مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني، الصفحة : 498
مذكرة المشروع التمهيدي :
تعرض الفقرة الثانية من هذه المادة لصور الالتزام الطبيعي، فتكل أمر الفصل فيها إلى تقدير القاضي، لتعذر الإحاطة بها على سبيل الحصر .
والحق أن أحكام القضاء حافلة بضروب من الواجبات الأدبية أنزلت منزلة الالتزامات الطبيعية, على أن الفقه يقسم تطبيقات الالتزام الطبيعي تقسيماً سهل المأخذ، فيردها إلى طائفتين : تنتظم أولاهما ما يكون أثراً تخلف عن التزام مدني تناسخ حكمه، هو شأن الديون التي تسقط بالتقادم أو تنقضي بتصالح المفلس مع دائنيه، أو يقضى ببطلانها لعدم توافر الأهلية . ويدخل في الثانية ما ينشأ واجباً أدبياً من الأصل، كالتبرعات التي لا تستوفي فيها شروط الشكل، والتزام الشخص بالإنفاق على ذوي القربى ممن لا تلزمه نفقتهم قانوناً، والالتزام بإجازة شخص على خدمة أداها.
ويتعين على القاضي عند الفصل في أمر الالتزامات الطبيعية أن يتحقق أولاً من قيام واجب أدبي، وأن يتثبت بعد ذلك من أن هذا الواجب يرقي في وعي الفرد أو في وعي الجماعة إلى مرتبة الالتزام الطبيعي، وأن يستوثق في النهاية من أن إقراره على هذا الوجه، لا يتعارض مع النظام العام هذا، وقد تشير بعض النصوص إلى تطبيقات من تطبيقات الالتزام الطبيعي . ومن ذلك ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 523 من المشروع، إذ قضت بأن الدين الذي ينقضي بالتقادم يتخلف عنه التزام طبیعی.
1- الإلتزام لا ينقضى بمجرد إكتمال مدة التقادم بل يظل إلتزاماً مدنياً واجب الوفاء إلى أن يدفع بتقادمه، فإذا إنقضى الإلتزام المدنى بالتقادم تخلف عنه إلتزام طبيعى فى ذمة المدين . ولما كان الثابت أن الطاعنين نزلوا عن التقادم بعد أن إكتملت مدته وقبل أن يرفعوا دعواهم التى تمسكوا فيها بإنقضاء الدين بالتقادم ، فإن مؤدى ذلك أن يبقى الإلتزام مدنياً ويلزم الطاعنين بأداء الدين ولا يتخلف عنه إلتزام طبيعى .
(الطعن رقم 349 لسنة 39 جلسة 1975/02/18 س 26 ع 1 ص 429 ق 88)
2- يشترط لاعتبار الدين بعد سقوطه التزاما طبيعيا أن لا يكون مخالفاً للنظام العام ، ولما كان التقادم فى المسائل الجنائية يعتبر من النظام العام فإنه إذا تكاملت مدته لايتخلف عنه أى التزام طبيعى ، وإذن فمتى كان الحكم قد قررأن دفع الغرامة من المحكوم عليه بعد سقوطها بالتقادم يعتبر بمثابة وفاء لدين طبيعى لايصح استرداده ، فإن هذا الحكم يكون قد خالف القانون
(الطعن رقم 6 لسنة 22 جلسة 1955/03/24 س 6 ع 2 ص 861 ق 113)
ويتبين من هذا النص أن البت فيما إذا كان واجب أدبي قد ارتقي إلي منزلة الالتزام الطبيعي أمر متروك تقديره إلي القاضي، هذا ما لم يوجد نص تشريعي يقضي في حالة معينة أن هناك التزاماً طبيعياً، فيجب إعمال النص، والقاضي، وهو يحدد الالتزامات الطبيعية في الحالات التي تعرض له، يبت في مسألة قانون يخضع فيها لرقابة محكمة النقض، ومسألة واقع لا يخضع فيها لهذه الرقابة.
