مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني ، الصفحة : 109
المذكرة الإيضاحية :
ثانيا - صحة الرضاء :
نظرة عامة :
1- أهلية التعاقد : اكتفي في أهلية التعاقد ، بالنص على اعتبار الشخص أهلاً للتعاقد ، ما لم يقرر القانون عدم أهليته، وعلى القواعد الموضوعية الأساسية، ما تعلق منها بتحديد ما يكون لانعدام الأهلية أو نقصها من أثر في صحة الرضاء ، أما التفصيلات فوضعها القوانين الخاصة بذلك ولم ير محل للإبقاء على نص المادة 129 / 189 من التقنين الحالي ، لأنها تتناول تحديد دلالة الأهلية المطلقة والأهلية المقيدة ، وهي مسألة من مسائل التنظيم الموضوعي أما المادة 130/190 من التقنين الحالى ، وهي الخاصة بتعيين القانون الواجب تطبيقه في مسائل الأهلية ، والمادتان 131 - 132 / 191 - 192 ، الخاصتان بالرجوع على القاصر بمقتضی قواعد الإثراء بلا سبب ، فقد حلت في المشروع مكانها الطبيعي فوضعت الأولى بين قواعد تنازع القوانين في النصوص التمهيدية ، والمادتان الأخريان وردتا في سياق قواعد البطلان وقد رؤی ، من ناحية أخرى ، اقتباس نص المادة 299 من المشروع الفرنسي الإيطالي ، وهي الخاصة بمنع القاصر من الطعن في العقد ، إذا كان قد لجأ إلى طرق احتيالية ليخفي قصره ، باعتبار أن المنع في هذه الحالة جزاء مناسب لعمل غير مشروع .
مذكرة المشروع التمهيدي :
الأصل في الشخص توافر الأهلية ، أما عدم الأهلية فيجب أن يقرر بمقتضی نص في القانون ويتفرع على ذلك قيام قرينة على توافر الأهلية ، من شأنها إلقاء عبء الإثبات على عاتق من يتمسك بعدم الأهلية (انظر المادة 200 من المشروع).
وقد أحيل فيها تقدم إلى قوانين الأحوال الشخصية فيما يتعلق بالأحكام الموضوعية الخاصة بالأهلية . بيد أنه تحسن الإشارة إلى أن الأهلية مناطها التميز ، فيث يوجد التمييز تتوافر الأهلية ، بل وتكون كاملة أو ناقصة تبعا لما إذا كان التمييز كاملا أو ناقصاوتهيمن هذه القاعدة الأساسية على جميع الأحكام الخاصة بالأهلية .
المشروع في لجنة المراجعة
تليت المادة 163 من المشروع .
واقترح معالي السنهورى باشا تعدیل صياغتها كما يأتي لأن الصيغة الجديدة أدل على المعنى المقصود .
فوافقت اللجنة على ذلك و أصبح نصها :
كل شخص أهل للتعاقد مالم يقرر القانون عدم أهليته
ثم قدمت في المشروع النهائي تحت رقم 112 بالنص الآتي :
كل شخص أهل التعاقد ما لم يقرر القانون سلب أهليته أو الحد منها ..
المشروع في مجلس النواب
وافق المجلس على المادة دون تعديل تحت رقم 112 .
المشروع في مجلس الشيوخ
مناقشات لجنة القانون المدني :
محضر الجلسة السادسة
تليت المادة 112 وهذا نصها :
كل شخص أهل التعاقد مالم يقرر القانون سلب أهليته أو الحد منها، فاعترض سعادة الرئيس على عبارة (مالم يقرر القانون سلب أهليته أو الحد منها)، لأن القانون لا يسلب الأهلية ، فقد يكون الشخص مجنونة لم يحجر عليه بعدويكون مع ذلك أهلاً للتعاقد ، وانضم إليه في اعتراضه سعادة علوية باشا مقترحة استبدال عبارة مالم يكن مسلوب الأهلية بعبارة مالم يقرر القانون سلب أهليته .
وإزاء هذه المناقشة اقترح سعادة العشماوي باشا نصاً جديدة للمادة هو (كل شخص أهل للتعاقد مالم تسلب أهليته أو يحد منها بحكم القانون) .
قرار اللجنة :
وافقت اللجنة بالإجماع على هذا النص المعدل .
وأصبح رقم المادة 109 .
مناقشات المجلس :
وافق المجلس على المادة كما عدلتها اللجنة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لئن كان مؤدى نص المادتين 24 و 25/ 4 من قانون العقوبات أن كل حكم بعقوبة جناية يستتبع حتماً وبقوة القانون حرمان المحكوم عليه من حق إدارة أشغاله الخاصة بأمواله وأملاكه مدة اعتقاله، على أن يعين قيماً لهذه الإدارة تقره المحكمة فإذا لم يعينه عينته المحكمة المدنية التابع لها محل إقامته فى غرفة مشورة بناء على طلب النيابة العامة أو ذي المصلحة فى ذلك إلا إذا وجد فى قانون العقوبات أو غيره من القوانين الأخرى واللوائح الخصوصية نص يستثنى المحكوم عليه من هذا الحرمان مما مؤداه - وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض - عدم أهلية المحكوم عليه للتقاضي أمام المحاكم سواء بصفته مدعياً أو مدعى عليه ويمثله فى ذلك - طوال مدة تنفيذ العقوبة - القيم الذي تعينه المحكمة المدنية لذلك بناء على طلب النيابة أو ذي المصلحة إلا انه إذا اختصم المحكوم عليه بصفته الشخصية وصدر الحكم عليه بهذه الصفة وكان السبيل الوحيد للطعن فى هذا الحكم بطريق النقض هو التقرير به بذات الصفة التي كان مختصماً بها أمام محكمة الاستئناف فإن طعنه بالنقض على هذا النحو يكون مقبولاً شكلاً .
(الطعن رقم 305 لسنة 69 جلسة 2000/02/06 س 51 ع 1 ص 267 ق 46)
2- إن كان مؤدى المادتين 24 و 25 من قانون العقوبات أن كل حكم يصدر بعقوبة جناية يستتبع حتماً وبقوة القانون عدم أهلية المحكوم عليه للتقاضى أمام المحاكم سواء بصفته مدعياً أو مدعى عليه بما يوجب إن لم يعين هو قيماً تقره المحكمة أن تتولى المحكمة المدنية التابع لها محل إقامته فى غرفة مشورتها تعيين هذا القيّم بناء على طلب النيابة العامة أو من له مصلحة فى ذلك بما مؤداه أنه إذا اختصم أو خاصم بشخصه فى الدعوى خلال فترة تنفيذه للعقوبة الأصلية المقضى بها عليه دون القيّم الذى يمثله قانوناً من قبل المحكمة فإن إجراءات هذه الخصومة تكون باطلة بقوة القانون ، إلا أن المشرع فى قانون المرافعات القائم اتجه إلى الإقلال من دواعى البطلان فعنى _ وعلى ما ورد فى المذكرة الإيضاحية _ بمعالجة نظرية البطلان عناية تتفق وأثرها البالغ على إجراءات التقاضى ، وصدر فى تنظيمه لها عن اعتباره الإجراءات وسيلة لتحقيق الغاية المقصودة منها ، واعتباره الشكل أداة نافعة فى الخصومة وليس مجرد شكل يحجب العدالة عن تقصى الحقيقة ، فتناول فى المادة 20 منه تنظيم حالات البطلان بسبب العيوب الشكلية التى تعيب الإجراءات وقدر أن الشكل ليس سوى وسيلة لتحقيق غاية معينة فى الخصومة فإذا ثبت تحقق الغاية رغم تخلف هذا الشكل ، فإن من التمسك بالشكليات الاعتداد بالبطلان .
(الطعن رقم 1792 لسنة 55 جلسة 1997/11/27 س 48 ع 2 ص 1327 ق 246)
3- حكم شهر الإفلاس وإن كان يترتب عليه غل يد المفلس عن إدارة أمواله أو التصرف فيها وفقد أهليته فى التقاضي بشأنها ويحل محله فى مباشرة تلك الأمور وكيل الدائنين الذي عينته المحكمة فى حكم شهر الإفلاس، ذلك حتى لا تضار جماعة الدائنين من نشاطه القانوني فيما يمسهم من حقوق، إلا أن تلك العلة تنتفي إذا اقتصر هذا النشاط على اتخاذ الإجراءات التحفظية التي قد يفيد المفلس فيها دائنيه دون ضرر على حقوقهم، ومنها رفع الطعون بالاستئناف فى الأحكام الصادرة ضد التفليسة دون مباشرة إجراءات نظرها، وكان من شأن صدور حكم برد اعتبار المفلس أثناء نظر الدعوى وإنهاء إجراءات التفليسة تبعاً له لوفائه بكافة ديونها تطبيقاً لحكم المادة 419/ أولاً من قانون التجارة، أن تزول آثار الإفلاس بأجمعها ومنها غل يد المفلس عن إدارة أمواله وعودة حق التقاضي إليه بشأنها من يوم صدوره، فيحق له الاستمرار فى الدعاوى التي رفعت ضده من قبل عن تلك الأموال.
(الطعن رقم 2272 لسنة 54 جلسة 1992/01/20 س 43 ع 1 ص 189 ق 42)
4- لئن كان الطاعن قد سبق شهر إفلاسه بموجب الحكم الصادر بجلسة 27/ 5/ 1958 فى الدعوى رقم 61 لسنة 1957 إفلاس المنصورة، وهو ما يترتب عليه فقده أهلية التقاضي بشأن أمواله، إلا أنه لما كان الثابت أنه قد رد إليه اعتباره أثناء نظر دعوى الإفلاس لوفائه بكافة ديون التفليسة بموجب الحكم الصادر فيها بتاريخ29/ 12/ 1981، وهو ما من شأنه عودة حق التقاضي إليه من يوم صدور ذلك الحكم، وإذ كان الطاعن طرفاً فى الحكم المطعون فيه فإنه يجوز له الطعن بالنقض فيه.
(الطعن رقم 2272 لسنة 54 جلسة 1992/01/20 س 43 ع 1 ص 189 ق 42)
5- العبرة بتوافر أهلية المتعاقد وقت إبرام التصرف و لا يؤثر زوالها بعد ذلك فى صحته و قيامه .
(الطعن رقم 1180 لسنة 49 جلسة 1983/03/24 س 34 ع 1 ص 763 ق 159)
6- القرار رقم 343 لسنة 1957 بإلغاء جميع القرارات الصادرة بإخضاع أشخاص أو شركات أو مؤسسات لأحكام الأمر العسكرى رقم 4 لسنة 1956 نص فيه على أن يعمل به إعتباراً من 1957/5/4 و من ثم يتعين إعمالاً لذلك النص أن يعود إلى هؤلاء الأشخاص حقهم فى التقاضى إعتباراً من ذلك التاريخ و تزول عن مدير عام الإدارة العامة لأموال المعتقلين و المراقبين . صفته فى تمثيلهم أمام القضاء بحلول ذلك التاريخ ، و إذ لم ينص ذلك القرار على أن تكون للمدير العام المذكور صفة النيابة القانونية عن هؤلاء الأشخاص إلى أن تسلم الأموال إلى أصحابها ، فإن لازم ذلك أن تعود إلى الأشخاص أهليتهم فور صدور القرار إعتباراً من 4 / 5/ 1957
(الطعن رقم 390 لسنة 34 جلسة 1982/01/21 س 33 ع 1 ص 149 ق 29)
7- لا يشترط لقبول الدعوى المستعجلة أن تتوافر للخصوم الأهلية التامة للتقاضى لأن الحكم المطلوب يكون حكماً وقتياً لا يمس الموضوع ، و لأن شرط الإستعجال يتنافى مع ما يحتاجه الحرص على صحة التمثيل القانونى من وقت .
(الطعن رقم 69 لسنة 48 جلسة 1981/03/26 س 32 ع 1 ص 960 ق 177)
8- النص فى المادة 216 من قانون التجارة على أن الحكم باشهار الافلاس يوجب بمجرد صدوره رفع يد المفلس من تاريخ هذا الحكم عن إدارة جميع أمواله و عن إدارة الأموال التى تؤول إليه الملكية فيها و هو فى حالة الإفلاس - يدل على أن حكم إشهار الإفلاس يغل يد المدين عن إدارة أمواله و التصرف فيها من يوم صدور الحكم بذلك ، و ينشأ لجماعة الدائنين حق خاص على هذه الأموال و يصبحون من الغير بالنسبة إلى تصرفاته المدنية .
(الطعن رقم 460 لسنة 48 جلسة 1980/12/22 س 31 ع 2 ص 2078 ق 387)
9- مؤدى نص المواد 8 ، 24 ، 4/25 عقوبات ، و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة ، أنه لا يمكن القول على وجه التعميم بأن كل حكم بعقوبة جناية يستلزم حتما ترتيب الأحكام الواردة فى الكتاب الأول من قانون العقوبات و منها الحرمان المنصوص عليه فى المادة 4/25 من هذا القانون ، و أن القاعدة فى ذلك وفقا للمادة الثانية منه هى مراعاة أحكام هذا الباب بالنسبة للجرائم المنصوص عليها فى قانون العقوبات و الجرائم الواردة فى القوانين الأخرى ما لم يرد فى تلك القوانين نصوص باستثناء تطبيق أحكام الكتاب المذكور ، و هذا الاستثناء قد يكون كليا أى مانعا من تطبيق جميع الأحكام أو جزئيا أى مانعا من تطبيق بعضها مع سريان باقيها ، و لما كان الحكم الصادر من المحكمة العسكرية العليا بتوقيع عقوبة السجن على الطاعن جاء بالتطبيق لاحكام قانون الأحكام العسكرية رقم 25 لسنة 1966 الذى يخضع طائفة من الأفراد المدنيين متى ارتكبوا جرائم معينة منها الجرائم المنصوص عليها فى القوانين الخدمة العسكرية و الوطنية الواردة بالقانون رقم 505 لسنة 1955 و القوانين المعدلة له ، و كان الحكم الصادر بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة أو السجن من المحاكم العسكرية عملاً بقانون المحاكم العسكرية آنف الذكر يستتبع و بطريق اللزوم و بقوه القانون حرمان المحكوم عليه من الحقوق و المزايا المبينة بالمادة 25 من قانون العقوبات ، لا يغير من ذلك أن المادة 123 من قانون الأحكام العسكرية عددت العقوبات التبعية التى تستتبع كل حكم منها يقضى بعقوبة الجناية و قصرتها على عقوبتين تبعيتين فقط هما الطرد أو الرفت من الخدمة فى القوات العسكرية و الحرمان من التحلى بأى رتبة أو نيشان و هما عقوبتان تندرجان ضمن العقوبات التبعية الواردة بالبندين ( أولا ) و( ثانيا) من المادة 25 من قانون العقوبات و لم تذكر حرمان المحكوم عليه من إدارة أشغالة الخاصة بأموالة و أملاكة المشار إليها بالبند ( رابعا ) منها ، لأن المادة 129 من قانون الأحكام العسكرية تضمنت النص على مبدأ يتفق و السياسة العامة للتجريم بالنسبة لتحقيق أهداف العقوبة فنصت على وجوب تطبيق القانون الأشد إذا كان هناك قانون آخر يقضى بتحريم أحد الأفعال المعاقب عليها بالقانون العسكرى ، و استهدف المشرع من ذلك - و على ما جلته المذكرة الإيضاحية - إلتقاء التشريعات العسكرية بالتشريعات العامة فى الدولة ، مما مفاده وجوب تطبيق العقوبة التبعية المشار إليها بالبند ( رابعا ) من المادة 25 عقوبات ، باعتبارها تتضمن تشديدا للعقوبة وردت بقانون العقوبات .
