مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني ، الصفحة : 185
مذكرة المشروع التمهيدى :
إذا كان الإكراه صادرة من الغير ، تطبق الأحكام التي تقدم ذكرها بصدد التدليس ، وعلى ذلك يبق المكره ملتزما بالتعاقد، إلا إذا أثبت أن الطرف الآخر كان يعلم ، أو كان في إمكانه أن يعلم بالإكراه ( انظر في هذا المعنى المادة 977 من التقنين الأرجنتين ).
والواقع أنه ليس ثمة ما يدعو للتفريق بين الإكراه والتدليس في هذا الشأن ( انظر مع ذلك المادة 1111 من التقنين الفرنسي، والمادة 17 من المشروع الفرنسي الايطالي ، والمادتين 49 / 53 من التقنينين التونسى والمراكشي ، والمادة 210 من التقنين اللبناني والمادة 123 من التقنين الألماني والمادة 29 من تقنين الالتزامات السويسري ، والمادة 41 من التقنين البولوني ، والمادة 101 من التقنين البرازيلى ، والمادة 92 من التقنين الصيني)، وقد قصد المشروع إلى استظهار هذا المعني بإضافة الفقرة الثانية من المادة 177 ، ونصها ، فإذا كان الطرف الآخر لا يعلم بوقوع الإكراه ولم يكن في استطاعته أن يعلم به فليس للمكره إلا أن بطالب المكره بالتعويض .
المشروع في لجنة المراجعة
تليت المادة 177 من المشروع واقترح كامل مرسي بك تعديلات لفظية .
واقترح معالي السنهورى باشا حذف الفقرة الثانية لأنها تقرر حكماً تكن فيه قواعد المسئولية فوافقت اللجنة على هذه الأقتراحات و أصبحت المادة الآتي :
إذا صدر الإكراه من غير المتعاقدين فليس للتعاقد المكره أن يطلب إبطال العقد مالم يثبت أن المتعاقد الأخركان يعلم أو كان في استطاعته أن يعلم بهذا الإكراه ،.
وأصبح رقم المادة 132 في المشروع النهائي .
المشروع في مجلس النواب
وافق المجس على المادة دون تعديل تحت رقم 132 .
المشروع في مجلس الشيوخ
مناقشات لجنة القانون المدني :
محضر الجلسة التاسعة
يراجع هذا المحضر ص 183 تعليقا على المادة 127 من القانون .
محضر الجلسة الخامسة والأربعين
يراجع هذا المحضر ص 184 تعليقاً على المادة 127 .
محضر الجلسة الثامنة والأربعين
تليت المادة 132 ، وكانت اللجنة قد قررت جذفها ، اكتفاء بإضافة عبارة .أو غيره، إلى المادة 131 ، ولكن معالي السنهورى باشا عارض في ذلك وقال إن الإكراه كالغلط تماماً ، وأنه يجب أن يعلم به الطرف الآخر ، وطلب إعادة المادة 132 .
قرار اللجنة :
وافقت اللجنة على إعادة المادة 132 مع :
استبدال عبارة ، أو كان من المفروض ما أن يعلم بعبارة ، أو كان في استطاعته أن يعلم الواردة في المادة .
تقرير اللجنة :
استبدلت عبارة , أو كان من المفروض حتما أن يعلم ، بعبارة , أو كان في استطاعته أن يعلم .
وأصبح رقم المادة 128 .
مناقشات المجلس :
وافق المجلس على المادة كماعدلتها اللجنة .
1- الإكراه المبطل للرضا لا يتحقق إلا بتهديد المتعاقد المكره بخطر جسيم محدق بنفسه أو بماله أو باستعمال وسائل ضغط أخرى لا قبل له باحتمالها أو التخلص منها ويكون من نتيجة ذلك حصول رهبة تحمله على الإقرار بقبول ما لم يكن يتقبله اختياراً على أن يكون هذا الضغط غير مستند إلى حق وأن تقدير وسائل الاكراه ومبلغ جسامتها وتأثيرها فى المتعاقد هو من مسائل الواقع التي تخضع لسلطة محكمة الموضوع التقديرية ولا رقابة لمحكمة النقض عليها متى أقامت قضاءها على أسباب سائغة، والمرض لا يعد بذاته وسيلة ضغط أو إكراه تعيب الإرادة - مهما كانت خطره إذ لا يد للإنسان فيه وقد عالج المشرع حالات التصرف التي تعقد إبان المرض الذي يتصل بالموت بأحكام خاصة أوردها فى المادتين 477، 916 من القانون المدني بما يتعين معه إعمالها دون غيرها.
(الطعن رقم 1282 لسنة 53 جلسة 1991/03/27 س 42 ع 1 ص 823 ق 131)
الإكراه ضغط مادي أو أدبي يقع على شخص فيبعث في نفسه رهبة تحمله على التعاقد، فتكون سبباً في جعل رضاه غير سليم.
فإذا كان الضغط ماديا وبلغ حداً من القوة لا سبيل إلى دفعه ، فإنه يعطل الإرادة تعطيلاً كاملاً ويجعل الرضا معدوماً والعقد باطلاً، وليس هذا هو المقصود بالإكراه الذي يعتبر عيباً من عيوب الرضا، و إنما المقصود به الإكراه الذي يدع للمكره شيئاً من الحرية، ليختار بين ضرر يهدده وبين إبرام العقد المقترح عليه، فإذا كان الخوف من الضرر الذي يهدده يحمله على تفضيل إبرام العقد تفادياً لحدوث ذلك الضرر له، أمكن القول بأن إرادته اتجهت فعلاً الى إبرام العقد، ولكنها لم تكن حرة كل الحرية في اتخاذها هذا الاتجاه بل كانت مضطرة الى سلوكه باعتباره أخف الضررين، ولذلك يعتبر المشرع الإكراه الذي دفع الإرادة في هذا الاتجاه عيباً يشوبها ويندمج بألا يترتب عليها مثل الأثر الذي يترتب على الإرادة الحرة السليمة، فيجعل عقد المكره قابلاً للإبطال، هذا فوق أن الإكراه - كالتدليس يعتبر عملاً غير مشروع من جانب مرتكبه يوجب إلزام الأخير بتعويض ما يكون قد سببه للعاقد الذي وقع عليه الإكراه من ضرر .
شروط الإكراه - ويبين من هذه النصوص أنه يشترط في الإكراه الذي يشوب الرضا ويجعل العقد قابلا للإبطال ثلاثة شروط :
1- وقوع ضغط على العاقد يبعث في نفسه خوفاً من ضرر جسيم أو رهبة قائمة على أساس .
2- صدور هذا الضغط من العاقد الآخر دون حق، أو على الأقل أن يكون العاقد الآخر عالماً بوقوع هذا الضغط أو في استطاعته العلم بذلك.
3- أن تكون الرهبة التي بعثها الإكراه في نفس المكره هي التي دفعت الأخير إلى إبرام العقد.
الشرط الأول : ضغط يبعث دون حق رهبة قائمة على أساس - يتكون هذا الشرط من عناصر ثلاثة :-
(أ) وسائل الضغط ، (ب) وأحداث رهبة قائمة على أساس - يتكون هذا الشرط من عناصر ثلاثة :
(ج) ووقوع الضغط المحدث الرهبة المذكورة دون حق.
(أ) - وسائل الضغط – وسائل الضغط أما أن تكون وسائل حسية أي أنها تقع على جسم المكره ذاته كالضرب والبناء المادي، وإما أن تكون وسائل نفسية كالتهديد بالقتل أو الرهبة أو الإيذاء أو إتلاف المال أو بإفشاء سر، وكإحداث ألم نفسي كالذي يسببه خطف شخص عزيز على المكره أو تجويعه أو تعذيبه أو الإساءة إليه، وفي الحالة الأولى يسمى الإكراه حسياً أو مادياً، و في الثانية إكراه نفسياً أو معنوياً، وكلا النوعين من وسائل الضغط سواء في الفساد الرضا وجعل العقد قابلاً للإبطال متى توافرت الشروط الى اللازمة لذلك ، لا فرق بين أن تكون تلك الوسائل مشروعة أو غير مشروعة، بذلك أن الوسائل المشروعة اذا استعملت في غير الهدف الذي شرعت من أجله بقصد الحصول من العاقد الآخر الذي يهدد باستعمالها على أكثر مما هو مستحق عليه يصبح استعمالها غير مشروع، كما تصبح اساءة استعمال الحق عملاً غير مشروع .
وتقدير وسائل الإكراه ومبلغ جسامتها وتأثيراً في نفس المتعاقد أمور موضوعية تستقل بها محكمة الموضوع دون رقابة من محكمة النقض مادام سائغاً .
ولا يعتبر القانون الفرنسي من وسائل الضغط التي تكون الإكراه استعمال النفوذ الأدبي التي يكون شخص - على آخر كنفوذ الأب على ابنه والزوج على زوجته و الرئيس - على مرؤوسيه و الأستاذ على تلميذه ... الخ ، حيث نصت المادة 1114 مدني فرنسي على أن مجرد الخشية الصادرة عن احترام واجب للأب أو الأم أو أي أصل آخر دون أن يكون هناك آراء واقع لا يكفي بطلان العقد .
ولأن القانون المصرى لم يرد فيه ما يقابل هذا النص، فلا يصح فيه أن يستبعد بصفة مبدئية النفوذ الأدبي من وسائل الضغط التي تكون الإكراه المفسد للرضا، ويتعين باعتباره وسيلة من وسائل الضغط تؤدي إلى الإكراه إذا توافرت فيه الشروط الأخرى اللازمة لذلك ، وهو ما يندر تحققه كما سيجيء .
(ب)أحداث رهبة قائمة على أساس - ولا يكفي أن يقع ضغط حسي أو نفسي على العاقد حتى يصبح رضاه معيبا، لأن العبرة لیست بوقوع الضغط على الشخص بل بالأثر الذي يولده هذا الضغط في نفس العاقد إذ يجب أن يبلغ هذا الأثر حد إحداث إضطراب في نفسي العاقد يجعل إرادته غير سليمة، فيجب أن يبعث الضغط المذكور في نفس المتعاقد رهبة وأن تكون تلك الرهبة قائمة على أساس .
والمقصود بالرهبة الخوف والاضطراب ، والمقصود بقيام الرهبة على أساس أن يكون لها ما يبرر قيامها في نفس العاقد ، والغرض من ذلك اشتراط جدية الرهبنة حتى لا يتمني لكل راغب في التمسك بالاكراه أن يدعي أنه أبرم العقد تحت تأثير رهبة قامت في نفسه فمن يدعى مثلاً وقوع إكراه عليه بسبب ما للعاقد الآخر عليه من نفوذ أدبي يسهل دحض دعواه بأن النفوذ الأدبي يندر أن يبلغ الحد الذي يبعث في النفس رهبة قائمة على أساس.
وقد عرفت المادة 127 فقرة ثانية الرهبة القائمة على أساس أنها هي التي تقوم في ذهن العاقد نتيجة اعتقاده المستفاد من ظروف الحال أن خطرًا جسيماً محدقاً يهدده هو أو غيره في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال .
فيجب أولا أن يكون ثمة تهدید بخطر جسيم، أي تهديد بضرر يفوق مدى الضرر الذي يصيب العاقد من إبرام العقد، ويكون خطر جسيماً ولو لم يهدد التعاقد في حياته ولا في سلامة جسمه، إذ يكفي أن يهدده في شرفه أو في ماله، بل يكفي أن يكون التهديد بالحاق الأذى بشخص قريب للعاقد أو عزيز عليه.
ويجب ثانياً أن يكون الخطر المهدد به بحيث يبعث في نفس العاقد رهبة حالة، وفي هذا تقول المادة 127 فقرة ثانية أنه يجب أن تصور ظروف الحال للعاقد «أن خطراً جسيماً محدقاً يهدده»، وتقول المذكرة الإيضاحية أن المقصود بذلك أن يكون الخطر، وشيك الوقوع و وفي القانون الفرنسي تنص المادة 1112 على أنه يجب أن يكون الضرر الذي يهدد الوافد «حالاً» غير أن الشراح انتقدوا هذا الشرط وقالوا إن التهديد بضرر مستقبل يكفي لإفساد الرضا إذا نشأت عنه رهبة حالة وقت التعاقد، وقد أوضحت بعض الشرائع هذه الفكرة إذ نصت على أن « الرهبة الناتجة عن الإكراه أو عن سبب آخر يجب أن تكون خشية ضرر جسدي وأن تكون رهبة معقولة وموجودة وقت التعاقد». ( في هذا المعنى المادة 995 من القانون المدني لولاية كيبيك).
وفي ضوء ذلك يتعين فهم قصد الشارع المصري من نص المادة 127 فقرة ثانية، وهو أن يكون الخطر الجسيم المهدد به قد يبعث في نفس العاقد رهبة حالة وقت التعاقد ولو كان الأمر المهدد به أمراً مستقبلاً (111 مکرر) وحصول هذه الرهبة أو عدم حصولها هو من الوقائع التي يكون القاضي الموضوع وحده القول الفصل فيها ومتى أقام تقديره إياها على أسباب سائغة فلا رقابة عليه في ذلك لمحكمة النقض.
ويجب ثالثاً أن تكون الرهبة التي يدعي العاقد أن التهديد بعثها في نفسه رهبه معقولاً حدوثها من مثل هذا التهديد لمثله مع مراعاة ظروفه الشخصية كالجنس والسن والحالة الاجتماعية والصحية وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في جسامة الإكراه وقد نصت على ذلك المادة 127 فقرة ثالثة مدني، ويرى الشراح أن المعيار في هذه الحالة معيار ذاتي بحت، فيقام فيه وزن لجنس العاقد ولسنة وصحته ودرجة ثقافته والمعتقدات السائدة فيها فالتهديد الذي يؤثر في المرأة غير الذي يؤثر في الرجل ، والذي يؤثر في الصغير غير الذي يؤثر في الكبير، و الذي يؤثر في المريض أو ضعيف الأعصاب غير الذي يؤثر في السليم قوي الأعصاب، وما يؤثر في الأمي أو الريفي الساذج غير ما يؤثر في المتحضر المثقف وهلم جراً .