أما مسألة القانون فهي تحديد العناصر التي يتكون منها الالتزام الطبيعي، وتكييف الوقائع الثابتة عنده تكييفاً قانونياً، ومطابقاً لما يجب توافره من العناصر على ما ثبت عنده من الوقائع مكيفاً التكييف القانوني الصحيح وهو في تحديده لعناصر الالتزام الطبيعي أقرب إلى المشرع منه إلى القاضي، إذ قد فوض له المشرع أن يقدر، عند عدم النص، ما إذا كان هناك التزام طبيعي ويستأنس في عمله بما استقر في القضاء والفقه، مستمداً تقديره من روح التشريع والعرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، لا باعتبارها مصادر مباشرة يجب الرجوع إليها عند انعدام النص، بل باعتبارها المصادر الطبيعية التي يسترشد بها القاضي مع وجود النص الذي يكل إليه أمر التقدير.
أما مسألة الواقع التي يبت فيها القاضي دون تعقيب عليه من محكمة النقض فهي تحصيل الوقائع الثابتة مما يقدم له من الأوراق والمستندات وغير ذلك من الأدلة.
عناصر الالتزام الطبيعي : ويمكن القول، استخلاصاً من النظرية الحديثة ومن الرجوع إلى نص التقنين المدني الذي سبق إيراده، إن للالتزام الطبيعي عناصر ثلاثة :
(العنصر الأول) واجب أدبي يتميز في نطاق محدد بحيث يكون قابلاً للتنفيذ فيخرج بذلك من دائرة الإبهام والغموض التي تغمر عادة منطقة الواجبات الأدبية إلي دائرة التحديد والوضوح التي تميز منطقة الالتزامات المدنية.
وهذا العنصر الأول هو العنصر المادي وفيه يسترشد القاضي بآداب الجيل من ناحية القابلية للتنفيذ في العمل.
(العنصر الثاني) إحساس المدين أن في ذمته التزاماً طبيعياً وليس من الضروري أن يكون هذا الإحساس قائماً فعلاً عند المدين بالذات، بل يكفي أن يكون من الواجب أن يقوم، وأن يدخل في الاعتبار المألوف عند الناس أن مثل هذا الواجب مما ينبغي أمام الضمير أن يؤدي ونرى من ذلك أن المعيار في العنصر الثاني موضوعي لا ذاتي، والعبرة فيه ليست بما يحس المدين فعلاً، بل بما ينبغي أن يحس، بوعي الجماعة أو وعي الفرد المجرد لا بوعي المدين بالذات وفي هذا ضبط للالتزام الطبيعي يستقر عنده التعامل.
وهذا العنصر الثاني هو العنصر المعنوي وفيه يسترشد القاضي بواجب الضمير من ناحية وعي الجماعة .
(العنصر الثالث ( عدم التعارض مع النظام العام : إذا اتفق المتعاقدان على سعر للفوائد يزيد على 7%، ودفع المدين للدائن هذه الفوائد وهو يحس أنه يقوم بتعهده، فإن ما دفعه من الفوائد زائداً على 7% لا يجوز مع ذلك أن يكون التزامًا طبيعياً، إذ هو يتعارض مع النظام العام، ويكون للمدين الحق في استرداد ما دفع من ذلك .
التزامات بدأت أدبية ثم أصبحت طبيعية : وهذه التزامات بدأت واجبات أدبية ثم ارتفعت منزلتها فأصبحت التزامات طبيعية، علي النقيض من الطائفة الأولي التي وصلت إلي مرتبة الالتزامات المدنية وانحدرت بعد ذلك إلى مرتبة الالتزامات الطبيعية. .
ومن الأمثلة علي هذه الطائفة الثانية من الالتزامات التزام شخص بتعويض شخص آخر عن الضرر غير المباشر الذي ألحقه به من جراء خطأ ارتكبه، أما التزامه بالتعويض عن الضرر المباشر فهذا التزام مدني مصدره العمل غير المشروع.