(الطعن رقم 1290 لسنة 48 جلسة 1979/06/13 س 30 ع 2 ص 620 ق 302)
10- إذ خول المشرع لرئيس الجمهورية بمقتضى القانون رقم 162 لسنة 1958 بشأن حالة الطوارئ ، سلطة إتخاذ تدابير من بينها إصدار الأمر بفرض الحراسة ، إنما قصد وضع نظام لإدارة أموال الخاضعين للحراسة على النحو المقرر بالأمر العسكرى رقم 5 لسنة 1956 يغل يدهم عن إدارتها أو التصرف فيها ، فلا يكون لهم تبعاً لذلك حق التقاضى بشأنها ، و ليس فى ذلك - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - نقص فى أهلية الخاضع للحراسة ، و إنما هو بمثابة حجز على أمواله ، يقيد من سلطته عليها ، فيباشرها نيابة عنه الحارس المعين طبقاً للقانون لأسباب تقتضيها المصلحة العامة للدولة .
(الطعن رقم 411 لسنة 36 جلسة 1972/03/09 س 23 ع 1 ص 339 ق 54)
11- لئن كان نظام الرهبنة لدى طائفة الأقباط الأرثوذكس - و هو على ما جرى به قضاء هذه المحكمة معترف به فى مصر - يقضى بأن كل ما يقتنيه الراهب بعد إنخراطه فى سلك الرهبنة من غير طريق الميراث أو الوصية يعتبر ملكا للبيعة التى كرس حياته لخدمتها فإن ذلك لا يرجع إلى إنعدام شخصية أو أهلية الراهب و إنما إلى أنه يعتبر طبقا لقوانين الكنيسة نائبا عن البيعة فى تملكه لهذه الأموال و على ذلك يكون للراهب الحق فى أن يتعاقد بإسمه أو بإسم البيعة التى ينتمى إليها و يكون للبيعة فى الحالة الأولى أن تتمسك بإنصراف أثر العقد إليها و لا يكون للمتعاقد مع الراهب شأن فى ذلك ما دام العقد قد إنعقد صحيحاً مرتباً لكل آثاره .
(الطعن رقم 494 لسنة 34 جلسة 1968/06/20 س 19 ع 2 ص 1202 ق 180)
12- إن قرارات المجالس الحسبية بإستمرار الوصاية على القاصر بعد بلوغه سن الرشد تنتج آثارها فتحد من أهليته من تاريخ صدورها و تكون حجة على الكافة من تاريخ تسجيلها ، و ليس فى القانون من نص يستفاد منه وجوب تراخى أثر هذه القرارات بالنسبة للغير حسن النية حتى نشرها فى الجريدة الرسمية وإذن فمتى كان الواقع هو أن جميع عقود البيع موضوع النزاع قد صدرت من ناقص الأهلية إلى المطعون عليهم بعد صدور قرار المجلس الحسبى بإستمرار الوصاية عليه و تسجيله فإن الحكم المطعون فيه إذ قضى بصحة هذه العقود تأسيسا على أن قرار المجلس الحسبى بإستمرار الوصاية لم ينشر فى الجريدة الرسمية وفقا للمادة 30 من اللائحة التنفيذية لقانون المجالس الحسبية الصادر فى 24 من نوفمبر سنة 1925 يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون
(الطعن رقم 136 لسنة 20 جلسة 1952/04/10 س 3 ع 3 ص 931 ق 136)
توافر أهلية التعاقد :
الأصل أن كل شخص مهما بلغ عمره أهل للتعاقد، إلا أن القانون قد تناول تنظيم الأهلية بنصوص آمره جعل البطلان المطلق الجزاء على مخالفتها وقد اعتبر القانون الصبي الذي لم يبلغ السابعة من عمره عديم الأهلية ثم تدرج في تخويل من جاوزها بعض التصرفات الى أن يبلغ الحادية والعشرين فيصبح كامل الأهلية وأهل لكافة التعاقدات ما لم يصدر حكم من القضاء بسلب أهليته وفقا لما نصت عليه المواد التالية، أو تسلب أهليته بنص في القانون كنص الفقرة الرابعة المادة 25 من قانون العقوبات .
وعبء إثبات انتفاء الأهلية اللازمة للتصرف المبرم، يقع على من يدعيه، فإن تمكن من ذلك جاز له التمسك بإبطال التصرف، حتى لو كان ناقص الأهلية أو فاقدها، قد إدعى بأنه كاملها، ولا يجوز حينئذ للمتعاقد الآخر أن يتمسك بحسن نينه وبأنه كان يعتقد أنه يتعامل مع شخص أما إن لجأ ناقص الأهلية إلى كامل الأهلية يدل مظهره على ذلك، أما إن لجأ ناقص الأهلية إلى طرق احتيالية لإيهام المتعاقد معه بأنه كامل الأهلية، فإنه إن تمسك بإبطال التصرف، تعين القضاء له بذلك، لكن يكون للمتعاقد معه الرجوع عليه بسبب هذا التحايل التقصيري بما لحقه من خسارة أو ما فاته من کسب باختصام وليه أو وصيه کنائب قانونی له، فإن انتفى التحايل واقتصر دون ناقص الأهلية على مجرد الكذب فلا مسئولية.
تقييد الأهلية بعقوبة الجناية :
يترتب على صدور حكم حضوری بعقوبة جناية تقييد حرية المحكوم عليه يستتبع ذلك بقوة القانون حرمانه من إدارة أمواله والتصرف فيها وإلا كانت مشوبة ببطلان جوهري ويباشر هذه الأعمال عنه قيم تعينه المحكمة المدنية بغرفة مشورتها ويمتد الحرمان لجميع أعمال الإدارة والتصرف ويوقف سريان التوكيل السابق صدوره من المحكوم عليه وتبطل التصرفات التي باشرها الوكيل اعتباراً من تاريخ صدور الحكم وإذا قدم تاريخ التصرف غشاً كان محلاً للطعن بالصورية.
ويصح التوكيل برفع الطعن بالنقض إذ لا يمتد للأعمال المحظورة ولا ينال منه تضمينه هذه الأعمال إذ يبطل الشق المتعلق بها وحده . (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الثاني الصفحة/458)
الأصل في الشخص توافر الأهلية، أما عدم الأهلية فيجب أن يقرر بمقتضى نص في القانون ويتفرع على ذلك قيام قرينة على توافر الأهلية من شأنها إلقاء عبء الإثبات على عاتق من يتمسك بعدم الأهلية.
والأهلية مناطها التمييز، فحيث يوجد التمييز تتوافر الأهلية، وتكون الأهلية كاملة أو ناقصة تبعاً لما إذا كان التمييز كاملاً أو ناقصاً، وتهيمن هذه القاعدة الأساسية على جميع الأحكام الخاصة بالأهلية.
ويراعى في ذلك الأهلية التي تتطلبها الأحكام الموضوعية في مسائل الأحوال الشخصية، سواء الواردة في القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية، أو في الرأي الراجح من المذهب الحنفي.
تقييد الأهلية بعقوبة الجناية :
تنص المادة 25 من قانون العقوبات على أن: كل حكم بعقوبة جناية يستلزم حتماً حرمان المحكوم عليه من الحقوق والمزايا الآتية :
أولاً: القبول في أي خدمة في الحكومة مباشرة أو بصفة متعهد أو ملتزم أيا كانت أهمية الخدمة.
ثانياً: التحلي برتبة أو نیشان.
ثالثاً: الشهادة أمام المحاكم مدة العقوبة إلا على سبيل الإستدلال.
رابعاً: إدارة أشغاله الخاصة بأمواله وأملاكه مدة اعتقاله وبعين قيماً لهذه الإدارة تقره المحكمة، فإذا لم يعينه عينته المحكمة المدنية التابع لها محل إقامته في غرفة مشورتها بناءً على طلب النيابة العمومية أو ذي مصلحة في ذلك ويجوز للمحكمة أن تلزم القيم الذي تنصبه بتقديم كفالة.
ويكون القيم الذي تقره المحكمة أو تنصبه تابعاً لها في جميع ما يتعلق بقوامته.
ولا يجوز للمحكوم عليه أن يتصرف في أمواله إلا بناءً على إذن من المحكمة المدنية المذكورة وكل التزام يتعهد به مع عدم مراعاة ما تقدم يكون ملغى من ذاته وترد أموال المحكوم عليه بعد انقضاء مدة عقوبته أو الإفراج عنه ويقدم له القيم حسابا عن إدارته.
(خامساً).... الخ.
ويبين من هذا النص ما يأتي :
(أ) أن الحرمان من الحقوق الموضحة بالمادة ومنها تلك الخاصة بإدارة الشخص أشغاله الخاصة بأمواله مدة اعتقاله، يستلزم الحكم على الشخص بعقوبة جناية أو عقوبة الجناية هي : الإعدام - السجن المؤبد - السجن المشدد - السجن (م 10 من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم 95 لسنة 2003).
أما إذا حكم عليه في جناية بعقوبة الجنحة، بالتطبيق للمادة 17 من قانون العقوبات فلا تطبق عقوبة الحرمان من الإدارة.
وكذلك إذا حكم عليه في جنحة بعقوبة الحبس.
(ب) الحد من أهلية المحكوم عليه بعقوبة الجناية لا يجئ نتيجة خلل يعيب فيه العقل أو التدبير أو يصعب عليه التعبير، فهو خال من كل ذلك ولكنه يجئ عقوبة تبعية توقع بقوة القانون ولو لم ينص عليها في الحكم .
(ج) لا توقع هذه العقوبة التبعية بالنسبة للأحكام الصادرة من محاكم غير عادية عن جرائم مؤثمة بأمر من أوامر السيادة، لأنها لا توقع إلا على الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات أو الواردة في القوانين الأخرى واللوائح الخاصة.
ومثال الأحكام المشار إليها الأحكام الصادرة من محكمة الثورة.
الأهلية في الدعاوى المستعجلة :
لا يشترط أن تتوافر في الدعاوى المستعجلة الشروط اللازمة الأهلية التقاضي أمام القضاء العادي، بل يكفي أن يكون لرافع الدعوى مصلحة محققة وحالة في الإجراء والسبب في ذلك يرجع إلى أمرين :
1- أن طبيعة الإستعجال وما يقتضيه من سرعة اللجوء إلى القاضى المستعجل لاتخاذ إجراءات سريعة لدرء الخطر العاجل قد تتعارض مع المطالبة بأهلية التقاضي استادی والتي يلزم لها شروط معينة ولبعضها تراخيص خاصة من هيئات خاصة قد تستغرق وقتاً للحصول عليها.
2- أن الحكم الصادر من القاضي المستعجل له حجية مؤقتة، ولا يمس أصل و الذي يبقى دائماً سليماً بالرغم من صدوره على أن هذا الاستثناء يقتصر على آلية الإجرائية دون أهلية الاختصام فهذه يجب توافرها أيضاً في الخصومة المستعجلة.
يجوز لناقص الأهلية الذي بلغ الثماني عشرة سنة أو حتى قبل ذلك في حالة الضرورة القصوى وكذلك للسفيه رفع الدعوى أمام القضاء المستعجل.
إلا أن ذلك غير جائز بالنسبة لعديم الأهلية كالصبي غير المميز والمجنون والمعتوه، لأنه لا يدري ما يقول أو يفعل ولا يسأل عن أعماله.
- أنه يجوز لناقص الأهلية أن يرفع الدعوى أمام القاضي المستعجل إذا تعارضت حقوقه مع مصلحة الوصي أو القيم أو الولي مهما كان الباعث على ذلك.
- أن يرفع الوصي الدعوى المستعجلة بغير إذن من المحكمة.
- أن ترفع الدعوى من أحد ناظری الوقف المعينين بشرط عدم الإنفراد في التقاضي أمام القاضي المستعجل إذا لم يوافق الناظر الآخر على التقاضي أمامه.
- أن ترفع الدعوى من المستحق للوقف أمام القاضى المستعجل للمحافظة على حقوقه قبل الناظر أو للمحافظة على حقوق الوقف قبل الغير إذا أهمل أو تراخى المتولي في صيانتها إذا كان الوقف شاغراً .
كما يجوز ذلك للوكيل في حالة الوكالة العامة أو لأحد الشركاء على الشيوع بالنسبة لكافة الأموال المشتركة أو المدير الشركة بغير ترخيص من مجلس الإدارة. (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الثاني الصفحة/145)
وقد نص التقنين المدني على أن «كل شخص أهل للتعاقد ما لم تسلب أهليته ، أو يحد منها بحكم القانون ( المادة 109)، ومؤدى ذلك أن الأصل في كل شخص أنه يملك أهلية الأداء بالنسبة إلي جميع التصرفات وأنه لا يكون فاقد الأهلية أو ناقصها إلا استثناء وبناء على نص في القانون - وقد نصت المادة 48 مدني على أنه «ليس لأحد النزول عن أهليته ولا التعديل في أحكامها »، أي أن أحكام الأهلية تعتبر متعلقة بالنظام العام، فيقع باطلاً كل اتفاق على مخالفتها كالإتفاق في عقد الزواج على أن الزوجة تعتبر حتى بعد بلوغها سن الرشد ناقصة الأهلية لا يجوز لها أن تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها. (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقص، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الأول الصفحة/ 758)
ومؤدى ذلك أن الأصل في كل شخص أنه يمتلك أهلية الأداء بالنسبة إلى جميع التصرفات وأنه لا يكون فاقد الأهلية أو ناقصها الا استثناء وبناء على نص في القانون . (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقص، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الثاني الصفحة/ 321)
الشخصية القانونية وأهلية الوجوب وأهلية الأداء والولاية : إذا كان النص يتعرض لاهلية الأداء ، فمن المناسب التمييز بينها وبين الشخصية القانونية من جهة وبين اهلية الوجوب من جهة ثانية وبين الولاية من جهة ثالثة فوفقاً للفقه التقليدي تتحد أهلية الوجوب مع الشخصية القانونية إذ يعرف اهلية الوجوب بأنها صلاحية الشخص لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه فهى بهذا التعريف الشخص ذاته منظوراً إليه من الناحية القانونية (السنهوري في الجزء الأول من الوسيط بند 145 - الصدة في المصادر بند 129) ولكن الاتجاه الحديث يرى التمييز بين الشخصية القانونية وبين أهلية الوجوب ، فالشخصية القانونية هي الصلاحية لثبوت الحقوق والتحمل بالالتزامات القانونية وإذ كان مناط هذه الصلاحية هو ما يمثله الكائن من قيمة اجتماعية تبرر إثبات هذه الصلاحية له، واذ كان الإنسان سواء توافر له الإدراك والوعى أو لم يتوافرا يمثل قيمة اجتماعية بالنسبة إلى ما يستهدفه القانون من غاية اجتماعية لأنه حجر الزاوية في النظام الاجتماعي كما أن خصائص المجتمع الواقعية والمثالية تفرض الإقرار بتوافر القيمة الاجتماعية لجماعات الأشخاص ومجموعات الأموال التي لها كيان مستقل يحقق نشاطه مصالح انسانية اساسية فان لازم ذلك أن تثبت الشخصية القانونية لكل انسان سواء توافر له الإدراك والوعي أو لو يتوافر، وان تثبت كذلك للأشخاص الاعتبارية على النحو الذي أوضحناه في التعليق على المادتين 52 و 53 ، أما أهلية الوجوب ، فهي ليست الصلاحية لإكتساب الحقوق والتحمل بالالتزامات ، وإنما هي مضمون هذه الصلاحية أي مقدار ونوع ما ثبت للشخص القانوني من حقوق والتزامات، فبالنسبة للإنسان فإنه وإن كان صالحاً بذاته وبغض النظر عن جنسه أو جنسيته لان تثبت له الحقوق والالتزامات إلا أن ذلك لا يمنع من تفاوت قدر ونوع الحقوق والالتزامات فقد لا تثبت الحقوق السياسية للمرأة أو الاجنبی ومن ثم تتحدد أهلية الوجوب بالنسبة لهم في قدر ما ثبت لهم من حقوق والتزامات ومن هنا يعرف الإتجاه الحديث اهلية الوجوب بأنها قدر ما يثبت فعلاً للشخص القانوني من حقوق والتزامات، وتتميز بذلك عن الشخصية القانونية فإذا كانت الشخصية القانونية هي الصلاحية المجردة لثبوت الحقوق والواجبات، فإن اهلية الوجوب هي مقدار ونوع الحقوق والواجبات التي يصلح الشخص لأن تثبت له أما أهلية الأداء ، فهي قدرة الشخص على مباشرة ما ثبت له من حقوق وواجبات ومناط ذلك هو مدى إدراكه وتمييزه أهلية الأداء هي قدرة الشخص على التعبير بنفسه عن إرادته تعبيراً صحيحاً منتجاً لآثاره في حقه وذمته أو هي قدرته على إجراء التصرفات القانونية لحساب نفسه وهكذا يتضح تدرج مضمون الاصطلاحات الثلاثة ، فالشخصية القانونية هي صلاحية الشخص لأن تثبت له الحقوق والواجبات، واهلية الوجوب هي قدر ونوع الحقوق التي يصلح الشخص لأن تثبت له ، أهلية الأداء هي قدرة الشخص على مباشرة ما ثبت له من حقوق وواجبات بالتعبير عن ارادته تعبيراً صحيحاً منتجاً لآثاره القانونية في حق نفسه وذمته وهي على هذا النحو مرتبطة بالتمييز أما الولاية فهي قدرة الشخص على إنتاج الآثار القانونية في حق غيره فهي سلطة شرعية يمنحها القانون لشخص تجعل له الحق في أن يقوم بعمل ينتج أثره في حق شخص آخر. (يراجع في تفصيل ذلك المؤلف في الوجيز في نظرية الحق ص 94 وما بعدها وص 134 وما بعدها – ويراجع الدكتور حسن کيره في أصول القانون الطبعة الثانية بند 300 وما بعده - إبراهيم دسوقي وجلال إبراهيم في نظرية الحق طبعة 1994 بند 127 وما بعده - ويراجع الصدة في المصادر بند 130).