غير أننا نلاحظ أن البحث في حدوث الرهبة المدعاة بالمعيار الشخصي أو الذاتي يقتضي من القاضي أن يغوص في أعماق نفس العاقد ليتحقق من وقوع الرهبة فيها فعلاً وهو أمر عسيراً جداً، وهو فوق ذلك يخرج تقدير القاضي لحدوث الرهبة أو عدمه من كل رقابة لمحكمة النقض، والغالب أن يستهدي القاضي في ذلك بما يراه معقولاً حدوثه من رهبة في نفس العاقد المعين المتمسك بالإكراه بسبب ما وقع عليه من ضغط ومع مراعاة ظروفه الشخصية، أي أن القاضي ولو أنه يقيم وزناً لكل ظرف شخصي خاص بالعاقد، فإنه لا يستطيع أن يتحقق من أن التهديد قد أحدث في نفسه الرهبة المدعاة أو لم يحدثها، فيتعين عليه أن ينظر إلى المعقول حدوثه من الرهبة بسبب هذا التهديد في نفس شخص تحيطه ظروف مماثلة لجميع ظروف العاقد الشخصية .
فإذا ادعى عاقد مثقف ثقافة عالية أنه قد أبرم العقد تحت تأثیر رهبة بعثها في نفسه تهديده بإيقاع الأذى به من طريق السحر أو التعاويذ تعذر على القاضي أن يتحقق من حدوث الرهبة المدعاة فعلاً أو عدمه، ولكنه يستطيع أن يقرر أنه لا يعقل أن من يكون على هذه الدرجة من الثقافة تحدث في نفسه رهبة من جراء هذا التهديد ، أما إن كان المهدد بمثل ذلك ريفياً ساذجاً، خان القاضي يستطيع أن يقرر أن مثل هذا الريفي بصح أن يؤثر فيه هذا التهديد .
وقصارى القول أن الأخذ في هذا البحث بالعيار الشخصي أو الذاتي معناه إقامة وزن لكل ظرف شخصي أو خاص بالعاقد المتمسك بالإكراه بدون تفرقة في ذلك بين الظروف الخارجية والظروف الداخلية أو بين الظروف الظاهرة والظروف غير الظاهرة، ولكن ذلك لا يعني القاضي عن الالتجاء إلى معيار موضوعي هو معيار المعقول حدوثه في مثل هذه الظروف جميعاً، ولعل هذا هو الذي كان يقصده التقنين الملغي عندما نص في المادة 190/135 على أن «لا يكون الإكراه موجباً لبطلان المشارطة إلا إذا كان شديدا ، بحيث يحصل منه تأثير لذوي التمييز، مع مراعاة سن العاقد وحالته والذكورة والأنوثة »، وان الأخذ بهذا المعيار الموضوعي معيار المعقول حدوثه في الظروف الواقعية، يجعل لمحكمة النقض رقابة على تقدير قاضي الموضوع من حيث تسبيبه على الأقل بأسباب سائغة معقولة.
(جـ) أحداث الفيض دون حق - ويجب أن يكون الضغط الذي بعث في نفس العائد رهباً ضغطاً غير مستند الى حق ، وهو يكون كذلك إذا كان الغرض منه الوصول الى شيء غير مستحق ولو كانت وسيلة مشروعة، أما أن كان الغرض من الضغط الوصول إلى ما هو مستحق فإن الضغط لا يكون إكراهاً ولو كانت وسيلة غير مشروعة لأن إبطال العقد للإكراه ليس مبنيا على فساد الرضا فحسب بل أيضاً على عدم مشروعية الإكراه .
فللدائن الذي يهدد مدينة بمقاضاته إذا لم يعترف بالدين، إنما يضغط على مدينة بوسيلة قانونية للوصول الى اعترافه بالدين وتحرير سند به وهو أمر من حقه الحصول عليه، فلا يعتبر هذا الضغط واقعاً دون حق ولا يجوز للمدين أن يطعن بالإكراه في إقراره بالدين أو في السند الذي حرره بهذا الإقرار إلا إذا أساء الدائن استعمال حقه في ذلك الحصول من مدينه على أكثر مما هو مطلوب له.
وكذلك إذا هدد رب العمل العامل المختلس بالتبليغ عنه ليحصل منه على إقرار بالمبلغ المختلس وعلى تعهده برده ، أما أن هدده بذلك ليحصل منه على مبالغ تجاوز ما اختلس وما ترتب على الاختلاس من ضرر، فيعتبر ما وقع منه من ضغط على العامل واقعاً دون حق لأن الغرض منه وهو الحصول على غير المستحق غرض غير مشروع ، وبالتالي يجوز العامل في هذه الحالة الأخيرة أن يطعن بالاكراه فيما يكون قد حرره من تعهد بدفع تلك المبالغ الزائدة .
الشرط الثاني : ضرورة وقوع الضغط من العاقد الآخر أو ولقبه به و استطتاعه العلم به على الأقل - تقدم أن القانون الفرنسي قد فرق بين التدليس الصادر من العاقد الآخر والتدليس الصادر من الغير، ولكنه لم يفرق هذه التفرقة، فيما يتعلق بالإكراه، بل نص صراحة على أن الإكراه يبطل الرضا ولو كان صادر من شخص غير من أبرم العقد لمصلحته (المادة 1111 مدنی فرنسي) .
ولم يرد على ذلك نص صريح في التقنين المصري الملغي، حيث اكتفى هذا المتقنين بالنص على أن الإكراه (بوجه عام وأيا كان مصدره) يكون موجباً لبطلان المشارطة، وقد أجمع الفقه والقضاء على أن الاكواد الصادر من الغير يبطل الرضا، كالإكراه الصادر من العاقد الآخر سواء بسواء.
غير أنه يلاحظ أنه إذا كان العاقد الآخر يجهل حصول الإكراه من الغير، فإنه يتضرر من إبطال العقد عليه دون ذنب جناه، ويكون من حقه أن يعوض عن هذا الضرر .
وقد اختلفت الشرائع في طريقة تعويض مثل هذا العاقد عما أصابه من ضرر بسبب إبطال العقد.
فالبعض يخول العائد المتضرر من إبطال الطرف الآخر العقد بسبب ما وقع عليه من إكراه صادر من الغير حقا في الرجوع بالتعويض على ذلك الغير (تقنين الجمهورية الفضية في المادة 977 منه).
والبعض يخوله مطالبة العاقد الآخر بالتعويض على أن يكون للأخير رجوع على الخير الذي صدر منه الإكراه (تقنين الالتزامات السويسري في المادة 29 فقرة ثانية منه).
ويلاحظ عند الأخذ بهذا المذهب الأخير أن خير تعويض عن إبطال العقد فيما بين الطرفين إنما هو التعويض العيني الذي يكون بإقامة العقد ورفض دعوى البطلان .
لذلك رأى واضعوا التقنين المدني المصري الحالي ألا يسمحوا بإبطال العقد بسبب إكراه صادر من الغير إلا حيث يكون العقد المتضرر من طلب إبطال العقد عليه ملوماً، بأن كان يعلم بالاكراه أو كان في استطاعته أن يعلم به، أما إن كان ذلك العاقد غير ملوم فلا يجوز إبطال المعتمد عليه ، وإنما يجوز للمكره في هذه الحالة أن يرجع بالتعويض على الغير الذي أكرهه في المادة 127 مدنی جديد والمادة 177 فقرة ثانية من المشروع التمهيدي .
الرهبة الناشئة عن حوادث طارئة - وقد تنشأ الرهبة في نفس العاقد نتيجة لحوادث طارئة لا دخل فيها لأحد، كالغرق أو المرض الخطير، فإذا اشترط من يتقدم للإنقاذ في هذه الظروف مبلغا من المال وعده به المكره، أفيجوز للمكره أن يطعن فيما تعهد به بسبب ما كان فيه من إكراه ؟.
ذهب فريق من الشراح إلى أن هذا الإكراه لا يكفي لإبطال الرضا، لأنه يشترط في الإكراه أن يكون مهيأ مدبراً بقصد الحصول على رضا العاقد بحيث يصبح هذا الرضا منتزعا، فإذا نشأ عن ظروف وقعت مصادفة، انعدم فيه الركن المعنوي ولم يعد كافياً لإبطال الرضا.
ولكن يرد على ذلك بأن الإكراه إنما يبطل الرضا بسبب ما يقع فيه المكره من رهبة وضيق يجعلانه يفضل إبرام العقد على تعريض نفسه للخطر الذي يهدده، وهذا كله بقطع النظر عن مصدر الإكراه وتدبيره أو تهيئته.
لذلك ذهب الشراح الحديثون والمحاكم الى أن الرهبة الناشئة عن حوادث طارئة مثلها مثل الإكراه الصادر من الغير .
ولأن التقنين الحالي قد جعل الإكراه الصادر من الغير لا يبطل العقد إلا إذا كان العاقد الآخر عالماً به، أو كان في استطاعته أن يعلم بها، فكذلك نقرر أن الرهبة الناتجة من ظروف طارئة لا دخل فيها لأحد تكفي لإبطال العقد إذا كان العاقد الآخر عالماً بها أو في استطاعته أن يعلم بها، وكان قد استغل الظرف للحصول على ما لا يستحقه، لأنه إذا لم يكن عالماً بظروف المكره ، فليس للأخير طلب الإبطال، واذا كان عالماً بها واقتصر على الحصول على ما هو مستحق له، فلا يكون قد حصل على شيء دون حق، فإذا اشترط المنقذ لإنقاذ الغريق أن يبيعه هذا مالاً معيناً بثمن بخس كان هذا العقد قابلاً للإبطال بسبب الإكراه أما اشتراط أجر الإنقاذ فحسب فلا يكون قابلاً للإبطال .
ويقرب من ذلك حالة الاكراه الجماعي المنتشر (أو الذعر العام) الذي يحمل فرداً أو جماعة (كفريق أرباب الأعمال في مهنة أو صناعة معينة) على أن يقبلوا شروطاً ما كانوا يقبلونها لولا الضغط أو الإكراه الجماعي الذي مارسه عليهم فريق العمال .
الشرط الثالث : كون الرهبة الناتجة من الإكراه هي الدافعة إلى التعاقد - وليس يكفي لإبطال العقد وقوع الإكراه على العاقد ونشوء رهبة عنه في نفسه، وإنما يجب أن تكون هذه الرهبة هي التي حملت العاقد على التعاقد حتى يعتبر أن رضاه بالعقد كان مشوباً، وهذا يقتضي بطبيعة الحال أن تكون الرهبة قد وجدت وقت التعاقد .
فإذا وجدت وقت العقد رهبة قائمة على أساس، ولكنها لم تكن هي السبب الذي حمل التعاقد على إبرام العقد، بل وجدت له مصلحة في إبرامه هي التي دفعته إلى التعاقد بقطع النظر عن الإكراه، فإن رضاه لا يبطل، وهذا واضح من نص القانون في المادة 127 على جواز إبطال العقد للإكراه، لذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة»، إذ أن معنی التعاقد تحت سلطان الرهبة أن تكون الرهبة هي التي دفعت العاقد إلى التعاقد و وتقول محكمة النقض في ذلك أنه يشترط أن تؤدى الرهبنة التي بعثها الإكراه في نفس العاقد الي حمله على قبول ما لم يكن يقبله اختياراً، وعلى مدعي الإكراه أن يثبته ويجوز له اثباته بكافة الطرق.
وتقدير ما إذا كانت الرهيبة الناشئة من الإكراه هي الدافعة إلى التعاقد أم لا مسألة واقعية تدخل في سلطة قاضي الموضوع دون رقابة عليه من محكمة النقض إلا فيما يتعلق بتسبيب هذا التقدير بأسباب سائغة معقولة، ولهذا يلزم التمسك بذلك أمام محكمة الموضوع ولا تجوز إثارته لأول مرة أمام محكمة النقض. ( الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الثاني الصفحة / 390 )
مناط إبطال العقد للإكراه :
الإكراه الواقع من أحد المتعاقدين يجيز للمتعاقد الآخر أن يطلب إبطال العقد، ولكن قد يكون الشخص الذي وقع عليه الإكراه اضطر للتعاقد مع الطرف الآخر، بإكراه ليس صادراً من هذا الطرف، إنما صادراً من شخص ثالث خارج عن نطاق العقد، ففي هذه الحالة، يظل العقد صحيحاً ولا يبطل إلا إذا ثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان من المفروض حتماً أن يعلم بهذا الاكراه، ويقع على الطرف المكره عبء اثبات ذلك ويكون بكافة الطرق ويكون له الرجوع على الأجنبي بالتعويض طبقا لأحكام المسئولية التقصيرية .
ويجب لإبطال العقد في هذه الحالة أن تتوافر في الإكراه كافة الشروط التي أوضحناها بالمادة 127 باعتبار أن الإكراه الصادر من غير المتعاقدين لا يغادر الإكراه الصادر من التعاقد من حيث تأثيره على المكره وأنه هو الذي أجبره على التعاقد أو التوقيع على الحرر کرها عنه . (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الثاني ، الصفحة/ 562)
الإكراه من غير المتعاقدين :
أجاز الشارع في المادة 127 صدور الإكراه من غير المتعاقدين، وبذلك سوى بين التدليس والإكراه في هذا الشأن .
والمقصود بالغير، من هم غير المتعاقد الآخر أو نائبه بالتفصيل الذي ذكرناه سلفاً .
إلا أنه يشترط لترتيب الإبطال على الإكراه الصادر من الغير، أن يكون المتعاقد الآخر يعلم أو كان من المفروض حتماً أن يعلم بهذا الإكراه وهو يماثل المقرر في شأن التدليس، فنحيل إلى ما ذكرناه عند تناول التدليس في تفاصيل ذلك. (راجع بند 26 ).
وإذا لم يثبت الإكراه بشروطه على النحو السالف، فلا يجوز إبطال العقد، إذ يكون المتعاقد الذي لم يقع عليه الإكراه حسن النية، ولو أبطلنا العقد رغم ذلك لوجب له التعويض، وخير تعويض هو بقاء العقد صحيحاً .
