الخصم الذي توجه إليه اليمين ويجب عليه إذا لم يرد اليمين أن يحلفها ولا يجوز له التخلص من الحلف بحجة أن الأدلة المقدمة منه تثبت فساد الواقعة المطلوب الحلف عليها وذلك لأن لكل خصم أن يلجأ الذمة خصمه كلما أعوزه الدليل الكافي أو عجز عن الحصول عليه. (العشماوي في قواعد المرافعات الجزء الثاني ص 631 وما بعدها).
ثانياً: يجب على المحكمة قبل أن تعتبر الخصم المتخلف عن الحضور ناكلاً أن تتحقق من حصول إعلانه على يد محضر وتتحقق من أن هذا الإعلان قد تم صحيحاً ولا تعتد بإعلانه ولو بخطاب موصى عليه بعلم الوصول وإنما يجب إبراز أصل الإعلان على يد محضر ويجب على المحكمة أن تتحقق من صحة هذا الإعلان.
وإذا اعتبرت المحكمة الخصم ناكلاً لتخلفه عن الحضور ثم ثبت أنه لم يعلن على يد محضر أو أنه قد أعلن بإجراء باطل تكون قد أخطأت في تطبيق القانون ويكون حكمها باعتبار الخصم ناكلاً مبنياً على إجراءات باطلة.
الدكتور أحمد أبو الوفاء في التعليق على نصوص قانون الإثبات .(الشرح والتعليق على قانون الإثبات المدني، المستشار/ مصطفى مجدي هرجه، طبعة 2014، 2015 دار محمود، المجلد : الثاني ، الصفحة : 354)
النكول كما سبق أن ذكرنا إما أن يقع ممن وجهت إليه اليمين ابتداءً فلا يردها على خصمه ولا يحلف فيعتبر ناكلاً، أو يقع ممن ردت عليه اليمين، ومن المقرر وفقاً لنص المادة 118 أنه لا يستطيع ردها - فإذا لم يحلفها اعتبر ناکلاً ويقع النكول بعدم الحلف حين يجب الحلف، فإذا صدر على الخصم الحكم بالتحليف وهو حاضر فإن صيغة اليمين تكون بمدينة في منطوق الحكم ويجب على الخصم أن يحلفها فوراً أو يردها على خصمه وإلا اعتبر ناکلاً، ويجوز مع ذلك للمحكمة أن تعين في حكمها يوماً معيناً للحلف، ويعتبر نطقها بالحكم إعلاناً للخصوم الحاضرين، وإذا صدر الحكم بالتحليف في غيبة المكلف وجب تكليفه بالحضور على يد محضر لحلف اليمين بالصيغة التي أقرتها المحكمة، وفي اليوم الذي حددته فإن حضروا امتنع عن الحلف والرد دون أن ينازع اعتبر ناکلاً وإن تغيب تبحث المحكمة سبب تغيبه فإن ثبت لها أن تغيبه بعذر شرعي حددت له جلسة أخرى للحلف، وإلا اعتبر تغيبه دون عذر شرعي نكولاً. (الوجيز للسنهوری ص 703).
ويجب في حالة صدور حكم اليمين في غيبة المكلف بالحلف أن يعلن بالجلسة المحددة للحلف على يد محضر إعلاناً صحيحاً، ولا يغني عن الإعلان حضور الخصم في جلسة سابقة أو علمه بأية طريقة أخرى، أما إذا لم يتم إعلانه بتلك الجلسة فإنه لا يصح الحكم عليه على اعتبار أنه ناكل عن اليمين. ولا يعتبر النكول عن اليمين حجة إلا على من نكل فلا يتعدى أثره إلى غيره.(التعليق على قانون الإثبات، المستشار/ عز الدين الديناصوري، والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات الأستاذ/ خيري راضي المحامي، الناشر/ دار الكتب والدراسات العربية، الجزء الرابع ، الصفحة : 1440)
حالة عدم المنازعة في جواز توجيه اليمين الحاسمة أو تعلقها بالدعوى:
إذا كان الخصم المطلوب منه الحلف حاضراً بالجلسة وقت طلب توجيه اليمين الحاسمة ولم ينازع لا في جوازها ولا في تعلقها بالدعوى، توجهها إليه المحكمة بعد تعديل صيغتها إذا رأت داعياً لذلك أو قام نزاع بشأن الصيغة المطلوب الحلف عليها، ووجب على من وجه إليه اليمين أن يحلفها فوراً أو يردها إلى خصمه، فإذا لم يحلفها أو يردها على خصمه اعتبر ناکلاً عن اليمين.
ويجوز للمحكمة أن تعطيه ميعاداً للحلف إذا رأت لذلك وجهاً ويكون ذلك في الغالب بناء على طلب من وجه إليه اليمين.
أما إذا لم يكن الخصم الموجه إليه اليمين حاضراً وقت توجيه اليمين، وجب إعلانه على يد محضر بالحضور للحلف بالصيغة التي أقرتها المحكمة وفي اليوم الذي حددته.
ولا يقوم مقام الإعلان سبق حضور الخصم أمام المحكمة وقت توجيه اليمين أو علمه باليمين والجلسة المحددة للحلف، أو إخطاره بذلك بخطاب مسجل وذلك عملاً بالمادة السادسة من قانون المرافعات التي تقضى بأن كل إعلان أو تنفيذ يكون بواسطة المحضرين بناء على طلب الخصم أو قلم الكتاب أو أمر المحكمة.
ويترتب على النكول عن اليمين أن يحكم لصالح موجه اليمين.
وهذا الحكم لا يجوز الطعن فيه بالإستئناف إلا إذا كان الإستئناف مبنياً على مدى جواز اليمين أو تعلقها بالدعوى أو بطلان في الإجراءات الخاصة بتوجيهها.
وفي حالة تغيب الخصم الموجه إليه اليمين بعد إعلانه، فإنه يعتبر ناکلاً عن اليمين، ما لم يكن غيابه بعذر، وتقدير قيام هذا العذر مما يخضع لسلطة قاضي الموضوع متى أقام قضاءه على اعتبارات سائغة.
أما إذا ثبت عدم إعلانه بالجلسة المحددة وفقاً للقانون فلا يصح الحكم عليه على اعتبار أنه ناكل عن اليمين.(موسوعة البكري القانونية في قانون الإثبات، المستشار/ محمد عزمي البكري، طبعة 2017، دار محمود، المجلد : الرابع ، الصفحة : 2027)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون التقاضي والإثبات ، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 160 .
(مادة 142):
إذا لم ينازع من وجهت إليه اليمين لا في جوازها ولا في تعلقها بالدعوى - وجب عليه إن كان حاضراً بنفسه أن يحلفها فوراً ، وإلا أعتبر ناکلاً. ويجوز للمحكمة أن تعطيه ميعاداً للحلف إذا رأت لذلك وجهاً فإن لم يكن حاضراً وجب تكليفه على يد محضر الحضور لحفلها بالصيغة التي أقرتها المحكمة، وفي اليوم الذي حددته، فإن حضر وامتنع دون أن ينازع أو تخلف بغير عذر - اعتبر ناكلاً كذلك.
(م (124) إثبات مصري، و(200) - (3) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، و(126) بینات سوري، و (78) إثبات سوداني).
المذكرة الإيضاحية:
أخذ في هذه المادة بمذهب أبي حنيفة، بعدم رد اليمين، خلافاً لمن يقول بردها، أو بردها في بعض الأحوال وعدم ردها في البعض الآخر. (ابن القيم، الطرق الحكمية، ص (116) وما بعدها، وأحمد إبراهيم، طرق القضاء، ص (263) - (269)). والقانون يأخذ برد اليمين. (راجع المواد المشار إليها فيما سبق).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الأول ، الصفحة / 241
رَدُّ الْيَمِينِ:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلإْمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ صَحِيحَةٌ قُضِيَ لَهُ بِهَا. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ أَصْلاً، أَوْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ غَيْرُ حَاضِرَةٍ، طَلَبَ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَعْدَ عَرْضِ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَيْهِ رُفِضَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ بِلاَ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى مَالاً، أَوِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَلَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَحَصَرَهَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي.
فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي حُكِمَ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَقَدْ صَوَّبَهُ أَحْمَدُ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِبَعِيدٍ، يَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ. وَقَالَ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ، وَبِهِ قَالَ الإِْمَامُ مَالِكٌ فِي الأْمْوَالِ خَاصَّةً.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى، لِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ» وَلأِنَّهُ إِذَا نَكَلَ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي وَقَوِيَ جَانِبُهُ، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّهِ، كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ نُكُولِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لاَ أَدَعُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِف.
النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ:
النُّكُولُ لُغَةً: الاِمْتِنَاعُ. يُقَالُ: نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ؛ أَيِ امْتَنَعَ عَنْهَا.
وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الاِصْطِلاَحِ إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَالنُّكُولُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي أَحَدِ رَأْيَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَكُونُ حُجَّةً يُقْضَى بِهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ إِذَا نَكَلَ فِي دَعْوَى الْمَالِ أَوْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي بِطَلَبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعِي قُضِيَ لَهُ بِمَا طَلَبَ وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعِي رُفِضَتْ دَعْوَاهُ. فَقَدْ أَقَامُوا نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَقَامَ الشَّاهِدِ، إِذْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِحَقِّهِ إِذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَحَلَفَ، فَكَذَلِكَ يُقْضَى لَهُ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي. فَالْحَقُّ عِنْدَهُمْ لاَ يَثْبُتُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، كَمَا لاَ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ بِهِ وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ كُلَّ دَعْوَى لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، كَالْقَتْلِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ، فَلاَ يَمِينَ تُوَجَّهُ مِنَ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَلاَ بُدَّ لِتَوْجِيهِ الْيَمِينِ مِنْ إِقَامَةِ شَاهِدٍ عَلَى الدَّعْوَى، فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِرَدِّ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَلاَ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي، إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِي رَدِّهَا عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَيْهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ لِكَوْنِهِ بَاذِلاً أَوْ مُقِرًّا، إِذْ لَوْلاَ ذَلِكَ لأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ لِيَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ. وَلاَ وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لأِحْمَدَ، وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَيُحْكَمُ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع ، الصفحة / 52
الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالإِْنْكَارِ فِي الدَّعْوَى.
يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعِي لإِِثْبَاتِ حَقِّهِ أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ دَعْوَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ عَمَّا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُقِرَّ، وَإِمَّا أَنْ يُنْكِرَ.
فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ الْحَقُّ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَضَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا وَطَلَبَ الْيَمِينَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَّفَهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَلَ حَكَمَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي. هَذَا طَرِيقُ الْحُكْمِ إِجْمَالاً، لِقَوْلِ النَّبِيِّ: صلي الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي (إِثْبَاتٍ، وَدَعْوَى، حَلِفٍ، إِقْرَارٍ، نُكُولٍ).
مَا بِهِ يَتَحَقَّقُ الإِْنْكَارُ:
أَوَّلاً: النُّطْقُ:
يَتَحَقَّقُ الإِْنْكَارُ بِالنُّطْقِ. وَيُشْتَرَطُ فِي النُّطْقِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا بِحَيْثُ لاَ يُحْتَمَلُ إِلاَّ الإِْنْكَارَ، كَأَنْ يَقُولَ لَمْ تُسَلِّفْنِي مَا تَدَّعِيهِ. وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِهَا صَرِيحَةً أَوْ غَيْرَ صَرِيحَةٍ، كَأَنْ يَقُولَ: لاَ حَقَّ لَهُ عِنْدِي. فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِنْكَارًا، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَالْقَوْلُ الآْخَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا؛ لأِنَّ نَفْيَ الْمُطْلَقِ يَشْمَلُ نَفْيَ الْمُقَيَّدِ، فَقَوْلُهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ نَفْيٌ مُطْلَقٌ لِحَقِّ الْمُدَّعِي، أَيًّا كَانَ سَبَبُهُ، فَيُعْتَبَرُ جَوَابًا كَافِيًا وَإِنْكَارًا مُوجِبًا لِلْحَلِفِ بِشُرُوطِهِ.
ثَانِيًا: الاِمْتِنَاعُ مِنَ الإِْقْرَارِ وَالإِْنْكَارِ:
لَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ امْتِنَاعِهِ هَذَا. فَقَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله : هُوَ إِنْكَارٌ، فَيُسْتَحْلَفُ بَعْدَهُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - إِنَّ قَوْلَهُ لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ بِمَنْزِلَةِ النُّكُولِ، فَيَقْضِي بِلاَ اسْتِحْلاَفٍ، كَمَا يَقْضِي عَلَى النَّاكِلِ عَنِ الْيَمِينِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ الْقَاضِي أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ حَكَمَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ: إِنْ قَالَ لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ لاَ يُسْتَحْلَفُ؛ لأِنَّ هُ لَمْ يُظْهِرِ الإِْنْكَارَ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ وَيُنْكِرَ. وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ يُؤَدِّبُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى امْتِنَاعِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ.
وَنَقَلَ الْكَاسَانِيُّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ إِقْرَارٌ. وَلَمْ نَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ثَالِثًا: السُّكُوتُ:
مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ فَسَكَتَ، فَفِي اعْتِبَارِ سُكُوتِهِ إِنْكَارًا أَقْوَالٌ:
الأْوَّلُ: إِنَّ سُكُوتَهُ إِنْكَارٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ؛ لأِنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ. قَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: لأِنَّ الدَّعْوَى أَوْجَبَتِ الْجَوَابَ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ إِمَّا إِقْرَارٌ وَإِمَّا إِنْكَارٌ، فَلاَ بُدَّ مِنْ حَمْلِ السُّكُوتِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالْحَمْلُ عَلَى الإِْنْكَارِ أَوْلَى؛ لأِنَّ الْعَاقِلَ الْمُتَدَيِّنَ لاَ يَسْكُتُ عَنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِغَيْرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَكَانَ حَمْلُ السُّكُوتِ عَلَى الإِْنْكَارِ أَوْلَى، فَكَانَ السُّكُوتُ إِنْكَارًا دَلاَلَةً.
وَهَذَا إِنْ كَانَ سُكُوتُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ كَمَا لَوْ كَانَ فِي لِسَانِهِ آفَةٌ تَمْنَعُهُ عَنِ التَّكَلُّمِ، أَوْ فِي سَمْعِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ سَمَاعِ الْكَلاَمِ، فَلاَ يُعَدُّ سُكُوتُهُ إِنْكَارًا.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ أَيْضًا أَنْ يَسْكُتَ لِدَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ. أَمَّا الأَْخْرَسُ فَقَالُوا: إِنَّ تَرْكَهُ الإِْشَارَةَ بِمَنْزِلِهِ السُّكُوتِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَطْلُبُ الْقَاضِي مِنَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي دُرَرِ الْحُكَّامِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ ثَانِي قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ سُكُوتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ النُّكُولِ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِالسُّكُوتِ كَمَا يَحْكُمُ عَلَى الْمُنْكِرِ النَّاكِلِ عَنِ الْيَمِينِ، بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ الْقَاضِي بِحُكْمِ سُكُوتِهِ، فَيَقُولُ لَهُ: إِنْ أَجَبْتَ عَنْ دَعْوَاهُ وَإِلاَّ جَعَلْتُك نَاكِلاً وَقَضَيْتُ عَلَيْكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَيْضًا: يَحْبِسُهُ الْقَاضِي حَتَّى يُجِيبَ عَنِ الدَّعْوَى.
غَيْبَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ:
إِذَا حَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي، فَأَنْكَرَ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ، ثُمَّ غَابَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكَذَا إِذَا سُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ ثُمَّ غَابَ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لأِنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الإِْنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ.
وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله ، فَقَالَ بِصِحَّةِ الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ لأِنَّ الشَّرْطَ عِنْدَهُ الإِْصْرَارُ عَلَى الإِْنْكَارِ إِلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ، وَالإِْصْرَارُ ثَابِتٌ بَعْدَ غَيْبَتِهِ بِالاِسْتِصْحَابِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَصْلاً.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا وَالْمُعَامَلاَتِ وَالْمُدَايَنَاتِ وَالْوَكَالاَتِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ إِلاَّ الْعَقَارَ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِيهِ إِلاَّ أَنْ تَطُولَ غَيْبَتُهُ وَيَضُرَّ ذَلِكَ بِخَصْمِهِ.
حُكْمُ الْمُنْكِرِ:
إِذَا ادُّعِيَ عَلَى إِنْسَانٍ بِشَيْءٍ فَأَنْكَرَ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تُطْلَبُ مِنْ خَصْمِهِ، فَإِنْ أَقَامَهَا حُكِمَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِقَامَتِهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْتَحْلِفُ الْمُنْكِرَ إِذَا طَلَبَ خَصْمُهُ تَحْلِيفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ حَكَمَ بِبَرَاءَتِهِ مِنَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَلَ قَضَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يَقْضِي عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ، فَإِنْ حَلَفَ الطَّالِبُ حِينَئِذٍ قَضَى لَهُ.
وَدَلِيلُ اسْتِحْلاَفِ الْمُنْكِرِ حَدِيثُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» السَّابِقُ، وَحَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَفِيهِ «أَنَّ رَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلاً مِنْ كِنْدَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: إِنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي وَرِثْتُهَا عَنْ أَبِي. وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: أَرْضِي وَفِي يَدَيَّ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ قَالَ: إِنَّهُ لاَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ. قَالَ: لَيْسَ لَكَ إِلاَّ ذَلِكَ».
شَرْطُ اسْتِحْلاَفِ الْمُنْكِرِ:
انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ بِاشْتِرَاطِ شَرْطَيْنِ لاِسْتِحْلاَفِ الْمُنْكِرِ، وَعَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِ الأَْرْبَعِينَ:
أ - أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مُخَالَطَةٌ بِدَيْنٍ أَوْ تَكَرُّرُ بَيْعٍ وَلَوْ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ، وَأَنْكَرَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْمُنْكِرِ شَيْءٌ، وَلَمْ يُطَالَبْ بِيَمِينٍ.
وَالْمُخَالَطَةُ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ مُعَامَلَةٍ بِحَسْبِهَا.
وَاسْتَثْنَوْا مَوَاضِعَ تَجِبُ فِيهَا الْيَمِينُ بِدُونِ خُلْطَةٍ: مِنْهَا: أَهْلُ الظُّلْمِ، وَالضَّيْفُ، وَالْمُتَّهَمُ، وَالْمَرِيضُ، وَالصُّنَّاعُ فِيمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِمُ اسْتِصْنَاعُهُ، وَأَرْبَابُ الأَْسْوَاقِ وَالْحَوَانِيتِ فِيمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِمْ بَيْعُهُ، وَالرُّفَقَاءُ فِي السَّفَرِ يَدَّعِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، الْوَدِيعَةُ إِذَا ادُّعِيَتْ عَلَى أَهْلِهَا، وَالْمُزَايَدَةُ إِذَا ادُّعِيَ عَلَى مَنْ حَضَرَهَا أَنَّهُ اشْتَرَى الْمَعْرُوضَ لِلْبَيْعِ.
ب - أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى التَّعَدِّي وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِمَا مَعْرُوفًا بِمِثْلِ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا بِمِثْلِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: دَعْوَى، وَقَضَاءٍ، وَيَمِينٍ.
الْمَوَاضِعُ الَّتِي يُسْتَحْلَفُ فِيهَا الْمُنْكِرُ وَالَّتِي لاَ يُسْتَحْلَفُ فِيهَا:
إِنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ «الْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الأُْمُورِ لاَ اسْتِحْلاَفَ فِيهَا؛ لأِنَّ الْحُقُوقَ نَوْعَانِ:
الأَْوَّلُ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْعِبَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ: فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ، أَنَّ الْمُنْكِرَ يُسْتَحْلَفُ فِيهَا إِذَا اتُّهِمَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ تَزَوَّجَ مَنْ لاَ تَحِلُّ لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى الْجَهْلَ. أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ. وَكَذَا قَالَ إِسْحَاقُ فِي طَلاَقِ السَّكْرَانِ: يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْقِلُ، وَفِي طَلاَقِ النَّاسِي: يَحْلِفُ عَلَى نِسْيَانِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لاَ اسْتِحْلاَفَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَصْلاً. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَالَ طَاوسٌ وَالثَّوْرِيُّ.
الثَّانِي: حُقُوقُ الْعِبَادِ. أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الاِسْتِحْلاَفِ فِي الأَْمْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهَا:
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: يُسْتَحْلَفُ فِي جَمِيعِ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لاَ يُسْتَحْلَفُ إِلاَّ فِي كُلِّ دَعْوَى لاَ تَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدَيْنِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لاَ يُسْتَحْلَفُ إِلاَّ فِيمَا يَصِحُّ بَذْلُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ: لاَ يُسْتَحْلَفُ إِلاَّ فِيمَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ.
وَمَثَّلَ لَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِمَنِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ، وَلِلْ مَيِّتِ وَصِيٌّ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ، فَأَنْكَرَ. فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ حَكَمَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْوَصِيِّ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لأِنَّ مَقْصُودَ التَّحْلِيفِ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَالْوَصِيُّ لاَ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ نَكَلَ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي تَحْلِيفِهِ.
وَهَذَا الْخِلاَفُ الْمُتَقَدِّمُ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ هُوَ فِي غَيْرِ الْمُؤْتَمَنِ، أَمَّا الْمُؤْتَمَنُ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ، عَلَيْهِ الْيَمِينُ؛ لأِنّه مُنْكِرٌ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ: «الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».
الثَّانِي: لاَ يَمِينَ؛ لأِنَّ هُ صَدَّقَهُ، وَلاَ يَمِينَ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ. لاَ يَمِينَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُتَّهَمَ؛ لأِنَّ هُ إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ تُنَافِي مَعْنَى الاِئْتِمَانِ فَقَدِ اخْتَلَّ الاِئْتِمَانُ.
وَتَفْصِيلُ مَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّ الاِسْتِحْلاَفَ لاَ يَكُونُ فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ، بِأَنْ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِمَا يُوجِبُ اللِّعَانَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ؛ لأِنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَاهَا، فَلاَ يُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالنُّكُولِ.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الإِْيلاَءِ وَالرِّقِّ وَالاِسْتِيلاَدِ وَالْوَلاَءِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُسْتَحْلَفُ فِيهَا. وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا. وَقِيلَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ رَآهُ مَظْلُومًا لاَ يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
ثُمَّ قَدْ قَالَ صَاحِبُ الأَْشْبَاهِ: لاَ يُسْتَحْلَفُ فِي إِحْدَى وَثَلاَثِينَ صُورَةً. وَنَقَلَ هَذَا صَاحِبُ الدُّرِّ وَعَدَّدَهَا بِالتَّفْصِيلِ، وَأَضَافَ إِلَيْهَا هُوَ وَابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الصُّوَرِ مَا تَمَّتْ بِهِ تِسْعًا وَسِتِّينَ صُورَةً.
حُكْمُ الإِْنْكَارِ كَذِبًا:
يَجُوزُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ الإِْنْكَارُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي عِنْدَهُ حَقٌّ وَكَانَ مُبْطِلاً فِي دَعْوَاهُ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَالِمًا بِحَقِّ الْمُدَّعِي عِنْدَهُ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ الإِْنْكَارُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَسْأَلَتَيْنِ يَجُوزُ فِيهِمَا الإِْنْكَارُ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُحِقٌّ:
الأُْولَى: دَعْوَى الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، كَمَا إِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الْمَالَ الَّذِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ فِيهِ كَذَا، فَلِلْبَائِعِ - وَلَوْ كَانَ وَاقِفًا عَلَى الْعَيْبِ الْقَدِيمِ - أَنْ يُنْكِرَ وُجُودَهُ حَتَّى يَثْبُتَهُ الْمُشْتَرِي، وَيَرُدَّهُ إِلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ بِدَوْرِهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مَنْ بَاعَهُ إِيَّاهُ.
الثَّانِيَةُ: لِوَصِيِّ الْمُتَوَفَّى أَنْ يُنْكِرَ دَيْنَ الْمَيِّتِ وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي دُرَرِ الْحُكَّامِ. وَفِي شَرْحِ الأَْتَاسِيِّ عَلَى الْمَجَلَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ الإِْنْكَارُ إِنْ تَحَقَّقَتْ حَاجَتُهُ إِلَى الْبَيِّنَةِ. قَالَ: وَهَذَا فِي مَسَائِلَ مِنْهَا: اسْتَحَقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يُعْذَرُ فِي الإِْنْكَارِ، وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَ الْمُدَّعِي، إِذْ لَوْ أَقَرَّ هُوَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى بَائِعِهِ بِالْيَمِينِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا نَصَبَ الْقَاضِي مُسَخَّرًا (أَيْ مُمَثِّلاً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ) يُنْكِرُ عَنِ الْبَائِعِ جَازَ لِلْمُسَخِّرِ الإِْنْكَارُ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِالْمَصْلَحَةِ. وَلَعَلَّهُمْ يَقْصِدُونَ مَصْلَحَةَ تَمْكِينِ الْمُدَّعِي مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِتَكُونَ الْبَيِّنَةُ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ مُنْكِرٍ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ الإِْنْكَارُ فِي حَالِ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَالِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الإِْكْرَاهِ. قَالُوا: إِذَا اسْتَخْفَى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ الَّذِي يُرِيدُ دَمَهُ أَوْ مَالَهُ، فَسَأَلَهُ السُّلْطَانُ عَنْهُ، فَسَتَرَ عَلَيْهِ، وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: احْلِفْ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَك، فَحَلَفَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي؛ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَدَمِهِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقِيَهُ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أُجِرَ فِيمَا فَعَلَ، وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ فِيمَا حَلَفَ.
قَالُوا: وَكَذَلِكَ فَعَلَ مَالِكٌ فِي هَذَا بِعَيْنِهِ. أَمَّا التَّخَلُّصُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْمَأْزِقِ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّوْرِيَةِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْرِيَةٌ).
جَحَدَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَذِبًا، إِنْ كَانَ الآْخَرُ جَاحِدًا لِحَقِّهِ:
ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ حَتَّى فِي حَالَةِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ قِبَلَ الْمُدَّعِي، وَكَانَ الْمُدَّعِي قَدْ جَحَدَهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «أَدِّ الأَْمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ.
وَلأِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ دَيْنِهِ، كَأَنْ يَكُونَ دَيْنُ أَحَدِهِمَا ذَهَبًا وَدَيْنُ الآْخَرِ فِضَّةً، فَإِنَّ الْجَحْدَ هُنَا يَكُونُ كَبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ وَلَوْ تَرَاضَيَا. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُقَاصَّةِ، وَهِيَ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي. إِذَنْ لَيْسَ لَهُ تَعْيِينُ حَقِّهِ بِغَيْرِ صَاحِبِهِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْمَدِينِ جَحْدُ دَيْنِ مَنْ جَحَدَ دَيْنَهُ، إِذَا كَانَ عَلَى الْجَاحِدِ مِثْلُ مَا لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَتَحْصُلُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ شُرُوطُهَا لِلضَّرُورَةِ. فَإِنْ كَانَ لَهُ دُونَ مَا لِلآْخَرِ جَحَدَ مِنْ حَقَّةِ بِقَدْرِهِ.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
تَعْرِيضُ الْقَاضِي بِالإِْنْكَارِ فِي الْحُدُودِ:
لِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ تَعْرِيضِ الْقَاضِي بِالإِْنْكَارِ لِلْمُقِرِّ بِحَدٍّ، ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ - أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لَدَى الْحَاكِمِ ابْتِدَاءً، أَوْ بَعْدَ دَعْوَى بِمَا يَسْتَوْجِبُ عُقُوبَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، فَإِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى سَبِيلِ الاِسْتِحْبَابِ.
وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم لِمَاعِزٍ لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَى: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ.
وَقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم لِلَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ. «مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِالإِْنْكَارِ فِي ذَلِكَ أَصْلاً.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، أَنَّهُ يَعْرِضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ إِنْ كَانَ الْمُقِرُّ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ. فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لاَ يَعْرِضُ لَهُ.
أَمَّا التَّصْرِيحُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ بِالْحَدِّ، وَتَلْقِينُ الْمُقِرِّ ذَلِكَ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِهِ.
قَالُوا: لاَ يَقُولُ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ إِقْرَارِكَ» وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَقَالُوا: لاَ بَأْسَ بِتَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ.
وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ جَوَازُ التَّصْرِيحِ. وَيُؤَيِّدُهُ احْتِجَاجُ صَاحِبِ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ أُتِيَ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ قَدْ سَرَقَتْ، فَقَالَ لَهَا: (أَسَرَقْتِ؟ قُولِي: لاَ) فَقَالَتْ: لاَ. فَخَلَّى سَبِيلَهَا.
الضَّمَانُ بَعْدَ إِنْكَارِ الْحَقِّ:
إِذَا أَنْكَرَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ بَعْدَ طَلَبِ رَبِّهَا لَهَا، دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ إِنْكَارِهِ، كَأَنْ كَانَتْ دَابَّةً فَمَاتَتْ، أَوْ دَارًا فَانْهَدَمَتْ، يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، وَيَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا؛ لأِنَّ هُ بِإِنْكَارِهِ لَهَا يَكُونُ غَاصِبًا؛ وَلأِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِطَلَبِ الْمَالِكِ الْوَدِيعَةَ وَإِنْكَارِ الْمُودِعِ لَهَا؛ لأِنَّ هُ بِإِنْكَارِهِ عَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ الْحِفْظِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَيَبْقَى مَالُ الْغَيْرِ بِيَدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا، فَإِذَا هَلَكَ ضَمِنَهُ.
وَلَوْ أَنَّ الْمُودِعَ عَادَ بَعْدَ إِنْكَارِهِ، فَأَقَرَّ الْوَدِيعَةَ، لَمْ يَزُلْ عَنْهُ الضَّمَانُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَضْمَنُ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ بِالإِْنْكَارِ، إِلاَّ إِنْ نَقَلَهَا مِنْ مَكَانِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ وَقْتَ الإِْنْكَارِ، إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُنْقَلُ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ بَعْدَ الْجُحُودِ، فَهَلَكَتْ، لاَ يَضْمَنُ.
أَمَّا إِنْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى صَاحِبِهَا بَعْدَ الإِْنْكَارِ وَقَبْلَ تَلَفِهَا فَيَزُولُ الضَّمَانُ، فَلَوْ أَوْدَعَهُ إِيَّاهَا مَرَّةً ثَانِيَةً فَتَلِفَتْ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ.
قَطْعُ مُنْكِرِ الْعَارِيَّةِ:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ قَطْعَ عَلَى مُنْكِرِ الْوَدِيعَةِ أَوِ الْعَارِيَّةِ أَوِ الأَْمَانَةِ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمْ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الأَْخْذِ مِنْ حِرْزٍ. قَالُوا: وَلِحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ، وَلاَ مُخْتَلِسٍ، قَطْعٌ.
وَالْخَائِنُ هُوَ جَاحِدُ الْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا.
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ، عَدَمُ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِمْ، إِلاَّ جَاحِدَ الْعَارِيَّةِ خَاصَّةً يَجِبُ قَطْعُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَارِقٌ؛ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا.
قَالَ أَحْمَدُ: لاَ أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: فِي حَدِيثِ الْمَخْزُومِيَّةِ هَذَا، إِنَّ أَكْثَر رِوَايَاتِهِ أَنَّهَا «سَرَقَتْ» فَيُؤْخَذُ بِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَعِيرُ وَتَجْحَدُ، وَكَانَتْ تَسْرِقُ فَقُطِعَتْ لَسَرِقَتِهَا لاَ لِجُحُودِهَا.