بعض حالات الالتزام الطبيعي:
التزامات بدأت مدنية ثم انقلبت طبيعية : هذه التزامات نشأت في الأصل التزامات مدنية، وعاقها مانع قانوني عن أن ترتب آثارها كما قدمنا، فتخلفت عنها التزامات طبيعية ومن هذه ما قام المانع القانوني فيه منذ نشأته ومنها ما نشأ التزاماً مدنياً صحيحاً وولد آثاره، ثم قام المانع القانوني بعد ذلك، فانقضى التزاماً مدنياً ليصبح التزاماً طبيعياً.
ومن أمثلة النوع الأول العقد القابل للإبطال لنقص في الأهلية . فإذا تعاقد القاصر ولم يلحق العقد الأجازة، كان له أن يطلب إبطال العقد فينقلب التزامه المدني التزامنا طبيعياً، إذا أداه عالماً مختاراً لم يستطع أن يسترده ويذكر عادة، كمثل آخر للنوع الأول عقد الهبة الباطل لعدم استبقاء الشكل، فقد نصت المادة 489 من التقنين المدني علي أنه " إذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلة لعيب في الشكل، فلا يجوز لهم أن يستردوا ما سلموه " جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي أن هذا النص إنما هو تطبيق لالتزام طبيعي تخلف عن الهبة الباطلة.
ومن أمثلة النوع الثاني الالتزام المدني إذا تقادم . فقد نشأ التزاماً مدنياً، وأنتج جميع آثاره . ثم قادم بعد ذلك مانع قانوني من بقائه التزاماً مدنياً، وهو التقادم الذي تمسك به المدين، فانقلب التزاماً طبيعياً، إذا أداه المدين مختاراً لم يستطع استرداده وقد ورد في هذا الحكم نص تشريعي صريح في التقنين المدني الجديد، هو الفقرة الأولي من المادة 386، وتقضي بأنه " يترتب علي التقادم انقضاء الالتزام، ومع ذلك يتخلف في ذمة المدين التزام طبيعي " . ومن أمثلة النوع الثاني أيضاً الالتزام المدني الذي لا يثبت في ذمة مدين وجهت إليه اليمين الحاسمة فحلفها، فإن الالتزام المدني في هذه الحالة لا يقضي به ولا يجبر المدين علي تنفيذه، ولكن إذا كانت ذمة المدين مشغولة به فعلا بالرغم من حلفه اليمين الحاسمة، فإنه ينقلب إلي التزام طبيعي، إذا أداه المدين مختاراً لم يستطع استرداده . وكذلك الحال في الالتزام المدني الذي صدر برفض الدعوى فيه حكم حاز حجية الأمر المقضي، فإنه إذا كانت ذمة المدين مشغولة به بالرغم من هذا الحكم انقلب التزاماً طبيعياً والصلح مع المدين المفلس، الذي يتفق بمقتضاه المدين مع دائنيه على قضاء بعض الديون المدنية في نظير انقضاء الباقي، يجعل هذا الباقي الذي انقضى بالصلح ينقلب التزاماً طبيعياً، إذا أداه الدائن مختاراً بعد ذلك لم يستطع استرداده. (الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء/ الثاني المجلد/ الثاني، الصفحة/ 953)
يشترط لتحقق الالتزام الطبيعى أن تتوافر العناصر الآتية : (1) واجب أدبى يتحدد بحيث يكون قابلاً للتنفيذ وهذا الواجب الأدبي أما ان يكون فى أصله التزاماً مدنياً ثم انقلب طبيعياً أو ان يكون منذ البداية واجباً أدبياً أصبح التزاماً طبيعياً لتوافره على العناصر الثلاثة لهذا الالتزام وقد يسترد القاضى بآدب الجيل لبيان القابلية للتنفيذ فى العمل. 2) أحساس للمدين أن فى ذمته التزاماً طبيعياً والعبرة بما ينبغى أن يحس به بوعى الجماعة أو بوعى الفرد المجرد .3 ) عدم التعارض مع النظام العام كالوفاء بدين قمار فيكون للمدين الحق فى استرداده، أو دفع فوائد أكثر من 7 فى المائة ومثل الالتزام الطبيعى التزام بتجهيز ابنته والتعويض عن الإغواء غير المصحوب بالغش .