ويكون القانون قد أقام العقد حينئذ على الإرادة الظاهرة. وفي هذه الحالة لا يبقى أمام المكره إلا أنه يطالب الغير الذي ضغط عليه بالتعويض.
وكان نص المادة (177) من المشروع التمهيدي المقابل للمادة (128) ينص على ذلك صراحة في فقرته الثانية التي تجري على أنه: فإذا كان الطرف الآخر يعلم بوقوع الإكراه، ولم يكن في استطاعته أن يعلم به، فليس للمكره إلا أن يطالب المكره بالتعويض إلا أن هذا النص حذف في لجنة المراجعة لأنه يقرر حكماً تكفي فيه قواعد المسئولية. (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الثاني الصفحة/346)
ولا يشترط في الإكراه أن يكون صادراً من العاقد الآخر، بل يكفي أن يثبت العاقد الذي وقع عليه الإكراه أن العاقد الآخر يعلم أو كان من المفروض حتماً أن يعلم بهذا الاكراه. ( الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الأول الصفحة/ 885)
وقد تنشأ الرهبة نتيجة ظروف لا دخل فيها لأحد كالغرق أو المرض الخطير، وهي تكفي لإبطال العقد إذا توافرت في شأنها بالنسبة إلى العاقد الآخر شروط الإكراه الواقع من الغير والمبرر للإبطال ، بأن كان العاقد الأخر عالماً بها أو كان في استطاعته العلم بها ، واستغل الظرف للحصول على مالا يستحقه ، فإذا اشترط المنقذ لإنقاذ الغريق أن يبيعه مالاً بثمن بخس وقع العقد قابلا للإبطال ، أما إذا اشترط أجر الإنقاذ فحسب لم يكن قابلاً للإبطال مرقس بند 217. (التقنين المدني في ضوء القضاء والفقه، الأستاذ/ محمد كمال عبد العزيز، طبعة 2003 الصفحة/ 796 )
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الأول ، الصفحة / 311
إجْبار
التّعْريف:
1 - الإْجْبار لغةً: الْقهْر والإْكْراه. يقال: أجْبرْته على كذا: حملْته عليْه قهْرًا وغلبْته، فهو مجْبرٌ. وفي لغة بني تميمٍ وكثيرٍ منْ أهْل الْحجاز: جبرْته جبْرًا وجبورًا، قال الأْزْهريّ: جبرْته وأجْبرْته، لغتان جيّدتان. وقال الْفرّاء: سمعْت الْعرب تقول: جبرْته على الأْمْر وأجْبرْته.
ولمْ نقفْ للْفقهاء على تعْريفٍ خاصٍّ للإْجْبار. والّذي يسْتفاد من الْفروع الْفقْهيّة أنّ اسْتعْمالهمْ هذا اللّفْظ لا يخْرج عن الْمعْنى اللّغويّ السّابق، فمنْ تثْبت له ولاية الإْجْبار على الزّواج يمْلك الاسْتبْداد بتزْويج منْ له عليْه الْولاية، ومنْ تثْبت له الشّفْعة يتملّك الْمشْفوع فيه جبْرًا عن الْمشْتري.
وقالوا: إنّ للْقاضي أنْ يجْبر الْمدين الْمماطل على سداد ما عليْه منْ ديْنٍ، إلى غيْر ذلك من الصّور الْمنْثورة في مخْتلف أبْواب الْفقْه.
الأْلْفاظ ذات الصّلة:
2 - هناك ألْفاظٌ اسْتعْملها الْفقهاء في الْمعاني ذات الصّلة بلفْظ إجْبارٍ وذلك كالإْكْراه والتّسْخير والضّغْط.
فالإْكْراه، كما يعرّفه بعْض الأْصوليّين، هو حمْل الإْنْسان على ما يكْرهه ولا يريد مباشرته لوْلا الْحمْل عليْه بالْوعيد ويعرّفه بعْض الْفقهاء بأنّه الإْلْزام والإْجْبار على ما يكْرهه الإْنْسان طبْعًا أوْ شرْعًا، فيقْدم عليْه مع عدم الرّضا ليدْفع عنْه ما هو أضرّ به.
ومنْ هذا يتبيّن أنّ الإْكْراه لا بدّ فيه من التّهْديد والْوعيد، وأنّ التّصرّف الْمطْلوب يقوم به الْمكْره - بفتْح الرّاء - دون رضاه. ولذا كان الإْكْراه معْدمًا للرّضا ومفْسدًا للاخْتيار أوْ مبْطلاً له، فيبْطل التّصرّف، أوْ يثْبت لمنْ وقع عليْه الإْكْراه حقّ الْخيار، على تفْصيلٍ موْضع بيانه مصْطلح «إكْراه».
3 - والتّسْخير لغةً:
اسْتعْمال الشّخْص غيْره في عملٍ بالْمجّان. ولا يخْرج اسْتعْمال الْفقهاء عنْ هذا الْمعْنى.
4 - والضّغْط لغةً: الضّيق والشّدّة والإْكْراه 6. وأمّا في الاسْتعْمال الْفقْهيّ فقدْ قال الْبرْزليّ: سئل ابْن أبي زيْدٍ عن الْمضْغوط ما هو؟ فقال: هو منْ أضْغط في بيْع ربعه أوْ شيْءٍ بعيْنه، أوْ في مالٍ يؤْخذ منْه ظلْمًا فباع لذلك. وقيل: إنّ الْمضْغوط هو منْ أكْره على دفْع الْمال ظلْمًا فباع لذلك، فقطْ. بيْنما الإْجْبار أعمّ منْ كلّ ذلك. إذْ قدْ يكون حرامًا غيْر مشْروعٍ فيتضمّن الإْكْراه والتّسْخير والضّغْط، وقدْ يكون الإْجْبار مشْروعًا بلْ مطْلوبًا، كما لا يشْترط لتحقّقه التّهْديد والْوعيد، ولا أنْ يكون التّصرّف بفعْل الشّخْص الْمجْبر - بفتْح الْباء - وإنّما قدْ يكون أيْضًا بفعْل الْمجْبر - بكسْر الْباء - أوْ قوْله، كما في تزْويج الْوليّ الْمجْبر منْ له عليْه ولاية إجْبارٍ كالصّغيرة والْمجْنونة، وكما في نزْع الْملْكيّة جبْرًا عن الْمالك للْمنافع الْعامّة. وقدْ يكون تلْقائيًّا دون تلفّظٍ منْ أحدهما أوْ طلبٍ كما في الْمقاصّة الْجبْريّة الّتي يقول بها جمْهور الْفقهاء غيْر الْمالكيّة كما أنّ الإْجْبار الْمشْروع لا يؤثّر على صحّة التّصرّف، ولا يشْترط فيه أنْ يكون تسْخيرًا بغيْر مقابلٍ وإنّما الْعوض فيه قائمٌ، كما أنّ الإْجْبار لا يقْتصر وقوعه على الْبيْع فقطْ كما في الضّغْط، بلْ صوره كثيرةٌ ومتنوّعةٌ.
صفة الإْجْبار (حكْمه التّكْليفيّ):
5 - الإْجْبار إمّا أنْ يكون مشْروعًا، كإجْبار الْقاضي الْمدين الْمماطل على الْوفاء، أوْ غيْر مشْروعٍ، كإجْبار ظالمٍ شخْصًا على بيْع ملْكه منْ غيْر مقْتضٍ شرْعيٍّ.
منْ له حقّ الإْجْبار:
6 - قدْ يكون الإْجْبار من الشّارع دون أنْ يكون لأحدٍ من الأْفْراد إرادةٌ فيه كالْميراث، وقدْ يثْبت الإْجْبار من الشّارع لأحد الأْفْراد على آخر بسببٍ يخوّل له هذه السّلْطة، كالْقاضي ووليّ الأْمْر، منْعًا للظّلْم ومراعاةً للصّالح الْعامّ. وسنعْرض لكثيرٍ منْ صور هذه الْحالات تاركين التّفْصيل وبيان آراء الْمذاهب لمواضعها في مسائل الْفقْه ومصْطلحات الْموْسوعة.
الإْجْبار بحكْم الشّرْع:
7 - يثْبت الإْجْبار بحكْم الشّرْع ويلْتزم الأْفْراد بالتّنْفيذ ديانةً وقضاءً كما في أحْكام الإْرْث الّتي هي فريضةٌ من اللّه أوْصى بها، ويلْتزم كلّ وارثٍ بها جبْرًا عنْه. ويثْبت ملْك الْوارث في تركة مورّثه وإنْ لمْ يشأْ كلٌّ منْهما.
وكذلك ما يفْرض من الْعشور والْخراج والْجزْية والزّكاة فإنّ منْ منعها بخْلاً أوْ تهاونًا تؤْخذ منْه جبْرًا. ومنْ عجز عن الإْنْفاق على بهائمه أجْبر على بيْعها أوْ إجارتها أوْ ذبْح الْمأْكول منْها، فإنْ أبى فعل الْحاكم الأْصْلح؛ لأنّ منْ ملك حيوانًا وجبتْ عليْه مؤْنته. ويرد الْجبْر أيْضًا في الإْنْفاق على الزّوْجة والْوالديْن والأْوْلاد والأْقارب على تفْصيلٍ وخلافٍ يذْكر في موْضعه.
[1]كما قالوا: إنّ الأْمّ تجْبر على إرْضاع ولده وحضانته إنْ تعيّنتْ لذلك واقْتضتْه مصْلحة الصّغير، كما يجْبر الأْب على أجْر الْحضانة والرّضاعة. وليْس له إجْبارها على الرّضاع إذا لمْ تتعيّنْ، أو الْفطام منْ غيْر حاجةٍ، واسْتظْهر ابْن عابدين أنّ له أنْ يجْبرها على الْفطام بعْد حوْليْن.
كما أنّ الْمضْطرّ قدْ يجْبر بحكْم الشّرْع على أنْ يتناول طعامًا أوْ شرابًا محْظورًا ليزيل به غصّةً أوْ يدْفع مخْمصةً كيْ لا يلْقي بنفْسه في التّهْلكة. ففي هذه الصّور مصْدر الإْجْبار فيها: الشّرْع مباشرةً، وما وليّ الأْمْر إلاّ منفّذٌ فيما يحْتاج إلى تدخّله دون أنْ يكون له خيارٌ.
الإْجْبار منْ وليّ الأْمْر:
8 - قدْ يكون الإْجْبار حقًّا لوليّ الأْمْر بتخْويلٍ من الشّارع دفْعًا لظلْمٍ أوْ تحْقيقًا لمصْلحةٍ عامّةٍ. ومنْ ذلك ما قالوه منْ جبْر الْمدين الْمماطل على دفْع ما عليْه منْ ديْنٍ للْغيْر ولوْ بالضّرْب مرّةً بعْد أخْرى والسّجْن، وإلاّ باع عليْه الْقاضي جبْرًا. كما قال جمْهور الْفقهاء خلافًا للإْمام أبي حنيفة الّذي رأى جبْره بالضّرْب والْحبْس حتّى يقْضي ديْنه دون بيْع ماله جبْرًا عنْه . وتفْصيله في الْحجْر.
كما قالوا: إذا امْتنع أرْباب الْحرف الضّروريّة للنّاس، ولمْ يوجدْ غيْرهمْ، أجْبرهمْ وليّ الأْمْر اسْتحْسانًا.
9 - كما أنّ لوليّ الأْمْر أيْضًا أنْ يجْبر صاحب الْماء على بيْع ما يفيض عنْ حاجته لمنْ به عطشٌ أوْ فقد موْرد مائه كما أثْبتوا للْغيْر حقّ الشّفة في مياه الْقنوات الْخاصّة والْعيون الْخاصّة، ومنْ حقّ النّاس أنْ يطالبوا مالك الْمجْرى أو النّبْع أنْ يخْرج لهم الْماء ليسْتوْفوا حقّهمْ منْه أوْ يمكّنهمْ من الْوصول إليْه لذلك، وإلاّ أجْبره الْحاكم إذا تعيّن هذا الْماء لدفْع حاجتهمْ.
ذكر الْكاسانيّ: أنّ قوْمًا وردوا ماءً فسألوه أهْله فمنعوهمْ فذكروا ذلك لعمر بْن الْخطّاب وقالوا: إنّ أعْناقنا وأعْناق مطايانا كادتْ تتقطّع من الْعطش، فقال لهمْ عمر: هلاّ وضعْتمْ فيهم السّلاح؟
10 - ولمّا كان الاحْتكار محْظورًا لما رواه مسْلمٌ أنّ رسول اللّه صلي الله عليه وسلم قال: «من احْتكر فهو خاطئٌ»، فإنّ فقهاء الْمذاهب قالوا بأنّ وليّ الأْمْر يأْمر الْمحْتكرين بالْبيْع بسعْر وقْته، فإنْ لمْ يفْعلوا أجْبروا على ذلك عنْد ضرورة النّاس إليْه، غيْر أنّ ابْن جزيٍّ ذكر أنّ في الْجبْر خلافًا. ونقل الْكاسانيّ عن الْحنفيّة خلافًا أيْضًا، لكنْ نقل الْمرْغينانيّ وغيْره قوْلاً اتّفاقيًّا في الْمذْهب - هو الصّحيح - أنّ الإْمام يبيع على الْمحْتكر جبْرًا عنْه إذا لمْ يسْتجبْ لأمْره بالْبيْع. كما نصّ الْفقهاء على أنّ السّلْطان إذا أراد توْلية أحدٍ أحْصى ما بيده فما وجده بعْد ذلك زائدًا على ما كان عنْده وما كان يرْزق به منْ بيْت مال الْمسْلمين وإنّما أخذه بجاه الْولاية، أخذه منْه جبْرًا. وقدْ فعل ذلك عمر رضي الله عنه مع عمّاله لمّا أشْكل عليْه ما اكْتسبوه في مدّة الْقضاء والإْمارة، فقدْ شاطر أبا هريْرة وأبا موسى مع علوّ مراتبهما.
