مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني ، الصفحة : 263
مذكرة المشروع التمهيدي :
استقيت أحكام المادة 203 من التقنين الألماني أيضاً بيد أن فكرة تحویل العقد أو انقلابه أدق من فكرة الانتقاص التي تقدمت الإشارة إليها فليس يرد أمر التحويل إلى مجرد تفسير لإرادة المتعاقدين ، بل الواقع أن القاضي يحل نفسه محلهما، ويبدله من عقدها القديم عقداً جديداً يقيمه له ويشترط لإعمال أحكام التحويل أن يكون العقد الأصيل باطلاً أو قابلاً للبطلان فإذا كان صحيحاً فلا يملك القاضى بوجه من الوجوه أن يحل محله عقداً آخر قد يؤثر المتعاقدان لو فصل لها أمره ويشترط كذلك أن تكون عناصر العقد الجديد الذي يقيمه القاضي قد توافرت جميعا في العقد الأصيل ، الذي قام به سبب من أسباب البطلان فلا يملك القاضي ، على أي تقدير ، أن يلتمس عناصر إنشاء العقد الجديد خارج نطاق العقد الأصيل . ويشترط أخيراً أن يقوم الدليل على أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى الارتباط بالعقد الجديد ، لو أنهما تبينا ما بالعقد الأصيل من أسباب البطلان، ويستخلص مما تقدم أن سلطة القاضي في نطاق التحويل ليست سلطة تحكمية، فإذا كان يتولى عن العاقدين إعادة إنشاء التعاقد إلا أنه يسترشد في ذلك بإرادتهما بالذات وليست الشروط الثلاثة المتقدمة سوى قيود قصد بها أن تحد من إطلاق تقدير القاضي ، على نحو يتيح تقريب الشقة ما أمكن بين نية المتعاقدين المفترضة و نيتهما الحقيقية ولعل اعتبار الكمبيالة التي لا تستوفي ما ينبغي لها من الشروط الشكلية سنداً إذنياً ، أو مجرد تعاقد مدنی ، من أبرز التطبيقات العملية التي يمكن أن تساق في صدد فكرة التحويل .
المشروع في لجنة المراجعة
تليت المادة 203 من المشروع
واقترح إحلال كلمة و الإبطال، محل كلمة البطلان .. فوافقت اللجنة على ذلك .
ثم قدم المشروع النهائي باستبدال عبارة أن نية المتعاقدين كانت ، بعبارة « أن المتعاقدين كانت نيتهما» .
وأصبح رقم المادة 148 في المشروع النهائي .
المشروع في مجلس النواب
وافق المجلس على المادة دون تعديل تحت رقم 148 .
المشروع في مجلس الشيوخ
مناقشات لجنة القانون المدني :
محضر الجلسة الثانية عشرة
تليت المادة 148 وهذا نصها :
, إذ كان العقد باطلاً أو قابلاً للإبطال وتوافرت فيه أركان عقد آخر فإن العقد يكون صحيحاً بإعتباره العقد الذي توافرت أركانه إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام هذا العقد لو أنهما كانا يعلمان بطلان العقد الأول .. وبعد مناقشة فيها قرر سعادة الرئيس تأجيل المناقشة في هذه المادة إلى الجلسة القادمة .
محضر الجلسة الثالثة عشرة
بدأت اللجنة مناقشة المادة 148 فتليت و هذا نصها. إذا كان العقد باطلا أو قابلا للإبطال وتوافرت فيه أركان عقد آخر فإن العقد یكون صحيحا باعتباره العقد الذي توافرت أركانه إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام هذا العقد لو أنهما كانا يعلمان ببطلان العقد الأول .
وقد اعترض معالی حلی عیسى باشا على هذه المادة لأنها تشعر بأن للقاضي سلطة تحكيمية في إقرار العقد الأخير مع أن المقصود بها أن تحويل العقد الباطل إلى عقد آخر صحيح مى توافرت أركانه يرجع إلى نية المتعاقدين واستشهد معاليه بما ورد في المذكرة التفسيرية المطولة إذ جاء فيها ويشترط أخيراً أن يقوم الدليل على أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى الإرتباط بالعقد الجديد لو أنهم اتينا ما بالعقد الأصيل من أسباب البطلان ويستخلص ما تقدم أن سلطة القاضي في نطاق التحويل ليست سلطة تحكمية و وخلص معاليه من ذلك إلى وجوب تعديل النص بحيث لا يفهم منه أن يكون للقاضي .
حق مطلق في إلزام المتعاقدين بعقد معين لأنه مقيد بالعقد الذي أمامه إلا إذا تبين له أنه يكون عقداً آخر توافرت أركانه ولذلك فإنه يقترح حذف عبارة , إذا تبين أنه نية المتعاقدين ... الخ المادة .
واعترض كذلك سعادة الرئيس على عبارة لو أنهما كانا يعلمان بطلان العقد الأول، لأنها تريد لامحل له وأما عبارة , إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام هذا العقد ، فقال عنها سعادته إنها عبارة جوهرية لأنه إذا تبين أن نية المتعاقدين لم تكن منصرفة إلى إبرام العقد الجديد فلا يكون مفهوماً أن نعطى للقاضي الحق في إلزامهما بإبرام ذلك العقد ومادام أول شرط من شروط العقد هو تلاقي الإرادتين فيحسن أن يقال إذا تبين أنه من المفروض حتماً أن نية المتعاقدين ... الخ.
أما سعادة علوية باشا فإنه يرى لزوم بقاء هذه المادة لأن القضاء على حكمها ، وأبرز مثل لتطبيقها : البيع الوفائي الذي تدل ظروف الأحوال وعدم التكافؤ بين اليمن والشيء المبيع على أن المتعاقدين يقصدان به عقد رهن ، هذا مع ملاحظة أنه بجب لكي يبرم القاضي العقد الجديد أن يكون العقد الأول باطلاً ولو لم تكن نيتهما منصرفة إلى إبرام العقد الجديد لأن القول بغير ذلك يترتب عليه انعدام العقدين وضياع حقوق المشتري وفائياً ولذلك فإن سعادته بری عدلاً وجوب حذف عبارة إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف ... الخ المادة .
وقد رد الدكتور بغدادی على كل هذا بأن المقصود بهذه المادة أن نضع للقاضي معیاراً لتحقيق العدالة فنحن لا تلومه بالبحث عن نية المتعاقدين ولكنا نطاليه أن يستخلص ما كانت تنصرف إليه نية المتعاقدين عند إبرام العقد وهذا التكييف القانوني من القاضي يقع تحت رقابة محكمة النقض على أن يكون مفهوماً أن القاضي يبحث في النية التي كان مفروضاً قيامها قبل النزاع .
وقد عقب سعادة الرئيس على ذلك كله بأن النص المقترح يجعل سلطة القاضي سلطة تحكمية مع أن المفهوم أن أساس الاقتراح هو تفادي ذلك فبقاء الفقرة أو العبارة المراد حذفها فيها قيد للقاضي هو أنه لا يبرم العقد الجديد إلا إذا تبين له أن نية المتعاقدين كانت تنصرف اليه .
فقال معالي علي باشا إن الاقتراع لا يخرج نية المتعاقدين من الحساب إذ أنه يفترض توافر جميع أركان العقد بما فيها نية الأخذ بالبقية البانية الخالية من شوائب البطلان فالنية تدخل في أركان العقد .
قرار اللجنة :
وإزاء هذا التفسير الذي أجريت عليه اللجنة وافقت على حذف عبارة و إذا تبين أن نية المتعاقدين ... الخ المادة ، وقررت كذلك أن يدرج هذا التفسير في التقرير .
محضر الجلسة الخامسة والأربعين
المادة 148 - كانت اللجنة قد قررت حذف عبارة إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام هذا العقد لو أنهما كانا يعلمان بطلان العقد الأولى ، وفي هذه الجلسة أعاد معالي السنهورى باشا المناقشة في هذه العبارة وبعد الرجوع إلى محضر الجلسة الذي نوقشت فيه هذه المادة رأت اللجنة الأخذ باقتراح سعادة الرئيس و قصر الحذف على عبارة لو أنهما كانا يعلان بطلان العقد الأول ..
تقرير اللجنة :
حذفت عبارة ولو أنهما كانا يعلمان بيطلان العقد الأول ، لأن المسألة نيط أمرها بالنية .
ولا محل للتقيد بعد ذلك بالعمل أو بأي ظرف آخر ما دام أن الأمي سيرجع في النهاية إلى تقدير القاضي وأصبح رقم المادة 144.
مناقشات المجلس :
وافق المجلس على المادة كما أقرتها اللجنة .
1- إذا كانت المحكمة قد عرضت للخلاف بين طرفي عقد البيع حول وصف العين المبيعة وما إذا كانت تخضع لأحكام القانون رقم 52 لسنة 1940 الخاص بتقسيم الأراضي المعدة للبناء المعدل بالقانون رقم 2 لسنة 1953 وخلصت إلى إخضاعها لأحكام هذا القانون فإنها تكون قد طبقت القانون على واقع مطروح عليها، ومتى تعلقت التقريرات القانونية التي تضمنتها أسباب الحكم فى هذا الشأن بالوقائع محل النزاع، وكانت هذه التقريرات مرتبطة ارتباطا وثيقاً بالمنطوق وداخله فى بناء الحكم وتأسيسه ولازمه للنتيجة التي انتهت إليها وتكون مع منطوقه وحدة لا تقبل التجزئة كان لها حجية ملزمة فإن الحكم الصادر برفض الدعوى بصحة ونفاذ عقد البيع لوروده على أرض مقسمه قبل صدور قرار بالموافقة على تقسيمها يمنع طرفيه من إعادة الجدل فى هذه المسألة والإدعاء بأن البيع ورد على أرض زراعية تحايلاً على ذلك الخطر الذي دعت إليه اعتبارات تتعلق بالصالح العام مما مقتضاه ترتب البطلان على مخالفته وبالتالي لا يجوز الإعتصام فى هذا الصدد بحكم المادة 144 - القانون المدني فيما نصت عليه من أنه "إذا كان العقد باطلاً أو قابلاً للإبطال وتوافرت فيه أركان عقد آخر فإن العقد يكون صحيحاً بإعتباره العقد الذي توافرت أركانه إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام هذا العقد، لأن مناط إعمال هذا النص أن تتوافر فى العقد الباطل أركان عقد آخر صحيح ومجرد تغيير وصف العين المبيعة لا تتوافر فيه أركان هذا العقد الصحيح وإنما ينطوي على مخالفة لتلك الحجية الملزمة التي حازها الحكم السابق فيما يتعلق بوصف البيع، وكان الحكم المطعون فيه قد خالف هذا النظر وأقام قضاءه بصحة ونفاذ العقد المشار إليه على سند من المادة 144 من القانون المدني بعد تغيير وصف العين المبيعة بمقتضاه من أرض مقسمة قبل أن يصدر قرار بتقسيمها إلى أرض زراعية فإنه يكون قد خالف القانون وأخطأ فى تطبيقه.
(الطعن رقم 1242 لسنة 56 جلسة 1989/04/18 س 40 ع 2 ص 125 ق 181)
2- المادة 144 من القانون المدنى تشترط لتحول العقد الباطل أن تتوافر فيه أركان عقد آخر صحيح و أن يقوم الدليل على أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى الإرتباط بالعقد الجديد لو أنهما تبينا ما بالعقد الأصلى من أسباب البطلان . و تعرف هذه النية من مسائل الواقع التى يستقل بتقديرها قاضى الموضوع و لا معقب عليه فى ذلك متى أقام رأيه على أسباب تسوغه .
(الطعن رقم 502 لسنة 50 جلسة 1983/11/24 س 34 ع 2 ص 1664 ق 326)
3- فكرة تحويل العقد الباطل إلى عقد صحيح تفترض قيام العقد الجديد بين نفس العاقدين بصفتهما التى أتصفا بها فىالعقد القديم ، فليس فى سلطه القاضى إجراء أى تغيير فى هذه الصفات لخروج ذلك عن نطاق التحول . لما كان ذلك فإن تحول العقد يكون ممتنعاً إذا كان يستلزم ذلك إدخال متعاقد جديد ليعقد العقد ، و إذ إلتزم الحكم المطعون فيه هذا النظر و لم يقض بتحول العقد الأصلى الصادر من المطعون عليه بصفته ممثلا لغيره إلى بيع جديد صدر منه بصفته الشخصية ، فإنه لا يكون قد خالف القانون أو أخطأ فى تطبيقه.
(الطعن رقم 160 لسنة 36 جلسة 1970/11/26 س 21 ع 3 ص 1176 ق 192)
4- تحول العقد الباطل إنما يكون فى حالة بطلان التصرف مع إشتماله على عناصر عقد آخر تكون نية الطرفين الإحتمالية قد إنصرفت إلى قبوله دون إدخال عنصر جديد عليه ، ولما كان الثابت أن محكمة أول درجة قد إنتهت إلى بطلان الإتفاق المبرم بين الطرفين على أساس أن الموقعين عليه لا يملكون التعاقد نيابة عن هيئة الإذاعة ، فإن القول بإمكان تحول عقد لم ينشأ يكون على غير أساس
(الطعن رقم 464 لسنة 35 جلسة 1970/01/29 س 21 ع 1 ص 213 ق 34)
5- من الجائز أن يتحول الأجراء الباطل إلى إجراء صحيح إذا كانت العناصر الباقية غير المعيبة يتوافر بموجبها إجراء آخر صحيح .
(الطعن رقم 422 لسنة 35 جلسة 1969/12/02 س 20 ع 3 ص 1248 ق 193)
6- تشترط المادة 144 من القانون المدنى لتحول العقد الباطل إلى عقد آخر أن تتوافرفيه أركان عقد آخر صحيح و أن يقوم الدليل على أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى الإرتباط بالعقد الجديد لو أنهما تبينا ما بالعقد الأصلى من أسباب البطلان وإذ كان عقد التحكيم لا تتوافر فيه أركان عقد آخر يمكن أن تكون نية الطرفين قد إنصرفت إلى الإرتباط به فإن عقد التحكيم متى قام به سبب من أسباب البطلان لا يمكن أن يتحول إلى عقد آخر ملزم للمتعاقدين لأن المحتكمين لم يقبلا بموجب عقد التحكيم إلا الإلتزام بالحكم الذى يصدره المحكم فإذا لم يصدر هذا الحكم تحللا من مشارطة التحكيم .
(الطعن رقم 407 لسنة 34 جلسة 1968/11/28 س 19 ع 3 ص 1420 ق 216)
7- يشترط لتطبيق نظريتى الإنتقاص و التحويل المنصوص عليهما فى المادتين 143 و 144 من القانون المدنى أن يكون العقد فى شق منه أو كله باطلاً أو قابلاً للإبطال . فإذا كان العقد قد علق على شرط لم يتحقق ، فإن مؤدى ذلك هو عدم إعمال حكم المادتين المشار إليهما فى شأنه .
(الطعن رقم 243 لسنة 31 جلسة 1966/06/14 س 17 ع 3 ص 1359 ق 188)
8- إذا كان الحكم المطعون فيه قد اعتبر عقد المقايضة الذي عقدته الوصية بدون إذن المحكمة الحسبية هو عقد باطل بطلاناً نسبياً يصح بإجازة القاصر بعد بلوغه سن الرشد وجعل الإجازة تستند إلى التاريخ الذي تم فيه العقد فإنه يكون قد طبق القانون على وجهه الصحيح.
(الطعن رقم 107 لسنة 30 جلسة 1965/01/21 س 16 ع 1 ص 73 ق 12)
تحول العقد الباطل :
إذا وقع العقد باطلاً أو كان قابلاً للإبطال، وأقام الطرف الذي يرغب في التمسك بهذا البطلان دعوی بذلك، فطلب الطرف الآخر من المحكمة تحويل هذا العقد الى عقد آخر، ففي هذه الحالة تلتزم المحكمة بهذا الطلب، وهي في سبيل بحثه تحل نفسها محل العاقدين فتبدلهما من عقدها القديم عقدة جديدة تقيمه لهما، ومن ثم فليس للمحكمة أن تقضي بتحول العقد المطلوب إبطاله الى عقد آخر من تلقاء نفسها وإلا تكون قضت بما لم يطلبه الخصوم.
ولا تقضي المحكمة بتحول العقد الباطل أو القابل للإبطال إلا إذا توافرت الشروط التالية :
أولاً : أن يطلب أحد الخصوم من المحكمة أن تقضي بتحول العقد، إذ أن حول العقد الباطل أو القابل للإبطال إلى عقد آخر، ليس متعلقة بالنظام العام.
