1- توجيه اليمين الحاسمة احتكام لضمير الخصم لحسم النزاع كله أو في شق منه عندما يعوز الخصم الدليل لإثبات دعواه لا سيما عندما يتشدد القانون في اقتضاء أدلة معينة للإثبات ويتمسك الخصم الآخر بذلك فإن حلفها الخصم فقد أثبت إنكاره لصحة الادعاء ويتعين رفضه وإن كان ذلك بمثابة إقرار ضمني بصحة الادعاء ووجب الحكم عليه بمقتضى هذا الإقرار ولا يغير من ذلك أن يكون طلب توجيه اليمين الحاسمة من باب الاحتياط بعد العمل بقانون المرافعات الحالي وقانون الإثبات ذلك أن المادة 166 من قانون المرافعات الأصلي والمادة 187 من قانون المرافعات المختلط كانتا تنصان على أنه لا يجوز التكليف من باب الاحتياط باليمين الحاسمة لأن التكليف بتلك اليمين يفيد ترك ما عداها من أوجه الإثبات ومن ثم فقد صار القضاء في ذلك الوقت على عدم جواز توجيه اليمين وبصفة احتياطية إلا أن هذا القضاء قد يؤدي إلى ضياع حق المدعي الذي يملك أدلة قد لا تقبلها المحكمة منه فيرى التمسك بتوجيه اليمين الحاسمة على سبيل الاحتياط، والعدالة تقتضي أن يسمح له بعرض أدلته على المحكمة مع الاحتفاظ بحقه في توجيه اليمين إذا رفضت المحكمة الأخذ بتلك الأدلة لأن اليمين طريق احتياطي أخير يلجأ إليه الخصم عندما يعوزه الدليل فيجب أن يبقى هذا الطريق مفتوحاً أمامه إلى أن يستنفذ ما لديه من أدلة
( الطعن رقم 10965 لسنة 86 ق - جلسة 22 / 4 / 2024 )
2- المقرر - في قضاء هذه المحكمة – أن اليمين لغةً هو الإخبار عن أمر مع الاستشهاد بالله تعالى على صدق الخبر فهو لا يعتبر عملًا مدنيًا فحسب بل هو أيضًا عمل ديني ، فطالب اليمين يلجأ إلى ذمة خصمه ، والحالف عندما يؤدي اليمين إنما يستشهد بالله ويستنزل عقابه وقد نصت مواد الباب السادس من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 في المواد من 114 حتى 130 على طلب اليمين الحاسمة وشروط توجيهها ويستدل منها على أن اليمين ملك للخصم لا للقاضي ويجوز للخصم توجيهها في أية حالة كانت عليها الدعوى وعلى القاضي أن يجيب الخصم لطلبه متى توافرت شروط توجيهها وهي أن تكون متعلقة بالدعوى ومنتجة فيها وغير مخالفة لقاعدة من النظام العام ويجوز للقاضي أن يرفضها إذا كانت غير منتجة أو كان في توجيهها تعسف من الخصم، وخلاصة القول أن توجيه اليمين الحاسمة احتكام لضمير الخصم لحسم النزاع كله أو في شقٍ منه عندما يعوز الخصم الدليل لإثبات دعواه لا سيما عندما يتشدد القانون في اقتضاء أدلة معينة للإثبات ويتمسك الخصم الآخر بذلك، فإن حلفها الخصم فقد أثبت إنكاره لصحة الادعاء ويتعين رفضه، وإن نكل كان ذلك بمثابة إقرار ضمني بصحة الادعاء ووجب الحكم عليه بمقتضى هذا الإقرار، وكان كل طلب أو وجه دفاع يدلي به الخصم لدى محكمة الموضوع ويطلب إليها بطريق الجزم أن تفصل فيه ويكون الفصل فيه مما يجوز أن يترتب عليه تغيير وجه الرأي في الدعوى ، يجب على محكمة الموضوع - وعلى ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة - أن تجيب عليه بأسبابٍ خاصة، فإن هي لم تفعل كان حكمها قاصرًا. لما كان ذلك، وكان الثابت أن الطاعن طلب توجيه اليمين الحاسمة للمطعون ضده ليحلف بأن الأموال التي قام بتحويلها إليه كانت على سبيل الدين وأن ذمته مشغولة بها، وإذ كانت الواقعة محل الحلف متعلقة بالنزاع ومنتجة فيه ، ورفض الحكم المطعون فيه هذا الطلب بمقولة أن اليمين غير حاسمة في إثبات براءة ذمته من الأموال المطالب بها بصرفها في الغرض المخصصة من أجله ولم يقدم الدليل على ذلك، وهو قول من الحكم لا يواجه دفاع الطاعن، ولا يصلح ردًا عليه على الرغم من أنه دفاع جوهري يتغير به - إن صح - وجه الرأي في الدعوى، فإنه يكون معيباً بالقصور والإخلال بحق الدفاع مما يعيبه ويوجب نقضه .
( الطعن رقم 16542 لسنة 91 ق - جلسة 27 / 9 / 2022 )
كيفية الحلف : يجب على الخصم الذى وجهت إليه اليمين الحاسمة ، ولم يردها على خصمه ، أن يؤدى اليمين بنفسه ، لأن خصمه قد احتكم إلى ضميره ، فلا يصح أن يوكل غيره فى الحلف . وقد نصت المادة 183 من تقنين المرافعات على هذا الحكم صراحة فقالت : " لا يجوز التوكيل فى تأدية اليمين " . وإذا صح التوكيل فى تحليف اليمين ، فإن التوكيل فى حلفها لا يجوز ، كما قدمنا . وفى هذا المعنى تقول المادة 473 من التقنين المدني العراقي : " تجرى النيابة فى التحليف ، ولكن لا تجرى فى اليمين " . انظر أيضاً المادة 132 من قانون البينات السوري .ولم يرد في قانون الإثبات نص مماثل اكتفاء بالقواعد بشخص من وجهت اليه.
وتأدية اليمين تكون بأن يقول الخصم : " " أحلف " ، ثم يذكر صيغة اليمين التي أقرتها المحكمة،.فإذا كان دين الخصم يفرض أوضاعاً مقررة فى الحلف ، جاز للخصم أن يطلب تأدية اليمين وفقاً لهذه الأوضاع، وقد وردت هذه الأحكام صراحة فى تقنين المرافعات، فنصت المادة 180 من هذا التقنين على أن " تكون تأدية اليمين بأن يقول الحالف أحلف ويذكر الصيغة التى أقرتها المحكمة.(الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور/ عبد الرزاق السنهوري، تنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، الطبعة الثانية 1982 دار النهضة العربية، الجزء : الثاني المجلد الأول ، الصفحة : 719)
أولاً: يتضمن لفظ (أحلف) ولفظ (أقسم) معنى الاستشهاد بالله تعالی علی صدق المحلوف عليه لذلك اكتفى المشرع في المادة 127 إثبات على أن يقول من يؤدي اليمين أمام المحكمة «أحلف على ثبوت كذا» أو «أحلف على نفس كذا» وأن يضيف إلى ذلك ذكر المحلوف عليه بالصيغة التي اعتمدتها المحكمة ولكن جرى العمل في المحاكم على أن يقول الحالف «والله العظيم».
ولاشك في أن هذه العادة نشأت عن رغبة في إشعار الحالف بجلال الحلف حتى يتوخى الصدق فيما يحلف عليه.
الدكتور سليمان مرقس في أحوال الإثبات وإجراءاته الجزء الأول ص 596 وما بعدها).
ثانياً: يرى المستشار أحمد نشأت أنه لما كان توجيه اليمين الحاسمة ليس إلا تحكيماً لذمة الخصم فإنه يرى أن يسمح القانون أو القاضي الموجه اليمين أن يطلب تأديتها بالصيغة التي يعلم أنها تؤثر في ذمة خصمه (عدا يمين الطلاق مع القسم بالله أو بما يطابق الأوضاع المقررة بديانة الحالف وخصوصاً إذا أضاف الحلف بالمصحف أو وضع اليد عليه لأنه كلام الله أو أي كتاب سماوي آخر يتفق وديانة الحالف على أنه إذا كان السماح بذلك صادراً من القاضي لا من القانون قد يقال أنه يجوز للخصم المطلوب تحليفه أن يرفض الحلف بغير الله إلا أنه إذا حلف بالله وأضاف إلى ذلك المصحف الشريف مثلاً أو وضع يده عليه لا تكون اليمين باطلة وإنما تكون الإضافة تزيداً لا ضرر منه بل تفيد في تنبيه ذمة الحالف ودفعها إلى الحق دفعة قوية حسب اعتقاده وتفيد أيضاً في إرضاء موجه اليمين الذي لا يملك دليلاً سواها، ويرى أنه يجوز للقاضي أن يطلب الإضافة أيضاً فإذا امتنع الموجه عليه عنها يصح اعتباره غير صادق في جحد الحق المدعى به ومقراً به إقراراً ضمنياً. (المستشار أحمد نشأت في رسالة الإثبات الطبعة السابعة الجزء الثاني ص 72 وما بعدها).(الشرح والتعليق على قانون الإثبات المدني، المستشار/ مصطفى مجدي هرجه، طبعة 2014، 2015 دار محمود، المجلد : الثاني ، الصفحة : 359)
يجوز للخصم الذي وجه اليمين أن يطالب من خصمه أن يضع يده على ما يعتبر في دينه الكتاب المقدس، إمعاناً في إشعاره بجلالة الموقف وبخطر اليمين، وقد قضت بعض المحاكم بأنه لا مانع يمنع الخصم عند توجيه اليمين الحاسمة لخصمه من أن يطلبه منه أن يضع يده على المصحف أو الإنجيل أو التوراة وقت الحلف، فإن قبل الخصم حلف اليمين ورفض وضع يده على الكتاب يعد ناکلاً عن اليمين (من هذا الرأي الدكتور السنهوري في الوسيط الجزء الثاني، الطبعة الثانية ص 720) غير أن بعض المحاكم ذهبت إلى أن وضع اليد على المصحف الشريف، ليس من الشرع في شئ وعليه فمن يرفض حلف اليمين على هذه الصورة لا يعد ناكلاً.
وفي تقديرنا أن الرأي الأول هو الصائب وليس فيه أي مجافاة للقانون، إذ أن النص أوجب أن تكون مقدمة اليمين بلفظ أحلف ولم يمنع الحالف من أن يضع يده على المصحف، أو الإنجيل أو التوراة ومن ناحية أخرى فإن هذا الطلب إذا أبدى من وجه اليمين فلا يعد ذلك تعسفاً منه لأنه إنما يطلب ذلك اعتقاداً منه أن الموجه إليه اليمين يكون أكثر تبصراً وأمعن في تقدير عواقب اليمين إذا حلف بهذه الطريقة.
إلا أنه لا خلاف على أنه لا يجوز التحليف بصيغة الطلاق لأن الحلف بهذه الصيغة يتعدى أثره إلى الزوجة والأولاد وهو أمر يخالف القانون، إذ أن القانون لم يسمح للخصم الذي يكلف خصمه باليمين إلا أن يقدم صيغة الواقعة التي يريد الاستحلاف عليها وقد جرى العرف في المحاكم على أن يكون اليمين بصيغة أقسم أو أحلف بالله العظيم.(التعليق على قانون الإثبات، المستشار/ عز الدين الديناصوري، والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات الأستاذ/ خيري راضي المحامي، الناشر/ دار الكتب والدراسات العربية، الجزء الرابع ، الصفحة : 1445)
صيغة اليمين الحاسمة:
تكون تأدية اليمين بأن يقول الحالف «أحلف» وتذكر الصيغة التي أقرتها المحكمة على نحو ما سلف بيانه.
وقد جرى العمل في المحاكم على أن يقول الخصم «أحلف بالله العظيم»، ولا يعيب اليمين أن يقول الخصم «أقسم» غير أن الصيغة التي جرى عليها العمل هي أقوى ما يصدق به، ولذا نرى أن تكون اليمين بهذه الصيغة.
ويراعى في صيغة اليمين أن تكون اليمين دائماً على النفي حتى يتأتى بها الاستيعاب.
فإذا كان المدعي يطالب المدعى عليه بمبلغ ألفي جنيه، وأراد تحليف المدعى عليه اليمين الحاسمة فتكون الصيغة كالآتي: «أحلف بالله العظيم أني لست مديناً للمدعي بمبلغ ألفي جنيه على سبيل القرض ولا أقل من ذلك ولا أكثر». إذ جرى العمل في المحاكم على أن يشمل اليمين العبارة الأخيرة حتى تكون اليمين جامعة مانعة.
هل يجوز الحلف بالمصحف الشريف أو الكتاب المقدس في ديانة الحالف غير المسلم أو بأحد الأولياء؟
قد يوجه الخصم إلى خصمه يميناً غير اليمين القانونية، كأن يطلب منه الحلف بالمصحف الشريف - إذا كان مسلماً - أو بالكتاب المقدس في ديانته إذا كان غير مسلم كالتوراة أو الإنجيل أو أن يحلف بولي من أولياء الله.
وفي هذه الحالة نرى أنه يصح للخصم أن يرفض الحلف، ولا يكون بعدم الحلف ناکلاً عن اليمين .
هل يجوز توجيه اليمين بصيغة الطلاق؟
قد قضت محكمة طنطا الكلية في 10 سبتمبر سنة 1919 بأنه لا يجوز توجيه اليمين بصيغة الطلاق، فذلك فوق أنه يخالف القانون، فإن أثره يتعدى إلى الغير (الزوجة والأولاد)، وهو أضعف من اليمين بالله قوة، ويضر بالغير إذا كان الحالف حانثاً.
وقد أخذ الفقه بهذا القضاء .
غير أنه يلاحظ أن المادة الثانية من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929- الساري الآن - جعلت يمين الطلاق وما في معناها الاغية فلا يترتب عليه وقوع الطلاق.
