loading
المذكرة الإيضاحية

مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني ، الصفحة : 251

مذكرة المشروع التمهيدي :

1 - ترد أسباب البطلان المطلق إلى تخلف ركن من أركان العقد : كعدم توافر الأهلية إطلاقاً ، بفقدان التمييز وانعدام الإرادة تفريعاً على ذلك أو كإنتفاء الرضاء أو عدم وجود المحل حقيقة أو حكماً وغني عن البيان أن تخلف ركن من أركان العقد ، في حكم الواقع أو حكم القانون ، بحول دون انعقاده أو وجوده وهذا هو ما يقصد بالبطلان المطلق .

2 - أما البطلان النسي فهو يفترض قيام العقد أو وجوده من حيث توافر أركانه ولكن ركناً من أركانه هو الرضاء ، يفسد بسبب عيب يداخله ، أو بسبب نقص أهلية أحد العاقدين ولذلك يكون العقد قابلاً للبطلان بمعنى أنه يطل إذا طلب ذلك من شرع البطلان لمصلحته : وهو من داخل رضاءه العيب ، أو من لم تكتمل أهليته ومن الجلى أن قابلية العقد للبطلان إنما تمثل العقد في مرحلتين متتابعتين : الأولى مرحلة الصحة و ينتج فيها العقد جميع آثاره والثانية مرحلة البطلان ، ويعتبر العقد فيها باطلاً لا حكم له من وقت نشوئه فليست ثمة مراحل ثلاث : الصحة وقابلية البطلان والبطلان ، وإنما توجد مرحلتان : الصحة والبطلان.

 3 - وقد يقرر البطلان المطلق أو النسبي بمقتضى نص خاص في القانون ، كما مر الشأن في أحكام المادتين 631 و 632 من المشروع، إذ تنص أولى هاتين المادتين على بطلان رهن الحيازة في العقار بطلانا مطلقا إذا جعل من بيع الوفاء عقده ساتر له فرغم أن الصورية لاتعتبر بمجردها سبباً للبطلان ، طبقاً للقواعد العامة، إلا أن القانون قد قصد إلى تحريمها في هذه الحالة بالذات وجعل من النهي أمراً يتعلق بالنظام العام و أقام البطلان جزاء الخروج عليه أما المادة الثانية فتتضمن صورة من صور البطلان النسبي الذي ينشأ بنص خاص ، إذ تقضى بطلان بيع ملك الغير فقابلية البيع للبطلان في هذه الحالة لا ترد إلى عيب في الرضاء أو نقص في الأهلية ولكن القانون يخول المشتري حق التمسك بالبطلان ، إزاء ماهو ملحوظ من أن البائع يمتنع عليه أن يدلى لغيره بحق الملك فيما لا يملك .

4- وتظهر أهمية التفريق بين البطلان المطلق والبطلان النسبي من وجوه :

(1) فما دام البطلان المطلق يستتبع اعتبار العقد معدوماً - وليس ثمة محل للتفريق بين العقد الباطل والعقد المعدوم - فيجوز لكل ذي مصلحة أن يتمسك بهذا البطلان ولو لم يكن طرفاً في التعاقد ، المستأجر مثلاً في حالة بطلان بيع الشيء المؤجر بطلاناً مطلقاً ، بل ويجوز للقاضي أن يحكم به من تلقاء نفسه أما البطلان النسي فلا يجوز أن يتمسك به إلا طرف من أطراف التعاقد هو الطرف الذي يشرع البطلان لمصلحته ، ويكون من واجبه أن يقيم الدليل على توافر سببه .

على أن التمسك بهذا البطلان لايستلزم الترافع إلى القضاء ، بل يكفي في ذلك ، وفقاً لما استحدث المشروع من أحكام نقلها عن التقنين الألماني، تصریح يعلن إلى العاقد الآخر إعلاناً رسمياً، وعلى هذا العاقد أن يرفع الأمر إلى القضاء إذا أراد المنازعة في قيام البطلان.

بيد أن عبء إثبات البطلان يقع دائماً على عاتق من يتمسك به ، وتتبع القاعدة نفسها ، بل ويكون اتباعها أولى فيما يتعلق بالبطلان المطلق فإذا حكم بالبطلان المطلق أو النسي استند أثره، واعتبر العقد باطلاً من وقت نشوئه ، دون أن يعل ذاك ما يكون الغير حسن النية قد اكتسب من حقوق عقارية ، سجلت قبل تسجيل إعلان التصريح بالبطلان في حالة البطلان النسبي، ويلتزم كل من المتعاقدين بأن يرد ما تسلمه بمقتضى العقد ويستثنى من هذه القاعدة حالتان : أولهما حالة ناقص الأهلية فهو لا يسأل عن الرد إلا وفقاً لقواعد الإثراء بلا سبب، والثانية حالة وفاء أحد المتعاقدين بإلتزام في عقد باطل لسبب مخالفته للآداب فلا يجوز لمثل هذا المتعاقد أن يسترد ما أدى إذا نسب إليه ما يخالف الأداب ، وعلى هذا النحو أبان المشروع وجه الحكم في مسألة أثير بشأنها خلاف شدید ( أنظر المادتين 1305 و 1306 من التقنين الأسباني ، والمادة 962 من التقنين البرتغالي ، والمادة 27 من المشروع الفرنسي الإيطالي ، والمادتين 77 و 72 من التقنيين التونسي و المراكشي ، والمادة 817 من التقنين الألماني ، والمادة 66 من وتقنين الالتزامات السويسري ، والمادة 132 من التقنين البولوني ، والمادة 971 من التقنين البرازيلى ، والمادة 180 من التقنين الصيني، والمادة 147 من التقنين السوفيتي ) .

(ب) وما دام البطلان المطلق يستتبع اعتبار العقد معدوماً ، فلا يتصور إطلاقاً أن ترد عليه الإجازة و يختلف عن ذلك حكم العقود القابلة للبطلان فهی تصحح الإجازة ، ولو كانت ضمنية ، بشرط أن توافر شروط صحتها وقت الإجازة ( كبلوغ المتعاقد القاصر سن الرشد وقت الإجازة مثلاً) وأن تكون الإجازة ذاتها منزهة عن العيب ، إذ ينبغي أن تستكمل ما يلزم من الشروط لصحتها باعتبارها تصرفاً قانونياً وإذا كان أثر الإجازة يستند ، أو ينعطف على الماضي ، إلا أنها لا تضر بحقوق الغير فلا تضر الإجازة مثلاً من يشتري عقاراً كان قد سبق لمالكه بیعه ، إذا كان الشراء قد تم بعد صدور البيع الأول وقبل إجازة هذا البيع ولما كان التدليس والإكراه من قبل الأفعال الضارة التي تلحق بها صفة التقصير المدني ، فيظل مرتكبهما مسئولاً عما وقع منه بمقتضى القواعد العامة ، رغم إجازة العاقد الآخر التعاقد ، ما لم تنطو الإجازة على إسقاط هذه المسئولية .

(ج) و مادام العقد المطلق البطلان معدوماً ، أو غير موجود، فلا يتصور أن يرد عليه التقادم وعلى النقيض من ذلك بعدم البطلان النسبي بإنقضاء خمس عشرة سنة من تاريخ إنشاء العقد، أو بانقضاء ثلاث سنوات من تاريخ زوال نقص الأهلية ، أو تبين الغلط أو التدليس أو انقطاع سلطان الإكراه . 

المشروع في لجنة المراجعة

تليت المادة 201 من المشروع.

واقترح تحويرها تحويراً لفظياً لتجنب استعمال ألفاظ البطلان المطلق والبطلان النسبي واقترح أحد الأعضاء حذف الفقرة الثالثة لأنها لا تتمشى مع منطق البطلان .    

فوافقت اللجنة على ذلك وأصبح النص النهائي كما يأتي :

-1في حالتي إبطال العقد وبطلانه يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد فإذا كان ذلك مستحيلاً جاز الحكم بتعويض معادل .

 2- ومع ذلك لا يلزم ناقص الأهلية إذا أبطل العقد لنقص أهليته أن يرد غير ما عاد عليه من منفعة بسبب تنفيذ العقد .

وأصبح رقم المادة 146 في المشروع النهائي .

المشروع في مجلس النواب

 وافق المجلس على المادة دون تعديل تحت رقم 146 .

المشروع في مجلس الشيوخ

مناقشات لجنة القانون المدني :

وافقت اللجنة على المادة دون تعديل وأصبح رقمها 142 .

مناقشات المجلس :

وافق المجلس على المادة دون تعديل .

المشروع في لجنة المراجعة

تليت المادة 194 من المشروع :

واقترح تعديلها بحيث تستعمل عبارة «كل ذي مصلحة ، لأنها أكثر شمولاً من التعبير الوارد في النص الأصلي ... واقترح أيضاً إدخال تعديلات لفظية أدق في الدلالة على المعنى - وطرح أحد الأعضاء مسألة زوال البطلان بالتقادم .

وبعد المناقشة والرجوع إلى الاستفتاءات ، قررت اللجنة أن تسقط دعوى البطلان بالتقادم ولكن الدفع بالبطلان لا يسقط بالتقادم مثال ذلك هبة باطلة شكلاً إذا لم يسلم الواهب الشيء الموهوب ومضى على الهبة أكثر من خمس عشرة سنة ورفع الموهوب له دعوى يطالب بالحبة بمقتضى عقد الهبة الباطل فللواهب أن يدفع بالبطلان حتى بعد مرور خمس عشرة سنة أما إذا كان الواهب في هذا المثال قد سل الهبة للموهوب له بعد سنتين مثلاً من وقت العقد ثم انقضت ثلاث عشرة سنة من وقت التسليم وأراد الواهب أن يرفع دعوى ببطلان الحية فلا يجوز له ذلك لأن دعوى البطلان تكون قد سقطت بمضي خمس عشرة سنة من وقت الهبة ويلاحظ أن التقادم هنا هو التقادم المسقط لا التقادم المكسب الذي يقتضي أن الموهوب له بعد استلام الحبة يضع يده عليها خمس عشرة سنة .

فأقرت اللجنة النص النهائى للمادة كما يأتي :

1- إذا كان العقد باطلاً جاز لكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان ، والحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها ولا يزول البطلان بالإجازة . 

2 - ويسقط يمضي خمس عشرة سنة من وقت العقد دعوى البطلان دون الدفع به .

ثم قدم المشروع النهائي بعد تعديل الفقرة الثانية بالنص الآتي :

3 - وتسقط دعوى البطلان بمضي خمس عشرة سنة من وقت العقد دون الدفع به .

وأصبح رقم المادة 145 في المشروع النهائي .

المشروع في مجلس النواب

تقرير لجنة الشئون التشريعية :

فقرة 1 حذفت اللجنة من آخر الفقرة عبارة ولا يزول البطلان بالإجازة البداهة الحكم و عدم ضرورة النص عليه.

فقرة 2 – قدمت عبارة «دون الدفع به بعد عبارة تسقط دعوى البطلان».

مناقشات المجلس :

وافق المجلس على المادة كما أقرتها اللجنة تحت رقم 145.

المشروع في مجلس الشيوخ

مناقشات لجنة القانون المدني :

محضر الجلسة الثانية عشرة

تليت المادة 145 وهذا نصها :

1- إذا كان العقد باطلاً جاز لكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان وللمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها.

2- وتسقط دعوى البطلان دون الدفع به مضي خمس عشرة سنة من وقت العقد فقال الدكتور بغدادی شرحاً لها إن هذه المادة تقرر القواعد العامة المعروفة في الوقت الحاضر وذكر سعادة العشماوي باشا أن المشروع يريد إبراز أن مضى 16 سنة يسقط دعوى البطلان دون الدفع بالبطلان أي أن الدفع لا يسقط أبداً ولهذا فقد اقترح سعادته حذف عبارة ، دون الدفع به ، لأن الدفوع لا تتقادم فلا يجوز النص عليها ألا يفهم منها أنه توجد صور أخرى تتقادم فيها الدفوع فهذه الفقرة تزيد ووضعها قد يثير الشك فأجاب الدكتور بغدادي على اعتراض سعادته قائلاً : إن الغرض من هذا النص هو تفادي فروض عملية فمثلاً بعت منزلي بمقتضى عقد مطلق البطلان لسبب مخالف للنظام العام أن يرفع دعوى بطلان البيع وليس معنى الدفع بعدم قبول الدعوى بمضي 15 سنة أن العقد يصبح جائزاً ، ولكن المسألة لا تتعدى عدم جواز سماع الدعوى وری حضرته أنه إذا أصرت اللجنة على حذف هذه العبارة من الفقرة الثانية من المادة أن يكتب في التقرير أن عبارة و دون الدفع به ، تريد لأن من المباديء الأساسية أن الدفوع لا تتقادم ووضعها هنا في المادة قد يثير شبهة أن الدفوع تسقط في غير ذلك واقترح كذلك إعادة عبارة ، ولا يزول البطلان بالإجازة إلى الفقرة الأولى وكان مجلس النواب قد حذفها .

قرار اللجنة :

وافقت اللجنة على حذف عبارة ، دون الدفع به، من الفقرة الثانية مع إعادة عبارة ولا يزول البطلان بالإجازة و التي حذفها مجلس النواب وأصبحت المادة 141 بنصها كما هي واردة من الحكومة مع حذف عبارة ، دون الدفع به .

 تقرير اللجنة :

حذفت عبارة ، دون الدفع به ، من الفقرة الثانية لأن من المتفق عليه أن الدفوع لا تتقادم ولم تر اللجنة محلاً لإيراد تطبيق هذه القاعدة المسلمة .

وأصبح رقم المادة 141

مناقشات المجلس :

وافق المجلس على المادة كما عدلته اللجنة .

الأحكام

1- مفاد النص فى الفقرة الأولى من المادة 141 من القانون المدنى أنه إذا كان القانون هو الذى يرتب جزاء بطلان التصرفات أو قابليتها للإبطال ، وكانت الإجازة المنصوص عليها فى الفقرة الأولى من المادتين 139 ، 141 من هذا القانون يزول بها حق الإبطال ، إلا أنها لا تجدى فى حالة إزالة البطلان المطلق .

(الطعن رقم 10014 لسنة 81 جلسة 2012/11/22)

2- إذ كان النص فى المادة 141 من ذات القانون على أنه : " 1- إذا كان العقد باطلاً جاز لكل ذى مصلحة أن يتمسك بالبطلان وللمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها ولا يزول البطلان بالإجازة . 2- وتسقط دعوى البطلان بمضى خمس عشرة سنة من وقت العقد " . وكان النص فى المشروع التمهيدى يقتصر على الفقرة الأولى وحدها وينتهى بعبارة ( وهذا البطلان لا تلحقه الإجازة ولا يزول بالتقادم ) ثم رأت لجنة المراجعة إضافة الفقرة الثانية لتكون نصها ( وتسقط دعوى البطلان بمضى خمس عشرة سنة من وقت العقد دون الدفع به ) ولكن لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ حدفت عبارة " دون الدفع به " لأنه من المبادئ الأساسية المسلم بها ان الدفوع لا تسقط بالتقادم ومن ثم لم تر اللجنة محلاً لإيراد هذه العبارة لأن وضعها يثير شبهة أن الدفوع قد تسقط ومن المتفق عليه بإجماع أن العقد الباطل عدم فلا وجود له ولا تصححه الإجازة ولا التقادم مهما طال الزمن وهو ما كان يتقضى ألا تسقط دعوى البطلان بالتقادم كما كان الحال فى ظل القانون المدنى القديم ولكن مع صراحة النص الجديد وجب التزامه واستقر الرأى على أن ما يوجبه النص هو مجرد نهى عن سماع دعوى البطلان المجردة أى التى تقتصر طلبات رافعها على مجرد تقرير البطلان ولكن رغم سقوط الحق فى الدعوى يبقى لصاحب المصلحة الحق فى تجاهل وجود العقد الباطل مهما مضى عليه الزمن وأن يتمسك بحقوقه الأصلية باعتبار العقد الباطل معدوما لا أثر له وان الملكية لا تسقط بالتقادم ، ويبقى حق المحكمة فى أن تقضى بالبطلان من تلقاء نفسها وهو ما يجعل طلب البطلان ينقلب فى هذه الحالة إلى مجرد دفاع يستند إليه رافع الدعوى لتفصل فيه المحكمة باعتباره دفاعاً لا طلباً .

(الطعن رقم 653 لسنة 67 جلسة 2010/09/27 س 61 ص 856 ق 143)

 3- التمسك بإبطال عقود البيع التى يبرمها المحجور عليه للسفه كما يكون فى صورة طلب ترفع به دعوى أصلية قد يكون فى صورة دفع فى دعوى قائمة وذلك لاتحاد الغاية .

(الطعن رقم 7753 لسنة 65 جلسة 2007/05/27 س 58 ص 478 ق 84)

4- بطلان العقد وصف يلحق بالتصرف القانونى المعيب بسبب مخالفته لأحكام القانون المنظمة لإنشائه فيجعله غير صالح لأن ينتج آثاره القانونية المقصودة .

(الطعن رقم 1859 لسنة 72 جلسة 2004/11/23 س 55 ع 1 ص 762 ق 140)

5- إذ كان الثابت من الأوراق أن العضوية بالجمعية المطعون ضدها (جمعية تعاونية للبناء والإسكان ) وفقاً للغرض الذى أنشئت من أجله وتمشياً مع نظامها الداخلى الذى تم شهره تقتصر العضوية فيها على أعضاء هيئة التدريس والمدرسين المساعدين والمعيدين بجامعة القاهرة بما مفاده أن نشاطها قاصر عليهم وفقاً لهذا النظام لا يناوئهم ولا يشاركهم فيه أحد سواهم التزاماً بالغرض الذى أنشئت من أجله رعاية لمستواهم الاجتماعى حالاً ومآلاً بما مقتضاه وقوع قرار مجلس إدارتها بقبول عضوية الطاعنين وهما ليسا من تلك الفئات دون العرض على جمعيتها العمومية لأخذ رأى الهيئة العامة لتعاونيات البناء والاتحاد التعاونى للإسكان فى شأن ذلك باطلاً بما يستتبع بطلان قراره بتخصيص الوحدتين السكنيتين مثار النزاع لهما بحسبانه سلباً لاختصاص الجمعية العمومية التى أناط بها القانون الاختصاص بذلك بحسبانها السلطة الأعلى فيها ولها وحدها حق التصرف فى أموالها العقارية والمنقولة دونه حسبما سلف بيانه وهو الأمر الذى من أجله أصدرت الهيئتان سالفتا الذكر قراراً بإلغاء قرار مجلس إدارة الجمعية بقبول الطاعنين أعضاء بها وإلغاء التخصيص الذى تقرر لهما عن شقتى النزاع ومن ثم يضحى النعى على الحكم المطعون فيه بالخطأ فى تطبيق القانون لمخالفته نص المادة 439 من القانون المدنى وارداً على غير محل بحسبان أن العقد الباطل لا وجود له ولكل من المتعاقدين أن يتمسك بذلك عملاً بالمادة 141 من القانون المذكور سواء بطريق الدعوى أو عن طريق الدفع فى دعوى مقامة بشأنه ويضحى النعى على الحكم المطعون فيه لهذا السبب على غير أساس .

(الطعن رقم 319 لسنة 73 جلسة 2004/03/24 س 55 ع 1 ص 337 ق 62)

6- النص فى الفقرة الأولى من المادة 139 من القانون المدنى على أن " يزول حق إبطال العقد بالإجازة الصريحة أو الضمنية " وفى الفقرة الأولى من المادة 141 من القانون ذاته على أن " إذا كان العقد باطلاً جاز لكل ذى مصلحة أن يتمسك بالبطلان وللمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها ولا يزول البطلان بالإجازة " مفاده أنه إذا كان القانون هو الذى يرتب جزاء بطلان التصرفات أو قابليتها للإبطال ، وكانت الإجازة المنصوص عليها فى الفقرة الأولى من المادتين سالفتى الذكر التى يزول بها حق الإبطال ولكنها لا تجدى فى إزالة البطلان المطلق إنما هو ذلك الإقرار الصريح أو الضمنى الذى يصدر ممن يحاج بهذا التصرف المعيب بما يفيد قبوله الالتزام بأثاره رغم قيام السبب المخل بصحته .

(الطعن رقم 9263 لسنة 66 جلسة 1998/10/20 س 49 ع 2 ص 616 ق 150)

7- الجزاء المترتب على مخالفة الحظر المنصوص عليه فى المادة العاشرة من القانون رقم 52 لسنة 1940 من التصرف فى الأراضي غير المقسمة ، حظر عام إليه اعتبارات أشارت إليها المذكرة الإيضاحية لهذا القانون وكلها اعتبارات خاصة تتعلق بالنظام العام وهو ما يقتضى ترتيب البطلان على مخالفة ذلك الحظر ، إلا انه لما كان هذا البطلان الخاص الذي أورده المشرع يتبع فى شأنه النص الذي ورد فيه ، وتراعى بالنسبة له الغاية التي تغياها المشرع من القاعدة محل المخالفة ، فان صدور قرار بتقسيم الأرض المبيعة - قبل صدور حكم نهائي تستقر به المراكز القانونية للخصوم - من شأنه تصحيح ذلك البطلان باعتبار أن قرار التقسيم يعتبر عنصراً جديدا يدخل على العقد الباطل ويؤدى قانوناً إلى جعله صحيحاً من وقت نشوئه لا من وقت تصحيحه إذ للتصحيح اثر رجعى كالأجازة.

(الطعن رقم 1705 لسنة 62 جلسة 1998/06/23 س 49 ع 2 ص 555 ق 134)

8- إذ كان تدخل النيابة العامة شرطاً لجواز الحكم فى موضوع طلب بطلان العقدين المتنازع عليهما لمخالفتهما أحكام القانون رقم81لسنة1976بتنظيم تملك غير المصريين للعقارات المبنية والأراضى الفضاء فإن من شأن نقض الحكم لسبب يتعلق بهذا التدخل نقضه بالتبعية فيما تطرق إليه من قضاء فى الموضوع.

(الطعن رقم 2195 لسنة 65 جلسة 1996/05/16 س 47 ع 1 ص 823 ق 154)

9- النص فى المادة الرابعة من القانون رقم 81 لسنة 1976 بتنظيم تملك غير المصريين للعقارات المبنية والأراضى الفضاء والمنطبقة على واقعة النزاع والتى حلت محلها المادةالسادسة من القانون رقم 56 لسنة 1988 على أنه "يقع باطلا كل تصرف يتم بالمخالفة لأحكام هذا القانون ولا يجوز شهره....ويجوز لكل ذى شأن والنيابة العامة طلب الحكم بهذا البطلان وعلى المحكمة ان تقضى به من تلقاء نفسها.....وفى المادة88من قانون المرافعات على أنه"....فيما عدا الدعاوى المستعجلة يجب على النيابة العامة أن تدخل فى الحالات الآتية وإلا كان الحكم باطلا :1) الدعاوى التى يجوز لها ان ترفعها بنفسها.2) ......وفى المادة1/91من القانون الأخير على أن "تعتبر النيابة ممثلة فى الدعوى متى قدمت مذكرة برأيها فيها ولا يتعين حضورها إلا إذا نص القانون على ذلك" ، وفى المادة92من ذات القانون على أنه"فى جميع الأحوال التى ينص فيها القانون على تدخل النيابة العامة، يجب على قلم كتاب المحكمة إخبار النيابة كتابة بمجرد قيد الدعوى...." مؤداه أنه يجب على النيابة العامة أن تتدخل كطرف منضم فى دعاوى بطلان التصرفات المخالفة لأحكام قانون تنظيم تملك غير المصريين للعقارات المبنية والأراضى الفضاء بحسبانها من الدعاوى التى يجوز لها أن ترفعها بنفسها، ويتعين لذلك على قلم كتاب المحكمة المرفوعة إليها الدعوى، إخبار النيابة كتابة بها بمجرد رفعها، فإذا تم الإخبار على هذا النحو، وجب على النيابة أن تتدخل فى تلك الدعوى بالحضور فيها وإبداء الرأى أو بتقديم مذكرة برأيها، فإذا صدر الحكم دون تدخل النيابة على ما سلف، كان باطلا بطلانا من النظام العام فيجوز إثارته لأول مرة أمام محكمة النقض.

(الطعن رقم 2195 لسنة 65 جلسة 1996/05/16 س 47 ع 1 ص 823 ق 154)

10- إذا كان الثابت من عقد البيع موضوع الدعوى ومن تقرير الخبير الذى ندبته محكمة الإستئناف أن المبيع أطيان زراعية مساحتها فدان داخل كردون مدينة الجيزة وليس عليه أية أبنية وتطل على طريقين قائمين متفرعين من شارع ترعة الزمر فلا ينطبق عليها وصف التقسيم، وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر وأقام قضاءه على أن الأرض تخضع لأحكام قانون 52 لسنة 1940 ورتب على ذلك بطلان العقد المطلوب القضاء فى صحته ونفاذه فإنه يكون أخطأ فى تطبيق القانون، وقد حجبه ذلك عن بحث موضوع الدعوى ودفاع المطعون ضدهم من السابعة للأخيرة لبطلان عقد البيع سند الدعوى لصدوره من المورث وهو فى مرض الموت بما يعيبه بالقصور.

(الطعن رقم 1326 لسنة 57 جلسة 1996/03/26 س 47 ع 1 ص 554 ق 106)

11- لما كان الحكم المطعون فيه قضى برفض الدعوى تأسيسا على بطلان عقد البيع سالف البيان مفترضا وروده على أرض مقسمة لم يصدر بشأنها قرار باعتماد التقسيم دون أن يقيم الدليل على ذلك أو يبين المصدر الذى استقى منه قيام الشروط التى يستلزمها القانون لإسباغ وصف التقسيم وتطبيق حكم حظر التعامل الوارد به، فإنه يكون قد ران عليه القصور المبطل.

(الطعن رقم 2008 لسنة 60 جلسة 1994/12/15 س 45 ع 2 ص 1618 ق 302)

12- نص المادة 25 من القانون رقم 136 لسنة 1981- يدل-على أن المشرع أراد أن يعالج فى هذا النص القانونى حالات الحظر التى نصت عليه قوانين إيجار الأماكن المختلفة، وللتعرف على قصد المشرع من هذا النص المستحدث يتعين تأصيل حالات البطلان والآثار المترتبة عليه والطريقة التى تعالج بها المشرع حالاته، فالبطلان إما أن يرجع إلى اعتبارات شكلية أو إلى اعتبارات موضوعية ففى الحالة الأولى يكون العقد الذى لا يتوافر ركن الشكل فيه باطلا ولكن بالقدر الذى يتطلبه القانون من الشكل، ولما كان الشكل من صنع القانون فإن القانون هو الذى يعين له الجزاء الكافى فى حالة الإخلال به، أما إذا رجع البطلان إلى اعتبارات موضوعية كما هو الحال فى انعدام أحد أركان العقد الثلاثة الرضا والمحل والسبب فإن هذا البطلان هو الذى يخضع للقواعد العامة وقد عالج المشرع هذا النوع من البطلان بالقواعد المنصوص عليها فى المواد 141،142،143،144 من القانون المدنى وتخلص فى أن العقد الباطل منعدم كأصل ولا ينتج أثرا ولكل ذى مصلحة أن يتمسك به وللمحكمة أن تقضى به فى تلقاء نفسها ولا يزول البطلان بالإجازة وفى حالة البطلان يعاد المتعاقدان إلى الحالة التى كانا عليها قبل التعاقد وإلا جاز الحكم بالتعويض ويتحول العقد الباطل إلى عقد آخر صحيح إذا توافرت فيه أركان العقد الأخير دون إضافة لأى عنصر جديد إليه إذا تبين المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرامه.

(الطعن رقم 7448 لسنة 63 جلسة 1994/04/14 س 45 ع 1 ص 709 ق 136)

13- النص فى المادة الثانية من الدستور على أن " الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ..." وفى المادة 165 منه على أن " السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على إختلاف انواعها ودرجاتها ن وتصدر أحكامها وفق القانون" وفى المادة 19 من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 على أن " لغة المحاكم هى اللغة العربية، وعلى المحكمة أن تسمع أقوال الخصم أو الشهود الذين يجهلونها بواسطة مترجم بعد حلف اليمين " - يدل على أن المشرع عد اللغة العربية من السمات الجوهرية والمقومات الأساسية التى ينهض عليها نظام الدولة، مما يوجب على الجماعة بأسرها حكومة وشعبا بحسب الأصل الإلتزام بها دون أيه لغة أخرى كوسيلة للخطاب والتعبير فى جميع المعاملات وشتى المجالات على إختلافها. وحرص المشرع على تقنين هذا الحكم فى مجال القضاء بإيجاد نص صريح جلى المعنى قاطع الدلالة فى أن اللغة العربية هى المعتبره أمام المحاكم يلتزم بها المتقاضى والقاضى على السواء فيما يتعلق بإجراءات التقاضى أو الإثبات أو إصدار الأحكام . وقد عالج هذا النص الحالة التى يتحدث فيها الخصوم أو الشهود بلغة أجنبية فأوجب ترجمة أقواله إلى اللغة العربية، وحكمه يجرى كذلك على سائر المحررات المدونه بلغة أجنبية التى يتساند إليها الخصوم فيتعين لقبول هذه المحررات أن تكون مصحوبه بترجمة عربية لها لذات العله،وتحقيقا للغاية التى استهدفها المشرع من الإلتزام بإستخدام اللغة العربية بإعتبارها اللغة الرسمية للدولة وإحدى الركائز لإعمال سيادتها وبسط سلطانها على أراضيها مما يحتم على الجميع عدم التفريط فيها أو الإنتقاص من شأنها على أية صورة كانت، والقاعدة التى قننتها المادة 19 من قانون السلطة القضائية بهذه المثابة تعد من أصول نظام القضاء المتعلقة بالنظام العام . فيترتب على مخالفتها البطلان المطلق، ومن ثم يجوز للخصوم التمسك بهذا البطلان كما للمحكمة إثارته من تلقاء نفسها فى أية حالة كانت عليها الدعوى . وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر حين استند فى قضائه بالزام الشركة الطاعنة بتحرير عقد لإيجار للمطعون ضده الأول عن الشقة موضوع النزاع إلى عقد إيجارها الأصلى الذى قدمه الأخير متخذا منه ركيزه أقام عليه قضاءه فيما ذهب إليه من صدور هذا العقد من المالك السابق للعقار الكائن به الشقة للمطعون ضده الثانى الذى تنازل عنها للمطعون ضده الأول بإعتبارها مكتبا للمحاماه على الرغم من كونه محررا باللغة الفرنسية دون تقديم ترجمة عربية لبياناته ونصوصه التى عول عليها الحكم فإنه يكون قد خالف القانون بما يوجب نقضه.

(الطعن رقم 2333 لسنة 59 جلسة 1994/01/16 س 45 ع 1 ص 158 ق 34)

14- مؤدى البطلان المطلق للعقد- وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن يصبح معدوما فلا ترد عليه الإجازة أو التصحيح فإن الحكم المطعون فيه إذ خالف هذا النظر بأن إعتبر القرار اللاحق باعتماد التقسيم يزيل البطلان الذى شاب العقد ويصححه ورتب على ذلك قضاءه بصحة العقد يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون.

(الطعن رقم 2406 لسنة 59 جلسة 1994/01/13 س 45 ع 1 ص 147 ق 31)

15- وإن كانت دعوى البطلان المطلق تسقط بمضى خمس عشرة سنة إعمالا للفقرة الثانية من المادة 141 من القانون المدنى ، إلا أن الدفع بهذا البطلان لا يسقط بالتقادم أبداً ذلك أن العقد الباطل يظل معدوماً فلا ينقلب مع الزمن صحيحاً وإنما تتقادم الدعوى به فلا تسمع بعد مضى المدة الطويلة أما إثارة البطلان كدفع ضد دعوى مرفوعة بالعقد الباطل فلا تجوز مواجهته بالتقادم لأنه دفع والدفوع لا تتقادم.

(الطعن رقم 2030 لسنة 58 جلسة 1993/04/29 س 44 ع 2 ص 286 ق 186)

16-  الأصل فى الإرادة هو المشروعية فلا يلحقها بطلان إلا إذا نص القانون على بطلان الإلتزام الناشئ عنها صراحة أو كان هذا الإلتزام مخالفاً للنظام العام و أو الإداب محلاً أو سبباً أو كان على خلاف نص آمر أوناه فى القانون ، ويتحدد - نوع البطلان بالغاية التى تغياها المشرع من القاعدة محل المخالفة فإن كانت حماية مصلحة عامة جرت أحكام البطلان المطلق و يجوز لكل ذى مصلحة التمسك به .

(الطعن رقم 1984 لسنة 58 جلسة 1990/03/12 س 41 ع 1 ص 733 ق 122)

17- مناط إلتزام البائع بضمان التعرض المنصوص عليه فى المادة 439 من القانون المدنى ألا يكون عقد البيع ذاته باطلاً ، فإذا كان كذلك كان لكل من المتعاقدين عملاً بنص المادة 141 من القانون المذكور أن يتمسك بهذا البطلان سواء عن طريق الدفع أو عن طريق الدعوى .

(الطعن رقم 1405 لسنة 53 جلسة 1987/03/31 س 38 ع 1 ص 516 ق 111)

18- إذ كان الحكم المطعون فيه - على ما أوضحه فى مدوناته قد أقام قضاءه بصحة التعاقد على ما استخلصه من أن قيام المطعون ضده بالوفاء بالعديد من أقساط ثمن الشقة محل النزاع بعد صدور القرار باعتماد التقسيم وتوالى قبول الطاعن منه هذه الوفاء ، يدل على أن إرادة الطرفين قد تلاقت و انصرفت إلى إبرام البيع بينهما مرة أخرى بذات الشروط فانعقد بذلك بينهما عقد جديد توافرت له أركانه وشرائط صحته ، ولم يقل بأن ثمة إجازة لاحقة قد أزالت البطلان عن البيع الأول نتيجة قبول اقساط ثمن الشقة المبيعة فمن ثم يكون النعى عليه بهذا السبب على غير أساس .