ثانياً : أن يكون العقد الأصلي باطلاً بأكمله، فإن كان باطلاً في شق منه سرت أحكام المادة 143 وإن كان صحيحاً فلا يجوز أن يتحول لعقد آخر حتى لو قصد العاقدان ذلك وتوافرت عناصر العقد الجديد في العقد الأول، فالهبة الصحيحة لا يجوز أن تتحول لوصية، كما يتحول العقد إذا بطل شق منه وكان هذا الشق لا يمكن فصله عن بقية العقد فالكمبيالة الباطلة لعدم استيفاء الشكل المقرر تتحول إلى سند أذني صحيح، والوصية اللاحقة الوصية أخرى، فإن كانت باطلة تحولت الى عدول صحيح عن الوصية السابقة، والبيع إذا تحرر بورقة رسمية وكان باطلاً لتفاهة الثمن فإنه يتحول الهبة صحيحة .
ثالثاً : أن توفر في العقد الباطل كافة عناصر العقد الآخر، فإن كان العقد الباطل ينقصه عنصر لتتوفر به عناصر عقد آخر، فيمتنع التحول، فلو باع شخص عينة غير مملوكة له، كان العقد قابلاً للإبطال، ولا يجوز تحوله إلى عين أخرى لأن في ذلك تغيير للمحل مما يتطلب إضافة عنصراً جديدة، ومثال ذلك أيضاً إذا تبين هلاك المحل قبل التعاقد فلا يتحول العقد بإحلال محل جديد، حتى لو كان العاقدان يقبلان ذلك، فلهما إبرام عقد جديد، وكذلك إن كان الوقف باطلاً فلا يتحول الى وصية ما لم تتوافر فيه عناصرها .
رابعاً : أن يثبت أن العاقدين كانت تنصرف نيتهما وقت التعاقد الى إبرام العقد الجديد إذا تبين لهما بطلان العقد الذي أبرماه، ويستعين القاضي في ذلك بالقرائن القضائية وظروف التعاقد والغرض منه.
ومتى توفرت هذه الشروط تعين القضاء بتحول العقد الباطل أو القابل للإبطال إلى عقد آخر صحيح توضح المحكمة أركانه القانونية واسمه. (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الثاني الصفحة/ 665)
تحول العقد :
المقصود بنظرية تحول العقد :
تقوم نظرية تحول العقد على أنه إذ اشتمل التصرف الباطل أو القابل للإبطال على عناصر عقد آخر، فإن العقد الآخر يؤخذ به، أي أن العقد الباطل أو القاب للإبطال يتحول إلى هذا العقد الصحيح وذلك إذا أمكن افتراض أن المتعاقدين کان يريدان هذا العقد الآخر لو أنهما علما ببطلان العقد الأول أو بقابليته للإبطال.
ومن الأمثلة على ذلك :
1- أن يكون هناك عقد بيع مدون في ورقة رسمية ويكون الثمن فيه تافها إلى الحد الذي يجعل البيع باطلا لتخلف ركن الثمن، ففي هذه الحالة يتحول البيع إلى هبة صحيحة لتوافر عناصرها.
2- أن تقع قسمة بين شركاء أحدهم ناقص الأهلية فتكون قابلة للإبطال بسبب نقص الأهلية، ولكنها تتحول إلى قسمة مهيأة إذا كان ناقص الأهلية قد أذن له في الإدارة لأن هذا النوع من القسمة تكفي فيه أهلية الإدارة.
3-أن يكون هناك عقد باطل في شيء أو أوصى به قبل العقد، فيتحول هذا التصرف إلى عدول صحيح عن الوصية.
شروط تحول العقد :
لكي يقع تحول في العقد يجب توافر شروط ثلاثة هي :
1- أن يكون العقد الأصلي باطلاً أو قابلاً للإبطال.
2- أن يتضمن العقد الباطل أو القابل للإبطال عناصر عقد آخر صحيح.
3- أن تنصرف إرادة الطرفين إلى هذا العقد الآخر.
ونعرض لهذه الشروط تفصيلا فيما يلي :
الشرط الأول :
أن يكون العقد الأصلى باطلا أو قابلا للإبطال :
فإذا كان العقد الأصلى صحيحا فلا يتحول العقد إلى عقد آخر، ولو كان الطرفان يؤثران على العقد الأول، حتى لو تضمن العقد الصحيح عناصر هذا العقد الآخر، فالهبة الصحيحة لا يمكن أن تتحول إلى وصية، إذ لا يتحول إلا العقد الباطل.
كما يجب أن يكون العقد الأصلى باطلاً بأكمله فإذا كان جزء منه هو الباطل وكان العقد يقبل الإنقسام فلا تحول بل انتقاص إذ يزول الجزء الباطل ويبقى الجزء الصالح وقد نصت على هذا الانتقاص المادة 143 مدنی - كما ذكرنا - بقولها "إذا كان العقد في شق منه باطلاً أو قابلاً للإبطال، فهذا الشق وحده هو الذي يبطل، إلا إذا تبين أن العقد ما كان ليتم بغير الشق الذي وقع باطلاً أو قابلاً للإبطال فيبطل العقد كله" وعلى ذلك إذا كان ثمة غلط بالنسبة لشيء من جملة أشياء ورد عليها التعاقد، أو كان التصرف هبة مقترنة بشرط غير مشروع، ففي مثل هذين الفرضين لا يعيب البطلان إلا الشق الذي قام به سببه ويظل الجزء الباقي بإعتباره عقداً صحيحاً، ما لم يثبت من يدعي البطلان أن الشق الباطل لا ينفصل عن جملة التعاقد أو أن الشرط غير المشروع هو الحافز إلى التعاقد، فعندئذ ينهار العقد كله ويدخل في نطاق قاعدة انتقاص العقد ما يجب أن يقف من التصرفات عند رقم معين فإذا كان البقاء في حالة الشيوع لمدة تزيد على خمس سنوات انقضت المدة إلى خمس (م 834 جديد)، أو عقد قرض بفائدة تزيد على 7% فتنقص إلى 7% (م 227 جديد).
غير أن هذا لا يمنع من أن يستبعد القاضي الوصف الذي وصف به المتعاقد عقدهما ليحل محله الوصف القانوني الصحيح، لأن ذلك يتعلق بسلطة المحكمة في تكيف العقد .
الشرط الثاني :
أن يتضمن العقد الباطل أو القابل للإبطال عناصر عقد آخر صحيح :
يجب أن يشتمل العقد الأصلي على جميع العناصر اللازمة لقيام العقد الأخر فيلزم أن يكون في الإمكان تلمس أركان العقد الذي يصير التحول إليه في الواقعة المادية التي تخلفت عن العقد الباطل فالتحول لا يقوم على استيفاء أركان العقد الجديد من خارج نطاق العقد الباطل أو القابل للإبطال فلو أن شخصاً مثلاً باع داراً سبق لها أن تهدمت ووقع البيع لذلك باطلاً ما ساغ تحول العقد إلى دار أخرى يملكها البائع حتى لو دلت الظروف على أن البيع كان ليرد عليها، لو تبين المتعاقدان حقيقة هلاك الدار التي وقع عليها البيع الباطل أو القابل للإبطال .
الشرط الثالث :
أن تنصرف إرادة الطرفين إلى العقد الأخر :
فلا يتطلب أن تكون الإرادة الحقيقية للمتعاقدين قد اتجهت إلى العقد الآخر فهذه الإرادة الحقيقية قد اتجهت إلى العقد الأصلي إنما يكتفي بأن تكون إرادتهما المحتملة قد انصرفت إلى العقد الآخر، وليس معنى ذلك أننا تتطلب إرادة احتياطية، بمعنى أن يكون الطرفان قد أرادا التصرف الأصلي الباطل أو القابل للإبطال أساساً وتوقعاً احتمال بطلانه فأراد التصرف الآخر الصحيح على سبيل الاحتياط لأن مثل هذه الإرادة الاحتياطية تكون إرادة حقيقية بل المراد بذلك أن يكون من الممكن افتراض أن الطرفين كانا يقبلان التصرف الجديد أو علماً بالبطلان.
ويستطيع القاضي أن يصل إلى هذا الافتراض في ضوء أمرين يعتبران دليلاً على توافر هذه الإرادة المحتملة للطرفين :
الأمر الأول : أن تتوفر عناصر التصرف الجديد جميعها. وقد تناولنا ذلك تفصيلاً فيما سلف، وهو في حقيقته يعتبر دليلاً على أن الطرفين كانا يؤثران التصرف الجديد لو علماً بالبطلان .
والأمر الثاني : أن يكون التصرف الجديد محققاً للغاية العملية التي يهدف إليها المتعاقدان من التصرف الأصلي، وذلك لأن العبرة ليست بالوسيلة الفنية التي لجأ إليها الطرفان بل بالغاية العملية التي يراد الوصول إليها فإذا تبين أن الوسيلة التي اختارها الطرفان باطلة أمكن أن يقال أنهما أرادا الوسيلة الصحيحة مادام أنها تؤدي إلى الغاية المقصودة.
ومن هنا يكون القاضي، وهو يبدل العاقدين بعقدهما الأصلي عقداً جديداً، قد أحل نفسه محلهما في اختيار الطريق القانوني الصحيح، ويكون من شأن هذه الشروط أن تحد من إطلاق تقدير القاضي بحيث تقرب ما أمكن بين الإرادة المحتملة وإرادتهما الحقيقية. (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الثاني الصفحة/458)
وبذلك استقرت النظرية في القانون المصري بنص صريح ولم يعد ثمة محل المجادلة في شأنها ، وصار من الممكن تطبيقها على الحالات التي تقدم أن القضاء طبقها فيها وعلى غيرها من المجالات التي تتوافر فيها شروطها.
أما هذه الشروط فثلاثة، هي : (1) وجود تصرف أصلي وقع باطلاً أو جيم بإبطاله، (2) وتضمن ذلك التصرفية الأصلي عناصر تصرف آخر - (3) و احتمال انصراف ارادة المتعاقدين الني هذا التصرف الآخر لو علما ببطلان التصرف الأصلي.
والغالب أن ينازع الطرف الذي يتمسك ببطلان العقد الأصلي في تحوله الى عتمد آخر ، وأن يتمسك الطرف الآخر بالتحول ، فيؤول الأمر إلى القاضي ، وهو الذي يتحقق من توافر هذه الشروط ثم يقضي بإحلال العقد الآخر محل العقد الأصلي الذي وقع باطلاً فالواقع كلنا تقول المذكرة الإيضاحية أن القاضي يحل نفسه محل: الطرفين ويبدلهما من عقدهما القديم عقدا جديدا يقيمه لهما ، إذا توافرت شروط التحول.
فيما يتعلق بالشرط الأول يجب أن يكون العقد الأصلي باطلاً أو تقابلاً للإبطال في كليته أو في جزء منه غير قابل للإنفصال عن سائر أجزائه ، لأنه لو كان صحيحاً فلا يملك القاضي بوجه من الوجوه أن يحل محله عقداً آخر قد يؤثره العاقد أن لو فصل لهما أمره ، فلا يجوز له مثلاً أن يحول الهبة الصحيحة الى وصية ولو ثبت لديه أن العاقدين كانا يؤثر أن الوصية على الهبة ، ولأنه لو كان العقد باطلاً أو قابلاً للإبطال في ثق منه فقط قابل للانفصال عن الباقي تعين أن يطبق عليه النص الخاص بقصر العقود الباطلة ( المادة 143 ) ، اذ أن هذا النص أولى بالتطبيق باعتبار أنه بقي على إرادة العام دين الحقيقية في حين أن نظرية التحول في المادة (144) تحمل إرادتهما المحتملة محل الإرادة الحقيقية ، ولا شك في أن هذه أولى من تلك .
وفيما يتعلق بالشرط الثاني يجب أن تكون عناصر العقد الآخر الذي يحله القاضي محل العقد الأصلي الذي وقع باطلاً متوافرة كلها بين حطام هذا العقد ، فلا يجوز بأي حال استكمالها بعنصر جدید يلتمن خارج نطاق العقد الأصلي سواء من حيث محل العقد، أو من حيث أطرافه، فإذا بعتك سيارة أخي وأبطل البيع لوروده على ملك الغير، فلا يملك القاضي أن يحول العقد من بيع سيارة أخي الى بيع سيارتى ولو كانت السياراتان متماثلتين، وذلك لأن سيارتي باعتبارها محلاً لعقد بيع لم تكن من عناصر العقيد الأصلي ، فهي محل أجنبي عنه، فلا يجوز أن يتخذ منها محل للعقد الجديد الذي يراد إقامته محل العقد الأصلي الباطل.
وفيما يتعلق بالشرط الثالث يجب أن يقوم الدليل على أن نية المتعاقدين كانت، وقت إبرام العقد الأصلي تنصرف إلى الارتباط بالعقد الآخر لو أنهما تبيناً ما بالعقد الأصلى من أسباب البطلان ، ويستعين القاضي في ذاك بالقرائن القضائية ، فيمكن أن يستخلص من سكوت الطرفين عن التمسك بالبطلان بعد علمهما بأمره ومن استمرار تنفيذهما العقد الأصلي بعد ذلك مدة ما أن نيتهما المحتملة كانت تنصرف الى المتحول ، ولو نازع أحدهما في ذلك بعدئذ .
والتعرف على نية - العاقدين فيما يتعلق باحتمال إنصرافهما إلى العقد الأخر لو علماً ببطلان العقد الذي أبرماه يعتبر من مسائل الواقع التي يستقل قاضى الموضوع بتقدير هاما ام تقديره شائعاً، فإذا ثبت له عدم انصراف نية الطرفين المحتملة إلى التحول الى العقد الآخر ، امتنع عليه الحكم بالتحول.
ولعل أبرز تطبيق تشريعي لهذه النظرية في التقنين المدني الحالي هو تطبيقها في المواد 466 وما بعدها على بيع ملك الغير ، حيث أن البيع في القانون الحديث صار نوعين : (1) بيع ناقل للملك بذاته فور التعاقد ويشترط فيه أن يكون المبيع موجوداً و معيناً بالذات ومملوكاً للبائع ، (2) وبيع منشئ لالتزامات فقط أي غير ناقل للملك بذاته، وهذا يجوز فيه أن يكون المبيع مالاً مستقبلاً أو مثلياً أو غير مملوكاً للبائع ، فإذا وقع بيع ملك الغير باطلاً بإعتباره بيعاً ناقلاً للملك بذاته لاستحالة انتقال الملكية فيه وقت انعقاده من البائع الى المشتري ، فإن القانون يقضى بتحوله إلى بيع من النوع الثاني أي إلى بيع منشئ لالتزامات فقط. (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقص، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الثاني الصفحة/ 461)
النص في المادة 144 من القانون المدني على أنه " إذا كان العقد باطلاً أو قابلاً للإبطال و توافرت فيه أركان عقد آخر فإن العقد يكون صحيحاً بإعتباره العقد الذي توافرت أركانه إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام هذا العقد ، و مناط إعمال هذا النص أن تتوافر في العقد الباطل أركان عقد آخر صحيح .
وتحول العقد الباطل يكون في حالة بطلان التصرف مع اشتماله على عناصر عقد آخر تكون نية الطرفين الاحتمالية قد انصرفت إلى قبوله دون إدخال عنصر جديد عليه. (التقنين المدني، شرح أحكام القانون المدني، المستشار/ أحمد محمد عبد الصادق، طبعة 2015، دار القانون للاصدارات القانونية، الجزء/ الأول الصفحة/ 581)
يشترط لتحول العقد الباطل توافر أربعة شروط أولها أن يكون هناك تصرف باطل ، وثانيها أن يكون هناك اختلاف في الطبيعة بين التصرف الباطل والتصرف الذي يتحول إليه ، وثالثها أن يتضمن التصرف الأول عناصر التصرف الثاني دون أن يضاف إلى هذا التصرف الآخر عنصر جديد فلو انتصب البيع على ارض غير مملوكة للبائع فلا يتحول العقد إلى بيع منزل مملوك له حتى لو ثبت أن العاقدين كانا ليقبلا ذلك لو علماً بعدم ملكية البائع للأرض ، ورابعها أن يتبين أن نية الطرفين كانت تتجه إلى التصرف الثاني لو علماً ببطلان التصرف الأول الشرقاوی بند 50 - السنهوري بندي 306 و 307- حجازی بند 484 وما بعده - مرقس في نظرية العقد بند 241 - الصدة بند 271 وما بعده - فتحي عبد الرحيم بند 257 . (التقنين المدني في ضوء القضاء والفقه، الأستاذ/ محمد كمال عبد العزيز، طبعة 2003 الصفحة/ 889 )
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الأول ، الصفحة / 179
إبْطال
1 - الإْبْطال لغةً: إفْساد الشّيْء وإزالته، حقًّا كان ذلك الشّيْء أوْ باطلاً. قال اللّه تعالى , ليحقّ الْحقّ ويبْطل الْباطل- وشرْعًا: الْحكْم على الشّيْء بالْبطْلان، سواءٌ وجد صحيحًا ثمّ طرأ عليْه سبب الْبطْلان، أوْ وجد وجودًا حسّيًّا لا شرْعيًّا. فالأْوّل كما لو انْعقدت الصّلاة صحيحةً ثمّ طرأ عليْها ما يبْطلها، والثّاني كما لوْ عقد على إحْدى الْمحرّمات عليْه على التّأْبيد، كما يسْتفاد منْ عبارات الْفقهاء.