وقد يكون الالتزام الطبيعي في أصله التزاماً مدنياً إعتراه مانع قانونى فأصبح التزاماً طبيعياً كالعقد القابل للابطال لنقص فى الأهلية – دون العقد القابل للابطال لعيب من عيوب الرضا إذ لايتخلف عن إبطاله التزام طبيعى - إذا تمسك القاصر بإبطاله وأبطل تخالف عنه التزام طبيعى وما نصت عليه المادة 489 مدنى بالنسبة لابطال الهبة التي لم تستوف الشكل، وما نصت عليه المادة 386 مدنى من أنه إذا تقادم الالتزام تخلف عنه التزام طبيعى متى دفع بالتقادم، وإن أدى المدين اليمين الحاسمة فلايجبر على تنفيذ التزامه ولكن إذا أداه كان ذلك وفاء بالتزام طبيعى ومثل ذلك رفض دعوى الدائن قبل المدين وصيرورة هذا الحكم نهائياً وبالرغم من ذلك إذا وفى المدين بالتزامه كان ذلك وفاء بالتزام طبيعى وكذلك الصلح مع المدين المفلس بما يسقط عنه جزء من الالتزام فإن وفى المدين بعد الصلح بهذا الجزء كان ذلك وفاء بالتزام طبيعي.
وقد يكون الالتزام الطبيعى فى أصله واجباً أدبياً ثم تأصل فى ضمير الجماعة فأصبح التزاماً طبيعياً، كالتعويض عن إغواء غير مصحوب بالغش أو عن معاشرة غير شرعية بعد انتهاء هذه المعاشرة فإن كان الإغواء بالغش كان التعويض بناء على التزام مدني وفقاً لأحكام المسئولية التقصيرية وكذلك يعتبر وفاء بالتزام طبيعى إثابة خادم اخلص للموفى أو وكيل أحسن تنفيذ الوكالة أو طبيب أنقذ حياة مريض والإنفاق على أقارب لا يوجب القانون على الموفى الإنفاق عليهم وكالتزام الأب بتجهيز إبنته أو بتقديم معونة مالية لابنه لمباشرة مهنة يرتزق منها وإنفاق المطلق على مطلقته بعد أن أصبحت غير قادرة على بدء حياة جديدة .
ويترتب على ذلك، أن الموفى لا يستطيع الرجوع في وفائه وإن التزم بالوفاء بمبلغ شهرى لمن كان يعاشرها معاشرة غير شرعية ولولده منها فإن هذا الالتزام بعد أن بدأ التزاماً طبيعياً قد إنقلب التزاماً مدنياً بتعهده كتابة بالوفاء به ومثال ذلك تعهد المخدوم لخادمه بالإنفاق عليه بعد قعوده وعجز عن العمل. (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الرابع، الصفحة/ 151 )
وقد ينص المشرع في بعض الحالات على وجود التزام طبیعی، وحينئذ لا تكون هناك سلطة تقديرية للقاضي في تقدير وجود الالتزام الطبيعي.
ومثل ذلك ما تنص عليه الفقرة الأولى من المادة 386 من أنه: "يترتب على التقادم انقضاء الالتزام ومع ذلك يتخلف في ذمة المدين التزام طبیعی"، وكذلك نص المادة 489 الواردة في الهبة من أنه "إذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلة لعيب في الشكل، فلا يجوز لهم أن يستردوا ما سلموه". وتدل الأعمال التحضيرية على أن المقصود بهذا النص اعتبار الهبة الباطلة شكلاً منشئة التزاماً طبيعياً في ذمة الواهب وورثته من بعده.