11 - ويدْخل في الإْجْبار منْ قبل وليّ الأْمْر منْع عمر كبار الصّحابة منْ تزوّج الْكتابيّات، فقدْ منعهمْ وقال: أنا لا أحرّمه ولكنّي أخْشى الإْعْراض عن الزّواج بالْمسْلمات، وفرّق بيْن كلٍّ منْ طلْحة وحذيْفة وزوْجتيْهما الْكتابيّتيْن.
الإْجْبار من الأْفْراد
12 - خوّل الشّارع بعْض الأْفْراد في حالاتٍ خاصّةٍ سلْطة إجْبار الْغيْر، كما في الشّفْعة فقدْ أثْبت الشّارع للشّفيع حقّ تملّك الْعقار الْمبيع بما قام على الْمشْتري منْ ثمنٍ ومؤْنةٍ جبْرًا عنْه. وهو حقٌّ اخْتياريٌّ للشّفيع.
13 - كما خوّل الشّارع للْمطلّق طلاقًا رجْعيًّا حقّ مراجعة مطلّقته ولوْ جبْرًا عنْها ما دامتْ في الْعدّة، إذ الرّجْعة لا تفْتقر إلى وليٍّ ولا صداقٍ ولا رضا الْمرْأة. وهذا الْحقّ ثبت للرّجل من الشّارع في مدّة الْعدّة دون نصٍّ عليْه عنْد التّعاقد أو اشْتراطه عنْد الطّلاق، حتّى إنّه لا يمْلك إسْقاط حقّه فيه، على ما بيّنه الْفقهاء عنْد الْكلام عن الرّجْعة.
كما أعْطى الشّارع الأْب ومنْ في حكْمه كوكيله ووصيّه حقّ ولاية الإْجْبار في النّكاح على خلافٍ وتفْصيلٍ يرْجع إليْه في موْطنه عنْد الْكلام عن الْولاية في النّكاح.
14 - وفي إجْبار الأْمّ على الْحضانة إذا لمْ تتعيّنْ لها تفْصيلٌ بيْن الْفقهاء فمنْ رأى أنّ الْحضانة حقٌّ للْحاضنة قال: إنّها لا تجْبر عليْها إذا ما أسْقطتْ حقّها لأنّ صاحب الْحقّ لا يجْبر على اسْتيفاء حقّه. ومنْ قال: إنّها حقٌّ للْمحْضون نفْسه، قال: إنّ للْقاضي أنْ يجْبر الْحاضنة، على ما هو مبيّنٌ تفْصيلاً عنْد كلام الْفقهاء عن الْحضانة.
ومنْ هذا ما قالوه منْ أنّ الْمفوّضة - وهي الّتي عقد نكاحها منْ غيْر أنْ يبيّن لها مهْرٌ - لوْ طالبتْ قبْل الدّخول بأنْ يفْرض لها مهْرٌ أجْبر على ذلك. قال ابْن قدامة: وبهذا قال الشّافعيّ، ولا نعْلم فيه مخالفًا
15 - وقال غيْر الْحنفيّة - وهو قوْل زفر من الْحنفيّة - إنّ للزّوْج إجْبار زوْجته على الْغسْل من الْحيْض والنّفاس، مسْلمةً كانتْ أوْ ذمّيّةً، حرّةً كانتْ أوْ ممْلوكةً؛ لأنّه يمْنع الاسْتمْتاع الّذي هو حقٌّ له، فملك إجْبارها على إزالة ما يمْنع حقّه، وله إجْبار زوْجته الْمسْلمة الْبالغة على الْغسْل من الْجنابة، وأمّا الذّمّيّة ففي روايةٍ عنْد كلٍّ من الشّافعيّة والْحنابلة له إجْبارها. وفي الرّواية الثّانية عنْدهما ليْس له إجْبارها لأنّ الاسْتمْتاع لا يتوقّف عليْه، وهو قوْل مالكٍ والثّوْريّ.
16 - كما قالوا بالنّسْبة للأْعْيان الْمشْتركة إذا كانتْ منْ جنْسٍ واحدٍ وطلب أحد الشّريكيْن الْقسْمة. فقدْ نصّ الْحنفيّة على أنّ الْقاضي يجْبر عليْها؛ لأنّ
الْقسْمة لا تخْلو عنْ معْنى الْمبادلة؛ والْمبادلة ممّا يجْري فيه الْجبْر كما في قضاء الدّيْن، فإنّ الْمدين يجْبر على الْقضاء مع أنّ الدّيون تقْضى بأمْثالها، فصار ما يؤدّي بدلاً عمّا في ذمّته. وهذا جبْرٌ في الْمبادلة قصْدًا وقدْ جاز، فلأنْ يجوز بلا قصْدٍ إليْه أوْلى. وإنْ كانت الأْعْيان الْمشْتركة منْ أجْناسٍ مخْتلفةٍ كالإْبل والْبقر والْغنم لا يجْبر الْقاضي الْممْتنع على قسْمتها لتعذّر الْمبادلة، ولوْ تراضوْا عليْها جاز. وتفْصيل ذلك في الشّركة والْقسْمة.
17 - وينصّ الشّافعيّة على أنّ ما لا ضرر في قسْمته كالْبسْتان والدّار الْكبيرة والدّكّان الْواسعة، والْمكيل والْموْزون منْ جنْسٍ واحدٍ ونحْوها، إذا طلب الشّريك قسْمته أجْبر الآْخر عليْها. والضّرر الْمانع منْ قسْمة الإْجْبار نقص قيمة الْمقْسوم بها، وقيل: عدم النّفْع به مقْسومًا. وإنْ تضرّر أحد الشّريكيْن وحْده وطلب الْمتضرّر الْقسْمة أجْبر الآْخر، وإلاّ فلا إجْبار. وقيل: أيّهما طلب لمْ يجْبر الآْخر. وتفْصيل ذلك في الْقسْمة والشّركة.
18 - كما نصّ الْفقهاء فيمنْ له حقّ السّفْل مع منْ له حقّ الْعلْو أنّه لا يجْبر ذو السّفْل على الْبناء؛ لأنّ حقّ ذي الْعلْو فَائِتٌ إِذْ حَقُّهُ قَرَارُ الْعُلْوِ عَلَى السُّفْلِ الْقَائِمِ. وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَالْعُلْوُ لآِخَرَ فَانْهَدَمَ السَّقْفُ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُبَانَاةَ مِنَ الآْخَرِ فَامْتَنَعَ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلاَنِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنِ انْهَدَمَتْ حِيطَانُ السُّفْلِ فَطَالَبَهُ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِإِعَادَتِهَا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ: يُجْبَرُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ وَحْدَهُ لأَِنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يُجْبَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِنَاءَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ طَالَبَ صَاحِبُ السُّفْلِ بِالْبِنَاءِ وَأَبَى صَاحِبُ الْعُلْوِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
الأُْولَى: لاَ يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ وَلاَ مُسَاعَدَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِيَةُ: يُجْبَرُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ لأَِنَّهُ حَائِطٌ يَشْتَرِكَانِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي حَقِّ التَّعَلِّي ضِمْنَ حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ.
19 - وَقَالُوا فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ: لَوِ انْهَدَمَ وَعَرْصَتُهُ عَرِيضَةٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا بِنَاءَهُ، يُجْبَرُ الآْخَرُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَذَاهِبِ الأَْئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ إِضْرَارًا فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ إِذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا وَعَلَى النَّقْضِ إِذَا خِيفَ سُقُوطُهُ. وَغَيْرُ الصَّحِيحِ فِي الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ لأَِنَّهُ مِلْكٌ لاَ حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يُجْبَرْ مَالِكُهُ عَلَى الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ بِهِ، وَلأَِنَّهُ بِنَاءُ حَائِطٍ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ كَالاِبْتِدَاءِ. وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَكَانُ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَيَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ بِنَاءِ سَدٍّ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يُجْبَرْ، وَإِلاَّ أُجْبِرَ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس ، الصفحة / 98
إكراه
التعريف :
1 - قال في لسان الْعرب: أكْرهْته، حملْته على أمْرٍ هو له كارهٌ - وفي مفْردات الرّاغب نحْوه - ومضى صاحب اللّسان يقول: وذكر اللّه عزّ وجلّ الْكرْه والْكرْه في غيْر موْضعٍ منْ كتابه الْعزيز، واخْتلف الْقرّاء في فتْح الْكاف وضمّها. قال أحْمد بْن يحْيى: ولا أعْلم بيْن الأْحْرف الّتي ضمّها هؤلاء وبيْن الّتي فتحوها فرْقًا في الْعربيّة، ولا في سنّةٍ تتّبع.
وفي الْمصْباح الْمنير: الْكرْه (بالْفتْح): الْمشقّة، وبالضّمّ: الْقهْر، وقيل: (بالْفتْح) الإْكْراه، « وبالضّمّ » الْمشقّة. وأكْرهْته على الأْمْر إكْراهًا: حملْته عليْه قهْرًا. يقال: فعلْته كرْهًا « بالْفتْح » أيْ إكْراهًا – وعليْهقوله تعالى طوْعًا أوْ كرْهًا فجمع بيْن الضّدّيْن.
ولخصّ ذلك كلّه فقهاؤنا إذْ قالوا: الإْكْراه لغةً: حمْل الإْنْسان على شيْءٍ يكْرهه، يقال: أكْرهْت فلانًا إكْراهًا: حملْته على أمْرٍ يكْرهه . والْكرْه « بالْفتْح » اسْمٌ منْه (أي اسْم مصْدرٍ )
أمّا الإْكْراه في اصْطلاح الْفقهاء فهو: فعْلٌ يفْعله الْمرْء بغيْره، فينْتفي به رضاه، أوْ يفْسد به اخْتياره.
وعرّفه الْبزْدويّ بأنّه: حمْل الْغيْر على أمْرٍ يمْتنع عنْه بتخْويفٍ يقْدر الْحامل على إيقاعه ويصير الْغيْر خائفًا به
أوْ هو: فعْلٌ يوجد من الْمكْره (بكسْر الرّاء) فيحْدث في الْمحلّ (أي الْمكْره بفتْح الرّاء) معْنًى يصير به مدْفوعًا إلى الْفعْل الّذي طلب منْه
والْمعْنى الْمذْكور في هذا التّعْريف، فسّروه بالْخوْف، ولوْ ممّا يفْعله الْحكّام الظّلمة بالْمتّهمين كيْدًا. فإذا كان الدّافع هو الْحياء مثلاً، أو التّودّد، فليْس بإكْراهٍ.
2 - والْفعْل - في جانب الْمكْره (بكسْر الرّاء) ليْس على ما يتبادر منْه منْ خلاف الْقوْل، ولوْ إشارة الأْخْرس، أوْ مجرّد الْكتابة، بلْ هو أعمّ، فيشْمل التّهْديد - لأنّه منْ عمل اللّسان - ولوْ مفْهومًا بدلالة الْحال منْ مجرّد الأْمْر: كأمْر السّلْطان أو الأْمير، وأمْر قاطع الطّريق، وأمْر الْخانق الّذي يبْدو منْه الإْصْرار
والْحنفيّة يقولون: أمْر السّلْطان إكْراهٌ - وإنْ لمْ يتوعّدْ - وأمْر غيْره ليْس بإكْراهٍ، إلاّ أنْ يعْلم تضمّنه التّهْديد بدلالة الْحال
وغيْر الْحنفيّة يسوّون بيْن ذوي الْبطْش والسّطْوة أيًّا كانوا، وصاحب الْمبْسوط نفْسه من الْحنفيّة يقول: إنّ منْ عادة الْمتجبّرين التّرفّع عن التّهْديد بالْقتْل، ولكنّهمْ لا يعاقبون مخالفيهمْ إلاّ به .
3 - ثمّ الْمراد بالْفعْل الْمذْكور - فعْلٌ واقعٌ على الْمكْره (بالْفتْح) نفْسه - ولوْ كان تهْديدًا بأخْذ أوْ حبْس ماله الّذي له وقْعٌ، لا التّافه الّذي لا يعْتدّ به، أوْ تهْديدًا بالْفجور بامْرأته إنْ لمْ يطلّقْها . ويسْتوي التّهْديد الْمقْترن بالْفعْل الْمهدّد به؛ كما في حديث أخذ عمّار بْن ياسرٍ، وغطّه في الْماء ليرْتدّ، والتّهْديد الْمجرّد، خلافًا لمنْ لمْ يعْتدّ بمجرّد التّهْديد، كأبي إسْحاق الْمرْوزيّ من الشّافعيّة، واعْتمده. الْخرقيّ من الْحنابلة، تمسّكًا بحديث عمّارٍ هذا، واسْتدلّ الآْخرون بالْقياس حيْث لا فرْق، وإلاّ توصّل الْمعْتدون إلى أغْراضهمْ - بالتّهْديد الْمجرّد - دون تحمّل تبعةٍ، أوْ هلك الْواقع عليْهمْ هذا التّهْديد إذا رفضوا الانْصياع له، فكان إلْقاءً بالأْيْدي في التّهْلكة، وكلاهما محْذورٌ لا يأْتي الشّرْع بمثْله. بلْ في الأْثر عنْ عمر - وفيه انْقطاعٌ - ما يفيد هذا التّعْميم: ذلك أنّ رجلاً في عهْده تدلّى يشْتار (يسْتخْرج) عسلاً، فوقفت امْرأته على الْحبْل، وقالتْ: طلّقْني ثلاثًا، وإلاّ قطعْته، فذكّرها اللّه والإْسْلام، فقالتْ: لتفْعلنّ، أوْ لأفْعلنّ، فطلّقها ثلاثًا. ورفعت الْقصّة إلى عمر، فرأى طلاق الرّجل لغْوًا، وردّ عليْه الْمرْأة ولذا اعْتمد ابْن قدامة عدم الْفرْق
ويتفرّع على هذا التّفْسير أنّه لوْ وقع التّهْديد بقتْل رجلٍ لا يمتّ إلى الْمهدّد بسببٍ، إنْ هو لمْ يدلّ على مكان شخْصٍ بعيْنه يراد للْقتْل، فإنّ هذا لا يكون إكْراهًا حتّى لوْ أنّه وقعت الدّلالة ممّنْ طلبتْ منْه، ثمّ قتل الشّخْص الْمذْكور، لكان الدّالّ معينًا على هذا الْقتْل عنْ طواعيةٍ إنْ علم أنّه الْمقْصود. والْمعين شريكٌ للْقاتل عنْد أكْثر أهْل الْعلْم، بشرائط خاصّةٍ - وذهب أبو الْخطّاب الْحنْبليّ إلى أنّ التّهْديد في أجْنبيٍّ إكْراهٌ في الأْيْمان، واسْتظْهره ابْن رجبٍ
4 - والْفعْل، في جانب الْمكْره (بفتْح الرّاء)، هو أيْضًا أعمّ منْ فعْل اللّسان وغيْره، إلاّ أنّ أفْعال الْقلوب لا تقْبل الإْكْراه، فيشْمل الْقوْل بلا شكٍّ.