نطاق أهلية الاداء : لما كاد أهلية الأداء تعني قدرة الشخص على التعبير عن إرادته تعبيراً صحيحاً ينتج أثره القانوني في حق نفسه ومن ثم كانت مرتبطة بالتمييز وجوداً وعدماً واكتمالاً ونقصاً لارتباط الإرادة بالتمييز، فإنه لا يكون هناك محل لإعمال أحكام أهلية الأداء إلا حيث يتوقف انتاج الآثار القانونية على الارادة ومن ثم يتحدد نطاق أعمالها في الأعمال القانونية حيث يترتب الأثر القانوني نتيجة اتجاه الإرادة إليه ، دون الوقائع المادية التي يستقل القانون بترتيب الأثر القانوني على مجرد وقوعها دون أن يعتد بدور الإرادة فيها ولو كانت اختيارية ( المؤلف في المرجع السابق ص 134 وما بعدها – ويراجع في تفصيل التفرقة بين الأعمال القانونية والوقائع المادية السنهوري في بند 32 وفي الجزء الثانی بندی 1 و 2 - أصول القانون الدكتور حسن کیره الطبعة الثانية ص 1037 - أصول الإثبات الدكتور سليمان مرقس في البنود 211 حتى 213 .
والأصل في الشخص أن يكون كامل الاهلية ما لم يسلبه القانون اهليته او يحد منها، ويقع عبء اثبات ذلك على من يدعيه ولو كان هو ناقص الأهلية ( السنهوري بند 148).
ونظام الرهبنة لا يكال من الأهلية :
كما أن فرض الحراسة الإدارية لا ينال من اهلية الشخص الذي فرضت الحراسة على أمواله .
وأحكام الأهلية من النظام العام فلا يجوز الاتفاق على الحد من اهلية كاملة أو التوسعة في اهلية محدودة أو الإقرار بأهلية معدومة أو الحرمان من اهلية موجودة وإلا كان الاتفاق على ذلك باطلاً (السنهوري بند 149) .
وسلب الأهلية أو الحد منها لا يكون الا وفقاً للقانون ، وهو ما تكفل به المرسوم بقانون رقم 119 لسنة 1952، فمتى اكتمل التمييز لدى الشخص الطبيعي ببلوغه سن الرشد القانوني كان كامل الأهلية ما لم يعرض له عارض من عوارض الاهلية ، وهي الجنون والعته والسفه والغفلة، أو يقم فيه مانع من موانع الاهلية وهي مانع مادي يتمثل في الغيبة ( يراجع التعليق على المادة 32 ) ومانع قانونی وهو الحكم عليه بعقوبة جناية عملاً بالفقرة الرابعة من المادة 20 من قانون العقوبات و مانع طبيعي يتمثل في العاهة المزدوجة والعجز الجسماني .
وضع المحكوم عليه بعقوبة جناية يتحقق ولو صدر الحكم من محكمة عسكرية ولكنه لا يترتب على العقوبة التي تقضي بها هيئة لها صفة السيادة كمحكمة الثورة ثم هو يقتصر على مدة تنفيذ العقوبة. (التقنين المدني في ضوء القضاء والفقه، الأستاذ/ محمد كمال عبد العزيز، طبعة 2003 الصفحة/ 689)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني، الصفحة / 16
سنّ الْبلوغ:
26 - لقدْ جعل الشّارع الْبلوغ أمارةً على تكامل الْعقْل؛ لأنّ الاطّلاع على تكامل الْعقْل متعذّرٌ، فأقيم الْبلوغ مقامه. وقد اخْتلف في سنّ الْبلوغ: فيرى الشّافعيّة والْحنابلة وأبو يوسف ومحمّدٌ من الْحنفيّة، وبرأْيهما يفْتى في الْمذْهب، والأْوْزاعيّ، أنّ الْبلوغ بالسّنّ يكون بتمام خمْس عشْرة سنةً قمريّةً للذّكر والأْنْثى تحْديديّةٌ كما صرّح الشّافعيّة، لخبر ابْن عمر « عرضْت على النّبيّ صلي الله عليه وسلم يوْم أحدٍ وأنا ابْن أرْبع عشْرة سنةً، فلمْ يجزْني ولمْ يرني بلغْت، وعرضْت عليْه يوْم الْخنْدق وأنا ابْن خمْس عشْرة سنةً، فأجازني، ورآني بلغْت». رواه ابْن حبّان، وأصْله في الصّحيحيْن قال الشّافعيّ: ردّ النّبيّ صلي الله عليه وسلم سبْعة عشر من الصّحابة وهمْ أبْناء أرْبع عشْرة سنةً، لأنّه لمْ يرهمْ بلغوا، ثمّ عرضوا عليْه وهمْ أبْناء خمْس عشْرة، فأجازهمْ، منْهمْ زيْد بْن ثابتٍ، ورافع بْن خديجٍ، وابْن عمر». وروي عنْ أنسٍ أنّ النّبيّ صلي الله عليه وسلم قال: «إذا اسْتكْمل الْموْلود خمْس عشْرة سنةً كتب ما له وما عليْه، وأخذتْ منْه الْحدود».
ويرى الْمالكيّة أنّ الْبلوغ يكون بتمام ثماني عشْرة سنةً، وقيل بالدّخول فيها، أو الْحلم أي الإْنْزال، لقوْله صلي الله عليه وسلم «رفع الْقلم عنْ ثلاثٍ: عن الصّبيّ حتّى يحْتلم..»، أو الْحيْض لقوْله «لا يقْبل اللّه صلاة حائضٍ إلاّ بخمارٍ» أو الْحبل للأْنْثى، أو الإْنْبات الْخشن للْعانة وقدْ أوْرد الْحطّاب خمْسة أقْوالٍ في الْمذْهب، ففي روايةٍ ثمانية عشر وقيل سبْعة عشر، وزاد بعْض شرّاح الرّسالة ستّة عشر، وتسْعة عشر، وروى ابْن وهْبٍ خمْسة عشر لحديث ابْن عمر.
ويرى أبو حنيفة أنّ بلوغ الْغلام بالسّنّ هو بلوغه ثماني عشْرة سنةً، والْجارية سبْع عشْرة سنةً. وذلك لقوله تعالي ( ولا تقْربوا مال الْيتيم إلاّ بالّتي هي أحْسن حتّى يبْلغ أشدّه) قال ابْن عبّاسٍ رضي الله عنه ثماني عشْرة سنةً وهي أقلّ ما قيل فيه، فأخذ به احْتياطًا. هذا أشدّ الصّبيّ، والأْنْثى أسْرع بلوغًا من الْغلام فنقصْناها سنةً ويرْجع في تفْصيل الأْحْكام إلى مصْطلحي احْتلامٌ وبلوغٌ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع ، الصفحة / 151
أَهْلِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأْهْلِيَّةُ مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ لِكَلِمَةِ (أَهْلٍ) وَمَعْنَاهَا لُغَةً - كَمَا فِي أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ -: الصَّلاَحِيَّةُ.
وَيَتَّضِحُ تَعْرِيفُ الأْهْلِيَّةِ فِي الاِصْطِلاَحِ مِنْ خِلاَلِ تَعْرِيفِ نَوْعَيْهَا: أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَأَهْلِيَّةِ الأْدَاءِ.
فَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ هِيَ: صَلاَحِيَّةُ الإْنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
وَأَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ هِيَ: صَلاَحِيَّةُ الإْنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّكْلِيفُ:
2 - التَّكْلِيفُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: إِلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ.
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ كَذَلِكَ، حَيْثُ قَالُوا: التَّكْلِيفُ إِلْزَامُ الْمُخَاطَبِ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ.
فَالأْهْلِيَّةُ وَصْفٌ لِلْمُكَلَّفِ.
ب - الذِّمَّةُ:
3 - الذِّمَّةُ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: الْعَهْدُ وَالضَّمَانُ وَالأَْمَانُ.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَإِنَّهَا: وَصْفٌ يُصَيِّرُ الشَّخْصَ بِهِ أَهْلاً لِلإِْلْزَامِ وَالاِلْتِزَامِ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الأْهْلِيَّةِ وَالذِّمَّةِ: أَنَّ الأْهْلِيَّةَ أَثَرٌ لِوُجُودِ الذِّمَّةِ.
مَنَاطُ الأْهْلِيَّةِ وَمَحَلُّهَا:
4 - الأْهْلِيَّةُ بِمَعْنَاهَا الْمُتَقَدِّمِ مَنَاطُهَا، أَيْ مَحَلُّهَا الإْنْسَانُ، مِنْ حَيْثُ الأْطْوَارُ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا، فَإِنَّهُ فِي الْبِدَايَةِ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الأْهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْجَنِينِ، وَبَعْدَ الْوِلاَدَةِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ يَكُونُ طِفْلاً، فَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الأْهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالطِّفْلِ، وَبَعْدَ التَّمْيِيزِ تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الأْهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْمُمَيَّزِ إِلَى أَنْ يَصِلَ بِهِ الأْمْرُ إِلَى سِنِّ الْبُلُوغِ، فَتَثْبُتُ لَهُ الأْهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، كَطُرُوءِ عَارِضٍ يَمْنَعُ ثُبُوتَ تِلْكَ الأْهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ لَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى أَقْسَامِ الأْهْلِيَّةِ وَعَوَارِضِهَا.
أَقْسَامُ الأْهْلِيَّةِ وَأَنْوَاعُهَا:
5 - الأْهْلِيَّةُ قِسْمَانِ: أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ، وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً.
وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ قَدْ تَكُونُ كَامِلَةً، وَقَدْ تَكُونُ نَاقِصَةً.
وَكَذَا أَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ:
6 - سَبَقَ أَنَّ مَعْنَى أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ: صَلاَحِيَّةُ الشَّخْصِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ مَعًا، أَوْ لَهُ، أَوْ عَلَيْهِ.
وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ تَنْقَسِمُ فُرُوعُهَا وَتَتَعَدَّدُ بِحَسَبِ انْقِسَامِ الأْحْكَامِ، فَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِبَعْضِ الأْحْكَامِ، وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِبَعْضِهَا أَصْلاً، وَهُوَ أَهْلٌ لِبَعْضِهَا بِوَاسِطَةِ رَأْيِ الْوَلِيِّ، فَكَانَتْ هَذِهِ الأْهْلِيَّةُ مُنْقَسِمَةً نَظَرًا إِلَى أَفْرَادِ الأْحْكَامِ، وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الصَّلاَحُ لِلْحُكْمِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلاً لِحُكْمِ الْوُجُوبِ بِوَجْهٍ كَانَ هُوَ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ، وَمَنْ لاَ فَلاَ.
وَمَبْنَى أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ هَذِهِ عَلَى الذِّمَّةِ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ الأْهْلِيَّةَ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ وُجُودِ ذِمَّةٍ صَالِحَةٍ؛ لأِنَّ الذِّمَّةَ هِيَ مَحَلُّ الْوُجُوبِ، وَلِهَذَا يُضَافُ إِلَيْهَا وَلاَ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ، وَلِهَذَا اخْتَصَّ الإْنْسَانُ بِالْوُجُوبِ دُونَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا ذِمَّةٌ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الذِّمَّةِ لِلإْنْسَانِ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، حَتَّى يَكُونَ صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ مِلْكُ النِّكَاحِ بِتَزْوِيجِ الْوَلِيِّ إِيَّاهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِعَقْدِ الْوَلِيِّ.
أَنْوَاعُ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ:
7 - أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ نَوْعَانِ:
أ - أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ النَّاقِصَةُ، وَتَتَمَثَّلُ فِي الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، بِاعْتِبَارِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً عَنْ أُمِّهِ ذَا حَيَاةٍ خَاصَّةٍ، فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ كَمَا سَيَأْتِي، لاَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ ذِمَّتَهُ لَمْ تَكْتَمِلْ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
ب - أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ الْكَامِلَةُ، وَهِيَ تَثْبُتُ لِلإْنْسَانِ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَإِنَّهُ تَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ الْكَامِلَةُ؛ لِكَمَالِ ذِمَّتِهِ حِينَئِذٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَيَكُونُ بِهَذَا صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
ثَانِيًا: أَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ:
8 - سَبَقَ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الأْدَاءِ هِيَ: صَلاَحِيَّةُ الإْنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدَ بِهِ شَرْعًا.
وَأَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ هَذِهِ لاَ تُوجَدُ عِنْدَ الشَّخْصِ إِلاَّ إِذَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ؛ لِقُدْرَتِهِ حِينَئِذٍ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الإْجْمَالِ، وَلِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِبَعْضِ الأْعْبَاءِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ الْقَاصِرَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُهُ مَا دَامَ نُمُوُّهُ لَمْ يَكْتَمِلْ جِسْمًا وَعَقْلاً، فَإِذَا اكْتَمَلَ بِبُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ ثَبَتَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ الْكَامِلَةِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَهْلاً لِلتَّحَمُّلِ وَالأْدَاءِ، بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمُمَيَّزِ، فَإِنَّهُ لاَ تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الأْهْلِيَّةُ لاِنْتِفَاءِ الْقُدْرَتَيْنِ عَنْهُ.
أَنْوَاعُ أَهْلِيَّةِ الأْدَاءِ:
9 - أَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ نَوْعَانِ:
أ - أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ قَاصِرَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ.
ب - أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ كَامِلَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِالْقُدْرَةِ هُنَا: قُدْرَةُ الْجِسْمِ أَوِ الْعَقْلِ، أَوْ هُمَا مَعًا؛ لأِنَّ الأْدَاءَ - كَمَا قَالَ الْبَزْدَوِيُّ - يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتَيْنِ: قُدْرَةِ فَهْمِ الْخِطَابِ وَذَلِكَ بِالْعَقْلِ، وَقُدْرَةِ الْعَمَلِ بِهِ وَهِيَ بِالْبَدَنِ، وَالإْنْسَانُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ عَدِيمُ الْقُدْرَتَيْنِ، لَكِنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ وَصَلاَحِيَّةٌ لأَِنْ تُوجَدَ فِيهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقُدْرَتَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ تَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَرَجَةَ الْكَمَالِ، فَقَبْلَ بُلُوغِ دَرَجَةِ الْكَمَالِ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَاصِرَةً، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيَّزِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَقَدْ تَكُونُ إِحْدَاهُمَا قَاصِرَةً، كَمَا فِي الْمَعْتُوهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنَّهُ قَاصِرُ الْعَقْلِ مِثْلُ الصَّبِيِّ، وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِالصَّبِيِّ فِي الأْحْكَامِ.
فَالأْهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ: عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْقُدْرَتَيْنِ أَوَّلَ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالاِعْتِدَالِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ. وَالْقَاصِرَةُ: عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَتَيْنِ قَبْلَ بُلُوغِهِمَا أَوْ بُلُوغِ إِحْدَاهُمَا دَرَجَةَ الْكَمَالِ.
ثُمَّ الشَّرْعُ بَنَى عَلَى الأْهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ صِحَّةَ الأْدَاءِ، وَعَلَى الْكَامِلَةِ وُجُوبَ الأْدَاءِ وَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ؛ لأِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلْزَامُ الإْنْسَانِ الأْدَاءَ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ؛ إِذْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ أَصْلاً، وَإِلْزَامُ مَا لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ شَرْعًا وَعَقْلاً، وَبَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ وَأَصْلِ قُدْرَةِ الْبَدَنِ قَبْلَ الْكَمَالِ، فَفِي إِلْزَامِ الأْدَاءِ حَرَجٌ؛ لأِنَّهُ يُحْرِجُ الْفَهْمَ بِأَدْنَى عَقْلِهِ، وَيُثْقِلُ عَلَيْهِ الأْدَاءَ بِأَدْنَى قُدْرَةِ الْبَدَنِ، وَالْحَرَجُ مُنْتَفٍ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فَلَمْ يُخَاطَبْ شَرْعًا لأِوَّلِ أَمْرِهِ حِكْمَةً، وَلأِوَّلِ مَا يَعْقِلُ وَيَقْدِرُ رَحْمَةً، إِلَى أَنْ يَعْتَدِلَ عَقْلُهُ وَقُدْرَةُ بَدَنِهِ، فَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ الْفَهْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ.
ثُمَّ وَقْتُ الاِعْتِدَالِ يَتَفَاوَتُ فِي جِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ إِلاَّ بَعْدَ تَجْرِبَةٍ وَتَكَلُّفٍ عَظِيمٍ، فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْبُلُوغَ الَّذِي تَعْتَدِلُ لَدَيْهِ الْعُقُولُ فِي الأْغْلَبِ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً، تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَصَارَ تَوَهُّمُ وَصْفِ الْكَمَالِ قَبْلَ هَذَا الْحَدِّ، وَتَوَهُّمُ بَقَاءِ الْقُصُورِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِّ سَاقِطِي الاِعْتِبَارِ؛ لأِنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ مَتَى أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَأَيَّدَ هَذَا كُلَّهُ قَوْلُهُ عليه السلام: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَالْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَالنَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ». وَالْمُرَادُ بِالْقَلَمِ: الْحِسَابُ، وَالْحِسَابُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ لُزُومِ الأْدَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالأْهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ، وَهِيَ اعْتِدَالُ الْحَالِ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ.
أَثَرُ الأْهْلِيَّةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ:
10 - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْكُمُهَا الأْهْلِيَّةُ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ - تَخْتَلِفُ وَتَتَعَدَّدُ أَحْكَامُهَا تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ نَوْعِ الأْهْلِيَّةِ ، وَتَبَعًا لاِخْتِلاَفِ مَرَاحِلِ النُّمُوِّ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإْنْسَانُ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ تِلْكَ الأْهْلِيَّةِ ، فَالأْهْلِيَّةُ - كَمَا سَبَقَ - إِمَّا أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَإِمَّا أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَدْ تَكُونُ نَاقِصَةً وَقَدْ تَكُونُ كَامِلَةً، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.
هَذَا، وَلِلْوُقُوفِ عَلَى تِلْكَ الأْحْكَامِ، لاَ بُدَّ أَنْ نَتَنَاوَلَ تِلْكَ الْمَرَاحِلَ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإْنْسَانُ، وَبَيَانُ الأْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِهِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاحِلِ.
الْمَرَاحِلُ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإْنْسَانُ:
11 - يَمُرُّ الإْنْسَانُ مِنْ حِينِ نَشْأَتِهِ بِخَمْسِ مَرَاحِلَ أَسَاسِيَّةٍ، وَهَذِهِ الْمَرَاحِلُ هِيَ:
(1) مَرْحَلَةُ مَا قَبْلَ الْوِلاَدَةِ، أَيْ حِينَ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
(2) مَرْحَلَةُ الطُّفُولَةِ وَالصِّغَرِ، أَيْ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ أُمِّهِ، وَقَبْلَ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ.
(3) مَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ، أَيْ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ إِلَى الْبُلُوغِ.
(4) مَرْحَلَةُ الْبُلُوغِ، أَيْ بَعْدَ انْتِقَالِهِ مِنْ سِنِّ الصِّغَرِ إِلَى سِنِّ الْكِبَرِ.
(5) مَرْحَلَةُ الرُّشْدِ، أَيِ اكْتِمَالُ الْعَقْلِ.
هَذَا، وَلِكُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاحِلِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
الْمَرْحَلَةُ الأْولَى - الْجَنِينُ:
12 - الْجَنِينُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنَ الاِجْتِنَانِ، وَهُوَ الْخَفَاءُ، وَهُوَ وَصْفٌ لِلْوَلَدِ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِمْ لِلْجَنِينِ لاَ يَخْرُجُونَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، إِذْ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: وَصْفٌ لِلْوَلَدِ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ.
وَالْجَنِينُ إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَالْجُزْءِ مِنْ أُمِّهِ يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا يُحْكَمُ بِعَدَمِ اسْتِقْلاَلِهِ، فَلاَ تَثْبُتُ لَهُ ذِمَّةٌ، وَبِالتَّالِي فَلاَ يَجِبُ لَهُ وَلاَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَإِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً بِحَيَاةٍ خَاصَّةٍ يُحْكَمُ بِثُبُوتِ الذِّمَّةِ لَهُ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ أَهْلاً لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ. وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَلَى الأْخْرَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ الشَّرْعَ عَامَلَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ أُمِّهِ بِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَعَامَلَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً بِحَيَاةٍ خَاصَّةٍ بِكَوْنِهِ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ لَهُ، وَبِهَذَا لاَ يَكُونُ لِلْجَنِينِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ كَامِلَةٍ، بَلْ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ نَاقِصَةٍ.
13 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِثْبَاتِ بَعْضِ الْحُقُوقِ لِلْجَنِينِ، كَحَقِّهِ فِي النَّسَبِ، وَحَقِّهِ فِي الإْرْثِ، وَحَقِّهِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَحَقِّهِ فِي الْوَقْفِ.
فَأَمَّا حَقُّهُ فِي النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ: فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ وَأَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ ثُبُوتِ النَّسَبِ الْمُبَيَّنَةُ فِي مَوْضِعِهَا. ر: (نَسَبٌ).
وَأَمَّا حَقُّهُ فِي الإْرْثِ: فَهُوَ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَمْلِ لِلإْرْثِ مَتَى قَامَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ وَتَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَهُ. وَأَمَّا حَقُّهُ فِي الْوَقْفِ: فَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْوَقْفَ عَلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَيَسْتَحِقُّهُ إِنِ اسْتَهَلَّ.
وَلَمْ يُجَوِّزِ الشَّافِعِيَّةُ الْوَقْفَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ الْوَقْفَ تَسْلِيطٌ فِي الْحَالِ بِخِلاَفِ الْوَصِيَّةِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْوَقْفُ عَلَى حَمْلٍ أَصَالَةً، كَأَنْ يَقِفَ دَارَهُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ؛ لأِنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَالْحَمْلُ لاَ يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ بِغَيْرِ الإْرْثِ وَالْوَصِيَّةِ، أَمَّا إِذَا وَقَفَ عَلَى الْحَمْلِ تَبَعًا لِمَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ، أَوْ عَلَى أَوْلاَدِ فُلاَنٍ وَفِيهِمْ حَمْلٌ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَشْمَلُهُ عِنْدَهُمْ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ - الطُّفُولَةُ:
14 - تَبْدَأُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مِنْ حِينِ انْفِصَالِ الْجَنِينِ عَنْ أُمِّهِ حَيًّا، وَتَمْتَدُّ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ، فَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ تَثْبُتُ لِلْمَوْلُودِ الذِّمَّةُ الْكَامِلَةُ، فَيَصِيرُ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، أَمَّا أَهْلِيَّتُهُ لِلْوُجُوبِ لَهُ فَهِيَ ثَابِتَةٌ حَتَّى قَبْلَ الْوِلاَدَةِ - كَمَا سَبَقَ - فَتَثْبُتُ لَهُ بَعْدَهَا بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، بَلْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّ لَهُ يَدًا وَاخْتِصَاصًا كَالْبَالِغِ.
وَأَمَّا أَهْلِيَّتُهُ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ يَأْتِي.
وَوُجُوبُ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ عَلَى الطِّفْلِ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، الْمُرَادُ مِنْهُ: حُكْمُهُ، وَهُوَ الأْدَاءُ عَنْهُ، فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَا لاَ فَلاَ.
وَإِنَّمَا قُيِّدَ الأْدَاءُ بِالْمُمْكِنِ؛ لأِنَّ الطِّفْلَ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَافَّةُ الْحُقُوقِ كَالْبَالِغِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُعَامَلُ بِمَا يُنَاسِبُهُ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ؛ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ، وَلِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى مُبَاشَرَةِ الأْدَاءِ بِنَفْسِهِ، فَيُؤَدِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا أَمْكَنَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا تَفْصِيلاً فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، الَّتِي تُؤَدَّى عَنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَمَا ذَكَرُوا أَيْضًا حُكْمَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: حُقُوقُ الْعِبَادِ:
15 - حُقُوقُ الْعِبَادِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَنِ الطِّفْلِ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَلاَ يُؤَدَّى عَنْهُ.
فَحُقُوقُ الْعِبَادِ الْوَاجِبَةُ وَالَّتِي تُؤَدَّى عَنْهُ هِيَ:
أ - مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ وَيَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُ؛ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ كَالْغُرْمِ وَالْعِوَضِ.
ب - مَا كَانَ صِلَةً شَبِيهَةً بِالْمُؤَنِ كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ، أَوْ كَانَ صِلَةً شَبِيهَةً بِالأَْعْوَاضِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّهُ يُؤَدَّى عَنْهُ.
وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ الَّتِي لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ وَلاَ تُؤَدَّى عَنْهُ فَهِيَ:
أ - الصِّلَةُ الشَّبِيهَةُ بِالأْجْزِيَةِ كَتَحَمُّلِ الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ.
ب - الْعُقُوبَاتُ كَالْقِصَاصِ، أَوِ الأْجْزِيَةِ الشَّبِيهَةِ بِهَا كَالْحِرْمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ.
ثَانِيًا: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى:
16 - هَذِهِ الْحُقُوقُ أَيْضًا مِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الطِّفْلِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَجِبُ.
فَالْحُقُوقُ الَّتِي هِيَ مَئُونَةٌ مَحْضَةٌ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَتُؤَدَّى عَنْهُ؛ لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْمَالُ، فَتَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بَدَنِيَّةً أَمْ مَالِيَّةً.
أَمَّا الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْفَهْمِ وَضَعْفِ بَدَنِهِ.
وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ فِطْرٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأِنَّ هَا لَيْسَتْ عِبَادَةً خَالِصَةً بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الأْغْنِيَاءِ حَقًّا لِلْمُحْتَاجِينَ، فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ كَمَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ هَا عِنْدَهُمْ عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ، وَتَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَلاَ تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حُقُوقُ اللَّهِ عُقُوبَاتٍ كَالْحُدُودِ، فَإِنَّهَا لاَ تَلْزَمُهُ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ؛ لأِنَّ الْعُقُوبَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ جَزَاءً لِلتَّقْصِيرِ، وَهُوَ لاَ يُوصَفُ بِهِ.
ثَالِثًا: أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ:
17 - أَقْوَالُ الصَّبِيِّ وَأَفْعَالُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ؛ لأِنَّهُ مَا دَامَ لَمْ يُمَيِّزْ فَلاَ اعْتِدَادَ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّمْيِيزُ:
18 - التَّمْيِيزُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ: مِزْتُهُ مَيْزًا، مِنْ بَابِ بَاعَ، وَهُوَ: عَزْلُ الشَّيْءِ وَفَصْلُهُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَيَكُونُ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ وَالْمُخْتَلِطَاتِ، وَمَعْنَى تَمَيُّزِ الشَّيْءِ: انْفِصَالُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ: سِنُّ التَّمْيِيزِ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ: تِلْكَ السِّنُّ الَّتِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا عَرَفَ مَضَارَّهُ وَمَنَافِعَهُ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَيَّزْتُ الأْشْيَاءَ: إِذَا فَرَّقْتُهَا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُونَ: التَّمْيِيزُ قُوَّةٌ فِي الدِّمَاغِ يُسْتَنْبَطُ بِهَا الْمَعَانِيَ.
وَهَذِهِ الْمَرْحَلَةُ تَبْدَأُ بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ سِنُّ التَّمْيِيزِ كَمَا حَدَّدَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَتَنْتَهِي بِالْبُلُوغِ، فَتَشْمَلُ الْمُرَاهِقَ وَهُوَ الَّذِي قَارَبَ الْبُلُوغَ.
فَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ يُصْبِحُ عِنْدَ الصَّبِيِّ مِقْدَارٌ مِنَ الإِْدْرَاكِ وَالْوَعْيِ يَسْمَحُ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ الْقَاصِرَةِ؛ لأِنَّ نُمُوَّهُ الْبَدَنِيَّ وَالْعَقْلِيَّ لَمْ يَكْتَمِلاَ بَعْدُ، وَبَعْدَ اكْتِمَالِهِمَا تَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ الْكَامِلَةِ؛ لأِنَّ أَهْلِيَّةَ الأْدَاءِ الْكَامِلَةِ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِاكْتِمَالِ النُّمُوِّ الْبَدَنِيِّ وَالنُّمُوِّ الْعَقْلِيِّ، فَمَنْ لَمْ يَكْتَمِلْ نُمُوُّهُ الْبَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ مَعًا، أَوْ لَمْ يَكْتَمِلْ فِيهِ نُمُوُّ أَحَدِهِمَا فَأَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ فِيهِ تَكُونُ قَاصِرَةً.
فَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ؛ لِعَدَمِ اكْتِمَالِ الْعَقْلِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَامِلاً مِنَ النَّاحِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ، بِخِلاَفِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ كَامِلَةً مُنْذُ الْوِلاَدَةِ، فَالطِّفْلُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ.
وَلِلتَّمْيِيزِ أَثَرُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ يَجُوزُ لَهُ بِأَهْلِيَّتِهِ الْقَاصِرَةِ مُبَاشَرَةُ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَتَصِحُّ مِنْهُ؛ لأِنَّ الثَّابِتَ مَعَ الأْهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ صِحَّةُ الأْدَاءِ، وَيُمْنَعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الأْخْرَى ، وَخَاصَّةً تِلْكَ الَّتِي يَعُودُ ضَرَرُهَا عَلَيْهِ، فَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ أَيْضًا مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِنَفْسِهِ، بَلْ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ إِذْنِ الْوَلِيِّ.
وَفِيمَا يَلِي مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الإْجْمَالِ، أَمَّا التَّفْصِيلُ فَفِي مُصْطَلَحِ (تَمْيِيزٍ).
تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ:
19 - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُبَاشِرُهَا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِمَّا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحُقُوقُ عِبَادَاتٍ وَعَقَائِدَ، أَوْ حُقُوقًا مَالِيَّةً، أَوْ عُقُوبَاتٍ، وَإِمَّا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهِيَ إِمَّا: مَالِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ مَالِيَّةٍ.
أ - حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى:
20 - أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلاَةِ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِأَدَائِهَا فِي سِنِّ السَّابِعَةِ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهَا فِي سِنِّ الْعَاشِرَةِ؛ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
وَأَمَّا الْعَقَائِدُ كَالإْيمَانِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ، فَيُعْتَبَرُ إِيمَانُهُ؛ لأِنَّهُ خَيْرٌ مَحْضٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ إِسْلاَمَهُ لاَ يَصِحُّ حَتَّى يَبْلُغَ؛ لِحَدِيثِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ وَمِنْهَا عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ..»