فقد قضت المادة المذكورة على أنه: «لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به العمل على فعل شيء أو تركه لا غير».
إلا أن الراجح في الشريعة الإسلامية باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع بنص المادة الثانية من الدستور والمرجع الأصيل للقضاء عند غياب النص وعدم وجود العرف طبقاً لما نصت عليه المادة الأولى من القانون المدني، أن الحلف يكون بالله تعالى، فقد جاء بالحديث الشريف: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليذر»، وجاء بحديث آخر: «من حلف بغير الله فقد أشرك».(موسوعة البكري القانونية في قانون الإثبات، المستشار/ محمد عزمي البكري، طبعة 2017، دار محمود، المجلد : الرابع ، الصفحة : 2039)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون التقاضي والإثبات ، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 149 ، 150 ، 151 .
(مادة 131):
تكون تأدية اليمين بأن يقول الحالف: «أحلف بالله». ويذكر الصيغة التي أقرتها المحكمة ، ولمن يكلف حلف اليمين أن يؤديها وفقاً للأوضاع المقررة في ديانته إذا طلب ذلك.
(م (1743) من المجلة ونصها: إذا قصد تحليف أحد الخصمين يحلف باسمه تعالى
بقوله: والله. أو: بالله. مرة واحدة بدون تكرار ، و(127) - (128) إثبات مصري، و(129) - (130) بینات سوري وفيها: «بأن يقول الحالف: والله». و م (79) - (6) و (2) إثبات سوداني).
المذكرة الإيضاحية:
أريد في هذه المادة بيان صيغة اليمين التي يؤديها الخصم.
والمقرر في الفقه الإسلامي أن اليمين تكون بالله عزوجل ، وكذا بأي صفة من صفاته کالرحمن والرحيم .
والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليذر» وقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف بغير الله فقد أشرك».
وقد تؤكد اليمين بذكر أوصافه تعالى، كأن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، ما لفلان علي ولا قبلي هذا المال الذي ادعاه، وهو كذا وكذا ولا شيء منه وذلك لأن أحوال الناس شتی: فمنهم من يمتنع عن اليمين بالتغليظ ويتجاسر عند عدمه فيغلظ عليه لعله يمتنع بذلك، وله أن يزيد على هذا إن شاء، وله أن ينقص منه ولو أمر القاضي بعطف بعض أسماء الله على بعض فأتی بواحدة ونكل عن الباقي - لا يقضي عليه بالنكول؛ لأن المستحق عليه يمين واحدة وقد أتى بها. ولو لم يغلظ جاز.
وقيل: لا يغلظ على المعروف بالصلاح ويغلظ على غيره.
وقيل: يغلظ في الخطير من المال دون الحقير.
ولو غلظ عليه فحلف من غير تغليظ، ونكل عن التغليظ - لا يقضى عليه بالنكول؛ لأن المقصود الحلف بالله تعالى وقد حصل.
ولا يستحلف بالطلاق، ولا بالعتاق؛ لمخالفة ذلك للحديث. قال صاحب الهداية: وقيل في زماننا: إذا ألح الخصم ساغ للقاضي أن يحلف بذلك؛ لقلة المبالاة باليمين بالله، وكثرة الامتناع بسبب الحلف بالطلاق، ولكن الظاهر أنه يراد بهذه اليمين (بالطلاق) التخويف وطمأنينة المدعي، ولكن لا يقضى بالنكول فيها.
ويستحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام، والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام.
(انظر: أحمد إبراهيم، طرق القضاء، ص (248) - (252). وتبصرة الحكام، (1): (184) - (185). والكاساني، البدائع، (6): (227) - (228). وابن نجیم ، البحر الرائق: (7): (213)).
والقاضي بعرض اليمين على المدعى عليه بأن يقول له: إني أعرض عليك اليمين ثلاثاً ، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بها ادعاه. فإذا كرر العرض عليه ثلاث مرات ولم يحلف قضى عليه بالنكول. وهذا التكرار لزيادة الاحتياط، والمبالغة في إبلاء الأعذار، فهو للاستحباب، والمذهب أنه لو قضى بالنكول بعد العرض مرة جاز وهو الصحيح. والأولى هو القضاء بالنكول بعد العرض ثلاث مرات، وصورة ذلك أن يقول القاضي للمدعى عليه: احلف بالله ما لهذا عليك ما يدعيه، وهو كذا وكذا ولا شيء منه. فإن نکل يقل له ذلك ثانياً، فإن نكل يقل له: بقيت الثالثة ثم أقضي عليك إن لم تحلف ثم يقول له ثالثاً ، فإن نکل قضى عليه بدعوى المدعي.
(الهداية وشروحها. وأحمد إبراهيم، طرق القضاء، ص (239) - (240)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الأول ، الصفحة / 239
مَا يَحْلِفُ بِهِ:
لاَ يَحْلِفُ إِلاَّ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ لِحَدِيثِ «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِيَذَرْ.
فَلَوْ حَلَّفَهُ بِغَيْرِهِ، كَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ مِمَّا فِيهِ إِلْزَامٌ بِمَا لاَ يَلْزَمُهُ لَوْلاَ الْحَلِفُ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَإِنْ أَلَحَّ الْخَصْمُ. وَقِيلَ: إِنْ مَسَّتِ الضَّرُورَةُ إِلَى الْحَلِفِ بِالطَّلاَقِ، فَوَّضَ إِلَى الْقَاضِي.
وَيَحْلِفُ الْيَهُودِيُّ: بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى. وَالنَّصْرَانِيُّ: بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الإْنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَالْمَجُوسِيُّ: بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ. وَيَحْلِفُ الْوَثَنِيُّ: بِاللَّهِ تَعَالَى؛ لأِنَّهُ يُقِرُّ بِهِ تَعَالَى. وَيَحْلِفُ الأْخْرَسُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا. فَإِذَا أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ: أَيْ نَعَمْ، صَارَ حَالِفًا. وَلاَ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: «وَاللَّهِ» وَإِلاَّ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الْحَالِفَ.
مَا يُحْلَفُ عَلَيْهِ:
إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى بِمِلْكٍ أَوْ حَقٍّ مُطْلَقٍ فَالتَّحْلِيفُ يَكُونُ عَلَى الْحَاصِلِ، بِأَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ: مَا لَهُ قِبَلِي كَذَا وَلاَ شَيْءٌ مِنْهُ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى بِمِلْكٍ أَوْ حَقٍّ مُبَيَّنِ السَّبَبِ فَهُنَاكَ اتِّجَاهَاتٌ ثَلاَثٌ:
أ - فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَفْهُومِ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى الْحَاصِلِ - لأِنَّهُ أَحْوَطُ - فَيَحْلِفُ: لَيْسَ لِلْمُدَّعِي قِبَلِي شَيْءٌ.
ب - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمَفْهُومُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ التَّحْلِيفَ هُنَا عَلَى السَّبَبِ، فَيَقُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: بِاللَّهِ مَا اقْتَرَضْتُ، مَثَلاً.
وَاسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ مَا لَوْ عَرَّضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَأَنْ قَالَ: قَدْ يَبِيعُ الإْنْسَانُ شَيْئًا ثُمَّ يُقِيلُ، فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ.
ج - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ التَّحْلِيفَ يُطَابِقُ الإِْنْكَارَ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْحَاصِلَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ، وَإِنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ، وَهُوَ مَوْضُوعُ الدَّعْوَى - يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ. وَفِي جَمِيعِ الْحَالاَتِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا التَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ أَجْزَأَهُ؛ لأِنَّهُ يَتَضَمَّنُ السَّبَبَ وَزِيَادَةً. وَهَذَا فِي الاِتِّفَاقِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع ، الصفحة / 252
إِنْشَاءُ الْقَسَمِ وَشَرَائِطُهُ
مَعْلُومٌ أَنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، فَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَحْتَوِي عَلَى جُمْلَتَيْنِ، أُولاَهُمَا: الْجُمْلَةُ الْمُكَوَّنَةُ مِنْ فِعْلِ الْقَسَمِ وَفَاعِلِهِ الضَّمِيرِ، وَحَرْفِ الْقَسَمِ وَهُوَ الْبَاءُ، وَالْمُقْسَمُ بِهِ وَهُوَ مَدْخُولُ الْبَاءِ.
وَثَانِيَتُهُمَا: الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا.
وَتَفْصِيلُ الْكَلاَمِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي.
أ - فِعْلُ الْقَسَمِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِعْلَ الْقَسَمِ إِذَا ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ أَوِ الْمَاضِي، كَأَقْسَمْتُ أَوْ حَلَفْتُ، أَوْ حُذِفَ وَذُكِرَ مَكَانَهُ الْمَصْدَرُ نَحْوَ: قَسَمًا أَوْ حَلِفًا بِاللَّهِ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ نَحْوَ: اللَّهِ أَوْ بِاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا قَالَ: أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ، وَقَالَ بَعْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا: بِاللَّهِ، فَهِيَ يَمِينٌ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لَيْسَ بِيَمِينٍ، بِخِلاَفِ: عَزَمْتُ بِاللَّهِ، أَوْ: أَعْزِمُ بِاللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِكَلِمَةِ (عَلَيْكَ) جَعْلُهُ غَيْرَ يَمِينٍ بِخِلاَفِ (أُقْسِمُ) فَإِنَّهَا إِذَا زِيدَ بَعْدَهَا كَلِمَةُ عَلَيْكَ لَمْ تُخْرِجْهَا عَنْ كَوْنِهَا يَمِينًا؛ لأِنَّ (أُقْسِمُ) صَرِيحٌ فِي الْيَمِينِ.
وَقَوْلُ الشَّخْصِ: يَعْلَمُ اللَّهُ، لَيْسَ بِيَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ إِثْمُ الْكَذِبِ، وَلاَ يَكُونُ كَافِرًا بِذَلِكَ، وَلاَ بِقَوْلِهِ: أُشْهِدُ اللَّهَ، إِلاَّ إِنْ قَصَدَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَخْفَى عَلَيْهِ الْوَاقِعُ، وَلاَ يَكُونُ الْقَسَمُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: اللَّهُ رَاعٍ، أَوْ حَفِيظٌ، أَوْ حَاشَا لِلَّهِ، أَوْ مَعَاذَ اللَّهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: آلَيْتُ، أَوْ أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ تَفْعَلْ كَذَا، أَوْ قَالَ: بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ تَفْعَلْ كَذَا، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ يَمِينَ نَفْسِهِ أَوْ لاَ:
فَإِنْ أَرَادَ يَمِينَ نَفْسِهِ فَيَمِينٌ؛ لِصَلاَحِيَّةِ اللَّفْظِ لَهَا مَعَ اشْتِهَارِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ.
وَإِنْ لَمْ يُرِدْ يَمِينَ نَفْسِهِ، بَلْ أَرَادَ الشَّفَاعَةَ، أَوْ يَمِينَ الْمُخَاطَبِ، أَوْ أَطْلَقَ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا.
فَإِنْ قَالَ: وَاللَّهِ، أَوْ حَلَفْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ؛ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي الشَّفَاعَةِ أَوْ يَمِينِ الْمُخَاطَبِ.
وَإِنْ قَالَ: آلَيْتُ، أَوْ أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: عَلَيْكَ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَالَ أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ شَهِدْتُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ حَلَفْتُ، أَوْ أَحْلِفُ، أَوْ عَزَمْتُ، أَوْ أَعْزِمُ، أَوْ آلَيْتُ، أَوْ أُولِي، أَوْ قَسَمًا، أَوْ حَلِفًا، أَوْ أَلْيَةً، أَوْ شَهَادَةً، أَوْ يَمِينًا، أَوْ عَزِيمَةً، وَأَتْبَعَ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ بِقَوْلِهِ (بِاللَّهِ) مَثَلاً كَانَتْ يَمِينًا، سَوَاءٌ أَنَوَى بِهَا إِنْشَاءَ الْيَمِينِ أَمْ أَطْلَقَ، فَإِنْ نَوَى بِالْفِعْلِ الْمَاضِي إِخْبَارًا عَنْ يَمِينٍ مَضَتْ، أَوْ بِالْمُضَارِعِ وَعْدًا بِيَمِينٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، أَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ: عَزَمْتُ وَأَعْزِمُ وَعَزِيمَةً: قَصَدْتُ أَوْ أَقْصِدُ أَوْ قَصْدًا، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ مِنَ الْيَمِينِ قَوْلُهُ: أَسْتَعِينُ بِاللَّهِ، وَأَعْتَصِمُ بِاللَّهِ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ، وَعِزُّ اللَّهِ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ؛ لأِنَّ هَا لاَ تَحْتَمِلُ الْيَمِينَ شَرْعًا وَلاَ لُغَةً وَلاَ عُرْفًا.
وَلَوْ قَالَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا إِنْ أَطْلَقَ أَوْ قَصَدَ السُّؤَالَ أَوِ الإِْكْرَامَ أَوِ التَّوَدُّدَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَصَدَ الْيَمِينَ فَإِنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا.
ب - حُرُوفُ الْقَسَمِ:
هِيَ: الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ. أَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ الأَْصْلُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ قَبْلَهَا فِعْلُ الْقَسَمِ، وَأَنْ يُحْذَفَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْمُضْمَرِ، نَحْوَ: أُقْسِمُ بِك يَا رَبِّ لأََفْعَلَنَّ كَذَا. وَتَلِيهَا الْوَاوُ، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَطْ، وَيُحْذَفُ مَعَهَا فِعْلُ الْقَسَمِ وُجُوبًا. وَتَلِيهَا التَّاءُ، وَلاَ تَدْخُلُ إِلاَّ عَلَى لَفْظِ الْجَلاَلَةِ، كَمَا فِي قوله تعالي حِكَايَةٍ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام ) وَتَاللَّهِ لأََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ وَرُبَّمَا دَخَلَتْ عَلَى (رَبِّ) نَحْوَ: تَرَبِّي، وَتَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَيَجِبُ مَعَهَا حَذْفُ فِعْلِ الْقَسَمِ أَيْضًا.
