1- لما كان نص المادة 126 من قانون العقوبات قد جرى على أنه " كل موظف أو مستخدم عمومى أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف يعاقب بالأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى عشر سنوات ، وإذا مات المجنى عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل العمد " ، مما مفاده ضرورة توافر صفة المتهم فيمن يتعرض للتعذيب من الموظف العام إضافة إلى باقى شروط تطبيق النص القانونى سالف الإشارة 0 لما كان ذلك ، وكان الحكم المطعون فيه فيما أورده علي السياق المتقدم قد تشابهت عليه الأوصاف فبينما أورد فى مجال تحصيله لواقعة الدعوى اتهام المجنى عليه فى ارتكاب واقعة سرقة ، أورد عند رده على دفاع الطاعن الثانى بأن المجنى عليه قد أحاطت به الشبهات فى مساهمته فى واقعة سرقة ، وهناك فارق بيّن بين التعبيرين ، مما يشوب الحكم بالتناقض بشأن توجيه اتهام إلى المجنى عليه بارتكاب جريمة معينة ، ويدل على اختلال صورة الواقعة لدىالمحكمة وعدم استقرارها فى عقيدتها بما يجعلها فى حكم الوقائع الثابتة ويعجز بالتالى محكمة النقض عن مراقبة استخلاص محكمة الموضوع لتوافر شروط انطباق المادة 126 من قانون العقوبات سالفة الإشارة ، مما يوجب نقض الحكم المطعون فيه والإعادة.
(الطعن رقم 44817 لسنة 72 جلسة 2003/01/08 س 54 ص 85 ق 6)
2- المتهم فى حكم الفقرة الأولى من المادة 126 من قانون العقوبات هو كل من وجه إليه الإتهام بإرتكاب جريمة معينة و لو كان ذلك أثناء قيام مأمورى الضبط القضائي بمهمة البحث عن الجرائم و مرتكبيها و جمع الإستدلالات التى تلزم للتحقيق و الدعوى على مقتضى المادتين 21 و 29 من قانون الإجراءات الجنائية ما دامت قد حامت حوله شبهة أن له ضلعاً فى إرتكاب الجريمة التى يقوم أولئك المأمورون بجمع الإستدلالات فيها . و لا مانع من وقوع أحدهم تحت طائلة نص المادة 126 من قانون العقوبات إذا ما حدثته نفسه بتعذيب ذلك المتهم لحمله على الإعتراف أياً ما كان الباعث له على ذلك . و لا وجه للتفرقة بين ما يدلى به المتهم فى محضر تحقيق تجريه سلطة التحقيق و ما يدلى به فى محضر جمع الإستدلالات ما دام القاضى الجنائي غير مقيد بحسب الأصل بنوع معين من الدليل و له الحرية المطلقة فى إستمداده من أى مصدر فى الدعوى يكون مقتنعاً بصحته . و لا محل للقول بأن الشارع قصد حماية نوع معين من الإعتراف لأن ذلك يكون تخصيصاً بغير مخصص و لا يتسق مع إطلاق النص .
(الطعن رقم 1314 لسنة 36 جلسة 1966/11/28 س 17 ع 3 ص 1161 ق 219)
3- إن القانون لم يشترط لتوافر أركان جريمة تعذيب متهم بقصد حمله على الاعتراف المنصوص عليها فى المادة 126 من قانون العقوبات، أن يكون التعذيب قد أدى إلى إصابة المجني عليه، فمجرد إيثاق يديه خلف ظهره وتعليقه فى صيوان ورأسه مدلى لأسفل - وهو ما أثبته الحكم فى حق الطاعن من أقوال زوجة المجني عليه - يعد تعذيباً ولو لم يتخلف عنه إصابات.
(الطعن رقم 3351 لسنة 56 جلسة 1986/11/05 س 37 ع 2 ص 827 ق 160)
4- لما كان البين من الأوراق ان الطاعن الاول وان دفع فى مذكرة دفاعه المقدمة الى المحكمة بجلسة ....... ببطلان اعترافه بالتحقيقات لكونه وليد اكراه معنوى تمثل فى حبسه انفراديا بسجن طره ، الا انه مثل امام المحكمة بجلسة ....... وهى تالية لتقديم المذكرة - واعترف بقيامه باحضار المخدر المضبوط معه ليتعاطاه حتى لا يضطر الى شرائه من السوق ، وكان البين من المفرادات المضمومة ان اعترافه بالتحقيقات لا يخرج فى مضمونه عما اقر به بمحضر الجلسة وهو ما يفقد الدفع ببطلان اعترافه بالتحقيقات الذى اثاره فى مذكرة دفاعه جديته وتضحى المحكمة فى حل من الرد عليه . هذا فضلاً عن ان المادة 14 من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 396 لسنة 1956 فى شأن تنظيم السجون قد نصت على ان يقيم المحبوسون احتياطيا فى اماكن منفصلة عن اماكن غيرهم من المسجونين ....... واذ كان الطاعن لا يدعى وجود محبوسين احتياطيا اخرين فى السجن وقت حبسه ، فان حبسه انفراديا فى السجن - بفرض وقوعه - يغدو اجراء مشروعا ولا يمثل - تبعا لذلك - اكراها معنويا مبطلا لاعترافه ، ومن ثم فان دفعه ببطلان الاعتراف استنادا الى حبسه هذا لا يعدو ان يكون دفاعا قانونيا ظاهر البطلان ولا على المحكمة ان هى التفتت عنه ولم ترد عليه .