ويأْتي على ألْسنة الْفقهاء بمعْنى الْفسْخ، والإْفْساد، والإْزالة، والنّقْض، والإْسْقاط، لكنّه يخْتلف عنْ هذه الأْلْفاظ منْ بعْض الْوجوه، ويظْهر ذلك عنْد مقارنته بها. والأْصْل في الإْبْطال أنْ يكون من الشّارع، كما يحْدث الإْبْطال ممّنْ قام بالْفعْل أو التّصرّف، وقدْ يقع من الْحاكم في الأْمور الّتي سلّطه عليْها الشّارع.
الأْلْفاظ ذات الصّلة:
أ - الإْبْطال والْفسْخ:
2 - يعبّر الْفقهاء أحْيانًا في الْمسْألة الْواحدة تارةً بالإْبْطال، وتارةً بالْفسْخ، غيْر أنّ الإْبْطال يحْدث أثْناء قيام التّصرّف وبعْده، وكما يحْصل في الْعقود والتّصرّفات يحْدث في الْعبادة.
أمّا الْفسْخ فإنّه يكون غالبًا في الْعقود والتّصرّفات، ويقلّ في الْعبادات، ومنْه فسْخ الْحجّ إلى الْعمْرة، وفسْخ نيّة الْفرْض إلى النّفْل، ويكون في الْعقود قبْل تمامها، لأنّه فكّ ارْتباط الْعقْد أو التّصرّف.
ب - الإْبْطال والإْفْساد:
3 - يأْتي التّفْريق بيْن الإْبْطال والإْفْساد تفْريعًا على التّفْرقة بيْن الْباطل والْفاسد.
ويتّفق الْفقهاء على أنّ الْباطل والْفاسد بمعْنًى واحدٍ في الْعبادات، إن اسْتثْنيْنا الْحجّ عنْد الشّافعيّة والْحنابلة.
وغيْر الْعبادة كذلك غالبًا عنْد الْمالكيّة والشّافعيّة والْحنابلة.
أمّا الْحنفيّة فإنّهمْ يفرّقون في أغْلب الْعقود بيْن الْفاسد والْباطل، فالْباطل ما لا يكون مشْروعًا لا بأصْله ولا بوصْفه، والْفاسد ما يكون مشْروعًا بأصْله دون وصْفه. ولتفْصيل ذلك (ر: بطْلان، فساد.)
ج - الإْبْطال والإْسْقاط:
4 - الإْسْقاط فيه رفْعٌ لحقٍّ ثابتٍ. وفي الإْبْطال منْعٌ لقيام الْحقّ أو الالْتزام.
وقدْ يأْتي كلٌّ من الإْبْطال والإْسْقاط بمعْنًى واحدٍ أحْيانًا في كلام الْفقهاء، كقوْلهمْ: الْوقْف لا يبْطل بالإْبْطال، وقوْلهمْ: أسْقطْت الْخيار أوْ أبْطلْته.
إجازة
التّعْريف:
1 - الإْجازة في اللّغة الإْنْفاذ، يقال: أجاز الشّيْء: إذا أنْفذه.
ولا يخْرج اسْتعْمال الْفقهاء للإْجازة عنْ هذا الْمعْنى اللّغويّ.
هذا وقدْ يطْلق الْفقهاء «الإْجازة» بمعْنى الإْعْطاء كما يطْلقونه على الإْذْن بالإْفْتاء أو التّدْريس.
ويطْلق الْمحدّثون وغيْرهمْ «الإْجازة» بمعْنى الإْذْن بالرّواية، سواءٌ أكانتْ رواية حديثٍ أمْ رواية كتابٍ. وتفْصيل ذلك يأْتي في آخر الْبحْث، والإْجازة بمعْنى الإْنْفاذ لا تكون إلاّ لاحقةً للتّصرّف، بخلاف الإْذْن فلا يكون إلاّ سابقًا عليْه.
وعلى هذا فنقسّم الْبحْث على هذه الأْنْواع الأْرْبعة:
أوّلاً: الإْجازة بمعْنى الإْنْفاذ
أرْكانها:
2 - كلّ إجازةٍ لا بدّ منْ أنْ تتوفّر فيها الأْمور التّالية:
أ - الْمجاز تصرّفه: وهو منْ تولّى التّصرّف بلا ولايةٍ كالْفضوليّ.
ب - الْمجيز: وهو منْ يمْلك التّصرّف سواءٌ أكان أصيلاً أمْ وكيلاً أمْ وليًّا أمْ وصيًّا أمْ قيّمًا أمْ ناظر وقْفٍ.
ج - الْمجاز: وهو التّصرّف.
د - الصّيغة: صيغة الإْجازة أوْ ما يقوم مقامها.
وقد اصْطلح جمْهور الْفقهاء على أنّ هذه الأْمور كلّها أرْكانٌ والْحنفيّة يقْصرون إطْلاق لفْظ الرّكْن على الصّيغة أوْ ما يقوم مقامها.
أ - الْمجاز تصرّفه:
3 - يشْترط في الْمجاز تصرّفه ما يلي:
1 - أنْ يكون ممّنْ ينْعقد به التّصرّف كالْبالغ الْعاقل والصّغير الْمميّز في بعْض تصرّفاته.
أمّا إذا كان الْمباشر غيْر أهْلٍ لعقْد التّصرّف أصْلاً كالْمجْنون والصّغير غيْر الْمميّز فإنّ التّصرّف يقع باطلاً غيْر قابلٍ للإْجازة.
بقاء الْمجاز تصرّفه حيًّا لحين الإْجازة:
4 - لكيْ تكون الإْجازة صحيحةً ومعْتبرةً عنْد الْحنفيّة فلا بدّ منْ صدورها حال حياة الْمباشر، إنْ كانتْ طبيعة التّصرّف ممّا ترْجع حقوقه إلى الْمباشر فيما لوْ حجبتْ عنْه الإْجازة، كالشّراء والاسْتئْجار
أمّا التّصرّفات الّتي يعْتبر فيها الْمباشر سفيرًا ومعبّرًا، ولا تعود حقوق التّصرّف إليْه بحالٍ من الأْحْوال، كالنّكاح فلا تشْترط فيه حياة الْمباشر وقْت الإْجازة، كما لوْ زوّج فضوليٌّ رجلاً بامْرأةٍ، ثمّ
مات الْفضوليّ، ثمّ أجاز الرّجل اعْتبرت الإْجازة صحيحةً؛ لأنّ الْوكيل في هذا الْعقْد ما هو إلاّ سفيرٌ ومعبّرٌ، ولا يعود إليْه شيْءٌ منْ حقوق هذا الْعقْد حين إخْلاله بالشّروط الّتي اشْترطها عليْه الْموكّل.
هذا صريح مذْهب الْحنفيّة وهو الْمفْهوم منْ بعْض الْفروع في مذْهب الشّافعيّة، فقدْ قالوا: لوْ باع مال مورّثه على ظنّ أنّه حيٌّ وأنّه فضوليٌّ، فبان ميّتًا حينئذٍ وأنّه ملْك الْعاقد فقوْلان، وقيل: وجْهان مشْهوران، أصحّهما أنّ الْعقْد صحيحٌ لصدوره منْ مالكٍ، والثّاني: الْبطْلان لأنّه في معْنى الْمعلّق بموْته، ولأنّه كالْغائب.
والظّاهر أنّ الْوجْه الأْوّل هنا مبْنيٌّ على الْقوْل بجواز تصرّف الْفضوليّ، فإنّ تصرّفه كان على ظنّ أنّه فضوليٌّ، وإجازته بعْد تحقّق وفاة مورّثه على أنّه مالكٌ فله اعْتباران: كوْنه فضوليًّا وكوْنه مالكًا، وهو حيٌّ في كلْتا الْحالتيْن. وأمّا على الْقوْل بالْبطْلان، وهو الْمعْتمد عنْدهمْ، فلا تنافي. هذا ولمْ نعْثرْ على هذا الشّرْط عنْد الْمالكيّة والْحنابلة.
ب - الْمجيز:
5 - منْ له الإْجازة (الْمجيز) إمّا أنْ يكون واحدًا أوْ أكْثر، فإنْ كان واحدًا فظاهرٌ، وإنْ كان أكْثر فلا بدّ من اتّفاق جميع منْ لهم الإْجازة عليْها حتّى تلْحق التّصرّف إذا كان لكلّ واحدٍ منْهمْ حقّ الإْجازة كاملاً، فإن اخْتلفوا فأجازه الْبعْض وردّه الْبعْض قدّم الرّدّ على الإْجازة، كما لوْ جعل خيار
الشّرْط إلى شخْصيْن فأجاز الْبيْع أحدهما وامْتنع عن الإْجازة الآْخر، لمْ تلْحق الإْجازة التّصرّف.
أمّا إنْ كانت الإْجازة قابلةً للتّجْزئة كما إذا تصرّف فضوليٌّ في مالٍ مشْتركٍ، فالإْجازة تنْفذ في حقّ الْمجيز دون شركائه.
6 - ويشْترط في الْمجيز لكيْ تصحّ إجازته أنْ يكون أهْلاً لمباشرة التّصرّف وقْت الإْجازة، فإنْ كان التّصرّف هبةً وجب أنْ تتوفّر فيه أهْليّة التّبرّع، وإنْ كان بيْعًا وجب أنْ تتوفّر فيه أهْليّة التّعاقد وهكذا؛ لأنّ الإْجازة لها حكْم الإْنْشاء، فيجب فيها من الشّروط ما يجب في الإْنْشاء.
7 - ويشْترط الْحنفيّة والْمالكيّة والْحنابلة في قوْلٍ عنْدهمْ والشّافعيّة في التّصرّفات الّتي تتوقّف على الإْجازة كخيار الشّرْط لأجْنبيٍّ عن الْعقْد، أنْ يكون الْمجيز موْجودًا حال وقوع التّصرّف؛ لأنّ كلّ تصرّفٍ يقع ولا مجيز له حين وقوعه يقع باطلاً، والْباطل لا تلْحقه الإْجازة.
فإذا باع الصّغير الْمميّز ثمّ بلغ قبْل إجازة الْوليّ تصرّفه، فأجاز تصرّفه بنفْسه جاز؛ لأنّ له وليًّا يجيزه حال الْعقْد، وإذا زوّج فضوليٌّ إنْسانًا ثمّ وكّل هذا الشّخْص الْفضوليّ في تزْويجه قبْل أنْ يجيز التّصرّف، فأجاز الْفضوليّ بعْد الْوكالة تصرّفه السّابق للْوكالة،جاز هذا عنْد كلٍّ من الْحنفيّة والْمالكيّة. بخلاف ما إذا طلّق وهو صغيرٌ، ثمّ بلغ فأجاز طلاقه بنفْسه، لمْ يجزْ لأنّ طلاق الصّغير ليْس له مجيزٌ وقْت وقوعه، إذْ ليْس للْوليّ أنْ يطلّق زوْجة الصّغير، ولا أنْ يتصرّف تصرّفًا مضرًّا ضررًا محْضًا بالصّغير - مميّزًا أوْ غيْر مميّزٍ - هذا عنْد الْجمْهور (الْحنفيّة والْمالكيّة والشّافعيّة وقوْلٌ لأحْمد) والْمعْتمد عنْد الْحنابلة وقوع طلاق الصّبيّ الْمميّز الّذي يعْقل الطّلاق وما يترتّب عليْه.
8 - ويشْترط الشّافعيّة أنْ يكون منْ تولّى الإْجازة مالكًا للتّصرّف عنْد الْعقْد، فلوْ باع الْفضوليّ مال الطّفْل، فبلغ الطّفْل، فأجاز ذلك الْبيْع، لمْ ينْفذْ لأنّ الطّفْل لمْ يكنْ يمْلك الْبيْع عنْد الْعقْد. وهذا بناءً على الْقوْل عنْدهمْ بجواز تصرّفات الْفضوليّ.
9 - كما يشْترط في الْمجيز أنْ يكون عالمًا ببقاء محلّ التّصرّف. أمّا علْمه بالتّصرّف الّذي أجازه فظاهرٌ، وأمّا علْمه ببقاء محلّ التّصرّف فقدْ قال في الْهداية: ولوْ أجاز الْمالك في حياته وهو لا يعْلم حال
الْمبيع جاز الْبيْع في قوْل أبي يوسف أوّلاً، وهو قوْل محمّدٍ لأنّ الأْصْل بقاؤه. ثمّ رجع أبو يوسف فقال: لا يصحّ حتّى يعْلم قيامه عنْد الإْجازة؛ لأنّ الشّكّ وقع في شرْط الإْجازة. فلا يثْبت مع الشّكّ وهو ما ذهب إليْه الْمالكيّة أيْضًا. ولمْ نقفْ على نصٍّ في هذا عنْد الشّافعيّة والْحنابلة لأنّ الْمعْتمد عنْدهمْ عدم جواز تصرّفات الْفضوليّ، ولهذا لمْ يتوسّعوا في التّفْريع.
ج - التّصرّف الْمجاز (محلّ الإْجازة)
محلّ الإْجازة إمّا أنْ يكون قوْلاً أوْ فعْلاً
إجازة الأْقْوال:
10 - الإْجازة تلْحق التّصرّفات الْقوْليّة، وعنْدئذٍ يشْترط في تلْك التّصرّفات:
أوّلاً: أنْ يكون قدْ وقع صحيحًا، فالْعقْد غيْر الصّحيح لا تلْحقه الإْجازة كبيْع الْميْتة، فبيْع الْميْتة غيْر منْعقدٍ أصْلاً، فهو غيْر موْجودٍ إلاّ منْ حيْث الصّورة فحسْب، والإْجازة لا تلْحق الْمعْدوم بالْبداهة. ويبْطل الْعقْد الْموْقوف وغيْر اللاّزم بردّ منْ له الإْجازة، فإذا ردّه فقدْ بطل، ولا تلْحقه الإْجازة بعْد ذلك.
ثانيًا: أنْ يكون التّصرّف صحيحًا غيْر نافذٍ - أيْ موْقوفًا - كهبة الْمريض مرض الْموْت فيما زاد على الثّلث وكتصرّف الْفضوليّ عنْد منْ يرى جوازه، وكالْعقود غيْر اللاّزمة كالّتي تنْعقد مع الْخيار.
ثالثًا: أنْ يكون الْمعْقود عليْه قائمًا وقْت الإْجازة، فإنْ فات الْمعْقود عليْه فإنّ الْعقْد لا تلْحقه الإْجازة،
لأنّ الإْجازة تصرّفٌ في الْعقْد، فلا بدّ منْ قيام الْعقْد بقيام الْعاقديْن والْمعْقود عليْه.
إجازة الْعقود الْواردة على محلٍّ واحدٍ:
11 - إذا وردت الإْجازة على أكْثر منْ عقْدٍ واحدٍ على محلٍّ واحدٍ، لحقتْ أحقّ هذه الْعقود بالإْمْضاء.
وقدْ صنّف الْحنفيّة الْعقود والتّصرّفات بحسب أحقّيّتها كما يلي:
الْكتابة والتّدْبير والْعتْق، ثمّ الْبيْع، ثمّ النّكاح، ثمّ الْهبة، ثمّ الإْجارة، ثمّ الرّهْن. فإذا باع فضوليٌّ أمة رجلٍ، وزوّجها فضوليٌّ آخر، أوْ آجرها أوْ رهنها، فأجاز الْمالك تصرّف الْفضوليّين معًا، جاز الْبيْع وبطل غيْره؛ لأنّ الْبيْع أحقّ منْ بقيّة التّصرّفات، فلحقتْ به الإْجازة دون غيْره ولمْ نجدْ هذا عنْد غيْرهمْ.
إجازة الأْفْعال:
الأْفْعال إمّا أنْ تكون أفْعال إيجادٍ أوْ إتْلافٍ.
12 - وفي أفْعال الإْيجاد اتّجاهان: الأْوّل: أنّ الإْجازة لا تلْحقها، وهو ما ذهب إليْه الإْمام أبو حنيفة.
الثّاني: أنّ الإْجازة تلْحقها، وهو ما ذهب إليْه الإْمام محمّد بْن الْحسن وهو الرّاجح عنْد الْحنفيّة. وبناءً على ذلك فإنّ الْغاصب إذا أعْطى الْمغْصوب لأجْنبيٍّ بأيّ تصرّفٍ فأجاز الْمالك ذلك، فقدْ ذهب أبو حنيفة إلى عدم براءة الْغاصب وأنّه لا يزال ضامنًا إذ الأْصْل عنْده أنّ الإْجازة لا تلْحق الأْفْعال. والْمفْهوم منْ بعْض فروع الْمالكيّة والشّافعيّة، وروايةٌ عنْ أحْمد أنّهمْ يذْهبون مذْهب أبي حنيفة.