وَإِذَا وَجَبَ حَذْفُ الْفِعْلِ وَجَبَ حَذْفُ الْمَصَادِرِ أَيْضًا، نَحْوَ قَسَمًا.
وَيَقُومُ مَقَامَ بَاءِ الْقَسَمِ حُرُوفٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْهَاءُ وَالْهَمْزَةُ وَاللاَّمُ.
أَمَّا الْهَاءُ فَمِثَالُهَا: هَا اللَّهِ، بِفَتْحِ الْهَاءِ مَمْدُودَةً وَمَقْصُورَةً مَعَ قَطْعِ هَمْزَةِ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ وَوَصْلِهَا، وَإِذَا وُصِلَتْ حُذِفَتْ.
وَأَمَّا الْهَمْزَةُ فَمِثَالُهَا: آللَّهُ، مَمْدُودَةً وَمَقْصُورَةً مَعَ وَصْلِ هَمْزَةِ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُحْذَفَ.
وَأَمَّا اللاَّمُ، فَقَدْ أَفَادَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: أَنَّ مَنْ قَالَ (لِلَّهِ) بِلاَمِ الْجَرِّ بَدَلِ الْبَاءِ كَانَتْ صِيغَتُهُ يَمِينًا.
وَلاَ تُسْتَعْمَلُ اللاَّمُ إِلاَّ فِي قَسَمٍ مُتَضَمِّنٍ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : «دَخَلَ آدَمُ الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ.
وَفِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وَالْقَامُوسِ وَشَرْحِهِ مَا يُفِيدُ أَنَّ اللاَّمَ تُسْتَعْمَلُ لِلْقَسَمِ وَالتَّعَجُّبِ مَعًا، وَتَخْتَصُّ بِلَفْظِ الْجَلاَلَةِ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَنَحْوُهُ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ.
حَذْفُ حَرْفِ الْقَسَمِ:
إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْحَالِفُ شَيْئًا مِنْ أَحْرُفِ الْقَسَمِ، بَلْ قَالَ: اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا مَثَلاً، كَانَ يَمِينًا بِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى النِّيَّةِ سَوَاءٌ أَكَسَرَ الْهَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْجَرِّ بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، أَمْ فَتَحَهَا عَلَى سَبِيلِ نَزْعِ الْخَافِضِ، أَمْ ضَمَّهَا عَلَى سَبِيلِ الرَّفْعِ بِالاِبْتِدَاءِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ: قَسَمِي أَوْ أُقْسِمُ بِهِ، أَمْ سَكَّنَهَا إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ.
وَبَقَاءُ الْجَرِّ عِنْدَ حَذْفِ الْحَرْفِ خَاصٌّ بِلَفْظِ الْجَلاَلَةِ، فَلاَ يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ: الرَّحْمَنِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا بِكَسْرِ النُّونِ. كَذَا قِيلَ. لَكِنِ الرَّاجِحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً، وَأَيًّا مَا كَانَ فَاللَّحْنُ لاَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: اللَّهِ، بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ. لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، سَوَاءٌ جَرَّ الاِسْمَ أَمْ نَصَبَهُ أَمْ رَفَعَهُ أَمْ سَكَنَّهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ قَسَمٌ بِغَيْرِ حُرُوفِهِ، نَحْوَ: اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ، جَرًّا وَنَصْبًا. فَإِنْ رُفِعَ فَيَمِينٌ أَيْضًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الرَّافِعُ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَلَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ، فَلاَ يَكُونُ يَمِينًا لأِنَّ هُ إِمَّا مُبْتَدَأٌ أَوْ مَعْطُوفٌ بِخِلاَفِ مَنْ لاَ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، فَلَوْ رَفَعَ كَانَ يَمِينًا لأِنَّ اللَّحْنَ لاَ يَضُرُّ.
ج - اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ:
اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ: هُوَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الْقَسَمِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَةً لَهُ.
وَالْمَقْصُودُ بِالاِسْمِ: مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهُوَ لَفْظُ الْجَلاَلَةِ (اللَّهُ) وَكَذَلِكَ تَرْجَمَتُهُ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ، أَوْ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ مُخْتَصًّا بِهِ كَالرَّحْمَنِ، وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَخَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ، وَالأَْوَّلِ بِلاَ بِدَايَةٍ، وَالآْخِرِ بِلاَ نِهَايَةٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَالَّذِي بَعَثَ الأَْنْبِيَاءَ بِالْحَقِّ، وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. أَمْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالرَّحِيمِ وَالْعَظِيمِ وَالْقَادِرِ وَالرَّبِّ وَالْمَوْلَى وَالرَّازِقِ وَالْخَالِقِ وَالْقَوِيِّ وَالسَّيِّدِ، فَهَذِهِ الأَْسْمَاءُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي حِكَايَةِ مَا قَالَهُ الْهُدْهُدُ لِسُلَيْمَانَ عليه السلام وَصْفًا لِمَلَكَةِ سَبَأٍ ( وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) . وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْحَدِيقَةِ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَى الْبُخْلِ بِثَمَرِهَا ( وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) وَمَعْنَى الْحَرْدِ: الْمَنْعُ، وَالْمُرَادُ مَنْعُ الْمَسَاكِينِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ يُوسُفَ عليه السلام لأَِحَدِ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مُخَاطِبًا لِزَوْجَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ مُخَاطِبًا لِمَنْ يَقْسِمُونَ الْمِيرَاثَ ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ).
وَقَالَ سُبْحَانَهُ مُخَاطِبًا لِعِيسَى عليه السلام وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ لأَِبِيهَا عَنْ مُوسَى عليه السلام إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَْمِينُ وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ( وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ). (وَالْمَقْصُودُ بِالصِّفَةِ): اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنًى تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ صِفَةَ ذَاتٍ أَمْ صِفَةَ فِعْلٍ.
وَصِفَةُ الذَّاتِ هِيَ: الَّتِي يَتَّصِفُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا لاَ بِضِدِّهَا كَوُجُودِهِ.
وَصِفَةُ الْفِعْلِ هِيَ: الَّتِي يَتَّصِفُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا وَبِضِدِّهَا بِاعْتِبَارِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ، كَرَحْمَتِهِ وَعَذَابِهِ.
وَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكُلِّ اسْمٍ لَهُ تَعَالَى أَوْ صِفَةٍ لَهُ عَلَى الإِْطْلاَقِ، بَلْ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِشَرَائِطَ مُفَصَّلَةٍ تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذَاهِبُ.
فَالْحَنَفِيَّةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ، أَرْجَحُهَا: أَنَّ الاِسْمَ يَجُوزُ الإِْقْسَامُ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُخْتَصًّا أَمْ مُشْتَرَكًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفًا أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَنَوَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى أَمْ لاَ. لَكِنْ لَوْ نَوَى بِالاِسْمِ الْمُشْتَرَكِ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، وَإِذَا كَانَ الاِسْمُ غَيْرَ وَارِدٍ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إِلاَّ إِذَا تُعُورِفَ الْحَلِفُ بِهِ، أَوْ نَوَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى. وَأَمَّا الصِّفَةُ فَلاَ يَصِحُّ الإِْقْسَامُ بِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِصِفَتِهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِهَا مُتَعَارَفًا أَمْ لاَ، أَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ صِفَتِهِ تَعَالَى وَغَيْرِهَا وَتُعُورِفَ الْحَلِفُ بِهَا، وَسَوَاءٌ فِي الصِّفَةِ كَوْنُهَا صِفَةَ ذَاتٍ وَكَوْنُهَا صِفَةَ فِعْلٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الْمُخْتَصَّةِ. وَأَمَّا الْمُشْتَرَكَةُ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِهَا مَا لَمْ يُرِدْ بِهَا غَيْرَ صِفَتِهِ تَعَالَى. وَأَمَّا صِفَةُ الْفِعْلِ فَفِي الاِنْعِقَادِ بِهَا خِلاَفٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخْتَصِّ بِهِ إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا عِنْدَهُمْ.
وَتَنْعَقِدُ أَيْضًا بِاسْمِهِ الَّذِي يَغْلِبُ إِطْلاَقُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ مُقَيَّدًا كَالرَّبِّ، وَهَذَا إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ قُبِلَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. وَتَنْعَقِدُ أَيْضًا بِالاِسْمِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي لاَ يَغْلِبُ إِطْلاَقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَيِّ وَالسَّمِيعِ، وَكَذَا بِاللَّفْظِ الَّذِي يَشْمَلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْمًا لَهُ تَعَالَى كَالشَّيْءِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِهَا بِهَذَا النَّوْعِ أَنْ يُرِيدَ الْحَالِفُ اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ أَوْ أَطْلَقَ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ.
وَلَمْ يُفَصِّلِ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ الصِّفَةَ الْمُضَافَةَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا، أَمَّا غَيْرُ الْمُضَافَةِ - كَأَنْ يُقَالَ: وَالْعِزَّةُ - فَلاَ تَنْعَقِدُ بِهَا إِلاَّ بِإِرَادَةِ صِفَتِهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الاِسْمُ الَّذِي لاَ يُعَدُّ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلاَ يَصِحُّ إِطْلاَقُهُ عَلَيْهِ فَلاَ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ، وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَثَّلَ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِ بَعْضِ الْعَوَّامِ (وَالْجَنَابِ الرَّفِيعِ) فَالْجَنَابُ لِلإِْنْسَانِ فِنَاءُ دَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنِّيَّةُ لاَ تُؤَثِّرُ مَعَ الاِسْتِحَالَةِ.
أَمَّا صِفَةُ الْفِعْلِ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا، وَسَكَتَ الْحَنَابِلَةُ عَنْهَا، وَأَطْلَقُوا انْعِقَادَ الْيَمِينِ بِصِفَتِهِ تَعَالَى الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِصِفَتِهِ الْفِعْلِيَّةِ.
الْحَلِفُ بِالْقُرْآنِ وَالْحَقِّ
أ - الْحَلِفُ بِالْقُرْآنِ أَوِ الْمُصْحَفِ:
الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ يَمِينٌ؛ لأِنَّ الْقُرْآنَ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ الذَّاتِيَّةُ، وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ، وَالأَْيْمَانُ تُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ.
أَمَّا الْحَلِفُ بِالْمُصْحَفِ، فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ: أُقْسِمُ بِمَا فِي هَذَا الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا. أَمَّا لَوْ قَالَ: أُقْسِمُ بِالْمُصْحَفِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ يَمِينًا؛ لأِنَّ الْمُصْحَفَ لَيْسَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى، إِذْ هُوَ الْوَرَقُ وَالْجِلْدُ، فَإِنْ أَرَادَ مَا فِيهِ كَانَ يَمِينًا لِلْعُرْفِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ وَبِالْمُصْحَفِ، وَبِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَبِآيَةِ الْكُرْسِيِّ أَوْ غَيْرِهَا، وَبِالتَّوْرَاةِ وَبِالإِْنْجِيلِ وَبِالزَّبُورِ؛ لأِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى كَلاَمِهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ، لَكِنْ لَوْ أَرَادَ بِالْمُصْحَفِ النُّقُوشَ وَالْوَرَقَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ مَا لَمْ يُرِدِ الأَْلْفَاظَ، وَبِالْقُرْآنِ وَبِالْمُصْحَفِ مَا لَمْ يُرِدْ بِهِ وَرَقَهُ وَجِلْدَهُ؛ لأِنَّ هُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ لاَ يَنْصَرِفُ عُرْفًا إِلاَّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَلِفُ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُصْحَفِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ وَالزَّبُورِ يَمِينٌ، وَكَذَا الْحَلِفُ بِسُورَةٍ أَوْ آيَةٍ.
ب - الْحَلِفُ بِالْحَقِّ، أَوْ حَقِّ اللَّهِ:
لاَ شَكَّ أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ لِلأَْسْمَاءِ الَّتِي تَنْصَرِفُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ تَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِالتَّقْيِيدِ، فَعَلَى هَذَا مَنْ قَالَ: وَالْحَقِّ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، إِنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ كَانَ يَمِينًا بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَدْلَ أَوْ أَرَادَ شَيْئًا مَا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَكُونُ لِلإِْنْسَانِ عَلَى الإِْنْسَانِ قُبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَأَمَّا (حَقٌّ) الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ مِنَ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهَا فَفِيهِ خِلاَفٌ.
فَالْحَنَفِيَّةُ نَقَلُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ قَالَ: (وَحَقِّ اللَّهِ) يَكُنْ يَمِينًا. وَوَجَّهَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بِأَنَّ حَقَّهُ تَعَالَى هُوَ الطَّاعَاتُ وَالْعِبَادَاتُ، فَلَيْسَ اسْمًا وَلاَ صِفَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَمِينٌ؛ لأِنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَهُوَ حَقِيقَةٌ، فَكَأَنَّ الْحَالِفَ قَالَ: وَاللَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ. وَاخْتَارَ صَاحِبُ الاِخْتِيَارِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِحَقِّ اللَّهِ، وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْعَظَمَةِ وَالأُْلُوهِيَّةِ، فَإِنْ قَصَدَ الْحَالِفُ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي عَلَى الْعِبَادِ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْعِبَادَةِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ.