(الطعن رقم 18823 لسنة 65 جلسة 1997/11/12 س 48 ع 1 ص 1234 ق 187)
5- لما كان الحكم قد استدل على أن تعذيب المجني عليه قد ترك آثاراً بجسده مما أثبته المحقق العسكري بمحضره المؤرخ 16/3/1968 حين عدد شطراً من تلك الآثار، كما ردد الكشف الطبي الموقع عليه فى 3/4/1968 شطراً آخر منها وإن لم يجزم بسببها، ومن ثم فلا تثريب عليه إذا هو التفت عن التقرير الطبي الموقع على المجني عليه عند دخوله السجن فى 1/12/1965، الذي صمت عن الإشارة إلى تلك الآثار، لما هو مقرر من أن لمحكمة الموضوع أن تفاضل بين تقارير الخبراء وتأخذ منها بما تراه وتطرح ما عداه إذ أن ذلك أمر يتعلق بسلطتها فى تقدير الدليل ولا معقب عليه فيه. وإن لها أن تجزم بما لم يجزم به الخبير فى تقريره متى كانت وقائع الدعوى قد أيدت ذلك عندها وأكدته لديها. لما كان ذلك، وكان وزن أقوال الشاهد وتقدير الظروف التي يؤدي فيها شهادته وتعويل القضاء على أقواله مهما وجه إليها من مطاعن وحام حولها من شبهات مرجعه إلى محكمة الموضوع تنزله المنزلة التي تراها وتقدره التقدير الذي تطمئن إليه، وهي متى أخذت بشهادته فإن ذلك يفيد أنها أطرحت جميع الاعتبارات التي ساقها الدفاع لحملها على عدم الأخذ بها، كما لا يعيب الحكم تناقض أقوال الشاهد - على فرد حصوله - طالما أنه استخلص الإدانة من أقواله بما لا تناقض فيه، وكان لا مانع فى القانون من أن تأخذ المحكمة بالأقوال التي ينقلها شخص عن آخر متى اطمأنت إليها ورأت أنها صدرت حقيقة عمن رواها وكانت تمثل الواقع فى الدعوى - وهو الحال فى الدعوى المطروحة، فإن ما يثيره الطاعن من منازعة فى سلامة استناد الحكم إلى أقوال المجني عليه والشهود إنما ينحل فى حقيقته إلى جدل فى تقدير الدليل وهو ما لا تجوز إثارته أمام محكمة النقض. لما كان ذلك، وكان النعي بأن الحكم قد استدل على التعذيب كذلك برواية فريق انصبت على تعذيبهم هم، وبأقوال من توسطوا للإفراج عن المطعون ضده، وأنه أفاض دون حاجة فى الحديث عن الحبس بمبنى جهاز المخابرات ومسلكه حينذاك فى البطش والتعذيب وما حاق بغير المجني عليه، مردوداً، بما هو مقرر من أن لمحكمة الموضوع الحق فى أن تستخلص من أقوال الشهود وسائر العناصر المطروحة على بساط البحث الصورة الصحيحة لواقعة الدعوى حسبما يؤدي إليه اقتناعها، وأن تطرح ما يخالفها من صور أخرى ما دام استخلاصها سائغاً مستنداً إلى أدلة مقبولة فى العقل والمنطق ولها أصلها فى الأوراق، ولا يشترط أن تكون الأدلة التي اعتمد عليها الحكم بحيث ينبئ كل دليل منها ويقطع فى كل جزئية من جزئيات الدعوى إذ الأدلة فى المواد الجنائية متساندة يكمل بعضها بعضاً ومنها مجتمعة تتكون عقيدة المحكمة ولا ينظر إلى دليل بعينه لمناقشته على حدة دون باقي الأدلة بل يكفي أن تكون الأدلة فى مجموعها كوحدة مؤدية إلى ما قصده الحكم منها ومنتجة فى اقتناع المحكمة واطمئنانها إلى ما انتهت إليه، وإذ كان ما ساقه الحكم المطعون فيه وعول عليه من أقوال سائر الشهود - على ما سلف بيانه - ليس إلا استنتاجاً من المقدمات التي استظهرتها المحكمة، وهو مما يدخل فى سلطة القاضي الذي له أن يستخلص من وقائع الدعوى، وظروفها، ما يؤيد به اعتقاده فى شأن حقيقة الواقعة ما دام ما استخلصه سائغاً متفقاً مع الأدلة المطروحة وليس فيه إنشاء لواقعة جديدة أو دليل مبتدأ ليس له أصل فى الأوراق مما يصح أن يوصف بأنه قضاء بعلم القاضي ويكون النعي لذلك غير سديد .
(الطعن رقم 112 لسنة 48 جلسة 1978/04/24 س 29 ع 1 ص 457 ق 87)
6-القصد الجنائي المتطلب فى الجريمة المنصوص عليها بالمادة 126 من قانون العقوبات يتحقق كلما عمد الموظف أو المستخدم العمومى إلى تعذيب متهم لحمله على الإعتراف أياً كان الباعث له على ذلك ، و كان توافر هذا القصد مما يدخل فى السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع و التى تنآى عن رقابة محكمة النقض متى كان إستخلاصها سائغاً مستمداً من أوراق الدعوى
(الطعن رقم 2460 لسنة 49 جلسة 1980/11/13 س 31 ع 1 ص 979 ق 190)
7- لا يشترط لتطبيق نص المادة 126 من قانون العقوبات ، أن يكون الموظف العام الذى قام بتعذيب المتهم بقصد حمله على الاعتراف مختصاً بإجراءات الاستدلال أو التحقيق بشأن الواقعة المؤثمة التى ارتكبها المتهم أو تحوم حوله شبهة ارتكابها أو اشتراكه فى ذلك ، وإنما يكفى أن تكون للموظف العام سلطة بموجب وظيفته العامة تسمح له بتعذيب المتهم بقصد حمله على الاعتراف وأيا ما كان الباعث له على ذلك .
(الطعن رقم 5732 لسنة 63 جلسة 1995/03/08 س 46 ص 488 ق 75)
8- لا يلزم لمساءلة الطاعن عن موت المجنى عليه نتيجة التعذيب أن يكون الموت قد ثبت بدليل معين عن طريق الكشف على جثته و تشريحها .
(الطعن رقم 294 لسنة 50 جلسة 1980/05/29 س 31 ع 1 ص 692 ق 134)
9- لما كانت محكمة الجنايات قد قضت بحكمها المطعون فيه بمعاقبة الطاعن بالأشغال الشاقة عشر سنوات عن التهم المسندة إليه و هى تعذيب للمتهمين لحملهم على الإعتراف و هتك عرض أحدهم بالقوة ممن لهم السلطة عليه . لما كان ذلك و كانت المحكمة قد أثبتت فى حكمها وقوع هذه الجريمة الأخيرة من الطاعن و لم توقع عليه سوى عقوبة واحدة عن الجرائم التى دانته بها تطبيقاً للمادة 32 من قانون العقوبات و كانت العقوبة المقضى بها و هى الأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات تدخل فى نطاق العقوبة المقررة لجريمة هتك العرض المنصوص عليها فى المادة 1/268 ، 2 من قانون العقوبات و لم تكن فى ذاتها محل طعن من الطاعن فإنه لا تكون له مصلحة فيما ينعاه على الحكم فى خصوص عدم إنطباق المادة 126 من القانون المشار إليه .