وَيَرْجِعُ فِي تَفْصِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْخِلاَفُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (سَرِقَةٌ).
الإِْنْكَارُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ:
مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لِحَقِّ اللَّهِ، أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ:
أ - الإِْنْكَارُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ بِمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ:
لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِالزِّنَى أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ أَوْ رَجَعَ عَنْهُ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَاتٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْلُ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَلْزَمُهُ حُكْمُ إِقْرَارِهِ، بَلْ إِذَا رَجَعَ وَأَنْكَرَ السَّبَبَ أَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، أَوْ أَنْكَرَ إِقْرَارَهُ بِهِ، أَوْ أَكْذَب الشُّهُودَ - أَيْ شُهُودَ الإِْقْرَارِ - سَقَطَ الْحَدُّ، فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ رُجُوعُهُ أَثْنَاءَ إِقَامَةِ الْحَدِّ سَقَطَ بَاقِيهِ.
قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: لأِنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ، كَالإِْقْرَارِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ، فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الإِْقْرَارِ، بِخِلاَفِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ؛ لِوُجُودِ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا هُوَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلشَّرْعِ. وَمِثْلُ حَدِّ الزِّنَى فِي ذَلِكَ حَدُّ السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَدَّ إِذَا ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ بِإِنْكَارِهِ أَوِ الرُّجُوعِ عَنْهُ.
وَهَذَا قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي السَّرِقَةِ خَاصَّةً. الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ قَالَهُ أَشْهَبُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ الرُّجُوعَ لاَ يُقْبَلُ إِلاَّ بِأَمْرٍ يُعْذَرُ بِهِ الْمُقِرُّ - لاَ مُطْلَقًا - وَمِثَالُ مَا يُعْذَرُ بِهِ الْمُقِرُّ أَنْ يَقُولَ وَطِئْتُ زَوْجَتِي أَوْ أَمَتِي وَهِيَ حَائِضٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ زِنًى.
ب - الإِْنْكَارُ بَعْدَ الإِْقْرَارِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ:
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: حُقُوقُ الآْدَمِيِّينَ وَحُقُوقُ اللَّهِ الَّتِي لاَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ لاَ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْ إِقْرَارِهِ بِهَا. لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا.
حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا ثَبَتَ الْمَالُ؛ لأِنَّ هُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَسَقَطَ الْقَطْعُ؛ لأِنَّ هُ حَقُّ اللَّهِ. غَيْرَ أَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي عَرَضَتْ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي رُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ، دَعَتْ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ الْقَاضِيَ، إِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ فِي إِقْرَارٍ، لاَ يَقْضِي عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِحْلاَفِ خَصْمِهِ أَنَّ الإِْقْرَارَ لَمْ يَكُنْ بَاطِلاً.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ وَأَقْبَضَ الْهِبَةَ، أَوْ أَنَّهُ قَبَضَ الْمَبِيعَ، أَوْ آجَرَ الْمُسْتَأْجِرُ، ثُمَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَسَأَلَ إِحْلاَفَ خَصْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لأِنَّ دَعْوَاهُ تَكْذِيبٌ لإِِقْرَارِهِ؛ وَلأِنَّ الإِْقْرَارَ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ فَقَالَ: حَلِّفُوهُ لِي مَعَ بَيِّنَتِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ. فَكَذَلِكَ هُنَا.
قَالَ: وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يُسْتَحْلَفُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لأِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالإِْقْرَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَيُحْتَمَلُ صِحَّةُ مَا قَالَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْلَفَ خَصْمُهُ لِنَفْيِ الاِحْتِمَالِ.
أَثَرُ جُحُودِ الْعُقُودِ فِي انْفِسَاخِهَا:
إِذَا جَحَدَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْبَيْعَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ - غَيْرَ النِّكَاحِ - لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى إِنْكَارِهِ لَهُ انْفِسَاخُ الْعَقْدِ، وَكَانَ لِلآْخَرِ التَّمَسُّكُ بِالْعَقْدِ، وَلَهُ بَعْدَ الإِْثْبَاتِ الْمُطَالَبَةُ بِتَنْفِيذِهِ. لَكِنْ إِنْ رَضِيَ هَذَا الآْخَرُ بِالْفَسْخِ قَوْلاً، أَوْ بِتَرْكِهِ الْخُصُومَةَ مَعَ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى بِالْفَسْخِ، كَنَقْلِهِ الْمَبِيعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ. فَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: اشْتَرَيْتُ مِنِّي هَذِهِ الدَّابَّةَ، وَأَنْكَرَ الآْخَرُ الشِّرَاءَ، فَرَضِيَ الْبَائِعُ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ، وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ رِضَى الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ لاَ يُقْبَلُ؛ لاِنْفِسَاخِ الْعَقْدِ.
أَمَّا النِّكَاحُ فَلَوْ جَحَدَ الرَّجُلُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ ادَّعَى الزَّوَاجَ وَبَرْهَنَ، يُقْبَلُ مِنْهُ بُرْهَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ النِّكَاحَ لاَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِسَائِرِ الأَْسْبَابِ فَكَذَا بِهَذَا السَّبَبِ.
وَيُوَافِقُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَ الزَّوْجِ النِّكَاحَ لاَ يَكُونُ فَسْخًا، وَلَيْسَ هُوَ أَيْضًا طَلاَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَلَوْ نَوَاهُ؛ لأِنَّ الْجُحُودَ هُنَا لِعَقْدِ النِّكَاحِ، لاَ لِكَوْنِهَا امْرَأَتَهُ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَالَ: لَيْسَتْ هِيَ امْرَأَتِي، فَإِنَّهُ إِنْ نَوَى الطَّلاَقَ وَقَعَ طَلاَقًا. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ نَوَى الطَّلاَقَ بِجَحْدِ النِّكَاحِ يَكُونُ طَلاَقًا، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلاَقِ.
أَثَرُ إِنْكَارِ الرِّدَّةِ فِي حُصُولِ التَّوْبَةِ مِنْهَا:
إِذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ إِنْسَانٍ بِالْبَيِّنَةِ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ارْتَدَّ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ الإِْنْكَارِ مِنْهُ تَوْبَةً قَوْلاَنِ:
الأَْوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالرِّدَّةِ، وَهُوَ يُنْكِرُهَا، وَهُوَ مُقِرٌّ بِالتَّوْحِيدِ وَبِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم وَبِدِينِ الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهُ، لاَ لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ، بَلْ لأِنَّ إِنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ، فَيُمْتَنَعُ الْقَتْلُ فَقَطْ، وَتَثْبُتُ بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ، كَحُبُوطِ عَمَلٍ وَبُطْلاَنِ وَقْفٍ... إِلَخْ.
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ اسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلاَمِهِمْ. هَذَا وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ ثُبُوتُ رِدَّتِهِ بِالإِْقْرَارِ. فَإِنَّ إِنْكَارَهُ يَكُونُ تَوْبَةً، وَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ. وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَابِلَةِ نَصًّا فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ.
الصُّلْحُ مَعَ الإِْنْكَارِ:
الصُّلْحُ عَقْدٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الإِْصْلاَحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ. وَالصُّلْحُ فِي الأَْمْوَالِ نَوْعَانِ: صُلْحٌ مَعَ الإِْنْكَارِ، وَصُلْحٌ مَعَ الإِْقْرَارِ. وَالصُّلْحُ مَعَ الإِْنْكَارِ عِنْدَمَا يَكُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَرَى أَنَّهُ لاَ حَقَّ عَلَيْهِ، فَيَدْفَعُ إِلَى الْمُدَّعِي شَيْئًا افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، وَصِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنِ التَّبَذُّلِ بِالْمُخَاصَمَةِ فِي مَجَالِسِ الْقَضَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ مِثْلِ هَذَا الصُّلْحِ، فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَأَمَّا مَتَى كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا بِالْحَقِّ فَصَالَحَ عَنْهُ بِبَعْضِهِ، فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالصُّلْحِ مَعَ الإِْقْرَارِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي نَوْعَيِ الصُّلْحِ تَحْتَ عُنْوَانِ (صُلْحٌ).
إِنْكَارُ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ:
لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُنْكِرَ شَيْئًا مِنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ.
وَلَكِنْ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مَا أَنْكَرَهُ أَمْرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ قَدْ عُلِمَ قَطْعًا مَجِيءُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم بِهِ. كَوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُنْكِرُ جَاهِلاً بِالْحُكْمِ وَلاَ مُكْرَهًا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْحُودُ قَدْ عَلِمَ مَجِيءَ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم بِهِ بِالضَّرُورَةِ، أَيْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلاَلٍ. أَوْ كَمَا عَبَّرَ الْبَعْضُ: يَعْرِفُهُ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي مُسَايَرَةٍ: وَأَمَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الضَّرُورَةِ، كَاسْتِحْقَاقِ بِنْتِ الاِبْنِ السُّدُسَ مَعَ الْبِنْتِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَظَاهِرُ كَلاَمِ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ الإِْكْفَارُ بِجَحْدِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْرِطُوا سِوَى الْقَطْعِ فِي الثُّبُوتِ. وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ شَرَطَ كَوْنَهُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ فَلاَ يَكْفُرُ عِنْدَهُ مَنْ جَحَدَ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَسَائِلَ الإِْجْمَاعِيَّةَ تَارَةً يَصْحَبُهَا التَّوَاتُرُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَتَارَةً لاَ يَصْحَبُهَا. فَالأَْوَّلُ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ لِمُخَالَفَتِهِ التَّوَاتُرَ لاَ لِمُخَالَفَتِهِ الإِْجْمَاعَ. وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ مَنِ اشْتَرَطَ فِي الْمَجْحُودِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا لِمَا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهِ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْمُنْتَهَى: مَنْ جَحَدَ حُكْمًا ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - بِخِلاَفِ (نَحْوِ) فَرْضِ السُّدُسِ لِبِنْتِ الاِبْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا لاَ سُكُوتِيًّا؛ لأِنَّ فِيهِ - أَيِ الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ - شُبْهَةً، كَجَحْدِ تَحْرِيمِ الزِّنَى، أَوْ جَحْدِ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ مُذَكَّاةِ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ وَالدَّجَاجِ، وَمِثْلُهُ لاَ يَجْهَلُهُ لِكَوْنِهِ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَانَ مِثْلُهُ يَجْهَلُهُ وَعَرَفَ حُكْمَهُ، وَأَصَرَّ عَلَى الْجَحْدِ، كَفَرَ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَحْتَ عُنْوَانِ (رِدَّةٌ).
ثَانِيًا الإِْنْكَارُ فِي الْمُنْكَرَاتِ
إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ بِالْيَدِ أَوِ بِاللِّسَانِ، أَوْ بِالْقَلْبِ. فَمَنْ رَأَى حُدُودَ اللَّهِ تُنْتَهَكُ شُرِعَ لَهُ التَّغْيِيرُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ».
وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الأَْمْرِ، وَبَيَانِ آدَابِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يُنْظَرُ تَحْتَ عُنْوَانِ. (الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ).
هَذَا، وَإِنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم الإِْنْكَارَ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنَ الأَْفْعَالِ، أَوْ مَا يَسْمَعُهُ مِنَ الأَْقْوَالِ، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ، وَأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ شَرْعًا. وَهَذَا التَّرْكُ هُوَ أَحَدُ أُصُولِ الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَيُسَمِّيهِ الأُْصُولِيُّونَ (الإِْقْرَارَ) أَوِ (التَّقْرِيرَ) وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَبَاحِثِهِ تَحْتَ عُنْوَانِ (تَقْرِيرٌ) وَفِي بَابِ (السُّنَّةِ) مِنَ الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
إِنْشَاءُ الْقَسَمِ وَشَرَائِطُهُ
مَعْلُومٌ أَنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، فَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَحْتَوِي عَلَى جُمْلَتَيْنِ، أُولاَهُمَا: الْجُمْلَةُ الْمُكَوَّنَةُ مِنْ فِعْلِ الْقَسَمِ وَفَاعِلِهِ الضَّمِيرِ، وَحَرْفِ الْقَسَمِ وَهُوَ الْبَاءُ، وَالْمُقْسَمُ بِهِ وَهُوَ مَدْخُولُ الْبَاءِ.
وَثَانِيَتُهُمَا: الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا.
وَتَفْصِيلُ الْكَلاَمِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي.
أ - فِعْلُ الْقَسَمِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِعْلَ الْقَسَمِ إِذَا ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ أَوِ الْمَاضِي، كَأَقْسَمْتُ أَوْ حَلَفْتُ، أَوْ حُذِفَ وَذُكِرَ مَكَانَهُ الْمَصْدَرُ نَحْوَ: قَسَمًا أَوْ حَلِفًا بِاللَّهِ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ نَحْوَ: اللَّهِ أَوْ بِاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا قَالَ: أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ، وَقَالَ بَعْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا: بِاللَّهِ، فَهِيَ يَمِينٌ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لَيْسَ بِيَمِينٍ، بِخِلاَفِ: عَزَمْتُ بِاللَّهِ، أَوْ: أَعْزِمُ بِاللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِكَلِمَةِ (عَلَيْكَ) جَعْلُهُ غَيْرَ يَمِينٍ بِخِلاَفِ (أُقْسِمُ) فَإِنَّهَا إِذَا زِيدَ بَعْدَهَا كَلِمَةُ عَلَيْكَ لَمْ تُخْرِجْهَا عَنْ كَوْنِهَا يَمِينًا؛ لأِنَّ (أُقْسِمُ) صَرِيحٌ فِي الْيَمِينِ.
وَقَوْلُ الشَّخْصِ: يَعْلَمُ اللَّهُ، لَيْسَ بِيَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ إِثْمُ الْكَذِبِ، وَلاَ يَكُونُ كَافِرًا بِذَلِكَ، وَلاَ بِقَوْلِهِ: أُشْهِدُ اللَّهَ، إِلاَّ إِنْ قَصَدَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَخْفَى عَلَيْهِ الْوَاقِعُ، وَلاَ يَكُونُ الْقَسَمُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: اللَّهُ رَاعٍ، أَوْ حَفِيظٌ، أَوْ حَاشَا لِلَّهِ، أَوْ مَعَاذَ اللَّهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: آلَيْتُ، أَوْ أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ تَفْعَلْ كَذَا، أَوْ قَالَ: بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ تَفْعَلْ كَذَا، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ يَمِينَ نَفْسِهِ أَوْ لاَ:
فَإِنْ أَرَادَ يَمِينَ نَفْسِهِ فَيَمِينٌ؛ لِصَلاَحِيَّةِ اللَّفْظِ لَهَا مَعَ اشْتِهَارِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ.
وَإِنْ لَمْ يُرِدْ يَمِينَ نَفْسِهِ، بَلْ أَرَادَ الشَّفَاعَةَ، أَوْ يَمِينَ الْمُخَاطَبِ، أَوْ أَطْلَقَ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا.
فَإِنْ قَالَ: وَاللَّهِ، أَوْ حَلَفْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ؛ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي الشَّفَاعَةِ أَوْ يَمِينِ الْمُخَاطَبِ.