وفيما يسمّيه فقهاؤنا بالْمصادرة في أبْواب الْبيوع وما إليْها، الْفعْل الّذي يطْلب من الْمكْره (بالْفتْح) دفْع الْمال وغرامته، لا سبب الْحصول عليْه منْ بيْعٍ أوْ غيْره - كاسْتقْراضٍ - فيصحّ السّبب ويلْزم وإنْ علم أنّه لا مخْلص له إلاّ بسببٍ معيّنٍ، إلاّ أنّ الْمكْره (بالْكسْر) لمْ يعيّنْه له في إكْراهه إيّاه. ولذا قالوا: إنّ الْحيلة في جعْل السّبب مكْرهًا عليْه - أنْ يقول الْمكْره (بالْفتْح) منْ أيْن أتى بالْمال، فإذا عيّن له الْمكْره (بالْكسْر) سببًا، كأنْ قال له: بعْ كذا، أوْ عنْد ابْن نجيْمٍ اقْتصر على الأْمْر بالْبيْع دون تعْيين الْمبيع، وقع هذا السّبب الْمعيّن تحْت طائلة الإْكْراه.
ولمْ يخالفْ في هذا إلاّ الْمالكيّة - باسْتثْناء ابْن كنانة ومتابعيه - إذْ جعلوا السّبب أيْضًا مكْرهًا عليْه بإطْلاقٍ.
ويشْمل التّهْديد بإيذاء الْغيْر، ممّنْ يحبّه منْ وقع عليْه التّهْديد - على الشّرْط الْمعْتبر فيما يحْصل به الإْكْراه منْ أسْبابه الْمتعدّدة - بشريطة أنْ يكون ذلك الْمحْبوب رحمًا محْرمًا، أوْ - كما زاد بعْضهمْ - زوْجةً.
والْمالكيّة، وبعْض الْحنابلة يقيّدونه بأنْ يكون ولدًا وإنْ نزل، أوْ والدًا وإنْ علا. والشّافعيّة - وخرّجه صاحب الْقواعد الأْصوليّة من الْحنابلة - لا يقيّدونه إلاّ بكوْنه ممّنْ يشقّ على الْمكْره (بالْفتْح) إيذاؤه مشقّةً شديدةً كالزّوْجة، والصّديق، والْخادم. ومال إليْه بعْض الْحنابلة. حتّى لقد اعْتمد بعْض الشّافعيّة أنّ من الإْكْراه ما لوْ قال الْوالد لولده، أو الْولد لوالده (دون غيْرهما): طلّقْ زوْجتك، وإلاّ قتلْت نفْسي، بخلاف ما لوْ قال: وإلاّ كفرْت، لأنّه يكْفر في الْحال
وفي التّقْييد بالْولد أو الْوالد نظرٌ لا يخْفى.
كما أنّه يصْدق على نحْو الإْلْقاء منْ شاهقٍ، أي: الإْلْجاء بمعْناه الْحقيقيّ الْمنافي للْقدْرة الْممْكنة من الْفعْل والتّرْك.
والْمالكيّة - وجاراهم ابْن تيْميّة - اكْتفوا بظنّ الضّرر منْ جانب الْمكْره (بالْفتْح) إنْ لمْ يفْعلْ، وعبارتهمْ: يكون (أي الإْكْراه) بخوْف مؤْلمٍ
5 - الرّضا والاخْتيار:
الرّضا لغةً: الاخْتيار. يقال: رضيت الشّيْء ورضيت به: اخْترْته.
والاخْتيار لغةً: أخْذ ما يراه خيْرًا
وأمّا في الاصْطلاح، فإنّ جمْهور الْفقهاء لمْ يفرّقوا بيْن الرّضا والاخْتيار، لكنْ ذهب الْحنفيّة إلى التّفْرقة بيْنهما.
فالرّضا عنْدهمْ هو: امْتلاء الاخْتيار وبلوغه نهايته، بحيْث يفْضي أثره إلى الظّاهر منْ ظهور الْبشاشة في الْوجْه ونحْوها.
أوْ هو: إيثار الشّيْء واسْتحْسانه
والاخْتيار عنْد الْحنفيّة هو: الْقصْد إلى مقْدورٍ متردّدٍ بيْن الْوجود والْعدم بترْجيح أحد جانبيْه على الآْخر.
أوْ هو: الْقصْد إلى الشّيْء وإرادته .
حكْم الإْكْراه:
6 - الإْكْراه بغيْر حقٍّ ليْس محرّمًا فحسْب، بلْ هو إحْدى الْكبائر، لأنّه أيْضًا ينْبئ بقلّة الاكْتراث بالدّيْن، ولأنّه من الظّلْم. وقدْ جاء في الْحديث الْقدْسيّ: « يا عبادي إنّي حرّمْت الظّلْم على نفْسي وجعلْته بيْنكمْ محرّمًا فلا تظالموا.»
شرائط الإكراه
الشّريطة الأْولى:
7 - قدْرة الْمكْره (بالْكسْر) على إيقاع ما هدّد به، لكوْنه متغلّبًا ذا سطْوةٍ وبطْشٍ - وإنْ لمْ يكنْ سلْطانًا ولا أميرًا - ذلك أنّ تهْديد غيْر الْقادر لا اعْتبار له
الشّريطة الثّانية:
8 - خوْف الْمكْره (بفتْح الرّاء) منْ إيقاع ما هدّد به، ولا خلاف بيْن الْفقهاء في تحقّق الإْكْراه إذا كان الْمخوف عاجلاً. فإنْ كان آجلاً، فذهب الْحنفيّة والْمالكيّة والْحنابلة والأْذْرعيّ من الشّافعيّة إلى تحقّق الإْكْراه مع التّأْجيل. وذهب جماهير الشّافعيّة إلى أنّ الإْكْراه لا يتحقّق مع التّأْجيل، ولوْ إلى الْغد.
والْمقْصود بخوْف الإْيقاع غلبة الظّنّ، ذلك أنّ غلبة الظّنّ معْتبرةٌ عنْد عدم الأْدلّة، وتعذّر التّوصّل إلى الْحقيقة .
الشّريطة الثّالثة:
9 - أنْ يكون ما هدّد به قتْلاً أوْ إتْلاف عضْوٍ، ولوْ بإذْهاب قوّته مع بقائه كإذْهاب الْبصر، أو الْقدْرة على الْبطْش أو الْمشْي مع بقاء أعْضائها، أوْغيْرهما ممّا يوجب غمًّا يعْدم الرّضا، ومنْه تهْديد الْمرْأة بالزّنا، والرّجل باللّواط.
أمّا التّهْديد بالإْجاعة، فيتراوح بيْن هذا وذاك، فلا يصير ملْجئًا إلاّ إذا بلغ الْجوع بالْمكْره (بالْفتْح) حدّ خوْف الْهلاك.
ثمّ الّذي يوجب غمًّا يعْدم الرّضا يخْتلف باخْتلاف الأْشْخاص والأْحْوال: فليْس الأْشْراف كالأْراذل، ولا الضّعاف كالأْقْوياء، ولا تفْويت الْمال الْيسير كتفْويت الْمال الْكثير، والنّظر في ذلك مفوّضٌ إلى الْحاكم، يقدّر لكلّ واقعةٍ قدْرها .
الشّريطة الرّابعة:
10 - أنْ يكون الْمكْره ممْتنعًا عن الْفعْل الْمكْره عليْه لوْلا الإْكْراه، إمّا لحقّ نفْسه - كما في إكْراهه على بيْع ماله - وإمّا لحقّ شخْصٍ آخر، وإمّا لحقّ الشّرْع - كما في إكْراهه ظلْمًا على إتْلاف مال شخْصٍ آخر، أوْ نفْس هذا الشّخْص، أو الدّلالة عليْه لذلك أوْ على ارْتكاب موجب حدٍّ في خالص حقّ اللّه، كالزّنا وشرْب الْخمْر .
الشّريطة الْخامسة:
11 - أنْ يكون محلّ الْفعْل الْمكْره عليْه متعيّنًا. وهذا عنْد الشّافعيّة وبعْض الْحنابلة على إطْلاقه. وفي حكْم الْمتعيّن عنْد الْحنفيّة ومنْ وافقهمْ من الْحنابلة - ما لوْ خيّر بيْن أمورٍ معيّنةٍ .
ويتفرّع على هذا حكْم الْمصادرة الّذي سلف ذكْره في فقْرة (4).
ومنْه يسْتنْبط أنّ موْقف الْمالكيّة في حالة الإْبْهام أدْنى إلى مذْهب الْحنفيّة، بلْ أوْغل في الاعْتداد بالإْكْراه حينئذٍ، لأنّهمْ لمْ يشْترطوا أنْ يكون مجال الإْبْهام أمورًا معيّنةً.
أمّا الإْكْراه على طلاق إحْدى هاتيْن الْمرْأتيْن، أوْ قتْل أحد هذيْن الرّجليْن، فمنْ مسائل الْخلاف الّذي صدّرْنا به هذه الشّريطة:
فعنْد الْحنفيّة والْمالكيّة، ومعهمْ موافقون من الشّافعيّة والْحنابلة، يتحقّق الإْكْراه برغْم هذا التّخْيير.
وعنْد جماهير الشّافعيّة، وقلّةٍ من الْحنابلة - لا يتحقّق؛ لأنّ له منْدوحةً عنْ طلاق كلٍّ بطلاق الأْخْرى، وكذا في الْقتْل، نتيجة عدم تعْيين الْمحلّ . والتّفْصيل في الْفصْل الثّاني.
الشّريطة السّادسة:
12 - ألاّ يكون للْمكْره منْدوحةٌ عن الْفعْل الْمكْره عليْه، فإنْ كانتْ له منْدوحةٌ عنْه، ثمّ فعله لا يكون مكْرهًا عليْه، وعلى هذا لوْ خيّر الْمكْره بيْن أمْريْن فإنّ الْحكْم يخْتلف تبعًا لتساوي هذيْن الأْمْريْن أوْ تفاوتهما منْ حيْث الْحرْمة والْحلّ، وتفْصيل الْكلام في ذلك كما يلي:
إنّ الأْمْريْن الْمخيّر بيْنهما إمّا أنْ يكون كلّ واحدٍ منْهما محرّمًا لا يرخّص فيه، ولا يباح أصْلاً، كما لوْ وقع التّخْيير بيْن الزّنا والْقتْل.
أوْ يكون كلّ واحدٍ منْهما محرّمًا يرخّص فيه عنْد الضّرورة، كما لوْ وقع التّخْيير بيْن الْكفْر وإتْلاف مال الْغيْر.
أوْ يكون كلّ واحدٍ منْهما محرّمًا يباح عنْد الضّرورة، كما لوْ وقع التّخْيير بيْن أكْل الْميْتة وشرْب الْخمْر.
أوْ يكون كلّ واحدٍ منْهما مباحًا أصالةً أوْ للْحاجة، كما لوْ وقع التّخْيير بيْن طلاق امْرأته وبيْع شيْءٍ منْ ماله، أوْ بيْن جمْع الْمسافر الصّلاة في الْحجّ وفطْره في نهار رمضان.
ففي هذه الصّور الأْرْبع الّتي يكون الأْمْران الْمخيّر بيْنهما متساوييْن في الْحرْمة أو الْحلّ، يترتّب حكْم الإْكْراه على فعْل أيّ واحدٍ من الأْمْريْن الْمخيّر بيْنهما، وهو الْحكْم الّذي سيجيء تقْريره بخلافاته وكلّ ما يتعلّق به، لأنّ الإْكْراه في الْواقع ليْس إلاّ على الأْحد الدّائر دون تفاوتٍ، وهذا لا تعدّد فيه، ولا يتحقّق إلاّ في معيّنٍ، وقدْ خالف في هذا أكْثر الشّافعيّة وبعْض الْحنابلة، فنفوْا حصول الإْكْراه في هذه الصّور.
وإنْ تفاوت الأْمْران الْمخيّر بيْنهما، فإنْ كان أحدهما محرّمًا لا يرخّص فيه ولا يباح بحالٍ كالزّنا والْقتْل، فإنّه لا يكون منْدوحةً، ويكون الإْكْراه واقعًا على الْمقابل له، سواءٌ أكان هذا الْمقابل محرّمًا يرخّص فيه عنْد الضّرورة، كالْكفْر وإتْلاف مال الْغيْر، أمْ محرّمًا يباح عنْد الضّرورة، كأكْل الْميْتة وشرْب الْخمْر، أمْ مباحًا أصالةً أوْ للْحاجة، كبيْع شيْءٍ معيّنٍ منْ مال الْمكْره، والإْفْطار في نهار رمضان، ويترتّب على هذا الإْكْراه حكْمه الّذي سيجيء تفْصيله بخلافاته.