وَأَمَّا رِدَّتُهُ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ رِدَّتِهِ؛ لأِنَّ هَا ضَرَرٌ مَحْضٌ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ مَا عَدَا الْقَتْلَ.
وَنُقِلَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ وَالْمُنْتَقَى رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَالِيَّةُ كَالزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِحُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهَا لاَ تُقَامُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
ب - حُقُوقُ الْعِبَادِ:
21 - أَمَّا الْمَالِيَّةُ مِنْهَا كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُجْرَةِ الأْجِيرِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالأَْقَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ؛ لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ الْمَالُ، وَأَدَاؤُهُ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، فَيَصِحُّ لِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ أَدَاؤُهُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ أَدَّاهُ وَلِيُّهُ.
وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا عُقُوبَةُ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ لاَ يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ، فَلاَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ لِقُصُورِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فِي فِعْلِهِ، وَلَكِنْ تَجِبُ فِي فِعْلِهِ الدِّيَةُ؛ لأِنَّ هَا وَجَبَتْ لِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ، وَالصِّبَا لاَ يَنْفِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ؛ وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وُجُوبِهَا الْمَالُ، وَأَدَاؤُهُ قَابِلٌ لِلنِّيَابَةِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ فِي الْجِنَايَاتِ عَمْدٌ، فَتَغْلُظُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَيُحْرَمُ إِرْثَ مَنْ قَتَلَهُ.
22 - أَمَّا تَصَرُّفَاتُهُ الْمَالِيَّةُ، فَفِيهَا تَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
(1) تَصَرُّفَاتٌ نَافِعَةٌ لَهُ نَفْعًا مَحْضًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا دُخُولُ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، مِثْلُ قَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ، وَهَذِهِ تَصِحُّ مِنْهُ، دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ؛ لأِنَّ هَا خَيْرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
(2) تَصَرُّفَاتٌ ضَارَّةٌ بِالصَّغِيرِ ضَرَرًا مَحْضًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ وَالطَّلاَقِ وَالْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ، وَهَذِهِ لاَ تَصِحُّ مِنْهُ، بَلْ تَقَعُ بَاطِلَةً، وَلاَ تَنْعَقِدُ، حَتَّى وَلَوْ أَجَازَهَا الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ؛ لأِنَّ هُمَا لاَ يَمْلِكَانِ مُبَاشَرَتَهَا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَلاَ يَمْلِكَانِ إِجَازَتَهَا.
(3) تَصَرُّفَاتٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بِحَسَبِ أَصْلِ وَضْعِهَا، كَالْبَيْعِ وَالإْجَارَةِ وَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذِهِ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَصِحُّ صُدُورُهَا مِنْهُ، بِاعْتِبَارِ مَا لَهُ مِنْ أَصْلِ الأْهْلِيَّةِ ؛ وَلاِحْتِمَالِ أَنَّ فِيهَا نَفْعًا لَهُ، إِلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ لِنَقْصِ أَهْلِيَّتِهِ، فَإِذَا أَجَازَهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا بَطَلَتْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَقَعُ صَحِيحَةً لَكِنَّهَا لاَ تَكُونُ لاَزِمَةً، وَيَتَوَقَّفُ لُزُومُهَا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَصِحُّ صُدُورُهَا مِنَ الصَّبِيِّ، فَإِذَا وَقَعَتْ كَانَتْ بَاطِلَةً لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَيُّ أَثَرٍ.
الْمَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ - الْبُلُوغُ:
23 - الْبُلُوغُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: قُوَّةٌ تَحْدُثُ لِلشَّخْصِ، تَنْقُلُهُ مِنْ حَالِ الطُّفُولَةِ إِلَى حَالِ الرُّجُولَةِ.
وَهُوَ يَحْصُلُ بِظُهُورِ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالاِحْتِلاَمِ، وَكَالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ فِي الأْنْثَى، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعَلاَمَاتِ كَانَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِهِ، فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لِلْفَتَى، وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِلْفَتَاةِ، وَقَدَّرَهُ الصَّاحِبَانِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيرُهُ بِثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لِكُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَالأْنْثَى.
وَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَهِيَ مَرْحَلَةُ الْبُلُوغِ، يَكْتَمِلُ فِيهَا لِلإْنْسَانِ نُمُوُّهُ الْبَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ الْكَامِلَةِ، فَيَصِيرُ أَهْلاً لأِدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَحَمُّلِ التَّبِعَاتِ، وَيُطَالَبُ بِأَدَاءِ كَافَّةِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَغَيْرِ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا اكْتَمَلَ نُمُوُّهُ الْعَقْلِيُّ مَعَ اكْتِمَالِ نُمُوِّهِ الْبَدَنِيِّ، أَمَّا إِذَا وَصَلَ إِلَى سِنِّ الْبُلُوغِ وَلَمْ يَكْتَمِلْ نُمُوُّهُ الْعَقْلِيُّ، بِأَنْ بَلَغَ مَعْتُوهًا أَوْ سَفِيهًا، فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَيَسْتَمِرُّ ثُبُوتُ الْوِلاَيَةِ عَلَيْهِ، خِلاَفًا لأِبِي حَنِيفَةَ فِي السَّفِيهِ.
الْمَرْحَلَةُ الْخَامِسَةُ - الرُّشْدُ:
24 - الرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ: الصَّلاَحُ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ.
وَالرُّشْدُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: حُسْنُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِثْمَارِهِ وَاسْتِغْلاَلِهِ اسْتِغْلاَلاً حَسَنًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: صَلاَحُ الدِّينِ وَالصَّلاَحُ فِي الْمَالِ.
وَهَذَا الرُّشْدُ قَدْ يَأْتِي مَعَ الْبُلُوغِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، تَبَعًا لِتَرْبِيَةِ الشَّخْصِ وَاسْتِعْدَادِهِ وَتَعَقُّدِ الْحَيَاةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ وَبَسَاطَتِهَا، فَإِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).
وَإِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ، وَكَانَ عَاقِلاً كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، بَلْ تَبْقَى فِي يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ بِالْفِعْلِ، أَوْ يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، وَلَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ؛ لأِنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الاِحْتِيَاطِ وَالتَّأْدِيبِ، وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ، وَالإْنْسَانُ بَعْدَ بُلُوغِهِ هَذِهِ السِّنَّ وَصَلاَحِيَّتِهِ لأَنْ يَكُونَ جَدًّا لاَ يَكُونُ أَهْلاً لِلتَّأْدِيبِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الشَّخْصَ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَلَكِنْ لاَ تَرْتَفِعُ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ، وَتَبْقَى أَمْوَالُهُ تَحْتَ يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( وَلاَ تُؤْتُواالسُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) فَإِنَّهُ مَنَعَ الأْوْلِيَاءَ وَالأْوْصِيَاءَ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إِلَى السُّفَهَاءِ، وَنَاطَ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِمْ بِتَوَافُرِ أَمْرَيْنِ: الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ بِالْبُلُوغِ مَعَ عَدَمِ الرُّشْدِ.
أَمَّا إِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا، ثُمَّ طَرَأَ السَّفَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ، بَيْنَ عَوَارِضِ الأْهْلِيَّةِ .
عَوَارِضُ الأْهْلِيَّةِ :
25 - الْعَوَارِضُ: جَمْعُ عَارِضٍ أَوْ عَارِضَةٍ، وَالْعَارِضُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: السَّحَابُ، وَمِنْهُقوله تعالي : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا).
وَأَمَّا الْعَوَارِضُ فِي الاِصْطِلاَحِ فَمَعْنَاهَا: أَحْوَالٌ تَطْرَأُ عَلَى الإْنْسَانِ بَعْدَ كَمَالِ أَهْلِيَّةِ الأْدَاءِ، فَتُؤَثِّرُ فِيهَا بِإِزَالَتِهَا أَوْ نُقْصَانِهَا، أَوْ تُغَيِّرُ بَعْضَ الأْحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَرَضَتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ فِي أَهْلِيَّتِهِ.
أَنْوَاعُ عَوَارِضِ الأْهْلِيَّةِ :
26 - عَوَارِضُ الأْهْلِيَّةِ نَوْعَانِ: سَمَاوِيَّةٌ وَمُكْتَسَبَةٌ:
فَالْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ: هِيَ تِلْكَ الأْمُورُ الَّتِي لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا اخْتِيَارٌ، وَلِهَذَا تُنْسَبُ إِلَى السَّمَاءِ؛ لِنُزُولِهَا بِالإْنْسَانِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهِيَ: الْجُنُونُ، وَالْعَتَهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالنَّوْمُ، وَالإْغْمَاءُ، وَالْمَرَضُ، وَالرِّقُّ، وَالْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَالْمَوْتُ.
وَالْمُكْتَسَبَةُ: هِيَ تِلْكَ الأْمُورُ الَّتِي كَسَبَهَا الْعَبْدُ أَوْ تَرَكَ إِزَالَتَهَا، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَالَّتِي تَكُونُ مِنْهُ: الْجَهْلُ، وَالسُّكْرُ، وَالْهَزْلُ، وَالسَّفَهُ، وَالإْفْلاَسُ، وَالسَّفَرُ، وَالْخَطَأُ، وَالَّذِي يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ الإْكْرَاهُ.
وَفِيمَا يَلِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ إِجْمَالاً، مَعَ إِحَالَةِ التَّفْصِيلِ إِلَى الْعَنَاوِينِ الْخَاصَّةِ بِهَا.
الْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ:
أَوَّلاً: الْجُنُونُ:
27 - الْجُنُونُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ: أَجَنَّهُ اللَّهُ فَجُنَّ، فَهُوَ مَجْنُونٌ، بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الأْصُولِيِّينَ فَإِنَّهُ: اخْتِلاَلٌ لِلْعَقْلِ يَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ الأْفْعَالِ وَالأْقْوَالِ عَلَى نَهْجِ الْعَقْلِ. وَالْجُنُونُ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الأْدَاءِ، فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْعِبَادَاتِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ.
وَفِي زَكَاةِ مَالِ الْمَجْنُونِ خِلاَفٌ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُنُونِ الْمُطْبَقِ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمُعَامَلاَتُ، فَحُكْمُهُ فِيهَا حُكْمُ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِ لاِنْتِفَاءِ تَعَقُّلِهِ لِلْمَعَانِي.
وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ، فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا الْجُنُونُ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ يَرِثُ وَيَمْلِكُ لِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ، وَالْمُتْلَفَاتُ بِسَبَبِ أَفْعَالِهِ مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ.
وَتَفْصِيلُ الأْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْجُنُونِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جُنُونٍ).
ثَانِيًا: الْعَتَهُ:
28 - الْعَتَهُ فِي اللُّغَةِ: نُقْصَانُ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ دَهْشٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: آفَةٌ تُوجِبُ خَلَلاً فِي الْعَقْلِ، فَيَصِيرُ صَاحِبُهَا مُخْتَلَطَ الْكَلاَمِ، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ، وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ.
وَالْمَعْتُوهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ الْقَاصِرَةِ، إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيِّ كَمَا جَاءَ فِي التَّلْوِيحِ، إِلاَّ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ: أَنَّ امْرَأَةَ الْمَعْتُوهِ إِذَا أَسْلَمَتْ لاَ يُؤَخَّرُ عَرْضُ الإْسْلاَمِ عَلَيْهِ، كَمَا لاَ يُؤَخَّرُ عَرْضُهُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ بِخِلاَفِ الصَّبِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، فَإِنَّ الصِّبَا مُقَدَّرٌ بِخِلاَفِ الْعَتَهِ وَالْجُنُونِ. وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَتَهٍ).
ثَالِثًا: النِّسْيَانُ:
29 - النِّسْيَانُ فِي اللُّغَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الشَّيْءِ عَلَى ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَهُوَ خِلاَفُ التَّذَكُّرِ.
وَثَانِيهِمَا: التَّرْكُ عَنْ تَعَمُّدٍ، وَمِنْهُ قوله تعالي : ( وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَدَمُ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَالنِّسْيَانُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ أَيْضًا فِي أَهْلِيَّةِ الأْدَاءِ لِكَمَالِ الْعَقْلِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النِّسْيَانَ عُذْرٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الإْثْمِ وَعَدَمِهِ؛ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ»...
وَلِلنِّسْيَانِ أَحْكَامٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (نِسْيَانٍ).
رَابِعًا: النَّوْمُ:
30 - النَّوْمُ: غَشْيَةٌ ثَقِيلَةٌ تَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ فَتَقْطَعُهُ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِالأْشْيَاءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: فُتُورٌ يَعْرِضُ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالأْفْعَالِ الاِخْتِيَارِيَّةِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ.
وَالنَّوْمُ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ إِخْلاَلِهِ بِالذِّمَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُوجِبُ تَأْخِيرَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِالأْدَاءِ إِلَى حَالِ الْيَقِظَةِ؛ لأِنَّهُ فِي حَالِ النَّوْمِ عَاجِزٌ عَنِ الْفَهْمِ فَلاَ يُنَاسِبُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا انْتَبَهَ مِنَ النَّوْمِ أَمْكَنَهُ الْفَهْمُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ النَّائِمَ مُطَالَبٌ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي أَثْنَاءِ نَوْمِهِ، وَأَمَّا عِبَارَاتُ النَّائِمِ مِنَ الأَْقَارِيرِ وَغَيْرِهَا فَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (نَوْمٍ).
خَامِسًا: الإْغْمَاءُ:
31 - الإْغْمَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْخَفَاءُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: آفَةٌ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ تُعَطِّلُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ وَالْحَرَكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ مَغْلُوبًا.
وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْمَرَضِ، وَلِذَا لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام.
وَتَأْثِيرُ الإْغْمَاءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِ النَّوْمِ عَلَى النَّائِمِ، وَلِذَا اعْتُبِرَ فَوْقَ النَّوْمِ؛ لأِنَّ النَّوْمَ حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، وَسَبَبُهُ شَيْءٌ لَطِيفٌ سَرِيعُ الزَّوَالِ، وَالإْغْمَاءُ عَلَى خِلاَفِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ التَّنْبِيهَ وَالاِنْتِبَاهَ مِنَ النَّوْمِ فِي غَايَةِ السُّرْعَةِ، وَأَمَّا التَّنْبِيهُ مِنَ الإْغْمَاءِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَحُكْمُ الإْغْمَاءِ فِي كَوْنِهِ عَارِضًا مِنْ عَوَارِضِ الأْهْلِيَّةِ حُكْمُ النَّوْمِ، فَلَزِمَهُ مَا لَزِمَ النَّوْمُ، وَلِكَوْنِهِ يَزِيدُ عَنْهُ جَعَلَهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ فِي جَمِيعِ الأْحْوَالِ حَتَّى فِي الصَّلاَةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (إِغْمَاءٍ).
سَادِسًا: الرِّقُّ:
32 - الرِّقُّ فِي اللُّغَةِ بِكَسْرِ الرَّاءِ: الْعُبُودِيَّةُ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهُوَ: حَجْزٌ حُكْمِيٌّ عَنِ الْوِلاَيَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَمِلْكِيَّةِ الْمَالِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِهَا.
هَذَا وَالأْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالرَّقِيقِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (رِقٍّ).
سَابِعًا: الْمَرَضُ:
33 - الْمَرَضُ فِي اللُّغَةِ: حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْلِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ فَيُخْرِجُهُ عَنِ الاِعْتِدَالِ الْخَاصِّ.