(الطعن رقم 1649 لسنة 49 جلسة 1983/12/15 س 34 ع 2 ص 1819 ق 355)

19- العقد القابل للإبطال بسبب نقص الأهليه أو لعيب شاب الإرادة له وجود قانونى إلى أن يتقرر بطلانه ، و لا يستطيع أن يطلب إبطاله سوى من تقرر البطلان لمصلحته - ناقص الأهلية أو من شاب إرادته عيب - لما كان ذلك و كان المطعون ضدهم الأربعة الأول - و هم ليسواً طرفاً فى عقد الإيجار المؤرخ 1966/2/1 - قد طلبوا إبطاله تأسيساً على أن إرادة وزارة الأوقاف المؤجرة - قد شابها عيب الغش و التدليس ، و إذ إستجاب الحكم المطعون فيه لطلباتهم و قضى بالبطلان لعيب شاب إرادة المؤجرة فإنه يكون قد خالف القانون .

(الطعن رقم 790 لسنة 50 جلسة 1981/02/21 س 32 ع 1 ص 573 ق 111)

20- مؤدى نص المادتين التاسعة و العاشرة من القانون 52 لسنة 1940 بتقسيم الأراضى المعدة للبناء المعدل بالقانون رقم 222 لسنة 1953 يدل على أنه يترتب على مجرد صدور القرار بالموافقة على التقسيم إلحاق الطرق و غيرها من المرافق العامة التى عددتها المادة التاسعة بأملاك الدولة العامة ، و أن جواز التصرفات - البيع و التأجير و التحكيم - التى عناها الشارع مرهون بشروط ثلاثة أولها - صدور القرار بالموافقة على التقسيم و ثانيها - إيداع الشهر العقارى صورة مصدقاً عليها منه و ثالثها - إيداع قائمة الشروط ، لما كان ذلك ، و كانت المادة العاشرة لم تنص على الجزاء المترتب على مخالفة أى شرط من الشروط الثلاثة التى عددتها فإنه يتعين للوقوف على نوع هذا الجزاء بيان مدى تعلق كل شرط منها بالنظام العام ، و إذ كان مقتضى حظر التصرف قبل صدور القرار بالموافقة على التقسيم هو حظر عام - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أخذاً بما أوضحته المذكرة الإيضاحية و دعت إليه الإعتبارات التى أفصحت عنها وكلها إعتبارات تتعلق بالصالح العام - مقتضاه ترتيب البطلان المطلق و إن لم يصرح به لما فيه من مصادرة بإلحاق الطرق و غيرها من المرافق العامة بأملاك الدولة العامة و هو ما يمس التخطيط العمرانى أما حظر التصرفات التى تتم بعد صدور القرار بالموافقة على التقسيم - و قد تحقق بصدوره الصالح العام بإلحاق المرافق العامة بأملاك الدولة العامة - و قبل إيداع الشهر العقارى صورة مصدقاً عليها منه من قائمة الشروط فهو حظر لا يتعلق بالصالح العام الذى تحقق و إنما هو حظر قصد به حماية المصالح الخاصة للأغيار ممن له حق أو تلقى حقاً على العقار المتصرف فيه حتى يكون على بينة قبل إقدامه على إبرام التصرف و مقتضاه أن يكون التصرف قابلاً للبطلان لمصلحة من شرع الحظر لمصلحته إذا ما تمسك به و ليس منهم بائع العقار .

(الطعن رقم 305 لسنة 41 جلسة 1975/12/10 س 26 ص 1614 ق 302) .

21- متى كانت الطاعنة قد أقامت دعواها بالبطلان تأسيساً على أن عقد البيع الصادر من مورثها إلى المطعون عليه هو فى حقيقته عقد بيع وفاء و أنه باطل بطلاناً مطلقاً عملاً بنص المادة 465 من القانون المدنى ، و تمسك المطعون عليه أمام محكمة الإستئناف بتقادم هذه الدعوى بمضى أكثر من خمس عشرة سنة من تاريخ العقد ، و إذ كان القانون المدنى القائم قد إستحدث فى الفقرة الثانية من المادة 141 منه النص على سقوط دعوى البطلان المطلق بمضى خمس عشرة سنة من وقت العقد إحتراماً للأوضاع التى إستقرت بمضى هذه المدة بعد صدور العقد الباطل ، لما كان ذلك ، و كان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه فى الدعوى على هذا الأساس فإن النعى عليه - بأن البطلان المطلق لا يرد عليه التقادم - يكون فى غير محله .

(الطعن رقم 136 لسنة 41 جلسة 1975/11/25 س 26 ص 1477 ق 278)

22- الدفع ببطلان عقد البيع على أساس أنه يستر وصية و إن وصف بأنه دفع بالبطلان ، إلا أنه فى حقيقته وبحسب المقصود منه - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - إنما هو دفع بصورية هذا العقد صورية نسبية بطريق التستر ، لا يسقط بالتقادم ، لأن ما يطلبه المتمسك بهذا الدفع إنما هو تحديد طبيعة التصرف الذى قصده العاقدان وترتيب الآثار القانونية التى يجب أن تترتب على النية الحقيقية لهما ، وإعتبار العقد الظاهر لا وجود له ، وهذه حالة واقعية قائمة ومستمرة لاتزول بالتقادم ، فلا يمكن لذلك أن ينقلب العقد الصورى صحيحاً مهما طال الزمن .

(الطعن رقم 109 لسنة 38 جلسة 1973/04/10 س 24 ع 2 ص 577 ق 102)

23- يقضى الشق الثانى من الفقرة الأولى من المادة 111 من القانون المدنى ببطلان تصرفات الصبى المميز متى كانت ضارة به ضررا محضا ، وتقضى الفقرة الثانية من المادة 141 من ذات القانون بسقوط دعوى البطلان بمضى خمس عشرة سنة من وقت العقد ، ومؤدى هذين النصين مرتبطين أن يعتبر إقرار الصبى المميز بمحضر صلح تصرفاً باطلاً ، ولا تسقط الدعوى ببطلانه إلا بمضى خمس عشرة سنة منذ صدوره فيما لو اعتبر ضاراً به ضرراً محضاً .

(الطعن رقم 213 لسنة 34 جلسة 1967/12/12 س 18 ع 4 ص 1866 ق 283)

24- التنازل عن الطعن فى ماهية عقد البيع الوفائى لا يقبل بعد صدور حكم نهائى ببطلانه لإخفائه رهناً كما أن هذا التنازل يتضمن إجازة لعقد باطل بطلاناً مطلقاً فلا يعتد به لأن العقد الباطل بطلاناً مطلقاً لا تلحقه الإجازة لأنه معدوم .

(الطعن رقم 58 لسنة 34 جلسة 1967/04/27 س 18 ع 2 ص 918 ق 139)

25- متى حكم بصحة ونفاذ العقد أصبح الحكم نهائيا فانه يحوز قوة الأمر المقضى فى شأن صحة هذا العقد ويمنع الخصوم أنفسهم أو خلفهم من التنازع فى هذه المسألة فى دعوى أخرى بطلب بطلانه ولا يغير من ذلك إختلاف الطلبات فى الدعويين ذلك أن طلب صحة العقد وطلب بطلانه وجهان متقابلان لشىء واحد والقضاء بصحة العقد يتضمن حتما القضاء بأنه غير باطل .

(الطعن رقم 281 لسنة 32 جلسة 1966/04/21 س 17 ع 2 ص 899 ق 123)

26- الدعوى بصحة ونفاذ العقد تستلزم أن يكون من شأن البيع موضوع التعاقد نقل الملكية حتى إذا ما سجل الحكم قام مقام العقد المسجل فى نقل الملكية وهذا يقتضى أن يفصل القاضى فى أمر صحة البيع ويتحقق من إستيفائه للشروط اللازمة لانعقاده وصحته ثم يفصل فى أمر إمتناع البائع عن تنفيذ التزاماته ومن ثم فان تلك الدعوى تتسع لأن يثار فيها كل أسباب بطلان العقد إذ من شأن هذا البطلان لو صح أن يحول دون الحكم بصحة العقد وعلى ذلك فانه إذا فات الخصم إبداء سبب من هذه الأسباب كان فى استطاعته إبداؤه فى تلك الدعوى ثم حكم بصحة العقد ونفاذه فان هذا الحكم يكون مانعاً لهذا الخصم من رفع دعوى جديدة ببطلان العقد إستناداً إلى هذا السبب . ولا يصح قياس هذه الحالة على صورة رفع دعوى بطلب بطلان عقد لسبب من أسباب البطلان إذ فى هذه الصورى تنحصر وظيفة المحكمة فى بحث هذا السبب وحده فتفرضه أو تقبله وهى حين تنتهى إلى رفضه يقتصر قضاؤها على هذا الرفض ولايتعدى ذلك إلى القضاء بصحة العقد ومن ثم فان حكمها برفض هذا السبب لا يمنع الخصوم من رفع دعوى جديدة بطلب بطلان ذات العقد لسبب آخر من أسباب البطلان أما فى دعوى صحة ونفاذ العقد فالأمر مختلف إذ المحكمة لا تقف عند رفض أسباب البطلان التى توجه إلى العقد بل إنها تجاوز ذلك إلى البحث فى صحة العقد ولا تقضى بصحته ونفاذه إلا إذا تحقق لها من الأوراق المقدمة إليها أن التصرف الذى يتناوله العقد صحيح ونافذ .

(الطعن رقم 281 لسنة 32 جلسة 1966/04/21 س 17 ع 2 ص 899 ق 123)

27- لما كان غرض الشارع من إيجاب توقيع محام على صحف الدعاوى - وهو ماصرحت به المذكرة الإيضاحية لقانون المحاماه - رعاية الصالح العام إلى جانب صالح المحامين وذلك لضمان مراعاة أحكام القانون فى تحرير هذه الصحف وقطعه المنازعات التى كثيرا ما تنشأ بسبب قيام من لا خبره لهم بتحريرها مما يعود بالضرر على ذوى الشأن فإنه يجب إعتبار البطلان المترتب على عدم توقيع محام على صحف الدعاوى متعلقاً بالنظام العام يجوز الدفع به فى أية حالة كانت عليها الدعوى ولوأمام محكمة الإستئناف .

(الطعن رقم 401 لسنة 30 جلسة 1965/04/08 س 16 ع 2 ص 476 ق 77)

28- متى كان الحكم المطعون فيه قد انتهى إلى أن عقد البيع المتنازع فيه هو فى حقيقته عقد بيع وفائى يستر رهنا فإن هذا العقد يكون باطلا بطلانا مطلقا ولقد كان حكم القانون فى ظل التشريع الملغى فى شأن مثل هذا العقد - أنه لا ينقلب صحيحاً مهما طال الزمن . ومن ثم لا يكون للتقادم أثر فيه ولصاحب الشأن دائما أبدا رفع الدعوى أو الدفع ببطلانه . أما نص المادة 141 من القانون المدنى القائم الذى يقضى بسقوط دعوى البطلان المطلق بمضى خمس عشرة سنة من وقت العقد فإنه نص مستحدث منشىء لحكم جديد لم يكن مقررا فى ظل القانون الملغى ، ومن ثم فإن هذا التقادم لا يسرى إلا من تاريخ العمل بالقانون المدنى القائم وليس معنى هذا أن التقادم لا يسرى على العقود الباطلة التى أبرمت فى ظل القانون الملغى و إنما هو يسرى عليها و لكن تبدأ مدة التقادم بالنسبة لدعاوى البطلان الخاصة بهذه العقود من تاريخ العمل بالقانون أى من 1949/10/15 وليس من تاريخ ابرامها .

(الطعن رقم 20 لسنة 30 جلسة 1964/12/03 س 15 ع 3 ص 1090 ق 161)

29- إنه و إن كانت دعوى البطلان المطلق تسقط بمضى خمس عشرة سنة إلا أن الدفع بهذا البطلان لا يسقط بالتقادم أبدا ذلك أن العقد الباطل يظل معدوماً فلاينقلب مع الزمن صحيحاً وإنما تتقادم الدعوى به فلا تسمع بعد مضى المدة الطويلة ، أما إثارة البطلان كدفع ضد دعوى مرفوعة بالعقد الباطل فلا تجوز مواجهته بالتقادم ، لأنه دفع و الدفوع لاتتقادم . فإذا كان الحكم قد إنتهى إلى بطلان سند الدين بطلاناً مطلقاً فإن ذلك يكفى لتقرير نتيجته اللازمة قانوناً و هى عدم تقادم الدفع بهذا البطلان بغير حاجة للإشارة إلى ذلك صراحة أو للرد على ما يتمسك به الدائن فى هذا الصدد

(الطعن رقم 90 لسنة 23 جلسة 1957/04/01 س 8 ع 1 ص 404 ق 41)

30- العقد المشوب ببطلان أصلى متعلق بالنظام العام هو فى نظر القانون لا وجود له . ولما كان التقادم لا يصحح إلا ما كان له وجود وكان العقد الذى تمسك به الطاعن هو عقد بيع يخفى رهنا فإن مثل هذا العقد لا ينقلب صحيحاً مهما طال الزمن ومن ثم لايكون للتقادم أثر فيه ولصاحب الشأن دائما أبدا رفع الدعوى أوالدفع ببطلانه ويكون الحكم المطعون فيه إذ قضى برفض الدفع بسقوط الحق فى رفع الدعوى ببطلان عقد البيع المذكور لم يخالف القانون . أما تحدى الطاعن بنص المادة 141 من القانون المدنى الجديد فلا يجديه لأنه تشريع جديد لا يسرى على واقعه الدعوى

(الطعن رقم 171 لسنة 20 جلسة 1952/04/10 س 3 ع 3 ص 944 ق 139)

شرح خبراء القانون

وكان المنطق يقضي بأن البطلان المطلق لا يزول بالتقادم ، لأن العقد الباطل معدوم ، والعدم لا ينقلب وجوداً مهما طال عليه الامد .

وقد كان هذا رأينا في عهد القانون القديم ولكن القانون الجديد ، تمشياً مع محكمة النقض الفرنسية ومع بعض الفقهاء الفرنسيين ، قرر أن دعوى البطلان المطلق تسقط بالتقادم بانقضاء خمس عشرة سنة من وقت العقد  وكان المشروع التمهيدي للقانون الجديد ( م 194 ) يقضي بأن البطلان المطلق لا يزول بالتقادم فعكس المشروع النهائي الحكم ، وانتقل الحكم معكوساً إلى القانون الجديد على النحو المبين في الأعمال التحضيرية .

فإذا مضى على صدور العقد الباطل خمس عشرة سنة ، ثم رفع ذوى مصلحة دعوى البطلان ، أمكن دفعها بالتقادم . ذلك أن أوضاعاً قد استقرت منذ صدور العقد الباطل ، وبقيت دهراً طويلاً ، فوجب احترامها عن طريق إسقاط دعوى البطلان ولكن هذا لا يعني أن العقد الباطل ذاته قد انقلب صحيحاً ، فهو لا يزال باطلاً ، ولكن الدعوى ببطلانه لا تسمع لسقوطها بالتقادم .

يتمسك بالبطلان كل ذي مصلحة وللمحكمة من تلقاء نفسها أن تقضي به : العقد الباطل لا وجود له كما قدمنا.

وسنرى أن بطلانه يتقرر عادة عن طريق الدفع ، وقد تقضي الضرورة العملية في بعض الحالات أن يكون تقرير البطلان عن طريق الدعوى وسواء كان تقرير البطلان عن طريق الدفع أو عن طريق الدعوى ، فإن الذي يستطيع أن يتمسك بالبطلان هو كل شخص له مصلحة في ذلك .

والمصلحة هنا يراد بها حق يؤثر فيه صحة العقد أو بطلانه ويترتب على ذلك أن مجرد المصلحة دون قيام هذا الحق لا يكفي فلا يجوز مثلاً أن يتمسك الجار ببطلان بيع صدر من جاره لآخر بحجة أن له مصلحة في التخلص من الجوار المشتري الجديد ولا يحق للتاجر أن يطلب تقرير بطلان شركة ليتخلص من منافستها له .

ولكن إذا كان صاحب المصلحة له حق يؤثر فيه بطلان العقد جاز له التمسك بالبطلان ففي البيع الباطل يستطيع كل من المتعاقدين أن يتمسك بالبطلان : البائع حتى يسترد المبيع ، والمشتري حتى يسترد الثمن ودائنو كل من البائع .

يتمسك بالبطلان كل ذي مصلحة وللمحكمة من تلقاء نفسها أن تقضي به : العقد الباطل لا وجود له كما قدمنا .

وسنرى أن بطلانه يتقرر عادة عن طريق الدفع ، وقد تقضي الضرورة العملية في بعض الحالات أن يكون تقرير البطلان عن طريق الدعوى وسواء كان تقرير البطلان عن طريق الدفع أو عن طريق الدعوى ، فإن الذي يستطيع أن يتمسك بالبطلان هو كل شخص له مصلحة في ذلك  .

والمصلحة هنا يراد بها حق يؤثر فيه صحة العقد أو بطلانه ويترتب على ذلك أن مجرد المصلحة دون قيام هذا الحق لا يكفي فلا يجوز مثلاً أن يتمسك الجار ببطلان بيع صدر من جاره لآخر بحجة أن له مصلحة في التخلص من الجوار المشتري الجديد ولا يحق لتاجر أن يطلب تقرير بطلان شركة ليتخلص من منافستها له .

ولكن إذا كان صاحب المصلحة له حق يؤثر فيه بطلان العقد جاز له التمسك بالبطلان ففي البيع الباطل يستطيع كل من المتعاقدين أن يتمسك بالبطلان : البائع حتى يسترد المبيع ، والمشتري حتى يسترد الثمن ودائنو كل من البائع والمشتري لهم أن يتمسكوا بالبطلان ، لا بطريق الدعوى غير المباشرة فحسب ، بل أيضاً بطريق مباشر ، وذلك ليستردوا المبيع أو الثمن فينفذوا عليه بحقوقهم وورثة كل من البائع والمشتري يتمسكون بالبطلان لرد المبيع أو الثمن إلى التركة ، ولذلك أيضاً بمقتضى حق مباشر لهم ، وكل شخص رتب له البائع أو المشتري حقاً عينياً أو حقاً شخصياً بالنسبة إلى العين المبيعة يجوز له أن يتمسك بالبطلان ، فالمرتهن من البائع يطلب البطلان حتى يسلم له حق الرهن ، والمرتهن من المشتري يطلب البطلان حتى يسترد الدين ، ومستأجر العين المبيعة من البائع يطلب البطلان حتى يبقى في العين ولو كان عقد الإيجار غير ثابت التاريخ ، أو مستأجرها من المشتري يطلب البطلان حتى يسترد الأجرة وكل هؤلاء يطلبون البطلان ، لا عن طريق استعمال حق مدينهم بالدعوى غير المباشرة بل بمقتضى حق مباشر لهم  .

فالذين يجوز لهم التمسك بالبطلان إذن هم المتعاقدان والدائنون والخلف العام والخلف الخاص ، بل للمحكمة أيضاً أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها ، لأن العقد الباطل ليس له وجود قانونين ، والقاضي لا يستطيع إلا أن يقرر ذلك .

متى يجوز التمسك بالبطلان : إذا كان التمسك بالبطلان عن طريق الدعوى ، فلا بد من رفعها في خلال خمس عشرة سنة من وقت صدور العقد ، وإلا سقطت بالتقادم ، أما إذا كان التمسك بالبطلان عن طريق الدفع ، فيجوز ذلك في أي وقت كما سبق القول ، ويجوز إبداء الدفع في أية حالة كانت عليها الدعوى ، كما يجوز إبداؤه لأول مرة أمام محكمة الاستئناف. (الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء: الأول الصفحة/ 691)

 

التمسك بالبطلان المطلق للعقد :

العقد الباطل، معدوم لا وجود له، ولكل من المتعاقدين التصرف على هدى ذلك دون حاجة لرفع دعوى لتقرير هذا البطلان، فيرفض تنفيذ التزامه المترتب على هذا العقد، فإن أقام المتعاقد الآخر دعوى طالبة التنفيذ العيني أوالتنفيذ بطريق التعويض كان للمتعاقد الذي له مصلحة في البطلان أن يدفع ببطلان العقد، كما يترتب على بطلان العقد، بطلان الشرط الجزائي الوارد به فإن كان العقد الباطل بيعة كان للبائع أن يتصرف في المبيع مرة أخرى ويكون تصرفه صحيحة واردة على مال لم يزل في ملكه حتى لو كان المتصرف إليه بموجب العقد الباطل قد سجل العقد إذ أن التسجيل لا يطهر العقد مما شابه من أوجه البطلان .

والحكم الصادر بتقرير البطلان، بناءً على دعوى أصلية بالبطلان، هو حكم مقرر للبطلان وليس منشئاً له، كما إذا كان البائع سلم المبيع وأراد أن يسترده فيرفع دعوى البطلان ويجب أن ترفع دعوى البطلان خلال خمس عشرة سنة من وقت تمام العقد وإلا سقطت بالتقادم فلا تسمع الدعوى، أما الدفع بالبطلان فلا يتقادم أبداً، ولكن في الحالة الأخيرة يجوز التمسك بالتقادم المكسب فيكون الدفع غير مجدي .

ولكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان، والمصلحة المعتبرة هي الحق الذي يتأثر بقيام العقد أو بطلانه، ولا يتحقق ذلك إلا بالنسبة للمتعاقدين وخلفهما الخاص والعام والدائنون، كالمرتهن والمستأجر، ولهؤلاء التمسك بالبطلان عن طريق الدعوى المباشرة وكذلك بالدعوى غير المباشرة، ويجوز التمسك بالبطلان في أية مرحلة تكون عليها الدعوى ولو لأول مرة أمام الاستئناف، بل للمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها.

عدم ورود الإجازة على البطلان المطلق :

ولا يزول البطلان المطلق بالاجازة، لأن الاجازة لا ترد إلا على عقد له وجود قانوني کالعقد الباطل بطلاناً نسبياً إذ يكون له وجود يعتد به القانون حتى يتمسك ببطلانه صاحب المصلحة فيه ويقضي له بالبطلان، فإن لم يطلب ذلك، ظل العقد على أصله موجودة ومرتباً كافة آثاره، خلافاً للعقد الباطل بطلاناً مطلقاً ، فهو منعدم وغير موجود منذ إبرامه، وبالتالي لا يكون هناك محل ترد عليه الإجازة.

ولما كان يترتب على البطلان زوال العقد، فإنه يجب شهر صحيفة دعوى البطلان للاحتجاج به على الغير على التفصيل الذي أوضحناه بالمادة 934 ويتعين لترتيب هذا الأثر، أن يصدر حكم نهائي بالبطلان، فإن رفضت الدعوى بحكم نهائي زال أثرها ويتعين محو شهرها بموجب صورة رسمية من هذا الحكم .

سقوط دعوى البطلان المطلق :

والبطلان الذي لا يخضع لنص المادة 140 من حيث سقوط الحق فيه، والبطلان الذي لم يرد بشأنه نص خاص في هذا الصدد، إنه يخضع للمادة 141.

وكانت دعوى البطلان المطلق في ظل القانون المدني السابق لا تسقط بمضي المدة فجاء القانون الحالي ونص في المادة 141 منه على سقوطها بمضي خمس عشرة سنة من وقت العقد .

ويرجع البطلان المطلق وفقاً لما جاءت به القواعد العامة في القانون المدني – ذلك أن البطلان المطلق قد ينفرد بنص في قانون خاص وحينئذ يستند البطلان إلى هذا النص – الى إنهيار ركن من أركان العقد وهي الرضا والمحل والسبب أو إلى تخلف شرط من شروط الركن، فالرضا شرطة التمييز والمحل شرطه الوجود والإمكان والتعيين والمشروعية والسبب شرطه المشروعية، فإذا ما تخلف ركن من أركان العقد أو شرط من شروط أي من هذه الأركان فإن العقد لم تقم له قائمة وهو ما يعبر عنه بالبطلان المطلق .

فإن لم يتم التمسك بهذا البطلان خلال خمس عشرة سنة من وقت إبرام العقد، سقطت دعوى البطلان فلا تسمع، وليس مفاد ذلك أن ينقلب العقد صحيحة بل يظل على سيرته الأولى باطلاً وفي حالة الاستناد إليه في دعوى فإنه يجوز الدفع ببطلانه حتى لا يصدر الحكم وفقاً له وهذا الدفع لتعلقه بعقد باطل بطلاناً مطلقاً ، لا يسقط أبدا ولو إنقضت المدة المقررة لسقوط دعوى البطلان ذلك .

أن الدفوع لا يرد التقادم عليها، مثال ذلك أن يهب شخص لآخر عينة لم يتم تسليمها الى الموهوب له وخلت الهبة من الشكل الرسمي فتكون باطلة بطلاناً مطلقاً ، وبعد إنقضاء خمس عشرة سنة عليها يرفع الموهوب له دعوی بالتسليم، وحينئذ يكون للواهب أن يدفع هذه الدعوى ببطلان عقد الهبة أما إن كان الموهوب له تسلم الشئ الموهوب وانقضت خمس عشرة سنة على الهبة فإن الواهب لا يستطيع رفع دعوى باسترداد العين استناداً إلى بطلان العقد - وفقاً للمادة 142 - إذ سقطت هذه الدعوى بالتقادم، وإنما له رفع دعوى باستحقاق الشئ ودعوى الاستحقاق لا تتقادم بمرور الزمن، فيتمكن بذلك من الإسترداد إلا إذا تمسك الموهوب له بالتملك بالتقادم الطويل المكسب للملكية فترفض دعوى الاستحقاق استناداً للتقادم وليس استناداً الى العقد الباطل . (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/  الثاني  الصفحة/ 633 )

 

العقد الباطل :

تقرير بطلان العقد الباطل :

العقد الباطل لا ينعقد أصلاً ويترتب على ذلك أننا لا نكون في حاجة إلى إيقاع بطلانه فهذا البطلان حاصل من تلقاء نفسه ولكن قد يحتاج الأمر إلى تقرير بطلان العقد، إذا ما نوزع فيه وهنا يرفع الأمر إلى المحكمة.

وبخلاف الحال في العقد القابل للإبطال، يجوز التمسك ببطلان العقد الباطل لكل ذي مصلحة بل إن للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها.

فليس لأي شخص أن يتمسك بالبطلان، بل لابد أن يكون صاحب مصلحة في ذلك. ويعتبر هذا تطبيقاً لمبدأ عام من مبادئ قانون المرافعات (م3) وهو أنه لا دعوى ولا دفع بغير مصلحة.

وصاحب المصلحة في التمسك بالبطلان هو كل صاحب حق يؤثر فيه وجود العقد أو بطلانه فلا يكفي أن يكون الشخص صاحب مصلحة مجردة من أي حق كالتاجر مثلا له مصلحة في بطلان عقد إيجار محل تجاري لتاجر آخر توقياً لمنافسته مثل هذه المصلحة المجردة من أي حق لا تعطى للتاجر الأول أن يتمسك ببطلان عقد إيجار التاجر الثاني أما المصلحة المرتبطة بحق فهي تكون لكل من المتعاقدين، ولو كان هو العاقد الذي جاء البطلان من ناحيته، فالبائع مثلاً الذي جاء البطلان من ناحيته له مصلحة في البطلان حتى لا يسلم العين للمشتري، وللأخير الذي يكون البطلان من ناحيته مصلحة في البطلان حتى لا يدفع الثمن إلى البائع.

وتوجد مصلحة أيضا للخلف العام أى ورثة المتعاقدين والموصى له بحصة في التركة، وللخلف الخاص كالمشترى لعقار مرهون، وكذلك لأي دائن من دائني المتعاقدين .

فدائن البائع يتمسك بالبطلان حتى يقوم الشئ المبيع في ذمة مدينه فيتمكن من التنفيذ عليه، ولدائن المشترى أن يتمسك بالبطلان أيضاً حتى يعود الثمن المدفوع إلى ذمة مدينه.

ولكن نظرا لأن العقد الباطل لا وجود له في نظر القانون، فإن للقاضي أن يحكم بالبطلان من تلقاء نفسه ولو لم يطلب ذلك أي ذي مصلحة بل إن القاضي يجب عليه أن يحكم بالبطلان فهذا واجب عليه لأن هذا البطلان من النظام العام وليس حق له فقط.

والحكم بالبطلان غير منشئ للبطلان بل هو كاشف ومقرر له فقط .

التمسك بالبطلان عن طريق الدعوى أو الدفع :

يكون التمسك بالبطلان إما في صورة دعوى أو في صورة دفع والغالب أن يتم التمسك بالبطلان في صورة دفع، لأن من له مصلحة في البطلان ليس في حاجة إلى رفع دعوى لتقرير ذلك، بل هو يستطيع أن يتصرف على أساس أن العقد الباطل لا وجود له فمن باع شيئاً بعقد باطل له أن يمتنع عن تسليم المبيع إلى المشتري وله أن يبيعه مرة أخرى بعقد صحيح ولكن إذا رفع المشتري عليه دعوى بطلب تسليم الشئ المبيع فإنه يدفع هذه الدعوى بدفع هو الدفع بالبطلان، ويكون هذا هو الوضع أيضاً إذا رفع المشتري الأول دعوى استحقاق على المشتري الثاني فإن لهذا الأخير أن يدفع هذه الدعوى بالدفع ببطلان عقد البيع الأول.

وإذا رفعت دعوى ببطلان العقد تأسيساً على سبب معين، كعدم مشروعية السبب مثلاً، ثم رفضت الدعوى، فإن ذلك لا يمنع من رفع دعوى بطلان جديدة، إذما أسست على سبب آخر مختلف .

ولكن إذا رفعت دعوى بصحة العقد وقضى بقبولها، فإنه يمتنع بعد ذلك الطعن في العقد تأسيساً على أي سبب كان يمكن إبداؤه حال قيام تلك الدعوى.

عدم تصحيح العقد الباطل بالإجازة : 

تنص الفقرة الأولى من المادة الأولى من المادة (141) في عجزها بأنه: "ولا يزول البطلان بالإجازة" فالإجازة لا تلحق العقد الباطل، لأنها لا يمكنها أن تجعل من العدم شيئاً والإجازة عمل قانوني صادر من جانب واحد والعقد يفترض توافق إرادتين، وهذه الإجازة لو حصلت لوقعت باطلة فمؤدي الإجازة النزول عن حق التمسك بالبطلان والبطلان هنا يمس النظام العام ولا يصح النزول عن حق يتصل بالنظام العام.

النزول عن حق يتصل بالنظام العام 

وإذا امتنعت إجازة العقد الباطل، إلا أنه يجوز إعادة إبرامه من جديد بعد تلافي سبب البطلان، وهذا الأمر يقتضي توافق إرادتي طرفي العقد كليهما، فلا تكفي إرادة أحدهما وإذا كان سبب البطلان أن العقد لم يأخذ الشكل الرسمي الذي يتطلبه القانون، فلابد من اتخاذه من جديد في الشكل المطلوب.

ومن قبيل إجازة العقد الباطل، ومن ثم يقع باطلاً بدوره فلا يعتد به أن ينزل المتعاقد عن حقه في الطعن في العقد، فالنزول عن الطعن في العقد الباطل يفيد ضمن الرضاء به، أي إجازته.

سقوط دعوى البطلان بمضي خمس عشرة سنة :

تنص الفقرة الثانية من المادة أن: "وتسقط دعوى البطلان بمضي خمس عشرة سنة من وقت العقد" .

غير أن سقوط دعوى البطلان بمضي هذه المدة لا يعني بحال أن العقد الباطل زال بطلانه وأصبح عقداً صحيحاً وإنما يعني مجرد عدم رفع دعوى بطلان العقد إذا مضت هذه المدة لأنه من ناحية يجوز الدفع ببطلان العقد الباطل في أي وقت لأن الدفوع لا تسقط بالتقادم مهما طالت المدة .

ولهذا إذا رفع أحد طرفي العقد الباطل دعوى للمطالبة بتنفيذه بعد مضي خمس عشرة سنة، فإنه يكون للطرف الآخر أن يدفع هذه الدعوى ببطلان العقد ومن ناحية اخرى يجوز لمن سلم شيئاً يملكه إلى آخر بمقتضى عقد باطل أن يرفع عليه دعوى الاستحقاق في أي وقت لأن هذه الدعوى لا تسقط بالتقادم، كذلك يجوز لمن دفع لأخر مقابلاً بمقتضى عقد باطل أن يرفع عليه دعوى استرداد ما دفع بغير حق ما دامت هذه الدعوى تسقط بمضي ثلاث سنوات من وقت علمه بأنه دفع ما هو غير مستحق عليه أو بمضي خمس عشرة سنة من وقت الدفع لا من وقت العقد الباطل الذي كان دفعه بمقتضاه . (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الثاني الصفحة/432)

وكذلك إذا أراد هذا الشخص أن يطمئن المتعاملين معه قبل فوات هذه المدة على لزوم آثار العمل القانوني نهائياً ، جاز أن يتنازل عن التمسك بحقه في ابطال هذه الارادة ( المادة 139 مدنی )، وهذا التنازل يسمى اجازة وهو يكسب الارادة القابلة للإبطال قوة الإرادة الصحيحة ، ولكن يشترط في صحة الإجازة حصولها بعد زوال السبب الذي جعل الإرادة قابلة للإبطال، فإذا كان السبب نقص الأهلية لصغر في السن وجب أن تكون الاجازة بعد بلوغ الصغير رشده وإذا كان السبب عيبا من عيوب الارادة فلا تصح إلا بعد كشف الغلط او التدليس أو زوال الاكراه. (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الأول الصفحة/ 888)

والمقصود بالمصلحة التي تجيز لصاحبها التمسك بالبطلان كل مصلحة تستند الى حق يمكن أن يتأثر من عدم بطلان العقد ، لا مجرد المصلحة غير المستندة إلى حق أو المستندة الى حق لا يتأثر من بطلان العقد أو عدمه. 