وعلّل الْمالكيّة ذلك بأنّ الرّضا بتصرّف الْغاصب لا يجْعل يده يد أمانةٍ. وعلّل الشّافعيّ والْحنابلة لهذه الرّواية بأنّ تصرّفات الْغاصب في الْعيْن الْمغْصوبة حرامٌ، ولا يمْلك أحدٌ إجازة تصرّفٍ حرامٍ. وذهب الإْمام محمّد بْن الْحسن إلى أنّ إجازة الْمالك لتصرّف الْغاصب صحيحةٌ وتبرّئ ذمّته وتسْقط عنْه الضّمان والْقاعدة عنْده أنّ الإْجازة تلْحق الأْفْعال. وهو الرّواية الأْخْرى عنْد الْحنابلة، واخْتلف علماؤهمْ في تخْريج هذه الرّواية عنْ أحْمد.
13 - واتّفقتْ كلمة الْحنفيّة على أنّ الإْجازة لا تلْحق أفْعال الإْتْلاف، فليْس للْوليّ أنْ يهب منْ مال الصّغير؛ لأنّ الْهبة إتْلافٌ، فإنْ فعل ذلك كانضامنًا، فإنْ بلغ الصّبيّ وأجاز هبته، لمْ تجزْ؛ لأنّ الإْجازة لا تلْحق أفْعال الإْتْلاف.
وهذا هو ما يفْهم منْ كلام الْمالكيّة والشّافعيّة. وأمّا الْحنابلة فقدْ فرّقوا بيْن ما إذا كان الْوليّ أبًا أوْ غيْر أبٍ فإنْ كان أبًا فلا يعْتبر متعدّيًا لأنّ له حقّ تملّك مال ولده، لحديث: «أنْت ومالك لأبيك» وإنْ كان الْوليّ غيْر أبٍ فهمْ مع الْجمْهور. أمّا دليل عدم نفاذ الإْجازة فلأنّ تصرّفات الْوليّ منوطةٌ بمصْلحته، والتّبرّعات إتْلافٌ فتقع باطلةً فلا تلْحقها الإْجازة.
14 - وقدْ وقع خلافٌ في اللّقطة إذا تصدّق بها الْملْتقط، فالْمالكيّة والْحنابلة قالوا: إذا عرّفها سنةً ولمْ يأْت مالكها تملّكها الْملْتقط، وعلى هذا فلوْ تصدّق بها بعْد الْمدّة الْمذْكورة فلا ضمان عليْه لأنّه تصدّق بخالص ماله. ومفْهوم كلامهمْ أنّه لوْ تصدّق بها قبْل هذه الْمدّة أوْ لمْ يعرّفْها يكون ضامنًا إنْ لمْ يجز الْمالك التّصدّق. وسندهمْ في ذلك حديث زيْد بْن خالدٍ أنّ الرّسول صلي الله عليه وسلم قال في شأْن اللّقطة: «فإنْ لمْ تعْرفْ فاسْتنْفقْها. وفي لفْظٍ: وإلاّ فهي كسبيل مالك. وفي لفْظٍ: ثمّ كلْها. وفي لفْظٍ: فانْتفعْ بها».
أمّا الْحنفيّة فقالوا: إذا تصدّق الْملْتقط باللّقطة، ثمّ جاء صاحبها فأجاز صدقة الْملْتقط طلبًا لثواب اللّه تعالى، جاز بالاتّفاق. قال عمر بْن الْخطّاب لمنْ أتاه مسْتفْسرًا عمّا يتصرّف به في اللّقطة الّتي في يده: ألا أخْبرك بخيْر سبيلها؟ تصدّقْ بها، فإنْ جاء صاحبها فاخْتار الْمال غرمْت له وكان الأْجْر لك، وإن اخْتار الأْجْر كان له، ولك ما نويْت ومفْهوم مذْهب الشّافعيّة أنّ الْملْتقط إذا تصرّف أيّ تصرّفٍ فيها يكون متعدّيًا ويعْتبر ضامنًا. وتفْصيل ذلك في مصْطلح «لقطة».
صيغة الإْجازة:
من اسْتقْراء كلام الْفقهاء نجد أنّ الإْجازة تتحقّق بطرائق متعدّدةٍ. وهي خمْسةٌ في الْجمْلة:
الطّريقة الأْولى: الْقوْل
15 - الأْصْل في الإْجازة أنْ تكون بالْقوْل الْمعبّر عنْها بنحْو قوْل الْمجيز: أجزْت، وأنْفذْت، وأمْضيْت، ورضيت، ونحْو ذلك.
وإذا وقعت الإْجازة بلفْظٍ يمْكن أنْ يعبّر به عنْها كما يمْكن أنْ يعبّر به عنْ غيْرها، فالاحْتكام في ذلك إلى قرائن الأْحْوال. فإن انْعدمتْ قرائن الأْحْوال حمل الْكلام على حقيقته.
وتقوم الْكتابة أو الإْشارة الْمفْهمة مقام الْقوْل عنْد الْعجْز، على تفْصيلٍ موْضعه الصّيغة في الْعقْد.
الطّريقة الثّانية: الْفعْل
16 - فكلّ ما يصحّ أنْ يكون قبولاً من الأْفْعال في الْعقود، يصحّ أنْ يكون إجازةً.
الطّريقة الثّالثة:
17 - مضيّ الْمدّة في التّصرّفات الْموْقوتة: كمضيّ مدّة الْخيار في خيار الشّرْط (ر: خيار الشّرْط)
الطّريقة الرّابعة:
18 - الْقرائن الْقويّة: كتبسّم الْبكْر الْبالغة، وضحكها ضحك سرورٍ وابْتهاجٍ، وسكوتها وقبْضها مهْرها، عنْد إعْلام وليّها إيّاها أنّه زوّجها منْ فلانٍ، فإنّها قرينةٌ قويّةٌ على إجازتها، بخلاف بكائها بصوْتٍ مرْتفعٍ وولْولتها، فهي قرينةٌ على الرّفْض.
ومن الْقرائن الْقويّة السّكوت في موْطن الْحاجة إلى الإْبْطال، كسكوت صاحب الْحاجة عنْد رؤْية حاجته يبيعها صغيره الْمميّز في السّوق وغيْرها.
الطّريقة الْخامسة:
19 - زوال حالةٍ أوْجبتْ عدم نفاذ التّصرّف، كما هو الْحال في تصرّفات الرّجل الْمرْتدّ عن الإْسْلام منْ معاوضاتٍ ماليّةٍ كالْبيْع والإْجارة، أوْ تبرّعاتٍ كالْهبة والْوصيّة والْوقْف، فإنّ الإْمام أبا حنيفة يعْتبر سائر عقود الْمرْتدّ وتصرّفاته الْماليّة موْقوفةً غيْر نافذةٍ، فإنْ زالتْ حالة الرّدّة بعوْدته للإْسْلام نفذتْ تلْك التّصرّفات الْموْقوفة، وإنْ مات أوْ قتل أو الْتحق بدار الْحرْب وقضى الْقاضي باعْتباره ملْتحقًا بها، بطلتْ تلْك الْعقود والتّصرّفات.
20 - وهذه الطّرق الْخمْسة هي صريح مذْهب الْحنفيّة والْمفْهوم منْ مذْهب الْمالكيّة عنْد كلامهمْ عنْ صيغة عقْد الْبيْع. أمّا الشّافعيّة فالأْصْل عنْدهمْ في التّصرّفات الْقوْليّة الْعبارة. وهذا هو الْمعْتمد في الْمذْهب الْجديد. وفي الْمذْهب الْقديم جواز الاعْتماد على الْمعاطاة وما في معْناها، وهو اخْتيار النّوويّ وجماعةٍ، سواءٌ أكان في النّفيس أم الْخسيس واخْتار بعْضهمْ جواز ذلك في الْخسيس فقطْ. وعليْه فتكون الإْجازة عنْدهمْ على الْمعْتمد بالْعبارة دون غيْرها.
وأمّا الْحنابلة فالْمأْخوذ منْ فروعهمْ جواز ذلك في الْجمْلة.
وللْفقهاء في تصرّفات الْمرْتدّ وكوْنها موْقوفةً أوْ نافذةً تفْصيلٌ حاصله أنّها موْقوفةٌ عنْد أبي حنيفة ومالكٍ والْحنابلة ورأْيٍ عنْد الشّافعيّة، فإنْ عاد إلى الإْسْلام نفذتْ تصرّفاته بإجازة الشّارع. والصّاحبان من الْحنفيّة والشّافعيّة في رأْيٍ عنْدهمْ أنّ تصرّفاته نافذةٌ. ومبْنى هذا الْخلاف أنّ منْ قال بنفاذ تصرّفاته قال: إنّه أهْلٌ للتّصرّف وقدْ تصرّف في ملْكه ولمْ يوجدْ سببٌ مزيلٌ للْملْك، وأنّ كلّ ما يسْتحقّه هو الْقتْل. أمّا الْوجْه الآْخر فإنّهمْ يروْن أنّه بالرّدّة صار مهْدر الدّم وماله تبعٌ له، ويتريّث حتّى يسْتبين أمْره.
آثار الإْجازة:
21 - الإْجازة يظْهر أثرها منْ حين إنْشاء التّصرّف. ولذا اشْتهر منْ أقْوال الْفقهاء الإْجازة اللاّحقة كالإْذْن السّابق. ويبْنى على ذلك كثيرٌ من التّطْبيقات الْعمليّة عنْدهمْ، نذْكر منْها:
1 - أنّ الْمجيز يطالب الْمباشر بالثّمن بعْد الإْجازة إنْ كان التّصرّف بيْعًا، ولا يطالب الْمشْتري لأنّ الْمباشر - وهو الْفضوليّ - قدْ صار بالإْجازة وكيلاً.
2 - إذا باع الْفضوليّ ملْك غيْره ثمّ أجاز الْمالك الْبيْع يثْبت الْبيْع والْحطّ سواءٌ علم الْمالك الْحطّ أوْ لمْ يعْلمْ إلاّ أنّه بالْحطّ بعْد الإْجازة يثْبت له الْخيار.
3 - إذا تعدّدتْ التّصرّفات وأجاز الْمالك أحدها أجاز الْعقْد الّذي أجازه خاصّةً، فلوْ باع الْغاصب الْعيْن الْمغْصوبة ثمّ باعها الْمشْتري أوْ أجّرها أوْ رهنها وتداولتْها الأْيْدي فأجاز مالكها أحد هذه الْعقود، جاز الْعقْد الّذي أجازه خاصّةً لتوقّف كلّها على الإْجازة، فإذا أجاز عقْدًا منْها جاز ذلك خاصّةً ولمْ نعْثرْ لغيْر الْحنفيّة على ما يتعلّق بهذا.
رفْض الإْجازة:
22 - يحقّ لمنْ له الإْجازة أنْ يردّ التّصرّف الْمتوقّف عليْها، وإذا ردّه فليْس له أنْ يجيزه بعْد ذلك لأنّه بالرّدّ أصْبح التّصرّف باطلاً.
الرّجوع عن الإْجازة:
23 - إذا أجاز منْ له الإْجازة التّصرّف، فليْس له أنْ يرْجع عن الإْجازة بعْد ذلك، فمنْ سمع أنّ فضوليًّا باع ملْكه فأجاز ولمْ يعْلمْ مقْدار الثّمن، فلمّا علم ردّ الْبيْع، فالْبيْع قدْ لزم، ولا عبْرة لردّه لصيْرورة الْبائع الْمباشر للْبيْع - وهو الْفضوليّ هنا - كالْوكيل.
ثانيًا: الإْجازة بمعْنى الإْعْطاء
24 - الإْجازة بمعْنى الإْعْطاء. وهي بمعْنى الْعطيّة منْ حاكمٍ أوْ ذي شأْنٍ كمكافأةٍ على عملٍ، وبيان ذلك في مصْطلح هبة.
ثالثًا: الإْجازة بمعْنى الإْذْن بالإْفْتاء أو التّدْريس
25 - أمّا الإْجازة بمعْنى الإْفْتاء أو التّدْريس، فلا يحلّ إجازة أحدٍ للإْفْتاء أوْ تدْريس الْعلوم الدّينيّة إلاّ أنْ يكون عالمًا بالْكتاب والسّنّة والآْثار ووجوه الْفقْه واجْتهاد الرّأْي، عدْلاً موْثوقًا به.
رابعًا: الإْجازة بمعْنى الإْذْن في الرّواية
26 - اخْتلف الْعلماء في حكْم رواية الْحديث بالإْجازة والْعمل به، فذهب جماعةٌ إلى الْمنْع وهو إحْدى الرّوايتيْن عن الشّافعيّ، وحكي ذلك عنْ أبي طاهرٍ الدّبّاس منْ أئمّة الْحنفيّة، ولكنّ الّذي اسْتقرّ عليْه الْعمل وقال به جماهير أهْل الْعلْم منْ أهْل الْحديث وغيْرهم الْقوْل بتجْويز الإْجازة وإباحة الرّواية بها، ووجوب الْعمل بالْمرْويّ بها.
27 - وتسْتحْسن الإْجازة برواية الْحديث إذا كان الْمجيز عالمًا بما يجيز، والْمجاز له منْ أهْل الْعلْم؛ لأنّها توسّعٌ وترْخيصٌ يتأهّل له أهْل الْعلْم لمسيس حاجتهمْ إليْها، وبالغ بعْضهمْ في ذلك فجعله شرْطًا فيها، وقدْ حكى ذلك أبو الْعبّاس الْوليد بْن بكْرٍ الْمالكيّ عن الإْمام مالكٍ رحمه الله.
أنْواع الإْجازة بالْكتب:
28 - وكما جرت الْعادة برواية الْحديث بالإْجازة، جرتْ كذلك برواية الْكتب وتدْريسها بها، وهي على أنْواعٍ:
النّوْع الأْوّل: أنْ يجيز إنْسانًا معيّنًا في رواية كتابٍ معيّنٍ، كقوْله: «أجزْت لك رواية كتابي الْفلانيّ».
النّوْع الثّاني: أنْ يجيز لإنْسانٍ معيّنٍ رواية شيْءٍ غيْر معيّنٍ، كقوْله: «أجزْت لك رواية جميع مسْموعاتي».
وجمْهور الْفقهاء والْمحدّثين على تجْويز الرّواية بهذيْن النّوْعيْن، وعلى وجوب الْعمل بما روي بهما بشرْطه، مع الْعلْم أنّ الْخلاف في جواز الْعمل بالنّوْع الثّاني أكْثر بيْن الْعلماء.
النّوْع الثّالث: إجازة غيْر معيّنٍ رواية شيْءٍ معيّنٍ كقوْله: «أجزْت للْمسْلمين رواية كتابي هذا» وهذا النّوْع مسْتحْدثٌ، فإنْ كان مقيّدًا بوصْف حاضرٍ فهو إلى الْجواز أقْرب
ويقول ابْن الصّلاح: «لمْ نر ولمْ نسْمعْ عنْ أحدٍ ممّنْ يقْتدى به أنّه اسْتعْمل هذه الإْجازة».
النّوْع الرّابع: الإْجازة لغيْر معيّنٍ برواية غيْر معيّنٍ، كأنْ يقول: أجزْت لكلّ من اطّلع على أيّ مؤلّفٍ منْ مؤلّفاتي روايته، وهذا النّوْع يراه الْبعْض فاسدًا واسْتظْهر عدم الصّحّة وبذلك أفْتى الْقاضي أبو الطّيّب الطّبريّ، وحكي الْجواز عنْ بعْض الْحنابلة والْمالكيّة.
وهناك أنْواعٌ أخْرى غيْر هذه ذهب الْمحقّقون إلى عدم جواز الْعمل بها.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث ، الصفحة / 285
فَسَادُ الْعَقْدِ:
10 - يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَالْعَقْدُ الْبَاطِلُ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَا لَمْ يُشْرَعْ بِأَصْلِهِ وَلاَ وَصْفِهِ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ: هُوَ مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ. أَمَّا حُكْمُ الاِسْتِرْدَادِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ فَيَظْهَرُ فِيمَا يَأْتِي:
الْعَقْدُ الْبَاطِلُ لاَ وُجُودَ لَهُ شَرْعًا، وَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ؛ لأِنَّهُ لاَ أَثَرَ لَهُ، وَلاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَنْ يُجْبِرَ الآْخَرَ عَلَى تَنْفِيذِهِ.
فَفِي الْبَيْعِ يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: لاَ حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ (الْبَاطِلِ) أَصْلاً؛ لأِنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ، وَلاَ وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ؛ لأِنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ لاَ وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الأْهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا، كَمَا لاَ وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ الْحَقِيقِيِّ إِلاَّ مِنْ الأْهْلِ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ نَحْوُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ.