حَذْفُ الْمُقْسَمِ بِهِ
إِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَالِفُ الْمُقْسَمَ بِهِ بَلْ قَالَ: أُقْسِمُ، أَوْ أَحْلِفُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ أَعْزِمُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ آلَيْتُ لاَ أَفْعَلُ كَذَا كَانَ يَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ حَذَفَ الْحَالِفُ قَوْلَهُ (بِاللَّهِ) بَعْدَ قَوْلِهِ أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ كَانَ يَمِينًا إِنْ نَوَاهُ - أَيْ نَوَى الْحَلِفَ بِاللَّهِ - بِخِلاَفِ مَا لَوْ حَذَفَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ أَعْزِمُ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ نَوَاهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْفِعْلِ وَالأَْفْعَالِ الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ، أَنَّ الْعَزْمَ مَعْنَاهُ الأَْصْلِيُّ الْقَصْدُ وَالاِهْتِمَامُ، فَلاَ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ إِلاَّ إِذَا ذُكِرَ بَعْدَهُ الْمُقْسَمُ بِهِ، بِأَنْ يَقُولَ (بِاللَّهِ)، مَثَلاً، بِخِلاَفِ الأَْفْعَالِ الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْقَسَمِ فَيَكْفِي فِيهَا أَنْ يَنْوِيَ الْمُقْسِمَ بِهِ عِنْدَ حَذْفِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَذَفَ الْمُتَكَلِّمُ الْمَحْلُوفَ بِهِ لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ بِاللَّهِ، سَوَاءٌ ذَكَرَ فِعْلَ الْقَسَمِ أَمْ حَذَفَهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ حَذَفَ الْحَالِفُ قَوْلَهُ (بِاللَّهِ) مَثَلاً بَعْدَ نُطْقِهِ بِالْفِعْلِ أَوِ الاِسْمِ الدَّالِّ عَلَى الْقَسَمِ، نَحْوَ: قَسَمًا، لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا، إِلاَّ إِذَا نَوَى الْحَلِفَ بِاللَّهِ.
اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ
اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ هُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي يُرِيدُ الْحَالِفُ تَحْقِيقَ مَضْمُونِهَا مِنْ إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، وَتُسَمَّى جَوَابَ الْقَسَمِ.
وَيَجِبُ فِي الْعَرَبِيَّةِ تَأْكِيدُ الإِْثْبَاتِ بِاللاَّمِ مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُضَارِعًا، وَبِاللاَّمِ مَعَ قَدْ إِنْ كَانَ مَاضِيًا. يُقَالُ: وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا. وَأَمَّا النَّفْيُ فَلاَ يُؤَكَّدُ فِيهِ الْفِعْلُ، بَلْ يُقَالُ: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ مَا فَعَلْتُ كَذَا.
فَإِذَا وَرَدَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُثْبَتٌ لَيْسَ فِيهِ لاَمٌ وَلاَ نُونُ تَوْكِيدٍ اعْتُبِرَ مَنْفِيًّا بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا فِي قوله تعالي ( تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ) أَيْ: لاَ تَفْتَأُ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: وَاللَّهِ أُكَلِّمُ فُلاَنًا الْيَوْمَ، كَانَ حَالِفًا عَلَى نَفْيِ تَكْلِيمِهِ، فَيَحْنَثُ إِذَا كَلَّمَهُ؛ لأِنَّ الْفِعْلَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لاَمٌ وَلاَ نُونُ تَوْكِيدٍ قُدِّرَتْ قَبْلَهُ (لاَ) النَّافِيَةُ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَارَفِ النَّاسُ خِلاَفَهُ، فَإِنْ تَعَارَفُوا أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَكُونُ إِثْبَاتًا، كَانَ حَالِفًا عَلَى الإِْثْبَاتِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. هَكَذَا يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ نَظُنُّ أَنَّهُ مَحَلُّ خِلاَفٍ، فَإِنَّهُ مِنَ الْوُضُوحِ بِمَكَانٍ.
الصِّيَغُ الْخَالِيَةُ مِنْ أَدَاةِ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ بِهِ
قَدْ يَأْتِي الْحَالِفُ بِصِيَغٍ خَالِيَةٍ مِنْ أَدَاةِ الْقَسَمِ وَمِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتِهِ، أَوْ خَالِيَةٍ مِنَ الأَْدَاةِ وَحْدَهَا، وَتُعْتَبَرُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَيْمَانًا كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
أ - لَعَمْرُ اللَّهِ:
إِذَا قِيلَ: لَعَمْرُ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، كَانَ هَذَا قَسَمًا مُكَوَّنًا مِنْ مُبْتَدَأٍ مَذْكُورٍ وَخَبَرٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَعَمْرُ اللَّهِ قَسَمِي، أَوْ يَمِينِي، أَوْ أَحْلِفُ بِهِ. وَهِيَ فِي قُوَّةِ قَوْلِكَ: وَعَمْرُ اللَّهِ، أَيْ بَقَائِهِ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ كِنَايَةٌ؛ لأِنَّ الْعُمْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الدِّينِ وَهُوَ الْعِبَادَاتُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَحَيَاةِ اللَّهِ وَبَقَائِهِ، أَوْ دِينِهِ، فَيَكُونُ يَمِينًا عَلَى الاِحْتِمَالَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ.
ب - وَأَيْمَنُ اللَّهِ:
جَاءَ هَذَا الاِسْمُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَسْبُوقًا بِالْوَاوِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْقَسَمِ، وَيَكُونُ إِقْسَامًا بِبَرَكَتِهِ تَعَالَى أَوْ قُوَّتِهِ، وَجَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ مَسْبُوقًا بِالْوَاوِ أَيْضًا مَعَ تَصْرِيحِ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ نُونَهُ مَضْمُومَةٌ وَأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجُمْلَةَ قَسَمٌ فَقَطْ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ إِلاَّ إِذَا جِيءَ بَعْدَهَا بِجُمْلَةِ الْجَوَابِ، مِثْلُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا.
ج - عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ:
- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَ قَائِلٌ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرُ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، كَانَ ذَلِكَ يَمِينًا، فَإِذَا لَمْ يُوَفِّ بِمَا ذَكَرَهُ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى بِالنَّذْرِ قُرْبَةً مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لَزِمَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَ نَذْرًا لِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ لِلَّهِ أَنْ أُؤَدِّيَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْيَمِينِ الَّتِي حَنِثَ فِيهَا صَاحِبُهَا؛ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «النَّذْرُ يَمِينٌ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَلْزَمُ كَفَّارَةٌ فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ. وَلَهُ أَرْبَعُ صُوَرٍ (الأُْولَى) عَلَيَّ نَذْرٌ (الثَّانِيَةُ) لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ (الثَّالِثَةُ) إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ نَذْرٌ (الرَّابِعَةُ) إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةَ بِحُصُولِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَصْدُ الاِمْتِنَاعَ أَمِ الشُّكْرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ نَذْرٌ، لَزِمَتْهُ قُرْبَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَا شَاءَ مِنَ الْقُرَبِ، كَتَسْبِيحٍ وَتَكْبِيرٍ وَصَلاَةٍ وَصَوْمٍ. وَمَنْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، فَإِنِ اخْتَارَ الْقُرْبَةَ فَلَهُ اخْتِيَارُ مَا شَاءَ مِنَ الْقُرَبِ، وَإِنِ اخْتَارَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ كَفَّرَ بِمَا يَجِبُ فِي الْيَمِينِ الَّتِي حَنِثَ صَاحِبُهَا فِيهَا.
وَمَنْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ، كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحِنْثِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَالصِّيغَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الأَْمْثِلَةِ صِيغَةُ نَذْرٍ وَلَيْسَتْ صِيغَةَ يَمِينٍ، إِلاَّ الصِّيغَةَ الَّتِي فِيهَا (إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا... إِلَخْ) فَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهَا يَمِينًا؛ لأِنَّ هَا مِنْ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، وَفَعَلَهُ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي الأَْرْجَحِ، وَقِيلَ: لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِشَيْءٍ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَيْضًا فِي الأَْرْجَحِ.
د - عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ:
- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، فَهَاتَانِ الصِّيغَتَانِ مِنَ الأَْيْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَيْنِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَوْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ وَلَمْ يُضِفْهُ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْيَمِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَلاَ تُعْتَبَرُ الصِّيغَةُ يَمِينًا بِاللَّهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَيُسْتَدَلُّ لأَِبِي حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَيْنِ بِأَنَّ إِطْلاَقَ الْيَمِينِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، إِذْ هِيَ الْجَائِزَةُ شَرْعًا، هَذَا إِذَا ذَكَرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ، بَلْ قَالَ الْحَالِفُ: عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرَادَ إِنْشَاءَ الاِلْتِزَامِ لاَ الإِْخْبَارَ بِالْتِزَامٍ سَابِقٍ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لأِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ صِيَغِ النَّذْرِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْمَنْذُورُ يُعْتَبَرُ نَذْرًا لِلْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْيَمِينِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْتِزَامَ الْيَمِينِ لَهُ أَرْبَعُ صِيَغٍ كَالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ، وَأَمْثِلَتُهَا: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَلِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينٌ، وَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ يَمِينٌ، إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ يَمِينٌ.
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مُوجِبُ الْيَمِينِ، فَالْكَلاَمُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: عَلَيَّ يَمِينٌ، لاَ يُعْتَبَرُ يَمِينًا سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا؛ لأِنَّهُ الْتِزَامٌ لِلْيَمِينِ أَيِ الْحَلِفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ قُرْبَةً كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ فَهُوَ لَغْوٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَغْوٌ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كِنَايَةٌ فَلاَ يَكُونُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الأَْرْجَحُ: أَنَّهُ يَمِينٌ بِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى النِّيَّةِ.
هـ - عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ، أَوْ مِيثَاقُهُ، أَوْ ذِمَّتُهُ:
- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قِيلَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُ اللَّهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا مَثَلاً، فَهَذِهِ الصِّيَغُ مِنَ الأَْيْمَانِ؛ لأِنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى هِيَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقِ الشَّيْءِ أَوْ نَفْيِهِ، قَالَ تَعَالَى: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا فَجَعَلَ الْعَهْدَ يَمِينًا، وَالذِّمَّةُ هِيَ الْعَهْدُ، وَمِنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الَّذِينَ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْكُفَّارِ: بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، أَيْ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَالْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ، وَإِذَنْ فَالْكَلاَمُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيَّ مُوجِبُ عَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ وَذِمَّتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي «عَلَيَّ يَمِينٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مِنْ صِيَغِ الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لاَ أَفْعَلُ، أَوْ لأََفْعَلَنَّ كَذَا مَثَلاً فَتَجِبُ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةٌ إِذَا نَوَى الْيَمِينَ، أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ بَلْ أُرِيدَ بِالْعَهْدِ التَّكَالِيفُ الَّتِي عَهِدَ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعِبَادِ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أُعَاهِدُ اللَّهَ، لَيْسَ بِيَمِينٍ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأِنَّ الْمُعَاهَدَةَ مِنْ صِفَاتِ الإِْنْسَانِ لاَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ، أَوْ أُعْطِيكَ عَهْدًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ كِنَايَاتِ الْيَمِينِ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُهُ أَوْ ذِمَّتُهُ أَوْ أَمَانَتُهُ أَوْ كَفَالَتُهُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، فَلاَ تَكُونُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ؛ لأِنَّ هَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْيَمِينِ احْتِمَالاً ظَاهِرًا.
و - عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ:
.- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَائِلَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، مَقْصُودُهُ: عَلَيَّ مُوجِبُ يَمِينٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.
فَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَقَدْ سَبَقَ (ر: ف 39).
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: قَوْلُ الْقَائِلِ: عَلَيَّ كَفَّارَةٌ، كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَهُ صِيَغٌ أَرْبَعٌ كَصِيَغِ النَّذْرِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، حُكْمُهُ هُوَ هَذَا الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ (ر: ف 39).
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ حِينِ النُّطْقِ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْلِيقِ، فَإِنْ عَلَّقَ بِالشِّفَاءِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُحِبُّهُ، أَوْ بِتَكْلِيمِ زَيْدٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِحُصُولِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، ثُمَّ فَعَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى الرَّاجِحِ كَمَا سَبَقَ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، ثُمَّ فَعَلَهُ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَلَى الأَْرْجَحِ عِنْدَهُمْ.
ز - عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ:
- سَبَقَ حُكْمُ الْقَائِلِ: عَلَيَّ نَذْرٌ.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، فَقَالُوا: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةُ نَذْرٍ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مُنَجَّزَةٌ فِي الصِّيغَةِ الْمُنَجَّزَةِ، وَمُعَلَّقَةٌ فِي الصِّيغَةِ الْمُعَلَّقَةِ.
ح - عَلَيَّ كَفَّارَةٌ:
- سَبَقَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُوجِبُونَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ عَلَى مَنْ قَالَ: عَلَيَّ كَفَّارَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضِيفَ الْكَفَّارَةَ إِلَى الْيَمِينِ أَوِ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى حُكْمَ هَذِهِ الصِّيغَةِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ حُكْمَهَا عِنْدَ النِّيَّةِ هُوَ وُجُوبُ مَا نَوَى مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَفَّارَةِ.
