loading
المذكرة الإيضاحية

مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني ، الصفحة :  494

آثار الالتزام

المذكرة الإيضاحية :

نظرة عامة :

قتر التقنين الحالي في النصوص الخاصة بآثار الالتزام تقتيراً أغفل معه طائفة من أمهات المسائل تعرضت لها التقنيات الحديثة . وإذا كان قد أغفل الالتزامات الطبيعية وهي بعد مغموطة الحق في أغلب التقنينات فثمة مسائل أخرى تتصل بآثار الالتزام يكاد يكون نصيبها من الإغفال كاملاً وأهم هذه المسائل : التنفيذ العيني ، وما يقتضيه من تنظيم بالنسبة لأقسام الالتزام الثلاثة ، والتنفيذ بالغرامات التهديدية والتنفيذ بمقابل ، وبوجه خاص ، تبعة المدين والإعفاء منها ، وإجراءات التنفيذ وإجراءات التحفظ . ثم إن من المسائل ما بالغ هذا التقنين في إجمال الأحكام الخاصة به مبالغة لا تخلو من الإخلال أحياناً : ما هو الشأن في الإعذار، والشرط الجزائي، والفوائد ، والدعوى غير المباشرة، والدعوى البولية، ودعوى الصورية، وقد استدرك المشروع أوجه النقص المتقدمة جميعاً، وجهد في علاج أهم وجه منها، فعمد إلى تنظيم الإعسار، دون أن يكون أمامه مثال كامل يطمئن إلى احتذائه كلما دعت الحاجة لذلك.

ويكفي أن يشار بوجه عام إلى ما تضمن هذا الباب من مسائل ، فقد استهل بأحكام تمهيدية أفردت في سياقها بعض نصوص للالتزامات الطبيعية ثم عرض بعد ذلك للالتزامات المدنية فعقد لها فصولاً ثلاثة : تناول في أولها التنفيذ العيني و مايتبعه من تنفيذ بالغرامات التهديدية . وخص الثاني بالنصوص المتعلقة بالتنفيذ بمقابل، وما يتصل به من أحكام الإعذار، وتقدير التعويض تقديراً قضائياً أو اتفاقياً او قانونياً ووقف ثالثها على ما يكفل حقوق الدائنين من وسائل التنفيذ، ووسائل الضمان ويراعى أن وسائل التنفيذ أو الاستخلاص، تنتظر دعاوی ثلاث تتفرع جميعاً على اعتبار الذمة ضماناً عاماً للدائنين: وهي الدعوى غير المباشرة، والدعوی البوليصية، ودعوى الصورية . وقد أتبعت تلك الوسائل ببيان ما يرد من القيود على حق الدائن في مباشرة إجراءات التنفيذ على هذا الشأن العام أما وسائل الضبان فيمثلها حق الحبس، وقد بسطت أحكامه بسطا يسمو به إلى مرتبة الأصول العامة . وأخيراً اختتمت نصوص هذا الفصل بالأحكام الخاصة بتنظيم الإعسار.

وفيما يلي تفصيل ما تقدم إجماله :

الالتزامات الطبيعية : اختص المشروع الالتزامات الطبيعية بمواد أربع. ويراعي أن هذه الالتزامات تمتاز عن غيرها بوجه خاص، بما يكون لها من آثار فسمة الالتزام الطبيعي هي اجتماع مكنة ترتيب الأثر القانوني وفكرة انتفاء الجزاء، ولهذا كان الباب المعقود لآثار الالتزام خير موضع لأحكامها ومهما يكن من أمر هذا الوضع ، فليس شك في أنه يفضل وضعها في التقنين الحالى، حيث أجملت كل الإجمال، في معرض القواعد الخاصة بدفع غير المستحق ( أنظر المادة 147/208 من التقنين المصري).

وإذا كان من غير الميسور بیان صور الالتزام الطبيعي على سبيل الحصر فليس ثمة بد من أن يترك أمرها لتقدير القضاء، ليقرر في أي الأحوال وبأي الشروط ، يعتبر الواجب الأدبي واجباً يعترف به القانون وليس يحد من سلطان القضاء في هذا الشأن إلا وجوب مراعاة النظام العام والآداب، فلا يجوز له إقرار الالتزام الطبيعي بأي حال، متى كان مخالفاً لها ( انظر المادة 206 فقرة 2 من المشروع ).

ويختلف عن ذلك شأن ما يترتب على الالتزام الطبيعي من آثار ، فمن الميسور تحديدها تحديدآ تقريبية، ولا سيما أنها جد قليلة ومن المأثور أن الالتزام الطبيعي في القانون الحديث يفترق عن صنوه عند الرومان، بأنه أكثر صوراً في نطاق التطبيق، وأقل إنتاجها في نطاق الآثار، وهو بهذا يعوض في ناحية ما يفوته في الناحية الأخرى . و تنحصر هذه الآثار في أمرين لا أكثر : أولها أن أداء المدين اختیاراً لما يجب عليه بمقتضى التزام طبيعي يكون له حكم الوفاء، ولا يعتبر تبرعاً (المادة 207 من المشروع ) والثاني أن هذا الالتزام يصلح سبباً التزام مدني وفيما عدا هذين الأثرين لا يرتب الالتزام الطبيعي أي أثر آخر.

مذكرة المشروع التمهيدي :

عن المادة 274 : يقصد من هذا النص إلى التمييز بين الالتزام المدني والالتزام الطبيعي، فالأول وحده هو الذي يجوز تنفيذه قهراً . فللدائن بالتزام مدني أن يجبر مدينه على قضاء حقه كاملاً إما من طريق الوفاء عينا ، وإما من طريق الوفاء مقابل ، أما الثاني فلا يكفله أي جزاء مباشر كما سيأتي بيان ذلك .

عن المادة 275 فقرة أولى : تبرز الفقرة الأولى من هذه المادة وجه المقابلة بين الالتزام المدني والالتزام الطبيعي . فقد تقدم أن الالتزام المدني بجوز تنفيذه جبراً أما الالتزام الطبيعي فعلى النقيض من ذلك لا يكون تنفيذه إلا اختياراً.

الأحكام

1- إن مؤدى نصوص المواد 199 ، 203 ، 210 من القانون المدنى تدل على أن اجبار المدين على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً لا يعني فى الفكر القانوني - تشريعاً وفقهاً وقضاء- قهر المدين أو اجباره قسراً على التنفيذ لما فى ذلك من المساس بكرامة المدين وحجر على حريته تأباه الشرائع كافة التي تجعل حق الدائن مقصوراً فى أموال المدين وتنأى به عن التعرض لشخصه .

(الطعن رقم 1412 لسنة 75 جلسة 2014/06/16)

2- أنه و إن كان الأصل أن للدائن طلب تنفيذ إلتزام مدينة عيناً ، وكان يرد على هذا الأصل إستثناء من حق القاضى اعماله تقضى به الفقرة الثانية من المادة 203 من القانون المدنى أساسه إلا يكون هذا التنفيذ مرهقاً للمدين فيجوز فى هذه الحالة أن يقتصر على دفع تعويض نقدى متى كان ذلك لايلحق بالدائن ضرراً جسيماً ، إلا أنه لما كان الثابت من الحكم المطعون فيه أنه لم يتضمن مايفيد أن الطاعن الأول دفع الدعوى بأن تنفيذ الوعد بالإيجار عيناً ينطوى على رهق له وأبدى إستعداده للتنفيذ بمقابل ، و كان الطاعنان لم يقدما ما يدل على تمسكهما بهذا الدفاع أمام محكمة الموضوع ، وهو أمر يخالطه عناصر واقعية ويقتضى تحقيق إعتبارات موضوعية ، فإنه لايجوز لهما أثارته لأول مرة أمام محكمة النقض ، ويكون النعى غير مقبول .

(الطعن رقم 565 لسنة 43 جلسة 1977/03/30 س 28 ع 1 ص 865 ق 151)

3- الإلتزام لا ينقضى بمجرد إكتمال مدة التقادم بل يظل إلتزاماً مدنياً واجب الوفاء إلى أن يدفع بتقادمه، فإذا إنقضى الإلتزام المدنى بالتقادم تخلف عنه إلتزام طبيعى فى ذمة المدين . ولما كان الثابت أن الطاعنين نزلوا عن التقادم بعد أن إكتملت مدته وقبل أن يرفعوا دعواهم التى تمسكوا فيها بإنقضاء الدين بالتقادم ، فإن مؤدى ذلك أن يبقى الإلتزام مدنياً ويلزم الطاعنين بأداء الدين ولا يتخلف عنه إلتزام طبيعى .

(الطعن رقم 349 لسنة 39 جلسة 1975/02/18 س 26 ع 1 ص 429 ق 88)

شرح خبراء القانون

أثر العقد هو إنشاء الالتزام أما أثر الالتزام فهو وجوب تنفيذه والتنفيذ أما يكون عينياً وهذا هو الاصل وقد يكون بمقابل عن طريق التعويض والدائن قبل ان يتخذ الاجراءات التنفيذية قد يتخذ إجراءات تحفظية يحافظ بها على أموال مدينه وبين الإجراءات التحفظية والإجراءات التنفيذية مرحلة وسطى من الاجراءات يمهد بها الدائن للتنفيذ وتتمثل فى الدعوى غير المباشرة والدعوى البوليصية ودعوى الصورية وحبس مال المدين وشهر اعساره وننوه الى ان الالتزام قد يكون طبيعياً لا جبر فى تنفيذه وقد يكون مديناً وينفذ جبراً على المدين .

فإذا قام المدين بتنفيذ التزامه الطبيعى طوعا وهو على بينة من أمره اى إذا كان يعلم أن القانون لا يجبر على التنفيذ ولكنه يؤدى الى الدائن مايحس أن ضميره يلزمه بأدائه فإنه لا يستطيع أن يسترد ما دفعه .

فإن كان يعتقد أنه ملزم قانوناً بالوفاء وأن التزامه يجوز تنفيذه جبراً وهو ما دفعه إلى الوفاء بالتزامه، فإنه يكون قد توافرت لديه شروط الغلط في القانون مما يجوز معه إبطال هذا الوفاء.

الأصل براءة ذمة الشخص إلى أن يقوم الدليل القانونى على انشغالها ومتى أقام الدائن هذا الدليل تحمل المدين عبء إثبات انقضاء الالتزام الذي انشغلت به ذمته ويخضع هذا الاثبات للقواعد العامة فإذا تمكن من ذلك انقضى التزامه أما إن لم يتمكن ظل مديناً وتعين عليه تنفيذ التزامه رضاء فإن امتنع ، استصدر الدائن حكماً أو أمراً بإلزام المدين بهذا التنفيذ وحينئذ يجوز تنفيذه جبراً بالالتجاء إلى السلطة العامة .

والأصل أن يكون التنفيذ عينيا ، فيوفى المدين بعين ما التزم به متى كان ذلك ممكناً فالالتزام بتسليم العقار يكون ممكناً حتى لو اجرى المدين به تعديلاً إذ يجوز اعادة العقار الى ماكان عليه عند التعاقد على نفقة المدين ولايتحقق بذلك التجهيل بالمحل ومن ثم يجوز التنفيذ جبرا ويتولى قاضى التنفيذ إزالة كل عقبة مادية تعترض التنفيذ وهو وحده صاحب الولاية في ذلك مما يحول دون المحكوم له ورفع دعوى جديدة بتعيين المحل إذ سبق تعيينه بالحكم المنفذ به وأن إزالة العقبات من ولاية قاضى التنفيذ فى جميع الأحوال والالتزام بدفع مبلغ من النقود يكون ممكناً بحيث إذا امتنع المدين عن الوفاء به جاز للدائن توقيع الحجز على أموال المدين المنقولة والعقارية وبيعها واستيفاء حقه من ثمنها .

فإن استحال تنفيذ الالتزام عينياً، جاز تنفيذه بطريق التعويض بشرط أن يقضى بهذا التعويض على التفصيل الذى سوف تتناوله فيما بعد، وطالما ظل الالتزام قائماً فإنه يكون التزاماً مدنياً وبالتالى يجوز تنفيذ جبراً على المدين .

الالتزام الطبيعي، على نحو ما أوضحناه بالمادة التالية هو التزام انشغلت به ذمة المدين، مثله  فى ذلك مثل الالتزام المدني، فيتحدان في هذا العنصر كما يتحدان فى عنصر قابلية كل منهما للوفاء به رضاء شريطه أن يكون الموفى بالتزام طبيعي على بينه من أنه يوفى بالتزام لا يجوز إجباره قانوناً على تنفيذه، كالمدين الذي يوفى بدينه الذي اكتملت مدة تقادمه وهو على بينة من ذلك ولايكون فى هذه الحالة واهباً لما أوفى به إنما منفذاً لالتزامه وبالتالى لا يجوز لدائنيه الطعن فى الوفاء بالدعوى البوليصية ولو أدى الوفاء إلى إعساره كما لا يجوز لورثته إبطاله لصدره فيما جاوز ثلث تركته لصدوره فى مرض موت مورثهم لأن الوفاء فى مرض الموت لا يأخذ حكم الوصية إلا إذا كان تبرعاً ولا يعتبر الوفاء بالتزام طبيعى تبرعاً وإنما قضاء لدين ومن قبيل الوفاء بالتزام طبيعي قيام الأب المعسر بتجهيز إبنته مما يحول دون دائنيه والطعن بالدعوى البوليصية لإعادة قيمة التجهيز إلى ذمة مدينهم ويرى السنهوري اعتبار ذلك تبرعا يجوز معه الطعن بالدعوى البوليصية .

أما أن كان المدين يعتقد أنه يوفى بالتزام يجوز إجباره قانوناً على الوفاء به فإن هذا الوفاء يكون مشوباً بالغلط في القانون يجيز طلب إبطاله واسترداد محل الوفاء بموجب دعوى رد مانفع بغير حق، على أن يتحمل عبء إثبات الوفاء وفقاً للقواعد العامة باعتبار الوفاء تصرفاً قانونياً، ثم إثبات ماشاب إرادته من غلط وتلك واقعة مادية يجوز إثباتها بكافة الطرق .(المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/الرابع ، الصفحة/  147 )

مكان الالتزام الطبيعي وتمييزه عن الالتزام المدني : ويتبين من النص المتقدم أن التقنين المدني الجديد ، وهو في مستهل الكلام في آثار الالتزام ، عمد إلي إبراز التمييز ما بين الالتزام الطبيعي والالتزام المدني ، فالأول لا جبر في تنفيذه  ، أما الثاني فيجبر المدين فيه علي التنفيذ . وهذا التمييز يرجع إلي أثر الالتزام من حيث جواز إجبار المدين على تنفيذ التزامه ، ومن ثم استطاع التقنين الجديد أن يجد مكاناً صالحاً للالتزام الطبيعي يبين فيه حالاته ويبسط أحكامه .

الالتزام الطبيعي وسط في المرتبة بين الالتزام المدني والواجب الأدبي : الالتزام الطبيعي واجب أدبي يدخل في منطقة القانون ، فيعترف به القانون إلى مدى معين . وهذا المدى الذي يقف عنده القانون في الاعتراف بالالتزام الطبيعي هو التنفيذ الاختياري : لا يجبر المدين في الالتزام الطبيعي على التنفيذ القهري ، ولكن التنفيذ الاختياري معتبر . فإذا قام المدين بتنفيذ التزامه طوعاً وهو علي بينه من أمره ، أي إذا كان يعلم أن القانون لا يجبره علي التنفيذ ولكنه مع ذلك يؤدي إلي الدائن ما يحس أن ضميره يلزمه بأدائه ، فإنه لا يستطيع أن يسترد ما دفعه تنفيذاً لهذا الالتزام الطبيعي ، إذ أن ما دفعه ليس هبة يجوز له الرجوع فيها ، بل هو وفاء الالتزام في ذمته وهذا كله بخلاف الالتزام المدني ، فإن هذا الالتزام لا يقتصر الأمر فيه علي أن المدين إذا وفاه لا يستطيع أن يسترده ، بل أيضاً إذا هو لم يوفه أجبر على الوفاء.

الالتزام المدني يشتمل على عنصرين ، عنصر المديونية ، وعنصر المسئولية ، رأينا أن الالتزام الطبيعي لا يحتوي من هذين العنصرين إلا علي العنصر الأول وحده ، وهو عنصر المديونية . فالمدين بالتزام طبيعي مدين ، لا في حكم الضمير فحسب ، بل أيضا في حكم القانون ، ومن هنا إذا وفي الدين لم يستطع استرداده ، فهذا هو عنصر المديونية قد توافر فيه . ولكن المدين لا يجبر علي الوفاء إذا لم يرد ذلك عن بينة واختيار ، فهذا هو عنصر المسئولية قد انفصل عنه .