فيعتبر كل من العاقدين ذا مصلحة في التمسك بالبطلان ، فالبائع مثلاً ذو مصلحة في التمسك ببطلان البيع الأن عدم البطلان يجرده من ملكية المبيع ، فهو يتمسك ببطلان البيع ليحتفظ بهذه الملكية أو ليسترد حيازة المبيع ، وكذلك المشتري قد تكون له مصلحة في التمسك ببطلان البيع ليسترد الثمن الذي دفعه أو ليتخلل من الثمن الذي التزم به .

وكذلك الخلف العام لكل من العاقدين أي ورثته أو الموصى لهم  بحصة شائعة في التركة، لأن مصلحة العاقد تنتقل من بعده الى خلفه العام.

والخلف الخاص وهو كل من تلقى من أحد العاقدين حقاً كان قائماً في ذمته - تكون له مصلحة في التمسك ببطلان العقد الصادر من سلفه متى كان عدم بطلان هذا العقد يؤثر في حقه المذكور، فيجوز له المشتري الثاني مثلاً لعين معينة يجوز له التمسك ببطلان عقد المشتري الأول لأن عدم بطلان هذا العقد يؤثر في حقوقه التمسك بالبطلان الناشئة من العقد الثاني .

وكذلك انو كل من العاقدين يعتبرون ذوى مصلحة في التمسك ببطلان العقد الصادر من مدينهم لأن عدم بطلان هذا العقد يمكن أن يؤثر في حق الضمان العام المقرر لهم على جميع أموال مدینهم .

وليس لمن هذا المتعاقدين وخلفهما العام أو الخاص ودائنيهما أن يتمسك ببطلان العقد لأن مصلحته في ذلك إن وجدت - تكون ملحة مدت تندة الى حق يتأثر من عدم بطلان العقد كمصلحة المستأجر في التمسك ببطلان عقد إجارة مستأجر آخر العين مجاورة له توصلاً لإبعاد ذلك المستأجر الآخر عن جواره أو حتى يتمكن هو من استئجار تلك العين الأخرى.

ويجوز لكل واحد ممن لهم حق التمسك بالبطلان أن يتمسك به في أي عمالة كانت عليها الدعوى ، ولو كان ذلك لأول مرة أمام المحكمة الاستئنافية.

ويتعين حينئذ على المحكمة متى تحققت من توافر بسبب البطلان أن تقضى به وليس لها أن تترخص في ذلك. 

بل يجوز للمحكمة أن تقضى بالبطلان من تلقاء نفسها ، سواء أكان البطلان مما تقضي به طبيعة الأشياء أم كان مما يقرره القانون حماية للنظام العام أو الآداب ، الأن القاضي لا يستطيع أن يخالف طبيعة الأشياء ولا يصح أن يسكت على ما يخالف النظام العام أو الآداب ولذلك يجوز للمحكمة أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها متى تنبهت إليه في أي حالة تكون عليها الدعوى ، وإذا لم تتنبه إليه ، جاز الطعن في حكمها بالبطلان لمخالفته قاعدة متعلقة بالنظام العام.

(ب) عدم جواز النزول من البطلان أو عدم وزود الاجازة أو التصحيح على العقد الباطل - تنص المادة 141 فقرة أولى به بعد ما أوردناه من نصها في النبذة السابقة على أن لا يزول البطلان بالاجازة .

والإجازة في اتجاه إرادة أحد العاقدين نحو تطهير العقد من أثر العيوب التي تجعله قابلاً للإبطال  فهي لا حاجة إليها بالنسبة الى العقد الصحيح ولا محل لها في العقد الباطل، لأن العقد الباطل هو والعدم سواء ، فلا تستطيع الإجازة أن تجعل من العدم عقداً صحيحاً ، إذ أن الإجازة إرادة منفردة في حين أن العقد الصحيح يحتاج إلى توافق إرادتين فإذا أريد تحقيق الآثار التي كان يهدف إليها العاقدان من وراء إبرام العقد الذي وقع باطلاً كان لا مناص من إعادة التعاقد أي من إبرام عقد جدید وذلك بتوافق إرادتين متطابقتين جديدتين وحينئذ لا تتحقق الآثار المنشودة إلا من تاريخ العقد الجديد. 

 فالإجازة لا ترد على العقد الباطل ولا تزيل البطلان، وإنما ترد فقط على العقد القابل للابطال وتعتبر نزولاً عن استعمال الحق في أبطاله ، وكذلك فإن العقد الباطل لا يرد عليه التصحيح.

جـ - عدم تقادم دعوى البطلان إلا بمضي خمس عشر سنة - وأن العقد الباطل عقد معدوم أو لا وجود قانوني له تعين القول بأنه يظل كذلك مهما طال عليه الأمد الأن في الزمن لا يمكن أن يحيل العدم وجوداً .

وقد كان مسلماً ، في ظل التقنين الملغى ، أن البطلان المطلق لا يسقط بالتقادم أبداً ، فكان يجوز التمسك به في كل وقت سواء أكان ذلك و من طريق الدعوى أم من طريق الدفع .

غير أن واضعي الثاني الحالي حرصاً منهم على استفزاز التعامل : وبعد أن جعلوا لمدة تقادم الحق في إبطال الدعوى القابلة للإبطال ثلاث سنوات كما سيجئ - نصوا في المادة 14 فقرة ثانية على أن تسقط فقرة ثانية علي أن دعوى البطلان بمضي خمس عشرة سنة من وقت العقد ويبين من ذلك أنهم لم يقصدوا أن مضي الزمن يصحح العقل الباطل، وإلا لوجب أن ينصوا على سقوط الدفع بالبطلان كما نصوا على سقوط الدعوى، وإنما قصدوا فقط تقرير عدم سماع دعوى البطلان بعد مضي خمس عشرة سنة من وقت العقد، ماذا نفذ البيع الباطل مثلاً ثم أراد البائع أن يتمسك بالبطلان ليسترد المبيع أو المشتري ليسترد الثمن لم تسمع دعواه إذا رخت بعد انقضاء خمس عشرة سنة من تاريخ العقد .

أما اذا كان العقد لم يتم تنفيذه كله أو بعضه ، وطالب أحد الطرفين الآخر بتنفيذ بعض الالتزامات الناشئة منه كالإلتزام بضمان المبيع مثلاً بعد انقضاء خمس عشرة سنة من تاريخ العقد ، جاز للمدعى عليه دفع الدعوى ببطلان العقد الذي يستند إليه المدعى بمضي المدة اللازمة لتقادم الدعوى، لأن الدفع بالبطلان لا يسقط بالتقادم أبداً.

ويمكن تعليل ذلك بأن مدة التقادم المسقط لا تسري إلا من وقت نشوء الحق و إمكان استعماله، فيتصور تقادم دعوى البطلان بمضي خمس عشرة سنة من وقت العقد لأن هذه الدعوي تنشأ ويجوز استعمالها ابتداء من ذلك الوقت ، فيصح أن تتقادم بعدم استعمالها 15 سنة.

أما الدفع بالبطلان فلا ينشأ ولا يمكن استعماله من وقت العقد بل من وقت رفع الدعوي المستندة إلى العقد ، فيمكن التمسك به في هذه الدعوى أياً كانت المدة التي انقضت من تاريخ العقد. (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الثاني  الصفحة 430)

يكون العقد باطلاً في الأحوال المبينة في التعليق على المادة 138 ، أو اذا صرح المشرع بلفظ البطلان، أو كلما كان الحكم موضوع المخالفة من النصوص الآمرة أو التي تتعلق بالنظام العام .

والبطلان لا ترد عليه الإجازة أو النزول الصريح أو الضمني .

ويشترط لقبول التمسك بالبطلان ابداؤه من ذي مصلحة قانونية، ولا تتوافر هذه المصلحة إلا إذا كان له حق قانوني يتأثر بصحة العقد أو البطلان وبمعنى آخر فإنه يلزم توافر المصلحة القانونية حسبما تعرفها المادة الثالثة من قانون المرافعات فلا تكفى المصلحة الاقتصادية أو الأدبية ، فلا يجوز للجار التمسك ببطلان عقد بيع صادر من جاره بحجة أن له مصلحة في التخلص من المشتري الجديد، أو ان يتمسك تاجر ببطلان عقد شركة منافسة (يراجع في المقصود بالمصلحة القانونية التعليق على المادة الثالثة من قانون المرافعات في تقنين المرافعات في ضوء القضاء والفقه للمؤلف طبعة 1995) ولكن إذا توافرت المصلحة القانونية قام الحق في التمسك بالبطلان سواء كان ممن هو طرف في العقد كالبائع والمشتري إذ تتمثل مصلحة الأول في استرداد المبيع وتتمثل مصلحة الثاني في استرداد الثمن ويكون ذلك لخلقهما العام والخاص و لدائنيه بموجب الدعوى غير المباشرة ، وللغير كالمشتري المدعى عليه في دعوى الشفعة له مصلحة في التمسك ببطلان سند ملكية الشفيع " يراجع في ذلك كله السنهوري بند 327 - الشرقاوي بند 49 - مرقس بند 214 .

وتسقط دعوى البطلان بمضي خمسة عشر عاماً من تاريخ العقد الذي يبرم في ظل التقنين الحالي أو من تاريخ العمل بالتقنين الجديد بالنسبة إلى العقود التي ابرمت قبل نفاذه عملاً بنص المادة السابعة ، ولكن الدفع بالبطلان لا يرد عليه التقادم فيجوز ابداؤه في أي وقت وعلى أية حال كانت عليها الدعوى حتى امام محكمة الاستئناف، ويراجع التعليق على المادة السابعة - السنهوري بند 328 - مرقس بند 213 - الشرقاوي بند 49 . 

والبطلان لا ترد عليه الاجازة أو التصحيح ولكن ذلك لا يمنع طرفيه من إبرام عقد جديد . (التقنين المدني في ضوء القضاء والفقه، الأستاذ/ محمد كمال عبد العزيز، طبعة 2003 الصفحة : 872 )

الفقة الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثالث ، الصفحة /  285

فَسَادُ الْعَقْدِ:

10 - يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَالْعَقْدُ الْبَاطِلُ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَا لَمْ يُشْرَعْ بِأَصْلِهِ وَلاَ وَصْفِهِ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ: هُوَ مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ. أَمَّا حُكْمُ الاِسْتِرْدَادِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ فَيَظْهَرُ فِيمَا يَأْتِي:

الْعَقْدُ الْبَاطِلُ لاَ وُجُودَ لَهُ شَرْعًا، وَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ؛ لأِنَّهُ لاَ أَثَرَ لَهُ، وَلاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَنْ يُجْبِرَ الآْخَرَ عَلَى تَنْفِيذِهِ.

فَفِي الْبَيْعِ يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: لاَ حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ (الْبَاطِلِ) أَصْلاً؛ لأِنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ، وَلاَ وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ؛ لأِنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ لاَ وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الأْهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا، كَمَا لاَ وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ الْحَقِيقِيِّ إِلاَّ مِنْ الأْهْلِ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ نَحْوُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ.

وَمَا دَامَ الْعَقْدُ الْبَاطِلُ لاَ وُجُودَ لَهُ شَرْعًا، وَلاَ يُنْتِجُ أَيَّ أَثَرٍ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ بِاخْتِيَارِهِ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي بِاخْتِيَارِهِ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ، كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ؛ لأِنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَوْ بِالْقَبْضِ، وَلِذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ عِتْقٍ، فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لاَ يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنِ اسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لَمْ يَنْقُلِ الْمِلْكِيَّةَ لِلْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ مَالاً غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ.

11 - أَمَّا الْعَقْدُ الْفَاسِدُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ، فَلِذَلِكَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، بَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ الْفَسْخَ، حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا فِي الْفَسْخِ مِنْ رَفْعِ الْفَسَادِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَسْتَلْزِمُ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَرَدَّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، هَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.

أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهُ؛ لأِنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ، فَتَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفَاتُهُ كُلُّهَا، وَيَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الاِسْتِرْدَادِ؛ لأِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَالاِسْتِرْدَادُ حَقُّ الشَّرْعِ، وَمَا اجْتَمَعَ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ إِلاَّ غَلَبَ حَقُّ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّصَرُّفُ يَقْبَلُ الْفَسْخَ، أَوْ لاَ يَقْبَلُهُ، إِلاَّ الإْجَارَةَ فَإِنَّهَا لاَ تَقْطَعُ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الاِسْتِرْدَادِ؛ لأِنَّ الإْجَارَةَ عَقْدٌ ضَعِيفٌ يُفْسَخُ بِالأْعْذَارِ، وَفَسَادُ الشِّرَاءِ عُذْرٌ، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

12 - أَمَّا الْجُمْهُورُ: فَإِنَّهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَالْعَقْدِ الْبَاطِلِ. فَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلاَ يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ، سَوَاءٌ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، أَمْ لَمْ يَتَّصِلْ، وَيَلْزَمُ رَدُّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي هَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.

أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ. فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ، وَيَكُونُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ اسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ، وَمِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي اسْتِرْدَادُ الثَّمَنِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّهُ يَجِبُ عِنْدَهُمْ رَدُّ الْمَبِيعِ الْفَاسِدِ لِرَبِّهِ إِنْ لَمْ يَفُتْ، كَأَنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ بِبَيْعٍ، أَوْ بُنْيَانٍ، أَوْ غَرْسٍ، فَإِنْ فَاتَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مَضَى الْمُخْتَلَفُ فِيهِ - وَلَوْ خَارِجَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ - بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَلْ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ، ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُقَوَّمًا حِينَ الْقَبْضِ، وَضَمِنَ مِثْلَ الْمِثْلِيِّ إِذَا بِيعَ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا، وَعَلِمَ كَيْلَهُ أَوْ وَزْنَهُ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ وُجُودُهُ، وَإِلاَّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثامن   ، الصفحة / 106

بُطْلاَنٌ

التَّعْرِيفُ:

1 - الْبُطْلاَنُ لُغَةً: الضَّيَاعُ وَالْخُسْرَانُ، أَوْ سُقُوطُ الْحُكْمِ. يُقَالُ: بَطَلَ الشَّيْءُ يَبْطُلُ بَطَلاً وَبُطْلاَنًا بِمَعْنَى: ذَهَبَ ضَيَاعًا وَخُسْرَانًا، أَوْ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْحُبُوطُ.

وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ.

فَفِي الْعِبَادَاتِ: الْبُطْلاَنُ: عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ. كَمَا لَوْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ.

وَالْبُطْلاَنُ فِي الْمُعَامَلاَتِ يَخْتَلِفُ فِيهَا تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، وَيَنْشَأُ عَنِ الْبُطْلاَنِ تَخَلُّفُ الأْحْكَامِ  كُلِّهَا عَنِ التَّصَرُّفَاتِ، وَخُرُوجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَسْبَابًا مُفِيدَةً لِتِلْكَ الأْحْكَامِ  الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَبُطْلاَنُ الْمُعَامَلَةِ لاَ يُوَصِّلُ إِلَى الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ أَصْلاً؛  لأِنَّ  آثَارَهَا لاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا.

وَتَعْرِيفُ الْبُطْلاَنِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ تَعْرِيفُ الْفَسَادِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ: أَنْ تَقَعَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ أَوْ بِهِمَا.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْفَسَادُ:

2 - الْفَسَادُ: مُرَادِفٌ لِلْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فَكُلٌّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يُخَالِفُ وُقُوعُهُ الشَّرْعَ، وَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الآْثَارُ، وَلاَ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي بَعْضِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ، كَالْحَجِّ وَالْعَارِيَّةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَالْفَسَادُ يُبَايِنُ الْبُطْلاَنَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَامَلاَتِ، فَالْبُطْلاَنُ عِنْدَهُمْ: مُخَالَفَةُ الْفِعْلِ لِلشَّرْعِ لِخَلَلٍ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ.

أَمَّا الْفَسَادُ فَهُوَ: مُخَالَفَةُ الْفِعْلِ لِلشَّرْعِ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ، وَلَوْ مَعَ مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ فِي أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِ انْعِقَادِهِ.

ب - الصِّحَّةُ:

3 - الصِّحَّةُ فِي اللُّغَةِ. بِمَعْنَى: السَّلاَمَةِ فَالصَّحِيحُ ضِدُّ الْمَرِيضِ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: وُقُوعُ الْفِعْلِ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ بِاسْتِجْمَاعِ الأْرْكَانِ وَالشُّرُوطِ. وَأَثَرُهُ فِي الْمُعَامَلاَتِ: تَرَتُّبُ ثَمَرَةِ التَّصَرُّفِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ، كَحِلِّ الاِنْتِفَاعِ فِي الْبَيْعِ، وَالاِسْتِمْتَاعِ فِي النِّكَاحِ.

وَأَثَرُهُ فِي الْعِبَادَاتِ هُوَ سُقُوطُ الْقَضَاءِ بِفِعْلِ الْعِبَادَةِ.

ج - الاِنْعِقَادُ:

4 - الاِنْعِقَادُ: يَشْمَلُ الصِّحَّةَ، وَيَشْمَلُ الْفَسَادَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَهُوَ ارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا. أَوْ هُوَ: تَعَلُّقُ كُلٍّ مِنَ الإْيجَابِ وَالْقَبُولِ بِالآْخَرِ  عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ، يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي مُتَعَلَّقِهِمَا.

فَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ بِأَصْلِهِ، وَلَكِنَّهُ فَاسِدٌ بِوَصْفِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَالاِنْعِقَادُ ضِدُّ الْبُطْلاَنِ.

عَدَمُ التَّلاَزُمِ بَيْنَ بُطْلاَنِ التَّصَرُّفِ فِي الدُّنْيَا وَبُطْلاَنِ أَثَرِهِ فِي الآْخِرَةِ:

5 - لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ أَوْ بُطْلاَنِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ بُطْلاَنِ أَثَرِهِ فِي الآْخِرَةِ، فَقَدْ يَكُونُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ فِي الدُّنْيَا، لاِسْتِكْمَالِهِ الأْرْكَانَ  وَالشُّرُوطَ الْمَطْلُوبَةَ شَرْعًا، لَكِنِ اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ مَا يُبْطِلُ ثَمَرَتَهُ فِي الآْخِرَةِ، فَلاَ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ، بَلْ قَدْ يَلْزَمُهُ الإْثْمُ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «إِنَّمَا الأْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» وَقَدْ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَيَسْتَحِقُّ عَامِلُهُ الثَّوَابَ، وَلَكِنْ يُتْبِعُهُ صَاحِبُهُ عَمَلاً يُبْطِلُهُ، فَالْمَنُّ وَالأْذَى يُبْطِلُ أَجْرَ  الصَّدَقَةِ، لقوله تعالي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأْذَى)  وَقَالَ:  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ).

6 - وَيُوَضِّحُ الشَّاطِبِيُّ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يُرَادُ بِالْبُطْلاَنِ إِطْلاَقَانِ:

أَحَدُهُمَا: عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا نَقُولُ فِي الْعِبَادَاتِ: إِنَّهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ وَلاَ مُبَرِّئَةٍ لِلذِّمَّةِ وَلاَ مُسْقِطَةٍ لِلْقَضَاءِ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى لِمُخَالَفَتِهَا لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ فِيهَا. وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً لِخَلَلٍ فِي بَعْضِ أَرْكَانِهَا أَوْ شُرُوطِهَا، كَكَوْنِهَا نَاقِصَةً رَكْعَةً أَوْ سَجْدَةً.

وَنَقُولُ أَيْضًا فِي الْعَادَاتِ: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ، بِمَعْنَى عَدَمِ حُصُولِ فَوَائِدِهَا بِهَا شَرْعًا، مِنْ حُصُولِ إِمْلاَكٍ وَاسْتِبَاحَةِ فُرُوجٍ وَانْتِفَاعٍ بِالْمَطْلُوبِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِالْبُطْلاَنِ عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الآْخِرَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ. فَتَكُونُ الْعِبَادَةُ بَاطِلَةً بِالإْطْلاَقِ الأْوَّلِ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا جَزَاءٌ؛ لأِنَّ هَا غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِمُقْتَضَى الأْمْرِ بِهَا، كَالْمُتَعَبِّدِ رِئَاءَ النَّاسِ، فَهِيَ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ

وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ، وَقَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً بِالإْطْلاَقِ الأْوَّلِ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَيْضًا، كَالْمُتَصَدِّقِ بِالصَّدَقَةِ يُتْبِعُهَا بِالْمَنِّ وَالأْذَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأْذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ).

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلإْقْدَامِ عَلَى تَصَرُّفٍ بَاطِلٍ مَعَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ:

7 - الإْقْدَامُ عَلَى فِعْلٍ بَاطِلٍ - مَعَ الْعِلْمِ بِبُطْلاَنِهِ - حَرَامٌ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ؛ لاِرْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ؛ لأِنَّ  الْبُطْلاَنَ وَصْفٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَقَعُ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالصَّلاَةِ بِدُونِ طَهَارَةٍ، وَالأْكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلاَتِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلاَقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، وَكَالاِسْتِئْجَارِ عَلَى النَّوْحِ، وَكَرَهْنِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ، أَمْ كَانَ فِي النِّكَاحِ، كَنِكَاحِ الأْمِّ وَالْبِنْتِ.

وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْمَلُ الْفَاسِدَ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ بَعْضَ الأْحْكَامِ  - كَإِفَادَتِهِ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ مَثَلاً - إِلاَّ أَنَّ الإْقْدَامَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْفَسَادِ؛ لأِنَّ  فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ، فَعَلَى الْعَاقِدِ التَّوْبَةُ مِنْهُ بِفَسْخِهِ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الإِْقْدَامِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْبَاطِلِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، كَالْمُضْطَرِّ يَشْتَرِي الْمَيْتَةَ.

هَذَا فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْبَاطِلِ مَعَ عِلْمِهِ بِبُطْلاَنِهِ.

8 - وَأَمَّا الإْقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْبَاطِلِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ، فَهَذَا يَشْمَلُ النَّاسِيَ وَالْجَاهِلَ. وَالأْصْلُ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَاهِلِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، فَمَنْ بَاعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْبَيْعِ، وَمَنْ آجَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الإْجَارَةِ، وَمَنْ صَلَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الصَّلاَةِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا يُرِيدُ الإْقْدَامَ عَلَيْهِ، لقوله تعالي : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)  فَلاَ يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَهُ، فَيَكُونُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَاجِبًا فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ.

وَتَرْكُ التَّعَلُّمِ مَعْصِيَةٌ يُؤَاخَذُ بِهَا.

أَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي وَقَعَ بَاطِلاً مَعَ الْجَهْلِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ: أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ تَسَامَحَ فِي جَهَالاَتٍ فِي الشَّرِيعَةِ، فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهَا، وَأَخَذَ بِجَهَالاَتٍ، فَلَمْ يَعْفُ عَنْ مُرْتَكِبِهَا. وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (جَهْلٌ، نِسْيَانٌ).

الإْنْكَارُ عَلَى مَنْ فَعَلَ الْبَاطِلَ:

9 - إِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَّفَقًا عَلَى بُطْلاَنِهِ، فَإِنْكَارُهُ وَاجِبٌ عَلَى مُسْلِمٍ. أَمَّا إِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَلاَ إِنْكَارَ فِيهِ.

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الإْنْكَارُ مِنَ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اجْتُمِعَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلاَ إِنْكَارَ فِيهِ؛ لأِنَّ  كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَلاَ نَعْلَمُهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْخِلاَفُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي الْفُرُوعِ، وَلاَ يُنْكِرُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِهِ أَمْرًا مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا خَالَفَ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لاَ يَرَى تَحْرِيمَهُ، فَإِنْ كَانَ يَرَاهُ فَالأْصَحُّ الإْنْكَارُ.

وَفِي كُلِّ ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (إِنْكَار، أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، اجْتِهَاد، تَقْلِيد، اخْتِلاَف، إِفْتَاء، رُخْصَة).

الاِخْتِلاَفُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ:

10 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالصَّلاَةِ مَعَ تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا، أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ، كَالْعَقْدِ عَلَى إِحْدَى الْمَحَارِمِ، أَمْ كَانَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَالشِّرَاءِ بِالْخَمْرِ، وَالْبَيْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الرِّبَا، فَكُلٌّ مِنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ يُوصَفُ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي يَقَعُ عَلَى خِلاَفِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَعْتَبِرْهُ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ أَيَّ أَثَرٍ مِنَ الآْثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْفِعْلِ الصَّحِيحِ.

فَالْجُمْهُورُ يُطْلِقُونَهُمَا، وَيُرِيدُونَ بِهِمَا مَعْنًى وَاحِدًا، وَهُوَ: وُقُوعُ الْفِعْلِ عَلَى خِلاَفِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْخِلاَفُ رَاجِعًا إِلَى فَوَاتِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْفِعْلِ، أَمْ رَاجِعًا إِلَى فَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ - عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ - يُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي أَنَّ الْبُطْلاَنَ وَالْفَسَادَ مُتَرَادِفَانِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَامَلاَتِ، فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْجُمْهُورَ، فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، وَيَجْعَلُونَ لِلْفَسَادِ مَعْنًى يُخَالِفُ مَعْنَى الْبُطْلاَنِ، وَيَقُومُ هَذَا التَّفْرِيقُ عَلَى أَسَاسِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَصْلِ الْعَقْدِ وَوَصْفِهِ.

فَأَصْلُ الْعَقْدِ هُوَ أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُ انْعِقَادِهِ، مِنْ أَهْلِيَّةِ الْعَاقِدِ وَمَحَلِّيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِمَا، كَالإْيجَابِ وَالْقَبُولِ... وَهَكَذَا.

أَمَّا وَصْفُ الْعَقْدِ، فَهِيَ شُرُوطُ الصِّحَّةِ، وَهِيَ الْعَنَاصِرُ الْمُكَمِّلَةُ لِلْعَقْدِ، كَخُلُوِّهِ عَنِ الرِّبَا، وَعَنْ شَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَعَنِ الْغَرَرِ وَالضَّرَرِ.

وَعَلَى هَذَا الأْسَاسِ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا حَصَلَ خَلَلٌ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ - بِأَنْ تَخَلَّفَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِهِ - كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلاً، وَلاَ وُجُودَ لَهُ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيُّ أَثَرٍ دُنْيَوِيٍّ؛ لأِنَّ هُ لاَ وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ إِلاَّ مِنَ الأْهْلِ فِي الْمَحَلِّ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ الصُّورَةِ فَحَسْبُ، إِمَّا لاِنْعِدَامِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ لاِنْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفِ كَالْبَيْعِ الصَّادِرِ مِنَ الْمَجْنُونِ أَوِ الصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِلُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ أَصْلُ الْعَقْدِ سَالِمًا مِنَ الْخَلَلِ، وَحَصَلَ خَلَلٌ فِي الْوَصْفِ، بِأَنِ اشْتَمَلَ الْعَقْدُ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ رِبًا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا لاَ بَاطِلاً، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الآْثَارِ دُونَ بَعْضٍ.

11 - وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلاَفِ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ النَّهْيِ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْعَمَلِ اللاَّزِمَةِ لَهُ، كَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الرِّبَا أَوْ شَرْطٍ فَاسِدٍ.

فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي بُطْلاَنَ كُلٍّ مِنَ الْوَصْفِ وَالأْصْلِ، كَأَثَرِ النَّهْيِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْلِ وَحَقِيقَتِهِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِوَصْفٍ لاَزِمٍ لَهُ اسْمَ الْفَاسِدِ أَوِ الْبَاطِلِ، وَلاَ يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ أَيَّ أَثَرٍ مِنَ الآْثَارِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الرِّبَا، أَوْ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ نَحْوِ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِلِ عِنْدَهُمْ أَوِ الْفَاسِدِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي بُطْلاَنَ الْوَصْفِ فَقَطْ، أَمَّا أَصْلُ الْعَمَلِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ بِخِلاَفِ النَّهْيِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْلِ وَحَقِيقَتِهِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِوَصْفٍ لاَزِمٍ لَهُ اسْمَ الْفَاسِدِ لاَ الْبَاطِلِ، وَيُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ بَعْضَ الآْثَارِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الرِّبَا، أَوْ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ وَنَحْوِهِمَا مِنْ قَبِيلِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُمْ، لاَ مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِلِ.

12 - وَقَدِ اسْتَدَلَّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا مَا يَأْتِي:

أَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَتَى خَالَفَ أَمْرَ الشَّارِعِ صَارَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي نَظَرِهِ، فَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأْحْكَامُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمُخَالَفَةُ رَاجِعَةً إِلَى ذَاتِ الْعَمَلِ وَحَقِيقَتِهِ، أَمْ إِلَى وَصْفٍ مِنَ الأْوْصَافِ اللاَّزِمَةِ لَهُ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمُ اسْتَنَدُوا إِلَى أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ وَضَعَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ أَسْبَابًا لأِحْكَامٍ  تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا لِوَصْفٍ مِنَ الأْوْصَافِ اللاَّزِمَةِ لَهُ، كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا بُطْلاَنَ هَذَا الْوَصْفِ فَقَطْ؛ لأِنَّ  النَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ، فَيَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ هَذَا الْوَصْفِ مُخِلًّا بِحَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ الْمَوْصُوفِ بِهِ، بَقِيَتْ حَقِيقَتُهُ قَائِمَةً، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مُقْتَضَاهُ. فَإِذَا كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بَيْعًا مَثَلاً، وَوُجِدَتْ حَقِيقَتُهُ بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَمَحَلِّهِ، ثَبَتَ الْمِلْكُ بِهِ نَظَرًا لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ، وَوَجَبَ فَسْخُهُ نَظَرًا لِوُجُودِ الْوَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ، وَإِعْطَاءُ كُلٍّ مِنْهَا حُكْمَهُ اللاَّئِقَ بِهِ. إِلاَّ أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الاِمْتِثَالَ وَالطَّاعَةَ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا إِلاَّ إِذَا لَمْ تَحْصُلْ فِيهَا مُخَالَفَةٌ مَا، لاَ فِي الأْصْلِ وَلاَ فِي الْوَصْفِ، كَانَتْ مُخَالَفَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ فِيهَا مُقْتَضِيَةً لِلْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ رَاجِعَةً إِلَى ذَاتِ الْعِبَادَةِ، أَمْ إِلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا اللاَّزِمَةِ.

بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ أَنَّ الْجُمْهُورَ وَإِنْ كَانُوا لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ - عَلَى مَا جَاءَ فِي قَوَاعِدِهِمُ الْعَامَّةِ - إِلاَّ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ وُجُودُ الْخِلاَفِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ، أَوْ لِلتَّفْرِقَةِ فِي مَسَائِلِ الدَّلِيلِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ.

تَجَزُّؤُ الْبُطْلاَنِ:

13 - الْمُرَادُ بِتَجَزُّؤِ الْبُطْلاَنِ: أَنْ يَشْمَلَ التَّصَرُّفَ عَلَى مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ، فَيَكُونُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ بَاطِلاً.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُسَمَّى بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ.

وَأَهَمُّ الصُّوَرِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْبَيْعِ وَهِيَ.

14 - عَقْدُ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ بَاطِلاً، كَبَيْعِ الْعَصِيرِ وَالْخَمْرِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - عَدَا ابْنِ الْقَصَّارِ مِنْهُمْ - وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ (وَادَّعَى فِي الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ)، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ.

وَذَلِكَ لأِنَّهُ مَتَى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ؛ لأِنَّ  الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، أَوْ لِتَغْلِيبِ الْحَرَامِ عَلَى الْحَلاَلِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ.

 وَالْقَوْلُ الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ - قَالُوا: وَهُوَ الأْظْهَرُ - وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَجْزِئَةُ الصَّفْقَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِيمَا يَجُوزُ، وَيَبْطُلُ فِيمَا لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّ  الإْبْطَالَ فِي الْكُلِّ لِبُطْلاَنِ أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ تَصْحِيحِ الْكُلِّ لِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا، فَيَبْقَيَانِ عَلَى حُكْمِهِمَا، وَيَصِحُّ فِيمَا يَجُوزُ وَيَبْطُلُ فِيمَا لاَ يَجُوزُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ عُيِّنَ ابْتِدَاءً لِكُلِّ شِقٍّ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نُعْتَبَرُ الصَّفْقَةُ صَفْقَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، تَجُوزُ فِيهِمَا التَّجْزِئَةُ، فَتَصِحُّ وَاحِدَةٌ، وَتَبْطُلُ الأْخْرَى.

وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ مَوْقُوفًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ، وَبَيْعِهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِيهِمَا وَيَلْزَمُ فِي مِلْكِهِ، وَيَقِفُ اللاَّزِمُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَجَوَازِ ذَلِكَ بَقَاءً. وَعِنْدَ زُفَرَ: يَبْطُلُ الْجَمِيعُ؛ لأِنَّ  الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالْمَجْمُوعُ لاَ يَتَجَزَّأُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجْرِي الْخِلاَفُ السَّابِقُ؛ لأِنَّ  الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ فِي الأْصَحِّ.

15 - كَذَلِكَ تَجْرِي التَّجْزِئَةُ فِي النِّكَاحِ، فَلَوْ جُمِعَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بَيْنَ مَنْ تَحِلُّ وَمَنْ لاَ تَحِلُّ، كَمُسْلِمَةٍ وَوَثَنِيَّةٍ، صَحَّ نِكَاحُ الْحَلاَلِ اتِّفَاقًا، وَبَطَلَ فِي مَنْ لاَ تَحِلُّ.

 أَمَّا لَوْ جُمِعَ بَيْنَ خَمْسٍ، أَوْ بَيْنَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ فِي الْكُلِّ؛ لأِنَّ  الْمُحَرَّمَ الْجَمْعُ، لاَ إِحْدَاهُنَّ أَوْ إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَجْرِي خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا لَوْ جُمِعَ بَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَبْطُلُ فِيهِمَا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ صَحَّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الأْمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُعَامَلاَتِ كَالإْجَارَةِ وَغَيْرِهَا كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ عَقَدَ الْفُقَهَاءُ فَصْلاً لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ تَصَرُّفَاتٍ. انْظُرْ (تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ).