ط - تَحْرِيمُ الْعَيْنِ أَوِ الْفِعْلِ:
- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الإِْنْسَانِ الْعَيْنَ أَوِ الْفِعْلَ عَلَى نَفْسِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا الثَّوْبُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ لُبْسِي لِهَذَا الثَّوْبِ عَلَيَّ حَرَامٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ الَّتِي نُسِبَ التَّحْرِيمُ إِلَيْهَا أَوْ إِلَى الْفِعْلِ الْمُضَافِ لَهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ أَمْ لاَ، كَأَنْ قَالَ مُتَحَدِّثًا عَنْ طَعَامِ غَيْرِهِ: هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ أَكْلُ هَذَا الطَّعَامِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ الْمَذْكُورَةُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ أَمْ لاَ، كَأَنْ قَالَ: هَذِهِ الْخَمْرُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ شُرْبُ هَذِهِ الْخَمْرِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
فَكُلُّ صِيغَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ تُعْتَبَرُ يَمِينًا، لَكِنْ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مُحَرَّمَةً مِنْ قَبْلُ، أَوْ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِ لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، بِأَنْ يَنْوِيَ إِنْشَاءَ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ نَوَى الإِْخْبَارَ بِأَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، أَوْ بِأَنَّ ثَوْبَ فُلاَنٍ حَرُمَ عَلَيْهِ شَرْعًا، لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا، وَكَذَا إِنْ أَطْلَقَ؛ لأِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ الْعِبَارَةِ هُوَ الإِْخْبَارُ.
ثُمَّ إِنَّ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ لاَ مَعْنَى لَهُ إِلاَّ تَحْرِيمَ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا، كَمَا فِي تَحْرِيمِ الشَّرْعِ لَهَا فِي نَحْوِ قوله تعالي (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) وَقَوْلِهِ ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ).
وَقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» فَتَحْرِيمُ الأُْمَّهَاتِ وَنَحْوِهِنَّ يَنْصَرِفُ إِلَى الزَّوَاجِ. وَتَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا وَالْمُسْكِرِ يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إِلَى التَّنَاوُلِ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ.
- وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ لِصِيَغِ التَّحْرِيمِ الَّتِي تُعْتَبَرُ أَيْمَانًا، مَعَ بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ حِنْثٌ فِي كُلٍّ مِنْهَا:
) لَوْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ أَوِ الْمَالُ أَوِ الثَّوْبُ أَوِ الدَّارُ عَلَيَّ حَرَامٌ، حَنِثَ بِأَكْلِ الطَّعَامِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ، وَلُبْسِ الثَّوْبِ، وَسُكْنَى الدَّارِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلاَ يَحْنَثُ بِهِبَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ.
لَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَرَّمْتُكَ عَلَى نَفْسِي، حَنِثَتْ بِمُطَاوَعَتِهِ فِي الْجِمَاعِ، وَحَنِثَتْ أَيْضًا بِإِكْرَاهِهِ إِيَّاهَا عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الاِخْتِيَارُ.
لَوْ قَالَ لِقَوْمٍ: كَلاَمُكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ، حَنِثَ بِتَكْلِيمِهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْحِنْثُ عَلَى تَكْلِيمِ جَمِيعِهِمْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ: كَلاَمُ، الْفُقَرَاءِ، أَوْ كَلاَمُ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَوْ أَكْلُ هَذَا الرَّغِيفِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلاَمِ وَاحِدٍ، وَأَكْلِ لُقْمَةٍ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لاَ أُكَلِّمُكُمْ، أَوْ لاَ أُكَلِّمُ الْفُقَرَاءَ، أَوْ أَهْلَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَوْ لاَ آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ، فَإِنَّهُ لاَ يَحْنَثُ إِلاَّ بِتَكْلِيمِ الْجَمِيعِ وَأَكْلِ جَمِيعِ الرَّغِيفِ.
لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّنَانِيرُ عَلَيَّ حَرَامٌ حَنِثَ إِنِ اشْتَرَى بِهَا شَيْئًا؛ لأِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لِنَفْسِهِ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ مَا يَأْكُلُهُ أَوْ يَلْبَسُهُ مَثَلاً، وَلاَ يَحْنَثُ بِهِبَتِهَا وَلاَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ لَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَتَأَمَّلْ.
لَوْ قَالَ: كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَلاَلُ اللَّهِ أَوْ حَلاَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيَّ حَرَامٌ، كَانَ يَمِينًا عَلَى تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَحْرِيمُ الْحَلاَلِ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ لَغْوٌ لاَ يَقْتَضِي شَيْئًا، إِلاَّ إِذَا حَرَّمَ الأَْمَةَ نَاوِيًا عِتْقَهَا، فَإِنَّهَا تُعْتَقُ، فَمَنْ قَالَ: الْخَادِمُ أَوِ اللَّحْمُ أَوِ الْقَمْحُ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَفَعَلَهُ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَزَوْجَتِي عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ فَعَلَيَّ الْحَرَامُ، يَلْزَمُهُ بَتُّ طَلاَقِ الْمَدْخُولِ بِهَا - ثَلاَثًا - مَا لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ مِنَ الثَّلاَثِ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى، أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَيَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ. هَذَا هُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلاَثٌ كَالْمَدْخُولِ بِهَا مَا لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ حَلاَلٍ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنِ اسْتَثْنَى الزِّوَجَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ فِيهَا مَا ذُكِرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَرَّمْتُكِ، وَنَوَى طَلاَقًا وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا أَوْ ظِهَارًا وَقَعَ، وَلَوْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا أَوْ وَطْئِهَا أَوْ فَرْجِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَصْلاً - وَأَطْلَقَ ذَلِكَ، أَوْ أَقَّتَهُ كُرِهَ، وَلَمْ تَحْرُمِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ يَمِينًا؛ لأِنَّ هُ لَيْسَ إِقْسَامًا بِاللَّهِ تَعَالَى وَلاَ تَعْلِيقًا لِلطَّلاَقِ أَوْ نَحْوِهِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ أَلاَّ تَكُونَ زَوْجَتُهُ مُحْرِمَةً بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَلاَّ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَلَوْ حَرُمَ غَيْرُ الزَّوْجَةِ كَالثَّوْبِ وَالطَّعَامِ وَالصَّدِيقِ وَالأَْخِ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ حَرَّمَ حَلاَلاً سِوَى الزَّوْجَةِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَرْعًا، ثُمَّ إِذَا فَعَلَهُ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَوْلاَنِ، أَرْجَحُهُمَا: الْوُجُوبُ، وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيمِ تَنْجِيزُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ، وَمِثَالُ الْمُنَجَّزِ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَلاَ زَوْجَةَ لِي، وَكَسْبِي عَلَيَّ حَرَامٌ، وَهَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَالدَّمِ أَوْ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
وَمِثَالُ الْمُعَلَّقِ: إِنْ أَكَلْتُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ لأِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّى التَّحْرِيمَ يَمِينًا حَيْثُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاة أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ.
وَالْيَمِينُ لاَ تُحَرِّمُ الْحَلاَلَ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ، وَهَذِهِ الآْيَةُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَأَمَّا تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ فَهُوَ ظِهَارٌ، سَوَاءٌ أَنَوَى بِهِ الظِّهَارَ أَوِ الطَّلاَقَ أَوِ الْيَمِينَ أَمْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا عَلَى الرَّاجِحِ.
وَلَوْ قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ فَهُوَ حَرَامٌ - وَكَانَ لَهُ زَوْجَةٌ - كَانَ ذَلِكَ ظِهَارًا وَتَحْرِيمًا لِلْمَالِ، وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَنْهُمَا.
قِيَامُ التَّصْدِيقِ بِكَلِمَةِ نَعَمْ مَقَامَ الْيَمِينِ
- الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَقَالَ: نَعَمْ كَانَ حَالِفًا، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لآِخَرَ عَلَيْكَ: عَهْدُ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَقَالَ: نَعَمْ.
فَالْحَالِفُ الْمُجِيبُ، وَلاَ يَمِينَ عَلَى الْمُبْتَدِئِ وَلَوْ نَوَاهُ؛ لأِنَّ قَوْلَهُ: عَلَيْكَ صَرِيحٌ فِي الْتِزَامِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُخَاطَبِ، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا عَلَى الْمُبْتَدِئِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ، وَقَالَ الآْخَرُ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ إِذَا نَوَى الْمُبْتَدِئُ التَّحْلِيفَ وَالْمُجِيبُ الْحَلِفَ، كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الْمُجِيبَ وَحْدَهُ، وَإِذَا نَوَى كُلٌّ مِنْهُمَا الْحَلِفَ يَصِيرُ كُلٌّ مِنْهَا حَالِفًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ: طَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ، أَوْ أَطَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ؟ اسْتِخْبَارًا - فَقَالَ: نَعَمْ، كَانَ إِقْرَارًا، وَإِنْ كَانَ الاِلْتِمَاسُ الإِْنْشَاءَ كَانَ تَطْلِيقًا صَرِيحًا، وَإِنْ جُهِلَ الْحَالُ حُمِلَ عَلَى الاِسْتِخْبَارِ.
هَذَا مَا قَالُوهُ فِي الطَّلاَقِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ لآِخَرَ: حَلَفْتَ، أَوْ أَحَلَفْتَ بِاللَّهِ لاَ تُكَلِّمُ زَيْدًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَإِنْ كَانَ لِلاِسْتِخْبَارِ كَانَ إِقْرَارًا مُحْتَمِلاً لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَيَحْنَثُ بِالتَّكْلِيمِ إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَلاَ يَحْنَثُ بِهِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا.
وَإِنْ كَانَ الاِلْتِمَاسُ الإِْنْشَاءَ كَانَ حَلِفًا صَرِيحًا.
وَإِنْ جُهِلَ حَالُ السُّؤَالِ حُمِلَ عَلَى الاِسْتِخْبَارِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ إِقْرَارًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يُعْثَرْ لِلْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَلَى نَصٍّ فِي هَذَا.
الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ:
- عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ صِيغَةَ الْيَمِينِ بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ تَنْحَصِرُ شَرْعًا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى. فَالْحَلِفُ بِغَيْرِهِ بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ لاَ يُعْتَبَرُ يَمِينًا شَرْعِيَّةً، وَلاَ يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهِ كَفَّارَةٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: أَنْ يَحْلِفَ الإِْنْسَانُ بِأَبِيهِ أَوْ بِابْنِهِ أَوْ بِالأَْنْبِيَاءِ أَوْ بِالْمَلاَئِكَةِ عليهم السلام أَوْ بِالْعِبَادَاتِ: كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ، أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالْحَرَمِ أَوْ بِزَمْزَمَ أَوْ بِالْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. سَوَاءٌ أَتَى الْحَالِفُ بِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ عَقِبَ حَرْفِ الْقَسَمِ أَمْ أَضَافَ إِلَيْهَا كَلِمَةَ: «حَقٍّ» أَوْ «حُرْمَةٍ» أَوْ «حَيَاةٍ» أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ أَمْ بِصِيغَةٍ مُلْحَقَةٍ بِمَا فِيهِ هَذِهِ الْحُرُوفُ، مِثْلُ لَعَمْرُكَ وَلِعَمْرِي وَعَمْرُكَ اللَّهُ وَعَلَيَّ عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا.
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ (مِنْهَا) قَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ.
(وَمِنْهَا) قَوْلُهُ علية الصلاه والسلام : «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ». وَفِي رِوَايَةٍ فَقَدْ كَفَرَ.
(وَمِنْهَا) قَوْلُهُ صلوات اللهوسلامة «مَنْ حَلَفَ بِالأَْمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا.
(وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: «حَلَفْتُ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَانْفُثْ عَنْ شِمَالِك ثَلاَثًا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ لاَ تُعَدْ».
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى رَوَاهَا النَّسَائِيُّ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «حَلَفْتُ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : بِئْسَمَا قُلْتَ، ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ، فَإِنَّا لاَ نَرَاكَ إِلاَّ قَدْ كَفَرْتَ، فَلَقِيتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ لِي: قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَانْفُثْ عَنْ شِمَالِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَلاَ تَعُدْ لَهُ.
(وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللاَّتِ، فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ.
. - وَوَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه اسْتِنْكَارُ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لأََنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا وَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوِ ابْنُ عُمَرَ: «لأََنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا»، وَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه : أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ - وَقَدْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ بِالْكَعْبَةِ -: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ فَكَّرْتَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَحْلِفَ لَعَاقَبْتُكَ، احْلِفْ بِاللَّهِ فَأْثَمْ أَوِ ابْرِرْ.
أَثَرُ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ:
- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهِ كَفَّارَةٌ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَنِثَ فِي الْحَلِفِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لأِنَّ هُ أَحَدُ شَطْرَيِ الشَّهَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَصِيرُ بِهِمَا الْكَافِرُ مُسْلِمًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْحَلِفَ بِسَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ عليه الصلاة والسلام تَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا، لَكِنِ الأَْشْهَرُ فِي مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ بِالْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ بِنَبِيِّنَا وَسَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لَكِنْ فِي مَرْتَبَةِ هَذَا النَّهْيِ اخْتِلاَفٌ، وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: إِنَّهُ حَرَامٌ إِلاَّ الْحَلِفَ بِالأَْمَانَةِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ، وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تَنْزِيهًا.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِسَبْقِ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ كَرَاهَةَ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ الأَْعْرَابِيِّ - الَّذِي قَالَ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أُنْقِصُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ».
شَرَائِطُ الْقَسَمِ
يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْقَسَمِ وَبَقَائِهِ شَرَائِطُ، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
(أَوَّلاً)
الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْحَالِفِ
يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَبَقَائِهَا شَرَائِطُ فِي الْحَالِفِ.
- (الأُْولَى) الْبُلُوغُ. (وَالثَّانِيَةُ) الْعَقْلُ. وَهَاتَانِ شَرِيطَتَانِ فِي أَصْلِ الاِنْعِقَادِ، فَلاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُ الصَّبِيِّ - وَلَوْ مُمَيِّزًا - وَلاَ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ - غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ - وَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ لأِنَّ هَا تَصَرُّفُ إِيجَابٍ، وَهَؤُلاَءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الإِْيجَابِ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي هَاتَيْنِ الشَّرِيطَتَيْنِ إِجْمَالاً. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ وَالصَّبِيُّ إِذَا حَنِثَ بَعْدَ بُلُوغِهِ. أَمَّا السَّكْرَانُ الْمُتَعَدِّي، فَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ صِحَّةَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَتْ صَرِيحَةً تَغْلِيظًا عَلَيْهِ. وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَزُفَرُ وَالطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ يَرَوْنَ عَدَمَ انْعِقَادِ يَمِينِهِ كَالسَّكْرَانِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (الْحَجْرِ).
وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَالْجُمْهُورُ يَرَوْنَ أَنَّ يَمِينَهُ لاَ تَنْعَقِدُ، وَأَنَّهُ لَوْ حَنِثَ - وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ - لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ يَمِينَهُ مُعَلَّقَةٌ، فَإِنْ حَنِثَ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ.
- (الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) الإِْسْلاَمُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ. فَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَافِرِ وَلَوْ ذِمِّيًّا، وَإِذَا انْعَقَدَتْ يَمِينُ الْمُسْلِمِ بَطَلَتْ بِالْكُفْرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْكُفْرُ قَبْلَ الْحِنْثِ أَمْ بَعْدَهُ، وَلاَ تَرْجِعُ بِالإِْسْلاَمِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يُشْتَرَطُ الإِْسْلاَمُ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلاَ بَقَائِهَا، فَالْكَافِرُ الْمُلْتَزِمُ لِلأَْحْكَامِ - وَهُوَ الذِّمِّيُّ وَالْمُرْتَدُّ - لَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَمْرٍ، ثُمَّ حَنِثَ وَهُوَ كَافِرٌ، تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ لَمْ يَكْفُرْ بِالصَّوْمِ إِلاَّ إِنْ أَسْلَمَ. وَهَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا هُوَ فِي الذِّمِّيِّ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلاَ يَكْفُرُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ، لاَ بِالْمَالِ وَلاَ بِالصَّوْمِ، بَلْ يَنْتَظِرُ، فَإِذَا أَسْلَمَ كَفَّرَ؛ لأِنَّ مَالَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ مَوْقُوفٌ، فَلاَ يُمْكِنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
وَمَنْ حَلَفَ حَالَ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَنِثَ، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ حِينَ الْحَلِفِ مُلْتَزِمًا لِلأَْحْكَامِ.
- (الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ) التَّلَفُّظُ بِالْيَمِينِ، فَلاَ يَكْفِي كَلاَمُ النَّفْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَلاَ بُدَّ مِنْ إِظْهَارِ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنَ السَّمَاعِ كَلَغَطٍ وَسَدِّ أُذُنٍ.
وَاشْتِرَاطُ الإِْسْمَاعِ وَلَوْ تَقْدِيرًا هُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ، الَّذِي يَرَوْنَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا ذَلِكَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ الإِْسْمَاعُ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحُرُوفِ مَعَ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْهَا هُوَ وَلاَ مَنْ يَضَعُ أُذُنَهُ بِقُرْبِ فَمِهِ مَعَ اعْتِدَالِ السَّمْعِ وَعَدَمِ الْمَوَانِعِ.
هَذَا وَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ بِالْيَمِينِ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْكِتَابَةَ لَوْ كَانَتْ بِالصَّرِيحِ تُعْتَبَرُ كِنَايَةً؛ لأِنَّ هَا تَحْتَمِلُ النَّسْخَ، وَتَجْرِبَةُ الْقَلَمِ وَالْمِدَادِ وَغَيْرِهَا، وَبِأَنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ إِنِ اخْتَصَّ بِفَهْمِهَا الْفَطِنُ فَهِيَ كِنَايَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَإِنْ فَهِمَهَا كُلُّ إِنْسَانٍ فَهِيَ صَرِيحَةٌ.
الطَّوَاعِيَةُ وَالْعَمْدُ فِي الْحَالِفِ:
- لاَ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الطَّوَاعِيَةُ - أَيِ الاِخْتِيَارُ - فِي الْحَالِفِ، وَلاَ الْعَمْدُ - أَيِ الْقَصْدُ - فَتَصِحُّ عِنْدَهُمْ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ، وَهُوَ مَنْ أَرَادَ غَيْرَ الْحَلِفِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الْحَلِفِ، كَأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: اسْقِنِي الْمَاءَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ أَشْرَبُ الْمَاءَ؛ لأِنَّ هَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا الإِْكْرَاهُ وَالْخَطَأُ، كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تُشْتَرَطُ الطَّوَاعِيَةُ وَالْعَمْدُ، فَلاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُ الْمُكْرَهِ وَلاَ الْمُخْطِئُ غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَقُولُونَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْيَمِينِ: إِذَا نَوَى الْحَلِفَ صَحَّتْ يَمِينُهُ. لأِنَّ الإِْكْرَاهَ لاَ يُلْغِي اللَّفْظَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ بِهِ الصَّرِيحُ كِنَايَةً، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لاَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ إِلْغَاءَ كَلاَمِ الْمُكْرَهِ لاَ وَجْهَ لَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الأَْذَى عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَقْصِدِ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ، فَإِذَا قَصَدَ اسْتِعْمَالَهُ فِي مَعْنَاهُ كَانَ هَذَا أَمْرًا زَائِدًا لاَ تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: لاَ يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ التَّوْرِيَةُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا.
وَالتَّوْرِيَةُ هِيَ: أَنْ يُطْلِقَ الإِْنْسَانُ لَفْظًا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنًى وَيُرِيدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ، وَلَكِنَّهُ خِلاَفُ ظَاهِرِهِ.
عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْجِدُّ فِي الْحَالِفِ:
- الْجِدُّ - بِكَسْرِ الْجِيمِ - فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَنْطِقَ الإِْنْسَانُ بِاللَّفْظِ رَاضِيًا بِأَثَرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْتَحْضِرًا لِهَذَا الرِّضَى أَمْ غَافِلاً عَنْهُ، فَمَنْ نَطَقَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ نَاوِيًا مَعْنَاهُ، أَوْ غَافِلاً عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ، مُرِيدًا أَثَرَهُ أَوْ غَافِلاً عَنْ هَذِهِ الإِْرَادَةِ يُقَالُ لَهُ جَادٌّ، فَإِنْ أَرَادَ تَجْرِيدَ اللَّفْظِ عَنْ أَثَرِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلاَ إِكْرَاهٍ، فَنَطَقَ بِهِ لَعِبًا أَوْ مِزَاحًا كَانَ هَازِلاً، وَالْهَزْلُ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَمَنْ حَلَفَ بِصِيغَةٍ صَرِيحَةٍ لاَعِبًا أَوْ مَازِحًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ.
وَيُقَاسُ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَمِنْهَا صِيغَةُ الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَازِلَ لاَ نِيَّةَ لَهُ.
قَصْدُ الْمَعْنَى وَالْعِلْمِ بِهِ:
- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الأَْلْفَاظَ الصَّرِيحَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا: الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى، وَالْكِنَايَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا: قَصْدُ الْمَعْنَى، ذَكَرُوا هَذَا فِي الطَّلاَقِ وَلَيْسَ خَاصًّا بِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ: أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَعْنَاهَا، فَلَوْ حَلَفَ أَعْجَمِيٌّ بِلَفْظٍ عَرَبِيٍّ صَرِيحٍ كَوَاللَّهِ لأََصُومَنَّ غَدًا، بِنَاءً عَلَى تَلْقِينِ إِنْسَانٍ لَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْعَقِدْ. وَلَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ مَعْنَى الْيَمِينِ؛ لأِنَّهُ كِنَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا سَبَقَ.
وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الْكِنَايَةِ لاَ يَخْتَلِفُ فِيهِ أَحَدٌ. وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الطَّلاَقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَضَاءِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَهُ فِي الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ دِيَانَةً، لأِنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
أَثَرُ التَّأْوِيلِ فِي الْيَمِينِ:
- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي تَنْقَطِعُ بِهِ جُمْلَةُ الْيَمِينِ عَنْ جُمْلَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ يُقْبَلُ، وَعِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ قَالَ أَرَدْتُ بِقَوْلِي: (بِاللَّهِ) وَثِقْتُ أَوِ اعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ ابْتَدَأْتُ قَوْلِي: لأََفْعَلَنَّ، وَلَمْ أَقْصِدِ الْيَمِينَ صُدِّقَ دِيَانَةً بِلاَ يَمِينٍ.
وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، أَوْ قَالَ: بِاللَّهِ وَقَالَ: أَرَدْتُ وَثِقْتُ أَوِ اسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفْتُ فَقُلْتُ: لأََفْعَلَنَّ كَذَا مِنْ غَيْرِ قَسَمٍ يُقْبَلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَإِذَا تَأَوَّلَ نَحْوَ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الطَّلاَقِ وَالإِْيلاَءِ لاَ يُقْبَلُ ظَاهِرًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ التَّأْوِيلَ لاَ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ، فَالْمُتَصَفِّحُ لِكُتُبِ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى يَجِدُ تَأْوِيلاَتٍ مَقْبُولَةً عِنْدَهُمْ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ التَّأْوِيلَ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُسْتَحْلِفٌ ذُو حَقٍّ، وَكَانَ التَّأْوِيلُ غَيْرَ خَارِجٍ عَمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ.
(ثَانِيًا)
الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ
يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ وَبَقَائِهَا مُنْعَقِدَةً أَرْبَعُ شَرَائِطَ تَرْجِعُ إِلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُسَمَّى جَوَابَ الْقَسَمِ.
- (الشَّرِيطَةُ الأُْولَى): أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَمْرًا مُسْتَقْبَلاً.
وَهَذِهِ شَرِيطَةٌ لاِنْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى مَاضٍ وَحَاضِرٍ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لاَ أَمُوتُ، وَمُسْتَقْبَلٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لأََصْعَدَنَّ السَّمَاءَ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِانْعِقَادِ الْغَمُوسِ عَلَى حَاضِرٍ وَمُسْتَقْبَلٍ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَشْتَرِطُونَ الاِسْتِقْبَالَ فِي كُلِّ مَا فِيهِ كَفَّارَةٌ، كَالْحَلِفِ بِتَعْلِيقِ الْكُفْرِ أَوِ الْقُرْبَةِ أَوِ الظِّهَارِ بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ.
- (الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ): أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْحَلِفِ - أَيْ لَيْسَ مُسْتَحِيلاً عَقْلاً - وَهَذِهِ شَرِيطَةٌ لاِنْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.
وَوَجْهُ اشْتِرَاطِهَا: أَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَنْعَقِدُ لِتَحْقِيقِ الْبِرِّ، فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ أَوْ وَعَدَ بِوَعْدٍ يُؤَكِّدُهُ بِالْيَمِينِ لِتَحْقِيقِ الصِّدْقِ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْبِرَّ، ثُمَّ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَنَحْوُهَا خَلَفًا عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرِ الأَْصْلُ - وَهُوَ الْبِرُّ - لَمْ يُوجَدِ الْخَلَفُ - وَهُوَ الْكَفَّارَةُ - فَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو يُوسُفَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ لأِنَّ هُ لاَ يَلْزَمُ مِنِ اسْتِحَالَةِ الأَْصْلِ عَقْلاً عَدَمُ الْخَلَفِ. وَمَفْهُومُ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ: أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَقْلاً عِنْدَ الْحَلِفِ، لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.
لَكِنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ يُعْلَمُ مِنَ الْكَلاَمِ عَلَى الْمِثَالِ الآْتِي:
إِذَا قَالَ إِنْسَانٌ: وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، أَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ، وَكَانَ الْكُوزُ خَالِيًا مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ الْحَلِفِ، فَالشُّرْبُ الَّذِي هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلٌ وُجُودُهُ عِنْدَ الْحَلِفِ عَقْلاً، فَلاَ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ عِنْدَ حَلِفِهِ لاَ يَعْلَمُ خُلُوَّ الْكُوزِ مِنَ الْمَاءِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ عِنْدَ زُفَرَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
هَذَا مَا أَفَادَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: تَنْعَقِدُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ.
- (الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ): أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً بَعْدَ الْحَلِفِ، إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ. وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ مُنْعَقِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، فَلَوْ لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الشَّرِيطَةُ بَطَلَتِ الْيَمِينُ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ أَيْضًا.
وَتَوْجِيهُ الاِشْتِرَاطِ وَعَدَمِهِ كَمَا فِي الشَّرِيطَةِ الثَّانِيَةِ، وَمَفْهُومُ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ يَتَّضِحُ بِالْمِثَالِ الآْتِي: إِذَا قَالَ إِنْسَانٌ وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ أَوْ قَالَ وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِوَقْتٍ، وَكَانَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ وَقْتَ الْحَلِفِ، فَصَبَّهُ الْحَالِفُ أَوْ صَبَّهُ غَيْرُهُ أَوِ انْصَبَّ بِنَفْسِهِ فِي النَّهَارِ. فَفِي صُورَةِ التَّقْيِيدِ بِالْيَوْمِ تَبْطُلُ بَعْدَ انْعِقَادِهَا؛ لأِنَّ الشُّرْبَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ صَارَ مُسْتَحِيلاً بَعْدَ الْحَلِفِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قُيِّدَ بِهِ، وَفِي صُورَةِ الإِْطْلاَقِ تَبْقَى مُنْعَقِدَةً، فَيَحْنَثُ بِالصَّبِّ أَوِ الاِنْصِبَابِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
- (الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ): أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ عَادَةً عِنْدَ الْحَلِفِ - أَيْ لَيْسَ مُسْتَحِيلاً عَادَةً - وَهَذِهِ شَرِيطَةٌ لاِنْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ عِنْدَ زُفَرَ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ.
فَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لأََصْعَدَنَّ السَّمَاءَ، أَوْ: وَاللَّهِ لأََمَسَّنَّ السَّمَاءَ، أَوْ: وَاللَّهِ لأَُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا، لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ عِنْدَ زُفَرَ، سَوَاءٌ أَقَيَّدَهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ كَأَنْ قَالَ: الْيَوْمَ أَوْ غَدًا، أَوْ لَمْ يُقَيِّدْهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِنَّهَا تَنْعَقِدُ؛ لأِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ جَائِزٌ عَقْلاً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهَا تَنْعَقِدُ أَيْضًا؛ لأِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ.
وَتَوْجِيهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ عَادَةً يُلْحَقُ بِالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً، فَإِذَا لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ فِي الثَّانِي لَمْ تَنْعَقِدْ فِي الأَْوَّلِ.
وَتَوْجِيهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالاِنْعِقَادِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِيهِ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ، وَالْحُكْمَ بِعَدَمِ الاِنْعِقَادِ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى.
وَتَوْجِيهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ الْفِعْلَ شَرْطًا لِلْبِرِّ، فَيَكُونُ عَدَمُهُ مُوجِبًا لِلْحِنْثِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا عَقْلاً وَعَادَةً، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لأََقْرَأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ، أَمْ مُسْتَحِيلاً عَقْلاً وَعَادَةً كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لأََشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، وَلاَ مَاءَ فِيهِ أَمْ مُسْتَحِيلاً عَادَةً لاَ عَقْلاً كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لأَُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا.
الْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِ الْحَالِفِ:
- الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ غَائِبٌ: وَاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ عَلَى حَاضِرٍ: وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، فَلَمْ يُطِعْهُ، حَنِثَ الْحَالِفُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، لاَ عَلَى مَنْ أَحْنَثَهُ.
وَقَدْ فَصَّلَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُطِيعُهُ، وَالْحَلِفِ عَلَى مَنْ لاَ يَظُنُّهُ كَذَلِكَ. فَقَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ يُطِيعُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلاَ كَفَّارَةَ لأِنَّ هُ لَغْوٌ، بِخِلاَفِ مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُطِعْهُ حَنِثَ الْحَالِفُ وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ.
(ثَالِثًا)
شَرَائِطُ تَرْجِعُ إِلَى الصِّيغَةِ
- يُشْتَرَطُ لاِنْعِقَادِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى شَرِيطَتَانِ تَرْجِعَانِ إِلَى صِيغَتِهَا.
(الأُْولَى): عَدَمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِسُكُوتٍ وَنَحْوِهِ، فَلَوْ أَخَذَهُ الْوَالِي وَقَالَ: قُلْ: بِاللَّهِ، فَقَالَ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: لآَتِيَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ الرَّجُلُ مِثْلَهُ، لاَ يَحْنَثُ بِعَدَمِ إِتْيَانِهِ؛ لِلْفَصْلِ بِانْتِظَارِ مَا يَقُولُ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، لاَ يَصِحُّ؛ لِلْفَصْلِ بِمَا لَيْسَ يَمِينًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعَهْدُ رَسُولِهِ.
(الثَّانِيَةُ): خُلُوُّهَا عَنِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوِ اسْتِثْنَاؤُهَا، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْحِنْثُ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَبْدُوَ لِي غَيْرُ هَذَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي سَيَأْتِي بَيَانُهَا، فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِشَرَائِطِهِ لَمْ تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ.
صِيغَةُ الْيَمِينِ التَّعْلِيقِيَّةُ:
- التَّعْلِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَلَّقَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ وَعَلَيْهِ: أَنْشَبَهُ فِيهِ وَوَضَعَهُ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ مُسْتَمْسِكًا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: رَبْطُ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي رُبِطَ مَضْمُونُهَا هِيَ جُمْلَةُ الْجَزَاءِ، وَالَّتِي رُبِطَ هَذَا الْمَضْمُونُ بِمَضْمُونِهَا هِيَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ.
فَفِي مِثْلِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، رَبَطَ الْمُتَكَلِّمُ حُصُولَ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ - وَهُوَ الطَّلاَقُ - بِحُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ - وَهُوَ دُخُولُهَا الدَّارَ - وَوَقَفَهُ عَلَيْهِ، فَلاَ يَقَعُ إِلاَّ بِوُقُوعِهِ.
وَلَيْسَ كُلُّ تَعْلِيقٍ يَمِينًا، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا تَعْلِيقَاتٌ مَخْصُوصَةٌ تُذْكَرُ فِيمَا يَأْتِي.
أ - أَجْزَاءُ الصِّيغَةِ:
- مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ مَثَلاً، فَهَذِهِ صِيغَةُ تَعْلِيقٍ تَحْتَوِي عَلَى: أَدَاةِ شَرْطٍ، فَجُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ، فَجُمْلَةٍ جَزَائِيَّةٍ.
وَالْحَدِيثُ عَنْ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ كَمَا يَلِي:
أَدَاةُ الشَّرْطِ:
- ذَكَرَ أَهْلُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ أَدَوَاتٍ كَثِيرَةً لِلشَّرْطِ مِنْهَا «إِنْ» - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ - وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا، كَمَا فِي قوله تعالي فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ).
وَمِنْهَا «إِذَا» وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا، وَمِنْهَا «مَنْ» «وَمَا» «وَمَهْمَا» «وَحَيْثُمَا» «وَكَيْفَمَا». «وَمَتَى» وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا، وَأَيْنَ وَقَدْ تُزَادُ بَعْدَهَا: مَا أَيْضًا.
- وَقَدْ يَقُومُ مَقَامَ هَذِهِ الأَْدَوَاتِ أَدَوَاتٌ أُخْرَى وَإِنْ لَمْ تُعَدَّ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ، وَمِنْهَا: كُلٌّ وَكُلَّمَا وَبَاءُ الْجَرِّ.
جُمْلَةُ الشَّرْطِ:
- جُمْلَةُ الشَّرْطِ هِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهَا أَدَاةُ الشَّرْطِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مَاضَوِيَّةٌ أَوْ مُضَارِعِيَّةٌ، وَهِيَ لِلاِسْتِقْبَالِ فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ التَّعْلِيقَ عَلَى أَمْرٍ مَضَى أَدْخَلَ عَلَى الْفِعْلِ جُمْلَةَ الْكَوْنِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِنْ خَرَجْتِ، أَوْ: إِنْ تَخْرُجِي يُفِيدُ التَّعْلِيقَ عَلَى خُرُوجٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
فَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّجُلُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَادَّعَى أَنَّهَا خَرَجَتْ بِالأَْمْسِ، فَقَالَتْ: لَمْ أَخْرُجْ، فَأَرَادَ تَعْلِيقَ طَلاَقِهَا عَلَى هَذَا الْخُرُوجِ الْمَاضِي، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِفِعْلِ الْكَوْنِ فَيَقُولُ: إِنْ كُنْتِ خَرَجْتِ بِالأَْمْسِ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
جُمْلَةُ الْجَزَاءِ:
- هِيَ الْجُمْلَةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمُتَكَلِّمُ عَقِبَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، جَاعِلاً مَضْمُونَهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، وَقَدْ يَأْتِي الْجَزَاءُ قَبْلَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالأَْدَاةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ جَزَاءً مُقَدَّمًا عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَدَلِيلُ الْجَزَاءِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَالْجَزَاءُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ يَكُونُ مُقَدَّرًا بَعْدَ الشَّرْطِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن عشر ، الصفحة / 78
حَلِفٌ
التَّعْرِيفُ:
لْحَلِفُ لُغَةً الْيَمِينُ: وَأَصْلُهَا الْعَقْدُ بِالْعَزْمِ وَالنِّيَّةِ.
قَالَ أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ: وَالْحَلِفُ مِنْ قَوْلِكَ: سَيْفٌ حَلِيفٌ أَيْ: قَاطِعٌ مَاضٍ. فَإِذَا قُلْتَ: حَلَفَ بِاللَّهِ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: قَطَعَ الْمُخَاصَمَةَ بِاللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْحَلِفُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ أَصْلُهُ مِنَ الْحَلِفِ بِمَعْنَى الْمُلاَزَمَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الإْنْسَانَ يَلْزَمُهُ الثَّبَاتُ عَلَى الْيَمِينِ.
وَاصْطِلاَحًا: تَوْكِيدُ حُكْمٍ بِذِكْرٍ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
حِكْمَةُ التَّحْلِيفِ وَمَشْرُوعِيَّتُهُ:
التَّحْلِيفُ تَكْلِيفُ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ الْيَمِينَ وَيَجْرِي التَّحْلِيفُ لِلْفَصْلِ فِي الْخُصُومَاتِ وَإِنْهَاءِ
النِّزَاعِ فِي الدَّعَاوَى، وَثَبَتَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: «احْلِفْ بِاللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ، مَا لَهُ عِنْدَكَ شَيْءٌ».
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلأْشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ: بَيِّنَتُكَ وَإِلاَّ فَيَمِينُه.
صِفَةُ التَّحْلِيفِ:
الْحَلِفُ الْمُنْعَقِدُ هُوَ الْقَسَمُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ، مِثْلُ: لاَ، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَبِالَّذِي رَفَعَ سَبْعًا وَبَسَطَ سَبْعًا، وَهَذَا مِصْدَاقًا لقوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأْرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ«أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «فَقَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلاَ آثِرًا».
(ر: أَيْمَانٌ) - فِقْرَةَ (17) وَإِثْبَاتٌ - فِقْرَةَ (23) وَإِيلاَءٌ فِقْرَةَ (1).
الْحُقُوقُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا التَّحْلِيفُ:
الْحُقُوقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: حَقٌّ لِلْعِبَادِ.
وَحَقُّ اللَّهِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
فَالأْوَّلُ: الْحُدُودُ وَلاَ يَجْرِي التَّحْلِيفُ فِيهَا، لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْيَمِينِ النُّكُولَ، وَهُوَ لاَ يَعْدُو أَنْ يَكُونَ بَذْلاً أَوْ إِقْرَارًا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ لاَ بَذْلَ فِيهَا وَلاَ تُقَامُ بِحُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ.
وَلأِنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ فَلأَنْ لاَ يُسْتَحْلَفُ مَعَ الإْقْرَارِ أَوْلَى وَلأِنَّهُ يُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِهُزَالٍ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ: «لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ».
الثَّانِي: الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ كَدَعْوَى السَّاعِي الزَّكَاةَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، لأِنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ فَلاَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهَا كَالصَّلاَةِ، وَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ نَذْرَ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نَفْيِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، لأِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْمُدَّعِي فِيهِ وَلاَ وِلاَيَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَضَمَّنَتِ الدَّعْوَى حَقًّا لآِدَمِيٍّ مِثْلُ سَرِقَةٍ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِحَقِّ الآْدَمِيِّ دُونَ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَضْمَنُ.
وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ مَالٌ أَوِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَالٌ، فَهَذَا تُشْرَعُ فِيهِ الْيَمِينُ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
فَإِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَّعِي حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَرِئَ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا فِي قِصَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ اللَّذَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الأْرْضِ.
الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَالٌ كَحَدِّ قَذْفٍ، وَقَوَدٍ، وَمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا كَنِكَاحٍ، وَطَلاَقٍ، وَرَجْعَةٍ، وَعِتْقٍ، وَإِسْلاَمٍ، وَرِدَّةٍ، وَجَرْحٍ، وَتَعْدِيلٍ.
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ يُسْتَحْلَفُ فِيهَا لأِنَّ النُّكُولَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَذْلٌ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لاَ يَصِحُّ فِيهَا الْبَذْلُ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ النُّكُولُ إِقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَعَلَيْهِ يَجْرِي التَّحْلِيفُ فِيهَا عِنْدَهُمَا.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَكُلُّ دَعْوَى لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِعَدْلَيْنِ لاَ يُسْتَحَقُّ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِي رَدِّ الْيَمِينِ أَوْ إِثْبَاتِهَا، لأِنَّهُ إِنْ حَلَفَهَا لاَ يَثْبُتُ الْمُدَّعَى بِهِ لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِهَا عَلَى الْعَدْلَيْنِ إِلاَّ الْقَسَامَةَ وَجِرَاحَ الْعَمْدِ، وَفِي بَعْضِهَا خِلاَفٌ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَهُمْ بِأَحْكَامٍ تَثْبُتُ فِي الْبَدَنِ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ غَالِبًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الْمُتَّبَعُ عِنْدَهُمْ، أَنَّهُ يَجْرِي التَّحْلِيفُ لأِنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الدَّعَاوَى الَّتِي تَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ تَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَيَمِينٍ.
وَاسْتَدَلُّوا «بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِهِمَا فِي الْحُقُوقِ وَالأْمْوَالِ» ثُمَّ الأْئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ.
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلاَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ قَالَ أَحْمَدُ – رحمه الله -: لَمْ أَسْمَعْ مَنْ مَضَى جَوَّزُوا الأْيْمَانَ إِلاَّ فِي الأَْمْوَالِ وَالْعُرُوضِ خَاصَّةً كَمَا سَلَفَ.
الثَّانِي: يُسْتَحْلَفُ فِي الطَّلاَقِ وَالْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ. وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: إِذَا قَالَ ارْتَجَعْتُكِ
فَقَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ رَجْعَتِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي كُلِّ حَقٍّ لآِدَمِيٍّ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي دَعْوَى الدِّمَاءِ بِذِكْرِهَا فِي الدَّعْوَى مَعَ عُمُومِ الأْحَادِيثِ، وَلأِنَّهَا دَعْوَى صَحِيحَةٌ فِي حَقٍّ لآِدَمِيٍّ، فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَدَعْوَى الْمَالِ.