(الطعن رقم 6533 لسنة 52 جلسة 1983/03/24 س 34 ص 432 ق 88)
10- لما كان الحكم قد أشار إلى أن ما قرره المجني عليه عند ضبطه فى الدعوى 10 لسنة 1965 أمن دولة عليا، بتاريخ 21/7/1965، أو عند استجوابه لا يرقى إلى مرتبة الاعتراف بجريمة التخابر، ولا يخرج فى مجموعه عن إقراره بالتكليف الصادر له من المسئولين بالاتصال بالسفارة الأمريكية وتبليغهم بما يحصل عليه من معلومات دون ثمة إشارة لما قدمه هو من معلومات إلى ضابط المخابرات الأمريكية حتى يمكن تقويمها من حيث مدى مساسها بمركز البلاد، وذلك على نقيض إقراره الكتابي الذي تضمن باستفاضة كل ما دار بينه وبين الضابط الأمريكي مطابقاً فى ذلك فحوى التسجيلات الصوتية التي كانت فى حوزة جهاز المخابرات وتراخي تقديمها إلى ما بعد تقديم هذا الإقرار لتحصينها من البطلان، وهو ما يؤكد قالة المجني عليه بأنه كان يدون ما يملى عليه، حتى أصبح هذا الإقرار لا يتفق سواء من حيث مظهره وطريقة كتابته وما حواه بإطناب مع القول بأنه كان تسجيلاً لتوبة أو التماساً لصفح، وقد خلص الحكم مما أسلفه من الظروف والقرائن إلى قوله: "إن الالتماس المذكور ما هو فى حقيقته إلا إقراراً صريحاً لا لبس فيه من المجني عليه - المتهم فى القضية 10 سنة 1965 جنايات أمن دولة عليا - على نفسه باتصاله بأجنبي ومده بمعلومات اعتبرها الحكم الصادر فى القضية المذكورة ضارة بالمركز السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والحربي للبلاد، مما يعتبر نصاً على اقتراف الجريمة وليس قاصراً على واقعة التكليف والعلم دون غيرهما، وقد وصفه الحكم المذكور بأن المجني عليه يعترف فيه صراحة بكل ما حدث بينه وبين ... ... وهذا دليل قد جاء على لسانه بأنه كان يتخابر ولا يعتد فى هذا المقام بما قرره المجني عليه من أن السبب فى تعذيبه كان بقصد ألا يذكر علم المسئولين باتصالاته طالما أنه قد ثبت للمحكمة أن فكرة تحرير الإقرار لم تنبع أصلاً من المجني عليه وإنما كانت بناء على طلب المتهم الأول "الطاعن" على أن يكون فى صورة التماس إلى الرئيس السابق وأن المجني عليه لم يحرره طواعية واختيارا بمطلق إرادته وإنما كان تحريره له رضوخاً منه ودفعاً لما وقع عليه من تعذيب لم يطقه تم بأمر المتهم الأول الذي يعلم بالاتهام المسند إلى المجني عليه ... ... ...، لما كان ذلك وكان توافر القصد الجنائي مما يدخل فى السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع والتي تنأى عن رقابة محكمة النقض متى كان استخلاصها سليماً مستمداً من أوراق الدعوى وكان من المقرر أن للمحكمة أن تستنبط من الوقائع والقرائن ما تراه مؤدياً عقلاً إلى النتيجة التي انتهت إليها، وأنه لا يشترط فى الدليل أن يكون صريحاً دالاً بنفسه على الواقعة المراد إثباتها بل يكفي أن يكون ثبوتها منه عن طريق الاستنتاج مما تكشف للمحكمة من الظروف والقرائن وترتيب النتائج على المقدمات، فإن الحكم المطعون فيه يكون، للأسباب السائغة التي أوردها، استخلاصاً من ظروف الدعوى وما توحي به ملابساتها قد أصاب صحيح القانون إذ دان الطاعن بجناية الأمر بتعذيب متهم لحمله على الاعتراف، وهو ما لا محل معه من بعد للتحدي بأن ما اقترفه هو جنحة استعمال القسوة التي سقطت بالتقادم .
(الطعن رقم 112 لسنة 48 جلسة 1978/04/24 س 29 ع 1 ص 457 ق 87)
11- لما كان الدفع ببطلان الاعتراف لصدوره وليد إرادة منعدمة غير واعية وتحت تأثير المخدر هو دفاع جوهرى - فى خصوصية هذه الدعوى وفق الصورة التى إعتنقتها المحكمة - يتضمن المطالبة الجازمة بتحقيقه عن طريق المختص فنياً - وهو الطبيب الشرعى - ولا يقدح فى هذا أن يسكت الدفاع عن طلب دعوة أهل الفن صراحة، وكان الحكم المطعون فيه قد إستند - من بين ما إستند إليه - فى إدانة الطاعن إلى إعترافه ، وإكتفى على السياق المتقدم - بالرد على الدفع بما لا يواجهه وينحسم به أمره ويستقيم به إطراحه، ودون أن يعنى بتحقيق هذا الدفاع عن طريق المختص فنياً، فإن الحكم فوق قصوره يكون منطوياً على الإخلال بحق الدفاع.
(الطعن رقم 9367 لسنة 65 جلسة 1997/07/21 س 48 ع 1 ص 786 ق 121)
( الطعن رقم 29020 لسنة 59 ق - جلسة 1998/02/08 - س 49 ص 188 ق 28 )
( ملحوظة من مركز الراية للدراسات القانونية : بموجب القانون رقم 95 لسنة 2003 تم استبدال عقوبة السجن المؤبد والسجن المشدد بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة والأشغال الشاقة المؤقتة على الترتيب . )
أركان الجريمة :
يتكون النموذج الإجرامي المنصوص عليه في المادة 126 من قانون العقوبات من الأركان الآتية : (أ) وقوع تعذيب مادي أو معنوي. (ب) وقوع هذا التعذيب من موظف أو مستخدم عام. (ج) أن يكون القصد من التعذيب هو حمل المتهم على الاعتراف.
وفيما يلي تفصيل لازم لكل ركن :
(أ) وقوع تعذيب مادي أو معنوي على متهم :
المراد بكلمة التعذيب هو الإيذاء البدني المتضمن لمعنى الانتزاع والاعتصار والاستخراج بقوة وهي تعبر عن معنى معیاری لعدوان بدنی يختلف باختلاف الظروف و البيئات والأزمنة ولكن يلاعم فكرة الانتزاع والاعتصار والاستخراج بقوة ويتمشى دائماً معها و عبارة العدوان البدني يتسع للضرب والجرح والتقييد بالأغلال والحبس والتعريض للهوان والحرمان من الطعام أو من النوم أو من ما شابه ذلك من سائر ألوان الإيذاء والحرمان ولم يعرف القانون معنى التعذيب تاركا للفقه والقضاء أمر تحديد هذا المفهوم ويلاحظ أنه لا يشترط أن يكون التعذيب بدنياً أي أن ينصب على جسد المجني عليه بل يمكن أن يكون التعذيب معنوياً متجهاً إلى إذلال النفس بقصد حملها على الاعتراف.
وفي الواقع فإن التعذيب المعنوي هو إيذاء وإيلام نفسي للمجتمع بل قد يصل إلى حد إذلاله وتدميره نفسياً كما لو تمثل ذلك في "إلباس الرجال ملابس النساء وأمرهم بالتسمي بأسماء النساء أو بوضع ألجمة الخيل على أفواههم وذلك على مرأى ومسمع من أهليهم وذويهم أو يجر نساءهم أمامهم وتعدیدهم بهتك أعراضهن على مرأى ومسمع منهم بل أن التعذيب المعنوي بهذه الصورة قد ينطوي في بعض الحالات على أكثر من جريمة واحدة. ولم يشترط المشرع درجة معينة من الجسامة التحقيق مفهوم التعذيب وقد استقرت محكمة النقض سواء في قضاءها الحديث أو في قضاءها القديم على عدم اشتراط درجة معينة من الجسامة في التعذيبات البدنية.