بُطْلاَنُ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ بُطْلاَنَ مَا فِي ضِمْنِهِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ:

16 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأْشْبَاهِ: إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِذَا بَطَلَ الْمُتَضَمِّنُ (بِالْكَسْرِ) بَطَلَ الْمُتَضَمَّنُ (بِالْفَتْحِ) وَأَوْرَدَ لِذَلِكَ عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا:

أ - لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَمِي بِأَلْفٍ، فَقَتَلَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنَ الإْذْنِ بِقَتْلِهِ.

ب - التَّعَاطِي ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ أَوْ بَاطِلٍ لاَ يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ.

ج - لَوْ أَبْرَأَهُ أَوْ أَقَرَّ لَهُ ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَسَدَ الإْبْرَاءُ.

د - لَوْ جَدَّدَ النِّكَاحَ لِمَنْكُوحَتِهِ بِمَهْرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لأِنَّ  النِّكَاحَ الثَّانِي لَمْ يَصِحَّ، فَلَمْ يَلْزَمْ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنَ الْمَهْرِ.

إِلاَّ أَنَّ أَغْلَبَ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ تُجْرِي الْقَاعِدَةَ عَلَى الْفَسَادِ لاَ عَلَى الْبُطْلاَنِ؛ لأِنَّ  الْبَاطِلَ مَعْدُومٌ شَرْعًا أَصْلاً وَوَصْفًا، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَتَضَمَّنُ شَيْئًا، أَمَّا الْفَاسِدُ فَهُوَ فَائِتُ الْوَصْفِ دُونَ الأْصْلِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا بِأَصْلِهِ فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمَّنًا، فَإِنْ فَسَدَ الْمُتَضَمِّنُ فَسَدَ الْمُتَضَمَّنُ.

17 - هَذَا وَالْمَذَاهِبُ الأْخْرَى - وَهِيَ الَّتِي لاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ - تَسِيرُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا. فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: الْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلإْذْنِ، إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَأْذُونِ، صَحَّتْ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ إِذَا أَفْسَدْنَاهَا فَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ، صَحَّ لِوُجُودِ الإْذْنِ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ عِوَضٍ فَاسِدٍ لِلْوَكِيلِ، فَالإْذْنُ صَحِيحٌ وَالْعِوَضُ فَاسِدٌ.

وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ لاَ يَمْنَعُ فَسَادُهَا نُفُوذَ الْمُتَصَرِّفِ فِيهَا بِالإْذْنِ. ثُمَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الإْذْنِ فِي الْبَيْعِ - وَهُوَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ - وَبَيْنَ الإْذْنِ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، فَيَقُولُ: الْبَيْعُ وُضِعَ لِنَقْلِ الْمِلْكِ لاَ لِلإْذْنِ، وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ تُسْتَفَادُ مِنَ الْمِلْكِ لاَ مِنَ الإْذْنِ، بِخِلاَفِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلإْذْنِ.

وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ؛ لأِنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ بَقِيَ الإْذْنُ، فَمَلَكَ بِهِ التَّصَرُّفَ.

وَقَوَاعِدُ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ.

هَذِهِ هِيَ قَاعِدَةُ التَّضَمُّنِ. لَكِنْ هُنَاكَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِهَا، وَهِيَ: إِذَا سَقَطَ الأْصْلُ سَقَطَ الْفَرْعُ، وَمِنْهَا: التَّابِعُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَتْبُوعِ، وَقَدْ مَثَّلَ الْفُقَهَاءُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ مِنَ الدَّيْنِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَبْرَأُ الْمَدِينُ يَبْرَأُ مِنْهُ الْكَفِيلُ أَيْضًا؛ لأِنَّ  الْمَدِينَ فِي الدَّيْنِ أَصْلٌ، وَالْكَفِيلَ فَرْعٌ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  التاسع ، الصفحة /  167

الأْسْبَابُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِلاَزِمِ الْعَقْدِ

وَهِيَ:

الرِّبَا، وَمَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ، وَالْغَرَرُ.

وَفِيمَا يَلِي أَسْبَابُ النَّهْيِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرِّبَا.

36 - الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ - وَلَوْ حُكْمًا - خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ، مَشْرُوطٌ لأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فِي الْمُعَاوَضَةِ  . وَقَيْدُ الْحُكْمِيَّةِ، لإِدْخَالِ رِبَا النَّسِيئَةِ وَأَكْثَرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ؛ لأِنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ: رَبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ.

وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأْمَّةِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَتِ الأْمَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ بِنَوْعَيْهِ: الْفَضْلِ وَالنَّسِيئَةِ، وَيَجْرِي رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا النَّسِيئَةِ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الصَّرْفِ وَتَفْصِيلُهُ فِي (الصَّرْفِ).

وَالرِّبَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَمْ يَحِلَّ فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ لقوله تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) وَفِي الْحَدِيثِ «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ. وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ» وَلَيْسَ الْقَصْدُ هُنَا ذِكْرُ أَحْكَامِ الرِّبَا وَشُرُوطِهِ وَمَسَائِلِهِ، بَلْ يُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ تَحْتَ عِنْوَانِ (رِبا).

وَالْقَصْدُ هُنَا التَّعَرُّفُ عَلَى أَحْكَامِ بَعْضِ الْبُيُوعِ الرِّبَوِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا فِي السُّنَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْبُيُوعِ مَا يَلِي:

أ - بَيْعُ الْعِينَةِ:

37 - هُوَ: بَيْعُ الْعَيْنِ بِثَمَنٍ زَائِدٍ نَسِيئَةً لِيَبِيعَهَا الْمُسْتَقْرِضُ بِثَمَنٍ حَاضِرٍ أَقَلَّ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ، كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُنَاكَ تَعْرِيفَاتٌ وَصُوَرٌ أُخْرَى اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا وَفِي حُكْمِهَا.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْعِينَةِ).

ب - بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ.

38 - الْمُزَابَنَةُ: بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى النَّخِيلِ بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ مِثْلَ كَيْلِهِ خَرْصًا (أَيْ ظَنًّا وَتَقْدِيرًا) وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدَّرَ الرُّطَبُ الَّذِي عَلَى النَّخِيلِ بِمِقْدَارِ مِائَةِ صَاعٍ مَثَلاً بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَالْحَزْرِ، فَيَبِيعَهُ بِقَدْرِهِ مِنَ التَّمْرِ  .

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ).

ج - بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ:

39 - الْمُحَاقَلَةُ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا  .

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمُحَاقَلَةِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ».

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ)

د - بَيْعُ الْعَرَايَا:

40 - هُوَ: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ فِي الأْرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ  .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْعَرَايَا.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ الْعَرَايَا)

هـ - بَيْعُ الْعُرْبُونِ:

41 - بَيْعُ الْعُرْبُونِ هُوَ: أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ وَيَدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ السِّلْعَةَ احْتَسَبَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَهُوَ لِلْبَائِعِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (بَيْعُ الْعُرْبُونِ).

و - النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ:

42 - وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنهقَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» .

وَفِي مَعْنَاهُ وَرَدَ أَيْضًا حَدِيثُ «عُثْمَانَ رضي الله عنهقَالَ: كُنْتُ أَبْتَاعُ التَّمْرَ مِنْ بَطْنٍ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَأَبِيعُهُ بِرِبْحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ إِذَا اشْتَرَيْتَ فَاكْتَلْ، وَإِذَا بِعْتَ فَكِلْ»  .

كَمَا وَرَدَ أَيْضًا حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنهماكَانَا يَبْتَاعَانِ التَّمْرَ، وَيَجْعَلاَنِهِ فِي غَرَائِرَ، ثُمَّ يَبِيعَانِهِ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، فَنَهَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَاهُ حَتَّى يَكِيلاَ لِمَنِ ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا»  .

وَهَذِهِ الأْحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مُكَايَلَةً، وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُهُ بِالْكَيْلِ الأْوَّلِ  ، حَتَّى يَكِيلَهُ عَلَى مَنِ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي  .

وَنَصَّ ابْنُ الْهُمَامِ عَلَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رضي الله عنهم  .

وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ الْقَبْضَ قَبْلَ بَيْعِ الْمَبِيعِ فِي الْجُمْلَةِ. فَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ - كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ - أَوْ هُوَ شَرْطٌ فِي (صِحَّةِ) قَبْضِ الْمَنْقُولِ مَعَ نَقْلِهِ. كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ  .

لَكِنْ قَامَ الإْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَيْلِ فِيمَا بِيعَ جُزَافًا. وَاسْتِثْنَاءُ الْجُزَافِ مِنَ الشَّرْطِ كَانَ أَخْذًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ، أَوْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ  .

43 - وَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الأْمْثِلَةِ التَّطْبِيقِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِتَقَارُبِهِمَا فِيهَا.

الْمِثَالُ الأْوَّلُ:

لَوْ كَانَ لِبَكْرٍ طَعَامٌ مُقَدَّرٌ عَلَى زَيْدٍ، كَعَشَرَةِ آصُعٍ، وَلِعَمْرٍو عَلَى بَكْرٍ مِثْلُهُ، فَلْيَطْلُبْ بَكْرٌ مِنْ زَيْدٍ أَنْ يَكِيلَهُ لَهُ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي مِلْكِهِ، ثُمَّ يَكِيلُ بَكْرٌ لِعَمْرٍو، لِيَكُونَ الْقَبْضُ وَالإْقْبَاضُ صَحِيحَيْنِ؛ لأِنَّ الإْقْبَاضَ هُنَا مُتَعَدِّدٌ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ الْكَيْلُ، فَلَزِمَ تَعَدُّدُهُ؛ لأِنَّ الْكَيْلَيْنِ، قَدْ يَقَعُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ  .

فَلَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو: اقْبِضْ يَا عَمْرُو مِنْ زَيْدٍ عَنِّي مَالِي عَلَيْهِ لِنَفْسِكَ، فَفَعَلَ عَمْرٌو، فَالْقَبْضُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ صَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ لِوُجُودِ الإْذْنِ، وَهُوَ إِذْنُ الدَّائِنِ، وَهُوَ بَكْرٌ فِي الْقَبْضِ مِنْهُ لَهُ بِطَرِيقِ الاِسْتِلْزَامِ، فَأَشْبَهَ قَبْضُهُ قَبْضَ وَكِيلِهِ.

لَكِنَّ هَذَا الْقَبْضَ فَاسِدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمْرٍو، لِكَوْنِهِ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ؛ لأِنَّ قَبْضَهُ مَشْرُوطٌ بِتَقَدُّمِ قَبْضِ بَكْرٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلاَ يُمْكِنُ حُصُولُهُمَا، لِمَا فِيهِ مِنَ اتِّحَادِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ، وَمَا قَبَضَهُ عَمْرٌو مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكِيلُهُ الْمَقْبُوضُ لَهُ، وَهُوَ بَكْرٌ، لِلْقَابِضِ، وَهُوَ عَمْرٌو، وَيَصِحُّ قَبْضُهُ لَهُ.

وَالرِّوَايَةُ الأْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هِيَ: أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لأِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ نَائِبًا لَهُ فِي الْقَبْضِ، فَلَمْ يَقَعْ لَهُ، بِخِلاَفِ الْوَكِيلِ.

وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْمَقْبُوضُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ، وَهُوَ زَيْدٌ، لِعَدَمِ الْقَبْضِ الصَّحِيحِ.

بِخِلاَفِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِبَكْرٍ.

وَيَبْدُو أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الأْخِيرَةَ هِيَ الرَّاجِحَةُ، فَعَلَيْهَا مَتْنُ الإْقْنَاعِ.

وَلَوْ قَالَ: اقْبِضْهُ لِي، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ، صَحَّ الْقَبْضُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، لأِنَّهُ اسْتَنَابَهُ فِي قَبْضِهِ لَهُ، وَإِذَا قَبَضَهُ لِمُوَكِّلِهِ جَازَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَأَذِنَهُ فِي قَبْضِهَا عَنْ دَيْنِهِ.

هَذَا، وَإِنْ يَكُنِ الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ الْمِثَالُ الأْوَّلُ، فِي السَّلَمِ، لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ، لأِنَّهُ الَّذِي فِي كَلاَمِ الأْصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِثْلُ السَّلَمِ - كَمَا قَالُوا - دَيْنُ الْقَرْضِ وَالإْتْلاَفِ  .

الْمِثَالُ الثَّانِي:

44 - لَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو: احْضُرِ اكْتِيَالِي مِنْ زَيْدٍ لأِقْبِضَهُ لَكَ، فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ لِعَمْرٍو، لِعَدَمِ كَيْلِهِ، وَيَكُونُ بَكْرٌ قَابِضًا لِنَفْسِهِ لاِكْتِيَالِهِ إِيَّاهُ  .

الْمِثَالُ الثَّالِثُ:

45 - لَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو، خُذْهُ بِهَذَا الْكَيْلِ الَّذِي قَدْ شَاهَدْتَهُ، فَأَخَذَهُ بِهِ صَحَّ، لأِنَّهُ شَاهَدَ كَيْلَهُ وَعَلِمَهُ، فَلاَ مَعْنَى لاِعْتِبَارِ كَيْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً  .

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ»  ...

وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ.

وَلأِنَّهُ قَبَضَهُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَبَضَهُ جُزَافًا.

الْمِثَالُ الرَّابِعُ:

46 - لَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو: احْضُرْنَا حَتَّى أَكْتَالَهُ لِنَفْسِي، ثُمَّ تَكْتَالَهُ أَنْتَ، وَفَعَلاَ، صَحَّ بِغَيْرِ إِشْكَالٍ.

وَلَوِ اكْتَالَ بَكْرٌ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ عَمْرٌو بِذَلِكَ الْكَيْلِ الَّذِي شَاهَدَهُ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ.

وَلَوْ تَرَكَهُ فِي الْمِكْيَالِ، وَدَفَعَهُ إِلَى عَمْرٍو، لِيُفَرِّغَهُ لِنَفْسِهِ صَحَّ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْضًا صَحِيحًا؛ لأِنَّ اسْتِدَامَةَ الْكَيْلِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ، وَلاَ مَعْنَى لاِبْتِدَاءِ الْكَيْلِ هَاهُنَا، إِذْ لاَ يَحْصُلُ بِهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ.

وَمَعَ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ أَسْنَدَ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ عَدَمَ صِحَّةِ الْقَبْضِ، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وَقَرَّرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي لَهُ فِي الْمِكْيَالِ إِجْرَاءً لِصَاعِهِ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَصَّ عَلَى أَنَّ الاِسْتِدَامَةَ فِي نَحْوِ الْمِكْيَالِ كَالتَّجْدِيدِ، فَتَكْفِي  .

الْمِثَالُ الْخَامِسُ:

47 - لَوْ دَفَعَ بَكْرٌ إِلَى عَمْرٍو دَرَاهِمَ، فَقَالَ: اشْتَرِ لَكِ بِهَا مِثْلَ الطَّعَامِ الَّذِي لَكِ عَلَيَّ، فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ، لأِنَّهُ فُضُولِيٌّ إِذِ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ؛ لأِنَّ دَرَاهِمَ بَكْرٍ لاَ يَكُونُ عِوَضُهَا لِعَمْرٍو.

وَالشَّافِعِيَّةُ يُعَلِّلُونَ بِأَنَّهُ: لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ، وَالدَّرَاهِمُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِهَا بَطَلَ الشِّرَاءُ، وَإِنِ اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُ، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ فَفَعَلَ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ لِنَفْسِهِ  .

وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ حَقَّ الإْنْسَانِ  لاَ يَتَمَكَّنُ غَيْرُهُ مِنْ قَبْضِهِ لِنَفْسِهِ، وَضَمِنَهُ الْغَرِيمُ الْقَابِضُ لاِسْتِيلاَئِهِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قَبْضَهُ لِنَفْسِهِ فَرْعٌ عَنْ قَبْضِ مُوَكِّلِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ.

وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا (وَاقْبِضْهُ لِي) ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ، فَفَعَلَ، جَازَ، لأِنَّهُ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: صَحَّ الشِّرَاءُ وَالْقَبْضُ الأْوَّلُ دُونَ الثَّانِي، لاِتِّحَادِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ، دُونَ الأْوَّلِ  .

لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَاسُوهُ عَلَى مَسْأَلَةِ شِرَاءِ الْوَالِدِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَهِبَتِهِ لَهُ، وَقَبْضِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ يَمْنَعُونَ الْقِيَاسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَلَوْ بِوَكَالَةٍ عَنْهُمَا.

كَمَا يَمْنَعُهُ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، لأِنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ، فَقَبْضُهُ كَلاَ قَبْضٍ  .

الْمِثَالُ السَّادِسُ:

48 - اشْتَرَى اثْنَانِ طَعَامًا، فَقَبَضَاهُ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنَ الآْخَرِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَسِمَاهُ:

أ - فَيُحْتَمَلُ أَنْ لاَ يَجُوزَ ذَلِكَ، لأِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَهُ مُنْفَرِدًا، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَقْبُوضِ.

ب - وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ، لأِنَّهُ مَقْبُوضٌ لَهُمَا، يَجُوزُ بَيْعُهُ لأِجْنَبِيٍّ، فَجَازَ بَيْعُهُ لِشَرِيكِهِ، كَسَائِرِ الأْمْوَالِ.

وَلَوْ تَقَاسَمَاهُ وَافْتَرَقَا، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ الَّذِي كَالَهُ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ طَعَامًا، فَاكْتَالَهُ وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ بَاعَهُ إِيَّاهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ.

أَمَّا لَوْ تَقَاسَمَاهُ وَلَمْ يَفْتَرِقَا، وَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ  . كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمِثَالِ الرَّابِعِ.

49 - وَقَدْ تَنَاوَلَ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَنَاوُلاً خَاصًّا، بِالنَّصِّ وَالتَّفْصِيلِ وَالتَّعْلِيلِ. فَقَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ مِنْهُمْ: مَنِ اشْتَرَى مَكِيلاً مُكَايَلَةً (أَيْ بِشَرْطِ الْكَيْلِ) أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً (أَيْ بِشَرْطِ الْوَزْنِ) فَاكْتَالَهُ أَوِ اتَّزَنَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً، لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَلاَ أَنْ يَأْكُلَهُ، حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَذَلِكَ لِحَدِيثَيْ جَابِرٍ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما الْمَذْكُورَيْنِ سَابِقًا

وَلأِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الآْخَرِينَ حَرَامٌ، فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.

وَلأِنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَالْعَدَّ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، فَأَصْلُ الْقَبْضِ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ، فَكَذَا تَمَامُهُ  .

وَقَدْ قَيَّدَ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ بِالشِّرَاءِ، لأِنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ إِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ.

كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ الإْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ، وَهُوَ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ، حَتَّى لَوْ بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ فَاسِدًا، بَعْدَ قَبْضِهِ مُكَايَلَةً، لَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي إِلَى إِعَادَةِ الْكَيْلِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لأِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، كَالْقَرْضِ  .

كَمَا أَلْحَقُوا بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَعْدُودَ الَّذِي لاَ يَتَفَاوَتُ، كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ، إِذَا اشْتَرَى مُعَادَّةً. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَأَفْسَدَ الْبَيْعَ قَبْلَ الْعَدِّ ثَانِيًا لاِتِّحَادِ الْجَامِعِ، وَهُوَ: وُجُوبُ تَعَرُّفِ الْمِقْدَارِ، وَزَوَالُ احْتِمَالِ اخْتِلاَطِ الْمَالَيْنِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ لِلْبَائِعِ، خِلاَفًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ الثَّانِي قَبْلَ الْعَدِّ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمَعْدُودَ مَعَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي مَتْنِ الْكَنْزِ وَالتَّنْوِيرِ.

وَاسْتَثْنَوْا مِنَ الْمَوْزُونِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ قَبْلَ الْوَزْنِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ أَوِ السَّلَمِ، كَبَيْعِ التَّعَاطِي، فَإِنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ فِي الْمَوْزُونَاتِ إِلَى وَزْنِ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا، لأِنَّهُ صَارَ بَيْعًا بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْوَزْنِ.

وَيُلاَحَظُ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ - كَغَيْرِهِمْ - الْمَبِيعَ مُجَازَفَةً، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ اشْتَرَى مُكَايَلَةً، لأِنَّ كُلَّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ لِلْمُشْتَرِي، فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ اخْتِلاَطُ الْمِلْكَيْنِ.

وَكَذَلِكَ مَا إِذَا بَاعَ الثَّوْبَ مُذَارَعَةً، لأِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي، إِذِ الذَّرْعُ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ، لاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، بِخِلاَفِ الْقَدْرِ  .

وَيَبْدُو أَنَّ تَحْدِيدَ الأْذْرُعِ لَيْسَ لَهُ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ فِي أَيَّامِهِمْ؛ لأِنَّ الثَّوْبَ فِي زَمَانِهِمْ، يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكْفِي كِسَاءً وَاحِدًا، فَلاَ تَضُرُّ الزِّيَادَةُ فِيهِ، وَلاَ تَخْتَلِطُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، بِخِلاَفِ الأْثْوَابِ وَالأْقْمِشَةِ فِي أَيَّامِنَا، حَيْثُ تُقْتَطَعُ مِنْهَا أَذْرُعٌ لِتُخَاطَ ثِيَابًا، فَإِنَّهَا مُقَابَلَةٌ بِالثَّمَنِ، وَتُعْتَبَرُ مِنَ الْقَدْرِ.

وَمَعَ أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ أَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ قَبْلَ إِعَادَةِ الْكَيْلِ، لَكِنَّ الشُّرَّاحَ فَسَّرُوهُ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ لأِنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ خَبَرُ آحَادٍ، لاَ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ الْقَطْعِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ  .

وَمَعَ ذَلِكَ، فَلاَ يُقَالُ لآِكِلِهِ: إِنَّهُ أَكَلَ حَرَامًا، فَقَدْ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّهُ: لَوْ أَكَلَهُ، وَقَدْ قَبَضَهُ بِلاَ كَيْلٍ، لاَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَكَلَ حَرَامًا، لأِنَّهُ أَكَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ آثِمٌ، لِتَرْكِهِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْكَيْلِ.

50 - وَمَعَ أَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ إِعَادَةِ الْكَيْلِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِفَسَادِهِ.

وَهَذِهِ عِبَارَةُ الإْمَامِ  مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: إِذَا اشْتَرَيْتَ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ، فَاشْتَرَيْتَ مَا يُكَالُ كَيْلاً، وَمَا يُوزَنُ وَزْنًا، وَمَا يُعَدُّ عَدًّا، فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَكِيلَهُ وَتَزِنَهُ وَتَعُدَّهُ، فَإِنْ بِعْتَهُ قَبْلَ أَنْ تَفْعَلَ، وَقَدْ قَبَضَتْهُ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ  .

وَعَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ رحمه الله  تعالي عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْفَاسِدَ هُوَ الْبَيْعُ الثَّانِي، وَهُوَ بَيْعُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ كَيْلِهِ، وَأَنَّ الأْوَّلَ وَقَعَ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ بَيْعٍ حَتَّى يَكِيلَهُ، فَإِذَا بَاعَهُ قَبْلَ كَيْلِهِ، وَقَعَ الْبَيْعُ الثَّانِي فَاسِدًا؛ لأِنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُ الْكَيْلِ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، فَإِذَا بَاعَهُ قَبْلَ كَيْلِهِ، فَكَأَنَّهُ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَبَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ قَبْضِهِ لاَ يَصِحُّ  .

51 - وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَّخِذَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بَعْدَ شِرَائِهِ هَذِهِ الصُّوَرَ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

الأْولَى: أَنْ يَشْتَرِيَ مُكَايَلَةً، وَيَبِيعَ مُكَايَلَةً، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي مِنَ الْمُشْتَرِي الأْوَّلِ أَنْ يَبِيعَهُ، حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ لِنَفْسِهِ، كَمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي الأْوَّلِ، لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلاِحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ  .

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُجَازَفَةً، وَيَبِيعَ كَذَلِكَ مُجَازَفَةً، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ، لِعَدَمِ الاِفْتِقَارِ إِلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُكَايَلَةً، وَيَبِيعَ مُجَازَفَةً، فَلاَ يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي إِلَى كَيْلٍ، لأِنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً، مَلَكَ جَمِيعَ مَا كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ، فَكَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.

الرَّابِعَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُجَازَفَةً، وَيَبِيعَ مُكَايَلَةً، فَيَحْتَاجَ إِلَى كَيْلٍ وَاحِدٍ، إِمَّا كَيْلُ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَيْلُ الْبَائِعِ بِحَضْرَتِهِ؛ لأِنَّ الْكَيْلَ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيمَا بِيعَ مُكَايَلَةً، لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إِلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ الْوَاقِعِ مَبِيعًا، وَأَمَّا الْمُجَازَفَةُ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

فَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الأْخِيرَةِ، تَخْرُجُ هَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي حَقَّقَهَا ابْنُ عَابِدِينَ - رحمه الله  - وَهِيَ:

إِذَا مَلَكَ زَيْدٌ طَعَامًا، بِيعَ مُجَازَفَةً أَوْ بِإِرْثٍ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ عَمْرٍو مُكَايَلَةً سَقَطَ هُنَا صَاعُ الْبَائِعِ؛ لأِنَّ مِلْكَهُ الأْوَّلَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْكَيْلِ، وَبَقِيَ الاِحْتِيَاجُ إِلَى كَيْلٍ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مِنْ عَمْرٍو بِلاَ كَيْلٍ، فَهُنَا فَسَدَ الْبَيْعُ الثَّانِي فَقَطْ. ثُمَّ إِذَا بَاعَهُ عَمْرٌو مِنْ بَكْرٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ كَيْلٍ آخَرَ لِبَكْرٍ، فَهُنَا فَسَدَ الْبَيْعُ الأْوَّلُ وَالثَّانِي، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا  .

52 - وَبِصَدَدِ الْكَيْلِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا، نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ:

أ - لاَ مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ كَالَهُ لِنَفْسِهِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي عَنْ شِرَائِهِ هُوَ، لأِنَّهُ لَيْسَ صَاعَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَهُوَ الشَّرْطُ بِالنَّصِّ.

ب - وَلاَ مُعْتَبَرَ بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي، بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي؛ لأِنَّ الْكَيْلَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ؛ لأِنَّ بِهِ يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا، وَلاَ تَسْلِيمَ إِلاَّ بِحَضْرَتِهِ.

ج - وَإِنْ كَالَهُ أَوْ وَزَنَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ، بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي، فَفِيهِ اخْتِلاَفُ الْمَشَايِخِ:

قِيلَ: لاَ يُكْتَفَى بِهِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ مَرَّتَيْنِ، احْتِجَاجًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: كَفَاهُ ذَلِكَ، حَتَّى يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ إِذَا قَبَضَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لأِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ صَيْرُورَةُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِكَيْلٍ وَاحِدٍ، وَتَحَقَّقَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ.

وَقَدْ بَحَثَ الْبَابَرْتِيُّ، فِي الاِكْتِفَاءِ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَنَظَرَ إِلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ فِي الأْصْلِ، بِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَقَرَّرَ: أَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ الاِكْتِفَاءُ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا، وَقَالَ: وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَيْلَيْنِ عَزِيمَةٌ، وَالاِكْتِفَاءَ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ رُخْصَةٌ، أَوْ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، لَكَانَ ذَلِكَ مَدْفَعًا جَارِيًا عَلَى الْقَوَانِينِ (أَيِ الْقَوَاعِدِ) لَكِنْ لَمْ أَظْفَرْ بِذَلِكَ  .

ز - بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ:

53 - الْكَالِئُ مَأْخُوذٌ مِنْ: كَلأَ الدَّيْنَ يَكْلأَ، مَهْمُوزٌ بِفَتْحَتَيْنِ، كُلُوءًا: إِذَا تَأَخَّرَ، فَهُوَ كَالِئٌ بِالْهَمْزِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ، فَيَصِيرُ مِثْلَ الْقَاضِي.

وَكَانَ الأْصْمَعِيُّ لاَ يَهْمِزُهُ. قَالَ: هُوَ مِثْلُ الْقَاضِي، وَلاَ يَجُوزُ هَمْزُهُ.

وَبَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ هُوَ: بَيْعُ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: صُورَتُهُ: أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الأْجَلُ يَقُولُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ: لَيْسَ عِنْدِي طَعَامٌ وَلَكِنْ بِعْنِي إِيَّاهُ إِلَى أَجَلٍ. فَهَذِهِ نَسِيئَةٌ انْقَلَبَتْ إِلَى نَسِيئَةٍ. فَلَوْ قَبَضَ الطَّعَامَ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ كَالِئًا بِكَالِئٍ  .

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِذْ هُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ  .

وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ»، وَقَالَ: «هُوَ النَّسِيئَةُ بِالنَّسِيئَةِ»  .

وَفُسِّرَ أَيْضًا بِبَيْعِ الدَّيْنِ، كَمَا وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةٍ.

وَفِي بَيْعِ الدَّيْنِ صُورَتَانِ: بَيْعُهُ مِنَ الْمَدِينِ نَفْسِهِ، وَبَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ بَيْعِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَجُمْهُورُهُمْ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - لاَ يُجِيزُهُ، إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ.

وَفِيمَا يَلِي عَرْضٌ لأِهَمِّ الصُّوَرِ وَالتَّقَاسِيمِ الَّتِي يَطْرَحُهَا الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الصَّدَدِ، مَعَ تِبْيَانِ أَحْكَامِهَا.

54 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: وَيَتَّخِذُ الْعَقْدُ عَلَى الدَّيْنِ عِنْدَهُمْ صُوَرًا شَتَّى:

أ - فَسْخُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ أَيْ إِسْقَاطُهُ فِي شَيْءٍ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ عَنْ وَقْتِ الْفَسْخِ، سَوَاءٌ أَحَلَّ الدَّيْنُ الْمَفْسُوخُ أَمْ لاَ، إِنْ كَانَ الْمُؤَخَّرُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ جِنْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَفْسُوخُ فِيهِ مُعَيَّنًا كَالْعَقَارِ، أَمْ كَانَ مَنَافِعَ ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَرُكُوبِ دَابَّةٍ. فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُوَ مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ الأْنْوَاعِ تَحْرِيمًا، وَتَحْرِيمُهُ بِالْكِتَابِ.

ب - بَيْعُ الدَّيْنِ بِدَيْنٍ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَوْ حَالاً: وَهَذَا مَمْنُوعٌ بِالسُّنَّةِ.

فَمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى زَيْدٍ، وَلآِخَرَ دَيْنٌ عَلَى عَمْرٍو، فَبَاعَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَيْنَهُ بِدِينٍ صَاحِبِهِ، كَانَ مُحَرَّمًا بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ.

أَمَّا بَيْعُهُ بِمُعَيَّنٍ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ كَعَقَارٍ، أَوْ بِمَنْفَعَةِ ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، كَمَا لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ دَيْنٌ عَلَى عَمْرٍو، فَبَاعَ زَيْدٌ ذَلِكَ الدَّيْنَ لِخَالِدٍ بِمَا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ.

وَقَدِ اعْتُبِرَ الْعَقَارُ وَمَنَافِعُ الذَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ قَبِيلِ الْحَاضِرِ وَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُهُ؛ لأِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُضْمَنُ فِي الذِّمَّةِ إِذْ لاَ تَثْبُتُ الْمُعَيَّنَاتُ فِي الذِّمَّةِ فَهُمَا نَقْدٌ بِهَذَا الْمَعْنَى. أَيْ حَاضِرٌ يُنْقَدُ وَلاَ يَثْبُتُ بِالذِّمَّةِ.

ج - تَأْخِيرُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ عَيْنٌ، فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ ابْتِدَاءِ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا مِنَ ابْتِدَاءِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شَغَلَ ذِمَّةَ صَاحِبِهِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ  .

أَمَّا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ غَيْرَ عَيْنٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَرْطٍ.

فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلاَثِ يُقَالُ لَهُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لُغَةً، إِلاَّ أَنَّ فُقَهَاءَ الْمَالِكِيَّةِ سَمُّوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِاسْمٍ يَخُصُّهُ.

هَذِهِ أَقْسَامُ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْكَامُهَا.

أَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ بِالنَّقْدِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ حَيًّا حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَجْلِسَ الْبَيْعِ، وَأَقَرَّ بِالدَّيْنِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَأْخُذُهُ الأَْحْكَامُ (أَيْ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ)، وَبِيعَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ بِيعَ بِجِنْسِهِ وَكَانَ مُتَسَاوِيًا، لاَ أَنْقَصَ وَلاَ أَزْيَدَ، وَلَيْسَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ وَلاَ عَكْسَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَدِينِ عَدَاوَةٌ.

 وأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهَذَا احْتِرَازٌ مِنْ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَإِنْ وُجِدَتْ تِلْكَ الشُّرُوطُ جَازَ بَيْعُهُ، وَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْهَا مُنِعَ الْبَيْعُ  .

55 - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ: جَوَازُ الاِسْتِبْدَالِ عَنِ الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ.

وَمَذْهَبُهُ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَنْعُ  .

وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ نَفْسُهُ دَلِيلُ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، حَدِيثُ «ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الإْبِلَ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّنَانِيرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ إِذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ».

قَالُوا: وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ  .

وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ: حَدِيثُ: «إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ»  .

فَإِنِ اسْتَبْدَلَ بِمُوَافِقٍ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، كَدَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ، اشْتُرِطَ قَبْضُ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ.

وَإِنِ اسْتَبْدَلَ بِغَيْرِ مُوَافِقٍ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، كَمَا لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ  .

أَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، فَبَاطِلٌ فِي الأْظْهَرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ. كَمَا لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا مِنْ زَيْدٍ بِمِائَةٍ لَهُ عَلَى عَمْرٍو، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ.

وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، يَصِحُّ، وَصَحَّحَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ، مُخَالِفًا لِلرَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، نَظَرًا لاِسْتِقْرَارِ الدَّيْنِ، كَبَيْعِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ.

لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا قَبْضُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِهِمَا فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الأْكْثَرِينَ يُخَالِفُهُ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمَحَلِّيُّ  .

أَمَّا لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو دَيْنَانِ عَلَى شَخْصٍ، فَبَاعَ زَيْدٌ عَمْرًا دَيْنَهُ بِدَيْنِهِ، بَطَلَ قَطْعًا بِلاَ خِلاَفٍ، اتَّفَقَ الْجِنْسُ أَوِ اخْتَلَفَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ»  .

56 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ بُطْلاَنُ بَيْعِ الدَّيْنِ بِدَيْنٍ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا.

وَذَكَرُوا لَهُ صُوَرًا، سِوَى مَا وَافَقُوا فِيهِ مَذْهَبَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الصُّوَرِ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَقَالَ فِي ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لاَ يَجُوزُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاعٌ

57 - بَقِيَ أَنْ نُشِيرَ إِلَى مَوْقِفِ الْحَنَفِيَّةِ الْمُتَمَيِّزِ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ بَيْعِ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ التَّصَرُّفَ الْجَائِزَ فِي الدَّيْنِ، هُوَ تَمْلِيكُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَوْ بِعِوَضٍ، وَلاَ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا نَقَلَهُ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ ابْنِ مَلِكٍ.

وَاسْتَثْنَوْا ثَلاَثَ صُوَرٍ أَجَازُوا فِيهَا تَمْلِيكَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ.

الأْولَى: إِذَا سَلَّطَ الدَّائِنُ غَيْرَهُ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ وَكِيلاً قَابِضًا لِلْمُوَكِّلِ، ثُمَّ لِنَفْسِهِ.

الثَّانِيَةُ: الْحَوَالَةُ وَاسْتِثْنَاءُ جَوَازِهَا إِجْمَاعٌ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ.

الثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ.

وَمَعْنَى عَدَمِ الْجَوَازِ هُنَا: عَدَمُ الاِنْعِقَادِ، وَبِذَلِكَ عَبَّرَ الْكَاسَانِيُّ فَقَالَ: وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؛ لأِنَّ الدَّيْنَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ. وَلَوْ شَرَطَ التَّسْلِيمَ عَلَى الْمَدِينِ لاَ يَصِحُّ أَيْضًا، لأِنَّهُ شَرَطَ التَّسْلِيمَ عَلَى غَيْرِ الْبَائِعِ، فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ.

وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، لأِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْعَجْزُ عَنِ التَّسْلِيمِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى التَّسْلِيمِ هَاهُنَا.

وَنَظِيرُهُ بَيْعُ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْغَاصِبِ، وَلاَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ، إِذَا كَانَ الْغَاصِبُ مُنْكِرًا، وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمَالِكِ  .

وَيُمْكِنُ لِزِيَادَةِ التَّفْصِيلِ وَالتَّصْوِيرِ، فِي بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، مُرَاجَعَةُ مُصْطَلَحِ: (رِبا، صَرْف، دَيْن).

بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ:

58 - وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» وَفِي لَفْظٍ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيِّ بِالْمَيِّتِ» وَيَتَوَزَّعُ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى النِّقَاطِ التَّالِيَةِ:

أَوَّلاً: هَلِ اللَّحْمُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ؟

59 - هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خِلاَفِيَّةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ كَالأْصْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَعْدَهَا.

(أ) فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالأْصَحُّ  عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هُوَ أَنَّ اللَّحْمَ أَجْنَاسٌ، بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ:

فَالإْبِلُ بِأَنْوَاعِهَا - الْعَرَّابِ وَالْبَخَاتِيِّ وَالْهَجِينِ، وَذِي السَّنَامَيْنِ، وَذِي السَّنَامِ الْوَاحِدِ - كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَكَذَا لُحُومُهَا.

وَالْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ جِنْسٌ وَاحِدٌ.

وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ جِنْسٌ وَاحِدٌ  . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا صِنْفَيْنِ؛ لأِنَّ الْقُرْآنَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ، فَقَالَ(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ).. (وَمِنَ الإْبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)

 

وَالْوَحْشُ أَصْنَافٌ: بَقَرُهَا صِنْفٌ، وَغَنَمُهَا صِنْفٌ، وَظِبَاؤُهَا صِنْفٌ.

وَالطَّيْرُ أَصْنَافٌ، كُلُّ مَا انْفَرَدَ بِاسْمٍ وَصِفَةٍ فَهُوَ صِنْفٌ.

ب - وَالأْظْهَرُ  عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ: أَنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ  .

(ج) وَيَبْدُو مِنْ تَمْثِيلِ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِبَيْعِ لَحْمٍ بَقَرِيٍّ بِكَبْشٍ حَيٍّ، وَلِغَيْرِ الْجِنْسِ بِبَيْعِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ بِلَحْمِ طَيْرٍ أَوْ سَمَكٍ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ لُحُومَ الأْنْعَامِ جِنْسًا، وَلُحُومَ الطَّيْرِ جِنْسًا، وَلُحُومَ الأْسْمَاكِ جِنْسًا.

وَنَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ عَلَى أَنَّ اللُّحُومَ عِنْدَ مَالِكٍ ثَلاَثُهُ أَصْنَافٍ: فَلَحْمُ ذَوَاتِ الأْرْبَعِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الطُّيُورِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الْحِيتَانِ صِنْفٌ  .

ثَانِيًا: بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ:

60 - لاَ يَسْتَجِيزُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْعَ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، كَلَحْمِ شَاةٍ بِشَاةٍ حَيَّةٍ، وَذَلِكَ:

لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ - كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ - وَلأِنَّهُ مَالٌ رِبَوِيٌّ، بِيعَ بِمَا فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ مَعَ جَهَالَةِ الْمِقْدَارِ، فَلَمْ يَجُزْ كَبَيْعِ السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ.

وَلأِنَّهُ بَيْعُ مَعْلُومٍ - وَهُوَ اللَّحْمُ - بِمَجْهُولٍ وَهُوَ الْحَيَوَانُ، وَهُوَ الْمُزَابَنَةُ، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ  .

فَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ: أَنْ يُبَاعَ حَيَوَانٌ مُبَاحُ الأْكْلِ بِلَحْمٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَيْضًا الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بِلاَ خِلاَفٍ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْبَيْعَ، وَلَكِنْ: مِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ (لأِنَّ أَحَدَهُمَا مَوْزُونٌ، وَالآْخَرُ مَعْدُودٌ) فَبَنَوْا عَلَيْهِ جَوَازَ بَيْعِهِمَا مُجَازَفَةً، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، لأِنَّهُ بَاعَ الْجِنْسَ بِخِلاَفِ الْجِنْسِ.

وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا، وَبَنَوْا مَذْهَبَهُمَا - أَيْ مَذْهَبَ الشَّيْخَيْنِ - عَلَى أَنَّ الشَّاةَ لَيْسَتْ بِمَوْزُونَةٍ، فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ، مُجَازَفَةً وَمُفَاضَلَةً؛ لأِنَّ رِبَا الْفَضْلِ يَعْتَمِدُ اجْتِمَاعَ الْوَصْفَيْنِ: الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، لَكِنْ بِشَرْطِ التَّعْيِينِ كَمَا عَبَّرَ الْحَصْكَفِيُّ (أَيِ التَّقَابُضَ) أَوْ يَدًا بِيَدٍ، كَمَا عَبَّرَ الْكَاسَانِيُّ - وَقَالَ: هُوَ الصَّحِيحُ - وَالْبَابَرْتِيُّ.

أَمَّا نَسِيئَةً فَلاَ يَجُوزُ، لأِنَّهُمَا عِنْدَئِذٍ سَلَمٌ، وَهُوَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النَّهْرِ.

لَكِنَّ الإْمَامَ مُحَمَّدًا، شَرَطَ فِي جَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِي فِي الشَّاةِ، لِيَكُونَ لَحْمُ الشَّاةِ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ مِنَ اللَّحْمِ، وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ الإْسْقَاطِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ عَمَلاً بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.

وَلأِنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ نَسِيئَةً، فَكَذَا مُتَفَاضِلاً، كَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ  .

ثَالِثًا: بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ:

61 - كَبَيْعِ الشَّاةِ الْحَيَّةِ بِلَحْمِ الإْبِلِ أَوِ الْبَقَرِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَبَيْعِ الشَّاةِ الْحَيَّةِ بِلَحْمِ طَيْرٍ أَوْ سَمَكٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ  .

أَجَازَ هَذِهِ الصُّورَةَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ، عَلَيْهَا مَتْنُ الإْقْنَاعِ.

وَعَلَّلَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، بِأَنَّهُمَا أَصْلاَنِ مُخْتَلِفَانِ، فَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا (مُطْلَقًا) مُجَازَفَةً، نَقْدًا وَنَسِيئَةً، لاِنْعِدَامِ الْوَزْنِ وَالْجِنْسِ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَصْلاً  .

وَمَعَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوا - عَلَى اصْطِلاَحِهِمْ فِي أَجْنَاسِ اللُّحُومِ - بَيْعَ اللَّحْمِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُطْلَقًا، لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِأَنْ يَكُونَ حَالاً. أَمَّا إِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ فَلاَ يَجُوزُ، إِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ لاَ يُرَادُ لِلْقَنِيَّةِ، وَإِلاَّ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَحْمٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لأَِجَلٍ.

كَمَا قَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ، وَعَلَّلُوا الْجَوَازَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ. قَالُوا: وَهَذَا فِي الْمَأْكُولِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَوَجْهُ الْجَوَازِ فِيهِ هُوَ: أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا.

وَعَلَّلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِجَوَازِهِ: بِأَنَّهُ مَالُ الرِّبَا بِيعَ بِغَيْرِ أَصْلِهِ فَجَازَ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِالأْثْمَانِ.

وَلَمْ يُجِزْ هَذِهِ الصُّورَةَ - أَعْنِي بَيْعَ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ - الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْظْهَرِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلاَ الْحَنَابِلَةُ فِي الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، وَصَرَّحُوا بِالْبُطْلاَنِ، وَذَلِكَ: لِعُمُومِ نَصِّ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقِينَ.

وَلأِنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ  .

وَيُلاَحَظُ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ الْحَنْبَلِيِّ صَرَّحَ بِأَنَّ سَبَبَ الاِخْتِلاَفِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي اللَّحْمِ، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لاَ يُجِيزُونَ الْبَيْعَ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ أَجْنَاسٌ يُجِيزُونَهُ  .

كَمَا يُلاَحَظُ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ: أَطْلَقُوا اللَّحْمَ فِي الْحَدِيثِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لَحْمَ سَمَكٍ أَوْ أَلْيَةٍ أَوْ كَبِدًا أَوْ طِحَالاً. وَأَطْلَقُوا الْحَيَوَانَ، حَتَّى لَوْ كَانَ سَمَكًا أَوْ جَرَادًا، مَأْكُولاً كَالإْبِلِ، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ كَالْحِمَارِ، فَبَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ مُطْلَقًا فِي الأْظْهَرِ  .

رَابِعًا: بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ.

62 - الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى جَوَازِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ بَاعَهُ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ جَازَ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ  .

كَمَا عَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنَ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: بِأَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ هُوَ بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا. لَكِنَّ الأَْظْهَرَ عِنْدَهُمْ - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - تَحْرِيمُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ بِإِطْلاَقٍ لِلْحَدِيثِ  .

بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ:

63 - وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلمسُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَلاَ إِذًا» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ يُبَاعُ رُطَبٌ بِيَابِسٍ»  

وَلاَ يَسْتَجِيزُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْبَيْعَ، وَنَحْوَهُ: كَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَاللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَالْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ بِالْيَابِسَةِ، وَذَلِكَ:

لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، قَالُوا: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْجَفَافِ، وَإِلاَّ فَالنَّقْصُ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ الآْنَ  .

وَلأِنَّهُ جِنْسٌ فِيهِ الرِّبَا، بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، عَلَى وَجْهٍ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، فَلَمْ يَجُزْ.

وَعِبَارَةُ الْخِرَقِيِّ وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الرَّطْبِ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، إِلاَّ الْعَرَايَا  .

وَرُبَّمَا اعْتَبَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْمُزَابَنَةِ، وَهِيَ - بِتَفْسِيرِ ابْنِ جُزَيٍّ - بَيْعُ شَيْءٍ رَطْبٍ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رِبَوِيًّا أَمْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ، فَتَمْتَنِعُ فِي الرِّبَوِيِّ، لِتَوَقُّعِ التَّفَاضُلِ وَالْغَرَرِ، وَتَمْتَنِعُ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيِّ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ، وَلِلْغَرَرِ  .

64 - وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ - رحمه الله  تعالي بِالْقَوْلِ بِالْجَوَازِ - كَمَا يَقُولُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ وَمُتُونُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَيْهِ.

وَنَصَّ الْحَصْكَفِيُّ عَلَى أَنَّهُ: يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ، أَوْ بِتَمْرٍ مُتَمَاثِلاً.. فِي الْحَالِ لاَ الْمَآلِ، خِلاَفًا لَهُمَا، فَلَوْ بَاعَ مُجَازَفَةً لَمْ يَجُزِ اتِّفَاقًا  .

وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»  .

فَفِي وَجْهِ الاِسْتِدْلاَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ:

الرُّطَبُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرًا، أَوْ لاَ يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ تَمْرًا، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ»، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَمْرٍ، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ:

«إِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ». وَلَمْ يَأْخُذْ بِحَدِيثِ النَّهْيِ السَّابِقِ لأِنَّهُ دَائِرٌ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ مِمَّنْ لاَ يُقْبَلُ حَدِيثُهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ

وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، فَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً» وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا  .

وَلاِسْتِكْمَالِ مَبْحَثِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ التَّفَاصِيلِ وَالأَْحْكَامِ. يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (رِبا).

بَيْعٌ وَسَلَفٌ:

65 - وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ  » وَفِي رِوَايَةٍ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَحَادِيثَ، أَفَتَأْذَنُ لَنَا بِكِتَابَتِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَكَانَ أَوَّلَ مَا كَتَبَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ: لاَ يَجُوزُ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَاحِدٍ، وَلاَ بَيْعٌ وَسَلَفٌ جَمِيعًا، وَلاَ بَيْعُ مَا لَمْ يُضْمَنْ»... الْحَدِيثَ  .

وَقَدْ فَسَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رحمه الله  تعالي السَّلَفَ وَالْبَيْعَ بِأَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: أَبِيعُكَ دَارِي هَذِهِ بِكَذَا وَكَذَا، عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي كَذَا وَكَذَا.

وَبِهَذَا تَئُولُ الْمَسْأَلَةُ إِلَى مَوْضُوعِ الْبَيْعِ بِشَرْطٍ، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِذَلِكَ، فِي الْجُمْلَةِ.

وَصَرَّحَ ابْنُ جُزَيٍّ بِأَنَّ الْبَيْعَ بِاشْتِرَاطِ السَّلَفِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لاَ يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنْ يَكُنْ بُطْلاَنُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ رِوَايَةً وَاحْتِمَالاً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ  .

وَالْمَالِكِيَّةِ، حِينَمَا تَحَدَّثُوا عَنْ بُيُوعِ الآْجَالِ - وَهِيَ بُيُوعٌ ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، لَكِنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى  مَمْنُوعٍ - مَنَعُوا بَيْعَ مَا كَثُرَ قَصْدُ النَّاسِ إِلَيْهِ، تَوَصُّلاً إِلَى الرِّبَا الْمَمْنُوعِ، كَأَنْ كَانَ جَائِزًا فِي الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لِلتُّهْمَةِ، وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ، وَمَثَّلُوا لَهَا: بِاجْتِمَاعِ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، أَوْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، أَوْ ضَمَانٍ بِجُعْلٍ.

وَصَوَّرُوا الْبَيْعَ وَالسَّلَفَ بِصُوَرٍ ثَلاَثٍ:

الأْولَى: بَيْعٌ جَائِزٌ فِي الظَّاهِرِ يُؤَدِّي - كَمَا يَقُولُ الدَّرْدِيرُ - إِلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ لِلتُّهْمَةِ، عَلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا الْبَيْعَ وَالسَّلَفَ الْمَمْنُوعَ.

وَذَلِكَ كَأَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَيْنِ بِدِينَارَيْنِ لِشَهْرٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ نَقْدًا، فَآلَ الأْمْرُ  إِلَى أَنَّ الْبَائِعَ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ سِلْعَةً وَدِينَارًا نَقْدًا؛ لأِنَّ السِّلْعَةَ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهَا مُلْغَاةٌ كَمَا يَقُولُ الدُّسُوقِيُّ ثُمَّ أَخَذَ عَنْهُمَا عِنْدَ الأْجَلِ دِينَارَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنِ السِّلْعَةِ وَهُوَ بَيْعٌ، وَالآْخَرُ عَنِ الدِّينَارِ وَهُوَ سَلَفٌ.

فَهَذِهِ الصُّورَةُ تُؤَدِّي إِلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي مَنْعِهِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ بَشِيرٍ وَتَابِعُوهُ، وَغَيْرُهُمْ  .

وَحَيْثُ تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبَيْعُ، مُنِعَتْ عِنْدَهُمْ، لِتُهْمَةِ قَصْدِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ.

الثَّانِيَةُ: بَيْعٌ وَسَلَفٌ بِشَرْطٍ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي. وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَمْنُوعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لأِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالْقَرْضِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ، إِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْبَائِعِ، أَوْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُثَمَّنِ - أَيِ الْمَبِيعِ - إِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْمُشْتَرِي، فَفِيهِ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا.

الثَّالِثَةُ: بَيْعٌ وَسَلَفٌ بِلاَ شَرْطٍ، لاَ صَرَاحَةً وَلاَ حُكْمًا، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ  .

بَيْعٌ وَشَرْطٌ:

66 - وَرَدَ النَّهْيُ فِي السُّنَّةِ عَنْ (بَيْعٍ وَشَرْطٍ) وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ»  . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْع، وَشَرْط)

أَسْبَابُ النَّهْيِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرَرِ

67 - هَذَا هُوَ السَّبَبُ الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِلاَزِمِ الْعَقْدِ، وَكَانَ الأْوَّلُ هُوَ الرِّبَا.

وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ، فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَغَيْرِهِ مِمَّا سَيَأْتِي.

وَالْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْخَطَرُ.

وَلَهُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ تَعْرِيفَاتٌ شَتَّى.

فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا طُوِيَ عَنْكَ عِلْمُهُ.

وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْغَرَضِ، وَالثَّانِي عَلَى خِلاَفِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا انْطَوَتْ عَنَّا عَاقِبَتُهُ، أَوْ: مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَغْلَبِهِمَا أَخْوَفُهُمَا.

وَيَرَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْغَرَرَ وَالْخَطَرَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا جُهِلَتْ عَيْنُهُ.

وَيَرَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ: فَالْخَطَرُ: مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ وُجُودُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْنِي فَرَسَكَ بِمَا أَرْبَحُ غَدًا.

وَالْغَرَرُ: مَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ، وَيُشَكُّ فِي تَمَامِهِ، كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا  .

68 - وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صُوَرٌ يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا الْغَرَرُ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ، مِنْهَا: كَوْنُ الْمَبِيعِ مَالاً مَوْجُودًا مَمْلُوكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَلاَ مَا سَيُخْرِجُهُ الصَّيَّادُ فِي شَبَكَتِهِ، وَلاَ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ الْجَمَلِ الشَّارِدِ. إِلَخْ.

وَالْغَرَرُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ وُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ مِلْكِيَّةِ الْبَائِعِ لَهُ، أَوْ قُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَهَذَا يُوجِبُ بُطْلاَنَ الْبَيْعِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَالآْخَرُ: مَا يَرْجِعُ إِلَى وَصْفٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ مِقْدَارِهِ، أَوْ يُورِثُ فِيهِ أَوْ فِي الثَّمَنِ أَوْ فِي الأْجَلِ جَهَالَةً.

فَهَذَا مَحَلُّ خِلاَفٍ. تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (غَرَر).

وَفِيمَا يَلِي صُوَرُ الْغَرَرِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ فِيهَا بِخُصُوصِهَا، وَالْحُكْمُ الْفِقْهِيُّ فِيهَا، مِنَ الْبُطْلاَنِ أَوِ الْفَسَادِ. إِذِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ - كَمَا يَقُولُ النَّوَوِيُّ - أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ جِدًّا  . مِنْهَا: بَيْعُ الْحَصَاةِ وَبَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ وَبَيْعُ الْمُنَابَذَةِ. وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

وَمِنْهَا مَا يَلِي:

أ - بَيْعُ الْجَنِينِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ:

69 - وَهُوَ بَيْعُ الْحَمْلِ، كَمَا عَبَّرَتْ بَعْضُ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ  .

وَالْجَنِينُ هُوَ: الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَجِنَّةً، كَدَلِيلٍ وَأَدِلَّةٍ. وَمِثْلُ الْجَنِينِ أَيْضًا: الْمَلْقُوحُ وَالْمَلْقُوحَةُ، وَجَمْعُهُمَا مَلاَقِيحُ، وَهِيَ مَا فِي الأْرْحَامِ وَالْبُطُونِ مِنَ الأْجِنَّةِ، بِتَفْسِيرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْمَلاَقِيحِ بِمَا فِي ظُهُورِ الْفُحُولِ  .

وَوَرَدَ النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَيْعِ الْجَنِينِ مَا دَامَ مُجْتَنًّا حَتَّى يُولَدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأْنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ»  .

وَتَقَدَّمَ الإْجْمَاعُ - كَمَا صَرَّحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ - عَلَى بُطْلاَنِ هَذَا الْبَيْعِ (ر: ف 5) لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ وَلِلْغَرَرِ، فَعَسَى أَنْ لاَ يُولَدَ، وَلأِنَّ فِيهِ جَهَالَةً فِي صِفَتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَلأِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ.

وَذِكْرُهُ هُنَا لِلْغَرَرِ فَقَطْ، لَكِنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الأْوَّلِ   مِنْهُ، وَهُوَ الْغَرَرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ نَفْسِهِ، مِنْ حَيْثُ أَصْلُ وُجُودِهِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ مُسْتَوْجِبًا لِلْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، حَتَّى فِي اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ، الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ - وَبَيْنَ الْفَسَادِ.

ب - بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ:

70 - وَيُسَمَّى أَيْضًا الْمُخَاضَرَةَ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ.

وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ»

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ»  .

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «لاَ تَبْتَاعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا»  .

وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَعَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، قِيلَ: مَا يَزْهُو؟ قَالَ: يَحْمَارُّ أَوْ يَصْفَارُّ»  . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَنَسٍ حَتَّى تُزْهَى، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهَى؟ قَالَ: تَحْمَرُّ  ..

كَمَا جَاءَ بُدُوُّ الصَّلاَحِ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا». «وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاَحِهَا، قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهَا»  .

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ»  .

وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ التَّعْبِيرُ بِلَفْظٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ: التَّشْقِيحُ، وَهَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ فَقِيلَ: مَا تُشَقِّحُ؟. قَالَ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ، وَيُؤْكَلُ مِنْهَا»  .

مَعْنَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ:

71 - فَسَّرَ الْفُقَهَاءُ بُدُوَّ الصَّلاَحِ بِمَعَانٍ شَتَّى: فَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا فِي تَفْسِيرِهِ: أَنْ تُؤْمَنَ الْعَاهَةُ وَالْفَسَادُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ - كَالْكَرْلاَنِيِّ - فَسَّرَهُ بِأَنْ تَصْلُحَ الثَّمَرَةُ لِتَنَاوُلِ بَنِي آدَمَ، وَعَلَفِ الدَّوَابِّ  .

وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَّرُوهُ تَفْسِيرًا مُخْتَلِفًا نِسْبِيًّا: فَهُوَ فِي التَّمْرِ: أَنْ يَحْمَرَّ وَيَصْفَرَّ وَيَزْهُوَ، وَفِي الْعِنَبِ: أَنْ يَسْوَدَّ وَتَبْدُوَ الْحَلاَوَةُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنَ الثِّمَارِ: حُصُولُ الْحَلاَوَةِ، وَفِي الْخَسِّ وَالْعُصْفُرِ: أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِمَا، وَفِي سَائِرِ الْبُقُولِ: أَنْ تَطِيبَ لِلأْكْلِ، وَفِي الزَّرْعِ وَالْحَبِّ: أَنْ يَيْبَسَ وَيَشْتَدَّ  .

وَأَرْجَعَ الشَّافِعِيَّةُ بُدُوَّ الصَّلاَحِ فِي الثَّمَرِ وَغَيْرِهِ كَالزَّرْعِ، إِلَى ظُهُورِ مَبَادِئِ النُّضْجِ وَالْحَلاَوَةِ، فِيمَا لاَ يَتَلَوَّنُ مِنْهُ، أَمَّا فِيمَا يَتَلَوَّنُ فَبِأَنْ يَأْخُذَ فِي الْحُمْرَةِ أَوِ السَّوَادِ أَوِ الصُّفْرَةِ. وَذَكَرُوا ثَمَانِي عَلاَمَاتٍ يُعْرَفُ بِهَا بُدُوُّ الصَّلاَحِ. أَحَدُهَا: اللَّوْنُ، فِي كُلِّ ثَمَرٍ مَأْكُولٍ مُلَوَّنٍ، إِذَا أَخَذَ فِي حُمْرَةٍ، أَوْ سَوَادٍ أَوْ صُفْرَةٍ، كَالْبَلَحِ وَالْعُنَّابِ وَالْمِشْمِشِ وَالإْجَّاصِ.

ثَانِيهَا: الطَّعْمُ، كَحَلاَوَةِ الْقَصَبِ وَحُمُوضَةِ الرُّمَّانِ.

ثَالِثُهَا: النُّضْجُ وَاللِّينُ، كَالتِّينِ وَالْبِطِّيخِ.

رَابِعُهَا: بِالْقُوَّةِ وَالاِشْتِدَادِ، كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ.

خَامِسُهَا: بِالطُّولِ وَالاِمْتِلاَءِ، كَالْعَلَفِ وَالْبُقُولِ.

سَادِسُهَا: الْكِبَرُ كَالْقِثَّاءِ، بِحَيْثُ يُؤْكَلُ.

سَابِعُهَا: انْشِقَاقُ أَكْمَامِهِ، كَالْقُطْنِ وَالْجَوْزِ.

ثَامِنُهَا: الاِنْفِتَاحُ، كَالْوَرْدِ. وَمَا لاَ أَكْمَامَ لَهُ كَالْيَاسَمِينِ، فَظُهُورُهُ، وَيُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الأَْخِيرِ. وَوَضَعَ لَهُ الْقَلْيُوبِيُّ هَذَا الضَّابِطَ، وَهُوَ: بُلُوغُ الشَّيْءِ إِلَى صِفَةٍ أَيْ حَالَةٍ يُطْلَبُ فِيهَا غَالِبًا  .

وَوَضَعَ الْحَنَابِلَةُ هَذَا الضَّابِطَ: مَا كَانَ مِنَ الثَّمَرَةِ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ عِنْدَ صَلاَحِهِ، كَثَمَرَةِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ الأْسْوَدِ وَالإْجَّاصِ، فَبُدُوُّ صَلاَحِهِ بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِنَبُ أَبْيَضَ فَصَلاَحُهُ بِتَمَوُّهِهِ، وَهُوَ: أَنْ يَبْدُوَ فِيهِ الْمَاءُ الْحُلْوُ وَيَلِينَ وَيَصْفَرَّ لَوْنُهُ.

وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَلَوَّنُ كَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهِ، فَبِأَنْ يَحْلُوَ وَيَطِيبَ. وَإِنْ كَانَ بِطِّيخًا أَوْ نَحْوِهِ، فَبِأَنْ يَبْدُوَ فِيهِ النُّضْجُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، وَيُؤْكَلُ طَيِّبًا صِغَارًا وَكِبَارًا، كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ، فَصَلاَحُهُ بُلُوغُهُ أَنْ يُؤْكَلَ عَادَةً  .

وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ: هِيَ خَوْفُ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثُ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا  .

وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ  ؟»

حُكْمُ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ:

72 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - عَلَى أَنَّ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ، غَيْرُ جَائِزٍ وَلاَ صَحِيحٍ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِجُمْلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ

وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَصَّلُوا فِيهِ الْقَوْلَ، تَبَعًا لِتَقْيِيدِ الْعَقْدِ بِشَرْطٍ وَإِطْلاَقِهِ، وَلاَ يَخْلُو بَيْعُ الثَّمَرَةِ مِنْ هَذِهِ الأْحْوَالِ:

الأْولَى: أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الظُّهُورِ وَالْبُرُوزِ، أَيْ قَبْلَ انْفِرَاكِ الزَّهْرِ عَنْهَا وَانْعِقَادِهَا ثَمَرَةً، فَهَذَا الْبَيْعُ لاَ يَصِحُّ اتِّفَاقًا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الظُّهُورِ، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، بِشَرْطِ التَّرْكِ وَالتَّبْقِيَةِ عَلَى الشَّجَرِ حَتَّى تَنْضَجَ، فَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ إِجْمَاعًا، لأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ الْغَيْرِ.

أَوْ هُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ أَوْ هُوَ إِعَارَةٌ أَوْ إِجَارَةٌ فِي بَيْعٍ.

وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.

قَالُوا: وَمِثْلُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِشَرْطِ التَّرْكِ، بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ  .

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الظُّهُورِ، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، فَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ بِالإْجْمَاعِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِهِ وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، إِنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَارِّ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فِيهِ: «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ  ؟» وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا يُقْطَعُ، فَصَحَّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ بَدَا صَلاَحُهُ.

قَالُوا: وَالإْجْمَاعُ  عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْمَنْعِ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَفَارَقَ مَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، لأِمْنِ الْعَاهَةِ فِيهِ غَالِبًا، بِخِلاَفِ مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَبِهَذَا الْفَارِقِ يُشْعِرُ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ وَهُوَ: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ - أَيْ آفَةٌ أَهْلَكَتِ الثَّمَرَةَ - فَلاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ»  .

73 - غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَيَّدُوا هَذَا الْحُكْمَ، وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، بِقُيُودٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا انْفَرَدَ بِهِ فَرِيقٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، نُشِيرُ إِلَيْهَا فِيمَا يَلِي:

الشَّرْطُ الأْوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مُنْتَفَعًا بِهِ:

أ - فَالْحَنَفِيَّةُ - فِي الأْصَحِّ  مِنْ مَذْهَبِهِمْ - وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ عَلَى إِطْلاَقِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِشُمُولِ الاِنْتِفَاعِ لِمَا هُوَ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَآلُ، أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ - كَمَا يُعَبِّرُونَ.

فَمِثْلُ الْقَصِيلِ (وَهُوَ الْفَصْفَصَةُ الَّتِي يُعْلَفُ بِهَا الْحَيَوَانُ) وَالْحِصْرِمِ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لاِنْتِفَاعِ الْحَيَوَانِ وَانْتِفَاعِ الإْنْسَانِ  بِهِ  .

ب - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ فِي الْحَالِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ تَقْيِيدَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْوَجْهِ الَّذِي يُرَادُ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ مِنْهُ كَمَا فِي الْحِصْرِمِ، بِخِلاَفِ الْكُمَّثْرَى؛ لأِنَّ قَطْعَهُ فِي الْحَالِ إِضَاعَةُ مَالٍ - كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ - وَبِخِلاَفِ ثَمَرَةِ الْجَوْزِ، وَزَرْعِ التُّرْمُسِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ نَفْسِهِ، لِعَدَمِ النَّفْعِ بِالْمَبِيعِ - كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ  .

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ الْمُتَبَايِعَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَكْثُرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلاَ يَتَمَالَئُوا عَلَيْهِ.

وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنْ تَخَلَّفَ وَاحِدٌ، مُنِعَ الْبَيْعُ كَمَا يُمْنَعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ الْمَارِّ أَوِ الإْطْلاَقِ، كَمَا يَأْتِي.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَنْ لاَ يَكُونَ مَا بِيعَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ مُشَاعًا، بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا مُشَاعًا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ قَطْعُ مَا يَمْلِكُهُ، إِلاَّ بِقَطْعِ مَا لاَ يَمْلِكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ  .

74 - وَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا، إِضَافَةً إِلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْجَائِزَةِ، وَهِيَ بَيْعُ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، هَذِهِ الصُّوَرَ:

(1أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا مَعَ الشَّجَرِ، أَوِ الزَّرْعِ الأَْخْضَرِ مَعَ الأْرْضِ، وَلاَ يَخْتَلِفُ فِيهَا الْفُقَهَاءُ؛ لأِنَّ الثَّمَرَ فِيهَا وَالزَّرْعَ تَابِعَانِ لِلشَّجَرِ وَالأْرْضِ، اللَّذَيْنِ لاَ تَعْرِضُ لَهُمَا عَاهَةٌ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.

(2أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ لِمَالِكِ الأْصْلِ وَهُوَ الشَّجَرُ، أَوْ يَبِيعَ الزَّرْعَ لِمَالِكِ الأْرْضِ، لأِنَّهُ إِذَا بِيعَ مَعَ أَصْلٍ دَخَلَ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضَعِ احْتِمَالَ الْغَرَرِ فِيهِ، كَمَا احْتُمِلَتِ الْجَهَالَةُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ الشَّاةِ.