ومن ثم يقف الالتزام الطبيعي في الحد الفاصل ما بين الأخلاق والقانون.(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء/  الثاني المجلد/ الثاني الصفحة/ 947 )

الالتزام الذي ينفذ جبراً على المدين، هو الالتزام المدني الكامل، وهو الصورة المألوفة من صور الالتزام.

الالتزام المدني الكامل - يتحلل إلى عنصرين، الأول هو عنصر المديونية أو الواجب، والثاني هو عنصر المسئولية أو الجزاء.

وبمقتضى العنصر الأول فإن على المدين أن يستجيب من تلقاء نفسه إلى الواجب الذي يفرضه عليه الالتزام فيؤدى للدائن ما يستحقه قبله سواء كان ذلك في صورة إعطاء أو عمل أو الامتناع عن عمل. فإذا لم يستجب المدين إلى عنصر المديونية في التزامه، فإن الدائن يستطيع في هذه الحالة أن يحرك العنصر الثاني وهو عنصر المسئولية أو الجزاء. وهو في هذا يستعين بالسلطة العامة التي تقهر إرادة المدين وتجبره على الوفاء بالتزامه للدائن.

وقاضي التنفيذ هو الذي يتولى إزالة كل عقبة مادية تعترض التنفيذ. وهو وحده صاحب الولاية في ذلك، مما يحول دون المحكوم له ورفع دعوى جديدة بتعيين المحل، إذ سبق تعيينه بالحكم المنفذ به وأن إزالة العقبات من ولاية قاضي التنفيذ في جميع الأحوال، والالتزام بدفع مبلغ من النقود يكون ممكناً بحيث إذا امتنع المدين عن الوفاء به جاز للدائن توقيع الحجز على أموال المدين المنقولة والعقارية وبيعها واستيفاء حقها من ثمنها.

لا جبر في تنفيذ الالتزام الطبيعي :

الالتزام الطبيعى التزام ناقص يفتقر إلى عنصر المسئولية والجزاء، أما الالتزام بالمعنى الكامل لهذا الاصطلاح فهو الالتزام المدني فالالتزام المدني يتحلل - كما ذكرنا- إلى عنصرين: الأول هو عنصر المديونية أو الواجب والثاني هو عنصر المسئولية أو الجزاء. أما الالتزام الطبيعي فهو لا ينطوي إلا على عنصر واحد، هو عنصر الواجب أو المديونية. فمن الواجب على المدين في التزام طبيعي أن يوفي بالتزامه، ولكن إذا تخلف عن الوفاء به فلا يجبر على ذلك. والالتزام الطبيعي بهذا الوصف، يقترب كثيراً من الواجب الأخلاقي الذي لا يحميه القانون بأي جزاء مدني. وهو في الواقع يقف في مرتبة وسطى بين الالتزام المدني وبين الواجب الأخلاقي. فهو يقترب من الواجب الأخلاقي في أن القانون لا يرتب أي جزاء على الإخلال به. ولكنه يقترب مع ذلك من الالتزام المدني في أن القانون قد اعتد به ورتب عليه بعض الآثار القانونية. ويظهر ذلك بوضوح عندما يقوم المدين من تلقاء نفسه بالوفاء به. فإن القانون لا يعتبره متبرعاً أو موفياً بما هو غير مستحق عليه، بل يعتبره موفياً بالتزام قانوني في ذمته.

والالتزام الطبيعي يرجع أصله إلى الواجب الأخلاقي من ناحية وإلى الالتزام المدني من ناحية أخرى. فهو إما واجب أخلاقي ارتفع في نظر القانون إلى درجة تبرر الاعتداد به، دون أن يصل مع ذلك إلى مرتبة الالتزام المدني. أو هو بحسب أصله التزام مدنی انخفضت قيمته في نظر القانون، فأصبح لا يترتب على الإخلال به أي جزاء، ولكنه لم يصل في انخفاضه إلى درجة الواجب الأخلاقي الذي لا يعتد به القانون إطلاقاً. (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/  الثالث ، الصفحة/   337)

ولأن الأثر الأصلي للالتزام هو وجوب الوفاء به ، فقد اعتبر المشرع حصول الوفاء هو الطريق الطبيعي لانقضاء الالتزام. 

فإذا قام المدين بالوفاء طوعاً واختياراً، انقضى بهذا الوفاء التزامه وانتهى الأمر، والا بقى الالتزام قائماً وأثره نافذاً والوفاء به واجباً، وتعين لتعزيز الالتزام وتحقيق أثره والوصول إلى الوفاء به أن يضع القانون السلطة العامة في خدمة الدائن لإجبار المدين على تنفيذ التزامه، وهذا هو الأثر الاحتياطي للالتزام، أي أثره الذي لا يظهر ولا يحتاج إليه إلا عند عدم قيام المدين بالوفاء الاختیاری.

ومن أجل هذا صدر المشرع المصري في التقنين المدني الحالي الباب الخاص بآثار الالتزام بالنص في المادة 199 فقرة أولى على أن « ينفذ الالتزام جبراً على المدين ».

وظاهر من مفهوم العبارة أن هذا النص يقرر إمكان إكراه المدين بالقوة الجبرية على تنفيذ التزامه ، وهذا هو الأثر الاحتياطي للالتزام . ولكن النص يفيد في الوقت ذاته من طريق الإشارة أو التلازم وجوب الوفاء بالالتزام ، الأن الجبر لا يجوز إلا فيما يكون واجباً أصلاً.

ويبين من ذلك أن للالتزام أثرين هامين أحدهما أصلي وهو وجوبه الوفاء به قانوناً، والآخر احتياطي وهو إمكان إكراه المدين على الوفاء بالالتزام عند عدم قيامه به من تلقاء نفسه.

على أن هذا الأثر الاحتياطى يبلغ من الأهمية الحد الذي يجعل منه العلامة المميزة لكل التزام كامل، بحيث اذا تخلف هذا الأثر ، كان الالتزام ناقصاً بالرغم من ثبوت أثره الأصلي وهو وجوب الوفاء به ووصف في هذه الحالة الأخيرة بأنه التزام طبیعی ، وإلى هذا تشير المادة 199 مدني إذ تنص على أن « ينفذ الالتزام جبراً على المدين، ومع ذلك إذا كان الالتزام طبيعياً ، فلا جبر في تنفيذه .

فجميع الالتزامات القانونية يكون الوفاء بها واجباً وجوباً قانونياً والأصل فيها أن يجوز جبر الدين على تنفيذها، والاستثناء أن لا يجوز ذلك والالتزامات التي يجري عليها حكم القاعدة العامة يكون لها أثران : وجوب الوفاء وإمكان التنفيذ الجبوري، وتعتبر التزامات كاملة وتسمى التزامات مدنية أما الالتزامات القانونية التي لا يسري عليه ذلك، فيقتصر أثرها على استحقاق الوفاء بها ولا يجوز إكراه المدين على تنفيذها، فهي لذلك التزامات ناقصة وتسمى التزامات طبيعية .

الالتزام الطبيعي هو حالة يكون فيها الشخص مديناً قانوناً بنقل حق عيني أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل بحيث يجب عليه الوفاء بهذا الدين دون أن يمكن إكراهه عليه إذا لم يوف به طائعاً مختاراً .

وهو يتميز عن الالتزام الأدبي بأن القانون يرتب عليه أثراً من حيث أنه يجعل تنفيذه واجباً على المدين قانوناً، ويرتب على تنفيذه الآثار القانونية التي تترتب على الوفاء بأي التزام قانوني، في حين أن القيام بواجب أدبي بحت لا يعتبر في نظر القانون وفاء بل تبرعاً.

ويشترك الالتزام الطبيعي مع الالتزام المدني في أن القانون يوجب الوفاء بكل منهما، ويختلف عنه في أنه لا يجوز الاجبار على تنفيذه.

فهو التزام ناقص، أو هو وسط بين الالتزام الأدبي والالتزام المدني، يزيد عن الأول في وجوب الوفاء به قانوناً وينقص عن الثاني في إمكان جبر المدين على تنفيذه . ولذلك فهو من جهة يختلف في حكمه عن الواجب الأدبي البحت، ومن جهة أخرى لا تسري عليه أحكام الالتزام القانوني الكامل أى الالتزام المدني، فتعين أن يضع له المشرع نصوصاً تنظمه وتبين حالاته وما يترتب عليه من أثر وما لا يترتب .

تقدم أن الالتزام الطبيعي هو التزام قانوني ولكن ليس له من القوة ما يثبت لسائر الالتزامات القانونية، فهو وسط بين الواجب الأدبي الذي لا يعترف به القانون وبين الالتزام الذي يرتب عليه القانون آثاراً كاملة أي الالتزام المدني، ولذلك يسميه البعض التزاماً قانونياً ناقصاً، ويبدو وجوده في دائرة القانون شذوذاً. ولكنه شذوذ تمتد جذوره في التاريخ إلى عهد القانون الروماني، ومزيته أنه يصلح منفذاً تعبر منه الواجبات الأدبية من دائرة الأخلاق إلى دائرة القانون .

فإذا بلغ الواجب الأدبي درجة من القوة تجعل المجتمع يشعر بضرورة احترامه قانوناً، قبل أن يتدخل المشرع لرفعه إلى مرتبة الالتزام القانوني الكامل أو قبل أن يعتبره القضاء كذلك، أمكن اعتباره التراماً طبيعياً ثم إذا زاد الشعور بأهميته وبضرورة وضع جزاء قانوني له، تعين رفعه إلى مرتبة الالتزام المدني .

اذا لم يقم المدين بتنفيذ التزامه طوعاً واختياراً، جاز للدائن أن يلجأ إلى الطرق التي قررها القانون لتنفيذ الالتزام جبراً على المدين (المادة 199 فقرة أولى) .

فيجوز للدائن أن يطلب جبر المدين على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً ما دام ذلك ممكناً ( المادة 302 فقرة أولى ) . ويعتبر ذلك حقاً للدائن يتعين على المحكمة أن تجيبه إليه إلا في حالتين :

الأولى هي الحالة التي يوجد فيها المدين في ظروف استثنائية تستدعى إمهاله في تنفيذ التزامه إذا لم يكن في إمهاله ضرر جسيم للدائن، إذ تنص المادة 346 فقرة ثانية على أنه يجوز للقاضى حينئذ إذا لم يمنعه نص في القانون أن ينظر المدين إلى أجل معقول أو آجال ينفذ فيها التزامه، وسيجيء شرح ذلك عند الكلام في الوفاء (نبذة 323 وما بعدها )

والثانية هي حالة ما إذا رأت المحكمة في التنفيذ العيني ارهاقاً للمدين، فيجوز لها بناء على طلب المدين أن تقتصر على الزام الأخير بدفع تعويض نقدي إذا كان ذلك لا يلحق بالدائن ضرراً جسيماً ( المادة 203 فقرة ثانية).(الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ السادس الصفحة/ 2)

الفقة الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  السادس  ، الصفحة /  157

آثار الالْتزام:

آثار الالْتزام هي: ما تترتّب عليْه، وهي الْمقْصد الأْصْليّ للالْتزام. وتخْتلف آثار الالْتزام تبعًا لاخْتلاف التّصرّفات الْملْزمة واخْتلاف الْملْتزم به، ومنْ ذلك:

(1ثبوت الْملْك:

29 - يثْبت ملْك الْعيْن أو الْمنْفعة أو الانْتفاع أو الْعوض وانْتقاله للْملْتزم له في التّصرّفات الّتي تقْتضي ذلك متى اسْتوْفتْ أرْكانها وشرائطها، مثْل الْبيْع والإْجارة والصّلْح والْقسْمة، ومع ملاحظة الْقبْض فيما يشْترط فيه الْقبْض عنْد منْ يقول به . وهذا باتّفاقٍ.

حقّ الْحبْس:

30 - يعْتبر الْحبْس منْ آثار الالْتزام. فالْبائع له حقّ حبْس الْمبيع، حتّى يسْتوْفي الثّمن الّذي الْتزم به الْمشْتري،  إلاّ أنْ يكون الثّمن مؤجّلاً.

والْمؤجّر له حقّ حبْس الْمنافع إلى أنْ يسْتلم الأْجْرة الْمعجّلة. وللصّانع حقّ حبْس الْعيْن بعْد الْفراغ من الْعمل إذا كان لعمله أثرٌ في الْعيْن، كالْقصّار والصّبّاغ والنّجّار والْحدّاد.  

والْمرْتهن له حقّ حبْس الْمرْهون حتّى يؤدّي الرّاهن ما عليْه. يقول ابْن رشْدٍ: حقّ الْمرْتهن في الرّهْن أنْ يمْسكه حتّى يؤدّي الرّاهن ما عليْه، والرّهْن عنْد الْجمْهور يتعلّق بجمْلة الْحقّ الْمرْهون فيه وببعْضه، أعْني أنّه إذا رهنه في عددٍ ما، فأدّى منْه بعْضه، فإنّ الرّهْن بأسْره يبْقى بعْد بيد الْمرْتهن حتّى يسْتوْفي حقّه. وقال قوْمٌ: بلْ يبْقى من الرّهْن بيد الْمرْتهن بقدْر ما يبْقى من الْحقّ، وحجّة الْجمْهور أنّه محْبوسٌ بحقٍّ، فوجب أنْ يكون محْبوسًا بكلّ جزْءٍ منْه، أصْله (أي الْمقيس عليْه) حبْس التّركة على الْورثة حتّى يؤدّوا الدّيْن الّذي على الْميّت. وحجّة الْفريق الثّاني أنّ جميعه محْبوسٌ بجميعه، فوجب أنْ يكون أبْعاضه محْبوسةً بأبْعاضه، أصْله الْكفالة .

ومنْ ذلك حبْس الْمدين بما عليْه من الدّيْن، إذا كان قادرًا على أداء ديْنه وماطل في الأْداء، وطلب صاحب الدّيْن حبْسه من الْقاضي، وللْغريم كذلك منْعه من السّفر، لأنّ له حقّ الْمطالبة بحبْسه.  

التّسْليم والرّدّ:

31 - يعْتبر التّسْليم منْ آثار الالْتزام فيما يلْتزم الإْنْسان بتسْليمه.

فالْبائع ملْتزمٌ بتسْليم الْمبيع للْمشْتري، والْمؤجّر ملْتزمٌ بتسْليم الْعيْن وما يتْبعها للْمسْتأْجر بحيْث تكون مهيّأةً للانْتفاع بها، والْمشْتري والْمسْتأْجر ملْتزمان بتسْليم الْعوض، وأجير الْوحْد (الأْجير الْخاصّ) ملْتزمٌ بتسْليم نفْسه، والْكفيل ملْتزمٌ بتسْليم ما الْتزم به، والزّوْج ملْتزمٌ بتسْليم الصّداق، والزّوْجة ملْتزمةٌ بتسْليم الْبضْع، والْواهب ملْتزمٌ بتسْليم الْموْهوب عنْد منْ يرى وجوب الْهبة، وربّ الْمال في السّلم والْمضاربة مطالبٌ بتسْليم رأْس الْمال.

وهكذا كلّ من الْتزم بتسْليم شيْءٍ وجب عليْه الْقيام بالتّسْليم.

ومثْل ذلك ردّ الأْمانات والْمضْمونات، سواءٌ أكان الرّدّ واجبًا ابْتداءً أمْ بعْد الطّلب، وذلك كالْمودع والْمسْتعار والْمسْتأْجر والْقرْض والْمغْصوب والْمسْروق واللّقطة إذا جاء صاحبها، وما عنْد الْوكيل والشّريك والْمضارب إذا فسخ الْمالك وهكذا.

مع اعْتبار أنّ التّسْليم في كلّ شيْءٍ بحسبه، قدْ يكون بالإْقْباض، وقدْ يكون بالتّخْلية والتّمْكين من الْملْتزم به.  

(4ثبوت حقّ التّصرّف:

يثْبت للْملْتزم له حقّ التّصرّف في الْملْتزم به بامْتلاكه، لكنْ يخْتلف نوْع التّصرّف باخْتلاف نوْع الْملْكيّة في الْملْتزم به، وذلك كما يأْتي:

32 - أ - إذا كان الْملْتزم به تمْليكًا للْعيْن أوْ للدّيْن، فإنّه يثْبت للْمالك حقّ التّصرّف فيه بكلّ أنْواع التّصرّف منْ بيْعٍ وهبةٍ ووصيّةٍ وعتْقٍ وأكْلٍ ونحْو ذلك، لأنّه أصْبح ملْكه، فله ولاية التّصرّف فيه.