والقانون لم يعرف المتهم في أي نص من نصوصه فيعتبر متهماً كل من وجهت إليه تهمة من أي جهة كانت وإن كان هذا التوجيه حاصلاً من المدعي المدني وبغير تدخل النيابة وإذن فلا مانع قانوناً من أن يعتبر الشخص متهما أثناء قيام رجال الضبطية القضائية بمهمة جمع الاستدلالات التي يجرونها طبقاً لصحيح القانون مادامت قد أحاطت حوله شبهة أن له ضلعاً في ارتكاب الجريمة التي يكون أولئك الرجال بجمع الاستدلال فيها ولا مانع من وقوع أحد أولئك الرجال تحت طائلة المادة 126 إذ حدثته نفسه بتعذيب ذلك المتهم لحمله على الاعتراف أياً كان الباعث له على ذلك . وعلى ذلك فإن كلمة المتهم في حكم المادة 126 من قانون العقوبات تشمل كل شخص تحركت نحوه أي سلطة مدفوعة بالاشتباه في ارتكاب جريمة معينة بالذات أو بالنوع يمكن أن يكون اقراره على نفسه وبما أريد حمله على الإقرار به مؤدياً إلى محاكمته جنائياً وإن لم يؤدي إليها بالفعل- ولايعتبر متهما من وجهت إليه مسئولية تأديبية عن خطأ تأديبي ليس له أي وجه جنائي أو مسئولية مدنية عن خطأ مدني لايمكن أن تبني عليه أي مسئولية جنائية .
(ب) وقوع التعذيب من موظف أو مستخدم عام :
يشترط أن يقع التعذيب من موظف أو مستخدم عام سواء منه مباشرة أي قارف أعمال التعذيب بنفسه. أو بواسطة غيره بأن يأمره مع مراعاة أن سكوت الموظف أو المستخدم عن وقوع التعذيب تحت بصره ودون أن يمنعه قد يتخذ في بعض الظروف دليلاً موضوعياً على أن التعذيب حدث بأمره وتنفيذاً لتعليماته وأوامره خاصة إذا كان يملك سلطة رئاسية على الشخص الذي ارتكب هذه الأفعال.
وكلمة موظف أو مستخدم هنا تؤخذ بأوسع معانيها فتشمل فيما تشمله العمد والمشايخ والخفراء ومشايخهم كما تشمل رجال الشرطة من أدنى رتبهم على أعلاها. والقانون هنا يلاحظ الصفة و يشترطها فيجب أن يقع التعذيب من الموظف أو المستخدم أثناء عمله أو بسبب عمله لأنه في غير ذلك لا يكون موظفاً إلا على المجاز. ولم تصرح المادة 126 بهذا القيد لأنه قيد مفهوم من طبيعة الجريمة ومن طائفة الجرائم التي تندرج معها في الباب السادس من الكتاب الثاني من قانون العقوبات .
(ج) القصد من التعذيب هو حمل المتهم على الاعتراف :
يشترط لقيام جريمة التعذيب توافر قصد جنائى خاص قوامه انصراف نية الجاني إلى حمل المتهم على الاعتراف بدون توافر هذا القصد لا تقوم جريمة التعذيب وعلى ذلك إذا كان قصد الموظف أو المستخدم من التعذيب هو الانتقام أو التلذذ من الإيذاء دون حمل المتهم على الاعتراف فلا تقوم هذه الجريمة وإنما تقوم جريمة استعمال القسوة المنصوص عليها في المادة 129 من قانون العقوبات إذا توافرت شروطها.
ولا يشترط القانون لتوافر الجريمة المنصوص عليها في المادة 126 عقوبات حصول الاعتراف فعلاً لأن حصوله أو عدم حصوله لا يؤثر في قيام الجريمة متى توافر لدى الموظف أو المستخدم قصد الحصول على هذا الاعتراف أما إذا وقع التعذيب بعد صدور الاعتراف من المتهم فلا مجال لتطبيق المادة المذكورة لعدم تحقق القصد الجنائي وهو حمل المتهم على الاعتراف. وإذا عذب المتهم بعد عدوله عن اعتراف لحمله على إعادة الاعتراف فيخضع الموظف أو المستخدم الذي قام بهذا التعذيب لذلك الغرض تحت طائلة المادة 126 عقوبات. ولايشترط في الاعتراف أن يكون قراراً قضائياً ولا أن يكون إجراء من إجراءات التحقيق ولا أن يكون قد سبقه أو عاصره استجواب فمحاولة الحصول على أي قرار من المتهم على نفسه بمساهمته في جريمة معاقب عليها ولو كان المراد أن يجئ الإقرار على صورة أخبار للسلطات كما لا يؤثر أيضاً على قيام جريمة التعذيب أن يكون المطلوب هو الإقرار على الغير متى كان ذلك يتضمن حتماً الإقرار على النفس سواء بارتكاب الجريمة كلها أو بعضها .
ويجب أن يلاحظ أن فكرة التعذيب هي وقصد الحصول على الاعتراف يتبادلان المنافع فإذا توافر قصد الحصول على الاعتراف كان ذلك مرجحاً لفكرة التعذيب وكذلك إذا وضحت فكرة التعذيب كان وضوحها معيناً على القول بتوفير ذلك القصد الخاص .
العقوبة :
يعاقب الجاني بالسجن المشدد أو السجن من ثلاثة سنين إلى عشر وإذا مات المجني عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل العمد.
ويترتب على الحكم بهذه العقوبة عزل الموظف من وظيفته كعقوبة تبعية طبقاً للمادة 25 من قانون العقوبات - وإذا رأت المحكمة في حدود سلطتها التقديرية استعمال نص المادة 17 من قانون العقوبات النزول بالعقوبة إلى الحبس فإنه يتعين هنا أعمال نص المادة 27 من قانون العقوبات والتي توجب على المحكمة الحكم على المتهم بالعزل مدة لا تنقص عن ضعف مدة الحبس المحكوم بها عليه. ويلاحظ أن عقوبة الحبس هنا أعمالاً لنص المادة 17 عقوبات لا يجوز أن تنقص عن ستة شهور. وعلى ذلك فإن العزل في هذه الحالة لا يجوز أن ينقص عن سنة و يتسق ذلك أيضا مع نص المادة 26 عقوبات. وطالما استعملت المحكمة الرخصة المخولة لها بمقتضى نص المادة 17 عقوبات ونزلت بالعفوية إلى حد الحبس فإنه يجوز لها أن تشمل حكمها بالإيقاف إذا رأت من ظروف المتهم وملابسات الدعوى ما يبرر استعمال نص المادتين 55 ، 56/ 1 من قانون العقوبات.
عدم انقضاء الدعوى الجنائية بالتقادم :
نصت المادة 57 من الدستور المصري 1971 (ويقابلها نص المادة 52 من دستور 2014) على أن " كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكلفها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء" وأعمالاً لهذا النص الدستوري فقد أضيفت للمادة 15 من قانون الإجراءات الجنائية فقرة ثانية بموجب القانون رقم 63 لسنة 1975 والمنشور في الجريدة الرسمية في 31/ 7/ 1975 - العدد 31 نصها " أما في الجرائم المنصوص عليها في المواد 117، 126، 127، 282، 309 مكرراً ، 309 مكرراً (أ) من قانون العقوبات والتي تقع بعد تاريخ العمل بهذا القانون فلا تنقضي الدعوى الجنائية الناشئة عنها بمضي المدة.(موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثاني، الصفحة : 546)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة: 199
(مادة 396)
يعاقب بالسجن المؤبد أو المؤقت كل موظف عام أو مكلف بخدمة عامة، استعمل التعذيب أو القوة أو التهديد بنفسه أو بواسطة غيره قبل متهم أو شاهد أو خبير؛ لحمله على الإعتراف بجريمة، أو على الإدلاء بأقوال أو معلومات في شأنها.