وَهُوَ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفَاتِ، أَيْ ثُبُوتُهُ وَوُجُوبُهُ عَلَى الإِْطْلاَقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُخِلُّ بِالْعَقْلِ وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، فَيَصِحُّ مَا تَعَلَّقَ بِعِبَارَتِهِ مِنَ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبُ الْمَوْتِ بِتَرَادُفِ الآْلاَمِ، وَأَنَّهُ - أَيِ الْمَوْتَ - عَجْزٌ خَالِصٌ، كَانَ الْمَرَضُ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ، فَشُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ مَعَهُ بِقَدْرِ الْمُكْنَةِ؛ لِئَلاَّ يَلْزَمَ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، فَيُصَلِّي قَاعِدًا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ، وَمُضْطَجِعًا إِنْ عَجَزَ عَنْهُ، وَيُعْتَبَرُ الْمَرَضُ سَبَبًا لِلْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ حِفْظًا لِحَقِّ الْوَارِثِ وَحَقِّ الْغَرِيمِ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ، وَذَلِكَ لأِنَّ الْمَرَضَ الْمُمِيتَ هُوَ سَبَبُ الْحَجْرِ لاَ نَفْسُ الْمَرَضِ.
هَذَا، وَتَفْصِيلُ الأْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْمَرَضِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (مَرَضٍ)
ثَامِنًا: الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ:
34 - الْحَيْضُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: السَّيَلاَنُ، وَمِنْهُ الْحَوْضُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الدَّمُ الْخَارِجُ مِنَ الرَّحِمِ لاَ لِوِلاَدَةٍ وَلاَ لِعِلَّةٍ.
وَأَمَّا النِّفَاسُ فَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْوِلاَدَةُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِبَ فَرَاغِ الرَّحِمِ مِنَ الْحَمْلِ.
وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ لاَ يُؤَثِّرَانِ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَلاَ فِي أَهْلِيَّةِ الأْدَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُمَا اعْتُبِرَا مِنَ الْعَوَارِضِ لأِنَّ الطَّهَارَةَ مِنْهُمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ كُلِّ عِبَادَةٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الطَّهَارَةُ كَالصَّلاَةِ مَثَلاً.
وَتَفْصِيلُ الأْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مَحَلُّهُ (حَيْضٌ، وَنِفَاسٌ).
تَاسِعًا: الْمَوْتُ:
35 - الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْتِ تَتَلَخَّصُ فِي أَنَّ تِلْكَ الأْحْكَامَ إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ، وَالدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفُ حُكْمُهَا السُّقُوطُ إِلاَّ فِي حَقِّ الْمَأْتَمِ، أَوْ مَا شُرِعَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ.
وَالأْخْرَوِيَّةُ حُكْمُهَا الْبَقَاءُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاجِبَةً لَهُ عَلَى الْغَيْرِ، أَمْ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ، مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَظَالِمِ، أَوْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَوَابٍ بِوَاسِطَةِ الطَّاعَاتِ، أَوْ عِقَابٍ بِوَاسِطَةِ الْمَعَاصِي.
هَذَا، وَمَحَلُّ تَفْصِيلِ هَذِهِ الأْحْكَامِ مُصْطَلَحُ (مَوْتٍ)
الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ:
36 - الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ إِمَّا مِنَ الإْنْسَانِ ، وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
أَوَّلاً: الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ الَّتِي مِنَ الإْنْسَانِ هِيَ:
أ - الْجَهْلُ:
37 - مَعْنَى الْجَهْلِ فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ الْعِلْمِ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَدَمُ الْعِلْمِ مِمَّنْ شَأْنُهُ الْعِلْمُ.
وَالْجَهْلُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الأْهْلِيَّةِ مُطْلَقًا، وَلَهُ أَقْسَامٌ بَعْضُهَا يَصْلُحُ عُذْرًا، وَبَعْضُهَا لاَ يَصْلُحُ عُذْرًا. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَهْلٍ)
ب - السُّكْرُ:
38 - مِنْ مَعَانِي السُّكْرِ: زَوَالُ الْعَقْلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَسْكَرَهُ الشَّرَابُ: أَيْ أَزَالَ عَقْلَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلإِْنْسَانِ مِنْ تَنَاوُلِ الْمُسْكِرِ، يَتَعَطَّلُ مَعَهَا عَقْلُهُ، فَلاَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الأْمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ.
وَالسُّكْرُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَخَاصَّةً إِنْ كَانَ طَرِيقُهُ مُحَرَّمًا، كَأَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُسْكِرَ مُخْتَارًا عَالِمًا بِأَنَّ مَا يَشْرَبُهُ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ.
وَخُلاَصَةُ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي السُّكْرِ هُوَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا الْمُسْكِرَ مُسْقِطًا لِلتَّكْلِيفِ وَلاَ مُضَيِّعًا لِلْحُقُوقِ، وَلاَ مُخَفِّفًا لِمِقْدَارِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ السَّكْرَانِ، لأِنَّهُ جِنَايَةٌ، وَالْجِنَايَةُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهَا صَاحِبُهَا. وَتَفْصِيلُ الأْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالسُّكْرِ مَحَلُّهَا مُصْطَلَحُ: (سُكْرٍ).
ج - الْهَزْلُ:
39 - الْهَزْلُ: ضِدُّ الْجِدِّ، أَوْ هُوَ اللَّعِبُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنْ هَزَلَ فِي كَلاَمِهِ هَزْلاً: إِذَا مَزَحَ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَلاَّ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ وَلاَ الْمَجَازِيَّ، بَلْ يُرَادُ بِهِ غَيْرُهُمَا.
وَالْهَزْلُ لاَ يُنَافِي الأْهْلِيَّةَ ، إِلاَّ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ الأْحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْهَازِلِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (هَزْلٍ).
د - السَّفَهُ:
40 - السَّفَهُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: خِفَّةٌ تَعْتَرِي الإْنْسَانَ فَتَبْعَثُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِخِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، مَعَ عَدَمِ الاِخْتِلاَلِ فِي الْعَقْلِ.
وَإِنَّمَا كَانَ السَّفَهُ مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ؛ لأِنَّ السَّفِيهَ بِاخْتِيَارِهِ يَعْمَلُ عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّفَهِ وَالْعَتَهِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمَعْتُوهَ يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، بِخِلاَفِ السَّفِيهِ فَإِنَّهُ لاَ يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ لَكِنْ تَعْتَرِيهِ خِفَّةٌ، فَيُتَابِعُ مُقْتَضَاهَا فِي الأْمُورِ الْمَالِيَّةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَرَوِيَّةٍ فِي عَوَاقِبِهَا؛ لِيَقِفَ عَلَى أَنَّ عَوَاقِبَهَا مَحْمُودَةٌ أَوْ مَذْمُومَةٌ.
وَالسَّفَهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الأْهْلِيَّةِ بِقِسْمَيْهَا، وَلاَ يُنَافِي شَيْئًا مِنَ الأْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالسَّفِيهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرِيعَةَ رَاعَتْ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، فَقَرَّرَتْ أَنْ يُمْنَعَ السَّفِيهُ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ صِيَانَةً لَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (سَفَهٍ).
هـ - السَّفَرُ:
41 - السَّفَرُ - بِفَتْحَتَيْنِ - مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ لِلاِرْتِحَالِ أَوْ لِقَصْدِ مَوْضِعٍ فَوْقَ مَسَافَةِ الْعَدْوَى؛ لأِنَّ الْعَرَبَ لاَ يُسَمُّونَ مَسَافَةَ الْعَدْوَى سَفَرًا.
وَفِي الشَّرْعِ: الْخُرُوجُ بِقَصْدِ الْمَسِيرِ مِنْ مَحَلِّ الإْقَامَةِ إِلَى مَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَمَا فَوْقَهَا بِسَيْرِ الإْبِلِ وَمَشْيِ الأْقْدَامِ. عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.
وَالسَّفَرُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الأْهْلِيَّةِ بِقِسْمَيْهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مِنَ الْعَوَارِضِ؛ لأِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ فِي الْعِبَادَاتِ، كَقَصْرِ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَالْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (سَفَرٍ).
و- الْخَطَأُ:
42 - الْخَطَأُ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: مَا قَابَلَ الصَّوَابَ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: مَا قَابَلَ الْعَمْدَ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ بِهِ فِي عَوَارِضِ الأْهْلِيَّةِ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنَ الإْنْسَانِ بِلاَ قَصْدٍ إِلَيْهِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سِوَاهُ.
وَالْخَطَأُ لاَ يُنَافِي الأْهْلِيَّةَ بِنَوْعَيْهَا؛ لأِنَّ الْعَقْلَ مَوْجُودٌ مَعَهُ، وَالْجِنَايَةُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّثَبُّتِ، وَلِذَا يُؤَاخَذُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلاَ تُقَدَّرُ الْعُقُوبَةُ فِيهِ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا بِقَدْرِ عَدَمِ التَّثَبُّتِ الَّذِي أَدَّى إِلَى حُصُولِهَا.
وَالْخَطَأُ يُعْذَرُ بِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذَا اجْتَهَدَ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ، وَاعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْعُقُوبَةَ عَنِ الْمُخْطِئِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَلاَ يُعْتَبَرُ الْخَطَأُ عُذْرًا فِيهَا، وَلِذَا فَإِنَّ الْمُخْطِئَ يَضْمَنُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى خَطَئِهِ مِنْ ضَرَرٍ أَوْ تَلَفٍ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (خَطَأٍ).
ثَانِيًا: الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ الَّتِي مِنْ غَيْرِ الإْنْسَانِ نَفْسِهِ:
43 - وَهِيَ عَارِضٌ وَاحِدٌ فَقَطْ وَهُوَ الإْكْرَاهُ: وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْحَمْلُ عَلَى الأْمْرِ قَهْرًا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى مَا لاَ يَرْضَاهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَلاَ يَخْتَارُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْ تُرِكَ وَنَفْسَهُ.
وَهُوَ مُعْدِمٌ لِلرِّضَى لاَ لِلاِخْتِيَارِ؛ لأِنَّ الْفِعْلَ يَصْدُرُ عَنِ الْمُكْرَهِ بِاخْتِيَارِهِ، لَكِنَّهُ قَدْ يَفْسُدُ الاِخْتِيَارُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى اخْتِيَارٍ آخَرَ، وَقَدْ لاَ يُفْسِدُهُ بِأَنْ يَبْقَى الْفَاعِلُ مُسْتَقِلًّا فِي قَصْدِهِ.
هَذَا، وَالإْكْرَاهُ سَوَاءٌ أَكَانَ مُلْجِئًا أَمْ غَيْرَ مُلْجِئٍ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ - أَوْ إِكْرَاهًا بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ - لاَ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لِبَقَاءِ الذِّمَّةِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الأْدَاءِ لِبَقَاءِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ عَدُّوهُ مِنَ الْعَوَارِضِ؛ لأِنَّهُ يُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ، وَيُجْعَلُ الْمُكْرَهُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - فِي بَعْضِ صُوَرِهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ - بِكَسْرِ الرَّاءِ -
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (إِكْرَاهٍ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن ، الصفحة / 191
الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ:
20 - جعل الشّارِعُ الْبُلُوغ أمارةً على أوّلِ كمالِ الْعقْلِ؛ لأِنّ الاِطِّلاع على أوّلِ كمالِ الْعقْلِ مُتعذِّرٌ، فأُقِيم الْبُلُوغُ مقامهُ.
والْبُلُوغُ بِالسِّنِّ: يكُونُ عِنْد عدمِ وُجُودِ علامةٍ مِنْ علاماتِ الْبُلُوغِ قبْل ذلِك، واخْتلف
الْفُقهاءُ فِي سِنِّ الْبُلُوغِ.
فيرى الشّافِعِيّةُ، والْحنابِلةُ، وأبُو يُوسُف ومُحمّدٌ مِن الْحنفِيّةِ: أنّ الْبُلُوغ بِالسِّنِّ يكُونُ بِتمامِ خمْس عشْرة سنةً قمرِيّةً لِلذّكرِ والأْنْثى، كما صرّح الشّافِعِيّةُ بِأنّها تحْدِيدِيّةٌ؛ لِخبرِ ابْنِ عُمر «عُرِضْتُ على النّبِيِّ صلي الله عليه وسلم يوْم أُحُدٍ، وأنا ابْنُ أرْبع عشْرة سنةً فلمْ يُجِزْنِي، ولمْ يرنِي بلغْتُ، وعُرِضْتُ عليْهِ يوْم الْخنْدقِ وأنا ابْنُ خمْس عشْرة سنةً فأجازنِي، ورآنِي بلغْتُ » .
قال الشّافِعِيُّ: ردّ النّبِيِّ صلي الله عليه وسلم سبْعة عشر مِن الصّحابةِ، وهُمْ أبْناءُ أرْبع عشْرة سنةً، لأِنّ هُ لمْ يرهُمْ بلغُوا، ثُمّ عُرِضُوا عليْهِ وهُمْ مِنْ أبْناءِ خمْس عشْرة فأجازهُمْ، مِنْهُمْ: زيْدُ بْنُ ثابِتٍ ورافِعُ بْنُ خدِيجٍ وابْنُ عُمر.
ويرى الْمالِكِيّةُ أنّ الْبُلُوغ يكُونُ بِتمامِ ثمانِي عشْرة سنةً، وقِيل بِالدُّخُولِ فِيها، وقدْ أوْرد الْحطّابُ خمْسة أقْوالٍ فِي الْمذْهبِ، ففِي رِوايةٍ: ثمانِية عشر، وقِيل: سبْعة عشر، وزاد بعْضُ شُرّاحِ الرِّسالةِ: سِتّة عشر، وتِسْعة عشر، ورُوِي عنِ ابْنِ وهْبٍ خمْسة عشر، لِحدِيثِ ابْنِ عُمر السّابِقِ.
ويرى أبُو حنِيفة: أنّ الْبُلُوغ بِالسِّنِّ لِلْغُلامِ هُو بُلُوغُهُ ثمانِي عشْرة سنةً، والْجارِيةِ سبْع عشْرة سنةًلقوله تعالي : ( ولا تقْربُوا مال الْيتِيمِ إِلاّ بِالّتِي هِي أحْسنُ حتّى يبْلُغ أشُدّهُ) قال ابْنُ عبّاسٍ رضي الله عنه : الأْشُدُّ ثمانِي عشْرة سنةً. وهِي أقلُّ ما قِيل فِيهِ، فأخذ بِهِ احْتِياطًا، هذا أشُدُّ الصّبِيِّ، والأُنْثى أسْرعُ بُلُوغًا فنقصتْ سنةً.
السِّنُّ الأْدْنى لِلْبُلُوغِ الّذِي لا تصِحُّ دعْوى الْبُلُوغِ قبْلهُ:
21 - السِّنُّ الأْدْنى لِلْبُلُوغِ فِي الذّكرِ: عِنْد الْمالِكِيّةِ والشّافِعِيّةِ بِاسْتِكْمالِ تِسْعِ سِنِين قمرِيّةٍ بِالتّمامِ، وفِي وجْهٍ آخر لِلشّافِعِيّةِ: مُضِيُّ نِصْفِ التّاسِعةِ، ذكرهُ النّووِيُّ فِي شرْحِ الْمُهذّبِ.
وعِنْد الْحنفِيّةِ: اثْنتا عشْرة سنةً . وعِنْد الْحنابِلةِ: عشْرُ سِنِين. ويُقْبلُ إِقْرارُ الْولِيِّ بِأنّ الصّبِيّ بلغ بِالاِحْتِلامِ، إِذا بلغ عشْر سِنِين .
والسِّنُّ الأْدْنى لِلْبُلُوغِ فِي الأْنْثى: تِسْعُ سِنِين قمرِيّةٍ عِنْد الْحنفِيّةِ، والشّافِعِيّةِ على الأْظْهرِ عِنْدهُمْ، وكذا الْحنابِلةُ لأِنّ هُ أقلُّ سِنٍّ تحِيضُ لهُ الْمرْأةُ، ولِحدِيثِ: «إِذا بلغتِ الْجارِيةُ تِسْع سِنِين فهِي امْرأةٌ» والْمُرادُ حُكْمُها حُكْمُ الْمرْأةِ، وفِي رِوايةٍ لِلشّافِعِيّةِ: نِصْفُ التّاسِعةِ، وقِيل: الدُّخُولُ فِي التّاسِعةِ؛ و لأِنّ هذا أقلُّ سِنٍّ لِحيْضِ الْفتاةِ .