وتكون هذه الأْفْعال منْدوحةً مع الْمحرّم الّذي لا يرخّص فيه ولا يباح بحالٍ، أمّا هو فإنّه لا تكون منْدوحةً لواحدٍ منْها، ففي الصّور الثّلاثة الْمذْكورة آنفًا، وهي ما لوْ وقع التّخْيير بيْن الزّنا أو الْقتْل وبيْن الْكفْر أوْ إتْلاف مال الْغيْر، أوْ وقع التّخْيير بيْن الزّنا أو الْقتْل وبيْن أكْل الْميْتة أوْ شرْب الْخمْر، أوْ وقع التّخْيير بيْن الزّنا أو الْقتْل وبيْن بيْع شيْءٍ معيّنٍ من الْمال، فإنّ الزّنى أو الْقتْل لا يكون مكْرهًا عليْه، فمنْ فعل واحدًا منْهما كان فعْله صادرًا عنْ طواعيةٍ لا إكْراهٍ، فيترتّب عليْه أثره إذا كان الإْكْراه ملْجئًا حتّى يتحقّق الإْذْن في فعْل الْمنْدوحة، وكان الْفاعل عالمًا بالإْذْن له في فعْل الْمنْدوحة عنْد الإْكْراه.
وإنْ كان أحد الأْمْريْن الْمخيّر بيْنهما محرّمًا يرخّص فيه عنْد الضّرورة، والْمقابل له محرّمًا يباح عنْد الضّرورة، كما لوْ وقع التّخْيير بيْن الْكفْر أوْ إتْلاف مال الْغيْر، وبيْن أكْل الْميْتة أوْ شرْب الْخمْر، فإنّهما يكونان في حكْم الأْمْريْن الْمتساوييْن في الإْباحة، فلا يكون أحدهما منْدوحةً عنْ فعْل الآْخر، ويكون الإْكْراه واقعًا على فعْل كلّ واحدٍ من الأْمْريْن الْمخيّر بيْنهما، متى كان بأمْرٍ متْلفٍ للنّفْس أوْ لأحد الأْعْضاء.
وإنْ كان أحد الأْمْريْن محرّمًا يرخّص فيه أوْ يباح عنْد الضّرورة، والْمقابل له مباحًا أصالةً أوْ للْحاجة، كما لوْ وقع التّخْيير بيْن الْكفْر أوْ شرْب الْخمْر، وبيْن بيْع شيْءٍ منْ مال الْمكْره أو الْفطْر في نهار رمضان، فإنّ الْمباح في هذه الْحالة يكون منْدوحةً عن الْفعْل الْمحرّم الّذي يرخّص فيه أوْ يباح عنْد الضّرورة، وعلى هذا يظلّ على تحْريمه، سواءٌ كان الإْكْراه بمتْلفٍ للنّفْس أو الْعضْو أوْ بغيْر متْلفٍ لأحدهما، لأنّ الإْكْراه بغيْر الْمتْلف لا يزيل الْحظْر عنْد الْحنفيّة مطْلقًا. والإْكْراه بمتْلفٍ - وإنْ كان يزيل الْحظْر - إلاّ أنّ إزالته له بطريق الاضْطرار، ولا اضْطرار مع وجود الْمقابل الْمباح .
تقْسيم الإْكْراه
ينْقسم الإْكْراه إلى: إكْراهٍ بحقٍّ، وإكْراهٍ بغيْر حقٍّ. والإْكْراه بغيْر حقٍّ ينْقسم إلى إكْراهٍ ملْجئٍ، وإكْراهٍ غيْر ملْجئٍ.
أوّلاً: الإْكْراه بحقٍّ:
تعْريفه:
13 - هو الإْكْراه الْمشْروع، أي الّذي لا ظلْم فيه ولا إثْم .
وهو ما توافر فيه أمْران:
الأْوّل: أنْ يحقّ للْمكْره التّهْديد بما هدّد به.
الثّاني: أنْ يكون الْمكْره عليْه ممّا يحقّ للْمكْره الإْلْزام به. وعلى هذا فإكْراه الْمرْتدّ على الإْسْلام إكْراهٌ بحقٍّ، حيْث توافر فيه الأْمْران، وكذلك إكْراه الْمدين الْقادر على وفاء الدّيْن، وإكْراه الْمولي على الرّجوع إلى زوْجته أوْ طلاقها إذا مضتْ مدّة الإْيلاء .
أثره:
14 - والْعلماء عادةً يقولون: إنّ الإْكْراه بحقٍّ، لا ينافي الطّوْع الشّرْعيّ - وإلاّ لمْ تكنْ له فائدةٌ، ويجْعلون منْ أمْثلته إكْراه الْعنّين على الْفرْقة، ومنْ عليْه النّفقة على الإْنْفاق، والْمدين والْمحْتكر على الْبيْع، وكذلك منْ له أرْضٌ بجوار الْمسْجد أو الْمقْبرة أو الطّريق يحْتاج إليْها منْ أجْل التّوْسيع، ومنْ معه طعامٌ يحْتاجه مضْطرٌّ .
ثانيًا: الإْكْراه بغيْر حقٍّ:
تعْريفه:
15 - الإْكْراه بغيْر حقٍّ هو الإْكْراه ظلْمًا، أو الإْكْراه الْمحرّم، لتحْريم وسيلته، أوْ لتحْريم الْمطْلوب به. ومنْه إكْراه الْمفْلس على بيْع ما يتْرك له .
الإْكْراه الْملْجئ والإْكْراه غيْر الْملْجئ:
16 - تقْسيم الإْكْراه إلى ملْجئٍ وغيْر ملْجئٍ يتفرّد به الْحنفيّة.
فالإْكْراه الْملْجئ عنْدهمْ هو الّذي يكون بالتّهْديد بإتْلاف النّفْس أوْ عضْوٍ منْها، أوْ بإتْلاف جميع الْمال، أوْ بقتْل منْ يهمّ الإْنْسان أمْره.
وحكْم هذا النّوْع أنّه يعْدم الرّضا ويفْسد الاخْتيار ولا يعْدمه. أمّا إعْدامه للرّضا، فلأنّ الرّضا هو الرّغْبة في الشّيْء والارْتياح إليْه، وهذا لا يكون مع أيّ إكْراهٍ.
وأمّا إفْساده للاخْتيار دون إعْدامه، فلأنّ الاخْتيار هو: الْقصْد إلى فعْل الشّيْء أوْ ترْكه بترْجيحٍ من الْفاعل، وهذا الْمعْنى لا يزول بالإْكْراه، فالْمكْره يوقع الْفعْل بقصْده إليْه، إلاّ أنّ هذا الْقصْد تارةً يكون صحيحًا سليمًا، إذا كان منْبعثًا عنْ رغْبةٍ في الْعمل، وتارةً يكون فاسدًا، إذا كان ارْتكابًا لأخفّ الضّرريْن، وذلك كمنْ أكْره على أحد أمْريْن كلاهما شرٌّ، ففعل أقلّهما ضررًا به، فإنّ اخْتياره لما فعله لا يكون اخْتيارًا صحيحًا، بل اخْتيارًا فاسدًا.
والإْكْراه غيْر الْملْجئ هو: الّذي يكون بما لا يفوّت النّفْس أوْ بعْض الأْعْضاء، كالْحبْس لمدّةٍ قصيرةٍ، والضّرْب الّذي لا يخْشى منْه الْقتْل أوْ تلف بعْض الأْعْضاء.
وحكْم هذا النّوْع أنّه يعْدم الرّضا ولكنْ لا يفْسد الاخْتيار، وذلك لعدم اضْطرار الْمكْره إلى الإْتْيان بما أكْره عليْه، لتمكّنه من الصّبْر على تحمّل ما هدّد به بخلاف النّوْع الأْوّل .
17 - أمّا غيْر الْحنفيّة فلمْ يقسّموا الإْكْراه إلى ملْجئٍ وغيْر ملْجئٍ كما فعل الْحنفيّة، ولكنّهمْ تكلّموا عمّا يتحقّق به الإْكْراه وما لا يتحقّق، وممّا قرّروه في هذا الْموْضوع يؤْخذ أنّهمْ جميعًا يقولون بما سمّاه الْحنفيّة إكْراهًا ملْجئًا، أمّا ما يسمّى بالإْكْراه غيْر الْملْجئ فإنّهمْ يخْتلفون فيه، فعلى إحْدى الرّوايتيْن عن الشّافعيّ وأحْمد يعْتبر إكْراهًا، وعلى الرّواية الأْخْرى لا يعْتبر إكْراهًا.
أمّا عنْد الْمالكيّة فإنّه لا يعْتبر إكْراهًا بالنّسْبة لبعْض الْمكْره عليْه، ويعْتبر إكْراهًا بالنّسْبة للْبعْض الآْخر، فمن الْمكْره عليْه الّذي لا يعْتبر الإْكْراه غيْر الْملْجئ إكْراهًا فيه: الْكفْر بالْقوْل أو الْفعْل، والْمعْصية الّتي تعلّق بها حقٌّ لمخْلوقٍ، كالْقتْل أو الْقطْع، والزّنا بامْرأةٍ مكْرهةٍ أوْ لها زوْجٌ، وسبّ نبيٍّ أوْ ملكٍ أوْ صحابيٍّ، أوْ قذْفٍ لمسْلمٍ.
ومن الْمكْره عليْه الّذي يعْتبر الإْكْراه غيْر الْملْجئ إكْراهًا فيه: شرْب الْخمْر، وأكْل الْميْتة، والطّلاق والأْيْمان والْبيْع وسائر الْعقود والْحلول والآْثار .
أثر الإْكْراه:
18 - هذا الأْثر موْضع خلافٍ، بيْن الْحنفيّة وغيْر الْحنفيّة، على النّحْو الآْتي:
أثر الإْكْراه عنْد الْحنفيّة:
19 - يخْتلف أثر الإْكْراه عنْد الْحنفيّة باخْتلاف الْقوْل أو الْفعْل الّذي يقع الإْكْراه عليْه، فإنْ كان الْمكْره عليْه من الإْقْرارات، كان أثر الإْكْراه إبْطال الإْقْرار وإلْغاءه، سواءٌ كان الإْكْراه ملْجئًا أمْ غيْر ملْجئٍ. فمنْ أكْره على الاعْتراف بمالٍ أوْ زواجٍ أوْ طلاقٍ كان اعْترافه باطلاً، ولا يعْتدّ به شرْعًا، لأنّ الإْقْرار إنّما جعل حجّةً في حقّ الْمقرّ باعْتبار ترجّح جانب الصّدْق فيه على جانب الْكذب، ولا يتحقّق هذا التّرْجيح مع الإْكْراه، إذْ هو قرينةٌ قويّةٌ على أنّ الْمقرّ لا يقْصد بإقْراره الصّدْق فيما أقرّ به، وإنّما يقْصد دفْع الضّرر الّذي هدّد به عنْ نفْسه.
وإنْ كان الْمكْره عليْه من الْعقود والتّصرّفات الشّرْعيّة كالْبيْع والإْجارة والرّهْن ونحْوها كان أثر الإْكْراه فيها إفْسادها لا إبْطالها، فيترتّب عليْها ما يترتّب على الْعقْد الْفاسد، حسب ما هو مقرّرٌ في الْمذْهب أنّه ينْقلب صحيحًا لازمًا بإجازة الْمكْره، وكذلك لوْ قبض الْمكْره الثّمن، أوْ سلّم الْمبيع طوْعًا، يترتّب عليْه صحّة الْبيْع ولزومه .
وحجّتهمْ في ذلك أنّ الإْكْراه عنْدهمْ لا يعْدم الاخْتيار الّذي هو ترْجيح فعْل الشّيْء على ترْكه أو الْعكْس، وإنّما يعْدم الرّضا الّذي هو الارْتياح إلى الشّيْء والرّغْبة فيه، والرّضا ليْس ركْنًا منْ أرْكان هذه التّصرّفات ولا شرْطًا منْ شروط انْعقادها، وإنّما هو شرْطٌ منْ شروط صحّتها، فإذنْ فقدْ ترتّب على فقْدانه فساد الْعقْد لا بطْلانه. ولكنّهم اسْتثْنوْا منْ ذلك بعْض التّصرّفات، فقالوا بصحّتهما مع الإْكْراه، ولوْ كان ملْجئًا، ومنْ هذه التّصرّفات: الزّواج والطّلاق ومراجعة الزّوْجة والنّذْر والْيمين.
وعلّلوا هذا بأنّ الشّارع اعْتبر اللّفْظ في هذه التّصرّفات - عنْد الْقصْد إليْه - قائمًا مقام إرادة معْناه، فإذا وجد اللّفْظ ترتّب عليْه أثره الشّرْعيّ، وإنْ لمْ يكنْ لقائله قصْدٌ إلى معْناه، كما في الْهازل، فإنّ الشّارع اعْتبر هذه التّصرّفات صحيحةً إذا صدرتْ منْه، مع انْعدام قصْده إليْها، وعدم رضاه بما يترتّب عليْها من الآْثار.
وإنْ كان الْمكْره عليْه من الأْفْعال، كالإْكْراه على قتْل منْ لا يحلّ قتْله، أوْ إتْلاف مالٍ لغيْره أوْ شرْب الْخمْر وما أشْبه ذلك، فالْحكْم فيها يخْتلف باخْتلاف نوْع الإْكْراه والْفعْل الْمكْره عليْه.
20 - فإنْ كان الإْكْراه غيْر ملْجئٍ - وهو الّذي يكون بما لا يفوّت النّفْس، أوْ بعْض الأْعْضاء كالْحبْس لمدّةٍ قصيرةٍ، أوْ أخْذ الْمال الْيسير، ونحْو ذلك - فلا يحلّ الإْقْدام على الْفعْل. وإذا أقْدم الْمكْره (بالْفتْح) على الْفعْل بناءً على هذا الإْكْراه كانت الْمسْئوليّة عليْه وحْده، لا على منْ أكْرهه .
21 - وإنْ كان الإْكْراه ملْجئًا - وهو الّذي يكون بالْقتْل أوْ تفْويت بعْض الأْعْضاء أو الْعمل الْمهين لذي الْجاه - فالأْفْعال بالنّسْبة إليْه أرْبعة أنْواعٍ:
أ - أفْعالٌ أباحها الشّارع أصالةً دون إكْراهٍ كالأْكْل والشّرْب، فإنّه إذا أكْره على ارْتكابها وجب على الْمكْره (بالْفتْح) أنْ يرْتكب أخفّ الضّرريْن.