وَإِنْ قَالَ: آلَيْتُ، أَوْ أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: عَلَيْكَ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَالَ أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ شَهِدْتُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ حَلَفْتُ، أَوْ أَحْلِفُ، أَوْ عَزَمْتُ، أَوْ أَعْزِمُ، أَوْ آلَيْتُ، أَوْ أُولِي، أَوْ قَسَمًا، أَوْ حَلِفًا، أَوْ أَلْيَةً، أَوْ شَهَادَةً، أَوْ يَمِينًا، أَوْ عَزِيمَةً، وَأَتْبَعَ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ بِقَوْلِهِ (بِاللَّهِ) مَثَلاً كَانَتْ يَمِينًا، سَوَاءٌ أَنَوَى بِهَا إِنْشَاءَ الْيَمِينِ أَمْ أَطْلَقَ، فَإِنْ نَوَى بِالْفِعْلِ الْمَاضِي إِخْبَارًا عَنْ يَمِينٍ مَضَتْ، أَوْ بِالْمُضَارِعِ وَعْدًا بِيَمِينٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، أَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ: عَزَمْتُ وَأَعْزِمُ وَعَزِيمَةً: قَصَدْتُ أَوْ أَقْصِدُ أَوْ قَصْدًا، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ مِنَ الْيَمِينِ قَوْلُهُ: أَسْتَعِينُ بِاللَّهِ، وَأَعْتَصِمُ بِاللَّهِ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ، وَعِزُّ اللَّهِ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ؛ لأِنَّ هَا لاَ تَحْتَمِلُ الْيَمِينَ شَرْعًا وَلاَ لُغَةً وَلاَ عُرْفًا.
وَلَوْ قَالَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا إِنْ أَطْلَقَ أَوْ قَصَدَ السُّؤَالَ أَوِ الإِْكْرَامَ أَوِ التَّوَدُّدَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَصَدَ الْيَمِينَ فَإِنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا.
ب - حُرُوفُ الْقَسَمِ:
هِيَ: الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ. أَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ الأَْصْلُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ قَبْلَهَا فِعْلُ الْقَسَمِ، وَأَنْ يُحْذَفَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْمُضْمَرِ، نَحْوَ: أُقْسِمُ بِك يَا رَبِّ لأََفْعَلَنَّ كَذَا. وَتَلِيهَا الْوَاوُ، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَطْ، وَيُحْذَفُ مَعَهَا فِعْلُ الْقَسَمِ وُجُوبًا. وَتَلِيهَا التَّاءُ، وَلاَ تَدْخُلُ إِلاَّ عَلَى لَفْظِ الْجَلاَلَةِ، كَمَا فِي قوله تعالي حِكَايَةٍ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام ) وَتَاللَّهِ لأََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ وَرُبَّمَا دَخَلَتْ عَلَى (رَبِّ) نَحْوَ: تَرَبِّي، وَتَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَيَجِبُ مَعَهَا حَذْفُ فِعْلِ الْقَسَمِ أَيْضًا.
وَإِذَا وَجَبَ حَذْفُ الْفِعْلِ وَجَبَ حَذْفُ الْمَصَادِرِ أَيْضًا، نَحْوَ قَسَمًا.
وَيَقُومُ مَقَامَ بَاءِ الْقَسَمِ حُرُوفٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْهَاءُ وَالْهَمْزَةُ وَاللاَّمُ.
أَمَّا الْهَاءُ فَمِثَالُهَا: هَا اللَّهِ، بِفَتْحِ الْهَاءِ مَمْدُودَةً وَمَقْصُورَةً مَعَ قَطْعِ هَمْزَةِ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ وَوَصْلِهَا، وَإِذَا وُصِلَتْ حُذِفَتْ.
وَأَمَّا الْهَمْزَةُ فَمِثَالُهَا: آللَّهُ، مَمْدُودَةً وَمَقْصُورَةً مَعَ وَصْلِ هَمْزَةِ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُحْذَفَ.
وَأَمَّا اللاَّمُ، فَقَدْ أَفَادَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: أَنَّ مَنْ قَالَ (لِلَّهِ) بِلاَمِ الْجَرِّ بَدَلِ الْبَاءِ كَانَتْ صِيغَتُهُ يَمِينًا.
وَلاَ تُسْتَعْمَلُ اللاَّمُ إِلاَّ فِي قَسَمٍ مُتَضَمِّنٍ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : «دَخَلَ آدَمُ الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ.
وَفِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وَالْقَامُوسِ وَشَرْحِهِ مَا يُفِيدُ أَنَّ اللاَّمَ تُسْتَعْمَلُ لِلْقَسَمِ وَالتَّعَجُّبِ مَعًا، وَتَخْتَصُّ بِلَفْظِ الْجَلاَلَةِ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَنَحْوُهُ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ.
حَذْفُ حَرْفِ الْقَسَمِ:
إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْحَالِفُ شَيْئًا مِنْ أَحْرُفِ الْقَسَمِ، بَلْ قَالَ: اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا مَثَلاً، كَانَ يَمِينًا بِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى النِّيَّةِ سَوَاءٌ أَكَسَرَ الْهَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْجَرِّ بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، أَمْ فَتَحَهَا عَلَى سَبِيلِ نَزْعِ الْخَافِضِ، أَمْ ضَمَّهَا عَلَى سَبِيلِ الرَّفْعِ بِالاِبْتِدَاءِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ: قَسَمِي أَوْ أُقْسِمُ بِهِ، أَمْ سَكَّنَهَا إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ.
وَبَقَاءُ الْجَرِّ عِنْدَ حَذْفِ الْحَرْفِ خَاصٌّ بِلَفْظِ الْجَلاَلَةِ، فَلاَ يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ: الرَّحْمَنِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا بِكَسْرِ النُّونِ. كَذَا قِيلَ. لَكِنِ الرَّاجِحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً، وَأَيًّا مَا كَانَ فَاللَّحْنُ لاَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: اللَّهِ، بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ. لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، سَوَاءٌ جَرَّ الاِسْمَ أَمْ نَصَبَهُ أَمْ رَفَعَهُ أَمْ سَكَنَّهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ قَسَمٌ بِغَيْرِ حُرُوفِهِ، نَحْوَ: اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ، جَرًّا وَنَصْبًا. فَإِنْ رُفِعَ فَيَمِينٌ أَيْضًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الرَّافِعُ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَلَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ، فَلاَ يَكُونُ يَمِينًا لأِنَّ هُ إِمَّا مُبْتَدَأٌ أَوْ مَعْطُوفٌ بِخِلاَفِ مَنْ لاَ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، فَلَوْ رَفَعَ كَانَ يَمِينًا لأِنَّ اللَّحْنَ لاَ يَضُرُّ.
ج - اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ:
اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ: هُوَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الْقَسَمِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَةً لَهُ.
وَالْمَقْصُودُ بِالاِسْمِ: مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهُوَ لَفْظُ الْجَلاَلَةِ (اللَّهُ) وَكَذَلِكَ تَرْجَمَتُهُ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ، أَوْ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ مُخْتَصًّا بِهِ كَالرَّحْمَنِ، وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَخَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ، وَالأَْوَّلِ بِلاَ بِدَايَةٍ، وَالآْخِرِ بِلاَ نِهَايَةٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَالَّذِي بَعَثَ الأَْنْبِيَاءَ بِالْحَقِّ، وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. أَمْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالرَّحِيمِ وَالْعَظِيمِ وَالْقَادِرِ وَالرَّبِّ وَالْمَوْلَى وَالرَّازِقِ وَالْخَالِقِ وَالْقَوِيِّ وَالسَّيِّدِ، فَهَذِهِ الأَْسْمَاءُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي حِكَايَةِ مَا قَالَهُ الْهُدْهُدُ لِسُلَيْمَانَ عليه السلام وَصْفًا لِمَلَكَةِ سَبَأٍ ( وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) . وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْحَدِيقَةِ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَى الْبُخْلِ بِثَمَرِهَا ( وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) وَمَعْنَى الْحَرْدِ: الْمَنْعُ، وَالْمُرَادُ مَنْعُ الْمَسَاكِينِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ يُوسُفَ عليه السلام لأَِحَدِ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مُخَاطِبًا لِزَوْجَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ مُخَاطِبًا لِمَنْ يَقْسِمُونَ الْمِيرَاثَ ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ).
وَقَالَ سُبْحَانَهُ مُخَاطِبًا لِعِيسَى عليه السلام وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ لأَِبِيهَا عَنْ مُوسَى عليه السلام إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَْمِينُ وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ( وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ). (وَالْمَقْصُودُ بِالصِّفَةِ): اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنًى تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ صِفَةَ ذَاتٍ أَمْ صِفَةَ فِعْلٍ.
وَصِفَةُ الذَّاتِ هِيَ: الَّتِي يَتَّصِفُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا لاَ بِضِدِّهَا كَوُجُودِهِ.
وَصِفَةُ الْفِعْلِ هِيَ: الَّتِي يَتَّصِفُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا وَبِضِدِّهَا بِاعْتِبَارِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ، كَرَحْمَتِهِ وَعَذَابِهِ.
وَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكُلِّ اسْمٍ لَهُ تَعَالَى أَوْ صِفَةٍ لَهُ عَلَى الإِْطْلاَقِ، بَلْ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِشَرَائِطَ مُفَصَّلَةٍ تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذَاهِبُ.
فَالْحَنَفِيَّةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ، أَرْجَحُهَا: أَنَّ الاِسْمَ يَجُوزُ الإِْقْسَامُ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُخْتَصًّا أَمْ مُشْتَرَكًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفًا أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَنَوَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى أَمْ لاَ. لَكِنْ لَوْ نَوَى بِالاِسْمِ الْمُشْتَرَكِ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، وَإِذَا كَانَ الاِسْمُ غَيْرَ وَارِدٍ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إِلاَّ إِذَا تُعُورِفَ الْحَلِفُ بِهِ، أَوْ نَوَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى. وَأَمَّا الصِّفَةُ فَلاَ يَصِحُّ الإِْقْسَامُ بِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِصِفَتِهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِهَا مُتَعَارَفًا أَمْ لاَ، أَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ صِفَتِهِ تَعَالَى وَغَيْرِهَا وَتُعُورِفَ الْحَلِفُ بِهَا، وَسَوَاءٌ فِي الصِّفَةِ كَوْنُهَا صِفَةَ ذَاتٍ وَكَوْنُهَا صِفَةَ فِعْلٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الْمُخْتَصَّةِ. وَأَمَّا الْمُشْتَرَكَةُ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِهَا مَا لَمْ يُرِدْ بِهَا غَيْرَ صِفَتِهِ تَعَالَى. وَأَمَّا صِفَةُ الْفِعْلِ فَفِي الاِنْعِقَادِ بِهَا خِلاَفٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخْتَصِّ بِهِ إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا عِنْدَهُمْ.
وَتَنْعَقِدُ أَيْضًا بِاسْمِهِ الَّذِي يَغْلِبُ إِطْلاَقُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ مُقَيَّدًا كَالرَّبِّ، وَهَذَا إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ قُبِلَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. وَتَنْعَقِدُ أَيْضًا بِالاِسْمِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي لاَ يَغْلِبُ إِطْلاَقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَيِّ وَالسَّمِيعِ، وَكَذَا بِاللَّفْظِ الَّذِي يَشْمَلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْمًا لَهُ تَعَالَى كَالشَّيْءِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِهَا بِهَذَا النَّوْعِ أَنْ يُرِيدَ الْحَالِفُ اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ أَوْ أَطْلَقَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ.
وَلَمْ يُفَصِّلِ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ الصِّفَةَ الْمُضَافَةَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا، أَمَّا غَيْرُ الْمُضَافَةِ - كَأَنْ يُقَالَ: وَالْعِزَّةُ - فَلاَ تَنْعَقِدُ بِهَا إِلاَّ بِإِرَادَةِ صِفَتِهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الاِسْمُ الَّذِي لاَ يُعَدُّ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلاَ يَصِحُّ إِطْلاَقُهُ عَلَيْهِ فَلاَ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ، وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَثَّلَ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِ بَعْضِ الْعَوَّامِ (وَالْجَنَابِ الرَّفِيعِ) فَالْجَنَابُ لِلإِْنْسَانِ فِنَاءُ دَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنِّيَّةُ لاَ تُؤَثِّرُ مَعَ الاِسْتِحَالَةِ.
أَمَّا صِفَةُ الْفِعْلِ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا، وَسَكَتَ الْحَنَابِلَةُ عَنْهَا، وَأَطْلَقُوا انْعِقَادَ الْيَمِينِ بِصِفَتِهِ تَعَالَى الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِصِفَتِهِ الْفِعْلِيَّةِ.
الْحَلِفُ بِالْقُرْآنِ وَالْحَقِّ
أ - الْحَلِفُ بِالْقُرْآنِ أَوِ الْمُصْحَفِ:
الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ يَمِينٌ؛ لأِنَّ الْقُرْآنَ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ الذَّاتِيَّةُ، وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ، وَالأَْيْمَانُ تُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ.
أَمَّا الْحَلِفُ بِالْمُصْحَفِ، فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ: أُقْسِمُ بِمَا فِي هَذَا الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا. أَمَّا لَوْ قَالَ: أُقْسِمُ بِالْمُصْحَفِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ يَمِينًا؛ لأِنَّ الْمُصْحَفَ لَيْسَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ الْوَرَقُ وَالْجِلْدُ، فَإِنْ أَرَادَ مَا فِيهِ كَانَ يَمِينًا لِلْعُرْفِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ وَبِالْمُصْحَفِ، وَبِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَبِآيَةِ الْكُرْسِيِّ أَوْ غَيْرِهَا، وَبِالتَّوْرَاةِ وَبِالإِْنْجِيلِ وَبِالزَّبُورِ؛ لأِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى كَلاَمِهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ، لَكِنْ لَوْ أَرَادَ بِالْمُصْحَفِ النُّقُوشَ وَالْوَرَقَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ مَا لَمْ يُرِدِ الأَْلْفَاظَ، وَبِالْقُرْآنِ وَبِالْمُصْحَفِ مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ وَرَقَهُ وَجِلْدَهُ؛ لأِنَّ هُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ لاَ يَنْصَرِفُ عُرْفًا إِلاَّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَلِفُ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُصْحَفِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ وَالزَّبُورِ يَمِينٌ، وَكَذَا الْحَلِفُ بِسُورَةٍ أَوْ آيَةٍ.
ب - الْحَلِفُ بِالْحَقِّ، أَوْ حَقِّ اللَّهِ:
لاَ شَكَّ أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ لِلأَْسْمَاءِ الَّتِي تَنْصَرِفُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ تَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِالتَّقْيِيدِ، فَعَلَى هَذَا مَنْ قَالَ: وَالْحَقِّ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ كَانَ يَمِينًا بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَدْلَ أَوْ أَرَادَ شَيْئًا مَا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَكُونُ لِلإِْنْسَانِ عَلَى الإِْنْسَانِ قُبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَأَمَّا (حَقٌّ) الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ مِنَ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا فَفِيهِ خِلاَفٌ.
فَالْحَنَفِيَّةُ نَقَلُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ قَالَ: (وَحَقِّ اللَّهِ) يَكُنْ يَمِينًا. وَوَجَّهَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بِأَنَّ حَقَّهُ تَعَالَى هُوَ الطَّاعَاتُ وَالْعِبَادَاتُ، فَلَيْسَ اسْمًا وَلاَ صِفَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَمِينٌ؛ لأِنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَهُوَ حَقِيقَةٌ، فَكَأَنَّ الْحَالِفَ قَالَ: وَاللَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ. وَاخْتَارَ صَاحِبُ الاِخْتِيَارِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِحَقِّ اللَّهِ، وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْعَظَمَةِ وَالأُْلُوهِيَّةِ، فَإِنْ قَصَدَ الْحَالِفُ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي عَلَى الْعِبَادِ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْعِبَادَةِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ.