وهذا إذا كان بعْد الْقبْض بلا خلافٍ، أمّا قبْل الْقبْض فإنّ الْفقهاء يخْتلفون فيما يجوز التّصرّف فيه قبْل الْقبْض وما لا يجوز.

وبالْجمْلة فإنّه لا يصحّ عنْد الْحنفيّة والشّافعيّة، وفي روايةٍ عن الإْمام أحْمد التّصرّف في الأْعْيان الْممْلوكة في عقود الْمعاوضات قبْل قبْضها، إلاّ الْعقار فيجوز بيْعه قبْل قبْضه عنْد أبي حنيفة وأبي يوسف خلافًا لمحمّدٍ. ودليل منْع التّصرّف قبْل الْقبْض قوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحكيم بْن حزامٍ: « لا تبعْ ما لمْ تقْبضْه »  ولأنّ فيه غرر انْفساخ الْعقْد على اعْتبار الْهلاك.

وعنْد الْمالكيّة، والْمذْهب عنْد الْحنابلة: أنّه يجوز التّصرّف قبْل الْقبْض إلاّ في الطّعام، فلا يجوز التّصرّف فيه قبْل قبْضه، لقوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم: « من ابْتاع طعامًا فلا يبعْه حتّى يسْتوْفيه»

وأمّا الدّيون:

فعنْد الْحنفيّة يجوز التّصرّف فيها قبْل الْقبْض إلاّ في الصّرْف والسّلم:

أمّا الصّرْف فلأنّ كلّ واحدٍ منْ بدلي الصّرْف مبيعٌ منْ وجْهٍ وثمنٌ منْ وجْهٍ. فمنْ حيْث هو ثمنٌ يجوز التّصرّف فيه قبْل الْقبْض، ومنْ حيْث هو مبيعٌ لا يجوز، فغلب جانب الْحرْمة احْتياطًا.

وأمّا السّلم فلأنّ الْمسْلم فيه مبيعٌ بالنّصّ، والاسْتبْدال بالْمبيع الْمنْقول قبْل الْقبْض لا يجوز. وكذلك يجوز تصرّف الْمقْرض في الْقرْض قبْل الْقبْض عنْدهمْ، وذكر الطّحاويّ: أنّه لا يجوز.

وعنْد الْمالكيّة يجوز التّصرّف في الدّيون قبْل الْقبْض فيما سوى الصّرْف والسّلم، فإنّ الإْمام مالكًا منع بيْع الْمسْلم فيه قبْل قبْضه في موْضعيْن:

أحدهما: إذا كان الْمسْلم فيه طعامًا، وذلك بناءً على مذْهبه في أنّ الّذي يشْترط في صحّة بيْعه الْقبْض هو الطّعام، على ما جاء عليْه النّصّ في الْحديث.

والثّاني: إذا لمْ يكن الْمسْلم فيه طعامًا فأخذ عوضه الْمسْلم (صاحب الثّمن) ما لا يجوز أنْ يسْلم فيه رأْس ماله، مثْل أنْ يكون الْمسْلم فيه عرضًا والثّمن عرضًا مخالفًا له، فيأْخذ الْمسْلم من الْمسْلم إليْه إذا حان الأْجل شيْئًا منْ جنْس ذلك الْعرض الّذي هو الثّمن، وذلك أنّ هذا يدْخله إمّا سلفٌ وزيادةٌ، إنْ كان الْعرض الْمأْخوذ أكْثر منْ رأْس مال السّلم، وإمّا ضمانٌ وسلفٌ إنْ كان مثْله أوْ أقلّ .

وعنْد الشّافعيّة إنْ كان الْملْك على الدّيون مسْتقرًّا، كغرامة الْمتْلف وبدل الْقرْض جاز بيْعه ممّنْ عليْه قبْل الْقبْض، لأنّ ملْكه مسْتقرٌّ عليْه، وهو الأْظْهر في بيْعه منْ غيْره. وإنْ كان الدّيْن غيْر مسْتقرٍّ فإنْ كان مسْلمًا فيه لمْ يجزْ، وإنْ كان ثمنًا في بيْعٍ ففيه قوْلان.

وعنْد الْحنابلة: كلّ عوضٍ ملك بعقْدٍ ينْفسخ بهلاكه قبْل الْقبْض لمْ يجز التّصرّف فيه قبْل قبْضه، كالأْجْرة وبدل الصّلْح إذا كانا من الْمكيل أو الْموْزون أو الْمعْدود، وما لا ينْفسخ الْعقْد بهلاكه جاز التّصرّف فيه قبْل قبْضه، كعوض الْخلْع وأرْش الْجناية وقيمة الْمتْلف.

أمّا ما يثْبت فيه الْملْك منْ غيْر عوضٍ، كالْوصيّة والْهبة والصّدقة، فإنّه يجوز في الْجمْلة التّصرّف فيه قبْل قبْضه عنْد الْجمْهور.  

33 - ب - وإذا كان الْملْتزم به تمْليكًا للْمنْفعة، فإنّه يثْبت لمالك الْمنْفعة حقّ التّصرّف في الْحدود الْمأْذون فيها، وتمْليك الْمنْفعة لغيْره كما في الإْجارة والْوصيّة بالْمنْفعة والإْعارة وهذا عنْد الْمالكيّة وفي الإْجارة عنْد جميع الْمذاهب، وفي غيْرها اخْتلافهمْ، والْقاعدة عنْد الْحنفيّة: أنّ الْمنافع الّتي تمْلك ببدلٍ يجوز تمْليكها ببدلٍ كالإْجارة، والّتي تمْلك بغيْر عوضٍ لا  يجوز تمْليكها بعوضٍ. فالْمسْتعير يمْلك الإْعارة ولا يمْلك الإْجارة .

34 - ج - وإذا كان الْملْتزم به حقّ الانْتفاع فقطْ، فإنّ حقّ التّصرّف يقْتصر على انْتفاع الْملْتزم له بنفْسه فقطْ، كما في الْعاريّة عنْد الشّافعيّة، وفي وجْهٍ عنْد الْحنابلة، وكالإْباحة للطّعام في الضّيافات .

35 - د - وإذا كان الْملْتزم به إذْنًا في التّصرّف، فإنّه يثْبت للْمأْذون له حقّ التّصرّف الْمطْلق إذا كان الإْذْن مطْلقًا، وإلاّ اقْتصر التّصرّف على ما أذن به، وذلك كما في الْوكالة والْمضاربة.  

وفي كلّ ذلك تفْصيلٌ ينْظر في مواضعه.

منْع حقّ التّصرّف:

36 - قدْ ينْشأ منْ بعْض الالْتزامات منْع حقّ التّصرّف، ومنْ أمْثلة ذلك:

الرّهْن، فلا يصحّ تصرّف الرّاهن في الْمرْهون ببيْعٍ أوْ غيْره، لأنّ الْمرْتهن أخذ الْعيْن بحقّه في الرّهْن، وهو التّوثّق باسْتيفاء ديْنه وقبض الْمرْهون. فالْمرْتهن بالنّسْبة إلى الرّهْن كغرماء الْمفْلس الْمحْجور عليْه.  

(6صيانة الأْنْفس والأْمْوال:

37 - الأْصْل أنّ الْمسْلم ملْتزمٌ بحكْم إسْلامه بالْمحافظة على دماء الْمسْلمين وأمْوالهمْ وأعْراضهمْ لقوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خطْبته يوْم النّحْر: « إنّ دماءكمْ وأمْوالكمْ حرامٌ كحرْمة يوْمكمْ هذا، في شهْركمْ هذا، في بلدكمْ هذا » .

أمّا بالنّسْبة لغيْر الْمسْلمين، فإنّ ممّا يصون دماءهمْ وأمْوالهم - الْتزام الْمسْلمين بذلك بسبب الْعقود الّتي تتمّ معهمْ، كعقْد الأْمان الْمؤقّت أو الدّائم. إذْ ثمرة الأْمان حرْمة قتْلهمْ واسْترْقاقهمْ وأخْذ أمْوالهمْ، ما داموا ملْتزمين بموجب عقْد الأْمان أوْ عقْد الذّمّة .

ومنْ صيانة الأْمْوال: الالْتزام بحفْظ الْوديعة بجعْلها في مكانٍ أمينٍ. وقدْ يجب الالْتزام بذلك حرْصًا على الأْمْوال، ولذلك يقول الْفقهاء: إنْ لمْ يكنْ منْ يصْلح لأخْذ الْوديعة غيْره وخاف إنْ لمْ يقْبلْ أنْ تهْلك - تعيّن عليْه قبولها، لأنّ حرْمة الْمال كحرْمة النّفْس، لما روى ابْن مسْعودٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « حرْمة مال الْمؤْمن كحرْمة دمه » . ولوْ خاف على دمه لوجب عليْه حفْظه، فكذلك إذا خاف على ماله .

ومنْ ذلك أخْذ اللّقطة واللّقيط، إذْ يجب الأْخْذ إذا خيف الضّياع، لأنّ حفْظ مال الْغيْر واجبٌ، قال ابْن رشْدٍ: يلْزم أنْ يؤْخذ اللّقيط ولا يتْرك، لأنّه إنْ ترك ضاع وهلك، لا خلاف بيْن أهْل الْعلْم في هذا، وإنّما اخْتلفوا في لقطة الْمال، وهذا الاخْتلاف إنّما هو إذا كانتْ بيْن قوْمٍ مأْمونين والإْمام عدْلٌ. أمّا إذا كانتْ بيْن قوْمٍ غيْر مأْمونين فأخْذها واجبٌ قوْلاً واحدًا .

ومنْ ذلك الالْتزام بالْولاية الشّرْعيّة لحفْظ مال الصّغير والْيتيم والسّفيه .

وينْظر تفْصيل ذلك في مواضعه.

(7الضّمان:

38 - الضّمان أثرٌ منْ آثار الالْتزام، وهو يكون بإتْلاف مال الْغيْر أو الاعْتداء عليْه بالْغصْب أو السّرقة أوْ بالتّعدّي في الاسْتعْمال الْمأْذون فيه في الْمسْتعار والْمسْتأْجر أوْ بالتّفْريط وترْك الْحفْظ كما في الْوديعة.

يقول الْكاسانيّ: تتغيّر صفة الْمسْتأْجر من الأْمانة إلى الضّمان بأشْياء منْها: ترْك الْحفْظ، لأنّ الأْجير لمّا قبض الْمسْتأْجر فقدْ الْتزم حفْظه، وترْك الْحفْظ الْملْتزم سببٌ لوجوب الضّمان، كالْمودع إذا ترك الْحفْظ حتّى ضاعت الْوديعة.

وكذلك يضْمن بالإْتْلاف والإْفْساد إذا كان الأْجير متعدّيًا فيه، إذ الاسْتعْمال الْمأْذون فيه مقيّدٌ بشرْط السّلامة .

ويقول السّيوطيّ: أسْباب الضّمان أرْبعةٌ:

الأْوّل: الْعقْد، ومنْ أمْثلته ضمان الْمبيع، والثّمن الْمعيّن قبْل الْقبْض، والْمسْلم فيه، والْمأْجور.

والثّاني: الْيد، مؤْتمنةً كانتْ كالْوديعة والشّركة والْوكالة والْمقارضة إذا حصل التّعدّي، أوْ غيْر مؤْتمنةٍ كالْغصْب والسّوْم والْعاريّة والشّراء فاسدًا.

والثّالث: الإْتْلاف للنّفْس أو الْمال.

والرّابع: الْحيْلولة .

ويقول ابْن رشْدٍ: الْموجب للضّمان إمّا الْمباشرة لأخْذ الْمال الْمغْصوب أوْ لإتْلافه، وإمّا الْمباشرة للسّبب الْمتْلف، وإمّا إثْبات الْيد عليْه .

وفي الْقواعد لابْن رجبٍ: أسْباب الضّمان ثلاثةٌ: عقْدٌ، ويدٌ، وإتْلافٌ . وفي كلّ ذلك خلافٌ وتفْصيلاتٌ وتفْريعاتٌ تنْظر في مواضعها.

حكْم الْوفاء بالالْتزام وما يتعلّق به:

39 - الأْصْل في الالْتزام أنّه يجب الْوفاء به امْتثالاً لقوله تعالى (يا أيّها الّذين آمنوا أوْفوا بالْعقود)

والْمراد بالْعقود كما يقول الْفقهاء: ما عقده الْمرْء على نفْسه منْ بيْعٍ وشراءٍ وإجارةٍ وكراءٍ ومناكحةٍ وطلاقٍ ومزارعةٍ ومصالحةٍ وتمْليكٍ وتخْييرٍ وعتْقٍ وتدْبيرٍ، وكذلك الْعهود والذّمم الّتي نعْقدها لأهْل الْحرْب وأهْل الذّمّة والْخوارج، وما عقده الإْنْسان على نفْسه للّه تعالى من الطّاعات كالْحجّ والصّيام والاعْتكاف والنّذْر والْيمين وما أشْبه ذلك، فيلْزم الْوفاء بها.

وقوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم « الْمسْلمون على شروطهمْ »  عامٌّ في إيجاب الْوفاء بجميع ما يشْرطه الإْنْسان على نفْسه، ما لمْ تقمْ دلالةٌ تخصّصه  .

لكنّ هذا الْحكْم ليْس عامًّا في كلّ الالْتزامات، وذلك لتنوّع الالْتزامات بحسب اللّزوم وعدمه، وبيان ذلك فيما يأْتي:

(1الالْتزامات الّتي يجب الْوفاء بها:

40 - أ - الالْتزامات الّتي تنْشأ بسبب الْعقود اللاّزمة بيْن الطّرفيْن، كالْبيْع والإْجارة والصّلْح وعقود الذّمّة، فهذه الالْتزامات متى تمّتْ صحيحةً لازمةً وجب الْوفاء بها ما لمْ يحْدثْ ما يقْتضي الْفسْخ، كالْهلاك والاسْتحْقاق والرّدّ بالْعيْب، وهذا شاملٌ للأْعْيان الْواجب تسْليمها، وللدّيون الّتي تكون في الذّمم كبدل الْقرْض وثمن الْمبيع والأْجْرة في الإْجارة أو الّتي تنْشأ نتيجة إنْفاذ مال الْغيْر على خلافٍ وتفْصيلٍ.

ب - الالْتزامات الّتي تنْشأ نتيجة التّعدّي بالْغصْب أو السّرقة أو الإْتْلاف أو التّفْريط.

ج - الأْمانات الّتي تكون عنْد الْملْتزم، سواءٌ أكانتْ بموجب عقْدٍ كالْوديعة، أمْ لمْ تكنْ كاللّقطة وكمنْ أطارت الرّيح ثوْبًا إلى داره.

د - نذْر الْقربات، وهو ما يلْتزم به الإْنْسان منْ قرباتٍ بدنيّةٍ أوْ ماليّةٍ طاعةً وتقرّبًا إلى اللّه سبْحانه وتعالى.

هـ - الالْتزامات التّكْليفيّة الشّرْعيّة، ومنْها النّفقات الْواجبة.

فهذه الالْتزامات لا خلاف في وجوب الْوفاء بها، منْجزةً إنْ كانتْ كذلك، وبعْد تحقّق الشّرْط الْمشْروع إنْ كانتْ معلّقةً، وعنْد دخول الْوقْت إنْ كانتْ مضافةً، وسواءٌ أكان الْوفاء لا يجب إلاّ بعْد الطّلب أمْ يجب بدونه.

ويتحقّق الْوفاء بالأْداء والتّسْليم أو الْقيام بالْعمل أو الإْبْراء أو الْمقاصّة وهكذا. ودليل الْوجوب الآْية السّابقة، وكذلك قوله تعالى وأوْفوا بعهْد اللّه إذا عاهدْتمْقوله تعالى ولْيوفوا نذورهم وقوله تعالى فلْيؤدّ الّذي اؤْتمن أمانته.

والتّخلّف عن الْوفاء بغيْر عذْرٍ يسْتوْجب الْعقوبة

الدّنْيويّة والأْخْرويّة، إذ الْعقوبة واجبةٌ لقوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم« ليّ الْواجد يحلّ عرْضه وعقوبته »  فعقوبته حبْسه، وعرْضه أنْ يحلّ الْقوْل في عرْضه بالإْغْلاظ. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: « مطْل الْغنيّ ظلْمٌ » .

ولذلك يجْبر الْممْتنع عن الْوفاء بالضّرْب أو الْحبْس أو الْحجْر ومنْع التّصرّف في الْمال، أوْ بيْع مال الْملْتزم والْوفاء منْه. إلاّ إذا كان الْملْتزم معْسرًا فيجب إنْظاره لقوله تعالى (وإنْ كان ذو عسْرةٍ فنظرةٌ إلى ميْسرةٍ)  .