وتكون العقوبة الإعدام أو السجن المؤبد، إذا أفضى التعذيب أو القوة أو التهديد إلى الموت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس ، الصفحة / 98
إِكْرَاهٌ
التَّعْرِيفُ:
قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَكْرَهْتُهُ، حَمَلْتُهُ عَلَى أَمْرٍ هُوَ لَهُ كَارِهٌ - وَفِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ نَحْوُهُ - وَمَضَى صَاحِبُ اللِّسَانِ يَقُولُ: وَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكُرْهَ وَالْكَرْهَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي فَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: وَلاَ أَعْلَمُ بَيْنَ الأْحْرُفِ الَّتِي ضَمَّهَا هَؤُلاَءِ وَبَيْنَ الَّتِي فَتَحُوهَا فَرْقًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلاَ فِي سُنَّةٍ تُتَّبَعُ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: الْكَرْهُ (بِالْفَتْحِ): الْمَشَقَّةُ، وَبِالضَّمِّ: الْقَهْرُ، وَقِيلَ: (بِالْفَتْحِ) الإْكْرَاهُ، « وَبِالضَّمِّ » الْمَشَقَّةُ. وَأَكْرَهْتُهُ عَلَى الأْمْرِ إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ قَهْرًا. يُقَالُ: فَعَلْتُهُ كَرْهًا « بِالْفَتْحِ » أَيْ إِكْرَاهًا – وَعَلَيْهِ قوله تعالى (طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) فَجَمَعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.
وَلَخَصَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فُقَهَاؤُنَا إِذْ قَالُوا: الإِْكْرَاهُ لُغَةً: حَمْلُ الإْنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ، يُقَالُ: أَكْرَهْتُ فُلاَنًا إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ.وَالْكَرْهُ « بِالْفَتْحِ » اسْمٌ مِنْهُ (أَيِ اسْمُ مَصْدَرٍ).
أَمَّا الإْكْرَاهُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ: فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ، فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ.
وَعَرَّفَهُ الْبَزْدَوِيُّ بِأَنَّهُ: حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِلُ عَلَى إِيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ.
أَوْ هُوَ: فِعْلٌ يُوجَدُ مِنَ الْمُكْرِهِ (بِكَسْرِ الرَّاءِ) فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَلِّ (أَيِ الْمُكْرَهِ بِفَتْحِ الرَّاءِ) مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إِلَى الْفِعْلِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ، فَسَّرُوهُ بِالْخَوْفِ، وَلَوْ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْحُكَّامُ الظَّلَمَةُ بِالْمُتَّهَمِينَ كَيْدًا. فَإِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ الْحَيَاءَ مَثَلاً، أَوِ التَّوَدُّدَ، فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ.
وَالْفِعْلُ - فِي جَانِبِ الْمُكْرِهِ (بِكَسْرِ الرَّاءِ) لَيْسَ عَلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مِنْ خِلاَفِ الْقَوْلِ، وَلَوْ إِشَارَةَ الأْخْرَسِ، أَوْ مُجَرَّدَ الْكِتَابَةِ، بَلْ هُوَ أَعَمُّ، فَيَشْمَلُ التَّهْدِيدَ - لأِنَّهُ مِنْ عَمَلِ اللِّسَانِ - وَلَوْ مَفْهُومًا بِدَلاَلَةِ الْحَالِ مِنْ مُجَرَّدِ الأْمْرِ: كَأَمْرِ السُّلْطَانِ أَوِ الأْمِيرِ، وَأَمْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَأَمْرِ الْخَانِقِ الَّذِي يَبْدُو مِنْهُ الإْصْرَارُ.
وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: أَمْرُ السُّلْطَانِ إِكْرَاهٌ - وَإِنْ لَمْ يَتَوَعَّدْ - وَأَمْرُ غَيْرِهِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ تَضَمُّنَهُ التَّهْدِيدَ بِدَلاَلَةِ الْحَالِ.
وَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ يُسَوُّونَ بَيْنَ ذَوِي الْبَطْشِ وَالسَّطْوَةِ أَيًّا كَانُوا، وَصَاحِبُ الْمَبْسُوطِ نَفْسُهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُتَجَبِّرِينَ التَّرَفُّعَ عَنِ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُعَاقِبُونَ مُخَالِفِيهِمْ إِلاَّ بِهِ.
ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ - فِعْلٌ وَاقِعٌ عَلَى الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) نَفْسِهِ - وَلَوْ كَانَ تَهْدِيدًا بِأَخْذِ أَوْ حَبْسِ مَالِهِ الَّذِي لَهُ وَقْعٌ، لاَ التَّافِهِ الَّذِي لاَ يُعْتَدُّ بِهِ، أَوْ تَهْدِيدًا بِالْفُجُورِ بِامْرَأَتِهِ إِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا.وَيَسْتَوِي التَّهْدِيدُ الْمُقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ الْمُهَدَّدِ بِهِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَخَذَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَغَطَّهُ فِي الْمَاءِ لِيَرْتَدَّ، وَالتَّهْدِيدُ الْمُجَرَّدُ، خِلاَفًا لِمَنْ لَمْ يَعْتَدَّ بِمُجَرَّدِ التَّهْدِيدِ، كَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاعْتَمَدَهُ. الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، تَمَسُّكًا بِحَدِيثِ عَمَّارٍ هَذَا، وَاسْتَدَلَّ الآْخَرُونَ بِالْقِيَاسِ حَيْثُ لاَ فَرْقَ، وَإِلاَّ تَوَصَّلَ الْمُعْتَدُونَ إِلَى أَغْرَاضِهِمْ - بِالتَّهْدِيدِ الْمُجَرَّدِ - دُونَ تَحَمُّلِ تَبَعَةٍ، أَوْ هَلَكَ الْوَاقِعُ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّهْدِيدُ إِذَا رَفَضُوا الاِنْصِيَاعَ لَهُ، فَكَانَ إِلْقَاءً بِالأْيْدِي فِي التَّهْلُكَةِ، وَكِلاَهُمَا مَحْذُورٌ لاَ يَأْتِي الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ. بَلْ فِي الأْثَرِ عَنْ عُمَرَ - وَفِيهِ انْقِطَاعٌ - مَا يُفِيدُ هَذَا التَّعْمِيمَ: ذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً فِي عَهْدِهِ تَدَلَّى يَشْتَارُ (يَسْتَخْرِجُ) عَسَلاً، فَوَقَفَتِ امْرَأَتُهُ عَلَى الْحَبْلِ، وَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلاَثًا، وَإِلاَّ قَطَعْتُهُ، فَذَكَّرَهَا اللَّهَ وَالإْسْلاَمَ، فَقَالَتْ: لَتَفْعَلَنَّ، أَوْ لأَفْعَلَنَّ، فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا. وَرُفِعَتِ الْقِصَّةُ إِلَى عُمَرَ، فَرَأَى طَلاَقَ الرَّجُلِ لَغْوًا، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَرْأَةَ وَلِذَا اعْتَمَدَ ابْنُ قُدَامَةَ عَدَمَ الْفَرْقِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلِ رَجُلٍ لاَ يَمُتُّ إِلَى الْمُهَدَّدِ بِسَبَبٍ، إِنْ هُوَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَكَانِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ يُرَادُ لِلْقَتْلِ، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَكُونُ إِكْرَاهًا، حَتَّى لَوْ أَنَّهُ وَقَعَتِ الدَّلاَلَةُ مِمَّنْ طُلِبَتْ مِنْهُ، ثُمَّ قُتِلَ الشَّخْصُ الْمَذْكُورُ، لَكَانَ الدَّالُّ مُعِينًا عَلَى هَذَا الْقَتْلِ عَنْ طَوَاعِيَةٍ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَالْمُعِينُ شَرِيكٌ لِلْقَاتِلِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، بِشَرَائِطَ خَاصَّةٍ - وَذَهَبَ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ إِلَى أَنَّ التَّهْدِيدَ فِي أَجْنَبِيٍّ إِكْرَاهٌ فِي الأْيْمَانِ، وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ رَجَبٍ.