وَمَا دَامَ الْعَقْدُ الْبَاطِلُ لاَ وُجُودَ لَهُ شَرْعًا، وَلاَ يُنْتِجُ أَيَّ أَثَرٍ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ بِاخْتِيَارِهِ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي بِاخْتِيَارِهِ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ، كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ؛ لأِنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَوْ بِالْقَبْضِ، وَلِذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ عِتْقٍ، فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لاَ يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنِ اسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ لَمْ يَنْقُلِ الْمِلْكِيَّةَ لِلْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ مَالاً غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ.
11 - أَمَّا الْعَقْدُ الْفَاسِدُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ، فَلِذَلِكَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، بَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ الْفَسْخَ، حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا فِي الْفَسْخِ مِنْ رَفْعِ الْفَسَادِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَسْتَلْزِمُ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَرَدَّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، هَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.
أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهُ؛ لأِنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ، فَتَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفَاتُهُ كُلُّهَا، وَيَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الاِسْتِرْدَادِ؛ لأِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَالاِسْتِرْدَادُ حَقُّ الشَّرْعِ، وَمَا اجْتَمَعَ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ إِلاَّ غَلَبَ حَقُّ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّصَرُّفُ يَقْبَلُ الْفَسْخَ، أَوْ لاَ يَقْبَلُهُ، إِلاَّ الإْجَارَةَ فَإِنَّهَا لاَ تَقْطَعُ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الاِسْتِرْدَادِ؛ لأِنَّ الإْجَارَةَ عَقْدٌ ضَعِيفٌ يُفْسَخُ بِالأْعْذَارِ، وَفَسَادُ الشِّرَاءِ عُذْرٌ، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
12 - أَمَّا الْجُمْهُورُ: فَإِنَّهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَالْعَقْدِ الْبَاطِلِ. فَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلاَ يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ، سَوَاءٌ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، أَمْ لَمْ يَتَّصِلْ، وَيَلْزَمُ رَدُّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي هَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.
أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ. فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ، وَيَكُونُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ اسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ، وَمِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي اسْتِرْدَادُ الثَّمَنِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّهُ يَجِبُ عِنْدَهُمْ رَدُّ الْمَبِيعِ الْفَاسِدِ لِرَبِّهِ إِنْ لَمْ يَفُتْ، كَأَنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ بِبَيْعٍ، أَوْ بُنْيَانٍ، أَوْ غَرْسٍ، فَإِنْ فَاتَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مَضَى الْمُخْتَلَفُ فِيهِ - وَلَوْ خَارِجَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ - بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَلْ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ، ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُقَوَّمًا حِينَ الْقَبْضِ، وَضَمِنَ مِثْلَ الْمِثْلِيِّ إِذَا بِيعَ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا، وَعَلِمَ كَيْلَهُ أَوْ وَزْنَهُ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ وُجُودُهُ، وَإِلاَّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس ، الصفحة / 288
أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي إِفْسَادِ الْعَقْدِ:
10 - إِفْسَادُ الْعَقْدِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا يُسَبِّبُهُ مِنْ غَرَرٍ أَوْ رِبًا أَوْ نَقْصٍ فِي الْمِلْكِ، أَوْ اشْتِرَاطِ أَمْرٍ مَحْظُورٍ أَوْ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لأِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ.
وَالْعُقُودُ عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ: نَوْعَانِ:
(الأْوَّلُ): عُقُودٌ تَفْسُدُ عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِهَا، (وَالثَّانِي): عُقُودٌ تَصِحُّ، وَيَسْقُطُ الشَّرْطُ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأْرْبَعَةُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمَذَاهِبُ فِي الأْثَرِ النَّاشِئِ عَنِ الشُّرُوطِ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كُلُّ تَصَرُّفٍ لاَ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، لاَ يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَعْتَرِيهِ الْفَسَادُ.
فَاَلَّذِي يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مِثْلُ: الْبَيْعِ، وَالْقِسْمَةِ، وَالإْجَارَةِ، وَاَلَّذِي لاَ يَفْسُدُ مِثْلُ: النِّكَاحِ وَالْقَرْضِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالْوَصِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، إِذْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ بِالشَّرْطِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ، أَوْ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ فَاحِشٍ، يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الْعَمْدِ، فَالأْمْرُ الْمَحْظُورُ مِثْلُ: مَا إِذَا اشْتَرَى دَارًا وَاشْتَرَطَ اتِّخَاذَهَا مَجْمَعًا لِلْفَسَادِ. فَالشَّرْطُ حَرَامٌ وَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَالْغَرَرُ الْفَاحِشُ مِثْلُ: مَا إِذَا بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا يَكْفِيهِ لِلنَّفَقَةِ طُولَ حَيَاتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ تُدْرَى نَفَقَتُهُ وَلاَ كَمْ يَعِيشُ.
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمُحَرَّمَةُ أَوْ تِلْكَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ فَاحِشٍ، لاَ تُؤَدِّي إِلَى إِفْسَادِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تُلْغَى، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ. أَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى إِفْسَادِ الْعَقْدِ فَهِيَ، اشْتِرَاطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، أَوْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ. مِثْلُ: مَا إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى الآْخَرِ عَقْدًا آخَرَ كَشَرْطٍ لِلْبَيْعِ، كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي هَذِهِ الْفَرَسَ. فَهَذَا اشْتِرَاطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، وَمِثْلُ: مَا إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَلاَ يَبِيعَ الْمَبِيعَ، وَكَذَلِكَ إِنْ شَرَطَ أَنَّ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ لاَ تَحْمِلُ، أَوْ تَضَعُ الْوَلَدَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ. فَهَذَا اشْتِرَاطٌ يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع، الصفحة / 36
الاِنْفِسَاخُ فِي الْجُزْءِ وَأَثَرُهُ فِي الْكُلِّ:
27 - انْفِسَاخُ الْعَقْدِ فِي جُزْءٍ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأْسْبَابِ يُؤَدِّي فِي بَعْضِ الأْحْوَالِ إِلَى الاِنْفِسَاخِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كُلِّهِ. وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْجُزْءُ الَّذِي يَنْفَسِخُ فِيهِ الْعَقْدُ قَدْ قُدِّرَ نَصِيبُهُ مِنَ الْعِوَضِ، أَوْ كَانَ فِي تَجْزِئَةِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ لأِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ يَجْمَعُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ، وَهَذَا مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
فَإِذَا جَمَعَ فِي الْعَقْدِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يَجُوزُ يَبْطُلُ فِيمَا لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ. وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي، يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ، وَإِمْكَانِ التَّجْزِئَةِ وَالاِجْتِنَابِ عَنْ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ).
28 - وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَسَائِلِ الآْتِيَةِ:
أ - إِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَتَلِفَ بَعْضُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي، وَيَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ؛ لأِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا، فَذَهَابُ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لاَ يَفْسَخُهُ؛ لإِمْكَانِ تَبْعِيضِهِ مَعَ عَدَمِ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
ب - وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهُ: إِذَا طَرَأَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِعَيْنِهَا، كَرِدَّةٍ وَرَضَاعٍ اخْتَصَّتْ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ وَحْدَهَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ. وَإِنْ طَرَأَ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لإِحْدَاهُمَا مَزِيَّةٌ، بِأَنْ صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا بِالاِرْتِضَاعِ، فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: أَصَحُّهُمَا يَخْتَصُّ الاِنْفِسَاخُ بِالأْمِّ وَحْدَهَا إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا؛ لأِنَّ الاِسْتِدَامَةَ أَقْوَى مِنَ الاِبْتِدَاءِ، فَهُوَ كَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُمٍّ وَبِنْتٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نِكَاحُ الْبِنْتِ دُونَ الأْمِّ .
ج - سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ انْفِسَاخُ عَقْدِ الإْجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا. فَإِذَا أَجَّرَ رَجُلاَنِ دَارًا مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَجَّرَيْنِ فَإِنَّ الإْجَارَةَ تَبْطُلُ (تَنْفَسِخُ) فِي نَصِيبِهِ فَقَطْ، وَتَبْقَى بِالنِّسْبَةِ لِنَصِيبِ الْحَيِّ عَلَى حَالِهَا. وَكَذَا إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ فَسَقَطَتْ إِحْدَاهُمَا فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا؛ لأِنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَفَرَّقَتْ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ.
د - لَوْ بَاعَ دَابَّتَيْنِ فَتَلِفَتْ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ قَبْضِهَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيمَا تَلِفَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. أَمَّا فِيمَا لَمْ يَتْلَفْ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ، بَلْ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإْجَازَةِ، فَإِنْ أَجَازَهُ فَبِحِصَّتِهِ مِنَ الْمُسَمَّى، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَيَنْفَسِخُ فِي الْجَمِيعِ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
هـ - لَوِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ كُلُّهُ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ إِذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمُسْتَحَقُّ هُوَ الأْكْثَرُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ وَحْدَهُ فِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَكَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لاَ يَضُرُّ تَبْعِيضُهُ، كَمَا إِذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ فِي الْكُلِّ وَبَيْنَ الإِْمْضَاءِ فِي الْبَاقِي عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاقٌ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن ، الصفحة / 106
بُطْلاَنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْبُطْلاَنُ لُغَةً: الضَّيَاعُ وَالْخُسْرَانُ، أَوْ سُقُوطُ الْحُكْمِ. يُقَالُ: بَطَلَ الشَّيْءُ يَبْطُلُ بَطَلاً وَبُطْلاَنًا بِمَعْنَى: ذَهَبَ ضَيَاعًا وَخُسْرَانًا، أَوْ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْحُبُوطُ.
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ.
فَفِي الْعِبَادَاتِ: الْبُطْلاَنُ: عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ. كَمَا لَوْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ.
وَالْبُطْلاَنُ فِي الْمُعَامَلاَتِ يَخْتَلِفُ فِيهَا تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، وَيَنْشَأُ عَنِ الْبُطْلاَنِ تَخَلُّفُ الأْحْكَامِ كُلِّهَا عَنِ التَّصَرُّفَاتِ، وَخُرُوجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَسْبَابًا مُفِيدَةً لِتِلْكَ الأْحْكَامِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَبُطْلاَنُ الْمُعَامَلَةِ لاَ يُوَصِّلُ إِلَى الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ أَصْلاً؛ لأِنَّ آثَارَهَا لاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا.
وَتَعْرِيفُ الْبُطْلاَنِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ تَعْرِيفُ الْفَسَادِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ: أَنْ تَقَعَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ أَوْ بِهِمَا.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَسَادُ:
2 - الْفَسَادُ: مُرَادِفٌ لِلْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فَكُلٌّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يُخَالِفُ وُقُوعُهُ الشَّرْعَ، وَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الآْثَارُ، وَلاَ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، فَفِي بَعْضِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ، كَالْحَجِّ وَالْعَارِيَّةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَالْفَسَادُ يُبَايِنُ الْبُطْلاَنَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَامَلاَتِ، فَالْبُطْلاَنُ عِنْدَهُمْ: مُخَالَفَةُ الْفِعْلِ لِلشَّرْعِ لِخَلَلٍ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ.
أَمَّا الْفَسَادُ فَهُوَ: مُخَالَفَةُ الْفِعْلِ لِلشَّرْعِ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ، وَلَوْ مَعَ مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ فِي أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِ انْعِقَادِهِ.
ب - الصِّحَّةُ:
3 - الصِّحَّةُ فِي اللُّغَةِ. بِمَعْنَى: السَّلاَمَةِ فَالصَّحِيحُ ضِدُّ الْمَرِيضِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: وُقُوعُ الْفِعْلِ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ بِاسْتِجْمَاعِ الأْرْكَانِ وَالشُّرُوطِ. وَأَثَرُهُ فِي الْمُعَامَلاَتِ: تَرَتُّبُ ثَمَرَةِ التَّصَرُّفِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ، كَحِلِّ الاِنْتِفَاعِ فِي الْبَيْعِ، وَالاِسْتِمْتَاعِ فِي النِّكَاحِ.
وَأَثَرُهُ فِي الْعِبَادَاتِ هُوَ سُقُوطُ الْقَضَاءِ بِفِعْلِ الْعِبَادَةِ.
ج - الاِنْعِقَادُ:
4 - الاِنْعِقَادُ: يَشْمَلُ الصِّحَّةَ، وَيَشْمَلُ الْفَسَادَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَهُوَ ارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا. أَوْ هُوَ: تَعَلُّقُ كُلٍّ مِنَ الإْيجَابِ وَالْقَبُولِ بِالآْخَرِ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ، يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي مُتَعَلَّقِهِمَا.
فَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ بِأَصْلِهِ، وَلَكِنَّهُ فَاسِدٌ بِوَصْفِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَالاِنْعِقَادُ ضِدُّ الْبُطْلاَنِ.
عَدَمُ التَّلاَزُمِ بَيْنَ بُطْلاَنِ التَّصَرُّفِ فِي الدُّنْيَا وَبُطْلاَنِ أَثَرِهِ فِي الآْخِرَةِ:
5 - لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ أَوْ بُطْلاَنِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ بُطْلاَنِ أَثَرِهِ فِي الآْخِرَةِ، فَقَدْ يَكُونُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ فِي الدُّنْيَا، لاِسْتِكْمَالِهِ الأْرْكَانَ وَالشُّرُوطَ الْمَطْلُوبَةَ شَرْعًا، لَكِنِ اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ مَا يُبْطِلُ ثَمَرَتَهُ فِي الآْخِرَةِ، فَلاَ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ، بَلْ قَدْ يَلْزَمُهُ الإْثْمُ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «إِنَّمَا الأْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» وَقَدْ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَيَسْتَحِقُّ عَامِلُهُ الثَّوَابَ، وَلَكِنْ يُتْبِعُهُ صَاحِبُهُ عَمَلاً يُبْطِلُهُ، فَالْمَنُّ وَالأْذَى يُبْطِلُ أَجْرَ الصَّدَقَةِ، لقوله تعالي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأْذَى) وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ).
6 - وَيُوَضِّحُ الشَّاطِبِيُّ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يُرَادُ بِالْبُطْلاَنِ إِطْلاَقَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا نَقُولُ فِي الْعِبَادَاتِ: إِنَّهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ وَلاَ مُبَرِّئَةٍ لِلذِّمَّةِ وَلاَ مُسْقِطَةٍ لِلْقَضَاءِ، فَهِيَ بَاطِلَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى لِمُخَالَفَتِهَا لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ فِيهَا. وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً لِخَلَلٍ فِي بَعْضِ أَرْكَانِهَا أَوْ شُرُوطِهَا، كَكَوْنِهَا نَاقِصَةً رَكْعَةً أَوْ سَجْدَةً.
وَنَقُولُ أَيْضًا فِي الْعَادَاتِ: إِنَّهَا بَاطِلَةٌ، بِمَعْنَى عَدَمِ حُصُولِ فَوَائِدِهَا بِهَا شَرْعًا، مِنْ حُصُولِ إِمْلاَكٍ وَاسْتِبَاحَةِ فُرُوجٍ وَانْتِفَاعٍ بِالْمَطْلُوبِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِالْبُطْلاَنِ عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ فِي الآْخِرَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ. فَتَكُونُ الْعِبَادَةُ بَاطِلَةً بِالإْطْلاَقِ الأْوَّلِ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا جَزَاءٌ؛ لأِنَّ هَا غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِمُقْتَضَى الأْمْرِ بِهَا، كَالْمُتَعَبِّدِ رِئَاءَ النَّاسِ، فَهِيَ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ
وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ، وَقَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً بِالإْطْلاَقِ الأْوَّلِ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَيْضًا، كَالْمُتَصَدِّقِ بِالصَّدَقَةِ يُتْبِعُهَا بِالْمَنِّ وَالأْذَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأْذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ).
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلإْقْدَامِ عَلَى تَصَرُّفٍ بَاطِلٍ مَعَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ:
7 - الإْقْدَامُ عَلَى فِعْلٍ بَاطِلٍ - مَعَ الْعِلْمِ بِبُطْلاَنِهِ - حَرَامٌ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ؛ لاِرْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ؛ لأِنَّ الْبُطْلاَنَ وَصْفٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَقَعُ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالصَّلاَةِ بِدُونِ طَهَارَةٍ، وَالأْكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلاَتِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلاَقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، وَكَالاِسْتِئْجَارِ عَلَى النَّوْحِ، وَكَرَهْنِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ، أَمْ كَانَ فِي النِّكَاحِ، كَنِكَاحِ الأْمِّ وَالْبِنْتِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْمَلُ الْفَاسِدَ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ بَعْضَ الأْحْكَامِ - كَإِفَادَتِهِ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ مَثَلاً - إِلاَّ أَنَّ الإْقْدَامَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْفَسَادِ؛ لأِنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ، فَعَلَى الْعَاقِدِ التَّوْبَةُ مِنْهُ بِفَسْخِهِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الإِْقْدَامِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْبَاطِلِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، كَالْمُضْطَرِّ يَشْتَرِي الْمَيْتَةَ.