41 - وما سبق إنّما هو في الْجمْلة، إذْ للْفقهاء في ذلك تفْصيلاتٌ وتفْريعاتٌ، ومنْ ذلك مثلاً:

اخْتلافهمْ في الإْجْبار على الْوفاء بالنّذْر الْمشْروع عنْد الامْتناع، فعنْد الْمالكيّة يقْضى بالنّذْر الْمطْلق إذا كان لمعيّنٍ، وإنْ كان لغيْر معيّنٍ يؤْمر بالْوفاء ولا يقْضى به على الْمشْهور، وقيل يقْضى به، وفيه الْخلاف أيْضًا عنْد الشّافعيّة. ومنْ ذلك أنّ أبا حنيفة لا يجيز الْحجْر في الدّيْن، لأنّ في الْحجْر إهْدار آدميّة الْمدين، بلْ لا يجيز للْحاكم التّصرّف في ماله، وإنّما يجْبره على بيْعه لوفاء ديْنه . وهكذا.

وينْظر تفْصيل ذلك في مواضعه.

2 - الْتزاماتٌ يسْتحبّ الْوفاء بها ولا يجب:

42 - أ - الالْتزامات الّتي تنْشأ منْ عقود التّبرّعات كالْقرْض والْهبة والْعاريّة والْوصيّة.

ب - الالْتزام النّاشئ بالْوعْد، فهذه الالْتزامات يسْتحبّ الْوفاء بها، لأنّها من الْمعْروف الّذي ندب إليْه الشّارع، يقول اللّه تعالى: (وتعاونوا على الْبرّ والتّقْوى) ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « منْ نفّس عنْ مسْلمٍ كرْبةٍ منْ كرب الدّنْيا نفّس اللّه عنْه كرْبةً منْ كرب يوْم الْقيامة »  ويقول: « تهادوا تحابّوا » .

لكنْ لا يجب الْوفاء بها، ففي الْوصيّة يجوز بالاتّفاق الرّجوع فيها ما دام الْموصي حيًّا.

وفي الْعاريّة والْقرْض يجوز الرّجوع بطلب الْمسْتعار وبدل الْقرْض في الْحال بعْد الْقبْض، وهذا عنْد غيْر الْمالكيّة، بلْ قال الْجمْهور: إنّ الْمقْرض إذا أجّل الْقرْض لا يلْزمه التّأْجيل، لأنّه لوْ لزم فيه الأْجل لمْ يبْق تبرّعًا.

أمّا الْمالكيّة فإنّ الْعاريّة والْقرْض إذا كانا مؤجّليْن فذلك لازمٌ إلى أنْ ينْقضي الأْجل، وإنْ كانا مطْلقيْن لزم الْبقاء فتْرةً ينْتفع بمثْله فيها، واسْتندوا إلى ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه « ذكر رجلاً سأل بعْض بني إسْرائيل أنْ يسْلفه ألْف دينارٍ فدفعها إليْه إلى أجلٍ مسمًّى » . وقال ابْن عمر وعطاءٌ: إذا أجّله في الْقرْض جاز.

ويجوز الرّجوع في الْهبة قبْل الْقبْض عنْد الْجمْهور، فإذا تمّ الْقبْض فلا رجوع عنْد الشّافعيّة والْحنابلة إلاّ فيما وهب الْوالد لولده، وعنْد الْحنفيّة يجوز الرّجوع إنْ كانتْ لأجْنبيٍّ.

أمّا الْمالكيّة فلا رجوع عنْدهمْ في الْهبة قبْل الْقبْض وبعْده في الْجمْلة، إلاّ فيما يهبه الْوالد لولده.  

وينْظر تفْصيل ذلك في مواضعه.

43 - والْوعْد كذلك يسْتحبّ الْوفاء به باتّفاقٍ.

يقول الْقرافيّ: منْ أدب الْعبْد مع ربّه إذا وعد ربّه بشيْءٍ لا يخْلفه إيّاه، لا سيّما إذا الْتزمه وصمّم عليْه، فأدب الْعبْد مع اللّه سبْحانه وتعالى بحسْن الْوفاء وتلقّي هذه الالْتزامات بالْقبول.

لكنّ الْوفاء به ليْس بواجبٍ في الْجمْلة، ففي الْبدائع: الْوعْد لا شيْء فيه وليْس بلازمٍ، وفي منْتهى الإْرادات: لا يلْزم الْوفاء بالْوعْد نصًّا، وفي نهاية الْمحْتاج: لوْ قال: أؤدّي الْمال أوْ أحْضر الشّخْص، فهو وعْدٌ لا يلْزم الْوفاء به، لأنّ الصّيغة غيْر مشْعرةٍ بالالْتزام.  

إلاّ أنّه إذا كانتْ هناك حاجةٌ تسْتدْعي الْوفاء بالْوعْد فإنّه يجب الْوفاء به. فقدْ نقل ابْن عابدين عنْ جامع الْفصوليْن: لوْ ذكر الْبيْع بلا شرْطٍ، ثمّ ذكر الشّرْط على وجْه الْعدة، جاز الْبيْع ولزم الْوفاء بالْوعْد، إذ الْمواعيد قدْ تكون لازمةً فيجْعل لازمًا لحاجة النّاس.

والْمشْهور عنْد الْمالكيّة أنّ الْوعْد يلْزم ويقْضى به إذا دخل الْموْعود بسبب الْوعْد في شيْءٍ، قال سحْنونٌ: الّذي يلْزم من الْوعْد إذا قال: اهْدمْ دارك وأنا أسْلفك ما تبْني به، أو اخْرجْ إلى الْحجّ أو اشْتر سلْعةً أوْ تزوّجْ وأنا أسْلفك، لأنّك أدْخلْته بوعْدك في ذلك، أمّا مجرّد الْوعْد فلا يلْزم الْوفاء به، بل الْوفاء به منْ مكارم الأْخْلاق.

وقال الْقلْيوبيّ: قوْلهم الْوعْد لا يجب الْوفاء به مشْكلٌ، لمخالفته ظاهر الآْيات والسّنّة، ولأنّ خلْفه كذبٌ، وهو منْ خصال الْمنافقين .

 

الْتزاماتٌ يجوز الْوفاء بها ولا يجب:

44 - أ - الالْتزامات الّتي تنْشأ نتيجة الْعقود الْجائزة بيْن الطّرفيْن، كالْوكالة والشّركة والْقراض، فهذه يجوز لكلٍّ من الطّرفيْن فسْخها وعدم الالْتزام بمقْتضاها، هذا مع مراعاة ما يشْترطه بعْض الْفقهاء حين الْفسْخ منْ نضوض رأْس الْمال في الْمضاربة، وكتعلّق حقّ الْغيْر بالْوكالة .

نَذْرُ الْمُبَاحِ: يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: نَذْرُ الْمُبَاحِ لاَ يَلْزَمُ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الأْمَّةِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: نَذْرُ الْمُبَاحِ، كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَطَلاَقِ الْمَرْأَةِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، فَهَذَا يَتَخَيَّرُ فِيهِ النَّاذِرُ بَيْنَ فِعْلِهِ فَيَبَرُّ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

الْتِزَامَاتٌ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهَا:

45 - الاِلْتِزَامُ بِمَا لاَ يَلْزَمُ لاَ يَجِبُ فِيهِ الْوَفَاءُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْوَفَاءُ حَرَامًا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْتِزَامًا بِمَعْصِيَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ:

أ - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ، فَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ أَقْتُلَ فُلاَنًا، فَإِنَّ هَذَا الاِلْتِزَامَ حَرَامٌ فِي ذَاتِهِ، وَأَيْضًا يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : « مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ »  وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ خِلاَفٌ (ر: نَذْر - كَفَّارَة).

ب - وَكَذَلِكَ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَمَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ حَرَامٍ، فَقَدْ عَصَى بِيَمِينِهِ. وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ وَالْكَفَّارَةُ . (ر: كَفَّارَة - أَيْمَان).

ج - الاِلْتِزَامُ الْمُعَلَّقُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ عَلَى الْمُلْتَزَمِ لَهُ، كَقَوْلِهِ: إِنْ قَتَلْتُ فُلاَنًا أَوْ شَرِبْتُ الْخَمْرَ فَلَكَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ حَرَامٌ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ .

د - مَا كَانَ الاِلْتِزَامُ فِيهِ بِإِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ أَوْ حَقِّ غَيْرِ الْمُلْتَزَمِ، فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ حَقِّ اللَّهِ كَدَعْوَى حَدٍّ، وَلاَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا وَجَحَدَ الرَّجُلُ، فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ،  لأِنَّ  النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ .

وَلَوْ بَاعَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ مُؤَجَّلاً لَمْ يَصِحَّ،  لأِنَّ  الْقَبْضَ فِي الصَّرْفِ لِحَقِّ اللَّهِ.

هـ - الشُّرُوطُ الْبَاطِلَةُ لاَ يَجُوزُ الاِلْتِزَامُ بِهَا وَمِنْ ذَلِكَ

46 - مَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَتَحَمَّلَ بِالْوَلَدِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً وَشَرَطَ عَلَيْهَا أَلاَّ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ (مُدَّةَ الرَّضَاعِ) أَيْ أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهَا تَرْكَ النِّكَاحِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَلاَ اخْتِلاَفَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَلْزَمُهَا الْوَفَاءُ بِهِ،  لأِنَّ  هَذَا الشَّرْطَ فِيهِ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ . وَالْخُلْعُ صَحِيحٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَقُولُهُ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ بَاعَ حَائِطَهُ (حَدِيقَتَهُ) وَشَرَطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الْجَائِحَةَ لاَ تُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلاَ يَلْتَزِمُ بِهِ الْمُشْتَرِي .

وَفِي الْبَدَائِعِ لِلْكَاسَانِيِّ: لَوْ وَهَبَ دَارًا عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا لِفُلاَنٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ جَازَتِ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ. وَهِيَ شُرُوطٌ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَتَبْطُلُ وَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ .

وَفِي الْمُهَذَّبِ: لَوْ شَرَطَ فِي الْقَرْضِ شَرْطًا فَاسِدًا بَطَلَ الشَّرْطُ، وَفِي الْقَرْضِ وَجْهَانِ . وَالأْمْثِلَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ. (ر: بَيْع - اشْتِرَاط).

وَفِي حَالَةِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ يُسْتَثْنَى حَالَةُ الضَّرُورَةِ أَوِ الْحَاجَةِ. جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الإْكْلِيلِ: يَجُوزُ لِلإْمَامِ مُهَادَنَةُ الْحَرْبِيِّينَ لِمَصْلَحَةٍ، إِنْ خَلَتِ الْمُهَادَنَةُ عَنْ شَرْطٍ فَاسِدٍ، كَأَنْ كَانَتْ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ لَهُمْ فَلاَ يَجُوزُ، لقوله تعالي : (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأْعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)  إِلاَّ لِضَرُورَةِ التَّخَلُّصِ مِنْهُمْ خَوْفَ اسْتِيلاَئِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ دَفْعُ الْمَالِ لَهُمْ، وَقَدْ شَاوَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم  أَصْحَابَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الإْعْطَاءُ جَائِزًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَا شَاوَرَ فِيهِ .

وَفِي الأْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: مَا حَرُمَ أَخْذُهُ حَرُمَ إِعْطَاؤُهُ، كَالرِّبَا وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَالرِّشْوَةِ لِلْحَاكِمِ إِذَا بَذَلَهَا لِيَحْكُمَ لَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِلاَّ فِي مَسَائِلَ فِي الرِّشْوَةِ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ لِفَكِّ أَسِيرٍ أَوْ لِمَنْ يَخَافُ

 

هَجْوَهُ . وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ إِعْطَاءَ الرِّبَا لِلضَّرُورَةِ فَيَأْثَمَ الْمُقْرِضُ دُونَ الْمُقْتَرِضِ.

الأْوْصَافُ الْمُغَيِّرَةُ لآِثَارِ الاِلْتِزَامِ:

إِذَا تَمَّتِ التَّصَرُّفَاتُ الْمُلْزِمَةُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الاِلْتِزَامِ مُسْتَوْفِيَةً أَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا آثَارُهَا وَوَجَبَ تَنْفِيذُ الاِلْتِزَامِ.

لَكِنْ قَدْ يَتَّصِلُ بِالتَّصَرُّفِ بَعْضُ الأْوْصَافِ الَّتِي تُغَيِّرُ مِنْ آثَارِ الاِلْتِزَامِ، فَتُوقِفُهُ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ الْتِزَامًا آخَرَ أَوْ تُبْطِلُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلاً: الْخِيَارَاتُ:

47 - مِنَ الْخِيَارَاتِ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّصَرُّفِ، فَيَتَوَقَّفُ لُزُومُهُ وَيَتَأَخَّرُ تَنْفِيذُ الاِلْتِزَامِ إِلَى أَنْ يُبَتَّ فِيهَا، فَيَتَبَيَّنَ مَا يَنْفُذُ وَمَا لاَ يَنْفُذُ. وَالْخِيَارَاتُ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّا نَكْتَفِي بِالْخِيَارَاتِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَهِيَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَالتَّعْيِينِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ.

يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: مِنَ الْخِيَارَاتِ مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ، وَهُمَا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالتَّعْيِينِ، وَمِنْهُ مَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَمِنْهُ مَا يَمْنَعُ لُزُومَهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.

وَيَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: شَرَائِطُ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ وَنَفَاذِهِ وَصِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنْ خِيَارَاتٍ أَرْبَعَةٍ: خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالتَّعْيِينِ وَالرُّؤْيَةِ، وَالْعَيْبِ. فَلاَ يَلْزَمُ مَعَ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ، إِذْ لاَ بُدَّ لِلُّزُومِ مِنَ الرِّضَا لقوله تعالي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) .

وَفِي الْمَوْضُوعُ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَدْخُلُهَا الْخِيَارَاتُ وَالتَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَدْخُلُهَا، وَبِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الأْخْرَى، فَخِيَارُ التَّعْيِينِ مَثَلاً لاَ يَأْخُذُ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ. وَكَذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَلِغَيْرِهِمْ تَفْصِيلٌ فِيهِ .

 (ر: خِيَار)

 

ثانيًا: الشّروط:

48 - الشّرْط قدْ يكون تعْليقيًّا، وقدْ يكون تقْييديًّا: فالشّرْط التّعْليقيّ: هو ربْط وجود الشّيْء بوجود غيْره، أيْ أنّ الْملْتزم يعلّق تنْفيذ الْتزامه على وجود ما شرطه. وبذلك يكون أثر الشّرْط التّعْليقيّ في الالْتزام هو توقّف تنْفيذ الالْتزام حتّى يحْصل الشّرْط، فعنْد الْمالكيّة مثلاً إذا قال لشخْصٍ: إنْ بنيْت بيْتك، أوْ إنْ تزوّجْت فلك كذا فهو لازمٌ، إذا وقع الْمعلّق عليْه.  

وهذا طبْعًا في التّصرّفات الّتي تقْبل التّعْليق، كالإْسْقاطات والإْطْلاقات والالْتزام بالْقرب بالنّذْر. أمّا التّصرّفات الّتي لا تقْبل التّعْليق كالْبيْع والنّكاح، فإنّ التّعْليق يمْنع الانْعقاد لعدم صحّة

التّصرّفات حينئذٍ. (ر: شرْط - تعْليق).

وأمّا الشّرْط التّقْييديّ فهو ما جزم فيه بالأْصْل وشرط فيه أمْرًا آخر.

وأمّا أثره في الالْتزام، فإنْ كان صحيحًا، فما كان منْه ملائمًا للتّصرّف، كمنْ يبيع ويشْترط على الْمشْتري أنْ يعْطيه بالثّمن رهْنًا أوْ كفيلاً... أوْ كان جرى به التّعامل بيْن النّاس كمنْ يشْتري جرابًا على أنْ يخْرزه له الْبائع... فإنّه ينْشئ الْتزامًا زائدًا على الالْتزام الأْصْليّ، كما هو واضحٌ من الأْمْثلة ويجب الْوفاء به.

أمّا إنْ كان مؤكّدًا لمقْتضى التّصرّف، كاشْتراط التّسْليم في الْبيْع مثلاً، فلا أثر له في الالْتزام، إذ الشّرْط هنا تأْكيدٌ وبيانٌ لمقْتضى الالْتزام.