وَالْفِعْلُ، فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ)، هُوَ أَيْضًا أَعَمُّ مِنْ فِعْلِ اللِّسَانِ وَغَيْرِهِ، إِلاَّ أَنَّ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ لاَ تَقْبَلُ الإْكْرَاهَ، فَيَشْمَلُ الْقَوْلَ بِلاَ شَكٍّ.
وَفِيمَا يُسَمِّيهِ فُقَهَاؤُنَا بِالْمُصَادَرَةِ فِي أَبْوَابِ الْبُيُوعِ وَمَا إِلَيْهَا، الْفِعْلُ الَّذِي يُطْلَبُ مِنَ الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) دَفْعُ الْمَالِ وَغَرَامَتُهُ، لاَ سَبَبُ الْحُصُولِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ - كَاسْتِقْرَاضٍ - فَيَصِحُّ السَّبَبُ وَيَلْزَمُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ مَخْلَصَ لَهُ إِلاَّ بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمُكْرِهَ (بِالْكَسْرِ) لَمْ يُعَيِّنْهُ لَهُ فِي إِكْرَاهِهِ إِيَّاهُ. وَلِذَا قَالُوا: إِنَّ الْحِيلَةَ فِي جَعْلِ السَّبَبِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ - أَنْ يَقُولَ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) مِنْ أَيْنَ أَتَى بِالْمَالِ، فَإِذَا عَيَّنَ لَهُ الْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) سَبَبًا، كَأَنْ قَالَ لَهُ: بِعْ كَذَا، أَوْ عِنْدَ ابْنِ نُجَيْمٍ اقْتَصَرَ عَلَى الأْمْرِ بِالْبَيْعِ دُونَ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ، وَقَعَ هَذَا السَّبَبُ الْمُعَيَّنُ تَحْتَ طَائِلَةِ الإْكْرَاهِ.
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلاَّ الْمَالِكِيَّةُ - بِاسْتِثْنَاءِ ابْنِ كِنَانَةَ وَمُتَابِعِيهِ - إِذْ جَعَلُوا السَّبَبَ أَيْضًا مُكْرَهًا عَلَيْهِ بِإِطْلاَقٍ.
وَيَشْمَلُ التَّهْدِيدَ بِإِيذَاءِ الْغَيْرِ، مِمَّنْ يُحِبُّهُ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّهْدِيدُ - عَلَى الشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الإْكْرَاهُ مِنْ أَسْبَابِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ - بِشَرِيطَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
الْمَحْبُوبُ رَحِمًا مَحْرَمًا، أَوْ - كَمَا زَادَ بَعْضُهُمْ - زَوْجَةً.
وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يُقَيِّدُونَهُ بِأَنْ يَكُونَ وَلَدًا وَإِنْ نَزَلَ، أَوْ وَالِدًا وَإِنْ عَلاَ. وَالشَّافِعِيَّةُ - وَخَرَّجَهُ صَاحِبُ الْقَوَاعِدِ الأْصُولِيَّةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - لاَ يُقَيِّدُونَهُ إِلاَّ بِكَوْنِهِ مِمَّنْ يَشُقُّ عَلَى الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) إِيذَاؤُهُ مَشَقَّةً شَدِيدَةً كَالزَّوْجَةِ، وَالصَّدِيقِ، وَالْخَادِمِ. وَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ. حَتَّى لَقَدِ اعْتَمَدَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مِنَ الإْكْرَاهِ مَا لَوْ قَالَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ، أَوِ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ (دُونَ غَيْرِهِمَا): طَلِّقْ زَوْجَتَكَ، وَإِلاَّ قَتَلْتُ نَفْسِي، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَالَ: وَإِلاَّ كَفَرْتُ، لأِنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْحَالِ.
وَفِي التَّقْيِيدِ بِالْوَلَدِ أَوِ الْوَالِدِ نَظَرٌ لاَ يَخْفَى.
كَمَا أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى نَحْوِ الإْلْقَاءِ مِنْ شَاهِقٍ، أَيِ: الإِْلْجَاءِ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمُنَافِي لِلْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ - وَجَارَاهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - اكْتَفُوا بِظَنِّ الضَّرَرِ مِنْ جَانِبِ الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَعِبَارَتُهُمْ: يَكُونُ (أَيِ الإْكْرَاهُ) بِخَوْفِ مُؤْلِمٍ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرِّضَا وَالاِخْتِيَارُ:
الرِّضَا لُغَةً: الاِخْتِيَارُ. يُقَالُ: رَضِيتُ الشَّيْءَ وَرَضِيتُ بِهِ: اخْتَرْتُهُ.
وَالاِخْتِيَارُ لُغَةً: أَخْذُ مَا يَرَاهُ خَيْرًا.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الرِّضَا وَالاِخْتِيَارِ، لَكِنْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا.
فَالرِّضَا عِنْدَهُمْ هُوَ: امْتِلاَءُ الاِخْتِيَارِ وَبُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إِلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ وَنَحْوِهَا.
أَوْ هُوَ: إِيثَارُ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانُهُ.
وَالاِخْتِيَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: الْقَصْدُ إِلَى مَقْدُورٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ جَانِبَيْهِ عَلَى الآْخَرِ.
أَوْ هُوَ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ وَإِرَادَتُهُ.
حُكْمُ الإْكْرَاهِ:
الإْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَيْسَ مُحَرَّمًا فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ إِحْدَى الْكَبَائِرِ، لأِنَّهُ أَيْضًا يُنْبِئُ بِقِلَّةِ الاِكْتِرَاثِ بِالدَّيْنِ، وَلأِنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: « يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا ».