ب - أفْعالٌ أباح الشّارع إتْيانها عنْد الضّرورة، كشرْب الْخمْر وأكْل لحْم الْميْتة أو الْخنْزير، وغيْر ذلك منْ كلّ ما حرّم لحقّ اللّه لا لحقّ الآْدميّ، فالْعقْل مع الشّرْع يوجبان ارْتكاب أخفّ الضّرريْن.
فهذه يباح للْمكْره فعْلها، بلْ يجب عليْه الإْتْيان بها، إذا ترتّب على امْتناعه قتْل نفْسه أوْ تلف عضْوٍ منْ أعْضائه، لأنّ اللّه تعالى أباحها عنْد الضّرورة بقوْله عزّ منْ قائلٍ: (إنّما حرّم عليْكم الْميْتة والدّم ولحْم الْخنْزير وما أهلّ به لغيْر اللّه فمن اضْطرّ غيْر باغٍ ولا عادٍ فلا إثْم عليْه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ).
ولا شكّ أنّ الإْكْراه الْملْجئ من الضّرورة الّتي رفع اللّه الإْثْم فيها. فيباح الْفعْل عنْد تحقّقها. وتناول الْمباح دفْعًا للْهلاك عن النّفْس أوْ بعْض أجْزائها - واجبٌ، فلا يجوز ترْكه، ولوْ شرب الْخمْر مكْرهًا لمْ يحدّ، لأنّه لا جناية حينئذٍ، والْحدّ إنّما شرع زجْرًا عن الْجنايات.
ج - أفْعالٌ رخّص الشّارع في فعْلها عنْد الضّرورة، إلاّ أنّه لوْ صبر الْمكْره على تحمّل الأْذى، ولمْ يفْعلْها حتّى مات، كان مثابًا من اللّه تعالى، وذلك كالْكفْر باللّه تعالى أو الاسْتخْفاف بالدّين، فإذا أكْره الإْنْسان على الإْتْيان بشيْءٍ منْ ذلك جاز له الْفعْل متى كان قلْبه مطْمئنًّا بالإْيمان، لقوْل اللّه عزّ وجلّ ( إلاّ منْ أكْره وقلْبه مطْمئنٌّ بالإْيمان) .
ومن السّنّة ما جاء بإسْنادٍ صحيحٍ عنْد الْحاكم والْبيْهقيّ وغيْرهما عنْ محمّد بْن عمّارٍ عنْ أبيه « أخذ الْمشْركون عمّار بْن ياسرٍ، فلمْ يتْركوه حتّى سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهمْ بخيْرٍ، فلمّا أتى النّبيّ عليه الصلاة والسلم قال: ما وراءك ؟ قال: شرٌّ، يا رسول اللّه، ما تركْت حتّى نلْت منْك، وذكرْت آلهتهمْ بخيْرٍ، قال صلى الله عليه وسلم فكيْف تجد قلْبك ؟ قال: مطْمئنًّا بالإْيمان، قال صلى الله عليه وسلم فإنْ عادوا فعدْ » .
وقدْ ألْحق علماء الْمذْهب بهذا النّوْع الإْكْراه على إفْساد صوْم رمضان، أوْ ترْك الصّلاة الْمفْروضة، أوْ إتْلاف مال الْغيْر، فإنّ الْمكْره لوْ صبر وتحمّل الأْذى، ولمْ يفْعلْ ما أكْره عليْه كان مثابًا، وإنْ فعل شيْئًا منْها فلا إثْم عليْه، وكان الضّمان في صورة الإْتْلاف على الْحامل عليْه لا على الْفاعل، لأنّ فعْل الإْتْلاف يمْكن أنْ ينْسب إلى الْحامل بجعْل الْفاعل آلةً له، فيثْبت الضّمان عليْه.
د - أفْعالٌ لا يحلّ للْمكْره الإْقْدام عليْها بحالٍ من الأْحْوال، كقتْل النّفْس بغيْر حقٍّ، أوْ قطْع عضْوٍ منْ أعْضائها، أو الضّرْب الّذي يؤدّي إلى الْهلاك، فهذه الأْفْعال لا يجوز للْمكْره الإْقْدام عليْها، ولوْ كان في امْتناعه عنْها ضياع نفْسه، لأنّ نفْس الْغيْر معْصومةٌ كنفْس الْمكْره، ولا يجوز للإْنْسان أنْ يدْفع الضّرر عنْ نفْسه بإيقاعه على غيْره، فإنْ فعل كان آثمًا، ووجب عقاب الْحامل له على هذا الْفعْل باتّفاق علماء الْمذْهب، والْخلاف بيْنهمْ إنّما هو في نوْع هذا الْعقاب.
فأبو حنيفة ومحمّدٌ يقولان: إنّه الْقصاص، لأنّ الْقتْل يمْكن أنْ ينْسب إلى الْحامل بجعْل الْفاعل آلةً له، والْقصاص إنّما يكون على الْقاتل لا على آلة الْقتْل.
وأبو يوسف يقول: إنّه الدّية، لأنّ الْقصاص لا يثْبت إلاّ بالْجناية الْكاملة، ولمْ توجد الْجناية الْكاملة بالنّسْبة لكلٍّ من الْحامل والْمكْره.
وهذا الْقتْل يقوم مانعًا من الإْرْث بالنّسْبة للْمكْره (بالْكسْر) إذا كان الْمكْره (بالْفتْح) مكلّفًا. أمّا إذا كان غيْر مكلّفٍ كالصّبيّ أو الْمجْنون فلا يكون مانعًا. وهذا عنْد أبي حنيفة ومحمّدٍ، أمّا أبو يوسف فلا يحْرم ولوْ كان الْمكْره مكلّفًا.
أمّا بالنّسْبة للْمكْره (بالْفتْح) فلا يحْرم باتّفاق الْحنفيّة.
وإنّما يجب الْقصاص عنْد أبي حنيفة ومحمّدٍ على الْمكْره إذا كان الْمطْلوب قتْله شخْصًا ثالثًا غيْر الْمكْره ولا الْمكْره، فإنْ كان الْمطْلوب قتْله هو الْمكْره كأنْ قال للّذي قتله: اقْتلْني وإلاّ قتلْتك، فقتله، فلا قصاص على الْقاتل، وتجب الدّية لوجود الشّبْهة، ولأنّ الدّية تثْبت للْوارث ابْتداءً لا ميراثًا عن الْمقْتول.
وأمّا إنْ كان الْمطْلوب قتْله هو الْمكْره، فإنّه لا يكون ثمّ إكْراهٌ، لأنّ الْمهدّد به لا يزيد على الْقتْل، فلا يتحقّق الإْكْراه ولا شيْء منْ آثاره، فلا قصاص ولا دية في هذا الْقتْل، إلاّ إذا كان التّهْديد بقتْلٍ أشْنع كما لوْ قال له: لتلْقينّ نفْسك في النّار أوْ لأقْتلنّك، فعنْد أبي حنيفة يخْتار ما هو الأْهْون في ظنّه، وعنْد الصّاحبيْن: يصْبر ولا يقْتل نفْسه، لأنّ مباشرة الْفعْل سعْيٌ في إهْلاك نفْسه فيصْبر تحاميًا عنْه. ثمّ إذا ألْقى نفْسه في النّار فاحْترق فعلى الْمكْره الْقصاص باتّفاقهمْ، كما في الزّيْلعيّ.
ونقل صاحب مجْمع الأْنْهر أنّ الْقصاص إنّما هو عنْد أبي حنيفة خلافًا للصّاحبيْن .
ومنْ هذا النّوْع أيْضًا: الزّنا، فإنّه لا يرخّص فيه مع الإْكْراه، كما لا يرخّص فيه حالة الاخْتيار، لأنّ حرْمة الزّنا لا ترْتفع بحالٍ من الأْحْوال، فإذا فعله إنْسانٌ تحْت تأْثير الإْكْراه كان آثمًا، ولكنْ لا يجب عليْه الْحدّ، لأنّ الإْكْراه يعْتبر شبْهةً، والْحدود تدْرأ بالشّبهات.
وقدْ أوْرد الْبابرْتيّ من الْحنفيّة ضابطًا لأثر الإْكْراه، نصّه:
الإْكْراه الْملْجئ معْتبرٌ شرْعًا، سواءٌ أكان على الْقوْل أم الْفعْل. والإْكْراه غيْر الْملْجئ إنْ كان على فعْلٍ فليْس بمعْتبرٍ، ويجْعل كأنّ الْمكْره فعل ذلك الْفعْل بغيْر إكْراهٍ. وإنْ كان على قوْلٍ، فإنْ كان قوْلاً يسْتوي فيه الْجدّ والْهزْل فكذلك، وإلاّ فهو معْتبرٌ .
أثر الإْكْراه عنْد الْمالكيّة:
22 - يخْتلف أثر الإْكْراه عنْدهمْ باخْتلاف الْمكْره عليْه:
أ - فإنْ كان الْمكْره عليْه عقْدًا أوْ حلًّا أوْ إقْرارًا أوْ يمينًا لمْ يلْزم الْمكْره شيْءٌ، ويكون الإْكْراه في ذلك بالتّخْويف بقتْلٍ أوْ ضرْبٍ مؤْلمٍ أوْ سجْنٍ أوْ قيْدٍ أوْ صفْعٍ لذي مروءةٍ على ملأ من النّاس. وإنْ أجاز الْمكْره (بالْفتْح) شيْئًا ممّا أكْره عليْه - غيْر النّكاح - طائعًا بعْد زوال الإْكْراه لزم على الأْحْسن، وأمّا النّكاح فلا تصحّ إجازته.
ب - وإنْ كان الإْكْراه على الْكفْر بأيّ صورةٍ منْ صوره، أوْ قذْف الْمسْلم بالزّنا، أو الزّنا بامْرأةٍ طائعةٍ خليّةٍ (غيْر متزوّجةٍ)، فلا يحلّ له الإْقْدام على شيْءٍ منْ هذه الأْشْياء إلاّ في حالة التّهْديد بالْقتْل، لا فيما دونه منْ قطْعٍ أوْ سجْنٍ ونحْوه، فإنْ فعل ذلك اعْتبر مرْتدًّا، ويحدّ في قذْف الْمسْلم، وفي الزّنا.
ج - وإنْ كان الإْكْراه على قتْل مسْلمٍ، أوْ قطْع عضْوٍ منْه، أوْ على زنًا بمكْرهةٍ، أوْ بامْرأةٍ لها زوْجٌ، فلا يجوز الإْقْدام على شيْءٍ منْ ذلك ولوْ أكْره بالْقتْل. فإنْ قتل يقْتصّ منْه، ويعْتبر الْقتْل هنا مانعًا للْقاتل منْ ميراث الْمقْتول، لأنّه شريكٌ في الْفعْل، وكذلك الْمكْره (بالْكسْر) يقْتصّ منْه أيْضًا ويمْنع من الْميراث. وإنّما يجب الْقصاص عنْدهمْ على الْمكْره والْمكْره، إذا كان الْمطْلوب قتْله شخْصًا ثالثًا غيْرهما.
فإنْ كان الْمطْلوب قتْله هو الْمكْره (بالْكسْر) كما لوْ قال للّذي قتله: اقْتلْني وإلاّ قتلْتك فقتله، فلا قصاص عنْدهمْ وتجب الدّية، لمكان الشّبْهة منْ ناحيةٍ، وبناءً على أنّ الدّية تثْبت للْوارث ابْتداءً لا ميراثًا.
وأمّا إنْ كان الْمطْلوب قتْله هو الْمكْره (بالْفتْح)، فالأْصْل أنّه لا يتحقّق الإْكْراه في هذه الْحالة، ولا قصاص فيه ولا دية، إلاّ إذا كان التّهْديد بقتْلٍ أشْنع، كالإْحْراق بالنّار وبتْر الأْعْضاء حتّى الْموْت، فإنّ الْمكْره (بالْفتْح) يخْتار أهْون الْميتتيْن، جزم به اللّقانيّ . وإنْ زنى يحدّ .
د - وأمّا لوْ أكْره على فعْل معْصيةٍ - غيْر الْكفْر - لا حقّ فيها لمخْلوقٍ كشرْب خمْرٍ وأكْله ميْتةً، أوْ إبْطال عبادةٍ كصلاةٍ وصوْمٍ، أوْ على ترْكها فيتحقّق الإْكْراه بأيّة وسيلةٍ منْ قتْلٍ أوْ غيْره. ويترتّب عليْه في الصّوْم الْقضاء دون الْكفّارة. وفي الصّلاة يكون الإْكْراه بمنْزلة الْمرض الْمسْقط لبعْض أرْكانها، ولا يسْقط وجوبها. وفي شرْب الْخمْر لا يقام الْحدّ.
وألْحق سحْنونٌ بهذا النّوْع الزّنا بامْرأةٍ طائعةٍ لا زوْج لها، خلافًا للْمذْهب .
ويضيف الْمالكيّة أنّ الْقطْع في السّرقة يسْقط بالإْكْراه مطْلقًا، ولوْ كان بضرْبٍ أوْ سجْنٍ لأنّه شبْهةٌ تدْرأ الْحدّ .
أثر الإْكْراه عنْد الشّافعيّة:
23 - يخْتلف أثر الإْكْراه عنْدهمْ باخْتلاف الْمكْره عليْه.