وفيما عدا الحالات التي يوجد فيها نص خاص على وجود التزام طبیعی يكون للقاضي سلطة تقدير وجود الالتزام الطبيعي في كل حالة على حدة.
ويؤخذ من استقراء الحالات التي قررت فيها المحاكم وجود التزام طبیعی، ضرورة توافر شروط ثلاثة في كل منها، هي :
1- وجود واجب أدبي يبلغ من التحديد من حيث محله ومن حيث تعیین طرفيه ما يجعله يشبه الالتزام القانوني من حيث صلاحيته للتنفيذ، سواء أكان هذا الواجب متخلفاً عن التزام مدنی لحقه البطلان أو الانقضاء دون وفاء، أم كان واجباً أدبياً بلغ من التحديد والقوة ما يرفعه إلى مرتبة الالتزام الطبيعي. فإذا كان واجب الإحسان إلى القريب مثلاً يعتبر واجباً أدبياً عاماً وغير محدد من حيث محله ومن حيث أطرافه، وبالتالي غير كاف لتقرير وجود التزام طبیعی في ذمة الشخص، فإنه إذا تحدد وتخصص بالنسبة إلى شخص معين، فإنه يصح اعتباره التزاماً طبيعياً. ومثل ذلك واجب الإحسان إلى شخص سبق أن أدى إلى آخر خدمات معينة، فإن هذا الواجب يقوم بين طرفين معينين هما الخادم والمخدوم ويتحدد محله بمكافأة تتناسب مع الخدمة السابقة، وذلك خلافاً لواجب الإحسان بوجه عام، فيصلح أن يكون أساساً لالتزام طبيعي إذا توافر فيه الشرطان الآخران.
2- اعتقاد المدين عند وفائه بهذا الواجب الأدبي أو عند تعهده بالوفاء به أن هذا الواجب قد بلغ من القوة الحد الذي يجعله التزاماً طبيعياً لا واجباً أدبياً فحسب.
ولا يكفي أن يكون هذا الإحساس قائماً فعلاً عند المدين فيما يحسه الفرد من وجوب الوفاء بواجب أدبي لا يرتفع بهذا الوصف إلى مرتبة الالتزام الطبيعي إذا لم يكن هذا هو الشعور الجماعي للبيئة التي يعيش فيها. فمثلاً من أحسن إلى جار فقير يعتبر متبرعاً ولو أعلن أنه لا يعتبر نفسه متبرعاً بل مؤدياً لالتزام طبیعی، بل ولو كان هذا الإعلان مطابقاً للحقيقة بسبب ما يتميز به من إحساس مرهف وعلى العكس يعتبر قيام الأب بتجهيز بناته عند الزواج تنفيذاً الالتزام طبیعی، لأنه استجابة لواجب خلقی تعارفت الجماعة على وجوب الوفاء به.
فالمعيار هنا موضوعي لا ذاتی، ويلاحظ أنه إذا كانت العبرة في وجود الالتزام الطبيعي بوعي الجماعة فإن آثار الالتزام الطبيعي - وهي لا تستبين إلا عند تنفيذه كما سنرى - لا تترتب عليه إلا إذا شارك الفرد الجماعة شعورها بإلزامه.
والعبرة باعتقاد المدين هذا وقت وفائه بالواجب الأدبي أو وقت تعهده بوفائه، وأنه لا عبرة بوجود هذا الاعتقاد أو عدمه طالما لم يحصل وفاء أو تعهد بالوفاء، لأن أمر وجود الالتزام الطبيعي أو عدمه لايثور إلا بعد حصول الوفاء أو التعهد وبمناسبة رغبة المدين أو ورثته في استرداد ما وفي أو في عدم تنفيذ ما تعهد به.