شَرَائِطُ الإْكْرَاهِ
الشَّرِيطَةُ الأْولَى:
قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) عَلَى إِيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ، لِكَوْنِهِ مُتَغَلِّبًا ذَا سَطْوَةٍ وَبَطْشٍ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُلْطَانًا وَلاَ أَمِيرًا - ذَلِكَ أَنَّ تَهْدِيدَ غَيْرِ الْقَادِرِ لاَ اعْتِبَارَ لَهُ.
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ:
خَوْفُ الْمُكْرَهِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) مِنْ إِيقَاعِ مَا هُدِّدَ بِهِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي تَحَقُّقِ الإْكْرَاهِ إِذَا كَانَ الْمَخُوفُ عَاجِلاً. فَإِنْ كَانَ آجِلاً، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالأْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَحَقُّقِ الإْكْرَاهِ مَعَ التَّأْجِيلِ. وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإْكْرَاهَ لاَ يَتَحَقَّقُ مَعَ التَّأْجِيلِ، وَلَوْ إِلَى الْغَدِ.
وَالْمَقْصُودُ بِخَوْفِ الإْيقَاعِ غَلَبَةُ الظَّنِّ، ذَلِكَ أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الأْدِلَّةِ، وَتَعَذُّرِ التَّوَصُّلِ إِلَى الْحَقِيقَةِ.
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ:
أَنْ يَكُونَ مَا هُدِّدَ بِهِ قَتْلاً أَوْ إِتْلاَفَ عُضْوٍ، وَلَوْ بِإِذْهَابِ قُوَّتِهِ مَعَ بَقَائِهِ كَإِذْهَابِ الْبَصَرِ، أَوِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَطْشِ أَوِ الْمَشْيِ مَعَ بَقَاءِ أَعْضَائِهَا، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُوجِبُ غَمًّا يُعْدِمُ الرِّضَا، وَمِنْهُ تَهْدِيدُ الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا، وَالرَّجُلِ بِاللِّوَاطِ.
أَمَّا التَّهْدِيدُ بِالإْجَاعَةِ، فَيَتَرَاوَحُ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، فَلاَ يَصِيرُ مُلْجِئًا إِلاَّ إِذَا بَلَغَ الْجُوعُ بِالْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) حَدَّ خَوْفِ الْهَلاَكِ.
ثُمَّ الَّذِي يُوجِبُ غَمًّا يُعْدِمُ الرِّضَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأْشْخَاصِ وَالأْحْوَالِ: فَلَيْسَ الأْشْرَافُ كَالأْرَاذِلِ، وَلاَ الضِّعَافُ كَالأْقْوِيَاءِ، وَلاَ تَفْوِيتُ الْمَالِ الْيَسِيرِ كَتَفْوِيتِ الْمَالِ الْكَثِيرِ، وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى الْحَاكِمِ، يُقَدِّرُ لِكُلِّ وَاقِعَةٍ قَدْرَهَا.
الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ:
أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُمْتَنِعًا عَنِ الْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لَوْلاَ الإْكْرَاهُ، إِمَّا لِحَقِّ نَفْسِهِ - كَمَا فِي إِكْرَاهِهِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ - وَإِمَّا لِحَقِّ شَخْصٍ آخَرَ، وَإِمَّا لِحَقِّ الشَّرْعِ - كَمَا فِي إِكْرَاهِهِ ظُلْمًا عَلَى إِتْلاَفِ مَالِ شَخْصٍ آخَرَ، أَوْ نَفْسِ هَذَا الشَّخْصِ، أَوِ الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ لِذَلِكَ أَوْ عَلَى ارْتِكَابِ مُوجِبِ حَدٍّ فِي خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ، كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
الشَّرِيطَةُ الْخَامِسَةُ:
أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنًا. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ عَلَى إِطْلاَقِهِ. وَفِي حُكْمِ الْمُتَعَيِّنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - مَا لَوْ خُيِّرَ بَيْنَ أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُصَادَرَةِ الَّذِي سَلَفَ ذِكْرُهُ فِي فِقْرَةِ .
وَمِنْهُ يُسْتَنْبَطُ أَنَّ مَوْقِفَ الْمَالِكِيَّةِ فِي حَالَةِ الإْبْهَامِ أَدْنَى إِلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، بَلْ أَوْغَلُ فِي الاِعْتِدَادِ بِالإْكْرَاهِ حِينَئِذٍ، لأِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا أَنْ يَكُونَ مَجَالُ الإْبْهَامِ أُمُورًا مُعَيَّنَةً.
أَمَّا الإْكْرَاهُ عَلَى طَلاَقِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ، أَوْ قَتْلِ أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَمِنْ مَسَائِلِ الْخِلاَفِ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَمَعَهُمْ مُوَافِقُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، يَتَحَقَّقُ الإْكْرَاهُ بِرَغْمِ هَذَا التَّخْيِيرِ.
وَعِنْدَ جَمَاهِيرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - لاَ يَتَحَقَّقُ؛ لأِنَّ لَهُ مَنْدُوحَةً عَنْ طَلاَقِ كُلٍّ بِطَلاَقِ الأْخْرَى، وَكَذَا فِي الْقَتْلِ، نَتِيجَةَ عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ.وَالتَّفْصِيلُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي.
الشَّرِيطَةُ السَّادِسَةُ:
أَلاَّ يَكُونَ لِلْمُكْرَهِ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ، ثُمَّ فَعَلَهُ لاَ يَكُونُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ خُيِّرَ الْمُكْرَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِتَسَاوِي هَذَيْنِ الأْمْرَيْنِ أَوْ تَفَاوُتِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْحُرْمَةُ وَالْحِلُّ، وَتَفْصِيلُ الْكَلاَمِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
إِنَّ الأْمْرَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا لاَ يُرَخَّصُ فِيهِ، وَلاَ يُبَاحُ أَصْلاً، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَا وَالْقَتْلِ.
أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَإِتْلاَفِ مَالِ الْغَيْرِ.
أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَاحًا أَصَالَةً أَوْ لِلْحَاجَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ طَلاَقِ امْرَأَتِهِ وَبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ بَيْنَ جَمْعِ الْمُسَافِرِ الصَّلاَةَ فِي الْحَجِّ وَفِطْرِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ الأْرْبَعِ الَّتِي يَكُونُ الأَْمْرَانِ الْمُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْحُرْمَةِ أَوِ الْحِلِّ، يَتَرَتَّبُ حُكْمُ الإْكْرَاهِ عَلَى فِعْلِ أَيِّ وَاحِدٍ مِنَ الأْمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي سَيَجِيءُ تَقْرِيرُهُ بِخِلاَفَاتِهِ وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، لأِنَّ الإْكْرَاهَ فِي الْوَاقِعِ لَيْسَ إِلاَّ عَلَى الأْحَدِ الدَّائِرِ دُونَ تَفَاوُتٍ، وَهَذَا لاَ تَعَدُّدَ فِيهِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي مُعَيَّنٍ، وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، فَنَفَوْا حُصُولَ الإْكْرَاهِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ.