حَذْفُ الْمُقْسَمِ بِهِ
إِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَالِفُ الْمُقْسَمَ بِهِ بَلْ قَالَ: أُقْسِمُ، أَوْ أَحْلِفُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ أَعْزِمُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ آلَيْتُ لاَ أَفْعَلُ كَذَا كَانَ يَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ حَذَفَ الْحَالِفُ قَوْلَهُ (بِاللَّهِ) بَعْدَ قَوْلِهِ أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ كَانَ يَمِينًا إِنْ نَوَاهُ - أَيْ نَوَى الْحَلِفَ بِاللَّهِ - بِخِلاَفِ مَا لَوْ حَذَفَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ أَعْزِمُ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ نَوَاهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْفِعْلِ وَالأَْفْعَالِ الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ، أَنَّ الْعَزْمَ مَعْنَاهُ الأَْصْلِيُّ الْقَصْدُ وَالاِهْتِمَامُ، فَلاَ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ إِلاَّ إِذَا ذُكِرَ بَعْدَهُ الْمُقْسَمُ بِهِ، بِأَنْ يَقُولَ (بِاللَّهِ)، مَثَلاً، بِخِلاَفِ الأَْفْعَالِ الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْقَسَمِ فَيَكْفِي فِيهَا أَنْ يَنْوِيَ الْمُقْسِمَ بِهِ عِنْدَ حَذْفِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَذَفَ الْمُتَكَلِّمُ الْمَحْلُوفَ بِهِ لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ بِاللَّهِ، سَوَاءٌ ذَكَرَ فِعْلَ الْقَسَمِ أَمْ حَذَفَهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ حَذَفَ الْحَالِفُ قَوْلَهُ (بِاللَّهِ) مَثَلاً بَعْدَ نُطْقِهِ بِالْفِعْلِ أَوِ الاِسْمِ الدَّالِّ عَلَى الْقَسَمِ، نَحْوَ: قَسَمًا، لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا، إِلاَّ إِذَا نَوَى الْحَلِفَ بِاللَّهِ.
اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ
اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ هُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي يُرِيدُ الْحَالِفُ تَحْقِيقَ مَضْمُونِهَا مِنْ إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، وَتُسَمَّى جَوَابَ الْقَسَمِ.
وَيَجِبُ فِي الْعَرَبِيَّةِ تَأْكِيدُ الإِْثْبَاتِ بِاللاَّمِ مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُضَارِعًا، وَبِاللاَّمِ مَعَ قَدْ إِنْ كَانَ مَاضِيًا. يُقَالُ: وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا. وَأَمَّا النَّفْيُ فَلاَ يُؤَكَّدُ فِيهِ الْفِعْلُ، بَلْ يُقَالُ: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ مَا فَعَلْتُ كَذَا.
فَإِذَا وَرَدَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُثْبَتٌ لَيْسَ فِيهِ لاَمٌ وَلاَ نُونُ تَوْكِيدٍ اعْتُبِرَ مَنْفِيًّا بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا فِي قوله تعالي ( تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ) أَيْ: لاَ تَفْتَأُ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: وَاللَّهِ أُكَلِّمُ فُلاَنًا الْيَوْمَ، كَانَ حَالِفًا عَلَى نَفْيِ تَكْلِيمِهِ، فَيَحْنَثُ إِذَا كَلَّمَهُ؛ لأِنَّ الْفِعْلَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لاَمٌ وَلاَ نُونُ تَوْكِيدٍ قُدِّرَتْ قَبْلَهُ (لاَ) النَّافِيَةُ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَارَفِ النَّاسُ خِلاَفَهُ، فَإِنْ تَعَارَفُوا أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَكُونُ إِثْبَاتًا، كَانَ حَالِفًا عَلَى الإِْثْبَاتِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. هَكَذَا يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ نَظُنُّ أَنَّهُ مَحَلُّ خِلاَفٍ، فَإِنَّهُ مِنَ الْوُضُوحِ بِمَكَانٍ.
الصِّيَغُ الْخَالِيَةُ مِنْ أَدَاةِ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ بِهِ
قَدْ يَأْتِي الْحَالِفُ بِصِيَغٍ خَالِيَةٍ مِنْ أَدَاةِ الْقَسَمِ وَمِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتِهِ، أَوْ خَالِيَةٍ مِنَ الأَْدَاةِ وَحْدَهَا، وَتُعْتَبَرُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَيْمَانًا كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
أ - لَعَمْرُ اللَّهِ:
إِذَا قِيلَ: لَعَمْرُ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، كَانَ هَذَا قَسَمًا مُكَوَّنًا مِنْ مُبْتَدَأٍ مَذْكُورٍ وَخَبَرٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَعَمْرُ اللَّهِ قَسَمِي، أَوْ يَمِينِي، أَوْ أَحْلِفُ بِهِ. وَهِيَ فِي قُوَّةِ قَوْلِكَ: وَعَمْرُ اللَّهِ، أَيْ بَقَائِهِ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ كِنَايَةٌ؛ لأِنَّ الْعُمْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الدِّينِ وَهُوَ الْعِبَادَاتُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَحَيَاةِ اللَّهِ وَبَقَائِهِ، أَوْ دِينِهِ، فَيَكُونُ يَمِينًا عَلَى الاِحْتِمَالَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ.
ب - وَأَيْمَنُ اللَّهِ:
جَاءَ هَذَا الاِسْمُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَسْبُوقًا بِالْوَاوِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْقَسَمِ، وَيَكُونُ إِقْسَامًا بِبَرَكَتِهِ تَعَالَى أَوْ قُوَّتِهِ، وَجَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ مَسْبُوقًا بِالْوَاوِ أَيْضًا مَعَ تَصْرِيحِ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ نُونَهُ مَضْمُومَةٌ وَأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجُمْلَةَ قَسَمٌ فَقَطْ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ إِلاَّ إِذَا جِيءَ بَعْدَهَا بِجُمْلَةِ الْجَوَابِ، مِثْلُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا.
ج - عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ:
- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَ قَائِلٌ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرُ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، كَانَ ذَلِكَ يَمِينًا، فَإِذَا لَمْ يُوَفِّ بِمَا ذَكَرَهُ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى بِالنَّذْرِ قُرْبَةً مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لَزِمَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَ نَذْرًا لِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ لِلَّهِ أَنْ أُؤَدِّيَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْيَمِينِ الَّتِي حَنِثَ فِيهَا صَاحِبُهَا؛ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «النَّذْرُ يَمِينٌ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَلْزَمُ كَفَّارَةٌ فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ. وَلَهُ أَرْبَعُ صُوَرٍ (الأُْولَى) عَلَيَّ نَذْرٌ (الثَّانِيَةُ) لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ (الثَّالِثَةُ) إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ نَذْرٌ (الرَّابِعَةُ) إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةَ بِحُصُولِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَصْدُ الاِمْتِنَاعَ أَمِ الشُّكْرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ نَذْرٌ، لَزِمَتْهُ قُرْبَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَا شَاءَ مِنَ الْقُرَبِ، كَتَسْبِيحٍ وَتَكْبِيرٍ وَصَلاَةٍ وَصَوْمٍ. وَمَنْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، فَإِنِ اخْتَارَ الْقُرْبَةَ فَلَهُ اخْتِيَارُ مَا شَاءَ مِنَ الْقُرَبِ، وَإِنِ اخْتَارَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ كَفَّرَ بِمَا يَجِبُ فِي الْيَمِينِ الَّتِي حَنِثَ صَاحِبُهَا فِيهَا.
وَمَنْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ، كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحِنْثِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَالصِّيغَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الأَْمْثِلَةِ صِيغَةُ نَذْرٍ وَلَيْسَتْ صِيغَةَ يَمِينٍ، إِلاَّ الصِّيغَةَ الَّتِي فِيهَا (إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا... إِلَخْ) فَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهَا يَمِينًا؛ لأِنَّ هَا مِنْ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، وَفَعَلَهُ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي الأَْرْجَحِ، وَقِيلَ: لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِشَيْءٍ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَيْضًا فِي الأَْرْجَحِ.
د - عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ:
- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، فَهَاتَانِ الصِّيغَتَانِ مِنَ الأَْيْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَيْنِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَوْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ وَلَمْ يُضِفْهُ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْيَمِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَلاَ تُعْتَبَرُ الصِّيغَةُ يَمِينًا بِاللَّهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَيُسْتَدَلُّ لأَِبِي حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَيْنِ بِأَنَّ إِطْلاَقَ الْيَمِينِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، إِذْ هِيَ الْجَائِزَةُ شَرْعًا، هَذَا إِذَا ذَكَرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ، بَلْ قَالَ الْحَالِفُ: عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرَادَ إِنْشَاءَ الاِلْتِزَامِ لاَ الإِْخْبَارَ بِالْتِزَامٍ سَابِقٍ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لأِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ صِيَغِ النَّذْرِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْمَنْذُورُ يُعْتَبَرُ نَذْرًا لِلْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْيَمِينِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْتِزَامَ الْيَمِينِ لَهُ أَرْبَعُ صِيَغٍ كَالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ، وَأَمْثِلَتُهَا: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينٌ، وَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ يَمِينٌ، إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينٌ.
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مُوجِبُ الْيَمِينِ، فَالْكَلاَمُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: عَلَيَّ يَمِينٌ، لاَ يُعْتَبَرُ يَمِينًا سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا؛ لأِنَّهُ الْتِزَامٌ لِلْيَمِينِ أَيِ الْحَلِفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ قُرْبَةً كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ فَهُوَ لَغْوٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَغْوٌ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ فَلاَ يَكُونُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الأَْرْجَحُ: أَنَّهُ يَمِينٌ بِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى النِّيَّةِ.
هـ - عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ، أَوْ مِيثَاقُهُ، أَوْ ذِمَّتُهُ:
- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قِيلَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُ اللَّهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا مَثَلاً، فَهَذِهِ الصِّيَغُ مِنَ الأَْيْمَانِ؛ لأِنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى هِيَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقِ الشَّيْءِ أَوْ نَفْيِهِ، قَالَ تَعَالَى: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا فَجَعَلَ الْعَهْدَ يَمِينًا، وَالذِّمَّةُ هِيَ الْعَهْدُ، وَمِنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الَّذِينَ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْكُفَّارِ: بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، أَيْ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَالْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ، وَإِذَنْ فَالْكَلاَمُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيَّ مُوجِبُ عَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ وَذِمَّتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي «عَلَيَّ يَمِينٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مِنْ صِيَغِ الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لاَ أَفْعَلُ، أَوْ لأََفْعَلَنَّ كَذَا مَثَلاً فَتَجِبُ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةٌ إِذَا نَوَى الْيَمِينَ، أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ بَلْ أُرِيدَ بِالْعَهْدِ التَّكَالِيفُ الَّتِي عَهِدَ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعِبَادِ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أُعَاهِدُ اللَّهَ، لَيْسَ بِيَمِينٍ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأِنَّ الْمُعَاهَدَةَ مِنْ صِفَاتِ الإِْنْسَانِ لاَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ، أَوْ أُعْطِيكَ عَهْدًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ كِنَايَاتِ الْيَمِينِ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُهُ أَوْ ذِمَّتُهُ أَوْ أَمَانَتُهُ أَوْ كَفَالَتُهُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، فَلاَ تَكُونُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ؛ لأِنَّ هَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْيَمِينِ احْتِمَالاً ظَاهِرًا.
و - عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ:
.- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَائِلَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، مَقْصُودُهُ: عَلَيَّ مُوجِبُ يَمِينٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.
فَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَقَدْ سَبَقَ (ر: ف 39).
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: عَلَيَّ كَفَّارَةٌ، كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَهُ صِيَغٌ أَرْبَعٌ كَصِيَغِ النَّذْرِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، حُكْمُهُ هُوَ هَذَا الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ (ر: ف 39).
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ حِينِ النُّطْقِ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْلِيقِ، فَإِنْ عَلَّقَ بِالشِّفَاءِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُحِبُّهُ، أَوْ بِتَكْلِيمِ زَيْدٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِحُصُولِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، ثُمَّ فَعَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى الرَّاجِحِ كَمَا سَبَقَ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، ثُمَّ فَعَلَهُ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَلَى الأَْرْجَحِ عِنْدَهُمْ.
ز - عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ:
- سَبَقَ حُكْمُ الْقَائِلِ: عَلَيَّ نَذْرٌ.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، فَقَالُوا: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مُنَجَّزَةٌ فِي الصِّيغَةِ الْمُنَجَّزَةِ، وَمُعَلَّقَةٌ فِي الصِّيغَةِ الْمُعَلَّقَةِ.
ح - عَلَيَّ كَفَّارَةٌ:
- سَبَقَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُوجِبُونَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ عَلَى مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضِيفَ الْكَفَّارَةَ إِلَى الْيَمِينِ أَوِ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى حُكْمَ هَذِهِ الصِّيغَةِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ حُكْمَهَا عِنْدَ النِّيَّةِ هُوَ وُجُوبُ مَا نَوَى مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَفَّارَةِ.
ط - تَحْرِيمُ الْعَيْنِ أَوِ الْفِعْلِ:
- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الإِْنْسَانِ الْعَيْنَ أَوِ الْفِعْلَ عَلَى نَفْسِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا الثَّوْبُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ لُبْسِي لِهَذَا الثَّوْبِ عَلَيَّ حَرَامٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ الَّتِي نُسِبَ التَّحْرِيمُ إِلَيْهَا أَوْ إِلَى الْفِعْلِ الْمُضَافِ لَهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ أَمْ لاَ، كَأَنْ قَالَ مُتَحَدِّثًا عَنْ طَعَامِ غَيْرِهِ: هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ أَكْلُ هَذَا الطَّعَامِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ الْمَذْكُورَةُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ أَمْ لاَ، كَأَنْ قَالَ: هَذِهِ الْخَمْرُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ شُرْبُ هَذِهِ الْخَمْرِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
فَكُلُّ صِيغَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ تُعْتَبَرُ يَمِينًا، لَكِنْ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مُحَرَّمَةً مِنْ قَبْلُ، أَوْ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِ لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، بِأَنْ يَنْوِيَ إِنْشَاءَ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ نَوَى الإِْخْبَارَ بِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، أَوْ بِأَنَّ ثَوْبَ فُلاَنٍ حَرُمَ عَلَيْهِ شَرْعًا، لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا، وَكَذَا إِنْ أَطْلَقَ؛ لأِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ الْعِبَارَةِ هُوَ الإِْخْبَارُ.
ثُمَّ إِنَّ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ لاَ مَعْنَى لَهُ إِلاَّ تَحْرِيمَ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا، كَمَا فِي تَحْرِيمِ الشَّرْعِ لَهَا فِي نَحْوِ قوله تعالي (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) وَقَوْلِهِ ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ).
وَقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» فَتَحْرِيمُ الأُْمَّهَاتِ وَنَحْوِهِنَّ يَنْصَرِفُ إِلَى الزَّوَاجِ. وَتَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا وَالْمُسْكِرِ يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إِلَى التَّنَاوُلِ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ.
- وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ لِصِيَغِ التَّحْرِيمِ الَّتِي تُعْتَبَرُ أَيْمَانًا، مَعَ بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ حِنْثٌ فِي كُلٍّ مِنْهَا:
) لَوْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ أَوِ الْمَالُ أَوِ الثَّوْبُ أَوِ الدَّارُ عَلَيَّ حَرَامٌ، حَنِثَ بِأَكْلِ الطَّعَامِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ، وَلُبْسِ الثَّوْبِ، وَسُكْنَى الدَّارِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلاَ يَحْنَثُ بِهِبَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ.
لَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَرَّمْتُكَ عَلَى نَفْسِي، حَنِثَتْ بِمُطَاوَعَتِهِ فِي الْجِمَاعِ، وَحَنِثَتْ أَيْضًا بِإِكْرَاهِهِ إِيَّاهَا عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الاِخْتِيَارُ.
لَوْ قَالَ لِقَوْمٍ: كَلاَمُكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ، حَنِثَ بِتَكْلِيمِهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْحِنْثُ عَلَى تَكْلِيمِ جَمِيعِهِمْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ: كَلاَمُ، الْفُقَرَاءِ، أَوْ كَلاَمُ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَوْ أَكْلُ هَذَا الرَّغِيفِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلاَمِ وَاحِدٍ، وَأَكْلِ لُقْمَةٍ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لاَ أُكَلِّمُكُمْ، أَوْ لاَ أُكَلِّمُ الْفُقَرَاءَ، أَوْ أَهْلَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَوْ لاَ آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ، فَإِنَّهُ لاَ يَحْنَثُ إِلاَّ بِتَكْلِيمِ الْجَمِيعِ وَأَكْلِ جَمِيعِ الرَّغِيفِ.
لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّنَانِيرُ عَلَيَّ حَرَامٌ حَنِثَ إِنِ اشْتَرَى بِهَا شَيْئًا؛ لأِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لِنَفْسِهِ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ مَا يَأْكُلُهُ أَوْ يَلْبَسُهُ مَثَلاً، وَلاَ يَحْنَثُ بِهِبَتِهَا وَلاَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ لَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَتَأَمَّلْ.
لَوْ قَالَ: كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَلاَلُ اللَّهِ أَوْ حَلاَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيَّ حَرَامٌ، كَانَ يَمِينًا عَلَى تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَحْرِيمُ الْحَلاَلِ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ لَغْوٌ لاَ يَقْتَضِي شَيْئًا، إِلاَّ إِذَا حَرَّمَ الأَْمَةَ نَاوِيًا عِتْقَهَا، فَإِنَّهَا تُعْتَقُ، فَمَنْ قَالَ: الْخَادِمُ أَوِ اللَّحْمُ أَوِ الْقَمْحُ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَفَعَلَهُ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَزَوْجَتِي عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ فَعَلَيَّ الْحَرَامُ، يَلْزَمُهُ بَتُّ طَلاَقِ الْمَدْخُولِ بِهَا - ثَلاَثًا - مَا لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ مِنَ الثَّلاَثِ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى، أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَيَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ. هَذَا هُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلاَثٌ كَالْمَدْخُولِ بِهَا مَا لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ حَلاَلٍ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنِ اسْتَثْنَى الزِّوَجَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ فِيهَا مَا ذُكِرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَرَّمْتُكِ، وَنَوَى طَلاَقًا وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا أَوْ ظِهَارًا وَقَعَ، وَلَوْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا أَوْ وَطْئِهَا أَوْ فَرْجِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَصْلاً - وَأَطْلَقَ ذَلِكَ، أَوْ أَقَّتَهُ كُرِهَ، وَلَمْ تَحْرُمِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ يَمِينًا؛ لأِنَّ هُ لَيْسَ إِقْسَامًا بِاللَّهِ تَعَالَى وَلاَ تَعْلِيقًا لِلطَّلاَقِ أَوْ نَحْوِهِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ أَلاَّ تَكُونَ زَوْجَتُهُ مُحْرِمَةً بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَلاَّ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَلَوْ حَرُمَ غَيْرُ الزَّوْجَةِ كَالثَّوْبِ وَالطَّعَامِ وَالصَّدِيقِ وَالأَْخِ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ حَرَّمَ حَلاَلاً سِوَى الزَّوْجَةِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَرْعًا، ثُمَّ إِذَا فَعَلَهُ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَوْلاَنِ، أَرْجَحُهُمَا: الْوُجُوبُ، وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيمِ تَنْجِيزُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ، وَمِثَالُ الْمُنَجَّزِ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَلاَ زَوْجَةَ لِي، وَكَسْبِي عَلَيَّ حَرَامٌ، وَهَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَالدَّمِ أَوْ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
وَمِثَالُ الْمُعَلَّقِ: إِنْ أَكَلْتُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ لأِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّى التَّحْرِيمَ يَمِينًا حَيْثُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاة أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ.
وَالْيَمِينُ لاَ تُحَرِّمُ الْحَلاَلَ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ، وَهَذِهِ الآْيَةُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَأَمَّا تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ فَهُوَ ظِهَارٌ، سَوَاءٌ أَنَوَى بِهِ الظِّهَارَ أَوِ الطَّلاَقَ أَوِ الْيَمِينَ أَمْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا عَلَى الرَّاجِحِ.
وَلَوْ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ فَهُوَ حَرَامٌ - وَكَانَ لَهُ زَوْجَةٌ - كَانَ ذَلِكَ ظِهَارًا وَتَحْرِيمًا لِلْمَالِ، وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَنْهُمَا.
قِيَامُ التَّصْدِيقِ بِكَلِمَةِ نَعَمْ مَقَامَ الْيَمِينِ
- الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَقَالَ: نَعَمْ كَانَ حَالِفًا، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ عَلَيْكَ: عَهْدُ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَقَالَ: نَعَمْ.
فَالْحَالِفُ الْمُجِيبُ، وَلاَ يَمِينَ عَلَى الْمُبْتَدِئِ وَلَوْ نَوَاهُ؛ لأِنَّ قَوْلَهُ: عَلَيْكَ صَرِيحٌ فِي الْتِزَامِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُخَاطَبِ، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا عَلَى الْمُبْتَدِئِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ، وَقَالَ الآْخَرُ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ إِذَا نَوَى الْمُبْتَدِئُ التَّحْلِيفَ وَالْمُجِيبُ الْحَلِفَ، كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الْمُجِيبَ وَحْدَهُ، وَإِذَا نَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا الْحَلِفَ يَصِيرُ كُلٌّ مِنْهَا حَالِفًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ: طَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ، أَوْ أَطَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ؟ اسْتِخْبَارًا - فَقَالَ: نَعَمْ، كَانَ إِقْرَارًا، وَإِنْ كَانَ الاِلْتِمَاسُ الإِْنْشَاءَ كَانَ تَطْلِيقًا صَرِيحًا، وَإِنْ جُهِلَ الْحَالُ حُمِلَ عَلَى الاِسْتِخْبَارِ.
هَذَا مَا قَالُوهُ فِي الطَّلاَقِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ لآِخَرَ: حَلَفْتَ، أَوْ أَحَلَفْتَ بِاللَّهِ لاَ تُكَلِّمُ زَيْدًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَإِنْ كَانَ لِلاِسْتِخْبَارِ كَانَ إِقْرَارًا مُحْتَمِلاً لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَيَحْنَثُ بِالتَّكْلِيمِ إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَلاَ يَحْنَثُ بِهِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا.
وَإِنْ كَانَ الاِلْتِمَاسُ الإِْنْشَاءَ كَانَ حَلِفًا صَرِيحًا.
وَإِنْ جُهِلَ حَالُ السُّؤَالِ حُمِلَ عَلَى الاِسْتِخْبَارِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ إِقْرَارًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يُعْثَرْ لِلْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَلَى نَصٍّ فِي هَذَا.
الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ:
- عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ صِيغَةَ الْيَمِينِ بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ تَنْحَصِرُ شَرْعًا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى. فَالْحَلِفُ بِغَيْرِهِ بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ لاَ يُعْتَبَرُ يَمِينًا شَرْعِيَّةً، وَلاَ يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهِ كَفَّارَةٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: أَنْ يَحْلِفَ الإِْنْسَانُ بِأَبِيهِ أَوْ بِابْنِهِ أَوْ بِالأَْنْبِيَاءِ أَوْ بِالْمَلاَئِكَةِ عليهم السلام أَوْ بِالْعِبَادَاتِ: كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ، أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالْحَرَمِ أَوْ بِزَمْزَمَ أَوْ بِالْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. سَوَاءٌ أَتَى الْحَالِفُ بِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ عَقِبَ حَرْفِ الْقَسَمِ أَمْ أَضَافَ إِلَيْهَا كَلِمَةَ: «حَقٍّ» أَوْ «حُرْمَةٍ» أَوْ «حَيَاةٍ» أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ أَمْ بِصِيغَةٍ مُلْحَقَةٍ بِمَا فِيهِ هَذِهِ الْحُرُوفُ، مِثْلُ لَعَمْرُكَ وَلِعَمْرِي وَعَمْرُكَ اللَّهُ وَعَلَيَّ عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا.
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ (مِنْهَا) قَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ.
(وَمِنْهَا) قَوْلُهُ علية الصلاه والسلام : «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ». وَفِي رِوَايَةٍ فَقَدْ كَفَرَ.
(وَمِنْهَا) قَوْلُهُ صلوات اللهوسلامة «مَنْ حَلَفَ بِالأَْمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا.
(وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: «حَلَفْتُ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَانْفُثْ عَنْ شِمَالِك ثَلاَثًا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ لاَ تُعَدْ».
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى رَوَاهَا النَّسَائِيُّ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «حَلَفْتُ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : بِئْسَمَا قُلْتَ، ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ، فَإِنَّا لاَ نَرَاكَ إِلاَّ قَدْ كَفَرْتَ، فَلَقِيتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ لِي: قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَانْفُثْ عَنْ شِمَالِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَلاَ تَعُدْ لَهُ.
(وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللاَّتِ، فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ.
. - وَوَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه اسْتِنْكَارُ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لأََنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا وَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوِ ابْنُ عُمَرَ: «لأََنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا»، وَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه : أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ - وَقَدْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ بِالْكَعْبَةِ -: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ فَكَّرْتَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَحْلِفَ لَعَاقَبْتُكَ، احْلِفْ بِاللَّهِ فَأْثَمْ أَوِ ابْرِرْ.
أَثَرُ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ:
- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهِ كَفَّارَةٌ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَنِثَ فِي الْحَلِفِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لأِنَّ هُ أَحَدُ شَطْرَيِ الشَّهَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَصِيرُ بِهِمَا الْكَافِرُ مُسْلِمًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْحَلِفَ بِسَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ عليه الصلاة والسلام تَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا، لَكِنِ الأَْشْهَرُ فِي مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ بِنَبِيِّنَا وَسَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لَكِنْ فِي مَرْتَبَةِ هَذَا النَّهْيِ اخْتِلاَفٌ، وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: إِنَّهُ حَرَامٌ إِلاَّ الْحَلِفَ بِالأَْمَانَةِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ، وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تَنْزِيهًا.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِسَبْقِ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ كَرَاهَةَ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ الأَْعْرَابِيِّ - الَّذِي قَالَ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أُنْقِصُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ».
شَرَائِطُ الْقَسَمِ
يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْقَسَمِ وَبَقَائِهِ شَرَائِطُ، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
(أَوَّلاً)
الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْحَالِفِ
يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَبَقَائِهَا شَرَائِطُ فِي الْحَالِفِ.
- (الأُْولَى) الْبُلُوغُ. (وَالثَّانِيَةُ) الْعَقْلُ. وَهَاتَانِ شَرِيطَتَانِ فِي أَصْلِ الاِنْعِقَادِ، فَلاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُ الصَّبِيِّ - وَلَوْ مُمَيِّزًا - وَلاَ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ - غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ - وَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ لأِنَّ هَا تَصَرُّفُ إِيجَابٍ، وَهَؤُلاَءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الإِْيجَابِ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي هَاتَيْنِ الشَّرِيطَتَيْنِ إِجْمَالاً. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ وَالصَّبِيُّ إِذَا حَنِثَ بَعْدَ بُلُوغِهِ. أَمَّا السَّكْرَانُ الْمُتَعَدِّي، فَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ صِحَّةَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَتْ صَرِيحَةً تَغْلِيظًا عَلَيْهِ. وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَزُفَرُ وَالطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ يَرَوْنَ عَدَمَ انْعِقَادِ يَمِينِهِ كَالسَّكْرَانِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (الْحَجْرِ).
وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ أَنَّ يَمِينَهُ لاَ تَنْعَقِدُ، وَأَنَّهُ لَوْ حَنِثَ - وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ - لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ يَمِينَهُ مُعَلَّقَةٌ، فَإِنْ حَنِثَ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ.
- (الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) الإِْسْلاَمُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ. فَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَافِرِ وَلَوْ ذِمِّيًّا، وَإِذَا انْعَقَدَتْ يَمِينُ الْمُسْلِمِ بَطَلَتْ بِالْكُفْرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْكُفْرُ قَبْلَ الْحِنْثِ أَمْ بَعْدَهُ، وَلاَ تَرْجِعُ بِالإِْسْلاَمِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يُشْتَرَطُ الإِْسْلاَمُ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلاَ بَقَائِهَا، فَالْكَافِرُ الْمُلْتَزِمُ لِلأَْحْكَامِ - وَهُوَ الذِّمِّيُّ وَالْمُرْتَدُّ - لَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَمْرٍ، ثُمَّ حَنِثَ وَهُوَ كَافِرٌ، تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ لَمْ يَكْفُرْ بِالصَّوْمِ إِلاَّ إِنْ أَسْلَمَ. وَهَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا هُوَ فِي الذِّمِّيِّ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلاَ يَكْفُرُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ، لاَ بِالْمَالِ وَلاَ بِالصَّوْمِ، بَلْ يَنْتَظِرُ، فَإِذَا أَسْلَمَ كَفَّرَ؛ لأِنَّ مَالَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ مَوْقُوفٌ، فَلاَ يُمْكِنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
وَمَنْ حَلَفَ حَالَ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَنِثَ، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ حِينَ الْحَلِفِ مُلْتَزِمًا لِلأَْحْكَامِ.
- (الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ) التَّلَفُّظُ بِالْيَمِينِ، فَلاَ يَكْفِي كَلاَمُ النَّفْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَلاَ بُدَّ مِنْ إِظْهَارِ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنَ السَّمَاعِ كَلَغَطٍ وَسَدِّ أُذُنٍ.
وَاشْتِرَاطُ الإِْسْمَاعِ وَلَوْ تَقْدِيرًا هُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ، الَّذِي يَرَوْنَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا ذَلِكَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ الإِْسْمَاعُ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحُرُوفِ مَعَ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْهَا هُوَ وَلاَ مَنْ يَضَعُ أُذُنَهُ بِقُرْبِ فَمِهِ مَعَ اعْتِدَالِ السَّمْعِ وَعَدَمِ الْمَوَانِعِ.
هَذَا وَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ بِالْيَمِينِ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْكِتَابَةَ لَوْ كَانَتْ بِالصَّرِيحِ تُعْتَبَرُ كِنَايَةً؛ لأِنَّ هَا تَحْتَمِلُ النَّسْخَ، وَتَجْرِبَةُ الْقَلَمِ وَالْمِدَادِ وَغَيْرِهَا، وَبِأَنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ إِنِ اخْتَصَّ بِفَهْمِهَا الْفَطِنُ فَهِيَ كِنَايَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَإِنْ فَهِمَهَا كُلُّ إِنْسَانٍ فَهِيَ صَرِيحَةٌ.
الطَّوَاعِيَةُ وَالْعَمْدُ فِي الْحَالِفِ:
- لاَ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الطَّوَاعِيَةُ - أَيِ الاِخْتِيَارُ - فِي الْحَالِفِ، وَلاَ الْعَمْدُ - أَيِ الْقَصْدُ - فَتَصِحُّ عِنْدَهُمْ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ، وَهُوَ مَنْ أَرَادَ غَيْرَ الْحَلِفِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الْحَلِفِ، كَأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: اسْقِنِي الْمَاءَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ أَشْرَبُ الْمَاءَ؛ لأِنَّ هَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا الإِْكْرَاهُ وَالْخَطَأُ، كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تُشْتَرَطُ الطَّوَاعِيَةُ وَالْعَمْدُ، فَلاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَلاَ الْمُخْطِئُ غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَقُولُونَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْيَمِينِ: إِذَا نَوَى الْحَلِفَ صَحَّتْ يَمِينُهُ. لأِنَّ الإِْكْرَاهَ لاَ يُلْغِي اللَّفْظَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ بِهِ الصَّرِيحُ كِنَايَةً، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لاَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ إِلْغَاءَ كَلاَمِ الْمُكْرَهِ لاَ وَجْهَ لَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الأَْذَى عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَقْصِدِ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ، فَإِذَا قَصَدَ اسْتِعْمَالَهُ فِي مَعْنَاهُ كَانَ هَذَا أَمْرًا زَائِدًا لاَ تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: لاَ يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ التَّوْرِيَةُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا.