3- وجوب ألا يخالف الالتزام الطبيعي النظام العام : مهما اشتد إحساس الفرد أو الجماعة بأن واجباً أدبياً معيناً قد قوي حتى بلغ حد الالتزام الطبيعي، فإن هذا الإحساس لا يكفي لترتيب التزام طبیعی مادام قیام هذا الالتزام يخالف النظام العام. ومثل ذلك جميع الالتزامات التي تبطل لعدم مشروعية سببها كالالتزام بدفع رشوة لموظف لقاء عمل يدخل في حدود وظيفته، والالتزام بدفع مبلغ لشرير مأجور مقابل قتل إنسان، فإن إحساس الملتزم بأن الموظف الذي قام بالعمل المطلوب أو الشرير الذي نفذ القتل المتفق عليه يستحق منه المبلغ المتعهد به لا يصلح أساساً لقيام التزام طبیعی، لأن سببه مخالف للنظام العام.
وقد طبق المشرع ذلك في المادة 227 مدني الخاصة بتعيين حد أقصى للفوائد الاتفاقية حيث نص فيها على أنه إذا اتفق الطرفان على فوائد تزيد على هذا السعر وجب تخفيضها إلى 7% ويتعين رد ما دفع زائداً على هذا القدر، أي أنه جعل الاسترداد واجباً في كل حال سواء كان المدين قد دفع الزيادة مجبراً أو مختاراً، وسواء كان في هذه الحالة الأخيرة قاصداً وفاء دین طبيعي أو غير قاصد ذلك.
والوعد بتقديم مبلغ من المال لإيجاد علاقات غير شرعية باطل، ولا يمكن أن يترتب عليه التزام طبيعي. ومن ذلك أيضاً أن دين القمار والرهان لا يعتبر من ديون الشرف أو الالتزامات الطبيعية، إذ ينص التقنين المدني في المادة 2/739 على أنه: "ولمن خسر في مقامرة أو رهان أن يسترد ما دفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه ما خسره ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك. وله أن يثبت ما أداه بجميع الطرق" أي أن المشرع لم يعتبر دین القمار ديناً طبيعياً يمتنع استرداده بعد الوفاء به، لما رآه فيه من مخالفة للنظام العام. (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الثالث، الصفحة/ 340)
أقر المشرع المصرى ما جرت عليه الحاكم من تخويل القاضي سلطة تقرير وجود الالتزام الطبيعي في كل حالة على حدة، فنص في المادة 200 من التقنين المدني الحالي على أن «يقدر القاضي، عند عدم النص، ما إذا كان هناك التزام طبيعي وفي كل حالة لا يجوز أن يقوم التزام طبيعي يخالف النظام العام».
ويبين من هذا النص أنه يشير إلى حالات نص فيها المشرع على وجود التزام طبیعی ومن هذا القبيل نص المادة 386 فقرة أولى في باب التقادم وهو يقضي بأن يترتب على التقادم انقضاء الالتزام، ومع ذلك يتخلف في ذمة المدين التزام طبيعي وكذلك نص المادة 489 في باب الهبة وهو يقضي بأنه « إذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلة لعيب في الشكل، فلا يجوز لهم أن يستردوا ما سلموه»، وتدل الأعمال التحضيرية على أن المقصود بهذا النص اعتبار الهبة الباطلة شكلاً مشيئة التزاماً طبيعياً في ذمة الواهب وورثته من بعده.
وفيما عدا الحالات التي يوجد فيها نص خاص على وجود التزام طبيعي يكون للقاضي سلطة تقرير وجود الالتزام الطبيعي في كل حالة على حدة .