هَذَا فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْبَاطِلِ مَعَ عِلْمِهِ بِبُطْلاَنِهِ.
8 - وَأَمَّا الإْقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْبَاطِلِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ، فَهَذَا يَشْمَلُ النَّاسِيَ وَالْجَاهِلَ. وَالأْصْلُ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَاهِلِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، فَمَنْ بَاعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْبَيْعِ، وَمَنْ آجَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الإْجَارَةِ، وَمَنْ صَلَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الصَّلاَةِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَا يُرِيدُ الإْقْدَامَ عَلَيْهِ، لقوله تعالي : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فَلاَ يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَهُ، فَيَكُونُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَاجِبًا فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ.
وَتَرْكُ التَّعَلُّمِ مَعْصِيَةٌ يُؤَاخَذُ بِهَا.
أَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي وَقَعَ بَاطِلاً مَعَ الْجَهْلِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ: أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ تَسَامَحَ فِي جَهَالاَتٍ فِي الشَّرِيعَةِ، فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهَا، وَأَخَذَ بِجَهَالاَتٍ، فَلَمْ يَعْفُ عَنْ مُرْتَكِبِهَا. وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (جَهْلٌ، نِسْيَانٌ).
الإْنْكَارُ عَلَى مَنْ فَعَلَ الْبَاطِلَ:
9 - إِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَّفَقًا عَلَى بُطْلاَنِهِ، فَإِنْكَارُهُ وَاجِبٌ عَلَى مُسْلِمٍ. أَمَّا إِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَلاَ إِنْكَارَ فِيهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الإْنْكَارُ مِنَ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اجْتُمِعَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلاَ إِنْكَارَ فِيهِ؛ لأِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوِ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَلاَ نَعْلَمُهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْخِلاَفُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي الْفُرُوعِ، وَلاَ يُنْكِرُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِهِ أَمْرًا مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا خَالَفَ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لاَ يَرَى تَحْرِيمَهُ، فَإِنْ كَانَ يَرَاهُ فَالأْصَحُّ الإْنْكَارُ.
وَفِي كُلِّ ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (إِنْكَار، أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، اجْتِهَاد، تَقْلِيد، اخْتِلاَف، إِفْتَاء، رُخْصَة).
الاِخْتِلاَفُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ:
10 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالصَّلاَةِ مَعَ تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا، أَمْ كَانَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ، كَالْعَقْدِ عَلَى إِحْدَى الْمَحَارِمِ، أَمْ كَانَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَالشِّرَاءِ بِالْخَمْرِ، وَالْبَيْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الرِّبَا، فَكُلٌّ مِنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ يُوصَفُ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي يَقَعُ عَلَى خِلاَفِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَعْتَبِرْهُ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ أَيَّ أَثَرٍ مِنَ الآْثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْفِعْلِ الصَّحِيحِ.
فَالْجُمْهُورُ يُطْلِقُونَهُمَا، وَيُرِيدُونَ بِهِمَا مَعْنًى وَاحِدًا، وَهُوَ: وُقُوعُ الْفِعْلِ عَلَى خِلاَفِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْخِلاَفُ رَاجِعًا إِلَى فَوَاتِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْفِعْلِ، أَمْ رَاجِعًا إِلَى فَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمْ - عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ - يُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي أَنَّ الْبُطْلاَنَ وَالْفَسَادَ مُتَرَادِفَانِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَامَلاَتِ، فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْجُمْهُورَ، فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، وَيَجْعَلُونَ لِلْفَسَادِ مَعْنًى يُخَالِفُ مَعْنَى الْبُطْلاَنِ، وَيَقُومُ هَذَا التَّفْرِيقُ عَلَى أَسَاسِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَصْلِ الْعَقْدِ وَوَصْفِهِ.
فَأَصْلُ الْعَقْدِ هُوَ أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُ انْعِقَادِهِ، مِنْ أَهْلِيَّةِ الْعَاقِدِ وَمَحَلِّيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِمَا، كَالإْيجَابِ وَالْقَبُولِ... وَهَكَذَا.
أَمَّا وَصْفُ الْعَقْدِ، فَهِيَ شُرُوطُ الصِّحَّةِ، وَهِيَ الْعَنَاصِرُ الْمُكَمِّلَةُ لِلْعَقْدِ، كَخُلُوِّهِ عَنِ الرِّبَا، وَعَنْ شَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَعَنِ الْغَرَرِ وَالضَّرَرِ.
وَعَلَى هَذَا الأْسَاسِ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا حَصَلَ خَلَلٌ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ - بِأَنْ تَخَلَّفَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِهِ - كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلاً، وَلاَ وُجُودَ لَهُ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيُّ أَثَرٍ دُنْيَوِيٍّ؛ لأِنَّ هُ لاَ وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ إِلاَّ مِنَ الأْهْلِ فِي الْمَحَلِّ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ الصُّورَةِ فَحَسْبُ، إِمَّا لاِنْعِدَامِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ لاِنْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفِ كَالْبَيْعِ الصَّادِرِ مِنَ الْمَجْنُونِ أَوِ الصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِلُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ أَصْلُ الْعَقْدِ سَالِمًا مِنَ الْخَلَلِ، وَحَصَلَ خَلَلٌ فِي الْوَصْفِ، بِأَنِ اشْتَمَلَ الْعَقْدُ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ رِبًا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا لاَ بَاطِلاً، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الآْثَارِ دُونَ بَعْضٍ.
11 - وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلاَفِ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ النَّهْيِ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْعَمَلِ اللاَّزِمَةِ لَهُ، كَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الرِّبَا أَوْ شَرْطٍ فَاسِدٍ.
فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي بُطْلاَنَ كُلٍّ مِنَ الْوَصْفِ وَالأْصْلِ، كَأَثَرِ النَّهْيِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْلِ وَحَقِيقَتِهِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِوَصْفٍ لاَزِمٍ لَهُ اسْمَ الْفَاسِدِ أَوِ الْبَاطِلِ، وَلاَ يُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ أَيَّ أَثَرٍ مِنَ الآْثَارِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الرِّبَا، أَوْ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ نَحْوِ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِلِ عِنْدَهُمْ أَوِ الْفَاسِدِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي بُطْلاَنَ الْوَصْفِ فَقَطْ، أَمَّا أَصْلُ الْعَمَلِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ بِخِلاَفِ النَّهْيِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْلِ وَحَقِيقَتِهِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِوَصْفٍ لاَزِمٍ لَهُ اسْمَ الْفَاسِدِ لاَ الْبَاطِلِ، وَيُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ بَعْضَ الآْثَارِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الرِّبَا، أَوْ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ وَنَحْوِهِمَا مِنْ قَبِيلِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُمْ، لاَ مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِلِ.
12 - وَقَدِ اسْتَدَلَّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا مَا يَأْتِي:
أَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَتَى خَالَفَ أَمْرَ الشَّارِعِ صَارَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي نَظَرِهِ، فَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأْحْكَامُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمُخَالَفَةُ رَاجِعَةً إِلَى ذَاتِ الْعَمَلِ وَحَقِيقَتِهِ، أَمْ إِلَى وَصْفٍ مِنَ الأْوْصَافِ اللاَّزِمَةِ لَهُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهُمُ اسْتَنَدُوا إِلَى أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ وَضَعَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ أَسْبَابًا لأِحْكَامٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا لِوَصْفٍ مِنَ الأْوْصَافِ اللاَّزِمَةِ لَهُ، كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا بُطْلاَنَ هَذَا الْوَصْفِ فَقَطْ؛ لأِنَّ النَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ، فَيَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ هَذَا الْوَصْفِ مُخِلًّا بِحَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ الْمَوْصُوفِ بِهِ، بَقِيَتْ حَقِيقَتُهُ قَائِمَةً، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مُقْتَضَاهُ. فَإِذَا كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بَيْعًا مَثَلاً، وَوُجِدَتْ حَقِيقَتُهُ بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَمَحَلِّهِ، ثَبَتَ الْمِلْكُ بِهِ نَظَرًا لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ، وَوَجَبَ فَسْخُهُ نَظَرًا لِوُجُودِ الْوَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ، وَإِعْطَاءُ كُلٍّ مِنْهَا حُكْمَهُ اللاَّئِقَ بِهِ. إِلاَّ أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الاِمْتِثَالَ وَالطَّاعَةَ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا إِلاَّ إِذَا لَمْ تَحْصُلْ فِيهَا مُخَالَفَةٌ مَا، لاَ فِي الأْصْلِ وَلاَ فِي الْوَصْفِ، كَانَتْ مُخَالَفَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ فِيهَا مُقْتَضِيَةً لِلْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ رَاجِعَةً إِلَى ذَاتِ الْعِبَادَةِ، أَمْ إِلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا اللاَّزِمَةِ.
بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ أَنَّ الْجُمْهُورَ وَإِنْ كَانُوا لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ - عَلَى مَا جَاءَ فِي قَوَاعِدِهِمُ الْعَامَّةِ - إِلاَّ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ وُجُودُ الْخِلاَفِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ، أَوْ لِلتَّفْرِقَةِ فِي مَسَائِلِ الدَّلِيلِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ.
تَجَزُّؤُ الْبُطْلاَنِ:
13 - الْمُرَادُ بِتَجَزُّؤِ الْبُطْلاَنِ: أَنْ يَشْمَلَ التَّصَرُّفَ عَلَى مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ، فَيَكُونُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ بَاطِلاً.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُسَمَّى بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَأَهَمُّ الصُّوَرِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْبَيْعِ وَهِيَ.
14 - عَقْدُ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ بَاطِلاً، كَبَيْعِ الْعَصِيرِ وَالْخَمْرِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - عَدَا ابْنِ الْقَصَّارِ مِنْهُمْ - وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ (وَادَّعَى فِي الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ)، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ.
وَذَلِكَ لأِنَّهُ مَتَى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ؛ لأِنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، أَوْ لِتَغْلِيبِ الْحَرَامِ عَلَى الْحَلاَلِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ.
وَالْقَوْلُ الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ - قَالُوا: وَهُوَ الأْظْهَرُ - وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَجْزِئَةُ الصَّفْقَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِيمَا يَجُوزُ، وَيَبْطُلُ فِيمَا لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّ الإْبْطَالَ فِي الْكُلِّ لِبُطْلاَنِ أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ تَصْحِيحِ الْكُلِّ لِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا، فَيَبْقَيَانِ عَلَى حُكْمِهِمَا، وَيَصِحُّ فِيمَا يَجُوزُ وَيَبْطُلُ فِيمَا لاَ يَجُوزُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ عُيِّنَ ابْتِدَاءً لِكُلِّ شِقٍّ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نُعْتَبَرُ الصَّفْقَةُ صَفْقَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، تَجُوزُ فِيهِمَا التَّجْزِئَةُ، فَتَصِحُّ وَاحِدَةٌ، وَتَبْطُلُ الأْخْرَى.
وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ مَوْقُوفًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ وَمَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ، وَبَيْعِهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِيهِمَا وَيَلْزَمُ فِي مِلْكِهِ، وَيَقِفُ اللاَّزِمُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً، وَجَوَازِ ذَلِكَ بَقَاءً. وَعِنْدَ زُفَرَ: يَبْطُلُ الْجَمِيعُ؛ لأِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالْمَجْمُوعُ لاَ يَتَجَزَّأُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجْرِي الْخِلاَفُ السَّابِقُ؛ لأِنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ فِي الأْصَحِّ.
15 - كَذَلِكَ تَجْرِي التَّجْزِئَةُ فِي النِّكَاحِ، فَلَوْ جُمِعَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بَيْنَ مَنْ تَحِلُّ وَمَنْ لاَ تَحِلُّ، كَمُسْلِمَةٍ وَوَثَنِيَّةٍ، صَحَّ نِكَاحُ الْحَلاَلِ اتِّفَاقًا، وَبَطَلَ فِي مَنْ لاَ تَحِلُّ.
أَمَّا لَوْ جُمِعَ بَيْنَ خَمْسٍ، أَوْ بَيْنَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ فِي الْكُلِّ؛ لأِنَّ الْمُحَرَّمَ الْجَمْعُ، لاَ إِحْدَاهُنَّ أَوْ إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَجْرِي خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا لَوْ جُمِعَ بَيْنَ أَمَةٍ وَحُرَّةٍ مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَبْطُلُ فِيهِمَا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ صَحَّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الأْمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُعَامَلاَتِ كَالإْجَارَةِ وَغَيْرِهَا كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ عَقَدَ الْفُقَهَاءُ فَصْلاً لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ تَصَرُّفَاتٍ. انْظُرْ (تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ).
بُطْلاَنُ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ بُطْلاَنَ مَا فِي ضِمْنِهِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ:
16 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأْشْبَاهِ: إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِذَا بَطَلَ الْمُتَضَمِّنُ (بِالْكَسْرِ) بَطَلَ الْمُتَضَمَّنُ (بِالْفَتْحِ) وَأَوْرَدَ لِذَلِكَ عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا:
أ - لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَمِي بِأَلْفٍ، فَقَتَلَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنَ الإْذْنِ بِقَتْلِهِ.
ب - التَّعَاطِي ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ أَوْ بَاطِلٍ لاَ يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ.
ج - لَوْ أَبْرَأَهُ أَوْ أَقَرَّ لَهُ ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَسَدَ الإْبْرَاءُ.
د - لَوْ جَدَّدَ النِّكَاحَ لِمَنْكُوحَتِهِ بِمَهْرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لأِنَّ النِّكَاحَ الثَّانِي لَمْ يَصِحَّ، فَلَمْ يَلْزَمْ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنَ الْمَهْرِ.
إِلاَّ أَنَّ أَغْلَبَ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ تُجْرِي الْقَاعِدَةَ عَلَى الْفَسَادِ لاَ عَلَى الْبُطْلاَنِ؛ لأِنَّ الْبَاطِلَ مَعْدُومٌ شَرْعًا أَصْلاً وَوَصْفًا، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَتَضَمَّنُ شَيْئًا، أَمَّا الْفَاسِدُ فَهُوَ فَائِتُ الْوَصْفِ دُونَ الأْصْلِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا بِأَصْلِهِ فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمَّنًا، فَإِنْ فَسَدَ الْمُتَضَمِّنُ فَسَدَ الْمُتَضَمَّنُ.
17 - هَذَا وَالْمَذَاهِبُ الأْخْرَى - وَهِيَ الَّتِي لاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ - تَسِيرُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا. فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: الْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلإْذْنِ، إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَأْذُونِ، صَحَّتْ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ إِذَا أَفْسَدْنَاهَا فَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ، صَحَّ لِوُجُودِ الإْذْنِ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ عِوَضٍ فَاسِدٍ لِلْوَكِيلِ، فَالإْذْنُ صَحِيحٌ وَالْعِوَضُ فَاسِدٌ.
وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ لاَ يَمْنَعُ فَسَادُهَا نُفُوذَ الْمُتَصَرِّفِ فِيهَا بِالإْذْنِ. ثُمَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الإْذْنِ فِي الْبَيْعِ - وَهُوَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ - وَبَيْنَ الإْذْنِ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، فَيَقُولُ: الْبَيْعُ وُضِعَ لِنَقْلِ الْمِلْكِ لاَ لِلإْذْنِ، وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ تُسْتَفَادُ مِنَ الْمِلْكِ لاَ مِنَ الإْذْنِ، بِخِلاَفِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلإْذْنِ.
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ؛ لأِنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ بَقِيَ الإْذْنُ، فَمَلَكَ بِهِ التَّصَرُّفَ.
وَقَوَاعِدُ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ.
هَذِهِ هِيَ قَاعِدَةُ التَّضَمُّنِ. لَكِنْ هُنَاكَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِهَا، وَهِيَ: إِذَا سَقَطَ الأْصْلُ سَقَطَ الْفَرْعُ، وَمِنْهَا: التَّابِعُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَتْبُوعِ، وَقَدْ مَثَّلَ الْفُقَهَاءُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ مِنَ الدَّيْنِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَبْرَأُ الْمَدِينُ يَبْرَأُ مِنْهُ الْكَفِيلُ أَيْضًا؛ لأِنَّ الْمَدِينَ فِي الدَّيْنِ أَصْلٌ، وَالْكَفِيلَ فَرْعٌ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 58
تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ :
11- الْفُقَهَاءُ عَدَا الْحَنَفِيَّةَ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعَقْدَ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ. فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَذَفَ الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ - وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ - لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا، إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ .
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِفَهُ أَوْ يُقْرِضَهُ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ» . وَلأِنَّهُ اشْتَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَفَسَدَ كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ؛ وَلأِنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لأِجْلِهِ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ وَرِبْحًا لَهُ، وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ، فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ وَلأِنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَلاَ يَعُودُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا .
وَفِي بَابِ الرَّهْنِ قَالَ: لَوْ بَطَلَ الْعَقْدُ لَمَا عَادَ صَحِيحًا .
وَفِي شَرْحِ منتهى الإرادات: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ الْعَقْدُ إِذَا حُذِفَ الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ لِلْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ شَرْطًا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، أَمْ كَانَ شَرْطًا يُخِلُّ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهَا وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ، وَهِيَ:
أ - مَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَالثَّمَنُ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، فَإِِنَّهُ يَفْسَخُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ هَذَا الشَّرْطَ لأِنَّهُ غَرَرٌ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ: إِنْ مَاتَ فَلاَ يُطَالِبُ الْبَائِعُ وَرَثَتَهُ بِالثَّمَنِ.
ب - شَرْطُ مَا لاَ يَجُوزُ مِنْ أَمَدِ الْخِيَارِ، فَيَلْزَمُ فَسْخُهُ وَإِنْ أَسْقَطَ لِجَوَازِ كَوْنِ إِسْقَاطِهِ أَخْذًا بِهِ.
ج - مَنْ بَاعَ أَمَةً وَشَرَطَ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَنْ لاَ يَطَأَهَا، وَأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ فَهِيَ حُرَّةٌ، أَوْ عَلَيْهِ دِينَارٌ مَثَلاً، فَيُفْسَخُ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ لأِنَّهُ يَمِينٌ.
د - شَرْطُ الثُّنْيَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ.
وَزَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ شَرْطًا خَامِسًا وَهُوَ:
هـ - شَرْطُ النَّقْدِ (أَيْ تَعْجِيلُ الثَّمَنِ) فِي بَيْعِ الْخِيَارِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَوْ أَسْقَطَ شَرْطَ النَّقْدِ فَلاَ يَصِحُّ .
وَفِي الإْجَارَةِ جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: تَفْسُدُ الإجَارَةُ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَمَحَلُّ الْفَسَادِ إِنْ لَمْ يُسْقِطَ الشَّرْطَ، فَإِنْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ صَحَّتْ .
وَيُوَضِّحُ ابْنُ رُشْدٍ سَبَبَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ. فَيَقُولُ: هَلْ إِذَا لَحِقَ الْفَسَادُ بِالْبَيْعِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْطِ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ إِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ، أَوْ لاَ يَرْتَفِعُ؟ كَمَا لاَ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ اللاَّحِقُ لِلْبَيْعِ الْحَلاَلِ مِنْ أَجْلِ اقْتِرَانِ الْمُحَرَّمِ الْعَيْنَ بِهِ، كَمَنْ بَاعَ غُلاَمًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقِّ خَمْرٍ، فَلَمَّا عَقَدَ الْبَيْعَ قَالَ: أَدَّعِ الزِّقَّ. وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِجْمَاعٍ.
وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ. هُوَ: هَلْ هَذَا الْفَسَادُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى أَوْ غَيْرُ مَعْقُولٍ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، لَمْ يَرْتَفِعِ الْفَسَادُ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ. وَإِنْ قُلْنَا: مَعْقُولٌ، ارْتَفَعَ الْفَسَادُ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ.
فَمَالِكٌ رَآهُ مَعْقُولاً، وَالْجُمْهُورُ رَأَوْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَالْفَسَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بُيُوعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ هُوَ أَكْثَرُ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ لَيْسَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ أَصْلاً، وَإِنْ تُرِكَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَارْتَفَعَ الْغَرَرُ .
12-وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ - خِلاَفًا لِزُفَرَ - تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ دُونَ الْبَاطِلِ، وَيَقُولُونَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ: إِنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ فِي الْفَاسِدِ يَرُدُّهُ صَحِيحًا، لأِنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ مَعَ الْفَسَادِ، وَمَعَ الْبُطْلاَنِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِصِفَةِ الْبُطْلاَنِ، بَلْ كَانَ مَعْدُومًا.
وَعِنْدَ زُفَرَ: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لاَ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ.
لَكِنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا. يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: الأْصْلُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى الْفَسَادِ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا بِأَنْ دَخَلَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ - وَهُوَ الْبَدَلُ أَوِ الْمُبْدَلُ - لاَ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، كَمَا إِذَا بَاعَ عَبْدًا بأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، فَحَطَّ الْخَمْرَ عَنِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ فَاسِدٌ وَلاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا.
وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ ضَعِيفًا، وَهُوَ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، بَلْ فِي شَرْطٍ جَائِزٍ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لَمْ يُوَقَّتْ، أَوْ وُقِّتَ إِلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ، أَوْ لَمْ يُذْكُرِ الْوَقْتُ، وَكَمَا فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، فَإِذَا أَسْقَطَ الأْجَلَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ قَبْلَ حُلُولِهِ وَقَبْلَ فَسْخِهِ جَازَ الْبَيْعُ لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ، وَلَوْ كَانَ إِسْقَاطُ الأْجَلِ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.
وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ بِسَبَبِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِالْبَائِعِ فِي التَّسْلِيمِ إِذَا سَلَّمَ الْبَائِعَ بِرِضَاهُ وَاخْتِيَارِهِ - كَمَا إِذَا بَاعَ جِذْعًا لَهُ فِي سَقْفٍ، أَوْ آجُرًّا لَهُ فِي حَائِطٍ، أَوْ ذِرَاعًا فِي دِيبَاجٍ - أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، فَكَانَ هَذَا عَلَى التَّقْدِيرِ بَيْعُ مَا لاَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا، فَيَكُونُ فَاسِدًا. فَإِنْ نَزَعَهُ الْبَائِعُ أَوْ قَطَعَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ؛ لأِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ ضَرَرُ الْبَائِعِ بِالتَّسْلِيمِ، فَإِذَا سَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، فَجَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ .
وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ طِبْقًا لِقَاعِدَةِ: إِذَا زَالَ الْمَانِعُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي عَادَ الْحُكْمُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ. وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفُ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَالزَّرْعُ وَالنَّخْلُ فِي الأْرْضِ، وَالتَّمْرُ فِي النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ؛ لأِنَّ هَا مَوْجُودَةٌ، وَامْتِنَاعُ الْجَوَازِ لِلاِتِّصَالِ، فَإِذَا فَصَّلَهَا وَسَلَّمَهَا جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ: إِذَا رَهَنَ الأْرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ، أَوْ بِدُونِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، أَوْ رَهَنَ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ بِدُونِ الأْرْضِ، أَوْ رَهَنَ الشَّجَرَ بِدُونِ الثَّمَرِ، أَوْ رَهَنَ الثَّمَرَ بِدُونِ الشَّجَرِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ. وَلَوْ جُذَّ الثَّمَرُ وَحُصِدَ الزَّرْعُ وَسُلِّمَ مُنْفَصِلاً جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ .
تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِهِ عَقْدًا آخَرَ :
13-هَذَا، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إِذَا أَمْكَنَ تَحْوِيلُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ لِتَوَافُرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصِّحَّةُ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ عَنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ نَظَرًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي قَاعِدَةِ (هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا).
وَنُوَضِّحُ ذَلِكَ بِالأْمْثِلَةِ الآْتِيَةِ:
14-فِي الأْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: الاِعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لاَ لِلأْلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: الْكَفَالَةُ، فَهِيَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأْصِيلِ حَوَالَةً، وَهِيَ بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ كَفَالَةً .
وَفِي الاِخْتِيَارِ: شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَتَسَاوَى الشَّرِيكَانِ فِي التَّصَرُّفِ وَالدَّيْنِ وَالْمَالِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ.. فَلاَ تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِذَا عَقَدَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ الْمُفَاوَضَةَ صَارَتْ عِنَانًا عِنْدَهُمَا، لِفَوَاتِ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ وَوُجُودِ شَرْطِ الْعِنَانِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فَاتَ مِنْ شَرَائِطِ الْمُفَاوَضَةِ يُجْعَلُ عِنَانًا إِذَا أَمْكَنَ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا بِقَدْرِ الإْمْكَانِ .
وَفِي الاِخْتِيَارِ أَيْضًا: عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ، إِنْ شُرِطَ فِيهِ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ؛ لأِنَّ كُلَّ رِبْحٍ لاَ يُمْلَكُ إِلاَّ بِمِلْكِ رَأْسِ الْمَالِ، فَلَمَّا شُرِطَ لَهُ جَمِيعُ الرِّبْحِ فَقَدْ مَلَّكَهُ رَأْسَ الْمَالِ، وَإِنْ شُرِطَ الرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ كَانَ إِبْضَاعًا، وَهَذَا مَعْنَاهُ عُرْفًا وَشَرْعًا .
وَجَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيلِ: مَنْ أَحَالَ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَأَعْلَمَ الْمُحَالَ، صَحَّ عَقْدُ الْحَوَالَةِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ لَمْ تَصِحَّ، وَتَنْقَلِبُ حَمَالَةً أَيْ كَفَالَةً.
وَفِي أَشْبَاهِ السُّيُوطِيِّ: هَلِ الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا؟ خِلاَفٌ. التَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: إِذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا عَلَى أَلْفٍ. إِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ فَسَدَ وَلاَ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: عِتْقٌ بِعِوَضٍ، صَحَّ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى. وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الأْوَّلِ، فَهُوَ إِقَالَةٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَخَرَّجَهُ السُّبْكِيُّ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَالتَّخْرِيجُ لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ قَالَ: إِنِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى فَإِقَالَةٌ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني والثلاثون ، الصفحة / 119
أَسْبَابُ الْفَسَادِ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
6 -لاَ يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ كَالصَّلاَةِ بِدُونِ طَهَارَةٍ، أَمْ فِي النِّكَاحِ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، أَمْ فِي عُقُودِ الْمُعَامَلاَتِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ - ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ يَدُلاَّنِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ عَلَى خِلاَفِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ الأْثَرَ ال الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى الْفِعْلِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَأَسْبَابُ الْفَسَادِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ أَسْبَابُ الْبُطْلاَنِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْفِعْلِ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، أَوْ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ الْوَصْفِ الْمُلاَزِمِ لِلْفِعْلِ، أَوْ عَنِ الْوَصْفِ الْمُجَاوِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .
يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ: أَسْبَابُ الْفَسَادِ الْعَامَّةُ فِي الْبَيْعِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: تَحْرِيمُ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَالثَّانِي: الرِّبَا، وَالثَّالِثُ: الْغَرَرُ، وَالرَّابِعُ: الشُّرُوطُ الَّتِي تَئُولُ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لِمَجْمُوعِهِمَا .
وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، عَلَى أَسَاسِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَصْلِ الْعَقْدِ وَوَصْفِهِ.
وَأَسْبَابُ الْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ حُدُوثُ خَلَلٍ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، بِأَنْ تَخَلَّفَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ.
أَمَّا أَسْبَابُ الْفَسَادِ، فَهِيَ حُدُوثُ خَلَلٍ فِي وَصْفِ الْعَقْدِ مَعَ سَلاَمَةِ الْمَاهِيَّةِ، فَإِذَا اخْتَلَّ الْوَصْفُ: بِأَنْ دَخَلَ الْمَحَلَّ شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لاَ بَاطِلٌ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد) وَفِي الْمُلْحَقِ الأْصُولِيٍ.
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي فَرَّقَ فِيهَا الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ:
7 -الأْصْلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ:
فَالْمَالِكِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ .
وَالشَّافِعِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي عُقُودٍ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: الْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ عِنْدَنَا، وَاسْتَثْنَى النَّوَوِيُّ: الْحَجَّ وَالْخُلْعَ وَالْكِتَابَةَ وَالْعَارِيَّةَ .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ فِي الْوَكَالَةِ وَالإْجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ اللَّحَّامِ الْحَنْبَلِيُّ: الْبُطْلاَنُ وَالْفَسَادُ عِنْدَنَا مُتَرَادِفَانِ... ثُمَّ قَالَ: إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا مَسَائِلَ فَرَّقُوا فِيهَا بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ ثُمَّ ذَكَرَ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِلْمَسَائِلِ الَّتِي فَرَّقُوا فِيهَا بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ .
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الأْصُوليَِ .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَسَادِ مِنْ أَحْكَامٍ:
8- يَتَعَلَّقُ بِالْفَسَادِ أَحْكَامٌ أَوْرَدَهَا الْفُقَهَاءُ فِي صُورَةِ قَوَاعِدَ فِقْهِيَّةٍ أَوْ أَحْكَامٍ لِلْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، مِنْهَا:
أَوَّلاً - فَسَادُ الْمُتَضَمِّنِ يُوجِبُ فَسَادَ الْمُتَضَمَّنِ:
9-هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ، وَعَبَّرَ عَنْهَا ابْنُ نُجَيْمٍ بِلَفْظٍ آخَرَ هُوَ: (الْمَبْنِيُّ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ) وَوَضَّحُوا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَقَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، وَيَجِبُ قَطْعُهَا لِلْحَالِ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ الشَّجَرَ إِلَى وَقْتِ الإْدْرَاكِ بَطَلَتِ الإْجَارَةُ؛ لأِنَّهُ لاَ تَعَامُلَ فِي إِجَارَةِ الأْشْجَارِ الْمُجَرَّدَةِ، فَلاَ يَجُوزُ، وَطَابَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ - وَهِيَ مَا زَادَ فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ - وَذَلِكَ لِبَقَاءِ الإْذْنِ.
وَلَوِ اسْتَأْجَرَ الأْرْضَ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ الزَّرْعُ - أَيْ إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِهِ - فَسَدَتِ الإْجَارَةُ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ، وَلَمْ تَطِبِ الزِّيَادَةُ لِفَسَادِ الإْذْنِ بِفَسَادِ الإْجَارَةِ ، وَفَسَادُ الْمُتَضَمِّنِ يُوجِبُ فَسَادَ الْمُتَضَمَّنِ، بِخِلاَفِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّهُ مَعْدُومٌ شَرْعًا أَصْلاً وَوَصْفًا فَلاَ يَتَضَمَّنُ شَيْئًا، فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهُ عِبَارَةً عَنِ الإْذْنِ.
وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الْفَاسِدَ لَهُ وُجُودٌ؛ لأِنَّهُ فَائِتُ الْوَصْفِ دُونَ الأْصْلِ ، فَكَانَ الإْذْنُ ثَابِتًا فِي ضِمْنِهِ، فَيَفْسُدُ، أَمَّا الْبَاطِلُ فَلاَ وُجُودَ لَهُ أَصْلاً، فَلَمْ يُوجَدْ إِلاَّ الإْذْنُ .
وَفِي حَاشِيَةِ الشَّلَبِيِّ عَلَى الزَّيْلَعِيِّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الإْذْنِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الإْجَارَةِ الْبَاطِلَةِ وَبَيْنَهُ فِي ضِمْنِ الإْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ: أَنَّ الإْذْنَ فِي الإْجَارَةِ الْبَاطِلَةِ صَارَ أَصْلاً مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ؛ لأِنَّ الْبَاطِلَ لاَ وُجُودَ لَهُ، وَالْمَعْدُومَ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الإْجَارَةُ الْفَاسِدَةُ، لأِنَّ الْفَاسِدَ لَيْسَ مَعْدُومًا بِأَصْلِهِ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا، فَإِذَا فَسَدَ الْمُتَضَمِّنُ فَسَدَ الْمُتَضَمَّنُ .
وَالْحُكْمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَظْهَرُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يُفَرِّقُونَ فِيهَا بَيْنَ الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ، كَالْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلإْذْنِ، مِثْلِ الشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْوَكَالَةِ، فَهَذِهِ الْعُقُودُ لاَ يَمْنَعُ فَسَادُهَا صِحَّةَ تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ لِبَقَاءِ الإْذْنِ.
فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: الْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلإْذْنِ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَأْذُونِ صَحَّتْ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ إِذَا أَفْسَدْنَاهَا فَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ، صَحَّ لِوُجُودِ الإْذْنِ، وَطَرَدَهُ الإْمَامُ فِي سَائِرِ صُوَرِ الْفَسَادِ .
وَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ لاَ يَمْنَعُ فَسَادُهَا نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالإْذْنِ .
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ لأِنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ بَقِيَ الإْذْنُ ، فَمَلَكَ بِهِ التَّصَرُّفَ .
وَقَوَاعِدُ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ .
ثَانِيًا - الْمِلْكُ:
10-التَّصَرُّفُ الْفَاسِدُ لاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: الْفَاسِدُ لاَ يُمْلَكُ فِيهِ شَيْءٌ، وَيَلْزَمُهُ الرَّدُّ وَمُؤْنَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ لِقَبْضِ الْبَدَلِ، وَلاَ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ إِنْ عَلِمَ الْفَسَادَ، وَكَذَا إِنْ جَهِلَ فِي الأْصَحِّ.
وَيُسْتَثْنَى صُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ فِيهَا أَكْسَابَهُ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا صَالَحْنَا كَافِرًا بِمَالٍ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ، فَدَخَلَ وَأَقَامَ، فَإِنَّا نَمْلِكُ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ .
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ حَكَمْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مِلْكٌ، سَوَاءٌ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ، وَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِبَيْعٍ وَلاَ هِبَةٍ وَلاَ عِتْقٍ وَلاَ غَيْرِهِ .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمْ بِالْقَبْضِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَيَمْلِكُ الْقَابِضُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مِلْكٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، لأِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مَضْمُونٌ .
وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: الأْصْلُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَنَّ كُلَّ مَا يُمْلَكُ بِبَيْعٍ جَائِزٍ يُمْلَكُ بِفَاسِدٍ، فَلَوْ شَرَى قِنًّا بِخَمْرٍ - وَهُمَا مُسْلِمَانِ - مَلَكَ الْقِنَّ مُشْتَرِيهِ بِقَبْضِهِ بِإِذْنٍ، وَلاَ يَمْلِكُ الْبَائِعُ الْخَمْرَ .
وَالْهِبَةُ الْفَاسِدَةُ تُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، وَبِهِ يُفْتَى، وَهِيَ مَضْمُونَةٌ .
وَالْمَقْبُوضُ بِالْقِسْمَةِ الْفَاسِدَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ وَيَنْفُذُ التَّصَرُّفُ، كَالْمَقْبُوضِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَتَقَرَّرُ الْمِلْكُ فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ بِالْفَوَاتِ:
يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: الْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ عِنْدَ مَالِكٍ تَنْقَسِمُ إِلَى مُحَرَّمَةٍ وَإِلَى مَكْرُوهَةٍ: فَأَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ مَضَتْ بِالْقِيمَةِ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهَةُ فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ صَحَّتْ عِنْدَهُ، وَرُبَّمَا صَحَّ عِنْدَهُ بَعْضُ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ بِالْقَبْضِ، لِخِفَّةِ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ .
ثَالِثًا - الضَّمَانُ:
11 -يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةَ تُرَدُّ إِلَى حُكْمِ صَحِيحِهَا بِالنِّسْبَةِ لِلضَّمَانِ وَعَدَمِهِ، فَإِنِ اقْتَضَى التَّصَرُّفُ الصَّحِيحُ الضَّمَانَ فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ، وَإِنِ اقْتَضَى عَدَمَ الضَّمَانِ فَفَاسِدُهُ كَذَلِكَ .
وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَاعِدَةٌ شَبِيهَةٌ بِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ: الأْصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا قُبِضَ بِجِهَةِ التَّمَلُّكِ ضُمِنَ، وَكُلَّ مَا قُبِضَ لاَ بِجِهَةِ التَّمَلُّكِ لَمْ يُضْمَنْ .
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَان ف 35، وَمَا بَعْدَهَا).
رَابِعًا - سُقُوطُ الْمُسَمَّى فِي التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةِ:
12 - الْوَاجِبُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا تَسْمِيَةُ نَحْوِ الأْجْرِ أَوِ الرِّبْحِ أَوِ الْمَهْرِ، هُوَ الْمُسَمَّى، فَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ، فَإِنَّ الْمُسَمَّى يَسْقُطُ، وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ إِذَا سَقَطَ الْمُسَمَّى وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الإْجَارَةُ:
13 - إِذَا فَسَدَتِ الإْجَارَةُ وَاسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، أَيْ وَلَوْ زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَنِ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ .
وَالتَّفْصِيلُ فِي: (إِجَارَة ف 43 - 44).
ب - الْمُضَارَبَةُ:
14 -الْوَاجِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ الرِّبْحُ الْمُسَمَّى لِلْمُضَارِبِ، فَإِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى، لأِنَّهَا تَسْمِيَةٌ لَمْ تَصِحَّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ إِذَا عَمِلَ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ جَمِيعُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، لأِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ.
وَالْمُضَارِبُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، سَوَاءٌ أَرَبِحَتِ الْمُضَارَبَةُ أَمْ لَمْ تَرْبَحْ، لأِنَّهُ عَمِلَ طَامِعًا فِي الْمُسَمَّى، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ رَدُّ عَمَلِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ وَهِيَ الأْجْرَةُ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرَ أَبِي يُوسُفَ - وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ غَيْرَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا لِلْمُضَارِبِ قِرَاضَ الْمِثْلِ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ، وَأُجْرَةَ الْمِثْلِ فِيمَا عَدَاهَا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ضَابِطٌ، هُوَ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِرَاضِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَأَمَّا إِنْ شَمَلَهَا الْقِرَاضُ، لَكِنِ اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ، فَفِيهَا قِرَاضُ الْمِثْلِ .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مُضَارَبَة)
ج - النِّكَاحُ:
15 - الْمَهْرُ يَسْقُطُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ - سَوَاءٌ اتُّفِقَ عَلَى فَسَادِهِ أَمْ لاَ - إِذَا حَصَلَ التَّفْرِيقُ قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .
هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا نِصْفُ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ، كَمَا إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَضَاعًا مُحَرِّمًا بِلاَ بَيِّنَةٍ، وَكَذَّبَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ النِّكَاحُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِالدُّخُولِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» .
فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم لَهَا الْمَهْرَ فِيمَا لَهُ حُكْمُ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَعَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَاجِبِ مِنَ الْمَهْرِ، هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوِ الأْقَلُّ مِنْهُمَا؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرَ زُفَرَ - لَهَا الأْقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنَ الْمُسَمَّى.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى كَنِكَاحِ الشِّغَارِ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَهَا الْمُسَمَّى فِي الْفَاسِدِ (وَهُوَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ) وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْبَاطِلِ (وَهُوَ مَا اتُّفِقَ عَلَى فَسَادِهِ) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (مَهْر - نِكَاح).
خَامِسًا: الْفَسَادُ فِي الأْشْيَاءِ الْمَادِّيَّةِ:
16 - يَرِدُ الْفَسَادُ فِي الأْشْيَاءِ الْمَادِّيَّةِ كَعَطَبِ الأْطْعِمَةِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، كَمَا فِي الرَّهْنِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْتِقَاطُهَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهَا عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ يُوجِبُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ:
17 -ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ إِنْ أَمْكَنَ تَجْفِيفُهُ، كَرُطَبٍ وَعِنَبٍ يَتَجَفَّفَانِ، فَإِنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ وَلَكِنْ رُهِنَ بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ لَكِنَّهُ يَحِلُّ قَبْلَ الْفَسَادِ وَلَوِ احْتِمَالاً جَازَ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَجْفِيفُهُ وَرُهِنَ بِمُؤَجَّلٍ يَحِلُّ بَعْدَ فَسَادِهِ أَوْ مَعَهُ، لَمْ يَجُزْ إِلاَّ إِنْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ خَوْفِ فَسَادِهِ، وَأَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ رَهْنًا.
وَلَوْ رُهِنَ مَا لاَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فَحَدَثَ قَبْلَ الأْجَلِ مَا عَرَّضَهُ لِلْفَسَادِ - كَحِنْطَةٍ ابْتَلَتْ وَتَعَذَّرَ تَجْفِيفُهَا - لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ، بَلْ يُبَاعُ وُجُوبًا وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ رَهْنًا .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إِصْلاَحُهُ بِالتَّجْفِيفِ كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، أَوْ لاَ يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ كَالْبِطِّيخِ وَالطَّبِيخِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ مِمَّا يُجَفَّفُ، فَعَلَى الرَّاهِنِ تَجْفِيفُهُ، لأِنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ حِفْظِهِ وَتَبْقِيَتِهِ، فَيَلْزَمُ الرَّاهِنَ كَنَفَقَةِ الْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُجَفَّفُ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُقْضَى الدَّيْنُ مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ كَانَ حَالًّا، أَوْ يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لاَ يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ، جُعِلَ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، سَوَاءٌ شُرِطَ فِي الرَّهْنِ بَيْعُهُ أَوْ أُطْلِقَ، لأِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لأِنَّ الْمَالِكَ لاَ يُعَرِّضُ مِلْكَهُ لِلتَّلَفِ وَالْهَلاَكِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ حِفْظُهُ فِي بَيْعِهِ حُمِلَ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الْعَقْدِ، كَتَجْفِيفِ مَا يَجِفُّ، وَأَمَّا إِذَا شَرَطَ أَنْ لاَ يُبَاعَ فَلاَ يَصِحُّ، لأِنَّهُ شَرَطَ مَا يَتَضَمَّنُ فَسَادَهُ وَفَوَاتَ الْمَقْصُودِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُجَفَّفَ مَا يَجِفُّ.
وَفِي وَجْهٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ أَطْلَقَ لاَ يَصِحُّ.
وَإِذَا شَرَطَ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعَهُ، أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الرَّاهِنُ أَوْ غَيْرُهُ، بَاعَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ بَاعَهُ الْحَاكِمُ وَجَعَلَ ثَمَنَهُ رَهْنًا، وَلاَ يُقْضَى الدَّيْنُ مِنْ ثَمَنِهِ، لأِنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَعْجِيلُ وَفَاءِ الدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ رَهَنَهُ ثِيَابًا يُخَافُ فَسَادُهَا، كَالصُّوفِ، قَالَ أَحْمَدُ فِيمَنْ رَهَنَ ثِيَابًا يُخَافُ فَسَادُهَا كَالصُّوفِ: أَتَى السُّلْطَانَ فَأَمَرَهُ بِبَيْعِهَا .
وَنَقَلَ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الذَّخِيرَةِ: لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ ثَمَرَةِ الرَّهْنِ وَإِنْ خَافَ تَلَفَهَا، لأِنَّ لَهُ وِلاَيَةَ الْحَبْسِ لاَ الْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ رَفْعُهُ إِلَى الْقَاضِي، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لاَ يُمْكِنُهُ الرَّفْعُ لِلْقَاضِي أَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ بِحَالٍ يَفْسُدُ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يُبِحِ الرَّاهِنُ لَهُ الْبَيْعَ.
وَفِي الْبِيرِيِّ عَنِ الْوَلْوَالِجِيَّةِ: وَيَبِيعُ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، وَيَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِهِ، قَالَ الْبِيرِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا جَوَازُ بَيْعِ الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا تَدَاعَتْ لِلْخَرَابِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الأْصْلُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الْمَرْهُونِ إِلاَّ إِنْ خَشِيَ فَسَادَهُ، فَإِنْ خَشِيَ فَسَادَهُ جَازَ بَيْعُهُ .
ب - الْتِقَاطُ مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ:
18 -مَنِ الْتَقَطَ مَا لاَ يَبْقَى وَيَفْسُدُ بِالتَّأْخِيرِ، كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْفَوَاكِهِ، فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهُ إِلَى أَنْ يَخْشَى فَسَادَهُ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ خَوْفًا مِنَ الْفَسَادِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأْوْلَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنِ الْتَقَطَ شَيْئًا مِمَّا يُسْرِعُ فَسَادُهُ وَلاَ يَبْقَى بِعِلاَجٍ، فَإِنَّ آخِذَهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ خَصْلَتَيْنِ: فَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ اسْتِقْلاَلاً إِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، وَبِإِذْنِهِ إِنْ وَجَدَهُ وَعَرَّفَ الْمَبِيعَ بَعْدَ بَيْعِهِ لِيَتَمَلَّكَ ثَمَنَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ شَاءَ تَمَلَّكَهُ فِي الْحَالِ وَأَكَلَهُ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ.
وَإِنْ أَمْكَنَ بَقَاءُ مَا يُسْرِعُ فَسَادُهُ بِعِلاَجٍ، كَرُطَبٍ يَتَجَفَّفُ، فَإِنْ كَانَتِ الْغِبْطَةُ فِي بَيْعِهِ بِيعَ جَمِيعُهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ إِنْ وَجَدَهُ، وَإِلاَّ بَاعَهُ اسْتِقْلاَلاً، وَإِنْ كَانَتِ الْغِبْطَةُ فِي تَجْفِيفِهِ وَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَاجِدُ لَهُ أَوْ غَيْرُهُ، جَفَّفَهُ، لأِنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ، فَرُوعِيَ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِتَجْفِيفِهِ بِيعَ بَعْضُهُ بِقَدْرِ مَا يُسَاوِي
التَّجْفِيفَ لِتَجْفِيفِ الْبَاقِي، طَلَبًا لِلأْحَظِّ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنِ الْتَقَطَ مَا لاَ يَبْقَى عَامًا وَكَانَ مِمَّا لاَ يَبْقَى بِعِلاَجٍ وَلاَ غَيْرِهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَكْلِهِ وَبَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ، فَإِنْ أَكَلَهُ ثَبَتَتِ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ جَازَ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: لَهُ بَيْعُ الْيَسِيرِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا دَفَعَهُ إِلَى السُّلْطَانِ.
وَإِنْ أَكَلَهُ أَوْ بَاعَهُ حَفِظَ صِفَاتِهِ، ثُمَّ عَرَّفَهُ عَامًا.
وَإِنْ كَانَ مَا الْتَقَطَهُ مِمَّا يُمْكِنُ إِبْقَاؤُهُ بِالْعِلاَجِ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، فَيَنْظُرُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ: فَإِنْ كَانَ فِي التَّجْفِيفِ جَفَّفَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ ذَلِكَ، وَإِنِ احْتَاجَ التَّجْفِيفُ إِلَى غَرَامَةٍ بَاعَ بَعْضَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي بَيْعِهِ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُهُ وَلَمْ يُمْكِنْ تَجْفِيفُهُ تَعَيَّنَ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُ أَنْفَعَ لِصَاحِبِهِ فَلَهُ أَكْلُهُ لأِنَّ الْحَظَّ فِيهِ .
(خامساً) الْمُعَاوَضَاتُ الْفَاسِدَةُ:
38 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْقَبْضِ نَاقِلاً لِلْمِلْكِيَّةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ الْفَاسِدَةِ أَوْ غَيْرَ نَاقِلٍ .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ كَالْبَاطِلِ، لاَ يَنْعَقِدُ أَصْلاً، وَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بَتَاتًا، سَوَاءٌ قَبَضَ الْعَاقِدُ الْبَدَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مِلْكِيَّةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَنْتَقِلُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْفَاسِدِ بِقَبْضِهِ بِرِضَا صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ .
_________________________________________________________________
كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفورله (محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية) بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه
(مادة 217)
العقد الصحيح الذي يظهر أثره بانعقاده هو العقد المشروع ذاتاً ووصفاً.
والمراد بمشروعية ذاته ووصفه أن يكون ركنه صادراً من أهله مضافاً إلى محل قابل لحكمه وأن تكون أوصافه صحيحة سالمة من الخلل وأن يكون مقروناً بشرط من الشروط المفسدة للعقد.
(مادة 218)
العقد الفاسد هو ما كان مشروعاً بأصله لا يوصفه أي أنه يكون صحيحاً باعتبار أصله لا خلل في ركنه ولا في محله فاسداً باعتبار بعض أوصافه الخارجة بأن يكون المعقود عليه أو بدله مجهولاً جهالة فاحشة أو يكون العقد خالياً عن الفائدة أو يكون مقروناً بشرط من الشرائط الموجبة لفساد العقد والعقد الفاسد لا يفيد الملك في المعقود عليه إلا بقبضه برضا صاحبه.
(مادة 219)
العقد الباطل هو ما ليس مشروعاً لا أصلاً ولا وصفاً أي ما كان في ركنه أو في محله خلل بأن كان الإيجاب والقبول صادرين ممن ليس أهلاً للعقد أو كان المحل غير قابل لحكم العقد.
وهو لا ينعقد أصلاً ولا يفيد الملك في الأعيان المالية ولو بالقبض.
(مادة 317)
إذا كان خيار التعيين للبائع وهلك أحد الشيئين في يده كان له أن يلزم المشتري بالثاني فإن هلكا معاً بطل العقد.
(مادة 339)
البيع الباطل هو ما أورث خللاً في ركن البيع أو في محله.
والبيع الفاسد هو ما أورث خللاً في غير الركن والمحل (وبعبارة أخرى).
البيع الباطل ما لا يكون مشروعاً أصلاً ولا وصفاً والبيع الفاسد ما كان مشروعاً أصلاً لا وصفاً.