نَصَّ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَنَابِلَةُ، كَمَا نَصَّ عَلَى الأْولَى الْجَمِيعُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الصُّورَةَ التَّالِيَةَ:

(3أَنْ يَبِيعَ الأْصْلَ ، وَهُوَ الشَّجَرُ أَوِ الأْرْضُ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِفَتْرَةٍ مَا، قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ، وَقَبْلَ خُرُوجِهِمَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي، يَلْحَقُ الثَّمَرُ أَوِ الزَّرْعُ بِالأْصْلِ الْمَبِيعِ قَبْلَهُ  .

75 - الرَّابِعَةُ مِنْ أَحْوَالِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ:

أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ - عَلَى الْخِلاَفِ فِي تَفْسِيرِهِ: بِظُهُورِ النُّضْجِ وَالْحَلاَوَةِ وَالتَّمَوُّهِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَبِأَمْنِ الْعَاهَةِ وَالْفَسَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا هُوَ نَصُّ ابْنِ الْهُمَامِ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ.

وَسَيَأْتِي بَعْضُ التَّفْصِيلِ الْمَذْهَبِيِّ فِيمَا إِذَا تَنَاهَى عِظَمُ الثَّمَرَةِ أَوْ لَمْ يَتَنَاهَ.

غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْجَوَازَ فِي هَذِهِ الْحَالِ - زِيَادَةً عَلَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِتَفْسِيرِهِ عِنْدَهُمْ - بِأَنْ لاَ يَسْتَتِرَ بِأَكْمَامِهِ، كَالْبَلَحِ وَالتِّينِ وَالْعِنَبِ، وَالْفُجْلِ وَالْكَرَّاتِ وَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ. فَهَذَا النَّوْعُ يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، وَوَزْنًا بِالأْوْلَى.

أَمَّا مَا اسْتَتَرَ بِأَكْمَامِهِ - أَيْ بِغِلاَفِهِ - كَالْقَمْحِ فِي سُنْبُلِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَحْدَهُ جُزَافًا، وَيَجُوزُ كَيْلاً. وَإِنْ بِيعَ بِقِشْرِهِ أَيْ تِبْنِهِ، جَازَ جُزَافًا وَكَذَا كَيْلاً بِالأْوْلَى.

أَمَّا مَا اسْتَتَرَ بِوَرَقِهِ كَالْفُولِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، لاَ مُنْفَرِدًا وَلاَ مَعَ وَرَقِهِ، وَيَجُوزُ كَيْلاً  .

76 - الْخَامِسَةُ: أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ مُطْلَقًا، فَلاَ يَشْتَرِطُ قَطْعًا وَلاَ تَبْقِيَةً، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَحَلُّ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:

(أ) فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَإِنْ صَرَّحَ ابْنُ جُزَيٍّ بِأَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ - أَنَّ بَيْعَهَا كَذَلِكَ بَاطِلٌ: لإِطْلاَقِ النَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، وَلأِنَّ الْعَاهَةَ تُسْرِعُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ، لِضَعْفِهِ، فَيَفُوتُ بِتَلَفِهِ الثَّمَنُ، مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ  .

(ب) وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَرَّرُوا أَنَّهُ:

إِنْ كَانَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الأْكْلِ وَلاَ فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ، فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ: قِيلَ: لاَ يَجُوزُ، وَنَسَبَهُ قَاضِيخَانُ لِعَامَّةِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ لِلنَّهْيِ، وَلأِنَّ الْبَيْعَ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوَّمٍ، وَالثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجُوزُ، لأِنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ (أَيِ الْمَآلِ) إِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ

وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَوْ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، إِذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، أَوْ مُطْلَقًا  .

وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلاَثِ السَّابِقَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، هَذِهِ الصُّورَةَ أَيْضًا.

77 - السَّادِسَةُ: إِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ، وَقَدْ بَدَا صَلاَحُهَا وَنُضْجُهَا، وَلَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، وَشَرَطَ التَّرْكَ وَالتَّبْقِيَةَ إِلَى أَنْ يَتَنَاهَى عِظَمُهَا:

(أ) فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ - كَمَا يَنُصُّ ابْنُ قُدَامَةَ - جَوَازُ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ جَوَازُهُ بِإِطْلاَقٍ.

لأِنَّ الْحَدِيثَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، فَمَفْهُومُهُ إِبَاحَةُ بَيْعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ عِنْدَهُمُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ لِبُدُوِّ الصَّلاَحِ غَايَةٌ، وَلاَ فَائِدَةٌ فِي ذِكْرِهِ.

- «وَلأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَتَأْمَنَ الْعَاهَةَ» وَتَعْلِيلُهُ بِأَمْنِ الْعَاهَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّبْقِيَةِ؛ لأِنَّ مَا يُقْطَعُ فِي الْحَالِ لاَ يُخَافُ الْعَاهَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا بَدَا الصَّلاَحُ فَقَدْ أُمِنَتِ الْعَاهَةُ، فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ مُبْقًى، لِزَوَالِ عِلَّةِ الْمَنْعِ.

وَلأِنَّ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ يَجِبُ فِي الْمَبِيعِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ، فَإِذَا شَرَطَهُ جَازَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ نَقْلَ الطَّعَامِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ  .

(ب) وَالْحَنَفِيَّةُ قَرَّرُوا مُفَصِّلِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:

إِذَا شَرَطَ التَّرْكَ، وَلَمْ يَتَنَاهَ الْعِظَمُ وَالنُّضْجُ، فَقَدْ شَرَطَ فِيهِ الْجُزْءَ الْمَعْدُومَ، وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ بِمَعْنًى مِنَ الأْرْضِ وَالشَّجَرِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، فَكَأَنَّهُ ضَمَّ الْمَعْدُومَ إِلَى الْمَوْجُودِ، وَاشْتَرَاهُمَا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ  .

وَإِذَا شَرَطَ التَّرْكَ، وَقَدْ تَنَاهَى عِظَمُهَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ أَيْضًا، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَمِثْلُهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَهَذَا لأِنَّهُ يَحْصُلُ فِي الْمَبِيعِ زِيَادَةُ جَوْدَةٍ وَطَرَاوَةٍ، وَلِلْمُشْتَرِي فِيهِ نَفْعٌ.

وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَقَدِ اسْتَحْسَنَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَالَ كَمَا قَالَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ: لاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، لِتَعَارُفِ النَّاسِ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، لأِنَّهُ شَرْطٌ فِي الْجُزْءِ الْمَعْدُومِ.

وَمَعَ أَنَّ الْبَابَرْتِيَّ وَالْكَرْلاَنِيَّ، مِنْ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ، لَمْ يُسَلِّمَا بِالتَّعَامُلِ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْكِ، بَلْ قَرَّرَا أَنَّ الْمُعْتَادَ هُوَ التَّرْكُ بِلاَ شَرْطٍ، وَالإْذْنُ فِي تَرْكِهِ بِلاَ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ، لاَ شَرْطِ التَّرْكِ. فَفِي نَقْلِ الْكَرْلاَنِيِّ عَنِ الأْسْرَارِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، لِعُمُومِ الْبَلْوَى  .

78 - وَإِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ مُطْلَقًا، فَلَمْ يَشْتَرِطِ التَّرْكَ وَلاَ الْقَطْعَ، وَلَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، ثُمَّ تَرَكَهَا: فَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنٍ مُجَرَّدٍ مِنَ الْبَائِعِ، طَابَ لَهُ الْفَضْلُ وَالأْكْلُ. وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنٍ فِي ضِمْنِ الإْجَارَةِ ، بِأَنِ اسْتَأْجَرَ الأْشْجَارَ إِلَى وَقْتِ الإْدْرَاكِ، طَابَ لَهُ الْفَضْلُ أَيْضًا؛ لأِنَّ الإْجَارَةَ  بَاطِلَةٌ، لِعَدَمِ التَّعَارُفِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الأْشْجَارِ، وَلِعَدَمِ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي إِلَى اسْتِئْجَارِ الأْشْجَارِ، لأِنَّهُ يُمْكِنُهُ شِرَاءُ الثِّمَارِ مَعَ أُصُولِهَا، وَالأْصْلُ فِي الْقِيَاسِ بُطْلاَنُ الإْجَارَةِ ، وَأُجِيزَتْ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ، وَلاَ تَعَامُلَ فِي إِجَارَةِ الأَْشْجَارِ الْمُجَرَّدَةِ، فَبَقِيَ الإْذْنُ.

أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ فِي ذَاتِهِ، لِحُصُولِهِ بِجِهَةِ مَحْظُورِهِ، وَهِيَ حُصُولُهَا بِقُوَّةِ الأْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، فَيُقَوَّمُ ذَلِكَ قَبْلَ الإْدْرَاكِ وَبَعْدَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا.

أَمَّا إِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ بَعْدَمَا تَنَاهَى عِظَمُهَا، وَتَرَكَهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ؛ لأِنَّ هَذَا تَغَيُّرُ حَالَةٍ، لاَ تَحَقُّقُ زِيَادَةٍ  .

هَلْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ بَيْعِ الثَّمَرِ بُدُوُّ صَلاَحِ كُلِّهِ؟

79 - يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوَجْهٍ عَامٍّ، أَنَّهُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بُدُوُّ صَلاَحِ بَعْضِهِ - وَإِنْ قَلَّ - لِبَيْعِ كُلِّهِ، بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْعَقْدِ وَالْجِنْسِ وَالْبُسْتَانِ، وَالْحَمْلِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ - كَالشَّافِعِيَّةِ - أَوِ الْجِنْسِ عِنْدَ آخَرِينَ - كَالْمَالِكِيَّةِ - وَإِنْ شَرَطَ بَعْضُهُمْ خِلاَفًا لآِخَرِينَ صَلاَحَ كُلِّهِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ إِلاَّ بَيْعُ مَا بَدَا صَلاَحُهُ  . وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً: إِنْ كَانَتْ شَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبَدَا الصَّلاَحُ فِي بَعْضِ ثَمَرِهَا، جَازَ بَيْعُ جَمِيعِهَا بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلاَفًا.

ثَانِيًا: وَإِنْ بَدَا الصَّلاَحُ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ:

الأْوَّلُ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ الأْظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ الثَّمَرِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَوَجْهُهُ:

أَنَّهُ بَدَا الصَّلاَحُ مِنْ نَوْعِهِ مِنَ الْبُسْتَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَجَازَ بَيْعُ جَمِيعِهِ، كَالشَّجَرَةِ الْوَاحِدَةِ.

وَأَنَّ اعْتِبَارَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ فِي جَمِيعِهِ يَشُقُّ، وَيُؤَدِّي إِلَى الاِشْتِرَاكِ وَاخْتِلاَفِ الأْيْدِي، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ مَا بَدَا صَلاَحُهُ.

وَالْمَالِكِيَّةُ شَرَطُوا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، أَنْ لاَ تَكُونَ النَّخْلَةُ بَاكُورَةً، وَهِيَ الَّتِي تَسْبِقُ بِالزَّمَنِ الطَّوِيلِ، بِحَيْثُ لاَ يَحْصُلُ مَعَهُ تَتَابُعُ الطَّيِّبِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاكُورَةً لَمْ يَجُزْ بَيْعُ ثِمَارِ الْبُسْتَانِ بِطَيِّبِهَا، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَحْدَهَا  .

الآْخَرُ: هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ (وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بَيْعُ مَا بَدَا صَلاَحُهُ.

لأِنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَلأِنَّهُ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، فَأَشْبَهَ الْجِنْسَ الآْخَرَ، وَأَشْبَهَ الْجِنْسَ الَّذِي فِي الْبُسْتَانِ الآْخَرِ - كَمَا سَيَأْتِي -

80 - ثَالِثًا: إِنْ بَدَا الصَّلاَحُ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ أَشْجَارٍ مِنْ نَوْعٍ مَا، فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ؟

فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْجُهٌ:

الْوَجْهُ الأْوَّلُ: لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، هُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لاَ يَتْبَعُهُ، قَرَّرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ الأْوْلَى، وَذَلِكَ:

لأِنَّ النَّوْعَيْنِ قَدْ يَتَبَاعَدُ إِدْرَاكُهُمَا، فَلَمْ يَتْبَعْ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فِي بُدُوِّ الصَّلاَحِ، كَالْجِنْسَيْنِ.

وَلأِنَّ الْمَعْنَى هُنَا هُوَ تَقَارُبُ إِدْرَاكِ أَحَدِهِمَا مِنَ الآْخَرِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالاِشْتِرَاكِ، وَاخْتِلاَفِ الأْيْدِي، وَلاَ يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي النَّوْعَيْنِ، فَصَارَا فِي هَذَا كَالْجِنْسَيْنِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مُتَقَارِبَ الإْدْرَاكِ، فَبُدُوُّ صَلاَحِ بَعْضِهِ يَجُوزُ بِهِ بَيْعُ جَمِيعِهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ إِدْرَاكُ بَعْضِهِ تَأَخُّرًا كَثِيرًا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِيمَا أَدْرَكَ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الْبَاقِي  .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَلأِبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، قَاسُوهُ عَلَى إِكْمَالِ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِي التَّكْمِيلِ، فَيَتْبَعُهُ فِي

جَوَازِ الْبَيْعِ، وَيُصْبِحُ كَالنَّوْعِ الْوَاحِدِ  .

81 - رَابِعًا: إِنْ بَدَا صَلاَحُ الثَّمَرِ فِي أَحَدِ بُسْتَانَيْنِ (مُتَقَارِبَيْنِ) مِنْ دُونِ الآْخَرِ، وَقَدْ بَاعَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَالثَّمَرَةُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ: أَنَّ بُدُوَّ الصَّلاَحِ فِي شَجَرَةٍ مِنَ الْقَرَاحِ (الْمَزْرَعَةِ) صَلاَحٌ لَهُ وَلِمَا قَارَبَهُ وَجَاوَرَهُ، فَيَتْبَعُهُ، وَذَلِكَ: لأِنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ فِي الصَّلاَحِ، فَأَشْبَهَا الْقَرَاحَ الْوَاحِدَ. وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ الأْمْنُ مِنَ الْعَاهَةِ، وَقَدْ وُجِدَ. وَلاِجْتِمَاعِهِمَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَّرُوا الْقُرْبَ هُنَا وَالْجِوَارَ، بِتَلاَحُقِ الطَّيِّبِ بِالطَّيِّبِ عَادَةً، أَوْ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ.

وَابْنُ كِنَانَةَ مِنْهُمْ عَمَّمَ الْحُكْمَ فِي الْبَسَاتِينِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَلاَحَقُ طَيِّبَهُ بِطَيِّبِهِ.

وَابْنُ الْقَصَّارِ عَمَّمَ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمُتَجَاوِرَاتِ مِنَ الْبَسَاتِينِ، فَشَمِلَ الْبَلَدَ.

وَلَهُمْ قَوْلاَنِ فِي اشْتِرَاطِ تَلاَصُقِ الْبَسَاتِينِ، لَكِنَّهُمُ اسْتَظْهَرُوا أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْبَسَاتِينُ الْمُجَاوِرَةُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ الَّذِي فِيهِ الشَّجَرَةُ الْبَاكُورَةُ الَّتِي بَدَا صَلاَحُهَا. لَكِنَّهُمْ قَصَرُوا هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الثِّمَارِ، وَمِثْلُهَا الْمَقْثَأَةُ، أَمَّا الزُّرُوعُ فَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ يُبْسِ جَمِيعِ الْحَبِّ  .

الآْخَرُ: أَنْ لاَ يَتْبَعَ أَحَدُ الْبُسْتَانَيْنِ الآْخَرَ، وَهَذَا هُوَ الأْصَحُّ  وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَوْ كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ، وَذَلِكَ:

لأِنَّ مِنْ شَأْنِ اخْتِلاَفِ الْبِقَاعِ اخْتِلاَفُ وَقْتِ التَّأْبِيرِ - كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ - فَلاَ بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْبُسْتَانِ الآْخَرِ.

أَنَّ إِلْحَاقَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ بِاَلَّذِي بَدَا صَلاَحُهُ، هُوَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الاِشْتِرَاكِ، وَاخْتِلاَفِ الأْيْدِي، وَهَذَا الضَّرَرُ مُنْتَفٍ فِي الْبُسْتَانِ الآْخَرِ، فَوَجَبَ امْتِنَاعُ التَّبَعِيَّةِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْبُسْتَانَيْنِ الْمُتَبَاعِدَيْنِ  .

82 - خَامِسًا: إِنْ بَدَا الصَّلاَحُ فِي جِنْسٍ مِنَ الثَّمَرِ، لَمْ يَكْفِ فِي حِلِّ بَيْعِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، فَبُدُوُّ صَلاَحِ الْبَلَحِ لاَ يَكْفِي فِي حِلِّ بَيْعِ نَحْوِ الْعِنَبِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْبُسْتَانِ عِنَبٌ وَرُمَّانٌ، فَبَدَا صَلاَحُ الْعِنَبِ، لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الرُّمَّانِ

حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ - نَصَّ عَلَى هَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ بَاعَ كَذَلِكَ وَجَبَ شَرْطُ الْقَطْعِ فِي ثَمَرِ الآْخَرِ.

83 - أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ الْمَقَاثِئَ بِالثَّمَرِ، فِي الاِكْتِفَاءِ بِبُدُوِّ بَعْضِهَا، لِجَوَازِ بَيْعِ كُلِّهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكْبُرَ وَتَطِيبُ لِلأَْكْلِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِهِمَا، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَلاَ يَكْفِي فِي حِلِّ بَيْعِهِ يُبْسُ بَعْضِهِ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ يُبْسِ جَمِيعِ حَبِّهِ، وَذَلِكَ:

لأِنَّ حَاجَةَ النَّاسِ لأِكْلِ الثِّمَارِ رَطْبَةً لِلتَّفَكُّهِ بِهَا أَكْثَرُ.

وَلأِنَّ الثَّمَرَ إِذَا بَدَا صَلاَحُ بَعْضِهِ، يَتْبَعُهُ الْبَاقِي سَرِيعًا غَالِبًا، وَمِثْلُهُ نَحْوُ الْقِثَّاءِ، بِخِلاَفِ الزَّرْعِ، وَلَيْسَتِ الْحُبُوبُ كَذَلِكَ، لأِنَّهَا لِلْقُوتِ لاَ لِلتَّفَكُّهِ  .

وَبَقِيَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الأْصْلِ، وَهُوَ الاِكْتِفَاءُ فِي الْحَبِّ بِبُدُوِّ صَلاَحِ بَعْضِهِ وَإِنْ قَلَّ، بَلْ صَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ بِالاِكْتِفَاءِ بِاشْتِدَادِ بَعْضِ الْحَبِّ، وَلَوْ سُنْبُلَةً وَاحِدَةً، وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَيْنَا بِطِيبِ الثِّمَارِ عَلَى التَّدْرِيجِ، إِطَالَةً لِزَمَنِ التَّفَكُّهِ، فَلَوْ شَرَطَ طِيبَ جَمِيعِهِ، لأَدَّى إِلَى أَنْ لاَ يُبَاعَ شَيْءٌ؛ لأِنَّ السَّابِقَ قَدْ يَتْلَفُ، أَوْ تُبَاعُ الْحَبَّةُ، بَعْدَ الْحَبَّةِ، وَفِي كُلٍّ حَرَجٌ شَدِيدٌ  .

84 - وَلَمْ يُوَاجِهِ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهِيَ اشْتِرَاطُ بُدُوِّ صَلاَحِ كُلِّ الثَّمَرِ لِصِحَّةِ بَيْعِهِ، وَلاَ التَّفْصِيلاَتِ الَّتِي تَنْدَرِجُ فِيهَا؛ لأِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي أَصْلِهَا، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ (وَكَذَا الْحَبُّ وَنَحْوُهُ) أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَوْ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ إِذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا، وَيَجِبُ قَطْعُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ.

وَكُلُّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ خِلاَفِ الأْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ فِي اشْتِرَاطِ صَلاَحِ كُلِّ الثَّمَرِ، وَصَلاَحِ كُلِّ الْحَبِّ، إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُنْتَفَعُ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكُلُّهُ جَائِزُ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَكْلاً وَلاَ عَلَفًا، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ:

فَذَهَبَ السَّرَخْسِيُّ (وَشَيْخُ الإْسْلاَمِ خُوَاهَرْ زَادَهْ) إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ، لِلنَّهْيِ وَعَدَمِ التَّقَوُّمِ.

وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ - وَالأْصَحُّ  عِنْدَ الْمَرْغِينَانِيِّ - جَوَازُ بَيْعِهِ أَيْضًا، لأِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ مَآلاً، وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ حَالاً، بِاعْتِبَارِهِ مَالاً  .

لِهَذَا لَمْ يَبْحَثِ الْحَنَفِيَّةُ شَرْطِيَّةَ بُدُوِّ صَلاَحِ كُلِّ الثَّمَرِ وَلاَ بَعْضِهِ (وَكَذَا الْحَبُّ) وَعِبَارَةُ مُتُونِهِمْ فِي هَذَا صَرِيحَةٌ، وَنَصُّهَا:

  وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا، أَوْ قَدْ بَدَا، جَازَ الْبَيْعُ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ، وَإِنْ شَرَطَ تَرْكَهَا عَلَى النَّخْلِ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَقِيلَ: لاَ إِذَا تَنَاهَتْ، وَبِهِ يُفْتَى

بَيْعُ الْمُتَلاَحِقِ مِنَ الثَّمَرِ وَنَحْوِهِ:

85 - وَيَتَّصِلُ بِبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ - عَلَى الْخِلاَفِ الَّذِي فِيهِ - مَسْأَلَةُ مَا إِذَا بَاعَ ثَمَرَةً قَدْ بَدَا صَلاَحُهَا، وَكَانَتْ مِمَّا تُطْعَمُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ.

وَيَغْلِبُ تَلاَحُقُ ثَمَرِهَا، وَيَخْتَلِطُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا بِالْمَوْجُودِ، كَالتِّينِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ، وَكَذَا فِي الزَّرْعِ كَالْبِرْسِيمِ (وَهُوَ الْفَصْفَصَةُ) وَكَذَا فِي الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، وَتُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ الثَّمَرِ الْمُتَلاَحِقِ، وَفِيهَا بَعْضُ الْخِلاَفِ.

(أ) فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأْصَحُّ  عِنْدَهُمْ قِيَاسًا: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَذَلِكَ:

لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ، فَأَشْبَهَ هَلاَكَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، كَمَا يَقُولُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالْكَمَالُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى صَدْرِ التَّعْلِيلِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَّلَهُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّهُ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَقْبَلُ الْبَيْعَ، وَحِصَّةُ الْمَوْجُودِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ  .

وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ ثَمَرَةٌ لَمْ تُخْلَقْ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، كَمَا لَوْ بَاعَهَا قَبْلَ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِبَيْعِ أُصُولِهِ.

وَمَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ، لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ، وَإِنْ كَانَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا صَلاَحُهُ، لأِنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فِي بَعْضِ الأْحْوَالِ  كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا مَا لَمْ يُخْلَقْ فَلاَ  .

86 - (ب) وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُهُ، وَهُوَ أَيْضًا مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَالْحَلْوَانِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ وَآخَرِينَ اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ بِجَعْلِ الْمَوْجُودِ أَصْلاً فِي الْعَقْدِ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ تَبَعًا لَهُ، مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ. وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَوَجَّهَهُ.

وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ هُوَ تَعَامُلُ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ تَعَامَلُوا بِبَيْعِ ثِمَارِ الْكَرْمِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَفِي نَزْعِ النَّاسِ مِنْ عَادَتِهِمْ حَرَجٌ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الإْمَامِ  مُحَمَّدٍ - رحمه الله  - أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ الْوَرْدِ عَلَى الأْشْجَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَرْدَ لاَ يَتَفَتَّحُ جُمْلَةً، بَلْ يَتَلاَحَقُ بَعْضُهُ إِثْرَ بَعْضٍ  .

وَبَدَا مِنْ هَذَا أَنَّ جَوَازَ بَيْعِ الْمُتَلاَحِقَاتِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِحْسَانِ الضَّرُورَةِ، عِنْدَ مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالَّذِينَ ذَهَبُوا مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ تَمَسَّكُوا بِالنُّصُوصِ، وَنَفَوُا الضَّرُورَةَ هُنَا:

لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَ الْبَائِعُ الأْصُولَ.

أَوْ يَشْتَرِيَ الْمُشْتَرِي الْمَوْجُودَ بِبَعْضِ الثَّمَنِ، وَيُؤَخِّرَ الْعَقْدَ فِي الْبَاقِي إِلَى وَقْتِ وُجُودِهِ.

أَوْ يَشْتَرِيَ الْمَوْجُودَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَيُبِيحُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الاِنْتِفَاعَ بِمَا يَحْدُثُ مِنْهُ. وَلِهَذَا قَرَّرُوا أَنَّهُ لاَ ضَرُورَةَ إِلَى تَجْوِيزِ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ مُصَادِمًا لِلنَّصِّ، وَهُوَ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإْنْسَانِ .

وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ رحمه الله  تعالي لاَ يَخْفَى تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فِي زَمَانِنَا، وَلاَ سِيَّمَا فِي مِثْلِ دِمَشْقِ الشَّامِ، كَثِيرَةِ الأْشْجَارِ وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَى النَّاسِ، لاَ يُمْكِنُ إِلْزَامُهُمْ بِالتَّخَلُّصِ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ أَفْرَادِ النَّاسِ لاَ يُمْكِنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَامَّتِهِمْ، وَفِي نَزْعِهِمْ عَنْ عَادَتِهِمْ حَرَجٌ - كَمَا عَلِمْتَ - وَيَلْزَمُ تَحْرِيمُ أَكْلِ الثِّمَارِ فِي هَذِهِ الْبُلْدَانِ، إِذْ لاَ تُبَاعُ إِلاَّ كَذَلِكَ.

وَالنَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم إِنَّمَا رَخَّصَ فِي السَّلَمِ لِلضَّرُورَةِ، مَعَ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، فَحَيْثُ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ هُنَا أَيْضًا، أَمْكَنَ إِلْحَاقُهُ بِالسَّلَمِ بِطَرِيقِ الدِّلاَلَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مُصَادِمًا لِلنَّصِّ، فَلِهَذَا جَعَلُوهُ مِنَ الاِسْتِحْسَانِ؛ لأِنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ الْجَوَازِ. وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْفَتْحِ الْمَيْلُ إِلَى الْجَوَازِ، وَلِذَا أَوْرَدَ لَهُ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، بَلْ إِنَّ الْحُلْوَانِيَّ رَوَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَمَا ضَاقَ الأْمْرُ  إِلاَّ اتَّسَعَ، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُسَوِّغٌ لِلْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ  .

87 - وَالْمَالِكِيَّةُ، الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ، قَسَّمُوا هَذِهِ الْمُتَلاَحِقَاتِ، وَهِيَ ذَاتُ الْبُطُونِ، إِلَى قِسْمَيْنِ:

مَا تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ.

وَمَا لاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ.

وَالَّذِي لاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ قِسْمَانِ: مَا لَهُ آخِرٌ، وَمَا لاَ آخِرَ لَهُ.

وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُهَا:

أَوَّلاً: مَا تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ، وَهُوَ الْمُنْفَصِلُ غَيْرُ الْمُتَتَابِعِ. وَذَلِكَ فِي الشَّجَرِ الَّذِي يُطْعِمُ فِي السَّنَةِ بَطْنَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ. فَهَذَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْبَطْنُ الثَّانِي بَعْدَ وُجُودِهِ وَقَبْلَ صَلاَحِهِ بِبُدُوِّ صَلاَحِ الْبَطْنِ الأْوَّلِ  ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَنْقَطِعُ الأْوَّلُ حَتَّى يَبْدُوَ طِيبُ الثَّانِي. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ.

وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ قَوْلاً بِالْجَوَازِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَطْنَ الثَّانِي يَتْبَعُ الأْوَّلَ فِي الصَّلاَحِ، لَكِنِ ابْنَ جُزَيٍّ جَعَلَ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اتِّفَاقًا  .

ثَانِيًا: مَا يَخْلُفُ وَيُطْعِمُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، وَلاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ، وَلَهُ آخِرٌ. (أَيْ نِهَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا) كَالْوَرْدِ وَالتِّينِ، وَكَالْمَقَاثِئِ مِنَ الْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالْجُمَّيْزِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ الْبُطُونِ بِبُدُوِّ صَلاَحِ الأْوَّلِ  .

قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: خِلاَفًا لَهُمْ، أَيْ لِلأْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ. فَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنَ الْمَذْكُورَاتِ، يُقْضَى لَهُ بِالْبُطُونِ كُلِّهَا، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي الْعَقْدِ.

وَلاَ يَجُوزُ فِي هَذَا التَّوْقِيتِ بِشَهْرٍ وَنَحْوِهِ، لاِخْتِلاَفِ حَمْلِهَا بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ  .

ثَالِثًا: مَا يُخْلَفُ وَيُطْعَمُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، وَلاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ وَهِيَ مُتَتَابِعَةٌ، لَكِنْ لاَ آخِرَ وَلاَ نِهَايَةَ لَهُ، أَيْ أَنَّ إِخْلاَفَهُ مُسْتَمِرٌّ، فَكُلَّمَا قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ خَلَفَهُ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ لَهُ آخِرٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ طُولَ الْعَامِ، كَالْمَوْزِ - فِي بَعْضِ الأْقْطَارِ - فَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلاَّ بِضَرْبٍ مِنَ الأْجَلِ، وَهُوَ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ، وَلَوْ كَثُرَ الأْجَلُ - عَلَى الْمَشْهُورِ - خِلاَفًا لاِبْنِ نَافِعٍ الَّذِي حَصَرَ الْجَوَازَ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِمَنْ نَفَى الزِّيَادَةَ عَلَى سَنَتَيْنِ.

وَمِثْلُ ضَرْبِ الأْجَلِ فِي الْجَوَازِ، اسْتِثْنَاءُ بُطُونٍ مَعْلُومَةٍ  .

ج - بَيْعُ السِّنِينَ:

88 - رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ»  . وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَبِيعَ مَا سَوْفَ تُثْمِرُهُ نَخْلَةُ الْبَائِعِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا أَوْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ مَنْعِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا  .

د - بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ:

89 - وَمِمَّا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهِ لِلْغَرَرِ: السَّمَكُ فِي الْمَاءِ. وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه  «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: لاَ تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّهُ غَرَرٌ» .

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ اصْطِيَادِهِ، كَمَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ إِذَا صِيدَ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ، وَأَنَّهُ فَاسِدٌ، لأِنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُمْلَكْ، وَفِيهِ غَرَرٌ كَثِيرٌ فَلاَ يُغْتَفَرُ إِجْمَاعًا، وَلأِنَّهُ لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلاَّ بَعْدَ اصْطِيَادِهِ، فَأَشْبَهَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ، كَمَا أَنَّهُ مَجْهُولٌ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ  .

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ - بِاصْطِلاَحِهِمْ فِيهِ - وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ فَاسِدٌ، إِذَا بِيعَ بِعَرْضٍ؛ لأِنَّ السَّمَكَ يَكُونُ حِينَئِذٍ ثَمَنًا وَالْعَرَضُ مَبِيعًا، وَاذَا دَخَلَتِ الْجَهَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَلَمْ يَكُنْ بَاطِلاً. فَإِنْ بِيعَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ، إِذْ يَتَعَيَّنُ كَوْنُ السَّمَكِ حِينَئِذٍ مَبِيعًا، وَالدَّرَاهِمُ أَوِ الدَّنَانِيرُ ثَمَنًا.

وَفِيهِ صُوَرٌ مِنَ الْجَوَازِ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ وَأَحْكَامٍ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى مَوْطِنِهِ مِنْ مُصْطَلَحِ (غَرَرٌ).

90 - وَمِثْلُ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ، بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِهِ.

وَلِلْحَنَفِيَّةِ - خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - تَفْصِيلٌ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ يَرْجِعُ بَعْدَ الإْرْسَالِ فَيَصِحُّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لاَ يَرْجِعُ بَعْدَ الإْرْسَالِ، فَلاَ يَصِحُّ.

أَمَّا بَيْعُهُ قَبْلَ صَيْدِهِ، فَبَاطِلٌ عِنْدَهُمْ، كَمَا هُوَ الإْجْمَاعُ  .

وَانْظُرْ بَعْضَ أَحْكَامِهِ، وَتَفْصِيلاَتِهِ، وَتَعْلِيلاَتِ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ فِي مُصْطَلَحِ (غَرَر، بَيْع)

هـ - بَيْعُ الْعَبْدِ الآْبِقِ:

91 - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ» فَيَحْرُمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَيْعُهُ فِي الْجُمْلَةِ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْعَهُ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُ، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْجَوَازَ بِبَيْعِهِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ بِلاَ مَشَقَّةٍ لاَ تُحْتَمَلُ عَادَةً، وَبِلاَ مُؤْنَةٍ لَهَا وَقْعٌ.

وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ الْجَوَازِ، وَلَوْ عَلِمَ مَكَانَهُ أَوْ قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِهِ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ إِنْسَانٍ، جَازَ، لإِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ.

وَقِيسَ عَلَيْهِ: الْجَمَلُ الشَّارِدُ، وَالْفَرَسُ الْعَائِرُ وَالضَّالُّ إِلاَّ مَنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَالْمَغْصُوبُ إِلاَّ لِقَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَبَيْعُهُ مِنَ الْغَاصِبِ صَحِيحٌ قَطْعًا  .

وَهُنَاكَ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، تُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْع، غَرَر).

و - بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ:

92 - وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم أَنْ يُبَاعَ ثَمَرٌ حَتَّى يُطْعَمَ، أَوْ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ، أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ، أَوْ سَمْنٌ فِي لَبَنٍ»  .