وإنْ كان الشّرْط فاسدًا، فإنْ كان لا يقْتضيه التّصرّف وليْس ملائمًا له ولا جرى به التّعامل بيْن النّاس وفيه منْفعةٌ لها صاحبٌ يطالب بها، كمنْ يبيع الدّار على أنْ يسْكنها الْبائع شهْرًا، أو الثّوْب على أنْ يلْبسه أسْبوعًا، فإنّ هذا الشّرْط فاسدٌ ويفْسد معه التّصرّف، وبالتّالي يفْسد الالْتزام الأْصْليّ للتّصرّف حيْث قدْ فسد مصْدره.

وهذا عنْد الْحنفيّة، وهو يجْري في عقود الْمبادلات الْماليّة فقطْ، خلافًا للتّبرّعات كالْهبة حيْث يفْسد الشّرْط ويبْقى التّصرّف في الالْتزام به كما هو، ويصْبح الشّرْط لا أثر له في الالْتزام.

وأمّا عنْد الشّافعيّة فإنّ مثْل هذا الشّرْط يفْسد، ويفْسد معه التّصرّف، ويجْرون هذا في كلّ التّصرّفات.

أمّا الْمالكيّة، فإنّ الشّرْط الّذي يفْسد التّصرّف عنْدهمْ، فهو ما كان منافيًا لمقْتضى الْعقْد، أوْ كان مخلًّا بالثّمن. وقريبٌ منْ هذا مذْهب الْحنابلة. إذْ هو عنْدهمْ: ما كان منافيًا لمقْتضى الْعقْد، أوْ كان الْعقْد يشْتمل على شرْطه.

أمّا ما كان فيه منْفعةٌ لأحدٍ، فإنّه غيْر فاسدٍ عنْدهمْ إذا كانت الْمنْفعة معْلومةً. فمنْ يبيع الدّار ويشْترط سكْناها شهْرًا مثلاً فشرْطه صحيحٌ ويجب الْوفاء به. واسْتدلّوا بحديث جابرٍ أنّه « باع النّبيّ صلى الله عليه وسلم جملاً، واشْترط ظهْره إلى الْمدينة أيْ ركوبه »، وفي لفْظٍ قال: « بعْته واسْتثْنيْت حمْلانه إلى أهْلي ».  

على أنّ الْجمْهور ومعهمْ أبو حنيفة متّفقون على أنّ منْ باع عبْدًا واشْترط أنْ يعْتقه الْمشْتري فهو شرْطٌ صحيحٌ يجب الْوفاء به، لتشوّف الشّارع للْحرّيّة، بلْ إنّ من الْفقهاء منْ قال: يجْبر الْمشْتري على ذلك.

وأمّا إنْ كان الشّرْط بغيْر ما ذكر، فإنّه يفْسد هو ويبْقى التّصرّف صحيحًا فيجب الْوفاء به .

الأْجل:

49 - الأْجل هو الْمدّة الْمتّفق عليْها الْمسْتقْبلة الْمحقّقة الْوقوع. والالْتزام قدْ يكون مؤجّلاً إذا كان الأْجل أجل توْقيتٍ، فإنّه يجْعل تنْفيذ الالْتزام مسْتمرًّا

طوال الْمدّة الْمحدّدة حتّى تنْتهي، فمنْ أجّر دارًا لمدّة شهْرٍ أصْبح منْ حقّ الْمسْتأْجر الانْتفاع بالدّار في هذه الْمدّة ولا يجوز للْملْتزم - وهو الْمؤجّر - أنْ يطالبه بتسْليم الدّار قبْل انْتهاء الأْجل الْمضْروب.  

وإذا كان أجل إضافةٍ، فإنّ تنْفيذ الالْتزام لا يبْدأ إلاّ عنْد حلول الأْجل، فالدّيْن الْمؤجّل إلى رمضان يمْنع الدّائن من الْمطالبة قبْل دخول رمضان. فإذا حلّ الأْجل وجب على الْملْتزم بالدّيْن الْوفاء، وصار منْ حقّ الدّائن الْمطالبة بديْنه .

والتّصرّفات تخْتلف بالنّسْبة للأْجل توْقيتًا أوْ إضافةً، فمنْها ما هو مؤقّتٌ أوْ مضافٌ بطبيعته، كالإْجارة والْمساقاة والْوصيّة، ومنْها ما هو منْجزٌ ولا يقْبل التّأْقيت بحالٍ كالصّرْف والنّكاح، وإذا دخلهما التّأْقيت بطلا، ويكون أثر التّأْقيت هنا بطْلان الأْجل.

وأمّا الْعقْد فيبْطل في الصّرْف إجْماعًا. وفي النّكاح عنْد الأْكْثرين .

ومنْها ما يكون الأْصْل فيه التّنْجيز كالثّمن في الْبيْع لكنْ يجوز تأْجيله إرْفاقًا فيتغيّر أثر الالْتزام من التّسْليم الْفوْريّ إلى تأْخيره إلى الأْجل الْمحدّد.

على أنّ التّصرّفات الّتي تقْبل التّأْجيل يشْترط فيها في الْجمْلة: أنْ يكون الأْجل معْلومًا، إذْ في الْجهالة غررٌ يؤدّي إلى النّزاع، وألاّ يعْتاض عن الأْجل، إذ الاعْتياض عنْه يؤدّي إلى الرّبا.

 ويكون الأْثر حينئذٍ بطْلان الشّرْط.  

وهذا في الْجمْلة كما ذكرْنا، إذْ من التّصرّفات ما يكون الأْجل فيه مجْهولاً بطبيعته، كالْجعالة والْوصيّة، ويلْحق بهما الْوكالة والْقراض والإْذْن في التّجارة إذا لمْ يحدّدْ للْعمل مدّةً. كذلك التّبرّعات عنْد الْمالكيّة تجوز إلى أجلٍ مجْهولٍ .

وفي كلّ ذلك تفْصيلاتٌ مطوّلةٌ تنْظر في مواضعها وفي (بحْث: أجل).

توْثيق الالْتزام:

50 - توْثيق الالْتزام - أيْ إحْكامه وإثْباته - أمْرٌ مشْروعٌ لاحْتياج النّاس إلى معاملة منْ لا يعْرفونه، خشْية جحْد الْحقوق أوْ ضياعها.

وقدْ شرع اللّه سبْحانه وتعالى للنّاس ما يضْمن لهمْ حقوقهمْ بتوْثيقها، وجعل لذلك طرقًا متعدّدةً وهي:

(1الْكتابة والإْشْهاد:

51 - شرع اللّه سبْحانه وتعالى الْكتابة والإْشْهاد صيانةً للْحقوق، وذلك في قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينْتمْ بديْنٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكْتبوه واسْتشْهدوا شهيديْن منْ رجالكمْ وأشْهدوا إذا تبايعْتمْ   وقدْ أوْجب الشّرْع توْثيق بعْض الالْتزامات لخطره كالنّكاح، وقريبٌ منْه طلب الشّفْعة فلا تثْبت عنْد الإْنْكار إلاّ بالْبيّنة، ومثْله الإْشْهاد عنْد دفْع مال الْيتيم إليْه عنْد الْبلوغ والرّشْد.

ومن الالْتزامات ما اخْتلف في وجوب الإْشْهاد فيه أو اسْتحْبابه، كالْبيْع والإْجارة والسّلم والْقرْض والرّجْعة . والشّهادة تعْتبر من الْبيّنات الّتي يثْبت بها الْحقّ. ولبيان ما يجب فيه الإْشْهاد وما لا يجب، وبيان شروط الشّهادة في الْحقوق منْ حيْث التّحمّل والأْداء والْعدد وصفة الشّاهد والْمشْهود به ينْظر: (إثْبات، إشْهاد - شهادة - أداء - تحمّل).

(2الرّهْن:

52 - الرّهْن شرع كذلك لتوْثيق الالْتزامات، لأنّه احْتباس الْعيْن ليسْتوْفي الْحقّ منْ ثمنها، أوْ منْ ثمن منافعها عنْد تعذّر أخْذه من الْغريم.

والأْصْل في مشْروعيّته قوْل اللّه تعالى: وإنْ كنْتمْ على سفرٍ ولمْ تجدوا كاتبًا فرهانٌ مقْبوضةٌ  . وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم« اشْترى طعامًا منْ يهوديٍّ إلى أجلٍ ورهنه درْعًا منْ حديدٍ » .

والرّهْن مشْروعٌ بطريق النّدْب لا بطريق الْوجوب، بدليل قوْل اللّه تعالى: فإنْ أمن بعْضكمْ بعْضًا فلْيؤدّ الّذي اؤْتمن أمانته   ولأنّه أمر به عنْد عدم تيسّر الْكتابة، والْكتابة غيْر واجبةٍ فكذلك بدلها .

هذا وللرّهْن شروطٌ منْ حيْث كوْنه مقْبوضًا وكوْنه بديْنٍ لازمٍ وغيْر ذلك (ر: رهْن).

(3الضّمان والْكفالة:

53 - الضّمان والْكفالة قدْ يسْتعْملان بمعْنًى واحدٍ، وقدْ يسْتعْمل الضّمان للدّيْن، والْكفالة للنّفْس. وهما مشْروعان أيْضًا ليتوثّق بهما الالْتزام. والأْصْل في ذلك قوْل اللّه تعالى في قصّة يوسف: ولمنْ جاء به حمْل بعيرٍ وأنا به زعيمٌ.  

وفي كلّ ذلك تفْصيلاتٌ واخْتلافاتٌ للْفقهاء تنْظر في موْضعها (ر: كفالة).

أمّا بالنّسْبة للتّصرّفات الّتي يدْخلها التّوْثيق والّتي لا يدْخلها، فقدْ قال السّيوطيّ: الْوثائق الْمتعلّقة بالأْعْيان ثلاثةٌ: الرّهْن والْكفالة والشّهادة، ثمّ قال: من الْعقود ما تدْخله الثّلاثة كالْبيْع والسّلم والْقرْض، ومنْها ما تدْخله الشّهادة دونهما وهو الْمساقاة - جزم به الْماورْديّ - ونجوم الْكتابة.

ومنْها ما تدْخله الشّهادة والْكفالة دون الرّهْن وهو الْجعالة.

ومنْها ما تدْخله الْكفالة دونهما وهو ضمان الدّرْك.

ثمّ قال: ليْس لنا عقْدٌ يجب فيه الإْشْهاد منْ غيْر تقْييدٍ إلاّ النّكاح قطْعًا، والرّجْعة على قوْلٍ، وعقْد الْخلافة على وجْهٍ، وممّا قيل بوجوب الإْشْهاد فيه منْ غيْر الْعقود: اللّقطة على وجْهٍ، واللّقيط على الأْصحّ لخوْف إرْقاقه .

وقدْ زاد الزّرْكشيّ أروش الْجنايات الْمسْتقرّة فيما يدْخله الثّلاثة.

وقد اعْتبر الزّرْكشيّ أنّ التّوْثيق لا ينْحصر في هذه الثّلاثة (الشّهادة والرّهْن والْكفالة) وإنّما اعْتبر منْها: الْحبْس على الْحقوق إلى الْوفاء، ومنْها حبْس الْمبيع حتّى يقْبض الثّمن، وكذلك منْع الْمرْأة تسْليم نفْسها حتّى تقْبض معجّل الْمهْر ..

انْتقال الالْتزام:

54 - يجوز انْتقال الالْتزام بالدّيْن منْ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ أخْرى، إذْ هو نوْعٌ من التّوْثيق بمنْزلة الْكفالة، وهو ما يسمّى بالْحوالة، وهي معاملةٌ صحيحةٌ مسْتثْناةٌ منْ بيْع الدّيْن بالدّيْن فجازتْ للْحاجة، لقوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مطْل الْغنيّ ظلْمٌ، وإذا أحيل أحدكمْ على

مليءٍ فلْيتْبعْ » . وللتّفْصيل ومعْرفة الْخلاف (ر: حوالة).

إِثْبَاتُ الاِلْتِزَامِ:

55 - إِثْبَاتُ الاِلْتِزَامِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِ الْمُلْتَزِمِ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ عَلَى الْمُلْتَزَمِ لَهُ (صَاحِبِ الْحَقِّ) إِثْبَاتُ حَقِّهِ، عَمَلاً بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: « الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ». وَلِلْقَاضِي - إِنْ لَمْ يُظْهِرْ صَاحِبُ الْحَقِّ بَيِّنَتَهُ - أَنْ يَسْأَلَهُ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ « جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ، إِلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأِبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَلَكَ يَمِينُه.

وَلِلإْثْبَاتِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَالإْقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَالنُّكُولِ وَالْقَسَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (ر: إِثْبَات).

انْقضاء الالْتزام:

56 - الأْصْل أنّ الالْتزام ينْقضي بوفاء الْملْتزم وتنْفيذه ما الْتزم به منْ تسْليم عيْنٍ أوْ ديْنٍ، كتسْليم الْمبيع للْمشْتري، والثّمن للْبائع، والْمأْجور للْمسْتأْجر، والأْجْرة للْمؤجّر والْموْهوب للْمتّهب وبدل الْقرْض للْمقْرض وهكذا.

وينْقضي الالْتزام أيْضًا بالْقيام بالْعمل الْملْتزم به في إجارةٍ أو اسْتصْناعٍ أوْ مساقاةٍ أوْ وكالةٍ أوْ مضاربةٍ، وبانْقضاء الْمدّة في التّصرّف الْمقيّد بالزّمن كالإْجارة الْمحدّدة.

57 - وقدْ ينْقضي الالْتزام بغيْر هذا، ومنْ أمْثلة ذلك:

(1إبْراء الدّائن للْمدين .

2 - الْفسْخ أو الْعزْل في الْعقود الْجائزة كالْوكالة والشّركة والْقراض والْوديعة، إلاّ إذا اقْتضى فسْخها ضررًا على الطّرف الآْخر.

يقول السّيوطيّ: الشّركة والْوكالة والْعاريّة والْوديعة والْقراض كلّها تنْفسخ بالْعزْل من الْمتعاقديْن أوْ أحدهما .

وفي الْمنْثور للزّرْكشيّ: الْعقود الْجائزة إذا اقْتضى فسْخها ضررًا على الطّرف الآْخر امْتنع وصارتْ لازمةً. ولهذا قال النّوويّ: للْوصيّ عزْل نفْسه إلاّ أنْ يتعيّن عليْه أوْ يغْلب على ظنّه تلف الْمال باسْتيلاء ظالمٍ.

ويجْري مثْله في الشّريك والْمقارض، وقدْ قالوا في الْعامل إذا فسخ الْقراض: عليْه التّقاضي والاسْتيفاء، لأنّ الدّيْن ملْكٌ ناقصٌ، وقدْ أخذه منْه كاملاً، فلْيردّه كما أخذه، وظاهر كلامهمْ أنّه لا ينْعزل حتّى ينضّ الْمال .

(3الرّجوع في التّبرّعات قبْل الْقبْض كالْوصيّة والْهبة، وبعْد الْقبْض في الْعاريّة والْقرْض عنْد غيْر الْمالكيّة .

(4الْمقاصّة في الدّيون .

(5انْعدام الأْهْليّة في الْعقود الْجائزة كالْجنون والْموْت .

(6الْفلس أوْ مرض الْموْت في التّبرّعات قبْل الْقبْض.  

(7عدم إمْكان التّنْفيذ، كهلاك الْمبيع قبْل الْقبْض.

يقول الْكاسانيّ: هلاك الْمبيع قبْل الْقبْض، إنْ هلك كلّه قبْل الْقبْض بآفةٍ سماويّةٍ انْفسخ الْبيْع، لأنّه لوْ بقي أوْجب مطالبة الْمشْتري بالثّمن، وإذا طالبه بالثّمن فهو يطالبه بتسْليم الْمبيع، وأنّه عاجزٌ عن التّسْليم فتمْتنع الْمطالبة أصْلاً، فلمْ يكنْ في

بقاء الْبيْع فائدةٌ فينْفسخ، وكذلك إذا هلك بفعْل الْمبيع بأنْ كان حيوانًا فقتل نفْسه، وكذا إذا هلك بفعْل الْبائع يبْطل الْبيْع ويسْقط الثّمن عن الْمشْتري عنْدنا.

وإنْ هلك بفعْل الْمشْتري لا ينْفسخ الْبيْع وعليْه الثّمن، لأنّه بالإْتْلاف صار قابضًا .

إلْزامٌ

التّعْريف:

1 - الإْلْزام مصْدر ألْزم الْمتعدّي بالْهمْزة، وهو منْ لزم، يقال: لزم يلْزم لزومًا: ثبت ودام، وألْزمْته: أثْبتّه وأدمْته، وألْزمْته الْمال والْعمل وغيْره فالْتزمه، ولزمه الْمال: وجب عليْه، وألْزمه إيّاه فالْتزمه .