وَالتَّوْرِيَةُ هِيَ: أَنْ يُطْلِقَ الإِْنْسَانُ لَفْظًا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنًى وَيُرِيدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ، وَلَكِنَّهُ خِلاَفُ ظَاهِرِهِ.
عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْجِدُّ فِي الْحَالِفِ:
- الْجِدُّ - بِكَسْرِ الْجِيمِ - فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَنْطِقَ الإِْنْسَانُ بِاللَّفْظِ رَاضِيًا بِأَثَرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْتَحْضِرًا لِهَذَا الرِّضَى أَمْ غَافِلاً عَنْهُ، فَمَنْ نَطَقَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ نَاوِيًا مَعْنَاهُ، أَوْ غَافِلاً عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ، مُرِيدًا أَثَرَهُ أَوْ غَافِلاً عَنْ هَذِهِ الإِْرَادَةِ يُقَالُ لَهُ جَادٌّ، فَإِنْ أَرَادَ تَجْرِيدَ اللَّفْظِ عَنْ أَثَرِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلاَ إِكْرَاهٍ، فَنَطَقَ بِهِ لَعِبًا أَوْ مِزَاحًا كَانَ هَازِلاً، وَالْهَزْلُ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَمَنْ حَلَفَ بِصِيغَةٍ صَرِيحَةٍ لاَعِبًا أَوْ مَازِحًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ.
وَيُقَاسُ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَمِنْهَا صِيغَةُ الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَازِلَ لاَ نِيَّةَ لَهُ.
قَصْدُ الْمَعْنَى وَالْعِلْمِ بِهِ:
- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الأَْلْفَاظَ الصَّرِيحَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا: الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى، وَالْكِنَايَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا: قَصْدُ الْمَعْنَى، ذَكَرُوا هَذَا فِي الطَّلاَقِ وَلَيْسَ خَاصًّا بِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ: أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَعْنَاهَا، فَلَوْ حَلَفَ أَعْجَمِيٌّ بِلَفْظٍ عَرَبِيٍّ صَرِيحٍ كَوَاللَّهِ لأََصُومَنَّ غَدًا، بِنَاءً عَلَى تَلْقِينِ إِنْسَانٍ لَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْعَقِدْ. وَلَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ مَعْنَى الْيَمِينِ؛ لأِنَّهُ كِنَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا سَبَقَ.
وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الْكِنَايَةِ لاَ يَخْتَلِفُ فِيهِ أَحَدٌ. وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الطَّلاَقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَضَاءِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَهُ فِي الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ دِيَانَةً، لأِنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
أَثَرُ التَّأْوِيلِ فِي الْيَمِينِ:
- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي تَنْقَطِعُ بِهِ جُمْلَةُ الْيَمِينِ عَنْ جُمْلَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ يُقْبَلُ، وَعِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ قَالَ أَرَدْتُ بِقَوْلِي: (بِاللَّهِ) وَثِقْتُ أَوِ اعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ ابْتَدَأْتُ قَوْلِي: لأََفْعَلَنَّ، وَلَمْ أَقْصِدِ الْيَمِينَ صُدِّقَ دِيَانَةً بِلاَ يَمِينٍ.
وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، أَوْ قَالَ: بِاللَّهِ وَقَالَ: أَرَدْتُ وَثِقْتُ أَوِ اسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفْتُ فَقُلْتُ: لأََفْعَلَنَّ كَذَا مِنْ غَيْرِ قَسَمٍ يُقْبَلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَإِذَا تَأَوَّلَ نَحْوَ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الطَّلاَقِ وَالإِْيلاَءِ لاَ يُقْبَلُ ظَاهِرًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ التَّأْوِيلَ لاَ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ، فَالْمُتَصَفِّحُ لِكُتُبِ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى يَجِدُ تَأْوِيلاَتٍ مَقْبُولَةً عِنْدَهُمْ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْتَحْلِفٌ ذُو حَقٍّ، وَكَانَ التَّأْوِيلُ غَيْرَ خَارِجٍ عَمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ.
(ثَانِيًا)
الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ
يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ وَبَقَائِهَا مُنْعَقِدَةً أَرْبَعُ شَرَائِطَ تَرْجِعُ إِلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُسَمَّى جَوَابَ الْقَسَمِ.
- (الشَّرِيطَةُ الأُْولَى): أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَمْرًا مُسْتَقْبَلاً.
وَهَذِهِ شَرِيطَةٌ لاِنْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى مَاضٍ وَحَاضِرٍ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لاَ أَمُوتُ، وَمُسْتَقْبَلٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لأََصْعَدَنَّ السَّمَاءَ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِانْعِقَادِ الْغَمُوسِ عَلَى حَاضِرٍ وَمُسْتَقْبَلٍ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَشْتَرِطُونَ الاِسْتِقْبَالَ فِي كُلِّ مَا فِيهِ كَفَّارَةٌ، كَالْحَلِفِ بِتَعْلِيقِ الْكُفْرِ أَوِ الْقُرْبَةِ أَوِ الظِّهَارِ بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ.
- (الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ): أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْحَلِفِ - أَيْ لَيْسَ مُسْتَحِيلاً عَقْلاً - وَهَذِهِ شَرِيطَةٌ لاِنْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.
وَوَجْهُ اشْتِرَاطِهَا: أَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَنْعَقِدُ لِتَحْقِيقِ الْبِرِّ، فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ أَوْ وَعَدَ بِوَعْدٍ يُؤَكِّدُهُ بِالْيَمِينِ لِتَحْقِيقِ الصِّدْقِ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْبِرَّ، ثُمَّ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَنَحْوُهَا خَلَفًا عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرِ الأَْصْلُ - وَهُوَ الْبِرُّ - لَمْ يُوجَدِ الْخَلَفُ - وَهُوَ الْكَفَّارَةُ - فَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو يُوسُفَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ لأِنَّ هُ لاَ يَلْزَمُ مِنِ اسْتِحَالَةِ الأَْصْلِ عَقْلاً عَدَمُ الْخَلَفِ. وَمَفْهُومُ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ: أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَقْلاً عِنْدَ الْحَلِفِ، لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.
لَكِنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ يُعْلَمُ مِنَ الْكَلاَمِ عَلَى الْمِثَالِ الآْتِي:
إِذَا قَالَ إِنْسَانٌ: وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، أَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ، وَكَانَ الْكُوزُ خَالِيًا مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ الْحَلِفِ، فَالشُّرْبُ الَّذِي هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلٌ وُجُودُهُ عِنْدَ الْحَلِفِ عَقْلاً، فَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ عِنْدَ حَلِفِهِ لاَ يَعْلَمُ خُلُوَّ الْكُوزِ مِنَ الْمَاءِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ عِنْدَ زُفَرَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
هَذَا مَا أَفَادَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: تَنْعَقِدُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ.
- (الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ): أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً بَعْدَ الْحَلِفِ، إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ. وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ مُنْعَقِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، فَلَوْ لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الشَّرِيطَةُ بَطَلَتِ الْيَمِينُ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ أَيْضًا.
وَتَوْجِيهُ الاِشْتِرَاطِ وَعَدَمِهِ كَمَا فِي الشَّرِيطَةِ الثَّانِيَةِ، وَمَفْهُومُ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ يَتَّضِحُ بِالْمِثَالِ الآْتِي: إِذَا قَالَ إِنْسَانٌ وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ أَوْ قَالَ وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِوَقْتٍ، وَكَانَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ وَقْتَ الْحَلِفِ، فَصَبَّهُ الْحَالِفُ أَوْ صَبَّهُ غَيْرُهُ أَوِ انْصَبَّ بِنَفْسِهِ فِي النَّهَارِ. فَفِي صُورَةِ التَّقْيِيدِ بِالْيَوْمِ تَبْطُلُ بَعْدَ انْعِقَادِهَا؛ لأِنَّ الشُّرْبَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ صَارَ مُسْتَحِيلاً بَعْدَ الْحَلِفِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قُيِّدَ بِهِ، وَفِي صُورَةِ الإِْطْلاَقِ تَبْقَى مُنْعَقِدَةً، فَيَحْنَثُ بِالصَّبِّ أَوِ الاِنْصِبَابِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
- (الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ): أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ عَادَةً عِنْدَ الْحَلِفِ - أَيْ لَيْسَ مُسْتَحِيلاً عَادَةً - وَهَذِهِ شَرِيطَةٌ لاِنْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ عِنْدَ زُفَرَ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ.
فَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لأََصْعَدَنَّ السَّمَاءَ، أَوْ: وَاللَّهِ لأََمَسَّنَّ السَّمَاءَ، أَوْ: وَاللَّهِ لأَُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا، لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ عِنْدَ زُفَرَ، سَوَاءٌ أَقَيَّدَهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ كَأَنْ قَالَ: الْيَوْمَ أَوْ غَدًا، أَوْ لَمْ يُقَيِّدْهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِنَّهَا تَنْعَقِدُ؛ لأِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ جَائِزٌ عَقْلاً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهَا تَنْعَقِدُ أَيْضًا؛ لأِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ.
وَتَوْجِيهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ عَادَةً يُلْحَقُ بِالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً، فَإِذَا لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ فِي الثَّانِي لَمْ تَنْعَقِدْ فِي الأَْوَّلِ.
وَتَوْجِيهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالاِنْعِقَادِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِيهِ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ، وَالْحُكْمَ بِعَدَمِ الاِنْعِقَادِ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى.
وَتَوْجِيهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ الْفِعْلَ شَرْطًا لِلْبِرِّ، فَيَكُونُ عَدَمُهُ مُوجِبًا لِلْحِنْثِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا عَقْلاً وَعَادَةً، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لأََقْرَأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ، أَمْ مُسْتَحِيلاً عَقْلاً وَعَادَةً كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، وَلاَ مَاءَ فِيهِ أَمْ مُسْتَحِيلاً عَادَةً لاَ عَقْلاً كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لأَُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا.
الْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِ الْحَالِفِ:
- الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ غَائِبٌ: وَاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ عَلَى حَاضِرٍ: وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، فَلَمْ يُطِعْهُ، حَنِثَ الْحَالِفُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، لاَ عَلَى مَنْ أَحْنَثَهُ.
وَقَدْ فَصَّلَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُطِيعُهُ، وَالْحَلِفِ عَلَى مَنْ لاَ يَظُنُّهُ كَذَلِكَ. فَقَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ يُطِيعُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلاَ كَفَّارَةَ لأِنَّ هُ لَغْوٌ، بِخِلاَفِ مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُطِعْهُ حَنِثَ الْحَالِفُ وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ.
(ثَالِثًا)
شَرَائِطُ تَرْجِعُ إِلَى الصِّيغَةِ
- يُشْتَرَطُ لاِنْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى شَرِيطَتَانِ تَرْجِعَانِ إِلَى صِيغَتِهَا.
(الأُْولَى): عَدَمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِسُكُوتٍ وَنَحْوِهِ، فَلَوْ أَخَذَهُ الْوَالِي وَقَالَ: قُلْ: بِاللَّهِ، فَقَالَ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: لآَتِيَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ الرَّجُلُ مِثْلَهُ، لاَ يَحْنَثُ بِعَدَمِ إِتْيَانِهِ؛ لِلْفَصْلِ بِانْتِظَارِ مَا يَقُولُ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، لاَ يَصِحُّ؛ لِلْفَصْلِ بِمَا لَيْسَ يَمِينًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعَهْدُ رَسُولِهِ.
(الثَّانِيَةُ): خُلُوُّهَا عَنِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوِ اسْتِثْنَاؤُهَا، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْحِنْثُ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَبْدُوَ لِي غَيْرُ هَذَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي سَيَأْتِي بَيَانُهَا، فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِشَرَائِطِهِ لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ.
صِيغَةُ الْيَمِينِ التَّعْلِيقِيَّةُ:
- التَّعْلِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَلَّقَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ وَعَلَيْهِ: أَنْشَبَهُ فِيهِ وَوَضَعَهُ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ مُسْتَمْسِكًا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: رَبْطُ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي رُبِطَ مَضْمُونُهَا هِيَ جُمْلَةُ الْجَزَاءِ، وَالَّتِي رُبِطَ هَذَا الْمَضْمُونُ بِمَضْمُونِهَا هِيَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ.
فَفِي مِثْلِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، رَبَطَ الْمُتَكَلِّمُ حُصُولَ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ - وَهُوَ الطَّلاَقُ - بِحُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ - وَهُوَ دُخُولُهَا الدَّارَ - وَوَقَفَهُ عَلَيْهِ، فَلاَ يَقَعُ إِلاَّ بِوُقُوعِهِ.
وَلَيْسَ كُلُّ تَعْلِيقٍ يَمِينًا، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا تَعْلِيقَاتٌ مَخْصُوصَةٌ تُذْكَرُ فِيمَا يَأْتِي.
أ - أَجْزَاءُ الصِّيغَةِ:
- مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ مَثَلاً، فَهَذِهِ صِيغَةُ تَعْلِيقٍ تَحْتَوِي عَلَى: أَدَاةِ شَرْطٍ، فَجُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ، فَجُمْلَةٍ جَزَائِيَّةٍ.
وَالْحَدِيثُ عَنْ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ كَمَا يَلِي:
أَدَاةُ الشَّرْطِ:
- ذَكَرَ أَهْلُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ أَدَوَاتٍ كَثِيرَةً لِلشَّرْطِ مِنْهَا «إِنْ» - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ - وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا، كَمَا فِي قوله تعالي فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ).
وَمِنْهَا «إِذَا» وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا، وَمِنْهَا «مَنْ» «وَمَا» «وَمَهْمَا» «وَحَيْثُمَا» «وَكَيْفَمَا». «وَمَتَى» وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا، وَأَيْنَ وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا أَيْضًا.
- وَقَدْ يَقُومُ مَقَامَ هَذِهِ الأَْدَوَاتِ أَدَوَاتٌ أُخْرَى وَإِنْ لَمْ تُعَدَّ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ، وَمِنْهَا: كُلٌّ وَكُلَّمَا وَبَاءُ الْجَرِّ.
جُمْلَةُ الشَّرْطِ:
- جُمْلَةُ الشَّرْطِ هِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهَا أَدَاةُ الشَّرْطِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مَاضَوِيَّةٌ أَوْ مُضَارِعِيَّةٌ، وَهِيَ لِلاِسْتِقْبَالِ فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ التَّعْلِيقَ عَلَى أَمْرٍ مَضَى أَدْخَلَ عَلَى الْفِعْلِ جُمْلَةَ الْكَوْنِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِنْ خَرَجْتِ، أَوْ: إِنْ تَخْرُجِي يُفِيدُ التَّعْلِيقَ عَلَى خُرُوجٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
فَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّجُلُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَادَّعَى أَنَّهَا خَرَجَتْ بِالأَْمْسِ، فَقَالَتْ: لَمْ أَخْرُجْ، فَأَرَادَ تَعْلِيقَ طَلاَقِهَا عَلَى هَذَا الْخُرُوجِ الْمَاضِي، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِفِعْلِ الْكَوْنِ فَيَقُولُ: إِنْ كُنْتِ خَرَجْتِ بِالأَْمْسِ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
جُمْلَةُ الْجَزَاءِ:
- هِيَ الْجُمْلَةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمُتَكَلِّمُ عَقِبَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، جَاعِلاً مَضْمُونَهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، وَقَدْ يَأْتِي الْجَزَاءُ قَبْلَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالأَْدَاةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ جَزَاءً مُقَدَّمًا عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَدَلِيلُ الْجَزَاءِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَالْجَزَاءُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ يَكُونُ مُقَدَّرًا بَعْدَ الشَّرْطِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن عشر ، الصفحة / 78
حَلِفٌ
التَّعْرِيفُ:
لْحَلِفُ لُغَةً الْيَمِينُ: وَأَصْلُهَا الْعَقْدُ بِالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ.