وَالشَّوْكَانِيُّ يُصَرِّحُ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى فَسَادِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ مَجْهُولُ الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ، فَأَشْبَهَ الْحَمْلَ.

وَتَرَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْلِ بِفَسَادِهِ لاِخْتِلاَطِ الْمِلْكَيْنِ، أَوْ بُطْلاَنِهِ لِلشَّكِّ فِي وُجُودِهِ.

وَوَضَعَ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذَا وَأَمْثَالِهِ ضَابِطًا، وَهُوَ: أَنَّ كُلَّ مَا بِيعَ بِغِلاَفِهِ لاَ يَجُوزُ بِاسْتِثْنَاءِ الْحُبُوبِ فِي قِشْرِهَا وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي (بَيْع، غَرَر).

ز - بَيْعُ الصُّوفِ وَهُوَ عَلَى الظَّهْرِ:

93 - وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا. (ف \ 92).

وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى فَسَادِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى جَوَازِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أَيْضًا عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ، بِشَرْطِ جَزِّهِ فِي الْحَالِ، وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: فِيهِ قُوَّةٌ

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ بِشَرْطِ جَزِّهِ خِلاَلَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ كَنِصْفِ شَهْرٍ. وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْفَسَادِ: النَّهْيُ الْوَارِدُ فِيهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ وَهِيَ لاَ تُفْرَدُ بِالْبَيْعِ، وَاخْتِلاَطُ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ لأِنَّهُ يَنْبُتُ مِنَ الأْسْفَلِ، أَوِ اتِّصَالُهُ بِالْحَيَوَانِ فَلَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ كَأَعْضَائِهِ، أَوِ الْجَهَالَةُ وَالتَّنَازُعُ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ.

وَأَبُو يُوسُفَ - رحمه الله  - يَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْقَصِيلِ (الْفَصْفَصَةُ، أَوِ الْبِرْسِيمُ) وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ الشَّعِيرُ يُجَزُّ أَخْضَرَ لِعَلَفِ الدَّوَابِّ  . وَفِيهِ تَفْصِيلاَتٌ وَصُوَرٌ تُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْع، غَرَر، جَهَالَة).

ح - بَيْعُ السَّمْنِ فِي اللَّبَنِ:

94 - وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه الْمُتَقَدِّمُ «... أَوْ سَمْنٌ فِي لَبَنٍ  » وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ لاَ يَمْتَازُ عَنْهُ، وَفِيهِ جَهَالَةٌ وَغَرَرٌ، ثُمَّ هُوَ مِنَ الأْشْيَاءِ الَّتِي فِي غُلُفِهَا، وَالَّتِي لاَ يُمْكِنُ أَخْذُهَا وَتَسْلِيمُهَا إِلاَّ بِإِفْسَادِ الْخِلْقَةِ. كَمَا يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِاسْتِثْنَاءِ الْحُبُوبِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ  .

ط - الثُّنْيَا (أَوِ اسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ فِي الْبَيْعِ):

95 - وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالثُّنْيَا، إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ» وَمَعْنَى الثُّنْيَا: الاِسْتِثْنَاءُ، وَهِيَ فِي الْبَيْعِ: أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، كَشَجَرَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ أَشْجَارٍ بِيعَتْ، صَحَّ الْبَيْعُ. وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً كَبَعْضِ الأْشْجَارِ، لَمْ يَصِحَّ  .

فَوَضَعَ الْفُقَهَاءُ لِذَلِكَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، وَهِيَ: أَنَّ مَا جَازَ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ. وَعَلَّقَ عَلَيْهَا ابْنُ عَابِدِينَ قَوْلَهُ: هَذِهِ قَاعِدَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، مُفَرَّعٌ عَلَيْهَا مَسَائِلُ  .

وَأَشَارَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ، وَسَمَّاهَا صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ ضَابِطًا. فَقَالَ: وَضَابِطُ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا  .

96 - وَإِلَيْكَ بَعْضُ التَّطْبِيقَاتِ:

(أ) لَوْ بَاعَ هَذَا الْقَطِيعَ إِلاَّ شَاةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، لَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ، وَلأِنَّهُ مَبِيعٌ مَجْهُولٌ فَلَمْ يَصِحَّ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ شَاةً تَخْتَارُهَا مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ بُسْتَانًا إِلاَّ شَجَرَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ  .

وَمَالِكٌ - رحمه الله  - أَجَازَ ذَلِكَ، فَلِلْبَائِعِ عِنْدَهُ أَنْ يَبِيعَ الْبُسْتَانَ، وَيَسْتَثْنِيَ خَمْسًا مِنْ شَجَرَاتِهِ؛ لأِنَّ الْبَائِعَ - فِي الْغَالِبِ - يَعْرِفُ جَيِّدَ شَجَرِ بُسْتَانِهِ وَرَدِيئَهُ، فَلاَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ أَنَّهُ يَخْتَارُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ، بِخِلاَفِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يُتَوَهَّمُ فِيهِ التَّنَقُّلُ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَيُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ بَيْنَ الطَّعَامَيْنِ إِنْ كَانَا رِبَوِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا؛ لأِنَّ الْمُنْتَقِلَ إِلَيْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا، وَالشَّكُّ فِي التَّمَاثُلِ كَتَحَقُّقِ التَّفَاضُلِ، وَيُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ إِنْ كَانَا مَكِيلَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا  .

(ب) لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الْقَمْحِ وَنَحْوِهِ، إِلاَّ قَفِيزًا أَوْ رِطْلاً: - جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لأِنَّ الثُّنْيَا هُنَا مَعْلُومَةٌ، فَصَارَ كَمَا لَوِ اسْتَثْنَى مِنْهَا جُزْءًا مُشَاعًا - كَمَا سَيَأْتِي-.

وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّ الْمَبِيعَ إِنَّمَا عُلِمَ بِالْمُشَاهَدَةِ لاَ بِالْقَدْرِ، وَالاِسْتِثْنَاءُ يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمُشَاهَدَةِ، لأِنَّهُ لاَ يَدْرِي كَمْ يَبْقَى فِي حُكْمِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَمْ يَجُزْ  .

(ج) لَوْ بَاعَ هَذَا الْقَطِيعَ إِلاَّ شَاةً مُعَيَّنَةً، أَوْ بَاعَ هَذَا الْبُسْتَانَ إِلاَّ شَجَرَةً بِعَيْنِهَا جَازَ ذَلِكَ؛ لأِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومٌ، وَلاَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ. وَالْمَبِيعُ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، لِكَوْنِ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، فَانْتَفَى الْمُفْسِدُ  .

(د) - لَوْ بَاعَ الصُّبْرَةَ إِلاَّ أَرْطَالاً مَعْلُومَةً: - جَازَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأِنَّهُ يَصِحُّ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَبْقَى أَكْثَرُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى، وَيَكُونُ اسْتِثْنَاءَ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ، كَمَا لَوِ اسْتَثْنَى رِطْلاً وَاحِدًا. وَكَذَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ لَوْ كَانَ اسْتِثْنَاءُ الأْرْطَالِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ ثَمَرٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ  .

وَعِنْدَ أَحْمَدَ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ الأْقْيَسُ بِمَذْهَبِهِ - لاَ يَجُوزُ هُنَا كَمَا فِي الصُّورَةِ الأْولَى، إِنْ جَهِلَ الْمُتَعَاقِدَانِ كَمِّيَّةَ أَرْطَالِهَا، لأِنَّ الْجَهْلَ بِذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِمَا يَبْقَى بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى  .

(هـ) لَوِ اسْتَثْنَى جُزْءًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ بَلْ شَائِعًا، كَرُبُعٍ وَثُلُثٍ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِالاِتِّفَاقِ، لِلْعِلْمِ بِالْمَبِيعِ فِي أَجْزَائِهِ، وَلِصِحَّةِ إِيرَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا  .

(و) َلَوْ بَاعَهُ أَرْضًا أَوْ دَارًا أَوْ ثَوْبًا، إِلاَّ ذِرَاعًا:

فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ: إِذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ يَعْلَمَانِ عِدَّةَ أَذْرُعِ الأْرْضِ أَوِ الدَّارِ أَوِ الثَّوْبِ، كَعَشَرَةٍ - مَثَلاً - صَحَّ الْبَيْعُ، وَكَانَ الْمَذْكُورُ مُشَاعًا فِيهَا، كَأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْعَشَرَ، وَإِنْ كَانَا لاَ يَعْلَمَانِ (كِلاَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا) لَمْ يَصِحُّ؛ لأِنَّ الْمَبِيعَ لَيْسَ مُعَيَّنًا وَلاَ مُشَاعًا، فَيَكُونُ مَجْهُولاً  .

97 - وَيُمْكِنُ تَطْبِيقُ قَاعِدَةِ: مَا جَازَ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْعَقْدِ، عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَهِيَ: مَا إِذَا بَاعَهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ هِيَ مِائَةُ ذِرَاعٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَمْ لاَ:

فَأَبُو حَنِيفَةَ لاَ يُجِيزُ الْعَقْدَ لِجَهَالَةِ الْمَوْضِعِ؛ لأِنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الأْرْضِ لاَ عَلَى شَائِعٍ، وَالدَّارُ تَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهَا وَأَجْزَاؤُهَا، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إِلَى النِّزَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ، لِعَدَمِ تَفَاوُتِ أَجْزَائِهَا.

وَالصَّاحِبَانِ يَقُولاَنِ: إِذَا سَمَّى جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ صَحَّ، وَإِلاَّ لَمْ يَصِحَّ، لِلْجَهَالَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ -

وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا جَوَازُ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَا جُمْلَةَ مِسَاحَةِ الأْرْضِ بِالذُّرْعَانِ؛ لأِنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ بِيَدِهِمَا إِزَالَتُهَا فَتُقَاسُ وَتُعْلَمُ نِسْبَةُ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ مِنْهَا، وَيَكُونُ الْبَيْعُ شَائِعًا فِي الأْرْضِ كُلِّهَا  .

وَإِذَا صَحَّ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى الْعَشَرَةِ، جَازَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْهُ.

98 - لَوْ بَاعَ شَاةً وَاسْتَثْنَى حَمْلَهَا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوِ اسْتَثْنَى بَعْضَ أَعْضَائِهَا، لأِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِفْرَادُ الْمَذْكُورِ بِالْعَقْدِ، فَكَذَا لاَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، فَصَارَ شَرْطًا فَاسِدًا - كَمَا يَقُولُ ابْنِ عَابِدِينَ - وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ  .

وَجَوَّزَ الْحَنَابِلَةُ اسْتِثْنَاءَ رَأْسِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَجِلْدِهِ وَسَوَاقِطِهِ وَسَلَبِهِ وَأَطْرَافِهِ، لأِنَّ «النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ - أَيْ مُهَاجِرًا - إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ رضي الله عنهما مَرُّوا بِرَاعِي غَنْمٍ، فَاشْتَرَيَا مِنْهُ شَاةً، وَشَرَطَا لَهُ سَلَبَهَا  » وَيُلْحَقُ الْحَضَرُ بِالسَّفَرِ عِنْدَهُمْ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ. وَعَنْ مَالِكٍ صِحَّةُ اسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورَاتِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ؛ لأِنَّ الْمُسَافِرَ لاَ يُمْكِنُهُ الاِنْتِفَاعُ بِالْجِلْدِ وَالسَّوَاقِطِ، فَجُوِّزَ لَهُ شِرَاءُ اللَّحْمِ دُونَهَا  .

أَسْبَابُ النَّهْيِ غَيْرِ الْعَقْدِيَّةِ:

99 - وَيُرَادُ بِهَا: مَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ، وَلاَ بِوَصْفٍ مُلاَزِمٍ لِلْعَقْدِ بِحَيْثُ لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ، فَمَا هُوَ بِرُكْنٍ وَلاَ بِشَرْطٍ  .

وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ هَذِهِ الأْسْبَابِ  إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ:

النَّوْعُ الأْوَّلُ: مَا يُؤَدِّي إِلَى تَضْيِيقٍ أَوْ إِيذَاءٍ أَوْ ضَرَرٍ: مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ. وَذَلِكَ كَالْغَبْنِ، وَبَيْعِ الْمُسْلِمِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَبَيْعِ السِّلاَحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ.

النَّوْعُ الآْخَرُ: مَا يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةٍ دِينِيَّةٍ بَحْتَةٍ، أَوْ عِبَادِيَّةٍ مَحْضَةٍ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ، وَبَيْعِ الْمُصْحَفِ مِنَ الْكَافِرِ.

النَّوْعُ الأْوَّلُ: الأْسْبَابُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الضَّرَرِ الْمُطْلَقِ

100 - مِنْ أَهَمِّ مَا يَشْمَلُهُ هَذَا النَّوْعُ، الْبُيُوعُ الآْتِيَةُ:

أ - التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الأْمِّ وَبَيْنَ وَلَدِهَا فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ:

101 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ هَذَا الْبَيْعِ، لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ فِي السُّنَّةِ فَمِنْ ذَلِكَ: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «مَلْعُونٌ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا»  .

وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»  .

مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ هَذَا التَّفْرِيقِ:

102 - هَذَا التَّفْرِيقُ غَيْرُ جَائِزٍ - بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَعَلَى التَّفْصِيلِ الآْتِي فِي أَحْوَالِهِ - عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ:

مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بِالْبَيْعِ حَرَامٌ.

وَعِنْدَ مَالِكٍ: يَجِبُ فَسْخُهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُهُمَا فِي حَوْزٍ (أَوْ مِلْكٍ وَاحِدٍ). عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا سَيَأْتِي:

وَعِنْدَهُمَا (الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ): الْبَيْعُ بَاطِلٌ.

وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يُمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيقِ.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ مُفِيدٌ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَالْبَائِعُ آثِمٌ بِالتَّفْرِيقِ.

وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ، جَائِزٌ فِي سَائِرِ ذَوِي الأْرْحَامِ.

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.

وَتَفْصِيلُ أَدِلَّةِ هَذِهِ الاِتِّجَاهَاتِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِق).

103 - هَذَا وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَعْمِيمُ التَّحْرِيمِ، بِحَيْثُ يَشْمَلُ كُلَّ تَفْرِيقٍ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَصْرُهُ عَلَى التَّفْرِيقِ بِالْبَيْعِ بَيْنَ الأْمِّ الْوَالِدَةِ وَبَيْنَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُثْغِرْ (أَيْ لَمْ يُبَدِّلْ أَسْنَانَهُ) فَقَطْ.

وَالشَّافِعِيَّةُ قَصَرُوهُ عَلَى قَرَابَةِ الْوِلاَدِ مَهْمَا نَزَلَ، إِذَا كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا حَتَّى يُمَيِّزَ وَيَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ، فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ سَبْعَ سِنِينَ  .

وَتَفْصِيلُ الأْدِلَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (رِق).

حُكْمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أُمِّهِ:

104 - الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، جَوَازُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ وَبَيْنَ أُمِّهِ، وَأَنَّ التَّفْرِيقَ الْمَمْنُوعَ خَاصٌّ بِالْعَاقِلِ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْهُمْ: الْمَنْعُ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الأْمِّ وَبَيْنَ وَلَدِهَا فِي الْحَيَوَانِ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ أُمِّهِ بِالرَّعْيِ.

فَعَلَى هَذَا، لَوْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ لَمْ يُفْسَخْ. وَيُجْبَرَانِ عَلَى جَمْعِهِمَا فِي حَوْزٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَتَفْرِيقِ الْعَاقِلِ  .

105 - وَهَذَا الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، الَّذِينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَوَلَدِهَا حَرَامٌ.

ثُمَّ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَالُوا:

يُكْرَهُ ذَبْحُ الأْمِّ الَّتِي اسْتَغْنَى الْوَلَدُ عَنْ لَبَنِهَا، وَيَحْرُمُ ذَبْحُهَا إِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ لَبَنِهَا، وَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَلاَ التَّصَرُّفُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَيَوَانُ مَأْكُولاً وَذَبْحُ الصَّغِيرِ وَهُوَ مَأْكُولٌ حَلاَلٌ قَطْعًا. وَبَيْعُهُ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَذْبَحُهُ قَبْلَ اسْتِغْنَائِهِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الأْمِّ قَبْلَ اسْتِغْنَائِهِ بَاطِلٌ - وَإِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِحِلِّهِ - لأِنَّهُ رُبَّمَا لاَ يَقَعُ الذَّبْحُ حَالاً أَوْ أَصْلاً، فَيُوجَدُ الْمَحْذُورُ، وَشَرْطُ الذَّبْحِ عَلَى الْمُشْتَرِي غَيْرُ صَحِيحٍ  .

نَعَمْ، إِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ نَذَرَ ذَبْحَهُ، وَشَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الذَّبْحَ، صَحَّ الْبَيْعُ وَكَانَ ذَلِكَ افْتِدَاءً، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي ذَبْحُهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ ذَبَحَهُ الْقَاضِي، وَفَرَّقَهُ الذَّابِحُ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَبَيْعُ الْوَلَدِ الْمُسْتَغْنِي عَنْ أُمِّهِ مَكْرُوهٌ إِلاَّ لِغَرَضِ الذَّبْحِ. وَذَبْحُهُمَا كِلَيْهِمَا لاَ يَحْرُمُ  .

وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب - بَيْعُ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا:

106 - الْمُرَادُ بِالْعَصِيرِ: عَصِيرُ الْعِنَبِ، أَيْ مَعْصُورُهُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ هَذَا الْبَيْعِ، وَهُوَ الأْصَحُّ  وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَيْلُولَتَهُ إِلَى الْخَمْرِ، فَإِنْ شَكَّ كُرِهَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ لِلصَّاحِبَيْنِ - أَشَارَ الْحَصْكَفِيُّ لِتَضْعِيفِهِ - بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَالْكَرَاهَةُ إِنْ أُطْلِقَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلتَّحْرِيمِ  .

وَعِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ: وَحُرِّمَ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا. وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى(وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإْثْمِ وَالْعُدْوَانِ) قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ «لُعِنَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: بِعَيْنِهَا، وَعَاصِرِهَا، وَمُعْتَصِرِهَا، وَبَائِعِهَا، وَمُبْتَاعِهَا، وَحَامِلِهَا، وَالْمَحْمُولَةِ إِلَيْهِ، وَآكِلِ ثَمَنِهَا، وَشَارِبِهَا، وَسَاقِيهَا  ».

وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَلِ كَمَا يَقُولُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّسَبُّبِ إِلَى الْحَرَامِ  .

وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ قَيِّمًا كَانَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه فِي أَرْضٍ لَهُ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ عِنَبٍ أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ زَبِيبًا، وَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يُبَاعَ إِلاَّ لِمَنْ يَعْصِرُهُ، فَأَمَرَهُ بِقَلْعِهِ، وَقَالَ: بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إِنْ بِعْتُ الْخَمْرَ. وَلأِنَّهُ يُعْقَدُ الْبَيْعُ عَلَى عَصْرٍ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ لِلْمَعْصِيَةِ، فَأَشْبَهَ إِجَارَةَ الرَّجُلِ أَمَتَهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِيَزْنِيَ بِهَا  .

وَالْقَوْلُ الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَنَقَلَ عَنْ هَذَا قَوْلَهُ: «بِعِ الْحَلاَلَ مِمَّنْ شِئْتَ» وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) وَقَدْ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ.

وَلأِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ، بَلْ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ بِشُرْبِهِ، وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَيْسَ الشُّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ؛ لأِنَّ الشُّرْبَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الْحَمْلِ، وَلَيْسَ الْحَمْلُ مِنْ ضَرُورَاتِ الشُّرْبِ، لأِنَّ الْحَمْلَ قَدْ يُوجَدُ لِلإْرَاقَةِ وَالتَّخْلِيلِ بِالصَّبِّ فِي الْخَلِّ، فَلَيْسَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْحَمْلِ، وَصَارَ كَالاِسْتِئْجَارِ لِعَصْرِ الْعِنَبِ، وَهَذَا قِيَاسٌ وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ كَمَا قَالَ الْكَرْلاَنِيُّ. لَكِنْ يَبْدُو أَنَّ الْمَذْهَبَ - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا، وَأَنَّهُ خِلاَفُ الأْوْلَى، فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا وَكَلِمَةُ لاَ بَأْسَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى.

وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا، هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتُونُ.

اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْبَائِعِ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي اتِّخَاذَ الْعَصِيرِ لِلْخَمْرِ:

107 - اشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ لِلْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْبَيْعِ: أَنْ يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي اتِّخَاذَ الْخَمْرِ مِنَ الْعَصِيرِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يُكْرَهْ بِلاَ خِلاَفٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْقُهُسْتَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ صَرِيحُ كَلاَمِ الْمَرْغِينَانِيِّ الآْنِفِ الذِّكْرِ.

وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ إِذَا عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ: إِمَّا بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا بِقَرَائِنَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَاكْتَفَوْا بِظَنِّ الْبَائِعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَعْصِرُ خَمْرًا أَوْ مُسْكِرًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ  .

108 - أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْبَائِعُ بِحَالِ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَعْمَلُ الْخَلَّ وَالْخَمْرَ مَعًا، أَوْ كَانَ الْبَائِعُ يَشُكُّ فِي حَالِهِ، أَوْ يَتَوَهَّمُ:

فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الْجَوَازُ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ فِي حَالِ الشَّكِّ أَوِ التَّوَهُّمِ مَكْرُوهٌ  .

حُكْمُ بَيْعِ الْعَصِيرِ لِذِمِّيٍّ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا:

109 - إِنَّ مُقْتَضَى الْعُمُومِ وَالإْطْلاَقِ فِي مَنْعِ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَكَذَا مَا عَلَّلَتْهُ الشُّرُوحُ - كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ - أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ مِنْهُمَا، وَأَنَّ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، يَرَوْنَ جَوَازَ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِنَ الْكَافِرِ. وَالأْصَحُّ  أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ وَلاَ فَرْقَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا.

وَالشَّافِعِيَّةُ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَقَالُوا بِحُرْمَةِ الْبَيْعِ لِلْعَاصِرِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا، لِحُرْمَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كُنَّا لاَ نَتَعَرَّضُ لَهُ بِشَرْطِهِ، أَيْ عَدَمَ إِظْهَارِهِ  .

الْحُكْمُ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ وَشُمُولِهِ لِغَيْرِهِ:

110 - عَمَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحُكْمَ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَلَمْ يُقْصِرُوهُ عَلَى الْعَصِيرِ، بَلْ عَدَّوْهُ إِلَى الْعِنَبِ نَفْسِهِ وَإِلَى الرُّطَبِ وَالزَّبِيبِ، فَهِيَ مِثْلُ الْعَصِيرِ فِي التَّحْرِيمِ، كُلَّمَا قُصِدَ بِهَا اتِّخَاذُ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَبَيْعُ نَحْوِ رُطَبٍ، كَعِنَبٍ، لِمُتَّخِذِهِ مُسْكِرًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا قُصِدَ بِهِ الْحَرَامُ، كَعِنَبٍ وَكَعَصِيرٍ لِمُتَّخِذِهِمَا خَمْرًا، وَكَذَا زَبِيبٌ وَنَحْوُهُ  .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَكَذَا يُمْنَعُ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ، عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لاَ يَجُوزُ.

وَتَرَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ: - فَذَهَبَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْهُمْ إِلَى: أَنَّ بَيْعَ الْعِنَبِ وَالْكَرْمِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا لاَ يُكْرَهُ. - وَنَقَلَ الْقُهُسْتَانِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ بَيْعَ الْعِنَبِ هُوَ أَيْضًا عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.

فَعِنْدَهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا. وَعِنْدَهُمَا يُمْنَعُ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا  .

حُكْمُ بَيْعِ الْعَصِيرِ لِمُتَّخِذِهِ خَمْرًا، مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْبُطْلاَنُ:

111 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ: إِلَى صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ. وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ النَّهْيَ - الْمُسْتَفَادَ مِنْ حَدِيثِ لَعْنِ الْعَاصِرِ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ أَوِ التَّحْرِيمَ؛ لأِنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ لِمَعْصِيَةٍ مُتَحَقِّقَةٍ أَوْ مُتَوَهَّمَةٍ - لاَ يَقْتَضِي الْبُطْلاَنَ هُنَا، لأِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَعَنْ لاَزِمِهَا، لَكِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِهِ، نَظِيرُ الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِذَاتِهِ لاَ لاَزِمِهَا، بَلْ هُوَ لِخَشْيَةِ تَفْوِيتِهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ  .

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَنَصُّوا عَلَى: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ، بِأَنْ عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي الْخَمْرِ بِشِرَاءِ الْعِنَبِ، بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ الْعِلْمُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا فَلَمْ يَصِحَّ، وَلأِنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ  .

بَيْعُ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِعْلُ مُحَرَّمٍ:

112 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْحَرَامُ، وَكُلَّ تَصَرُّفٍ يُفْضِي إِلَى مَعْصِيَةٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَيَمْتَنِعُ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لاَ يَجُوزُ  .

113 - فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: بَيْعُ الأْمَةِ لأِهْلِ الْفَسَادِ، وَالأْرْضِ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً أَوْ خَمَّارَةً، وَبَيْعُ الْخَشَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ صَلِيبًا، وَالنُّحَاسُ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ نَاقُوسًا.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَكَذَا يُمْنَعُ أَنْ يُبَاعَ لِلْحَرْبِيَّيْنِ آلَةُ الْحَرْبِ، مِنْ سِلاَحٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ سَرْجٍ، وَكُلُّ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ فِي الْحَرْبِ، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ خِبَاءٍ أَوْ مَاعُونٍ.

وَأَمَّا بَيْعُ الطَّعَامِ لَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ يُونُسَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ: يَجُوزُ فِي الْهُدْنَةِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْهُدْنَةِ فَلاَ يَجُوزُ. وَالَّذِي فِي الْمِعْيَارِ عَنِ الشَّاطِبِيِّ: أَنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الَّذِي عَزَاهُ ابْنُ فَرْحُونَ فِي التَّبْصِرَةِ، وَابْنُ جُزَيٍّ فِي الْقَوَانِينِ لاِبْنِ الْقَاسِمِ.

 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثاني والثلاثون ، الصفحة /  119

أَسْبَابُ الْفَسَادِ فِي الْمُعَامَلاَتِ:

6 -لاَ يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ كَالصَّلاَةِ بِدُونِ طَهَارَةٍ، أَمْ فِي النِّكَاحِ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، أَمْ فِي عُقُودِ الْمُعَامَلاَتِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ - ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ يَدُلاَّنِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ عَلَى خِلاَفِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ الأْثَرَ ال الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى الْفِعْلِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَأَسْبَابُ الْفَسَادِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ أَسْبَابُ الْبُطْلاَنِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْفِعْلِ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، أَوْ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ الْوَصْفِ الْمُلاَزِمِ لِلْفِعْلِ، أَوْ عَنِ الْوَصْفِ الْمُجَاوِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .

يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ: أَسْبَابُ الْفَسَادِ الْعَامَّةُ فِي الْبَيْعِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: تَحْرِيمُ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَالثَّانِي: الرِّبَا، وَالثَّالِثُ: الْغَرَرُ، وَالرَّابِعُ: الشُّرُوطُ الَّتِي تَئُولُ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لِمَجْمُوعِهِمَا .

وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، عَلَى أَسَاسِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَصْلِ الْعَقْدِ وَوَصْفِهِ.

وَأَسْبَابُ الْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ حُدُوثُ خَلَلٍ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، بِأَنْ تَخَلَّفَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ.

أَمَّا أَسْبَابُ الْفَسَادِ، فَهِيَ حُدُوثُ خَلَلٍ فِي وَصْفِ الْعَقْدِ مَعَ سَلاَمَةِ الْمَاهِيَّةِ، فَإِذَا اخْتَلَّ الْوَصْفُ: بِأَنْ دَخَلَ الْمَحَلَّ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لاَ بَاطِلٌ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد) وَفِي الْمُلْحَقِ الأْصُولِيٍ.

التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي فَرَّقَ فِيهَا الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ:

7 -الأْصْلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ:

فَالْمَالِكِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ .

وَالشَّافِعِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي عُقُودٍ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: الْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ عِنْدَنَا، وَاسْتَثْنَى النَّوَوِيُّ: الْحَجَّ وَالْخُلْعَ وَالْكِتَابَةَ وَالْعَارِيَّةَ .

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ فِي الْوَكَالَةِ وَالإْجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ .

قَالَ ابْنُ اللَّحَّامِ الْحَنْبَلِيُّ: الْبُطْلاَنُ وَالْفَسَادُ عِنْدَنَا مُتَرَادِفَانِ... ثُمَّ قَالَ: إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا مَسَائِلَ فَرَّقُوا فِيهَا بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ ثُمَّ ذَكَرَ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِلْمَسَائِلِ الَّتِي فَرَّقُوا فِيهَا بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الأْصُوليَِ .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَسَادِ مِنْ أَحْكَامٍ:

8- يَتَعَلَّقُ بِالْفَسَادِ أَحْكَامٌ أَوْرَدَهَا الْفُقَهَاءُ فِي صُورَةِ قَوَاعِدَ فِقْهِيَّةٍ أَوْ أَحْكَامٍ لِلْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، مِنْهَا:

أَوَّلاً - فَسَادُ الْمُتَضَمِّنِ يُوجِبُ فَسَادَ الْمُتَضَمَّنِ:

9-هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنْهَا ابْنُ نُجَيْمٍ بِلَفْظٍ آخَرَ هُوَ: (الْمَبْنِيُّ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ) وَوَضَّحُوا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَقَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، وَيَجِبُ قَطْعُهَا لِلْحَالِ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ الشَّجَرَ إِلَى وَقْتِ الإْدْرَاكِ  بَطَلَتِ الإْجَارَةُ؛ لأِنَّهُ لاَ تَعَامُلَ فِي إِجَارَةِ الأْشْجَارِ  الْمُجَرَّدَةِ، فَلاَ يَجُوزُ، وَطَابَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ - وَهِيَ مَا زَادَ فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ - وَذَلِكَ لِبَقَاءِ الإْذْنِ.

وَلَوِ اسْتَأْجَرَ الأْرْضَ  إِلَى أَنْ يُدْرِكَ الزَّرْعُ - أَيْ إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِهِ - فَسَدَتِ الإْجَارَةُ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ، وَلَمْ تَطِبِ الزِّيَادَةُ لِفَسَادِ الإْذْنِ بِفَسَادِ الإْجَارَةِ ، وَفَسَادُ الْمُتَضَمِّنِ يُوجِبُ فَسَادَ الْمُتَضَمَّنِ، بِخِلاَفِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّهُ مَعْدُومٌ شَرْعًا أَصْلاً وَوَصْفًا فَلاَ يَتَضَمَّنُ شَيْئًا، فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهُ عِبَارَةً عَنِ الإْذْنِ.

وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الْفَاسِدَ لَهُ وُجُودٌ؛ لأِنَّهُ فَائِتُ الْوَصْفِ دُونَ الأْصْلِ ، فَكَانَ الإْذْنُ  ثَابِتًا فِي ضِمْنِهِ، فَيَفْسُدُ، أَمَّا الْبَاطِلُ فَلاَ وُجُودَ لَهُ أَصْلاً، فَلَمْ يُوجَدْ إِلاَّ الإْذْنُ .

وَفِي حَاشِيَةِ الشَّلَبِيِّ عَلَى الزَّيْلَعِيِّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الإْذْنِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الإْجَارَةِ  الْبَاطِلَةِ وَبَيْنَهُ فِي ضِمْنِ الإْجَارَةِ  الْفَاسِدَةِ: أَنَّ الإْذْنَ  فِي الإْجَارَةِ  الْبَاطِلَةِ صَارَ أَصْلاً مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ؛ لأِنَّ  الْبَاطِلَ لاَ وُجُودَ لَهُ، وَالْمَعْدُومَ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الإْجَارَةُ الْفَاسِدَةُ، لأِنَّ  الْفَاسِدَ لَيْسَ مَعْدُومًا بِأَصْلِهِ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا، فَإِذَا فَسَدَ الْمُتَضَمِّنُ فَسَدَ الْمُتَضَمَّنُ .

وَالْحُكْمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَظْهَرُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يُفَرِّقُونَ فِيهَا بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ، كَالْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلإْذْنِ، مِثْلِ الشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْوَكَالَةِ، فَهَذِهِ الْعُقُودُ لاَ يَمْنَعُ فَسَادُهَا صِحَّةَ تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ لِبَقَاءِ الإْذْنِ.

فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: الْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلإْذْنِ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَأْذُونِ صَحَّتْ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ إِذَا أَفْسَدْنَاهَا فَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ، صَحَّ لِوُجُودِ الإْذْنِ، وَطَرَدَهُ الإْمَامُ فِي سَائِرِ صُوَرِ الْفَسَادِ .

وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ لاَ يَمْنَعُ فَسَادُهَا نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالإْذْنِ .

وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ لأِنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ بَقِيَ الإْذْنُ ، فَمَلَكَ بِهِ التَّصَرُّفَ .

وَقَوَاعِدُ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ .

ثَانِيًا - الْمِلْكُ:

10-التَّصَرُّفُ الْفَاسِدُ لاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: الْفَاسِدُ لاَ يُمْلَكُ فِيهِ شَيْءٌ، وَيَلْزَمُهُ الرَّدُّ وَمُؤْنَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ لِقَبْضِ الْبَدَلِ، وَلاَ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ إِنْ عَلِمَ الْفَسَادَ، وَكَذَا إِنْ جَهِلَ فِي الأْصَحِّ.

وَيُسْتَثْنَى صُورَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ فِيهَا أَكْسَابَهُ.

الثَّانِيَةُ: إِذَا صَالَحْنَا كَافِرًا بِمَالٍ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ، فَدَخَلَ وَأَقَامَ، فَإِنَّا نَمْلِكُ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ .

وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ حَكَمْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مِلْكٌ، سَوَاءٌ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ، وَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِبَيْعٍ وَلاَ هِبَةٍ وَلاَ عِتْقٍ وَلاَ غَيْرِهِ .

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمْ بِالْقَبْضِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَيَمْلِكُ الْقَابِضُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مِلْكٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، لأِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مَضْمُونٌ .

وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: الأْصْلُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَنَّ كُلَّ مَا يُمْلَكُ بِبَيْعٍ جَائِزٍ يُمْلَكُ بِفَاسِدٍ، فَلَوْ شَرَى قِنًّا بِخَمْرٍ - وَهُمَا مُسْلِمَانِ - مَلَكَ الْقِنَّ مُشْتَرِيهِ بِقَبْضِهِ بِإِذْنٍ، وَلاَ يَمْلِكُ الْبَائِعُ الْخَمْرَ .

وَالْهِبَةُ الْفَاسِدَةُ تُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، وَبِهِ يُفْتَى، وَهِيَ مَضْمُونَةٌ .

وَالْمَقْبُوضُ بِالْقِسْمَةِ الْفَاسِدَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ وَيَنْفُذُ التَّصَرُّفُ، كَالْمَقْبُوضِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ .

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَتَقَرَّرُ الْمِلْكُ فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ بِالْفَوَاتِ:

يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: الْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ عِنْدَ مَالِكٍ تَنْقَسِمُ إِلَى مُحَرَّمَةٍ وَإِلَى مَكْرُوهَةٍ: فَأَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ مَضَتْ بِالْقِيمَةِ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهَةُ فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ صَحَّتْ عِنْدَهُ، وَرُبَّمَا صَحَّ عِنْدَهُ بَعْضُ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ بِالْقَبْضِ، لِخِفَّةِ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ .

ثَالِثًا - الضَّمَانُ:

11 -يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةَ تُرَدُّ إِلَى حُكْمِ صَحِيحِهَا بِالنِّسْبَةِ لِلضَّمَانِ وَعَدَمِهِ، فَإِنِ اقْتَضَى التَّصَرُّفُ الصَّحِيحُ الضَّمَانَ فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ، وَإِنِ اقْتَضَى عَدَمَ الضَّمَانِ فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ .

وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَاعِدَةٌ شَبِيهَةٌ بِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ: الأْصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا قُبِضَ بِجِهَةِ التَّمَلُّكِ ضُمِنَ، وَكُلَّ مَا قُبِضَ لاَ بِجِهَةِ التَّمَلُّكِ لَمْ يُضْمَنْ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَان ف 35، وَمَا بَعْدَهَا).

رَابِعًا - سُقُوطُ الْمُسَمَّى فِي التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةِ:

12 - الْوَاجِبُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا تَسْمِيَةُ نَحْوِ الأْجْرِ  أَوِ الرِّبْحِ أَوِ الْمَهْرِ، هُوَ الْمُسَمَّى، فَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ، فَإِنَّ الْمُسَمَّى يَسْقُطُ، وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ إِذَا سَقَطَ الْمُسَمَّى  وَمِنْ ذَلِكَ:

أ - الإْجَارَةُ:

13 - إِذَا فَسَدَتِ الإْجَارَةُ وَاسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، أَيْ وَلَوْ زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَنِ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي: (إِجَارَة ف 43 - 44).

ب - الْمُضَارَبَةُ:

14 -الْوَاجِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ الرِّبْحُ الْمُسَمَّى لِلْمُضَارِبِ، فَإِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى، لأِنَّهَا  تَسْمِيَةٌ لَمْ تَصِحَّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ إِذَا عَمِلَ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ جَمِيعُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، لأِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ.

وَالْمُضَارِبُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، سَوَاءٌ أَرَبِحَتِ الْمُضَارَبَةُ أَمْ لَمْ تَرْبَحْ، لأِنَّهُ عَمِلَ طَامِعًا فِي الْمُسَمَّى، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ رَدُّ عَمَلِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ وَهِيَ الأْجْرَةُ.

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرَ أَبِي يُوسُفَ - وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ غَيْرَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ .

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا لِلْمُضَارِبِ قِرَاضَ الْمِثْلِ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ، وَأُجْرَةَ الْمِثْلِ فِيمَا عَدَاهَا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ضَابِطٌ، هُوَ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِرَاضِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَأَمَّا إِنْ شَمَلَهَا الْقِرَاضُ، لَكِنِ اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ، فَفِيهَا قِرَاضُ الْمِثْلِ .

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مُضَارَبَة)

ج - النِّكَاحُ:

15 - الْمَهْرُ يَسْقُطُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ - سَوَاءٌ اتُّفِقَ عَلَى فَسَادِهِ أَمْ لاَ - إِذَا حَصَلَ التَّفْرِيقُ قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .

 هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا نِصْفُ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ، كَمَا إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَضَاعًا مُحَرِّمًا بِلاَ بَيِّنَةٍ، وَكَذَّبَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ النِّكَاحُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .

وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِالدُّخُولِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» .

فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم لَهَا الْمَهْرَ فِيمَا لَهُ حُكْمُ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَعَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَاجِبِ مِنَ الْمَهْرِ، هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوِ الأْقَلُّ  مِنْهُمَا؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرَ زُفَرَ - لَهَا الأْقَلُّ  مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنَ الْمُسَمَّى.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى كَنِكَاحِ الشِّغَارِ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَهَا الْمُسَمَّى فِي الْفَاسِدِ (وَهُوَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ) وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْبَاطِلِ (وَهُوَ مَا اتُّفِقَ عَلَى فَسَادِهِ) .

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (مَهْر - نِكَاح).

خَامِسًا: الْفَسَادُ فِي الأْشْيَاءِ  الْمَادِّيَّةِ:

16 - يَرِدُ الْفَسَادُ فِي الأْشْيَاءِ  الْمَادِّيَّةِ كَعَطَبِ الأْطْعِمَةِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، كَمَا فِي الرَّهْنِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْتِقَاطُهَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهَا عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ يُوجِبُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ:

17 -ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ إِنْ أَمْكَنَ تَجْفِيفُهُ، كَرُطَبٍ وَعِنَبٍ يَتَجَفَّفَانِ، فَإِنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ وَلَكِنْ رُهِنَ بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ لَكِنَّهُ يَحِلُّ قَبْلَ الْفَسَادِ وَلَوِ احْتِمَالاً جَازَ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَجْفِيفُهُ وَرُهِنَ بِمُؤَجَّلٍ يَحِلُّ بَعْدَ فَسَادِهِ أَوْ مَعَهُ، لَمْ يَجُزْ إِلاَّ إِنْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ خَوْفِ فَسَادِهِ، وَأَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا.

وَلَوْ رُهِنَ مَا لاَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فَحَدَثَ قَبْلَ الأْجَلِ  مَا عَرَّضَهُ لِلْفَسَادِ - كَحِنْطَةٍ ابْتَلَتْ وَتَعَذَّرَ تَجْفِيفُهَا - لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ، بَلْ يُبَاعُ وُجُوبًا وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ رَهْنًا .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إِصْلاَحُهُ بِالتَّجْفِيفِ كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، أَوْ لاَ يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ كَالْبِطِّيخِ وَالطَّبِيخِ.

ثُمَّ إِنْ كَانَ مِمَّا يُجَفَّفُ، فَعَلَى الرَّاهِنِ تَجْفِيفُهُ، لأِنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ حِفْظِهِ وَتَبْقِيَتِهِ، فَيَلْزَمُ الرَّاهِنَ كَنَفَقَةِ الْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُجَفَّفُ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُقْضَى الدَّيْنُ مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ كَانَ حَالًّا، أَوْ يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لاَ يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ، جُعِلَ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، سَوَاءٌ شُرِطَ فِي الرَّهْنِ بَيْعُهُ أَوْ أُطْلِقَ، لأِنَّ  الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لأِنَّ  الْمَالِكَ لاَ يُعَرِّضُ مِلْكَهُ لِلتَّلَفِ وَالْهَلاَكِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ حِفْظُهُ فِي بَيْعِهِ حُمِلَ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الْعَقْدِ، كَتَجْفِيفِ مَا يَجِفُّ، وَأَمَّا إِذَا شَرَطَ أَنْ لاَ يُبَاعَ فَلاَ يَصِحُّ، لأِنَّهُ شَرَطَ مَا يَتَضَمَّنُ فَسَادَهُ وَفَوَاتَ الْمَقْصُودِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُجَفَّفَ مَا يَجِفُّ.

وَفِي وَجْهٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ أَطْلَقَ لاَ يَصِحُّ.

وَإِذَا شَرَطَ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعَهُ، أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الرَّاهِنُ أَوْ غَيْرُهُ، بَاعَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ بَاعَهُ الْحَاكِمُ وَجَعَلَ ثَمَنَهُ رَهْنًا، وَلاَ يُقْضَى الدَّيْنُ مِنْ ثَمَنِهِ، لأِنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَعْجِيلُ وَفَاءِ الدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ رَهَنَهُ ثِيَابًا يُخَافُ فَسَادُهَا، كَالصُّوفِ، قَالَ أَحْمَدُ فِيمَنْ رَهَنَ ثِيَابًا يُخَافُ فَسَادُهَا كَالصُّوفِ: أَتَى السُّلْطَانَ فَأَمَرَهُ بِبَيْعِهَا .

وَنَقَلَ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الذَّخِيرَةِ: لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ ثَمَرَةِ الرَّهْنِ وَإِنْ خَافَ تَلَفَهَا، لأِنَّ  لَهُ وِلاَيَةَ الْحَبْسِ لاَ الْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ رَفْعُهُ إِلَى الْقَاضِي، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لاَ يُمْكِنُهُ الرَّفْعُ لِلْقَاضِي أَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ بِحَالٍ يَفْسُدُ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يُبِحِ الرَّاهِنُ لَهُ الْبَيْعَ.

وَفِي الْبِيرِيِّ عَنِ الْوَلْوَالِجِيَّةِ: وَيَبِيعُ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، وَيَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِهِ، قَالَ الْبِيرِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا جَوَازُ بَيْعِ الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا تَدَاعَتْ لِلْخَرَابِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الأْصْلُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الْمَرْهُونِ إِلاَّ إِنْ خَشِيَ فَسَادَهُ، فَإِنْ خَشِيَ فَسَادَهُ جَازَ بَيْعُهُ .

ب - الْتِقَاطُ مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ:

18 -مَنِ الْتَقَطَ مَا لاَ يَبْقَى وَيَفْسُدُ بِالتَّأْخِيرِ، كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْفَوَاكِهِ، فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهُ إِلَى أَنْ يَخْشَى فَسَادَهُ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ خَوْفًا مِنَ الْفَسَادِ.

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأْوْلَى  عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنِ الْتَقَطَ شَيْئًا مِمَّا يُسْرِعُ فَسَادُهُ وَلاَ يَبْقَى بِعِلاَجٍ، فَإِنَّ آخِذَهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ خَصْلَتَيْنِ: فَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ اسْتِقْلاَلاً إِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، وَبِإِذْنِهِ إِنْ وَجَدَهُ وَعَرَّفَ الْمَبِيعَ بَعْدَ بَيْعِهِ لِيَتَمَلَّكَ ثَمَنَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ شَاءَ تَمَلَّكَهُ فِي الْحَالِ وَأَكَلَهُ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ.

وَإِنْ أَمْكَنَ بَقَاءُ مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ بِعِلاَجٍ، كَرُطَبٍ يَتَجَفَّفُ، فَإِنْ كَانَتِ الْغِبْطَةُ فِي بَيْعِهِ بِيعَ جَمِيعُهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ إِنْ وَجَدَهُ، وَإِلاَّ بَاعَهُ اسْتِقْلاَلاً، وَإِنْ كَانَتِ الْغِبْطَةُ فِي تَجْفِيفِهِ وَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَاجِدُ لَهُ أَوْ غَيْرُهُ، جَفَّفَهُ، لأِنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ، فَرُوعِيَ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِتَجْفِيفِهِ بِيعَ بَعْضُهُ بِقَدْرِ مَا يُسَاوِي 

التَّجْفِيفَ لِتَجْفِيفِ الْبَاقِي، طَلَبًا لِلأْحَظِّ  .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنِ الْتَقَطَ مَا لاَ يَبْقَى عَامًا وَكَانَ مِمَّا لاَ يَبْقَى بِعِلاَجٍ وَلاَ غَيْرِهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَكْلِهِ وَبَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ، فَإِنْ أَكَلَهُ ثَبَتَتِ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ جَازَ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: لَهُ بَيْعُ الْيَسِيرِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا دَفَعَهُ إِلَى السُّلْطَانِ.

وَإِنْ أَكَلَهُ أَوْ بَاعَهُ حَفِظَ صِفَاتِهِ، ثُمَّ عَرَّفَهُ عَامًا.

وَإِنْ كَانَ مَا الْتَقَطَهُ مِمَّا يُمْكِنُ إِبْقَاؤُهُ بِالْعِلاَجِ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، فَيَنْظُرُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ: فَإِنْ كَانَ فِي التَّجْفِيفِ جَفَّفَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ ذَلِكَ، وَإِنِ احْتَاجَ التَّجْفِيفُ إِلَى غَرَامَةٍ بَاعَ بَعْضَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي بَيْعِهِ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُهُ وَلَمْ يُمْكِنْ تَجْفِيفُهُ تَعَيَّنَ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُ أَنْفَعَ لِصَاحِبِهِ فَلَهُ أَكْلُهُ لأِنَّ  الْحَظَّ فِيهِ .

(خامساً) الْمُعَاوَضَاتُ الْفَاسِدَةُ:

38 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْقَبْضِ نَاقِلاً لِلْمِلْكِيَّةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ الْفَاسِدَةِ أَوْ غَيْرَ نَاقِلٍ .

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ كَالْبَاطِلِ، لاَ يَنْعَقِدُ أَصْلاً، وَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بَتَاتًا، سَوَاءٌ قَبَضَ الْعَاقِدُ الْبَدَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مِلْكِيَّةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَنْتَقِلُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْفَاسِدِ بِقَبْضِهِ بِرِضَا صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ .

 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الرابع والثلاثون ، الصفحة / 133

فِي الأْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ إِذَا وَجَبَ ضَمَانُهَا:

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:

أ - الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:

5 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَاجِبُ الْفَسْخِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ، وَرَدُّ الثَّمَنِ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَإِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَكَانَ قِيَمِيًّا كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَأَبِي طَالِبٍ.

وَحَكَى الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ يُضْمَنُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَقَالَ: إِنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ .

وَيُفَصِّلُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ وَبَيْنَ الْفَاسِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ.

فَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ - وَلَوْ خَارِجَ الْمَذْهَبِ - إِذَا فَاتَ الْمَبِيعُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ إِلاَّ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ.

وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا، وَمِثْلُهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَهَذَا مَا مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَأَصْلُهَا لاِبْنِ يُونُسَ وَعَزَاهَا لاِبْنِ الْقَاسِمِ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ.

وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لاِبْنِ رُشْدٍ وَابْنِ بَشِيرٍ وَاللَّخْمِيِّ وَالْمَازِرِيِّ أَنَّ اللاَّزِمَ مَعَ الْفَوَاتِ هُوَ الْقِيمَةُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ قِيَمِيًّا أَمْ مِثْلِيًّا .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْمِثْلِيِّ، وَأَقْصَى قِيَمِهِ إِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا، وَهَذَا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ كَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ، وَقَالَ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْلِ الرَّوْضِ: (يُضْمَنُ الْمَبِيعُ التَّالِفُ بِالْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيِّ)، هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَإِنْ صَحَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ أَيْضًا، وَادَّعَى فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِيهِ.

كَذَلِكَ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الرَّافِعِيَّ أَطْلَقَ وُجُوبَ الْقِيمَةِ دُونَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمِثْلِيِّ وَالْمُتَقَوِّمِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ، لَكِنَّ الزَّرْكَشِيَّ قَالَ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ .

هَذَا الَّذِي سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَالْبَاطِلُ سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِلِ فَإِنَّ الْمَبِيعَ إِذَا تَلِفَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنَفِيَّةَ؛ لأِنَّهُ  أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَيَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ لأِنَّ  الْبَائِعَ مَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ مَجَّانًا .

وَقْتُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:

6 - إِذَا وَجَبَتْ قِيمَةُ الْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْقِيمَةِ.

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ فِي يَدِهِ فَأَتْلَفَهُ؛ لأِنَّهُ  إِنَّمَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ فَلاَ يَتَغَيَّرُ كَالْغَصْبِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ يَوْمَ تَلَفِ الْمَبِيعِ قَالُوا: لأِنَّهُ  مَأْذُونٌ فِي إِمْسَاكِهِ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةَ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ بِأَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ؛ لأِنَّهُ  مُخَاطَبٌ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِرَدِّهِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ الْخِرَقِيُّ فِي الْغَصْبِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَيَخْرُجُ هَاهُنَا (الْبَيْعُ الْفَاسِدُ)، بَلْ هُوَ هُنَا أَوْلَى؛ لأِنَّ  الْعَيْنَ كَانَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فِي حَالِ زِيَادَتِهَا وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهَا مَعَ زِيَادَتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي حَالِ تَلَفِهَا.

 وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْبَيْعِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الخامس والثلاثون ، الصفحة / 239

الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرُ لاَزِمٍ :

10 - الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ بِمَعْنَى الْبَاطِلِ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ مِنْ حَيْثُ الأْصْلُ  لِصُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَتَمَامِ رُكْنِهِ وَهُوَ الصِّيغَةُ، لَكِنْ فَسَدَ لِوَصْفِهِ أَيْ لِفَقْدِهِ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، كَاشْتِمَالِ الْبَيْعِ عَلَى جَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوِ الأْجَلِ، أَوْ عَلَى شَرْطٍ مُفْسِدٍ، أَوْ رِبًا.

وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ لاَ يَكُونُ لاَزِمًا، لأِنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى: لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْعَ، لَكِنْ قَدْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ إِنْ قَامَ الْعَاقِدَانِ بِإِزَالَةِ الْوَصْفِ الْمُفْسِدِ. كَإِسْقَاطِ الأَْجَلِ الْمَجْهُولِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ فَاسِدًا أَوْ رَهَنَهُ، فَإِنَّ شِرَاءَهُ يَلْزَمُ، فَلَوْ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ، عَادَ الْجَوَازُ .

(ر: بُطْلاَنٌ ف 10).

حُكْمُ الْوَعْدِ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ أَوِ اللُّزُومُ

11 - الْوَعْدُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَقِيلَ يَلْزَمُ الْوَاعِدَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ دِيَانَةً وَلاَ يَلْزَمُ قَضَاءً، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا: يَلْزَمُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبَبٍ، وَرَابِعُهَا: يَلْزَمُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبَبٍ وَدَخَلَ الْمَوْعُودُ بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ، كَأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْ وَأَنَا أُعْطِيكَ مَا تَدْفَعُهُ مَهْرًا، أَوِ: اهْدِمْ دَارَكَ وَأَنَا أُسَلِّفُكَ مَا تَبْنِيهَا بِهِ، فَتَزَوَّجَ أَوْ هَدَمَ دَارَهُ بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ .

(انْظُرِ: الْتِزَامٌ ف 43، وَوَعْدٌ).

اللُّزُومُ عِنْدَ الأْصُولِ يِّينَ

12 - اللُّزُومُ أَنْ يَثْبُتَ أَمْرًا عِنْدَ ثُبُوتِ أَمْرٍ آخَرَ، كَلُزُومِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ أَوِ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ، فَالأْوَّلُ اللاَّزِمُ، وَالثَّانِي الْمَلْزُومُ .

وَالتَّعْبِيرُ بِاللاَّزِمِ عَنِ الْمَلْزُومِ أَوْ عَكْسُهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، أَمَّا إِنِ اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِي حَقِيقَتِهِ وَأُرِيدَ لاَزِمُ الْمَعْنَى فَهُوَ كِنَايَةٌ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأْصُولِ يِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَدَلاَلَةُ الْكَلاَمِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مَقْصُودٍ مِنْ سِيَاقِهِ، وَلَكِنَّهُ لاَزِمٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ الْكَلاَمُ لأِجْلِهِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلاَلاَتِ اللَّفْظِيَّةِ يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ إِشَارَةَ النَّصِّ، كَدَلاَلَةِ (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا)  مَعَ (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)  عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ .

وَلاَزِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأْصُولِ يِّينَ، فَمَنْ قَالَ كَلاَمًا يَلْزَمُ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَلَيْسَ كُفْرًا فِي ذَاتِهِ، لَمْ يُحْكَمْ بِتَكْفِيرِهِ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ هَذَا اللاَّزِمَ .

وَحُكْمُ الْقَاضِي بِشَيْءٍ هَلْ هُوَ حُكْمٌ بِلاَزِمِهِ؟ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: نَعَمْ، فَلاَ يَحْكُمُ قَاضٍ آخَرُ بِخِلاَفِ اللاَّزِمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، لأِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِحُكْمِ الأْوَّلِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِحُكْمِهِ بِبَيْعِ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حُكْمًا بِبُطْلاَنِ الْعِتْقِ، فَلاَ يَحْكُمُ قَاضٍ آخَرُ فِيهِ بِخِلاَفِهِ، لأِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِحُكْمِ الأْوَّلِ بِالاِجْتِهَادِ، وَالاِجْتِهَادُ لاَ يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الأْصُولِيِّ.

_________________________________________________________________

المذكرة الإيضاحية للإقتراح بمشروع القانون المدني طبقا لاحكام الشريعة الإسلامية

( مادة ۱۳۲)

1- العقد الباطل لا ينعقد ، فلا يترتب عليه ای اثر ، ولا ترد عليه الإجازة .

۲ - ولكل دی مصلحة أن يتمسك بالبطلان ، وللمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفهمها.

3- ولا تسمع دعوى البطلان بعد مضي خمس عشرة سنة من وقت العقد.

هذه المادة تقابل المادة 141 من التقنين الحالي التي تنص على ما ياتی :

1- اذا كان العقد باطلا جاز لكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان ، وللمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها ، ولا يزول البطلان بالاجازة •

2- وتسقط دعوي البطلان بمضى خمس عشرة سنة من وقت العقد •

وتطابقها في الحكم المادة 18 من التقنين الأردني التي تنص على ما يأتي :

1- العقد الباطل ما ليس مشروعا بأصله ووصفه بان اختل رکنه او محله او الغرض منه او الشكل الذي فرضه القانون لانعقاده ولا يترتب عليه أي أثر ولا ترد عليه الاجازة .

٢- ولكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان وللمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها .

٣- ولا تسمع دعوى البطلان بعد مضي خمس عشرة سنة من وقت العقد .

( انظر المادة ۲۱۳ من مرشد الحان التي تقدم دسرها ).

و تقابل المواد من 184 الى 186 من التقنين الكويتي فالمادة 184 من هذا التقنين تنص على أن :. العقد الباطل لا ينتج أي أثر، ويجوز لكل ذي مصلحة أن يتمسك ببطلانه ، وللمحبة أن تقضي به من تلقاء نفسها

والمادة 185 من هذا التقنين تنص على أن « العقد الباطل لا ينصح بالاجازة ، .

والمادة 186 من هذا التقنين تنص على ما يأتي :

1- العقد الباطل لا يصحح بمرور الزمان .

٢- الا أن دعوى البطلان تسقط بمرور خمس عشرة سنة من تاريخ العقد .

و تطابق الفقرتين الأولى والثانية منها في الحكم المادة 141 من التقنين العراقي التي تنص على انه « اذا كان العقد باطلا جاز عل دی مصلحة أن يتمسك بالبعللات ، وللمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها ، ولا يزول البطلان بالاجازة •

(انظر المادة 313 من مرشد الحيران التي تقدم ذكرها ).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفورله (محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية) بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه

(مادة 217)
العقد الصحيح الذي يظهر أثره بانعقاده هو العقد المشروع ذاتاً ووصفاً.
والمراد بمشروعية ذاته ووصفه أن يكون ركنه صادراً من أهله مضافاً إلى محل قابل لحكمه وأن تكون أوصافه صحيحة سالمة من الخلل وأن يكون مقروناً بشرط من الشروط المفسدة للعقد.
(مادة 218)
العقد الفاسد هو ما كان مشروعاً بأصله لا يوصفه أي أنه يكون صحيحاً باعتبار أصله لا خلل في ركنه ولا في محله فاسداً باعتبار بعض أوصافه الخارجة بأن يكون المعقود عليه أو بدله مجهولاً جهالة فاحشة أو يكون العقد خالياً عن الفائدة أو يكون مقروناً بشرط من الشرائط الموجبة لفساد العقد والعقد الفاسد لا يفيد الملك في المعقود عليه إلا بقبضه برضا صاحبه.
(مادة 219)
العقد الباطل هو ما ليس مشروعاً لا أصلاً ولا وصفاً أي ما كان في ركنه أو في محله خلل بأن كان الإيجاب والقبول صادرين ممن ليس أهلاً للعقد أو كان المحل غير قابل لحكم العقد.
وهو لا ينعقد أصلاً ولا يفيد الملك في الأعيان المالية ولو بالقبض.

(مادة 317)
إذا كان خيار التعيين للبائع وهلك أحد الشيئين في يده كان له أن يلزم المشتري بالثاني فإن هلكا معاً بطل العقد.

(مادة 339)
البيع الباطل هو ما أورث خللاً في ركن البيع أو في محله.
والبيع الفاسد هو ما أورث خللاً في غير الركن والمحل (وبعبارة أخرى).
البيع الباطل ما لا يكون مشروعاً أصلاً ولا وصفاً والبيع الفاسد ما كان مشروعاً أصلاً لا وصفاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مشروع تقنين الشريعة الإسلامية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه إعداد اللجنة التحضيرية لتقنين الشريعة الإسلامية بإشراف مجمع البحوث الإسلامية الطبعة التمهيدية 1392 هــ - 1972 م

مادة (46) : الفاسد من الشروط ثلاثة أنواع : 
الأول : شرط أحد العاقدين على صاحبه عقدا آخر . وهو مبطل للعقد من أصله .
الثاني : (۱): شرط أحدهما ماينافي مقتضى العقد ، أو رهنا فاسدة ، أو خیار ، أو أجلا مجهولين ، أو تأخير تسليم مبيع بلا انتفاع بائع ، فهذا الشرط باطل ، والبيع صحيح .
(ب) : لمن فات غرضه بفساد الشرط الفسخ ، أو الإمضاء مع أخذ مانقص من الثمن ، إن كان بائعا ، أو ما زاد ، إن كان مشتريا  . 
(ج) : يستثنی : شرط بائع على مشتر عتق المبيع ، فإنه صحيح، ويجبر عليه المشتري. 
الثالث : (۱)، اشتراط أحدهما شرطا يعلق البيع، أو الشراء عليه ، والبيع لا ينعقد في هذا النوع .
(ب) : يستثنى من ذلك : 
1- التعليق على مشيئة الله - تعالى .
۲- بيع العربون . 
إيضاح 
النوع الأول من الشروط الفاسدة : أن يشترط أحد العاقدين على صاحبه عقد آخر . کسلف أوبيع أو إجارة أو غير ذلك ، و اشتراط مثل هذا الشرط يبطل البيع . أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، في قوله : ( لا يحل بيع وسلف ، ولا شرطان في بيع )، لأنه : (نهى عن بيعتين في بيعة ). والنهي فنفى الفساد . 
قال أحمد : وكذا كل ما كان في معنى ذلك : كأن يقول: بعتك داری بكذا ، على أن تزوجني ابنتك ، أو على أن أزوجك ابنتي ، قال ابن مسعود : "صفقتان في صفقة ربا " ، ولأنه شرط عقد في آخر فلم يصح كالشغار . 
النوع الثاني من الشروط الفاسدة : 
(1) : اشتراط ما ينافي مقتضى العقد ، كأن يشترط المشتري على البائع ألاخسارة عليه، أو أنه متى نفق المبيع ، و إلا رده، أو أن يشترط البائع على المشتري ألا يتصرف في البيع بهية أو عتق ، أو إن أعتقه قالولاء له ، ونحو ذلك . 
فهذه الشروط باطلة ، والبيع صحيح ، لحديث عائشة في قصة بريرة وفيه : ( خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ، وفيه ما كان من شرط ليس في كتاب الله - تعالى- فهو باطل ، و إن كان مائة شرط ) . ( متفق عليه ) : فأبطل الشرط ، ولم يبطل العقد . 
هذا هو الراجح في المذهب ، وهناك رواية بفساد البيع ، لأن الشرط فاسد ؛ فأفسد البيع . كما لواشترط فيه عقدة آخر . 
وكذلك يصح البيع ، ويفسد الشرط إذا اشترط البائع على المشتری رهنا فاسدة ، كخمر مثلا ، أو ضمينة ، أو كفيلا غير معينين ، أو أجلا ، أو خيارة مجهولين ، أو شرط مشتر على بائع تأخير تسليم مبيع بلا انتفاع بائع. أما تأخير تسليم المبيع مع انتفاع البائع مدة معلومة فهو شرط صحيح كما تقدم . 
(ب) : لمن فات غرضه بفساد الشرط من بائع أو مشتر : الخيار بين الفسخ ، سواء علم بفساد الشرط أولا ، لأنه لم يسلم له ما دخل عليه من الشرط ، و بين الإمساك مع أخذ ما نقص من الثمن ، إن كان بائعا . لأنه إنما باع بنقص لما يحمل له من الغرض الذي اشترطه . فاذا لم يحصل غرضه رجع بالنقص ، وإن كان مشتريا رجع بما زاد ، لأنه إنما ممح بزيادة المن من أجل شرطه ، فإذا لم يحصل غرضه : ينبغي أن يرجع بها سمح به ، كما لو وجده معيبا . 
ويحتمل أن للمشترط الخيار بين الفسخ أو الإمضاء ، دون الرجوع بشيء.  
(ج) : ما تقدم فيما إذا كان الشرط غير عتق المبيع، أما شرط عتق المبيع فصحيح ، ويجبر المشتري عليه إن أباه وذلك لأنه قربة التزمها المشتري ، فأجبر عليه كالنذر ، فإن أصر ممتنعا اعنقه حاكم. 
الثالث : من الشروط الفاسدة أن يشترط أحد العاقدين شرطا يعلق البيع عليه ، كأن يقول البائع: بعتك داري إن رضي فلان بكذا . أو يقول المشتري اشتريت دارك ، إن جئتني أو إن رضي فلان بكذا ، فلا يصح البيع، لأن مقتضى البيع نقل الملك حال العقد، والشرط يمنعه فلا ينعقد البيع . 
(ب) : يستثنى من ذلك ما إذا علق البيع على مشيئة الله تعالى فإن البيع صحيح ، لأن القصد منه التبرك ، لا التردد ، غالبا . وكذلك بيع العربون 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مشروع تقنين الشريعة الإسلامية على مذهب الإمام الأعظم ابى حنيفة (رضى الله عنه ) إعداد اللجنة التحضيرية لتقنين الشريعة الإسلامية بإشراف مجمع البحوث الإسلامية الطبعة التمهيدية (1392هـ ـ 1972م  )

مادة (۳۹)

بيع التلجئة هو أن يظهر المتعاقدان عقدا لا يريدانه ، وهو کالبيع هزلاً ، فإن كانت التلجئة في نفس المبيع يفسد العقد ، وإن كانت في الثمن أو في جنسه انعقد العقد ، وكان الثمن ثمن العلانية ، وثبت لكل منهما الخيار .

المذكرة الإيضاحية

هذا العقد من عقود الضرورة ومموه بالتلجثة لما فيه من معنى الإكراه .

وفيه ثلاث مسائل :

الأولى : أن تكون التلجئة في نفي البيع مثل أن يخاف على سلعته ظالما أو سلطانا فيقول : أنا أظهر البيع وليس ببيع حقيقة وإنما هو تلجئة ، ويشهد على ذلك تم بيعها في الظاهر من غير شرط.

وروى محمد في الإملاء ، أنه باطل ولم بحك خلافا وهو قول أبي يوسفت و محمد ووجهه أنهما اتفقا على أنهما لم يقصدا العقد فصارا کالهازلين فلا ينعقد .

الثانية : أن تكون في البدل بأن يتفقا على ألف في السر ، ويتبايعا في الظاهر بالفين.

روى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن الثمن من العلانية .

لأن المذكور في العقد هو الذي يصح العقد به ، وما ذكراه سرا لم يذكراه حالة العقد فسقط حكمه .

وروى محمد في الإملاء أن الثمن من السر من غير خلاف وهو قولها لأنهما اتفقا أنهما لم يقصدا الألف الزائدة فكأنهما هزلا بها .

الثالثة : اتفقا على أن الثمن ألف درهم وتبايعا على مائة دينار .

قال محمد القياس أن يطل العقد ، والاستحسان أن يصح بمائة دينار، وجه القياس أن الثمن الباطل لم يذكراه في العقد ، والمذکور لم يقصداه ، فسقط قبض بلا ثمن فلا يصح :

ووجه الإستحسان أن المقصود البيع الجائز لا الباطل ، ولا جائز إلا بثمن العلانية كانهما أضربا عن السر وذكرا الظاهر .

وليس هذا كالمسألة الأولى لأن المشروط سرا مذكورا في العقد وزيادة ، وتعلق العقد به . و يثبت لها الخيار في بيع التلجئة لأنهما لم يقصدا زوال الملك ؛ فصار كشرط الخيار لها، فيتوقف على إجازتهما .

ولو ادعى أحدهما التلجئة لم يقبل قوله إلا ببينة ، لأنه يدعي انفساخ العقد، ويستحلف الآخر لأنه أنكر .