والسِّنُّ الأْدْنى لِلْبُلُوغِ فِي الْخُنْثى: تِسْعُ سِنِين قمرِيّةٍ بِالتّمامِ، وقِيل نِصْفُ التّاسِعةِ، وقِيل: الدُّخُولُ فِيها .
إِثْباتُ الْبُلُوغِ:
يثْبُتُ الْبُلُوغُ بِالطُّرُقِ الآْتِيةِ:
الطّرِيقُ الأْولى: الإْقْرارُ:
22 - تتّفِقُ كلِمةُ الْفُقهاءِ فِي الْمذاهِبِ الأْرْبعةِ على أنّ الصّغِير إِذا كان مُراهِقًا، وأقرّ بِالْبُلُوغِ بِشيْءٍ مِن الْعلاماتِ الطّبِيعِيّةِ الّتِي تخْفى عادةً، كالإْنْزالِ والاِحْتِلامِ والْحيْضِ، يصِحُّ إِقْرارُهُ، وتثْبُتُ لهُ أحْكامُ الْبالِغِ فِيما لهُ وما عليْهِ. قال الْمالِكِيّةُ: يُقْبلُ قوْلُهُ فِي الْبُلُوغِ نفْيًا وإِثْباتًا، طالِبًا أوْ مطْلُوبًا. فالطّالِبُ كمنِ ادّعى الْبُلُوغ لِيأْخُذ سهْمهُ فِي الْغنِيمةِ، أوْ لِيؤُمّ النّاس، أوْ لِيُكْمِل الْعدد فِي صلاةِ الْجُمُعةِ. والْمطْلُوبُ كجانٍ ادّعى عدم الْبُلُوغِ لِيدْرأ عنْ نفْسِهِ الْحدّ أوِ الْقِصاص أوِ الْغرامة فِي إِتْلافِ الْودِيعةِ، وكمُطلِّقٍ ادّعى عدم الْبُلُوغِ عِنْد الطّلاقِ؛ لِئلاّ يقع عليْهِ الطّلاقُ.
ويُشْترطُ لِقبُولِ قوْلِهِ أنْ يكُون قدْ جاوز السِّنّ الأْدْنى لِلْبُلُوغِ، بلْ لا تُقْبلُ الْبيِّنةُ بِبُلُوغِهِ قبْل ذلِك. فعِنْد الْحنفِيّةِ: لا يُقْبلُ إِقْرارُ الصّبِيِّ قبْل تمامِ اثْنيْ عشر عامًا، وعِنْد الْحنابِلةِ لا يُقْبلُ إِقْرارُهُ بِذلِك قبْل تمامِ الْعاشِرةِ، وعِنْد كِليْهِما: لا يُقْبلُ إِقْرارُ الصّبِيّةِ بِهِ قبْل تمامِ التّاسِعةِ؛ ووجْهُ صِحّةِ الإْقْرارِ بِالْبُلُوغِ: أنّهُ معْنًى لا يُعْرفُ إِلاّ مِنْ قِبلِ الشّخْصِ نفْسِهِ، وفِي تكْلِيفِ الاِطِّلاعِ عليْهِ عُسْرٌ شدِيدٌ.
ولا يُكلّفُ الْبيِّنة على ذلِك.
ولا يحْلِفُ أيْضًا حتّى عِنْد الْخُصُومةِ، فإِنْ لمْ يكُنْ فِي الْحقِيقةِ بالِغًا فلا قِيمة لِيمِينِهِ؛ لِعدمِ الاِعْتِدادِ بِيمِينِ الصّغِيرِ، وإِنْ كان بالِغًا فيمِينُهُ تحْصِيلُ حاصِلٍ.
وقدِ اسْتثْنى الشّافِعِيّةُ بعْض الصُّورِ يحْلِفُ فِيها احْتِياطًا، لكِنّهُ يُزاحِمُ غيْرهُ فِي الْحُقُوقِ، كما لوْ طلب فِي الْغنِيمةِ سهْم مُقاتِلٍ .
23 - واشْترط الْفُقهاءُ فِي الْمذاهِبِ الأْرْبعةِ لِصِحّةِ إِقْرارِهِ بِذلِك: أنْ لا يكُون بِحالٍ مُرِيبةٍ، أوْ كما عبّر الشّافِعِيُّ رحمه الله يُقْبلُ إِنْ أشْبه، فإِنْ لمْ يُشْبِهْ لمْ يُقْبلْ، ولوْ صدّقهُ أبُوهُ. وعبّر الْحنفِيّةُ بِقوْلِهِمْ إِنْ لمْ يُكذِّبْهُ الظّاهِرُ، بلْ يكُونُ بِحالٍ يحْتلِمُ مِثْلُهُ. والْمُرادُ أنْ يكُون حالُ جِسْمِهِ عِنْد الإِْقْرارِ حال الْبالِغِين، ولايُشكُّ فِي صِدْقِهِ.
هكذا أطْلق فُقهاءُ الْمذاهِبِ - ما عدا الْمالِكِيّة - قبُول قوْلِهِ، وفصّل الْمالِكِيّةُ فقالُوا: إِنِ ارْتِيب فِيهِ يُصدّقُ فِيما يتعلّقُ بِالْجِنايةِ والطّلاقِ، فلا يُحدُّ لِلشُّبْهةِ، ولا يقعُ عليْهِ الطّلاقُ اسْتِصْحابًا لأِصْلِ الصِّغرِ، ولا يُصدّقُ فِيما يتعلّقُ بِالْمالِ، فلوْ أقرّ بِإِتْلافِ الْودِيعةِ، وأنّهُ بالِغٌ، فقال أبُوهُ: إِنّهُ غيْرُ بالِغٍ، فلا ضمان .
وقدْ تعرّض بعْضُ الْمالِكِيّةِ لِقبُولِ قوْلِ الْمُراهِقيْنِ فِي الْبُلُوغِ إِنِ ادّعياهُ بِالإْنْباتِ. والْفرْقُ بيْن الإْنْباتِ وبيْن غيْرِهِ مِن الْعلاماتِ الطّبِيعِيّةِ الّتِي ذُكِرتْ سابِقًا: أنّهُ يسْهُلُ الاِطِّلاعُ عليْهِ. وقدْ أمر النّبِيِّ صلي الله عليه وسلم بِالْكشْفِ عمّنْ شُكّ فِي بُلُوغِهِ مِنْ غِلْمانِ بنِي قُريْظة. إِلاّ أنّ كوْن الْعوْرةِ فِي الأْصْلِ يحْرُمُ كشْفُها، دعا إِلى قوْلِ الْفُقهاءِ إِنّهُ يُقْبلُ قوْلُ الشّخْصِ الْمشْكُوكِ فِيهِ فِي نباتِها وعدمِهِ، إِلاّ أنّ ابْن الْعربِيِّ الْمالِكِيّ خالف فِي ذلِك وقال: إِنّهُ ينْبغِي أنْ يُنْظر إِليْها، ولكِنْ لا يُنْظرُ مُباشرةً بلْ مِنْ خِلالِ الْمِرْآةِ. وردّ كلامهُ ابْنُ الْقطّانِ مِن الْمالِكِيّةِ وقال: لا يُنْظرُ إِليْها مُباشرةً، ولا مِنْ خِلالِ الْمِرْآةِ، ويُقْبلُ كلامُهُ إِنِ ادّعى الْبُلُوغ بِالإْنْباتِ.
الْبُلُوغُ شرْطٌ لِلُزُومِ الأْحْكامِ الشّرْعِيّةِ عِنْد الْفُقهاءِ:
24 - ذهب الْفُقهاءُ إِلى أنّ الشّارِع ربط التّكْلِيف بِالْواجِباتِ والْمُحرّماتِ ولُزُومِ آثارِ الأْحْكامِ فِي الْجُمْلةِ بِشرْطِ الْبُلُوغِ، واسْتدلُّوا على ذلِك بِأدِلّةٍ مِنْها:
أ - قوْلُ اللّهِ تعالى: (وإِذا بلغ الأْطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُم فلْيسْتأْذِنُوا كما اسْتأْذن الّذِين مِنْ قبْلِهِمْ) جعل الْبُلُوغ مُوجِبًا لِلاِسْتِئْذانِ.
ب – ومِنْها قوله تعالي ( وابْتلُوا الْيتامى حتّى إِذا بلغُوا النِّكاح فإِنْ آنسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فادْفعُوا إِليْهِمْ أمْوالهُمْ) جعل بُلُوغ النِّكاحِ مُوجِبًا لاِرْتِفاعِ الْوِلايةِ الْمالِيّةِ عنِ الْيتِيمِ، بِشرْطِ كوْنِهِ راشِدًا.
ج - ومِنْها قوْلُ النّبِيِّ صلي الله عليه وسلم لِمُعاذٍ لمّا أرْسلهُ إِلى الْيمنِ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حالِمٍ دِينارًا أوْ عِدْلهُ معافِرِيًّا» جعل الاِحْتِلام مُوجِبًا لِلْجِزْيةِ.
د - ومِنْها ما حصل يوْم قُريْظة، مِنْ أنّ منِ اشْتبهُوا فِي بُلُوغِهِ مِن الأْسْرى كان إِذا أنْبت قُتِل، فإِنْ لمْ يكُنْ أنْبت لمْ يُقْتلْ. فجُعِل الإْنْباتُ علامةً لِجوازِ قتْلِ الأْسِيرِ.
هـ - ومِنْها قوْلُ النّبِيِّ صلي الله عليه وسلم «لا يقْبلُ اللّهُ صلاة حائِضٍ إِلاّ بِخِمارٍ» فجعل الْحيْض مِن الْمرْأةِ مُوجِبًا لِفسادِ صلاتِها، إِنْ صلّتْ بِغيْرِ خِمارٍ.
و - ومِنْها حدِيثُ: «غُسْلُ يوْمِ الْجُمُعةِ واجِبٌ على كُلِّ مُحْتلِمٍ» بوّب عليْهِ الْبُخارِيُّ «باب بُلُوغِ الصِّبْيانِ وشهادتِهِمْ» قال ابْنُ حجرٍ: ويُسْتفادُ مقْصُودُ التّرْجمةِ - يعْنِي شهادة الصِّبْيانِ - بِالْقِياسِ على بقِيّةِ الأْحْكامِ مِنْ حيْثُ تعلُّقُ الْوُجُوبِ بِالاِحْتِلامِ.
ز - ومِنْها حدِيثُ: «رُفِع الْقلمُ عنْ ثلاثةٍ: عنِ الصّغِيرِ حتّى يكْبُر...» جعل الْخُرُوج عنْ حدِّ الصّغِيرِ مُوجِبًا لِكِتابةِ الإْثْمِ، على منْ فعل ما يُوجِبُهُ.
فهذِهِ الأْدِلّةُ وأمْثالُها - مِمّا يأْتِي فِي شأْنِ علاماتِ الْبُلُوغِ - تدُلُّ على أنّ الشّارِع ربط التّكْلِيف ولُزُوم الأْحْكامِ عامّةً بِشرْطِ الْبُلُوغِ، فمنِ اعْتُبِر بالِغًا بِأيِّ علامةٍ مِنْ علاماتِ الْبُلُوغِ فهُو رجُلٌ تامٌّ أوِ امْرأةٌ تامّةٌ، مُكلّفٌ - إِنْ كان عاقِلاً - كغيْرِهِ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ، يلْزمُهُ ما يلْزمُهُمْ، وحُقّ لهُ ما يحِقُّ لهُمْ. وقدْ نقل
بعْضُهُمُ الإْجْماع على ذلِك، فقال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وأجْمعُوا على أنّ الْفرائِض والأْحْكام تجِبُ على الْمُحْتلِمِ الْعاقِلِ . وقال ابْنُ حجرٍ: أجْمع الْعُلماءُ على أنّ الاِحْتِلام فِي الرِّجالِ والنِّساءِ يلْزمُ بِهِ الْعِباداتُ والْحُدُودُ وسائِرُ الأْحْكامِ .
ما يُشْترطُ لهُ الْبُلُوغُ مِن الأْحْكامِ:
أ - ما يُشْترطُ لِوُجُوبِهِ الْبُلُوغُ:
25 - التّكْلِيفُ بِالْفرائِضِ والْواجِباتِ وترْكِ الْمُحرّماتِ يُشْترطُ لهُ الْبُلُوغُ، ولا تجِبُ على غيْرِ الْبالِغِ لِقوْلِ النّبِيِّ صلي الله عليه وسلم (رُفِع الْقلمُ عنْ ثلاثةٍ: عنِ الصّغِيرِ حتّى يكْبُر...) الْحدِيث، وذلِك كالصّلاةِ والصّوْمِ والْحجِّ على أنّ فِي الزّكاةِ خِلافًا.
ومع هذا ينْبغِي لِولِيِّ الصّغِيرِ أنْ يُجنِّبهُ الْمُحرّماتِ، وأنْ يأْمُرهُ بِالصّلاةِ ونحْوِها لِيعْتادها، لِقوْلِ النّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : (مُرُوا أبْناءكُمْ بِالصّلاةِ لِسبْعٍ، واضْرِبُوهُمْ عليْها لِعشْرٍ، وفرِّقُوا بيْنهُمْ فِي الْمضاجِعِ» .
ومع هذا إِذا أدّاها الصّغِيرُ، أوْ فعل الْمُسْتحبّاتِ تصِحُّ مِنْهُ، ويُؤْجرُ عليْها.
ولا يجِبُ الْقِصاصُ والْحُدُودُ، كحدِّ السّرِقةِ وحدِّ الْقذْفِ ولكِنْ يجُوزُ أنْ يُؤدّب.
ب - ما يُشْترطُ لِصِحّتِهِ الْبُلُوغُ:
26 - الْبُلُوغُ شرْطُ صِحّةٍ فِي كُلِّ ما يُشْترطُ لهُ تمامُ الأْهْلِيّةِ، ومِنْ ذلِك: الْوِلاياتُ كُلُّها، كالإْمارةِ والْقضاءِ والْوِلايةِ على النّفْسِ والشّهادةِ فِي الْجُمْلةِ . ومِنْ ذلِك التّصرُّفاتُ الْمُتمحِّضةُ لِلضّررِ كالْهِبةِ والْعارِيّةِ والْوقْفِ والْكفالةِ . ومِنْ ذلِك أيْضًا: الطّلاقُ، وما فِي معْناهُ كالظِّهارِ والإْيلاءِ والْخُلْعِ والْعِتْقِ، وكذلِك النّذْرُ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني والعشرون ، الصفحة / 212
رُشْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ: الصَّلاَحُ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ وَالاِسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ، وَهُوَ خِلاَفُ الْغَيِّ وَالضَّلاَلِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: رَشِدَ رُشْدًا مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَرَشَدَ يَرْشُدُ مِنْ بَابِ قَتَلَ، فَهُوَ رَاشِدٌ، وَالاِسْمُ الرَّشَادُ.
وَالرَّشِيدُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، وَالَّذِي حَسُنَ تَقْدِيرُهُ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الرَّشِيدُ: هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ الْخَلْقَ إِلَى مَصَالِحِهِمْ أَيْ هَدَاهُمْ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا، فَهُوَ رَشِيدٌ بِمَعْنَى مُرْشِدٍ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَنْسَاقُ تَدْبِيرَاتُهُ إِلَى غَايَاتِهَا عَلَى سَبِيلِ السَّدَادِ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةِ مُشِيرٍ وَلاَ تَسْدِيدِ مُسَدِّدٍ.
وَلاَ يَخْرُجُ تَعْرِيفُهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالرَّشَدُ أَخَصُّ مِنَ الرُّشْدِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الأْمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأْخْرَوِيَّةِ، وَالرَّشَدُ مُحَرَّكَةٌ فِي الأْمُورِ الأْخْرَوِيَّةِ لاَ غَيْرَ.
وَالرُّشْدُ الْمُشْتَرَطُ لِتَسْلِيمِ الْيَتِيمِ مَالَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُشْتَرَطُ لَهُ الرُّشْدُ هُوَ صَلاَحُ الْمَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَصَلاَحُ الْمَالِ وَالدِّينِ مَعًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِرَفْعِ الْحَجْرِ لِلرُّشْدِ ابْتِدَاءً، فَلَوْ فَسَقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْمُرَادُ بِالصَّلاَحِ فِي الدِّينِ أَنْ لاَ يَرْتَكِبَ مُحَرَّمًا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ. وَفِي الْمَالِ: أَنْ لاَ يُبَذِّرَ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأْهْلِيَّةُ:
2 - الأْهْلِيَّةُ لُغَةً: الصَّلاَحِيَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ: أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ، وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ.
فَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ هِيَ: صَلاَحِيَةُ الإْنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
وَأَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ هِيَ: صَلاَحِيَةُ الإْنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا.
هَذَا وَالرُّشْدُ هُوَ الْمَرْحَلَةُ الأْخِيرَةُ مِنْ مَرَاحِلِ الأْهْلِيَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ وَارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْوِلاَيَةُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بِلاَ خِلاَفٍ.
ب - الْبُلُوغُ:
3 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الاِحْتِلاَمُ وَالإْدْرَاكُ. وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ قُوَّةٌ تَحْدُثُ لِلشَّخْصِ تَنْقُلُهُ مِنْ حَالِ الطُّفُولَةِ إِلَى حَالِ الرُّجُولَةِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِظُهُورِ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالاِحْتِلاَمِ، وَكَالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ فِي الأْنْثَى، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعَلاَمَاتِ كَانَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ، وَالرُّشْدُ وَالْبُلُوغُ قَدْ يَحْصُلاَنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ الرُّشْدُ عَنِ الْبُلُوغِ تَبَعًا لِتَرْبِيَةِ الشَّخْصِ وَاسْتِعْدَادِهِ.
ج - التَّبْذِيرُ:
4 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مُشْتَقٌّ مِنْ بَذْرِ الْحَبِّ فِي الأْرْضِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَفْرِيقُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الإْسْرَافِ.
وَالتَّبْذِيرُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَدَمُ الصَّلاَحِ فِي الْمَالِ، فَمَنْ كَانَ مُبَذِّرًا كَانَ سَفِيهًا أَيْ غَيْرَ رَشِيدٍ.
د - الْحَجْرُ:
5 - وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ مَنْعَ مَوْصُوفِهَا مِنْ نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي الزَّائِدِ عَلَى قُوتِهِ أَوْ تَبَرُّعِهِ بِمَالِهِ، أَوِ الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَجْرِ وَالرُّشْدِ أَنَّ الْحَجْرَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ فِقْدَانِ الرُّشْدِ.
هـ - السَّفَهُ:
6 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: خِفَّةٌ تَعْتَرِي الإْنْسَانَ فَتَبْعَثُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِخِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، مَعَ عَدَمِ الاِخْتِلاَلِ فِي الْعَقْلِ، وَالسَّفَهُ نَقِيضُ الرُّشْدِ.
وَقْتُ الرُّشْدِ وَكَيْفِيَّةُ مَعْرِفَتِهِ:
7 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرُّشْدَ الْمُعْتَدَّ بِهِ لِتَسْلِيمِ الْمَالِ لِلْيَتِيمِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ لَمْ يَرْشُدْ بَعْدَ بُلُوغِهِ اسْتَمَرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ حَتَّى وَلَوْ صَارَ شَيْخًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لأَبِي حَنِيفَةَ.
وَهَذَا الرُّشْدُ قَدْ يَأْتِي مَعَ الْبُلُوغِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، تَبَعًا لِتَرْبِيَةِ الشَّخْصِ وَاسْتِعْدَادِهِ وَتَعَقُّدِ الْحَيَاةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ أَوْ بَسَاطَتِهَا، فَإِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ).
وَإِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ وَكَانَ عَاقِلاً كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، بَلْ تَبْقَى فِي يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ بِالْفِعْلِ، أَوْ يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، وَلَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ؛ لأِنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الاِحْتِيَاطِ وَالتَّأْدِيبِ، وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ، وَالإْنْسَانُ بَعْدَ بُلُوغِهِ هَذِهِ السِّنَّ وَصَلاَحِيَتِهِ لأَنْ يَكُونَ جَدًّا لاَ يَكُونُ أَهْلاً لِلتَّأْدِيبِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الشَّخْصَ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَلَكِنْ لاَ تَرْتَفِعُ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ، وَتَبْقَى أَمْوَالُهُ تَحْتَ يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ؛ لقوله تعالي: ( وَلاَتُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًاوَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) فَإِنَّهُ مَنَعَ الأْوْلِيَاءَ وَالأْوْصِيَاءَ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إِلَى السُّفَهَاءِ، وَنَاطَ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِمْ بِتَوَافُرِ أَمْرَيْنِ: الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ الْمَالُ إِلَيْهِمْ بِالْبُلُوغِ مَعَ عَدَمِ الرُّشْدِ.
8 - وَيُعْرَفُ رُشْدُ الصَّبِيِّ بِاخْتِبَارِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ) يَعْنِي اخْتَبِرُوهُمْ، وَاخْتِبَارُهُ بِأَنْ تُفَوِّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ طَبَقَاتِ النَّاسِ، فَوَلَدُ التَّاجِرِ يُخْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُمَاكَسَةِ فِيهِمَا، وَوَلَدُ الزَّارِعِ فِي أَمْرِ الزِّرَاعَةِ وَالإْنْفَاقِ عَلَى الْقُوَّامِ بِهَا، وَالْمُحْتَرِفُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحِرْفَتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي أَمْرِ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ، وَحِفْظِ الثِّيَابِ، وَصَوْنِ الأْطْعِمَةِ وَشِبْهِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْبَيْتِ، وَلاَ تَكْفِي الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ فِي الاِخْتِبَارِ بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ مَرَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ بِحَيْثُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِرُشْدِهِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ الاِخْتِبَارِ أَصَحُّهُمَا: أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ قَدْرٌ مِنَ الْمَالِ وَيُمْتَحَنَ فِي الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُسَاوَمَةِ فَإِذَا آلَ الأْمْرُ إِلَى الْعَقْدِ، عَقَدَ الْوَلِيُّ.
وَالثَّانِي: يَعْقِدُ الصَّبِيُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ هَذَا الْعَقْدُ لِلْحَاجَةِ، وَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ الْمَالُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ لِلاِخْتِبَارِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَلِيِّ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَيْضًا وَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ اخْتِبَارِ الصَّبِيِّ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَأَمَّلَ أَخْلاَقَهُ وَيَسْتَمِعَ إِلَى أَغْرَاضِهِ، فَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِنَجَابَتِهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِالسَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِ، وَضَبْطِ مَالِهِ، أَوِ الإْهْمَالِ لِذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ مَالِهِ إِنْ تَوَسَّمَ الْخَيْرَ مِنْهُ وَيُبِيحَ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَإِنْ نَمَّاهُ وَأَحْسَنَ النَّظَرَ فِيهِ فَلْيُسَلِّمْ إِلَيْهِ مَالَهُ جَمِيعَهُ، وَإِنْ أَسَاءَ النَّظَرَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُ مَالِهِ عَنْهُ.
9 - وَأَمَّا وَقْتُ الاِخْتِبَارِ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لقوله تعالي: ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ) الآْيَةَ فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الآْيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِلاَءَهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَمَّاهُمْ يَتَامَى، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ يَتَامَى قَبْلَ الْبُلُوغِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَدَّ اخْتِبَارَهُمْ إِلَى الْبُلُوغِ بِلَفْظَةِ حَتَّى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الاِخْتِبَارَ قَبْلَهُ؛ وَلأِنَّ تَأْخِيرَ الاِخْتِبَارِ إِلَى الْبُلُوغِ يُؤَدِّي إِلَى الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ الرَّشِيدِ؛ لأِنَّ الْحَجْرَ يَمْتَدُّ إِلَى أَنْ يُخْتَبَرَ وَيُعْلَمَ رُشْدُهُ، وَاخْتِبَارُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَكَانَ أَوْلَى، لَكِنْ لاَ يُخْتَبَرُ إِلاَّ الْمُرَاهِقُ الْمُمَيِّزُ الَّذِي يَعْرِفُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالْمَصْلَحَةَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لأِنَّهُ قَبْلَهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ، إِذِ الْبُلُوغُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْعَقْلِ لَمْ يُوجَدْ، فَكَانَ عَقْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ.
وَلَمْ يُجَوِّزْ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لِلصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ التِّجَارَةَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ مَالاً لِيَتَّجِرَ بِهِ حَيْثُ قَالَ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ: لاَ أَرَى ذَلِكَ جَائِزًا؛ لأِنَّ الصَّبِيَّ مُولًى عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مُولًى عَلَيْهِ فَلاَ أَرَى الإِْذْنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إِذْنًا.
وَقَالَ فِي الْيَتِيمِ الَّذِي بَلَغَ وَاحْتَلَمَ وَالَّذِي لاَ يَعْلَمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ إِلاَّ خَيْرًا فَأَعْطَاهُ ذَهَبًا بَعْدَ احْتِلاَمِهِ لِيَخْتَبِرَهُ بِهِ وَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِيَخْتَبِرَهُ بِذَلِكَ، أَوْ لِيَعْرِفَ، فَدَايَنَ النَّاسَ فَرَهِقَهُ دَيْنٌ: لاَ أَرَى أَنْ يُعَدَّى عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، لاَ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَلاَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
قِيلَ لِمَالِكٍ: إِنَّهُ قَدْ أَمْكَنَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، أَفَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ؟ قَالَ: لاَ، لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ مَالَهُ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إِلَيْهِ لِيَخْتَبِرَهُ بِهِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ. وَجَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالاِخْتِبَارِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ الْبُلُوغِ كُلُّ وَلِيٍّ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الاِخْتِبَارَ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ لِلْحَاكِمِ فَقَطْ.
وَنَسَبَ الْجُورِيُّ الأْوَّلَ إِلَى عَامَّةِ الأْصْحَابِ، وَالثَّانِيَ إِلَى ابْنِ سُرَيْجٍ.
وَلاَ فَرْقَ فِي وَقْتِ الاِخْتِبَارِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلاَّ أَنَّ أَحْمَدَ أَوْمَأَ فِي مَوْضِعٍ إِلَى أَنَّ الاِخْتِبَارَ قَبْلَ الْبُلُوغِ خَاصٌّ بِالْمُرَاهِقِ الَّذِي يَعْرِفُ الْمُعَامَلَةَ وَالْمَصْلَحَةَ، بِخِلاَفِ الْجَارِيَةِ لِنَقْصِ خِبْرَتِهَا، وَأَمَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَهُمَا سَوَاءٌ.
دَفْعُ الْمَالِ إِلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ غَيْرِ الرَّشِيدِ:
10 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْغُلاَمَ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ؛ لأِنَّهُ لاَ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى الْعَامَّةِ كَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأْشْهَرِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِ الرَّشِيدِ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ حَتَّى وَلَوْ صَارَ شَيْخًا، وَلاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ أَبَدًا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الأْمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَى كُلِّ مُضَيِّعٍ لِمَالِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأْنْثَى.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ زَادُوا فِي حَقِّ الأْنْثَى لِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهَا دُخُولَ زَوْجٍ بِهَا وَشَهَادَةَ الْعُدُولِ بِحِفْظِهَا مَالِهَا.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي مُقَابِلِ الأْشْهَرِ وَالأْصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجَارِيَةَ لاَ يُدْفَعُ إِلَيْهَا مَالُهَا بَعْدَ رُشْدِهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَتَلِدَ أَوْ تُقِيمَ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ سَنَةً. وَاخْتَارَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَالشِّيرَازِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ لِمَا رَوَى شُرَيْحٌ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لاَ أُجِيزَ لِجَارِيَةٍ عَطِيَّةً حَتَّى تَحُولَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَوْلاً أَوْ تَلِدَ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ أَنَّ الْخِلاَفَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِ السَّفَهِ وَالْغَفْلَةِ إِنَّمَا مَحَلُّهُ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيُبْطِلُهَا الْهَزْلُ، وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلاَ يُبْطِلُهَا الْهَزْلُ فَلاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِيهَا بِالإْجْمَاعِ. وَقَوْلُهُمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ صِيَانَةً لِمَالِهِ فَيَكُونُ فِي أَحْكَامِهِ كَصَغِيرٍ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، إِلاَّ أَنَّهُ مَنَعَ عَنْهُ مَالَهُ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِالإْجْمَاعِ وَلاَ إِجْمَاعَ هُنَا فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ بِالنَّصِّ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَتِيمًا لِقُرْبِهِ مِنَ الْبُلُوغِ؛ وَلأِنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِ الْبُلُوغِ قَدْ لاَ يُفَارِقُهُ السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا فَقَدَّرْنَاهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لأِنَّهُ حَالُ كَمَالِ لُبِّهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله تعالي عنه أَنَّهُ قَالَ: يَنْتَهِي (يَتِمُّ) لُبُّ الرَّجُلِ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَالَ أَهْلُ الطَّبَائِعِ: مَنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ سِنًّا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ جَدًّا؛ لأِنَّ أَدْنَى مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا الْغُلاَمُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ الْوَلَدُ يَبْلُغُ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ جَدًّا؛ وَلأِنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِ، وَالاِشْتِغَالُ بِالتَّأْدِيبِ عِنْدَ رَجَاءِ التَّأَدُّبِ، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ فَقَدِ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأَدُّبِ فَلاَ مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَالِ بَعْدَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ مُكَلَّفٌ فَلاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ قَبْلَ رُشْدِهِ، وَعَدَمِ صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) فَقَدْ عَلَّقَ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِمْ عَلَى شَرْطَيْنِ: الْبُلُوغِ، وَإِينَاسِ الرُّشْدِ. وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لاَ يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلاَتُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ) يَعْنِي أَمْوَالَهُمْ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ) فَأَثْبَتَ الْوِلاَيَةَ عَلَى السَّفِيهِ؛ وَلأِنَّهُ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ فَلاَ يَجُوزُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ كَمَنْ لَهُ دُونَ ذَلِكَ.
هَذَا وَالْخِلاَفُ فِي اسْتِدَامَةِ الْحَجْرِ إِلَى إِينَاسِ الرُّشْدِ، أَوْ إِلَى بُلُوغِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ بَلَغَ مُبَذِّرًا. فَإِنْ بَلَغَ مُصْلِحًا لِلْمَالِ فَاسِقًا فِي الدِّينِ اسْتُدِيمَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لقوله تعالي: ( فَإِنْآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) وَالْفَاسِقُ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ؛ وَلأِنَّ حِفْظَهُ لِلْمَالِ لاَ يُوثَقُ بِهِ مَعَ الْفِسْقِ لأِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَدْعُوَهُ الْفِسْقُ إِلَى التَّبْذِيرِ فَلَمْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
11 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الرُّشْدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَقَدْ ذَكَرُوهُ فِي الْبَيْعِ وَفِي الشَّرِكَةِ وَفِي الْوَكَالَةِ وَفِي ضَمَانِ تَلَفِ الْعَارِيَّةِ وَفِي شَرْطِ الْمُعِيرِ وَفِي الإِْقْرَارِ فِيمَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَارِثِينَ بِوَارِثٍ.
وَجَعَلَهُ الشَّافِعِيَّةُ شَرْطًا لِخُرُوجِهِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْهِبَةِ، وَفِي الْوَقْفِ، وَفِي وَلِيِّ النِّكَاحِ، وَفِي رِضَا الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، وَفِي الْخُلْعِ فِي شُرُوطِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِلِ، وَفِي حَاضِنِ اللَّقِيطِ، وَالتَّفْصِيلُ مَحَلُّهُ الأْبْوَابُ الْخَاصَّةُ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ هَذَا فَضْلاً عَمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ.
وَيُنْظَرُ: (حَجْر) (وَسَفَه).
__________________________________________________________________
كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفورله (محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية) بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه
(مادة 184)
يجوز للحر العاقل البالغ غير المحجور عليه أن يباشر أي عقد كان، بنفسه أو يوكل به غيره، فمن باشر عقداً من العقود بنفسه لنفسه فهو الملزوم دون غيره بما يترتب عليه من الحقوق والأحكام.