ويقول الرّاغب: الإْلْزام ضرْبان: إلْزامٌ بالتّسْخير من اللّه تعالى أوْ من الإْنْسان، وإلْزامٌ بالْحكْم والأْمْر، نحْو قوله تعالى  أنلْزمكموها وأنْتمْ لها كارهون   وقوْله  وألْزمهمْ كلمة التّقْوى  .

فيكون معْنى الإْلْزام: الإْيجاب على الْغيْر.

ولا يخْرج الْفقهاء في اسْتعْمالهمْ عن الْمعْنى اللّغويّ .

الأْلْفاظ ذات الصّلة:

الإْيجاب:

2 - وجب الشّيْء يجب وجوبًا أيْ: لزم، وأوْجبه هو وأوْجبه اللّه تعالى. وفي حديث عمر رضي الله عنه أنّه أوْجب نجيبًا، أيْ أهْداه في حجٍّ أوْ عمْرةٍ كأنّه ألْزم نفْسه به، وأوْجبه إيجابًا أيْ ألْزمه.

وقدْ فرّق أبو هلالٍ الْعسْكريّ بيْن الإْيجاب والإْلْزام، فقال: الإْلْزام يكون في الْحقّ والْباطل، يقال: ألْزمْته الْحقّ والْباطل. والإْيجاب لا يسْتعْمل إلاّ فيما هو حقٌّ، فإن اسْتعْمل في غيْره فهو مجازٌ، والْمراد به الإْلْزام .

الإْجْبار والإْكْراه:

3 - الإْجْبار والإْكْراه هما الْحمْل على الشّيْء قهْرًا، والإْلْزام قدْ يكون بالْقهْر وهو ما يسمّى بالإْلْزام الْحسّيّ، وقدْ يكون بدونه .

الالْتزام:

4 - الالْتزام هو: إلْزام الشّخْص نفْسه شيْئًا من الْمعْروف.

فالالْتزام يكون من الإْنْسان على نفْسه كالنّذْر والْوعْد، والإْلْزام يكون منْه على الْغيْر كإنْشاء الإْلْزام من الْقاضي.

والالْتزام يكون واقعًا على الشّيْء، يقال: الْتزمْت الْعمل، والإْلْزام يقع على الشّخْص، يقال: ألْزمْت فلانًا الْمال .

الْحكْم الإْجْماليّ:

5 - الأْصْل امْتناع الإْلْزام من النّاس بعْضهمْ لبعْضٍ لما فيه من التّسلّط، وإنّما يكون الإْلْزام من اللّه تعالى لعباده ومخْلوقاته، إمّا بطريق التّسْخير، وإمّا بطريق الْحكْم والأْمْر .

وقدْ يقع الإْلْزام من النّاس بعْضهمْ لبعْضٍ بتسْليط اللّه تعالى، وذلك بطريق الْولاية، سواءٌ أكانتْ خاصّةً أمْ عامّةً، وحينئذٍ قدْ يكون الإْلْزام واجبًا، فإنّ الإْمام يجب عليْه إلْزام النّاس بالأْخْذ بشريعة الإْسْلام، وله سلْطة إلْزامهمْ بالْقوّة وحمْلهمْ على فعْل الْواجبات وترْك الْمحرّمات . ولقدْ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: « والّذي نفْسي بيده لقدْ هممْت أنْ آمر بحطبٍ فيحْطب، ثمّ آمر بالصّلاة فتقام، ثمّ آمر رجلاً فيصلّي بالنّاس، ثمّ أنْطلق معي برجالٍ معهمْ حزمٌ منْ حطبٍ إلى قوْمٍ لا يشْهدون الصّلاة فأحرّق عليْهمْ بيوتهمْ بالنّار » . وقدْ قاتل أبو بكْرٍ رضي الله عنه مانعي الزّكاة . ومن امْتنع منْ أداء حقوق الآْدميّين منْ ديون وغيْرها أخذتْ منْه جبْرًا إذا أمْكن، ويحْبس بها إذا تعذّرتْ، إلاّ أنْ يكون معْسرًا فينْظر إلى ميْسرته

بلْ إنّ الشّعائر الّتي ليْستْ بفرْضٍ، فإنّ للإْمام إلْزام النّاس بها كما إذا اجْتمع أهْل بلدٍ على ترْك الأْذان، فإنّ الإْمام أوْ نائبه يقاتلهمْ، لأنّه منْ شعائر الإْسْلام الظّاهرة وكذلك الْقاضي والْمحْتسب لهمْ هذا الْحقّ فيما وكّل إليْهمْ

وقدْ يكون الإْلْزام حرامًا، وذلك في الأْمْر بالظّلْم، لقوْل النّبيّ صلى الله عليه وسلم « لا طاعة لمخْلوقٍ في معْصية الْخالق »وعلى ذلك فمنْ أمره الْوالي بقتْل رجلٍ ظلْمًا أوْ قطْعه أوْ جلْده أوْ أخْذ ماله أوْ بيْع متاعه فلا يفْعل شيْئًا منْ ذلك

وقدْ يكون الإْلْزام جائزًا كإلْزام الْوالي بعْض النّاس بالْمباحات لمصْلحةٍ يراها  وإلْزام الرّجل زوْجته بالامْتناع عنْ مباحٍ

وقدْ يكون الإْلْزام مسْتحبًّا، وذلك عنْدما يكون موْضوعه مسْتحبًّا، كإلْزام الإْمام رعيّته بالاجْتماع على صلاة التّراويح في الْمساجد

مواطن الْبحْث.

6 - تتعدّد مواطن الإْلْزام بتعدّد أسْبابه، فقدْ يكون

بسبب الإْكْراه الْملْجئ على تفْصيلٍ فيه. (ر: إكْراه).

ومنْ ذلك الْعقود الّتي يكون منْ آثارها الإْلْزام بعملٍ معيّنٍ كالْبيْع إذا تمّ، فإنّه يترتّب عليْه إلْزام الْبائع بتسْليم الْمبيع وإلْزام الْمشْتري بتسْليم الثّمن.

وكالإْجارة إذا تمّتْ يترتّب عليْها إلْزام الْمسْتأْجر بالْقيام بالْعمل (ر: عقْد - بيْع - إجارة).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  التاسع  ، الصفحة /  70

 

الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ

تَعْرِيفُهُ:

1 - الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ: «الْبَيْعُ» وَ «الْجَبْرِيُّ»

فَالْبَيْعُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ  . وَالْجَبْرِيُّ: مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الأْمْرِ  جَبْرًا: حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَهْرًا  .

فَالْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْبَيْعُ الْحَاصِلُ مِنْ مُكْرَهٍ بِحَقٍّ، أَوِ الْبَيْعُ عَلَيْهِ نِيَابَةً عَنْهُ، لإِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ تَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ  .

الأْلْفَاظُ  ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الإْكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ:

2 - الإْكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ: حَمْلُ الإْنْسَانِ  عَلَى أَمْرٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ  .

وَفِي الشَّرْعِ: فِعْلٌ يُوجِدُهُ الْمُكْرِهُ فَيَدْفَعُ الْمُكْرَهَ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ  .

فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ: أَنَّ الْبَيْعَ الْجَبْرِيَّ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِحَقٍّ، أَمَّا الْبَيْعُ بِالإْكْرَاهِ فَهُوَ فِي الأْصْلِ أَعَمُّ، لَكِنَّ الْغَالِبَ إِطْلاَقُهُ عَلَى الإْكْرَاهِ بِلاَ حَقٍّ.

ب - بَيْعُ التَّلْجِئَةِ:

3 - بَيْعُ التَّلْجِئَةِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يُظْهِرَا عَقْدًا وَهُمَا لاَ يُرِيدَانِهِ، يَلْجَأُ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَالِ خَوْفًا مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ  .

فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ أَنَّ بَيْعَ التَّلْجِئَةِ فِيهِ صُورَةُ الْبَيْعِ لاَ حَقِيقَتُهُ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ بِاخْتِلاَفِ سَبَبِهِ، فَإِنْ كَانَ لإِِيفَاءِ حَقٍّ، كَبَيْعِ مَالِهِ لإِِيفَاءِ دَيْنٍ حَالٍّ، وَبِطَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، كَتَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي ضَاقَ عَلَى الْمُصَلِّينَ، أَوِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ  .

وَيَقُومُ الْبَيْعُ فِي الْفِقْهِ الإْسْلاَمِيِّ - كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْقَوْلِيَّةِ - عَلَى التَّرَاضِي الْحُرِّ عَلَى إِنْشَائِهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لقوله تعالي(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)

وَخَبَرِ: «إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ» وَلاَ يُقِرُّ الْفُقَهَاءُ بَيْعًا لَمْ يَقُمْ عَلَى التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، إِلاَّ مَا تُوجِبُهُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لإِِحْقَاقِ حَقٍّ، أَوْ تَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِهِمْ: الإِْكْرَاهُ الْمَشْرُوعُ، أَوِ الإِْكْرَاهُ بِحَقٍّ.

وَمِنْهَا: الْعُقُودُ الْجَبْرِيَّةُ الَّتِي يُجْرِيهَا الْحَاكِمُ، إِمَّا مُبَاشَرَةً نِيَابَةً عَمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِجْرَاؤُهَا، إِذَا امْتَنَعَ عَنْهَا، أَوْ يُجْبَرُ هُوَ عَلَى إِجْرَائِهَا.

وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِلْجَبْرِ الْمَشْرُوعِ عَلَى الْبَيْعِ مِنْهَا:

إِجْبَارُ الْمَدِينِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ:

5 - يُجْبَرُ الْمَدِينُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لإِيفَاءِ دَيْنٍ حَالٍّ، إِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهِ وَلَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، فَيَجْبُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ بِالتَّعْزِيرِ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ أَوِ الضَّرْبِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ قَضَى الْحَاكِمُ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ.

هَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ كَالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الإْمَامَ يَبِيعُ مَالَهُ عَلَيْهِ جَبْرًا نِيَابَةً عَنْهُ  .

وَعِنْدَ الإْمَامِ  أَبِي حَنِيفَةَ، لاَ يَبِيعُ الْحَاكِمُ مَالَهُ عَلَيْهِ، بَلْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَقُومَ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لأِنَّ وِلاَيَةَ الْحَاكِمِ - فِي نَظَرِ الإْمَامِ  - عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، لاَ عَلَى مَالِهِ، فَلَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلأِنَّ الْبَيْعَ تِجَارَةٌ وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِتَرَاضٍ، وَفِيهِ أَيْضًا نَوْعٌ مِنَ الْحَجْرِ الَّذِي لاَ يُجِيزُهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَدْ خَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ، فَأَجَازَا بَيْعَ الْحَاكِمِ مَالَهُ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ بَيْعًا جَبْرِيًّا، وَرَأْيُهُمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ  .

بَيْعُ الْمَرْهُونِ:

6 - إِذَا رَهَنَ عَيْنًا بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ، وَحَلَّ الأْجَلُ، وَامْتَنَعَ الْمَدِينُ عَنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ، أَوْ بَاعَ عَلَيْهِ نِيَابَةً عَنْهُ، لأِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهِ قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي أَدَائِهِ، كَالإْيفَاءِ فِي جِنْسِ الدَّيْنِ. وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (رَهْن).

وَقَالَ الإْمَامُ  أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَبِيعُ عَرَضَهُ وَلاَ عَقَارَهُ، بَلْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَرْضَى بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ  .

جَبْرُ الْمُحْتَكِرِ:

7 - إِذَا كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ وَامْتَنَعَ عَنْ بَيْعِهِ لَهُمْ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ  . وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (احْتِكَار)

الْجَبْرُ عَلَى الْبَيْعِ لِلنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ:

8 - إِذَا امْتَنَعَ الْمُكَلَّفُ عَنِ الإْنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ كَالزَّوْجَةِ وَالأْوْلاَدِ وَالأْبَوَيْنِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَقْدٌ ظَاهِرٌ بَاعَ الْحَاكِمُ عُرُوضَهُ أَوْ عَقَارَهُ لِلإْنْفَاقِ عَلَيْهِمْ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (النَّفَقَة).

الأْخْذُ بِالشُّفْعَةِ جَبْرًا:

9 - الشُّفْعَةُ حَقٌّ مَنَحَهُ الشَّرْعُ لِلشَّرِيكِ الْقَدِيمِ، أَوِ الْجَارِ الْمُلاَصِقِ، فَيَتَمَلَّكُ الشِّقْصَ الْمَبِيعَ عَنْ مُشْتَرِيهِ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ وَالتَّكَالِيفِ جَبْرًا عَلَيْهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (شُفْعَة).

 

 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الحادي والعشرون  ، الصفحة /  118

وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ السُّقُوطِ وَعَدَمِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَحِيحٍ وَغَيْرِ صَحِيحٍ .

أ - فَالدَّيْنُ الصَّحِيحُ: هُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ الَّذِي لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأْدَاءِ أَوِ الإْبْرَاءِ كَدَيْنِ الْقَرْضِ وَدَيْنِ الْمَهْرِ وَدَيْنِ الاِسْتِهْلاَكِ وَنَحْوِهَا.

ب - وَالدَّيْنُ غَيْرُ الصَّحِيحِ: هُوَ الدَّيْنُ الَّذِي يَسْقُطُ بِالأْدَاءِ أَوِ الإْبْرَاءِ وَبِغَيْرِهِمَا مِنَ الأْسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ سُقُوطَهُ مِثْلُ دَيْنِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِعَجْزِ الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَائِهِ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / التاسع والثلاوثون  ، الصفحة /  14

أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ

6 - مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ وَكَانَ مَلِيئًا مُقِرًّا بِدَيْنِهِ أَوْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الدَّيْنِ حِينَ طَلَبِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» ،، وَبِالطَّلَبِ يَتَحَقَّقُ الْمَطْلُ، إِذْ لاَ يُقَالُ: مَطَلَهُ إِلاَّ إِذَا طَالَبَهُ فَدَافَعَهُ .

وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ لِلْقَادِرِ عَلَى الأْدَاءِ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّلَبِ.

جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمْلِ: يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ أَدَاءُ الدَّيْنِ فَوْرًا إِنْ خَافَ فَوْتَ أَدَائِهِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ إِمَّا بِمَوْتِهِ أَوْ مَرَضِهِ أَوْ بِذَهَابِ مَالِهِ، أَوْ خَافَ مَوْتَ الْمُسْتَحِقِّ، أَوْ طَالَبَهُ رَبُّ الدَّيْنِ، أَوْ عَلِمَ حَاجَتَهُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَارِزِيُّ .

7 - وَإِذَا أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِالأْدَاءِ فَطَلَبَ إِمْهَالَهُ لِبَيْعِ عُرُوضِهِ لِيُوفِيَ دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهَا أُمْهِلَ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، لَكِنْ لاَ يُؤَجَّلُ إِلاَّ إِذَا أَعْطَى حَمِيلاً بِالْمَالِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ لِلْمَدِينِ الْقَادِرِ عَلَى الْوَفَاءِ سِلْعَةٌ، فَطَلَبَ مِنْ رَبِّ الْحَقِّ أَنْ يُمْهِلَهُ حَتَّى يَبِيعَهَا وَيُوفِيَهُ الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهَا أُمْهِلَ بِقَدْرِ ذَلِكَ، أَيْ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِهَا وَالْوَفَاءِ مِنْ ثَمَنِهَا.

وَكَذَا إِنْ طُولِبَ بِمَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ وَمَالُهُ بِدَارِهِ أَوْ مُودَعٌ أَوْ بِبَلَدٍ آخَرَ فَيُمْهَلُ بِقَدْرِ مَا يُحْضِرُهُ فِيهِ.

وَكَذَلِكَ إِنْ أَمْكَنَ الْمَدِينَ أَنْ يَحْتَالَ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ بِاقْتِرَاضِ وَنَحْوِهِ فَيُمْهَلُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يُحْبَسُ لِعَدَمِ امْتِنَاعِهِ مِنَ الأْدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) .

 وَإِنْ خَافَ رَبُّ الْحَقِّ هَرَبَهُ احْتَاطَ بِمُلاَزَمَتِهِ أَوْ بِكَفِيلٍ، وَلاَ يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنَ الْوَفَاءِ بِحَبْسِهِ، لأِنَّ  الْحَبْسَ عُقُوبَةٌ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهَا .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: لَوْ مَاطَلَ الْمَدِينُ حَتَّى شَكَاهُ رَبُّ الْحَقِّ فَمَا غَرِمَهُ فِي شَكْوَاهُ فَعَلَى الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ إِذَا كَانَ رَبُّ الْحَقِّ قَدْ غَرِمَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، لأِنَّهُ  تَسَبَّبَ فِي غُرْمِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ .

8 - وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَدِينُ الْمَلِيءُ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ الطَّلَبِ وَبَعْدَ إِعْطَائِهِ الْمُهْلَةِ لِبَيْعِ عُرُوضِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، أَوْ لَمْ يَأْتِ بِحَمِيلٍ بِالْمَالِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَحْبِسُهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» ،، فَيُحْبَسُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِوَاسِطَةِ الْحَبْسِ، وَلِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» . وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ وابْنُ قُدَامَةَ .

لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الْحَبْسَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِطَلَبِ رَبِّ الدَّيْنِ مِنَ الْقَاضِي، فَمَا لَمْ يَطْلُبْ رَبُّ الدَّيْنِ حَبْسَ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ لاَ يُحْبَسُ لأِنَّ  الدَّيْنَ حَقُّهُ، وَالْحَبْسُ وَسِيلَةٌ إِلَى حَقِّهِ، وَوَسِيلَةُ حَقِّ الإْنْسَانِ هِيَ حَقُّهُ، وَحَقُّ الْمَرْءِ إِنَّمَا يُطْلَبُ بِطَلَبِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الطَّلَبِ لِلْحَبْسِ، فَإِذَا طَلَبَ رَبُّ الدَّيْنِ حَبْسَ الْمَدِينِ - وَثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَشَرَائِطُهُ بِالْحُجَّةِ - حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ عِنْدَهُ بِتَأْخِيرِ حَقِّ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَالْقَاضِي نُصِبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهُ .

9 - وَيُشْتَرَطُ لِحَبْسِ الْمَلِيءِ الْمُمَاطِلِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ فَلاَ يُحْبَسُ الْوَالِدُونَ وَإِنْ عَلَوْا بِدَيْنِ الْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)  وَقَوْلِهِ تَعَالَى : (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)  وَلَيْسَ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَالإْحْسَانِ  حَبْسُهُمَا بِالدَّيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ الْوَالِدُ مِنَ الإْنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْبِسُهُ، لَكِنْ تَعْزِيرًا لاَ حَبْسًا بِالدَّيْنِ.

وَأَمَّا الْوَلَدُ فَيُحْبَسُ بِدَيْنِ الْوَالِدِ، لأِنَّ  الْمَانِعَ مِنَ الْحَبْسِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ.

وَكَذَا سَائِرُ الأْقَارِبِ، يُحْبَسُ الْمَدْيُونُ بِدَيْنِ قَرِيبِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ.

وَيَسْتَوِي فِي الْحَبْسِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، لأِنَّ  الْمُوجِبَ لِلْحَبْسِ لاَ يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالأْنُوثَةِ.

وَيُحْبَسُ وَلِيُّ الصَّغِيرِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ قَضَاءُ دَيْنِهِ، لأِنَّهُ  إِذَا كَانَ الظُّلْمُ بِسَبِيلٍ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ صَارَ بِالتَّأْخِيرِ ظَالِمًا، فَيُحْبَسُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ فَيَنْدَفِعَ الظُّلْمُ.

لَكِنْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُحْبَسُ الْجَدُّ بِدَيْنِ وَلَدِ وَلَدِهِ، لأِنَّ  حَقَّهُ دُونَ حَقِّ الأْبِ .

10 - وَإِذَا حَبَسَ الْحَاكِمُ الْمَدِينَ وَأَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ عَنِ الْوَفَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْحَاكِمُ بِهِ. قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى يَسَارِهِ أَبَّدَ الْحَاكِمُ حَبْسَهُ لِظُلْمِهِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُضْرَبُ مَعْلُومُ الْمِلاَءِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي الْعَدَدِ بِمَجْلِسِ أَوْ مَجَالِسَ، وَلَوْ أَدَّى إِلَى إِتْلاَفِهِ لِظُلْمِهِ بِاللَّدَدِ دُونَ أَنْ يَقْصِدَ الْحَاكِمُ إِتْلاَفَهُ، أَمَّا لَوْ ضَرَبَهُ قَاصِدًا إِتْلاَفَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، قَالُوا: وَلاَ يَبِيعُ مَالَهُ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ امْتَنَعَ الْمُوسِرُ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الأْدَاءِ وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ - وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ - وَفَّى مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ بَاعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَالَهُ - وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي غَيْرِ مَحِلِّ وِلاَيَتِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَالْقَمُولِيُّ - أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِالتَّعْزِيرِ بِحَبْسِ أَوْ غَيْرِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله تعالي عنه أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الأْسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ: سَبَقَ الْحَاجَّ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ دَانَ مُعْرِضًا، فَأَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ نَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَهُمْ»  .

وَلَوِ الْتَمَسَ الْغَرِيمُ مِنَ الْحَاكِمِ الْحَجْرَ عَلَى مَالِ الْمُمْتَنِعِ مِنَ الأْدَاءِ أُجِيبَ لِئَلاَّ يَتْلَفَ مَالُهُ.

وَإِنْ كَانَ لِلْمَدِينِ مَالٌ فَأَخْفَاهُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَطَلَبَ غَرِيمُهُ حَبْسَهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ وَحَجَرَ عَلَيْهِ وَعَزَّرَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِالْحَبْسِ وَرَأَى الْحَاكِمُ ضَرْبَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَوْ زَادَ مَجْمُوعُ الضَّرْبِ عَلَى الْحَدِّ.

وَلاَ يُعَزِّرُهُ ثَانِيًا حَتَّى يَبْرَأَ مِنَ التَّعْزِيرِ الأْوَّلِ  .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَصَرَّ الْمَدِينُ الْمَلِيءُ عَلَى الْحَبْسِ وَلَمْ يُؤَدِّ الدَّيْنَ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ، لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ رضي الله عنه مَالَهُ وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ».

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: إِذَا أَصَرَّ الْمَدِينُ عَلَى الْحَبْسِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ ضَرَبَهُ الْحَاكِمُ، قَالَ فِي الْفُصُولِ وَغَيْرِهِ: يَحْبِسُهُ فَإِنْ أَبَى الْوَفَاءَ عَزَّرَهُ، وَيُكَرِّرُ حَبْسَهُ وَتَعْزِيرَهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: نَصَّ عَلَيْهِ الأْئِمَّةُ  مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ وَلاَ أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا، لَكِنْ لاَ يُزَادُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى أَكْثَرِ التَّعْزِيرِ إِنْ قِيلَ بِتَقْدِيرِهِ .

هـ - اخْتِلاَفُ الْمَدِينِ وَالْغَرِيمِ فِي الْمَلاَءَةِ

11 - لَوْ أَقَامَ الْغَرِيمُ بَيِّنَةً بِمَلاَءَةِ الْمَدِينِ، أَوِ ادَّعَى مَلاَءَتَهُ بِلاَ بَيِّنَةٍ، وَأَقَامَ الْمَدِينُ بَيِّنَةً بِإِعْسَارِهِ، أَوِ ادَّعَى الإْعْسَارَ  بِلاَ بَيِّنَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَفِيمَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ بَيِّنَةٌ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ اخْتَلَفَ الْغَرِيمُ وَالْمَدِينُ فِي الْيَسَارِ وَالإْعْسَارِ، فَقَالَ الطَّالِبُ: هُوَ مُوسِرٌ، وَقَالَ الْمَطْلُوبُ: أَنَا مُعْسِرٌ، فَإِنْ قَامَتْ لأِحَدِ هِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ، لأِنَّ هَا تُثْبِتُ زِيَادَةً وَهِيَ الْيَسَارُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكَفَالَةِ وَالنِّكَاحِ وَالزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يُنْظَرُ: إِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِمُعَاقَدَةٍ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالصُّلْحِ عَنِ الْمَالِ وَالْخُلْعِ، أَوْ ثَبَتَ تَبَعًا فِيمَا هُوَ مُعَاقَدَةٌ كَالنَّفَقَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ، وَكَذَا فِي الْغَصْبِ وَالزَّكَاةِ، وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ أَوِ الْقَتْلِ الَّذِي لاَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَيُوجِبُ الْمَالَ فِي مَالِ الْجَانِي وَفِي الْخَطَأِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ.

وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ إِنْ وَجَبَ الدَّيْنُ عِوَضًا عَنْ مَالٍ سَالِمٍ لِلْمُشْتَرِي، نَحْوُ ثَمَنِ الْمَبِيعِ الَّذِي سَلَّمَ لَهُ الْمَبِيعَ وَالْقَرْضَ وَالْغَصْبَ وَالسَّلَمَ الَّذِي أَخَذَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ، وَكُلُّ دَيْنٍ لَيْسَ لَهُ عِوَضٌ أَصْلاً كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ، أَوْ لَهُ عِوَضٌ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكَفَالَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلاَ يُحْبَسُ، لأِنَّ  الْفَقْرَ أَصْلٌ فِي بَنِي آدَمَ وَالْغِنَى عَارِضٌ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَطْلُوبِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم«لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ».

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحَكَّمُ زِيُّهُ: إِذَا كَانَ زِيُّهُ زِيَّ الأْغْنِيَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ، وَإِنْ كَانَ زِيُّهُ زِيَّ الْفُقَرَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ.

وَعَنْ أَبِي جَعْفَرَ الْهِنْدَوَانِيِّ أَنَّهُ يُحَكَّمُ زِيُّهُ فَيُؤْخَذُ بِحُكْمِهِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، إِلاَّ إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَوِ الْعَلَوِيَّةِ أَوِ الأْشْرَافِ، لأِنَّ  مِنْ عَادَاتِهِمُ التَّكَلُّفَ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّجَمُّلَ بِدُونِ الْغِنَى، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ .

وَوَجْهُ مَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي الشَّرْعِ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، فَإِذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بَدَلاً عَنْ مَالٍ سُلِّمَ لَهُ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ، لأِنَّهُ  ثَبَتَتْ قُدْرَةُ الْمَطْلُوبِ بِسَلاَمَةِ الْمَالِ، وَكَذَا فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا لاَ تَجِبُ إِلاَّ عَلَى الْغَنِيِّ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ.

وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلطَّالِبِ فِيمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الدَّلاَلَةِ، وَهُوَ إِقْدَامُهُ عَلَى الْمُعَاقَدَةِ، فَإِنَّ الإْقْدَامَ  عَلَى التَّزَوُّجِ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ الإْنْسَانَ لاَ يَتَزَوَّجُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ، وَلاَ يَتَزَوَّجُ أَيْضًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْمَهْرِ، وَكَذَا الإْقْدَامُ  عَلَى الْخُلْعِ لأِنَّ  الْمَرْأَةَ لاَ تُخَالِعُ عَادَةً حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهَا شَيْءٌ، وَكَذَا الصُّلْحُ لاَ يُقْدِمُ الإْنْسَانُ  عَلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِمَلاَءَةِ الْمَدِينِ، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِعَدَمِ مَلاَءَتِهِ رُجِّحَتْ بَيِّنَةُ الْمَلاَءِ عَلَى بَيِّنَةِ الْعَدَمِ إِنْ بَيَّنَتْ بَيِّنَةُ الْمَلاَءِ سَبَبَهُ، بِأَنْ قَالَتْ: لَهُ مَالٌ يَفِي بِدَيْنِهِ وَقَدْ أَخْفَاهُ، لأِنَّ هَا بَيِّنَةٌ نَاقِلَةٌ وَمُثْبِتَةٌ وَشَاهِدَةٌ بِالْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: لَوْ قَالَتْ بَيِّنَةٌ: لَهُ مَالٌ بَاطِنٌ أَخْفَاهُ، قُدِّمَتِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ لَمْ تُبَيِّنْ بَيِّنَةُ الْمَلاَءِ سَبَبَ الْمَلاَءِ رُجِّحَتْ بَيِّنَةُ الْعَدَمِ، سَوَاءٌ بَيَّنَتْ سَبَبَ الْعَدَمِ أَمْ لاَ.

وَقَالَ عَلِيٌّ الأْجْهُورِيُّ: وَالَّذِي جَرَى الْعَمَلُ بِهِ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمَلاَءِ وَإِنْ لَمْ تُبَيِّنْ سَبَبَهُ.

وَإِنْ شَهِدَ شُهُودٌ بِعُسْرِ الْمَدِينِ، وَقَالُوا فِي شَهَادَتِهِمْ: إِنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ لِلْمَدِينِ مَالاً ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ، فَيَقُولُ: بِاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَمْ أَعْرِفْ لِي مَالاً ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا، وَيَزِيدُ: وَإِنْ وَجَدْتُ مَالاً لأَقْضِيَنَّ مَا عَلَيَّ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَعَارَضَتْ بَيِّنَتَا إِعْسَارٍ وَمَلاَءَةٍ كُلَّمَا شَهِدَتْ إِحْدَاهُمَا جَاءَتِ الأْخْرَى فَشَهِدَتْ بِأَنَّهُ فِي الْحَالِ عَلَى خِلاَفِ مَا شَهِدَتْ بِهِ الأْولَى، فَهَلْ يُقْبَلُ ذَلِكَ أَبَدًا وَيُعْمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ؟

أَفْتَى ابْنُ الصَّلاَحُ بِأَنَّهُ يُعْمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا وَإِنْ تَكَرَّرَتْ، إِذَا لَمْ يَنْشَأْ مِنْ تَكْرَارِهَا رِيبَةٌ، وَلاَ تَكَادُ بَيِّنَةُ الإْعْسَارِ تَخْلُو عَنْ رِيبَةٍ إِذَا تَكَرَّرَتْ .

وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ: إِنِ ادَّعَى الْمَدِينُ الإْعْسَارَ  نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لأِنَّ  الأْصْلَ  عَدَمُ الْمَالِ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مُعْسِرٌ، إِلاَّ بِبَيِّنَةِ، لأِنَّ  الأْصْلَ  بَقَاءُ الْمَالِ، فَإِنْ قَالَ: غَرِيمِي يَعْلَمُ أَنِّي مُعْسِرٌ، أَوْ أَنَّ مَالِي هَلَكَ فَحَلَّفُوهُ حَلِفَ الْغَرِيمُ، لأِنَّ  مَا يَدَّعِيهِ مُحْتَمَلٌ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ ادَّعَى الْمَدِينُ الإْعْسَارَ  وَكَذَّبَهُ غَرِيمُهُ، فَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُرِفَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ: فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ، كَكَوْنِ الدَّيْنِ ثَبَتَ عَنْ مُعَاوَضَةٍ كَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ، أَوْ عُرِفَ لَهُ أَصْلُ مَالٍ سِوَى هَذَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ غَرِيمِهِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ الْغَرِيمُ أَنَّهُ ذُو مَالٍ حُبِسَ الْمَدِينُ حَتَّى تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ بِإِعْسَارِهِ، لأِنَّ  الظَّاهِرَ قَوْلُ الْغَرِيمِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى.

فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِ مَالِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، لأِنَّ  التَّلَفَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَإِنْ طَلَبَ الْغَرِيمُ إِحْلاَفَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ لأِنَّ  ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ.

وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِالإْعْسَارِ مَعَ الشَّهَادَةِ بِالتَّلَفِ اكْتَفَى بِشَهَادَتِهَا وَثَبَتَتْ عُسْرَتُهُ.

وَإِنْ لَمْ تَشْهَدِ الْبَيِّنَةُ بِعُسْرَتِهِ وَإِنَّمَا شَهِدَتْ بِالتَّلَفِ لاَ غَيْرَ، وَطَلَبَ الْغَرِيمُ يَمِينَ الْمَدِينِ عَلَى عُسْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ آخَرُ، اسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ لأِنَّهُ  غَيْرُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ.

وَإِنْ لَمْ تَشْهَدِ الْبَيِّنَةُ بِالتَّلَفِ، وَإِنَّمَا شَهِدَتْ بِالإْعْسَارِ فَقَطْ لَمْ تُقْبَلِ الشَّهَادَةُ إِلاَّ مِنْ ذِي خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ وَمَعْرِفَةٍ مُتَقَادِمَةٍ، لأِنَّ  هَذَا مِنَ الأْمُورِ الْبَاطِنَةِ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إِلاَّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ  وَذَلِكَ لِمَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لأِحَدِ  ثَلاَثَةٍ... وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ، قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ» .

وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمَدِينِ مَالٌ الْغَالِبُ بَقَاؤُهُ، كَكَوْنِ الْحَقِّ ثَبَتَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مُقَابَلَةِ مَالٍ أَخَذَهُ الْمَدِينُ كَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ وَمَهْرٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ كَفَالَةٍ أَوْ عِوَضِ خُلْعٍ إِنْ كَانَ امْرَأَةً، وَادَّعَى الإْعْسَارَ  وَلَمْ يُقِرَّ الْمَدِينُ أَنَّهُ مَلِيءٌ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ: أَنَّهُ لاَ مَالَ لَهُ وَيُخَلَّى سَبِيلُهُ، لأِنَّ  الأْصْلَ  عَدَمُ الْمَالِ.

فَإِنْ أَنْكَرَ رَبُّ الدَّيْنِ إِعْسَارَ الْمَدِينِ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِقُدْرَةِ الْمَدِينِ عَلَى الْوَفَاءِ، فَإِنَّ الْمَدِينَ يُحْبَسُ لِثُبُوتِ مَلاَءَتِهِ.

وَلَوْ حَلَفَ رَبُّ الدَّيْنِ: أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ عُسْرَةَ الْمَدِينِ، أَوْ حَلَفَ رَبُّ الدَّيْنِ: أَنَّ الْمَدِينَ مُوسِرٌ، أَوْ ذُو مَالٍ، أَوْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْوَفَاءِ حُبِسَ الْمَدِينُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ عُسْرَتِهِ.

فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ رَبُّ الدَّيْنِ بَعْدَ سُؤَالِ الْمَدِينِ حَلَّفَهُ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ عُسْرَتَهُ، حَلَفَ الْمَدِينُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، لأِنَّ  الأْصْلَ  عَدَمُ الْمَالِ، إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ رَبُّ الدَّيْنِ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ يَسَارِهِ فَيُحْبَسُ الْمَدِينُ .

و - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي مَنْعِ الْمَدِينِ مِنَ السَّفَرِ :

12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَكَانَ الْمَدِينُ مَلِيئًا كَانَ مِنْ حَقِّ الْغَرِيمِ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ دَيْنَهُ، وَذَلِكَ - كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ - بِأَنْ يُشْغِلَهُ عَنِ السَّفَرِ بِرَفْعِهِ إِلَى الْحَاكِمِ وَمُطَالَبَتِهِ حَتَّى يُوفِيَهُ دَيْنَهُ، لأِنَّ  أَدَاءَ الدَّيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ بِخِلاَفِ السَّفَرِ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ اسْتَنَابَ مَنْ يُوفِيهِ عَنْهُ مِنْ مَالِ الْحَاضِرِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ .

أَمَّا إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْغَرِيمِ مَنْعُ الْمَدِينِ مِنَ السَّفَرِ مَا دَامَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لاَ يُمْنَعُ الْمَدِينُ مِنَ السَّفَرِ قَبْلَ حُلُولِ الأْجَلِ، سَوَاءٌ بَعُدَ مَحِلُّهُ أَوْ قَرُبَ، لأِنَّهُ  لاَ يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ قَبْلَ حَلِّ الأْجَلِ وَلاَ يُمْكِنُ مَنْعُهُ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا حَلَّ الأْجَلُ  مَنَعَهُ مِنَ الْمُضِيِّ فِي سَفَرِهِ إِلَى أَنْ يُوفِيَهُ دَيْنَهُ .

وَقَالَ الشَّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: أَمَّا الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ فَلَيْسَ لِلْغَرِيمِ مَنْعُ الْمَدِينِ مِنَ السَّفَرِ وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ مَخُوفًا كَجِهَادٍ، أَوْ كَانَ الأْجَلُ  قَرِيبًا، إِذْ لاَ مُطَالَبَةَ بِهِ فِي الْحَالِّ، وَلاَ يُكَلِّفُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ رَهْنًا وَلاَ كَفِيلاً وَلاَ إِشْهَادًا، لأِنَّ  صَاحِبَهُ هُوَ الْمُقَصِّرُ حَيْثُ رَضِيَ بِالتَّأْجِيلِ مِنْ غَيْرِ رَهْنٍ وَكَفِيلٍ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُصَاحِبَهُ فِي السَّفَرِ لِيُطَالِبَهُ عِنْدَ حُلُولِ الأْجَلِ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُلاَزِمَهُ مُلاَزَمَةَ الرَّقِيبِ لأِنَّ  فِيهِ إِضْرَارًا بِهِ .

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ يَحِلُّ أَثْنَاءَ سَفَرِ الْمَدِينِ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لاَ يَحِلُّ أَثْنَاءَ سَفَرِهِ، فَقَالُوا: لِلْغَرِيمِ مَنْعُ الْمَدِينِ مِنَ السَّفَرِ إِنْ حَلَّ الدَّيْنُ بِغَيْبَتِهِ وَكَانَ مُوسِرًا وَلَمْ يُوَكِّلْ مَلِيئًا عَلَى الْقَضَاءِ وَلَمْ يَضْمَنْهُ مُوسِرٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا أَوْ وَكَّلَ مَلِيئًا يَقْضِي الدَّيْنَ فِي غَيْبَتِهِ مِنْ مَالِهِ أَوْ ضَمِنَهُ مَلِيءٌ فَلَيْسَ لِغَرِيمِهِ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ.

فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لاَ يَحِلُّ بِغَيْبَتِهِ فَلَيْسَ لِلْغَرِيمِ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ.

قَالَ اللَّخْمِيُّ: مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ وَأَرَادَ السَّفَرَ قَبْلَ حُلُولِهِ فَلاَ يُمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ إِذَا بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ قَدْرُ سَيْرِهِ وَرُجُوعِهِ، وَكَانَ لاَ يُخْشَى لَدَدُهُ وَمَقَامُهُ، فَإِنْ خُشِيَ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ عُرِفَ بِاللَّدَدِ فَلَهُ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِحَمِيلِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَهُ عَقَارٌ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعْطَى حَمِيلاً بِالْقَضَاءِ أَوْ وَكِيلاً بِالْبَيْعِ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَرَادَ الْمَدِينُ سَفَرًا طَوِيلاً فَوْقَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَيَحِلُّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ السَّفَرِ أَوْ يَحِلُّ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ مَخُوفًا أَوْ غَيْرَ مَخُوفٍ، وَلَيْسَ بِالدَّيْنِ رَهْنٌ يَفِي بِهِ وَلاَ كَفِيلٌ مَلِيءٌ بِالدَّيْنِ، فَلِغَرِيمِهِ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ، لأِنَّ  عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي تَأْخِيرِ حَقِّهِ عَنْ مَحِلِّهِ، وَقُدُومُهُ عِنْدَ الْمَحِلِّ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ وَلاَ ظَاهِرٌ فَمَلَكَ مَنْعَهُ، لَكِنْ إِذَا وَثَّقَ الْمَدِينُ الدَّيْنَ بِرَهْنٍ يُحْرِزُ الدَّيْنَ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ فَلاَ يُمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ لاِنْتِفَاءِ الضَّرَرِ.

وَلَوْ أَرَادَ الْمَدِينُ وَضَامِنُهُ مَعًا السَّفَرَ فَلِلْغَرِيمِ مَنْعُهُمَا إِلاَّ إِذَا تَوَثَّقَ الدَّيْنُ بِرَهْنٍ مُحْرَزٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ.

لَكِنْ إِذَا كَانَ سَفَرُ الْمَدِينِ لِجِهَادِ مُتَعَيَّنٍ فَلاَ يُمْنَعُ مِنْهُ بَلْ يُمَكَّنُ مِنَ السَّفَرِ لِتَعَيُّنِهِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِذَا أَحْرَمَ الْمَدِينُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً فَلاَ يُحَلِّلُهُ الْغَرِيمُ مِنْ إِحْرَامِهِ لِوُجُوبِ إِتْمَامِهِمَا بِالشُّرُوعِ .

أَجَلُ الدُّيُونِ:

43 - الأْجَلُ  فِي الدُّيُونِ حَقٌّ لِلْمَدِينِ، وَمَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ مُطَالَبَتُهُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَإِذَا مَاتَ فَهَلْ يَبْطُلُ الأْجَلُ  وَيَحِلُّ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ، أَمْ يَبْقَى ثَابِتًا كَمَا هُوَ وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الأْجَلَ  يَسْقُطُ، وَيَحِلُّ الدَّيْنُ بِمَوْتِ الْمَدِينِ، وَتَنْقَلِبُ جَمِيعُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ الَّتِي عَلَيْهِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ آجَالُهَا حَالَّةً بِمَوْتِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَسوَّارٌ وَالثَّوْرِيُّ .

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحِ التَّوَارُثَ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَالْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ لاَ يُرِيدُوا أَنْ يُؤَخِّرُوا حُقُوقَهُمْ فِي الْمَوَارِيثِ إِلَى مَحِلِّ أَجَلِ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُجْعَلَ الدَّيْنُ حَالًّا، وَإِمَّا أَنْ يَرْضَوْا بِتَأْخِيرِ مِيرَاثِهِمْ حَتَّى تَحِلَّ الدُّيُونُ، فَتَكُونُ الدُّيُونُ حِينَئِذٍ مَضْمُونَةً فِي التَّرِكَةِ خَاصَّةً لاَ فِي ذِمَمِهِمْ  وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأِنَّهُ  لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوِ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَلاَ يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلاَ ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ لأِنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ، وَلاَ رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الأْعْيَانِ  وَتَأْجِيلُهُ، لأِنَّهُ  ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلاَ نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ .

وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لاَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ فِيهِمَا، وَهِيَ:

أ - إِذَا قُتِلَ إِلَى الدَّائِنِ الْمَدِينُ، فَإِنَّ دَيْنَهُ لاَ يَحِلُّ، لأِنَّهُ  قَدِ اسْتَعْجَلَهُ قَبْلَ أَوَانِهِ فَعُوقِبَ بِالْحِرْمَانِ.

ب - إِذَا اشْتَرَطَ الْمَدِينُ عَلَى الدَّائِنِ أَنْ لاَ يَحِلَّ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ، فَيُعْمَلُ بِالشَّرْطِ .

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لاَ يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمَدِينِ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ بِالأْقَلِّ مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُوَثَّقْ بِذَلِكَ حَلَّ، لأِنَّ  الْوَرَثَةَ قَدْ لاَ يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ.

وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِلَ مُبْطِلاً لِلْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ لِلْخِلاَفَةِ، وَعَلاَمَةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ الْتِزَامَ الدَّيْنِ وَأَدَاءَهُ لِلْغَرِيمِ عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي الْمَالِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الْغَرِيمُ، أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ أَوْ رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ .

وَالثَّالِثُ: رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الأْجَلَ  لاَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يُوَثِّقِ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمُ الدَّيْنَ، وَذَلِكَ لأِنَّ  الأْجَلَ  حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، فَيُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ .

 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثاني، الصفحة /  343

الاِمْتِنَاعُ عَنِ الأَْدَاءِ:

33 - مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَانَ مُوسِرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، فَإِنْ مَاطَلَ وَلَمْ يُؤَدِّ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ بِالأَْدَاءِ بَعْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ لِظُلْمِهِ بِتَأْخِيرِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم : «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  بَاعَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ وَقَضَى دُيُونَهُ». وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله تعالي عنه  بَاعَ مَالَ أُسَيْفِعٍ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ.

34 - وَإِنْ كَانَ لِلْمَدِينِ مَالٌ وَلَكِنَّهُ لاَ يَفِي بِدُيُونِهِ وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَزِمَ الْقَاضِيَ إِجَابَتُهُمْ، وَلَهُ مَنْعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ حَتَّى لاَ يَضُرَّ بِالْغُرَمَاءِ، وَيَبِيعُ مَالَهُ إِنِ امْتَنَعَ هُوَ عَنْ بَيْعِهَا، وَيَقْسِمُهَا بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لاَ يُحْجَرُ عَلَى الْمَدِينِ، لأَِنَّ الْحَجْرَ فِيهِ إِهْدَارٌ لآِدَمِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَتَّى يَبِيعَ وَيُوَفِّيَ دَيْنَهُ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَالدَّيْنُ مِثْلُهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي الدَّيْنَ مِنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لأَِنَّ رَبَّ الدَّيْنِ لَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْقَاضِي يُعِينُهُ عَلَيْهِ.

35 - وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا وَثَبَتَ ذَلِكَ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).

36 - وَالْمَدِينُ الْمُعْسِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَسُّبُ لِوَفَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى التَّكَسُّبِ وَلاَ عَلَى قَبُولِ الْهَدَايَا وَالصَّدَقَاتِ، لَكِنْ مَا يَجِدُّ لَهُ مِنْ مَالٍ مِنْ كَسْبِهِ فَإِنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِهِ.

37 - وَالْغَارِمُ إِنِ اسْتَدَانَ لِنَفْسِهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ يُؤَدِّي دَيْنَهُ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ مَصَارِفِهَا.

38 - هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ، أَمَّا مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ، وَيَجِبُ الأَْدَاءُ مِنْهَا قَبْلَ تَنْفِيذِ الْوَصَايَا وَأَخْذِ الْوَرَثَةِ نَصِيبَهُمْ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ فَرَاغَ ذِمَّتِهِ مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : «الدَّيْنُ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ»وَأَدَاءُ الْفَرْضِ أَوْلَى مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَقَدْ قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقِسْمَةِ فِي قوله تعالى( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ).

فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِأَدَاءِ دَيْنِهِ تَعْجِيلاً لِلْخَيْرِ لِحَدِيثِ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ».

وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِدُيُونِ الآْدَمِيِّ. أَمَّا دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. (ف: 14، 16) .

 

 __________________________________________________________________

المذكرة الإيضاحية للإقتراح بمشروع القانون المدني طبقا لاحكام الشريعة الإسلامية

( مادة ۲۱۱)

1- ينفذ الالتزام جبراً على المدين .

2- ومع ذلك ، اذا كان الالتزام طبيعياً فلا جبر في تنفيذه .

هذه المادة تطابق المادة ۱۹۹ من التقنين الحالي .

و تطابق المادة ۲۸۰ من مشروع التقنين الكويتي .

و تطابق في حكمها المادة ۳۱۳ من التقنين الأردني التي تنص على ما یأتی

1 - ينفذ الحق جبراً على المدين به عند استحقاقه متی استوفي الشرائط القانونية 2- فاذا افتقد الحق حماية القانون لأي سبب فلا جبر في تنفيذه ويصبح حقا طبيعيا يجب في ذمة المدين •

والفقرة الأولى من المادة المقترحة تتناول الالتزام الكامل الذي يتوافر فيه عنصر المديونية وعنصر المسئولية ، ويقال له التزام مدنی ، حيث ينفذ جبرا على المدين .

 

أما الفقرة الثانية فتتناول الالتزام الطبيعي، وهو الذي يتوافر فيه عنصر المديونية دون عنصر المسئولية ، فلا يكون هناك ثمة جبر في تنفيذه

وهذا التمييز بين الالتزام المدنى والالتزام الطبيعي يقابله في الفقه الاسلامي التمييز بين الواجب قضاء والواجب ديانة . فالالتزام المدنی أو الواجب قضاء يجبر المدين على تنفيذه ، والالتزام الطبيعي أو الواجب ديانة لا جبر في تنفيذه .

والالتزام الطبيعي واجب أدبي أو أخلاقي يرتفع به القانون عن مستوى الواجب الأدبي المجرد ، فيرتب عليه بعض الآثار القانونية ، وبذلك يقربه من الالتزام المدني ، وهو لا يقتصر على التزامات كانت في أصلها التزامات مدنية ثم أصبحت التزامات طبيعية لوجود مانع من المطالبة كما في حالة تقادم الدین ، بل يشمل كذلك التزامات كانت في أصلها مجرد واجبات أدبية ثم أصبحت التزامات طبيعية ، كتعویض شخص عن ضرر غير مباشر لا يجب التعويض عنه قانونا أو الانفاق على قريب معوز لا تجب نفقته قانونا . وعلى هذا النحو يمتد نطاق الالتزامات الطبيعية الى كل التزام يوجبه الضمير ، وهذا هو نطاق الواجب الأدبي الذي يحوطه الفقه الاسلامی باهتمامه البالغ نزولا على مقتضيات الأخلاق والآداب . ومن الطبيعي أن تقر الشريعة الاسلامية هذا المنحى ، وهی الشريعة التي تحض على البر والإحسان والوفاء بما يكون في الذمة ولو لم يكن في الوسع اقتضاؤه جبرا.