ويؤخذ من استقراء الحالات التي قررت فيها المحاكم وجود التزام طبیعی، ضرورة توافر شروط ثلاثة في كل منها، هي :
1) وجود واجب أدبي يبلغ من التحديد من حيث محله ومن حيث تعيين طرفيه ما يجعله يشبه الالتزام القانوني من حيث صلاحيته للتنفيذ، سواء أكان هذا الواجب متخلفاً عن التزام مدنی لحقه البطلان أو الانقضاء دون وفاء، أم كان واجباً أدبياً بلغ من التحديد ما يسمح برفعه إلى مرتبة الالتزام الطبيعي، فإذا كان واجب الإحسان إلى القريب مثلاً يعتبر واجباً أدبياً عاماً وغير محدد من حيث محله ومن حيث أطرافه، وبالتالى غير كاف لتقرير وجود التزام طبيعي في ذمة الشخص، فإنه إذا تحدد وتخصص بالنسبة إلى شخص معين، فإنه يصح اعتباره التزاماً طبيعياً، ومثل ذلك واجب الإحسان إلى شخص سبق أن أدى اليك خدمات معينة، فإن هذا الواجب يقوم بین طرفین معينين هما الخادم والمخدوم ويتحدد محله بمكافأة تتناسب مع الخدمة السابقة، وذلك خلافاً لواجب الإحسان بوجه عام، فيصلح أن يكون أساساً لالتزام طبیعی إذا توافر فيه الشرطان الآخران.
2) اعتقاد المدين عند وفائه بهذا الواجب الأدبي أو عند تعهده بالوفاء به أن هذا الواجب قد بلغ من القوة الحد الذي يجعله التزاماً طبيعياً لا واجباً أدبياً فحسب، ويستوي في ذلك أن يكون هذا الاعتقاد مبنياً على احساس المدين نفسه بقوة هذا الواجب أو أن يكون مبنياً على شعور المجتمع بوجه عام بهذه القوة.
ويلاحظ أن العبرة باعتقاد المدين هذا وقت وفائه بالواجب الأدبي أو وقت تعهده بوفائه، وأنه لا عبرة بوجود هذا الاعتقاد أو عدمه طالما لم يحصل وفاء أو تعهد بالوفاء، لأن أمر وجود الالتزام الطبيعي أو عدمه لا يثور إلا بعد حصول الوفاء أو التعهد وبمناسبة رغبة المدين أو ورثته في استرداد ما وفي أو في عدم تنفيذ ما تعهد به.
3) عدم مخالفة قيام الالتزام الطبيعي للنظام العام وقد نصت المادة 200 في عجزها صراحة على هذا الشرط، ومؤداه أنه مهما اشتد احساس الفرد أو الجماعة بأن واجباً أدبياً معيناً قد قوي حتى بلغ حد الالتزام الطبيعي، فإن هذا الإحساس لا يكفي لترتيب التزام طبیعی ما دام قيام هذا الالتزام يخالف النظام العام، ومثل ذلك جميع الالتزامات التي تبطل لعدم مشروعية سببها كالالتزام بدفع رشوة لموظف لقاء عمل يدخل في حدود وظيفته، والالتزام بدفع مبلغ لشرير مأجور مقابل قتل إنسان، فإن إحساس الملتزم بأن الموظف الذي قام بالعمل المطلوب أو الشرير الذي نفذ القتل المتفق عليه يستحق منه المبلغ المتعهد به لا يصلح أساساً لقيام التزام طبیعی، لأن سببه مخالف النظام العام.
وقد طبق المشرع ذلك في المادة 227 مدني الخاصة بتعيين حد أقصى للفوائد الاتفاقية حيث نص فيها على أنه إذا أتفق الطرفان على فوائد تزيد على هذا السعر وجب تخفيضها إلى 7% ويتعين رد ما دفع زائداً على هذا القدر، أي أنه جعل الاسترداد واجباً في كل حال سواء كان المدين قد دفع الزيادة مجبراً أو مختاراً، وسواء كان في هذه الحالة الأخيرة قاصداً وفاء دین طبيعي أو غير قاصد ذلك.