أَثَرُ التَّحْلِيفِ فِي الْخُصُومَةِ:
الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ تُفِيدُ قَطْعَ الْخُصُومَةِ فِي الْحَالِ لاَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْحَقِّ. وَالْمَالِكِيَّةُ اعْتَدُّوا بِالْحَلِفِ وَقَالُوا: تَكُونُ الْيَمِينُ كَافِيَةً فِي إِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ وَفِي مَنْعِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي عُذْرٌ فِي عَدَمِ الإْتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ كَنِسْيَانٍ حِينَ تَحْلِيفِهِ خَصْمَهُ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: إِثْبَاتٌ) فِقْرَةَ (28).
صِفَةُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ:
يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ فِي فِعْلِهِ، وَكَذَا فِعْلِ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ إِثْبَاتًا، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا فَعَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ.
وَجُمْلَةُ الأْمْرِ أَنَّ الأْيْمَانَ كُلَّهَا عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ إِلاَّ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهَا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. وَعَلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: كُلُّهَا عَلَى الْعِلْمِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَذَكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ الشَّيْبَانِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لاَ تَضْطَرُّوا النَّاسَ فِي أَيْمَانِهِمْ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى مَا لاَ يَعْلَمُونَ» وَلأِنَّهُ لاَ يُكَلَّفُ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَحَمَلَ ابْنُ قُدَامَةَ حَدِيثَ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ.
مِثَالُ الْبَتِّ: ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ ضَرَبَ فُلاَنًا وَاعْتَدَى عَلَيْهِ، فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ لأِنَّهُ فِعْلُ النَّفْسِ.
مِثَالُ الْعِلْمِ: ادَّعَى أَحَدٌ دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ فِي مُوَاجِهَةِ وَارِثِهِ بِسَبَبٍ فَيَحْلِفُ الْوَارِثُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ: وَاللَّهِ لاَ أَعْلَمُ أَنَّ أَبِي فَعَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِعْلٌ لِلْغَيْرِ.
وَتَفَرَّدَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَقْسِيمِ الْحَلِفِ إِلَى حَلِفٍ عَلَى السَّبَبِ أَوْ عَلَى الْحَاصِلِ.
وَالْمَقْصُودُ بِالسَّبَبِ: وُقُوعُ سَبَبِ الْحَقِّ الْمُدَّعَى أَوْ عَدَمُ وُقُوعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ بِالْحَاصِلِ: بَقَاءُ الْعَقْدِ الْمُثْبِتِ لِلْحَقِّ أَوْ عَدَمُ بَقَائِهِ: أَنَّ الْعَقْدَ يَحْتَمِلُ الاِرْتِفَاعَ كَالنِّكَاحِ يَرْتَفِعُ بِالطَّلاَقِ، وَالْبَيْعِ بِالإْقَالَةِ.
مِثَالُ الْحَلِفِ عَلَى السَّبَبِ: دَعْوَى عَقْدِ بَيْعٍ مُوجِبٍ لِتَمَلُّكِ عَيْنٍ وَالْكَفَالَةِ لاِشْتِغَالِ الذِّمَّةِ وَتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ، فَهُوَ يَمِينٌ مُنْصَبٌّ عَلَى نَفْسِ السَّبَبِ الْمُؤَدِّي إِلَى حُصُولِ مُسَبَّبِهِ هَلْ هُوَ وَاقِعٌ أَوْ لاَ؟.
وَالْحَلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ: يَكُونُ فِي الأْشْيَاءِ الَّتِي تَقَعُ ثُمَّ قَدْ تَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَالْغَصْبِ، فَيَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ بِاللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ، وَمَا هِيَ بَائِنٌ مِنْكَ الآْنَ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ. أَيْ إِلَى الآْنَ لَمْ يَزَلْ حَاصِلاً بَاقِيًا أَمْ لاَ.
قَالَ صَاحِبُ مُعِينِ الْحُكَّامِ: الاِسْتِحْلاَفُ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالآْخَرُ عَلَى الْفِعَالِ الْحِسِّيَّةِ.
أَمَّا الأْوَّلُ فَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُهُ عَلَى الْحَاصِلِ بِالْعَقْدِ بِاللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَكَ مَا ادَّعَى مِنَ الْحَقِّ، وَلاَ يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالإْجَارَةُ وَالْكَفَالَةُ وَنَحْوُهَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ بِاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُ، وَلاَ اسْتَأْجَرْتُ، وَلاَ كَفَلْتُ وَنَحْوِهَا، إِلاَّ أَنْ يَعْرِضَ لِلْقَاضِي فَيَقُولُ: كَمْ مِنْ مُشْتَرٍ أَوْ مُسْتَأْجِرٍ يَفْسَخُ الْعَقْدَ فَيُحَلِّفَهُ عَلَى الْحَاصِلِ، لأِنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى حَسَبِ الدَّعْوَى وَدَفْعِهِ، وَالدَّعْوَى وَقْعٌ فِي الْعَقْدِ لاَ فِي الْحَاصِلِ بِهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الاِسْتِحْلاَفُ عَلَى الأْفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَهِيَ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ يَسْتَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ لاَ عَلَى السَّبَبِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ وَالْمَسْرُوقُ قَائِمًا، يُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا هَذَا الثَّوْبُ لِهَذَا وَلاَ عَلَيْكَ تَسْلِيمُهُ وَلاَ تَسْلِيمُهُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْقِيمَةِ لاَ غَيْرُ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ مَا إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى حَائِطِهِ خَشَبَةً، أَوْ بَنَى عَلَيْهِ بِنَاءً، أَوْ أَجْرَى عَلَى سَطْحِهِ، أَوْ فِي دَارِهِ مِيزَابًا أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ بَابًا، أَوْ رَمَى تُرَابًا فِي أَرْضِهِ أَوْ مَيْتَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ نَقْلُهُ وَأَرَادَ اسْتِحْلاَفَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ بِاللَّهِ مَا فَعَلْتُ هَذَا، لأِنَّهُ لَيْسَ فِي التَّحْلِيفِ هُنَا ضَرَرٌ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِذْ بَعْدَمَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ رَفْعِ هَذِهِ الأْشْيَاءِ عَنْ أَرْضِهِ، لاَ يَتَضَرَّرُ بِسُقُوطِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأْسْبَابِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الاِبْتِدَاءِ أَنْ يَضَعَ الْخَشَبَةَ عَلَى حَائِطِهِ أَوْ يُلْقِيَ الْمَيْتَةَ فِي أَرْضِهِ، كَانَ ذَلِكَ إِعَارَةً مِنْهُ، فَمَتَى بَدَا لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِرَفْعِهِ، وَإِنْ بَاعَ مِنْهُ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، لأِنَّ هَذَا بَيْعُ الْحَقِّ وَبَيْعُ الْحَقِّ لاَ يَجُوزُ. أ. هـ. أَيْ فَهَذِهِ الأْفْعَالُ الْحِسِّيَّةُ كَالأْسْبَابِ الَّتِي لاَ تَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ نَحْوِ دَعْوَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْعِتْقَ عَلَى مَوْلاَهُ، فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ لاَ يَضُرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
حَقُّ التَّحْلِيفِ:
إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِطَلَبِ الْخَصْمِ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْحَاكِمُ فَلاَ تُعْتَبَرُ يَمِينُهُ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَحْلِفَ مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ مَرَّةً أُخْرَى.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي اسْتِحْلاَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ طَلَبِ الْيَمِينِ مِنَ الْمُدَّعِي لأَِنَّهُ حَقٌّ لَهُ، فَلاَ يَسْتَوْفِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ.
وَلاَ يَعْتَدُّ بِتَحْلِيفِ قَاضٍ قَبْلَ مُطَالَبَةِ الْمُدَّعِي، لأِنَّهَا يَمِينٌ قَبْلَ وَقْتِهَا، لِلْمُدَّعِي أَنْ يُطَالِبَ بِإِعَادَتِهَا.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ خَمْسَةَ مَوَاطِنَ:
الأْوَّلُ: إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ مِنَ التَّرِكَةِ حَقًّا بِالإْجْمَاعِ.
الثَّانِي: إِذَا اسْتَحَقَّ أَحَدٌ الْمَالَ.
الثَّالِثُ: لَوْ أَرَادَ مُشْتَرٍ رَدَّ مَبِيعٍ لِعَيْبِهِ.
الرَّابِعُ: تَحْلِيفُ الْحَاكِمِ الشَّفِيعَ عِنْدَ الْحُكْمِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ بِأَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْ شُفْعَتَهُ.
وَالْخَامِسُ: الْمَرْأَةُ، إِذَا طَلَبَتْ فَرْضَ نَفَقَةٍ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ.(ر: إِثْبَاتٌ) - فِقْرَةَ (17) (22).
النِّيَّةُ فِي التَّحْلِيفِ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ».
إِذِ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّرْهِيبُ وَرَدْعُ الْحَالِفِ عَنْ جُحُودِهِ خَوْفًا مِنَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُنْظَرُ فِي الْيَمِينِ إِلَى نِيَّةِ الْقَاضِي وَعَقِيدَتِهِ، فَلاَ يَصِحُّ تَوْرِيَةُ الْحَالِفِ وَلاَ قَوْلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُ الْقَاضِي.
وَأَتَى ابْنُ قُدَامَةَ بِمِثَالٍ لِلْحَالِفِ مَظْلُومًا وَهِيَ وَاقِعَةٌ حَصَلَتْ لِلصَّحَابِيِّ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ رضي الله عنه. قَالَ سُوَيْدٌ: «خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي. فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَصْدَقُهُمْ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلاَ مَظْلُومًا قَالَ: فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَهُ تَأْوِيلُهُ وَأَوْرَدَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي فَقَالَ: إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَلْ تَلِدُ الإْبِلَ إِلاَّ النُّوقُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ - عَدَا ابْنُ الْقَاسِمِ -: الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هِيَ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ فَيَنْفَعُهُ الاِسْتِثْنَاءُ فَلاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَلَكِنْ يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
-----------------------------------------------------------------------------------
الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور/ عبد الرزاق السنهوري، تنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، الطبعة الثانية 1982 دار النهضة العربية، الجزء : الثاني المجلد الأول ،
أما كيفية الحلف فى الفقه الإسلامى فقد جاء فى شأنه فى البدائع ما يأتى : " وقال مشايخنا ينظر إلى حال الحالف ، إن كان ممن لا يخاف منه الاجتراء على الله تعالى باليمين الكاذبة ، يكتفى فيه بالله عز وجل من غير تغليط . وإن كان ممن يحلف ذلك تغلظ ، لأن من العوام من لا يبالى عن الحلف بالله عز وجل كاذباً فإذا غلظ عليه اليمين يمتنع . وقال بعضهم إن كان المال المدعى يسيراً يكتفى فيه بالله عز وجل ، وإن كان كثيراً يغلظ . وصفة التغليظ أن يقول : والله الذى لا إله إلا الله هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، ونحو ذلك مما يعد تغليظاً فى اليمين . وإن كان الحالف كافراً ، فإنه يحلف كافراً ، فإنه يحلف بالله عز وجل أيضاً ، ذمياً كان أو مشركاً ، لأن المشركين لا ينكروه الصانع ، قال الله تبارك وتعالى جل شأنه : " ولئن سألتم من خلق السموات والأرض ليقولن الله " ، فيعظمون اسم الله تعالى عز شأنه ويعتقدون حرمة الإله . . . وإن رأى القاضى ما يكون تغليظاً فى دينه فعل ، لما روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلظ على ابن صوريا ، دل أن كل ذلك سائغ ، فيغلظ على اليهودى بلله تعالى عز وجل الذى أنزل التوراة على سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى النصرانى بالله الذى أنزل الإنجيل على سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى المجوسى الله الذى خلق النار . . . وكذلك لا يجب تغليط اليمين على المسلم بزمان ولا مكان عندنا . وقال الشافعى رحمه الله : إن كان بالمدينة يحلف عند المنبر ، وإن كان بمكة يحلف عند الميزاب ، ويحلف بعد العصر . والصحيح قولنا ، لما روينا من الحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام : البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه . مطلقاً عن الزمان والمكان . وروى أنه اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع فى دار إلى مروان بن الحكم ، فضى على زيد بن ثابت باليمين عند المنبر ، فقال له زيد أحلف له مكانى ، فقال له مروان لا والله إلا عند مقاطع الحقوق ، فجعل زيد يحلف إن حقه لحق وأبى أن يحلف عند المنبر ، فجعل مروان يعجب من ذلك ، ولو كان ذلك لازماً لما احتمل أن يأباه زيد بن ثابت . ولأن تخصيص التحليف بمكان وزمان تعظيم غير اسم الله تبارك وتعالى ، وفيه معنى الإشراك فى التعظيم " . ( البدائع 6 ص 227 - ص 228 ) . وجاء فى البحر الرائق فى صدد الحليف بالطلاق ما يأتى : " وفى الحانية وإن أرد المدعى تحليفه بالطلاق والعتاق فى ظاهر الرواية لا يجيبه القاضى إلى ذلك ، لأن التحليف بالطلاق والعتاق حرام ، ومنهم ن جوزه فى زماننا ، والصحيح ما فى ظاهر الرواية اهـ . وفى كتاب الحظر والإباحة من التتارخانية والفتوى على عدم التحليف بالطلاق والعتاق اهـ . وفى منية المفتى لم يحزه أكثر مشايخنا ، وإن مست إليه الضرورة يفتى أن الرأى فيه للقاضى اتباعاً للبعض اهـ . وفى خزانة المفتين كما فى منية المفتى ، وزاد فلو حلفه القاضى بالطلاق فنكل ، وقضى بالمال ، لا ينفذ قضاؤه على قول الأكثر " . ( البحر الرائق 7 ص 213 ) .