قَالَ أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ: وَالْحَلِفُ مِنْ قَوْلِكَ: سَيْفٌ حَلِيفٌ أَيْ: قَاطِعٌ مَاضٍ. فَإِذَا قُلْتَ: حَلَفَ بِاللَّهِ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: قَطَعَ الْمُخَاصَمَةَ بِاللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْحَلِفُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ أَصْلُهُ مِنَ الْحَلِفِ بِمَعْنَى الْمُلاَزَمَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الإْنْسَانَ يَلْزَمُهُ الثَّبَاتُ عَلَى الْيَمِينِ.
وَاصْطِلاَحًا: تَوْكِيدُ حُكْمٍ بِذِكْرٍ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
حِكْمَةُ التَّحْلِيفِ وَمَشْرُوعِيَّتُهُ:
التَّحْلِيفُ تَكْلِيفُ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ الْيَمِينَ وَيَجْرِي التَّحْلِيفُ لِلْفَصْلِ فِي الْخُصُومَاتِ وَإِنْهَاءِ
النِّزَاعِ فِي الدَّعَاوَى، وَثَبَتَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: «احْلِفْ بِاللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ، مَا لَهُ عِنْدَكَ شَيْءٌ».
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلأْشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ: بَيِّنَتُكَ وَإِلاَّ فَيَمِينُه.
صِفَةُ التَّحْلِيفِ:
الْحَلِفُ الْمُنْعَقِدُ هُوَ الْقَسَمُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ، مِثْلُ: لاَ، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَبِالَّذِي رَفَعَ سَبْعًا وَبَسَطَ سَبْعًا، وَهَذَا مِصْدَاقًا لقوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأْرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ«أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «فَقَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلاَ آثِرًا».
(ر: أَيْمَانٌ) - فِقْرَةَ (17) وَإِثْبَاتٌ - فِقْرَةَ (23) وَإِيلاَءٌ فِقْرَةَ (1).
الْحُقُوقُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا التَّحْلِيفُ:
الْحُقُوقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: حَقٌّ لِلْعِبَادِ.
وَحَقُّ اللَّهِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
فَالأْوَّلُ: الْحُدُودُ وَلاَ يَجْرِي التَّحْلِيفُ فِيهَا، لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْيَمِينِ النُّكُولَ، وَهُوَ لاَ يَعْدُو أَنْ يَكُونَ بَذْلاً أَوْ إِقْرَارًا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ لاَ بَذْلَ فِيهَا وَلاَ تُقَامُ بِحُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ.
وَلأِنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ فَلأَنْ لاَ يُسْتَحْلَفُ مَعَ الإْقْرَارِ أَوْلَى وَلأِنَّهُ يُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِهُزَالٍ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ: «لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ».
الثَّانِي: الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ كَدَعْوَى السَّاعِي الزَّكَاةَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، لأِنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ فَلاَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهَا كَالصَّلاَةِ، وَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ نَذْرَ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نَفْيِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، لأِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْمُدَّعِي فِيهِ وَلاَ وِلاَيَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَضَمَّنَتِ الدَّعْوَى حَقًّا لآِدَمِيٍّ مِثْلُ سَرِقَةٍ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِحَقِّ الآْدَمِيِّ دُونَ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَضْمَنُ.
وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ مَالٌ أَوِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَالٌ، فَهَذَا تُشْرَعُ فِيهِ الْيَمِينُ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
فَإِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَّعِي حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَرِئَ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا فِي قِصَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ اللَّذَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الأْرْضِ.
الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَالٌ كَحَدِّ قَذْفٍ، وَقَوَدٍ، وَمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا كَنِكَاحٍ، وَطَلاَقٍ، وَرَجْعَةٍ، وَعِتْقٍ، وَإِسْلاَمٍ، وَرِدَّةٍ، وَجَرْحٍ، وَتَعْدِيلٍ.
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ يُسْتَحْلَفُ فِيهَا لأِنَّ النُّكُولَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَذْلٌ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لاَ يَصِحُّ فِيهَا الْبَذْلُ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ النُّكُولُ إِقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَعَلَيْهِ يَجْرِي التَّحْلِيفُ فِيهَا عِنْدَهُمَا.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَكُلُّ دَعْوَى لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِعَدْلَيْنِ لاَ يُسْتَحَقُّ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِي رَدِّ الْيَمِينِ أَوْ إِثْبَاتِهَا، لأِنَّهُ إِنْ حَلَفَهَا لاَ يَثْبُتُ الْمُدَّعَى بِهِ لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِهَا عَلَى الْعَدْلَيْنِ إِلاَّ الْقَسَامَةَ وَجِرَاحَ الْعَمْدِ، وَفِي بَعْضِهَا خِلاَفٌ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَهُمْ بِأَحْكَامٍ تَثْبُتُ فِي الْبَدَنِ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ غَالِبًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الْمُتَّبَعُ عِنْدَهُمْ، أَنَّهُ يَجْرِي التَّحْلِيفُ لأِنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الدَّعَاوَى الَّتِي تَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ تَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَيَمِينٍ.
وَاسْتَدَلُّوا «بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِهِمَا فِي الْحُقُوقِ وَالأْمْوَالِ» ثُمَّ الأْئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ.
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلاَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ قَالَ أَحْمَدُ – رحمه الله -: لَمْ أَسْمَعْ مَنْ مَضَى جَوَّزُوا الأْيْمَانَ إِلاَّ فِي الأَْمْوَالِ وَالْعُرُوضِ خَاصَّةً كَمَا سَلَفَ.
الثَّانِي: يُسْتَحْلَفُ فِي الطَّلاَقِ وَالْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ. وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: إِذَا قَالَ ارْتَجَعْتُكِ
فَقَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي كُلِّ حَقٍّ لآِدَمِيٍّ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي دَعْوَى الدِّمَاءِ بِذِكْرِهَا فِي الدَّعْوَى مَعَ عُمُومِ الأْحَادِيثِ، وَلأِنَّهَا دَعْوَى صَحِيحَةٌ فِي حَقٍّ لآِدَمِيٍّ، فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَدَعْوَى الْمَالِ.
أَثَرُ التَّحْلِيفِ فِي الْخُصُومَةِ:
الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ تُفِيدُ قَطْعَ الْخُصُومَةِ فِي الْحَالِ لاَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْحَقِّ. وَالْمَالِكِيَّةُ اعْتَدُّوا بِالْحَلِفِ وَقَالُوا: تَكُونُ الْيَمِينُ كَافِيَةً فِي إِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ وَفِي مَنْعِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي عُذْرٌ فِي عَدَمِ الإْتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ كَنِسْيَانٍ حِينَ تَحْلِيفِهِ خَصْمَهُ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: إِثْبَاتٌ) فِقْرَةَ (28).
صِفَةُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ:
يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ فِي فِعْلِهِ، وَكَذَا فِعْلِ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ إِثْبَاتًا، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا فَعَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ.
وَجُمْلَةُ الأْمْرِ أَنَّ الأْيْمَانَ كُلَّهَا عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ إِلاَّ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. وَعَلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: كُلُّهَا عَلَى الْعِلْمِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَذَكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ الشَّيْبَانِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لاَ تَضْطَرُّوا النَّاسَ فِي أَيْمَانِهِمْ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى مَا لاَ يَعْلَمُونَ» وَلأِنَّهُ لاَ يُكَلَّفُ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَحَمَلَ ابْنُ قُدَامَةَ حَدِيثَ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ.
مِثَالُ الْبَتِّ: ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ ضَرَبَ فُلاَنًا وَاعْتَدَى عَلَيْهِ، فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ لأِنَّهُ فِعْلُ النَّفْسِ.
مِثَالُ الْعِلْمِ: ادَّعَى أَحَدٌ دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ فِي مُوَاجِهَةِ وَارِثِهِ بِسَبَبٍ فَيَحْلِفُ الْوَارِثُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ: وَاللَّهِ لاَ أَعْلَمُ أَنَّ أَبِي فَعَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِعْلٌ لِلْغَيْرِ.
وَتَفَرَّدَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَقْسِيمِ الْحَلِفِ إِلَى حَلِفٍ عَلَى السَّبَبِ أَوْ عَلَى الْحَاصِلِ.
وَالْمَقْصُودُ بِالسَّبَبِ: وُقُوعُ سَبَبِ الْحَقِّ الْمُدَّعَى أَوْ عَدَمُ وُقُوعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ بِالْحَاصِلِ: بَقَاءُ الْعَقْدِ الْمُثْبِتِ لِلْحَقِّ أَوْ عَدَمُ بَقَائِهِ: أَنَّ الْعَقْدَ يَحْتَمِلُ الاِرْتِفَاعَ كَالنِّكَاحِ يَرْتَفِعُ بِالطَّلاَقِ، وَالْبَيْعِ بِالإْقَالَةِ.
مِثَالُ الْحَلِفِ عَلَى السَّبَبِ: دَعْوَى عَقْدِ بَيْعٍ مُوجِبٍ لِتَمَلُّكِ عَيْنٍ وَالْكَفَالَةِ لاِشْتِغَالِ الذِّمَّةِ وَتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ، فَهُوَ يَمِينٌ مُنْصَبٌّ عَلَى نَفْسِ السَّبَبِ الْمُؤَدِّي إِلَى حُصُولِ مُسَبَّبِهِ هَلْ هُوَ وَاقِعٌ أَوْ لاَ؟.
وَالْحَلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ: يَكُونُ فِي الأْشْيَاءِ الَّتِي تَقَعُ ثُمَّ قَدْ تَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَالْغَصْبِ، فَيَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ بِاللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ، وَمَا هِيَ بَائِنٌ مِنْكَ الآْنَ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ. أَيْ إِلَى الآْنَ لَمْ يَزَلْ حَاصِلاً بَاقِيًا أَمْ لاَ.
قَالَ صَاحِبُ مُعِينِ الْحُكَّامِ: الاِسْتِحْلاَفُ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالآْخَرُ عَلَى الْفِعَالِ الْحِسِّيَّةِ.
أَمَّا الأْوَّلُ فَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُهُ عَلَى الْحَاصِلِ بِالْعَقْدِ بِاللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَكَ مَا ادَّعَى مِنَ الْحَقِّ، وَلاَ يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالإْجَارَةُ وَالْكَفَالَةُ وَنَحْوُهَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ بِاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُ، وَلاَ اسْتَأْجَرْتُ، وَلاَ كَفَلْتُ وَنَحْوِهَا، إِلاَّ أَنْ يَعْرِضَ لِلْقَاضِي فَيَقُولُ: كَمْ مِنْ مُشْتَرٍ أَوْ مُسْتَأْجِرٍ يَفْسَخُ الْعَقْدَ فَيُحَلِّفَهُ عَلَى الْحَاصِلِ، لأِنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى حَسَبِ الدَّعْوَى وَدَفْعِهِ، وَالدَّعْوَى وَقْعٌ فِي الْعَقْدِ لاَ فِي الْحَاصِلِ بِهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الاِسْتِحْلاَفُ عَلَى الأْفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَهِيَ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ يَسْتَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ لاَ عَلَى السَّبَبِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ وَالْمَسْرُوقُ قَائِمًا، يُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا هَذَا الثَّوْبُ لِهَذَا وَلاَ عَلَيْكَ تَسْلِيمُهُ وَلاَ تَسْلِيمُهُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْقِيمَةِ لاَ غَيْرُ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ مَا إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى حَائِطِهِ خَشَبَةً، أَوْ بَنَى عَلَيْهِ بِنَاءً، أَوْ أَجْرَى عَلَى سَطْحِهِ، أَوْ فِي دَارِهِ مِيزَابًا أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ بَابًا، أَوْ رَمَى تُرَابًا فِي أَرْضِهِ أَوْ مَيْتَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ نَقْلُهُ وَأَرَادَ اسْتِحْلاَفَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ بِاللَّهِ مَا فَعَلْتُ هَذَا، لأِنَّهُ لَيْسَ فِي التَّحْلِيفِ هُنَا ضَرَرٌ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِذْ بَعْدَمَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ رَفْعِ هَذِهِ الأْشْيَاءِ عَنْ أَرْضِهِ، لاَ يَتَضَرَّرُ بِسُقُوطِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأْسْبَابِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الاِبْتِدَاءِ أَنْ يَضَعَ الْخَشَبَةَ عَلَى حَائِطِهِ أَوْ يُلْقِيَ الْمَيْتَةَ فِي أَرْضِهِ، كَانَ ذَلِكَ إِعَارَةً مِنْهُ، فَمَتَى بَدَا لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِرَفْعِهِ، وَإِنْ بَاعَ مِنْهُ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، لأِنَّ هَذَا بَيْعُ الْحَقِّ وَبَيْعُ الْحَقِّ لاَ يَجُوزُ. أ. هـ. أَيْ فَهَذِهِ الأْفْعَالُ الْحِسِّيَّةُ كَالأْسْبَابِ الَّتِي لاَ تَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ نَحْوِ دَعْوَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْعِتْقَ عَلَى مَوْلاَهُ، فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ لاَ يَضُرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
حَقُّ التَّحْلِيفِ:
إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِطَلَبِ الْخَصْمِ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْحَاكِمُ فَلاَ تُعْتَبَرُ يَمِينُهُ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَحْلِفَ مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ مَرَّةً أُخْرَى.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي اسْتِحْلاَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ طَلَبِ الْيَمِينِ مِنَ الْمُدَّعِي لأَِنَّهُ حَقٌّ لَهُ، فَلاَ يَسْتَوْفِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ.
وَلاَ يَعْتَدُّ بِتَحْلِيفِ قَاضٍ قَبْلَ مُطَالَبَةِ الْمُدَّعِي، لأِنَّهَا يَمِينٌ قَبْلَ وَقْتِهَا، لِلْمُدَّعِي أَنْ يُطَالِبَ بِإِعَادَتِهَا.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ خَمْسَةَ مَوَاطِنَ:
الأْوَّلُ: إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ مِنَ التَّرِكَةِ حَقًّا بِالإْجْمَاعِ.
الثَّانِي: إِذَا اسْتَحَقَّ أَحَدٌ الْمَالَ.
الثَّالِثُ: لَوْ أَرَادَ مُشْتَرٍ رَدَّ مَبِيعٍ لِعَيْبِهِ.
الرَّابِعُ: تَحْلِيفُ الْحَاكِمِ الشَّفِيعَ عِنْدَ الْحُكْمِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ بِأَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْ شُفْعَتَهُ.
وَالْخَامِسُ: الْمَرْأَةُ، إِذَا طَلَبَتْ فَرْضَ نَفَقَةٍ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ.(ر: إِثْبَاتٌ) - فِقْرَةَ (17) (22).
النِّيَّةُ فِي التَّحْلِيفِ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ».
إِذِ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّرْهِيبُ وَرَدْعُ الْحَالِفِ عَنْ جُحُودِهِ خَوْفًا مِنَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُنْظَرُ فِي الْيَمِينِ إِلَى نِيَّةِ الْقَاضِي وَعَقِيدَتِهِ، فَلاَ يَصِحُّ تَوْرِيَةُ الْحَالِفِ وَلاَ قَوْلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُ الْقَاضِي.
وَأَتَى ابْنُ قُدَامَةَ بِمِثَالٍ لِلْحَالِفِ مَظْلُومًا وَهِيَ وَاقِعَةٌ حَصَلَتْ لِلصَّحَابِيِّ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ رضي الله عنه. قَالَ سُوَيْدٌ: «خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي. فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَصْدَقُهُمْ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلاَ مَظْلُومًا قَالَ: فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَهُ تَأْوِيلُهُ وَأَوْرَدَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي فَقَالَ: إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَلْ تَلِدُ الإْبِلَ إِلاَّ النُّوقُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ - عَدَا ابْنُ الْقَاسِمِ -: الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هِيَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ فَيَنْفَعُهُ الاِسْتِثْنَاءُ فَلاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَلَكِنْ يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ.