وقد اختلف الأمر فيما يتعلق بدین القمار، فذهب فريق من الشراح الفرنسيين - استناداً إلى نص المادة 1967 فرنسي - إلى أن لعب القمار ينشىء ديناً طبيعياً في ذمة الخاسر، ورأى آخرون عكس ذلك، وأخذت بالرأي الأول بعض أحكام المحاكم المصرية، وأخذت أحكام أخرى بالرأي العكسي، وقد قنن المشرع المصري هذا الرأي الأخير إذ نص في المادة 739 مدني على بطلان كل اتفاق خاص بمقامرة أو رهان، وعلى أن لمن خسر في مقامرة أو رهان أن يسترد ما دفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه ما خسره ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك، أي أن المشرع لم يعتبر دین القمار دیناً طبيعياً يمتنع استرداده بعد الوفاء به، وذلك لما رآه فيه من مخالفة للنظام العام .
ومتى توافرت هذه الشروط الثلاثة جاز للقاضي أن يعتبر ما أداه الشخص باختياره وفاء لالتزام طبیعی و أن يرتب على ذلك أثره . وظاهر أن وضع هذه السلطة في يد القاضي يسمح له بأن يدخل في دائرة القانون الكثير من الواجبات الأدبية التي يشعر المجتمع بضرورة رفعها إلى مرتبة الالتزامات الطبيعية، وأن ذلك من شأنه أن يجعل دائرة هذه استراحات أكثر مرونة واتساعاً مما كانت عليه في القانون الروماني أو في القانون الفرنسي القديم أو في فقه القرن الماضي. (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ السادس، الصفحة/ 21)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الحادي والعشرون ، الصفحة / 118
وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ السُّقُوطِ وَعَدَمِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَحِيحٍ وَغَيْرِ صَحِيحٍ .
أ - فَالدَّيْنُ الصَّحِيحُ: هُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ الَّذِي لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأْدَاءِ أَوِ الإْبْرَاءِ كَدَيْنِ الْقَرْضِ وَدَيْنِ الْمَهْرِ وَدَيْنِ الاِسْتِهْلاَكِ وَنَحْوِهَا.
ب - وَالدَّيْنُ غَيْرُ الصَّحِيحِ: هُوَ الدَّيْنُ الَّذِي يَسْقُطُ بِالأْدَاءِ أَوِ الإْبْرَاءِ وَبِغَيْرِهِمَا مِنَ الأْسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ سُقُوطَهُ مِثْلُ دَيْنِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِعَجْزِ الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَائِهِ.
__________________________________________________________________
المذكرة الإيضاحية للإقتراح بمشروع القانون المدني طبقا لاحكام الشريعة الإسلامية
( مادة ۲۱۲)
يقدر القاضي ، عند عدم النص، مااذا كان هناك التزام طبیعی • وفي كل حال لا يجوز أن يقوم الزام طبيعي يخالف النظام العام •
هذه الماده تطابق الماده ۲۰۰ من التفنين الحالي . .
و تطابق في حكمها المادة ۲۸۱ من التقنين الكويتي التي تنص على ما يأتي :« يقدر القاضي ، عند عدم النص ، متي يعتبر الواجب الادبي التزاما طبيعياً، مراعياً في ذلك الوعي العام في الجماعة وفي كل حال لا يجوز أن يقوم التزام طبيعي يخالف النظام العام ،.
وقد روعي في حكم النص المقترح أن فكرة الالتزام الطبيعي ، الى جانب فكرة النظام العام والاداب وفكرة التعسف في استعمال الحق ، تعتبر احدى المنافد التي ندخل منها العوامل الاجتماعية والاقتصادية والخلقية إلى النظام القانوني كي تلائم بينه وبين التطور الذي يتعرض له المجتمع في وقت معين ، وفي غير الحالات التي يتدخل فيها الشارع بمقتضى نصوص يأخذ فيها بمقضيات هذا التطور تقع على عاتق القاضي هذه الملاءمة . فالقاضي يكاد يكون شارك في هذا النطاق مهمة تحقيق وبقدر ما يخطر انقاضي في هذا السبيل ضيق مسافه الخلف بين القانون والاخلاق وعليه أن يستلهم في هذا الصدد روح الشريعة ومبادئها كي ينقل من نطاق الأخلاق والآداب الى نطاق الالتزام الطبیعی .