أ - الإْكْراه بالْقوْل:
إذا كان الْمكْره عليْه عقْدًا أوْ حلًّا أوْ أيّ تصرّفٍ قوْليٍّ أوْ فعْليٍّ، فإنّه لا يصحّ عملاً بعموم الْحديث الصّحيح: « رفع عنْ أمّتي الْخطأ والنّسْيان وما اسْتكْرهوا عليْه » إذ الْمقْصود ليْس رفْع ما وقع لمكان الاسْتحالة، وإنّما رفْع حكْمه، ما لمْ يدلّ دليلٌ على خلاف ذلك، فيخصّص هذا الْعموم في موْضع دلالته. وبمقْتضى أدلّة التّخْصيص يقرّر الشّافعيّة أنّه لا أثر لقوْل الْمكْره (بالْفتْح) إلاّ في الصّلاة فتبْطل به وعلى هذا فيباح للْمكْره (بالْفتْح) التّلفّظ بكلمة الْكفْر، ولا يجب، بل الأْفْضل الامْتناع مصابرةً على الدّين واقْتداءً بالسّلف.
وفي طلاق زوْجة الْمكْره (بالْكسْر) أوْ بيْع ماله ونحْوهما منْ كلّ ما يعْتبر الإْكْراه فيه إذْنًا - أبْلغ.
والإْكْراه في شهادة الزّور الّتي تفْضي إلى الْقتْل أو الزّنا، وفي الإْكْراه بالْحكْم الْباطل الّذي يفْضي إلى الْقتْل أو الزّنا، فلا يرْتفع الإْثْم عنْ شاهد الزّور، ولا عن الْحاكم الْباطل، وحكْمهما في هذه الْحالة منْ حيْث الضّمان حكْم الْمكْره (بالْكسْر)
ب - الإْكْراه بالْفعْل:
لا أثر للإْكْراه بالْفعْل عنْد الشّافعيّة إلاّ فيما يأْتي:
(1) الْفعْل الْمضمّن كالْقتْل أوْ إتْلاف الْمال أو الْغصْب، فعلى الْمكْره (بالْفتْح) الْقصاص أو الضّمان، وقرار الضّمان على الْمكْره (بالْكسْر)، وإنْ قيل: لا رجوع له على الْمكْره (بالْكسْر) بما غرم في إتْلاف الْمال، لأنّه افْتدى بالإْتْلاف نفْسه عن الضّرر. قال الْقلْيوبيّ في مسْألة الْقتْل: فيقْتل هو - الْمكْره - (بالْفتْح) ومنْ أكْرهه.
(2) الزّنا وما إليْه: يأْثم الْمكْره (بالْفتْح) بالزّنا، ويسْقط الْحدّ للشّبْهة، ويترتّب على وطْء الشّبْهة حكْمه.
(3) الرّضاع: فيترتّب عليْه التّحْريم الْمؤبّد في الْمناكحات وما ألْحق بها.
(4) كلّ فعْلٍ يترتّب عليْه بطْلان الصّلاة، كالتّحوّل عن الْقبْلة، والْعمل الْكثير، وترْك قيام الْقادر في الْفريضة، والْحدث، فتبْطل الصّلاة بما تقدّم برغْم الإْكْراه عليْه.
(5) ذبْح الْحيوان: تحلّ ذبيحة الْمكْره (بالْفتْح) الّذي تحلّ ذبيحته، كالْمسْلم والْكتابيّ ولوْ كان الْمكْره (بالْكسْر) مجوسيًّا، أوْ محْرمًا والْمذْبوح صيْدٌ .
قال السّيوطيّ: وقدْ رأيْت الإْكْراه يساوي النّسْيان، فإنّ الْمواضع الْمذْكورة، إمّا منْ باب ترْك الْمأْمور، فلا يسْقط تداركه، ولا يحْصل الثّواب الْمرتّب عليْه، وإمّا منْ باب الإْتْلاف، فيسْقط الْحكْم الْمرتّب عليْه، وتسْقط الْعقوبة الْمتعلّقة به، إلاّ الْقتْل على الأْظْهر .
أثر الإْكْراه عنْد الْحنابلة:
24 - يخْتلف أثر الإْكْراه عنْد الْحنابلة باخْتلاف الْمكْره عليْه:
أ - فالتّصرّفات الْقوْليّة تقع باطلةً مع الإْكْراه إلاّ النّكاح، فإنّه يكون صحيحًا مع الإْكْراه، قياسًا للْمكْره على الْهازل . وإنّما لمْ يقع الطّلاق مع الإْكْراه للْحديث الشّريف « لا طلاق في إغْلاقٍ »، والإْكْراه من الإْغْلاق.
ب - ومنْ أكْره على الْكفْر لا يعْتبر مرْتدًّا، ومتى زال عنْه الإْكْراه أمر بإظْهار إسْلامه، والأْفْضل لمنْ أكْره على الْكفْر أنْ يصْبر وإذا أكْره على الإْسْلام منْ لا يجوز إكْراهه كالذّمّيّ والْمسْتأْمن، فأسْلم لمْ يثْبتْ له حكْم الإْسْلام، حتّى يوجد منْه ما يدلّ على إسْلامه طوْعًا.
أمّا منْ يجوز إكْراهه على الإْسْلام كالْمرْتدّ، فإنّه إذا أكْره فأسْلم حكم بإسْلامه ظاهرًا .
ج - والإْكْراه يسْقط الْحدود عن الْمكْره، لأنّه شبْهةٌ، والْحدود تدْرأ بالشّبهات
د - وإذا أكْره رجلٌ آخر على قتْل شخْصٍ فقتله، وجب الْقصاص على الْمكْره والْمكْره جميعًا، وإنْ صار الأْمْر إلى الدّية وجبتْ عليْهما، وإنْ أحبّ وليّ الْمقْتول قتْل أحدهما، وأخْذ نصْف الدّية من الآْخر أو الْعفْو فله ذلك . ويعْتبر الْقتْل هنا مانعًا من الْميراث بالنّسْبة للْمكْره والْمكْره .
والْقصاص عنْدهمْ لا يجب على الْمكْره والْمكْره، إلاّ إذا كان الْمطْلوب قتْله شخْصًا ثالثًا غيْرهما.
فإنْ كان الْمطْلوب قتْله هو الْمكْره (بالْكسْر) فإنّه يكون هدرًا، ولا قصاص ولا دية في الْمخْتار عنْدهمْ.
وأمّا إنْ كان الْمطْلوب قتْله هو الْمكْره (بالْفتْح)، فلا يتحقّق الإْكْراه في هذه الْحالة، ولا دية ولا قصاص عنْد بعْضهمْ . إلاّ إذا كان التّهْديد بقتْلٍ أشْنع فعليْه أنْ يخْتار أهْون الْميتتيْن في إحْدى الرّوايتيْن .
أثر إكْراه الصّبيّ على قتْل غيْره:
25 - إذا كان الْمكْره على الْقتْل صبيًّا، فإنّه يعْتبر آلةً في يد الْمكْره عنْد الْحنفيّة، فلا قصاص ولا دية، وإنّما الْقصاص على الْمكْره (بالْكسْر) .
وذهب الْمالكيّة إلى وجوب الْقصاص على الْمكْره (بالْكسْر) ونصْف الدّية على عاقلة الصّبيّ .
وذهب الشّافعيّة إلى التّفْرقة بيْن الصّبيّ الْمميّز، وغيْر الْمميّز.
فإنْ كان غيْر مميّزٍ، اعْتبر آلةً عنْدهمْ، ولا شيْء عليْه، ويجب الْقصاص على الْمكْره.
وإنْ كان مميّزًا، فيجب نصْف الدّية على عاقلته، والْقصاص على الْمكْره (بالْكسْر) .
وذهب الْحنابلة إلى أنّ الصّبيّ غيْر الْمميّز إذا أكْره على قتْل غيْره فلا قصاص عليْه، والْقصاص على الْمكْره (بالْكسْر). وفي قوْلٍ: لا يجب الْقصاص، لا عليْه وعلى منْ أكْرهه، لأنّ عمْد الصّبيّ خطأٌ، والْمكْره (بالْكسْر) شريك الْمخْطئ، ولا قصاص على شريك مخْطئٍ. أمّا إذا كان الصّبيّ مميّزًا فلا يجب الْقصاص على الْمكْره (بالْكسْر) ولا يجب على الصّبيّ الْمميّز .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / التاسع ، الصفحة / 62
بَيْعُ التَّلْجِئَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُعَرِّفُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ بِأَنَّهُ: عَقْدٌ يُنْشِئُهُ لِضَرُورَةِ أَمْرٍ فَيَصِيرُ كَالْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ .
وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الإْنْصَافِ بِقَوْلِهِ: هُوَ أَنْ يُظْهِرَا بَيْعًا لَمْ يُرِيدَاهُ بَاطِنًا بَلْ خَوْفًا مِنْ ظَالِمٍ (وَنَحْوِهِ) دَفْعًا لَهُ .
وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الأْمَانَةِ وَصُورَتُهُ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ، إِمَّا لِلْخَوْفِ مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُمَا إِذَا أَظْهَرَاهُ لاَ يَكُونُ بَيْعًا، ثُمَّ يَعْقِدُ الْبَيْعَ .
وَأَمَّا التَّلْجِئَةُ الَّتِي أُضِيفَ هَذَا الْبَيْعُ إِلَيْهَا فَتَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: الإْكْرَاهِ وَالاِضْطِرَارِ .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَيَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى مَعْنَى الإْلْجَاءِ، وَهُوَ الإْكْرَاهُ التَّامُّ أَوِ الْمُلْجِئُ، وَمَعْنَاهُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنْ يُهَدِّدَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِإِتْلاَفِ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ ضَرْبٍ مُبَرِّحٍ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا يَطْلُبُهُ مِنْهُ .
بَيْعُ الْمُكْرَهِ:
3 - الْمُرَادُ بِبَيْعِ الْمُكْرَهِ حَمْلُ الْبَائِعِ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، إِذِ الإْكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: حَمْلُ الإْنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ. وَفِي الشَّرْعِ: فِعْلٌ يُوجَدُ مِنَ الْمُكْرَهِ فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إِلَى الْفِعْلِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ التَّلْجِئَةِ وَبَيْعِ الْمُكْرَهِ: أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ بَيْعٌ فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ لاَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا بَيْعُ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ بَيْعٌ حَقِيقِيٌّ، مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي حُكْمِهِ فَسَادًا وَوَقْفًا.
_________________________________________________________________
المذكرة الإيضاحية للإقتراح بمشروع القانون المدني طبقا لاحكام الشريعة الإسلامية
( مادة 115)
اذا صدر الاكراه من غير المتعاقدين ، فلا يتوقف العقد ، ما لم يثبت المتعاقد المكره ان المتعاقد الآخر كان يعلم او كان من المفروض حتماً أن يعلم بهذا الإكراه .
هذه المادة تقابل ۱۲۸ من التقنين الحالي التي تنص على ما يأتي: و اذا صدر الاكراه من غير المتعاقدين ، فليس للمتعاقد الكرة أن يطلب ابطال العقد ، ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أر كان من المفروض حتما أن يعلم بهذا الاكراه ،. اوند عدلت مادة التقنين الحالي بما يفيد توقف العقد بدلا من اعتباره قابلا للابطال ، كما ادخل عليها تعديل لفظى على النحو الوارد في النص المقترح •
والفقه الاسلامي يعتد بالاكراه الواقع من غير المتعاقدين ( انظر الخاينة ج3 ج485 و 4۸۹)، ولكن يبدو أنه لا يشترط أن يكون المتعاقد المستفيد من الأكراه متواطئا مع الغير الذي وقع منه الاكراه . أو عالما بما وقع من الاكراه أو مستطيعا أن يعلمه ( عبد الرزاق السمهوری ، مصادر الحق في الفقه الاسلامی ج۲ ص ۲۲۱ وما بعدها).
والمادة المقترحة تطابق في حكمها المادة 157 /۲ من التقنين الكويتي .
وقد كانت الفقرة الثالثة من المادة ۱۷۸ من المشروع التمهيدي للتقنين الحالي تنص على أنه « اذا ابرم شخص عقدا للخلاص من خطر جسیم مال ، يهنده مو أو أحد أقاربه ، فلا يعتبر هذا العقد قابلا للبطلان بسبب الإكراه، اذا كان الطرف الاخر حسن النية ولم يقصد أن يستغل الطرف المهدد، ۰
وهذا النص يواجه الإكراه في حالة الضرورة ، ويراد به أن ظروفا تتهيا مصادفة فيستغلها التعاقد للضغط على ارادة الطرف الآخر وحمله على التعاقد . مثل ذلك أن تشرف سفينة على الفرق تتقدم اخرى لانقاذها ، ويشترط قائد هذه الأخيرة قبل الانقاذ التعهد بمبلغ كبير في مقابل عملية الانقاذ . أو يتقدم شخص لانقاذ آخر من غرق او حریق اور قتل فيطلب منه التعهد بمبلغ باهظ مقابل ذلك . او بطلب طبيب متخصص في نوع خطير من العمليات الجراحية اجرا فاحشا من مريض يخشى على نفسه الهلاك اذا لم تجر له هله العملية.
ويفرق النص بين ما اذا كان الطرف الآخر حسن النية ولم يقصد استغلال الظروف التي تهيات مصادفة للضنط على ارادة المتعاقد المكره ، وما اذا كان سيء النية واراد استغلال هذه الظروف، فلا يجوز ابطال العقد في الحالة الأولى ، ويجوز هذا الأبطال في الحالة الثانية .
ويتفق الراي في الفقه مع التفرقة التي يقول بها النص . فهو يری أن الاكراه يتحقق في حالة الضرورة اذا كان الطرف الأخر سيء النية واستغل الظروف التي تهيات مصادفة للضغط على ارادة المتعاقد بغية الحصول على مغنم فاحش .
كما أن مذهب مالك في الفقه الاسلامي بعتد بالاكراه في هذه الحالة ( الحطاب ج 4 ص 248 - 250 - المواق ج 4 ص 249 عبد الرزاق السنهوری ، مصادر الحق في الفقه الاسلامی ج ۲ ص ۲۲۱) .
ولكن مع ذلك رئي عدم ایراد مثل هذا النص لأن حالة الضرورة ندخل في نطاق الاستغلال على اعتبار أنها تنطوي على استغلال حاجة المتعاقد ، اذ ان معنی الحاجة لا يقتصر على الحاجة المادية ، بل يشمل كذلك صورها الأخرى "