وَإِنْ تَفَاوَتَ الأْمْرَانِ الْمُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحَرَّمًا لاَ يُرَخَّصُ فِيهِ وَلاَ يُبَاحُ بِحَالٍ كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ مَنْدُوحَةً، وَيَكُونُ الإْكْرَاهُ وَاقِعًا عَلَى الْمُقَابِلِ لَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْمُقَابِلُ مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَالْكُفْرِ وَإِتْلاَفِ مَالِ الْغَيْرِ، أَمْ مُحَرَّمًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَمْ مُبَاحًا أَصَالَةً أَوْ لِلْحَاجَةِ، كَبَيْعِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِ الْمُكْرَهِ، وَالإْفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الإْكْرَاهِ حُكْمُهُ الَّذِي سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ بِخِلاَفَاتِهِ.
وَتَكُونُ هَذِهِ الأْفْعَالُ مَنْدُوحَةً مَعَ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لاَ يُرَخَّصُ فِيهِ وَلاَ يُبَاحُ بِحَالٍ، أَمَّا هُوَ فَإِنَّهُ لاَ تَكُونُ مَنْدُوحَةً لِوَاحِدٍ مِنْهَا، فَفِي الصُّوَرِ الثَّلاَثَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَهِيَ مَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَا أَوِ الْقَتْلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ أَوْ إِتْلاَفِ مَالِ الْغَيْرِ، أَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَا أَوِ الْقَتْلِ وَبَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الزِّنَا أَوِ الْقَتْلِ وَبَيْنَ بَيْعِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ، فَإِنَّ الزِّنَى أَوِ الْقَتْلَ لاَ يَكُونُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ، فَمَنْ فَعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا كَانَ فِعْلُهُ صَادِرًا عَنْ طَوَاعِيَةٍ لاَ إِكْرَاهٍ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ إِذَا كَانَ الإْكْرَاهُ مُلْجِئًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ الإْذْنُ فِي فِعْلِ الْمَنْدُوحَةِ، وَكَانَ الْفَاعِلُ عَالِمًا بِالإْذْنِ لَهُ فِي فِعْلِ الْمَنْدُوحَةِ عِنْدَ الإْكْرَاهِ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الأْمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْمُقَابِلُ لَهُ مُحَرَّمًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ أَوْ إِتْلاَفِ مَالِ الْغَيْرِ، وَبَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي حُكْمِ الأْمْرَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الإْبَاحَةِ، فَلاَ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مَنْدُوحَةً عَنْ فِعْلِ الآْخَرِ، وَيَكُونُ
الإْكْرَاهُ وَاقِعًا عَلَى فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأْمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهُمَا، مَتَى كَانَ بِأَمْرٍ مُتْلِفٍ لِلنَّفْسِ أَوْ لأِحَدِ الأْعْضَاءِ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الأْمْرَيْنِ مُحَرَّمًا يُرَخَّصُ فِيهِ أَوْ يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالْمُقَابِلُ لَهُ مُبَاحًا أَصَالَةً أَوْ لِلْحَاجَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَبَيْنَ بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمُكْرَهِ أَوِ الْفِطْرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مَنْدُوحَةً عَنِ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي يُرَخَّصُ فِيهِ أَوْ يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَعَلَى هَذَا يَظَلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الإْكْرَاهُ بِمُتْلِفٍ لِلنَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ أَوْ بِغَيْرِ مُتْلِفٍ لأِحَدِهِمَا، لأِنَّ الإْكْرَاهَ بِغَيْرِ الْمُتْلِفِ لاَ يُزِيلُ الْحَظْرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا. وَالإْكْرَاهُ بِمُتْلِفٍ - وَإِنْ كَانَ يُزِيلُ الْحَظْرَ - إِلاَّ أَنَّ إِزَالَتَهُ لَهُ بِطَرِيقِ الاِضْطِرَارِ، وَلاَ اضْطِرَارَ مَعَ وُجُودِ الْمُقَابِلِ الْمُبَاحِ.
تَقْسِيمُ الإْكْرَاهِ
يَنْقَسِمُ الإْكْرَاهُ إِلَى: إِكْرَاهٍ بِحَقٍّ، وَإِكْرَاهٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالإْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَنْقَسِمُ إِلَى إِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ، وَإِكْرَاهٍ غَيْرِ مُلْجِئٍ.
أَوَّلاً: الإْكْرَاهُ بِحَقٍّ:
تَعْرِيفُهُ:
هُوَ الإْكْرَاهُ الْمَشْرُوعُ، أَيِ الَّذِي لاَ ظُلْمَ فِيهِ وَلاَ إِثْمَ.
وَهُوَ مَا تَوَافَرَ فِيهِ أَمْرَانِ:
الأْوَّلُ: أَنْ يَحِقَّ لِلْمُكْرِهِ التَّهْدِيدُ بِمَا هَدَّدَ بِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِمَّا يَحِقُّ لِلْمُكْرِهِ الإْلْزَامُ بِهِ. وَعَلَى هَذَا فَإِكْرَاهُ الْمُرْتَدِّ عَلَى الإْسْلاَمِ إِكْرَاهٌ بِحَقٍّ، حَيْثُ تَوَافَرَ فِيهِ الأْمْرَانِ، وَكَذَلِكَ إِكْرَاهُ الْمَدِينِ الْقَادِرِ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَإِكْرَاهُ الْمُولِي عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى زَوْجَتِهِ أَوْ طَلاَقِهَا إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الإْيلاَءِ.
أَثَرُهُ:
وَالْعُلَمَاءُ عَادَةً يَقُولُونَ: إِنَّ الإْكْرَاهَ بِحَقٍّ، لاَ يُنَافِي الطَّوْعَ الشَّرْعِيَّ - وَإِلاَّ لَمْ تَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَيَجْعَلُونَ مِنْ أَمْثِلَتِهِ إِكْرَاهَ الْعِنِّينِ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَمَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ عَلَى الإْنْفَاقِ، وَالْمَدِينِ وَالْمُحْتَكِرِ عَلَى الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ أَرْضٌ بِجِوَارِ الْمَسْجِدِ أَوِ الْمَقْبَرَةِ أَوِ الطَّرِيقِ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا مِنْ أَجْلِ التَّوْسِيعِ، وَمَنْ مَعَهُ طَعَامٌ يَحْتَاجُهُ مُضْطَرٌّ.
ثَانِيًا: الإْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ:
تَعْرِيفُهُ:
الإْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ هُوَ الإْكْرَاهُ ظُلْمًا، أَوِ الإْكْرَاهُ الْمُحَرَّمُ، لِتَحْرِيمِ وَسِيلَتِهِ، أَوْ لِتَحْرِيمِ الْمَطْلُوبِ بِهِ. وَمِنْهُ إِكْرَاهُ الْمُفْلِسِ عَلَى بَيْعِ مَا يُتْرَكُ لَهُ.
الإْكْرَاهُ الْمُلْجِئُ وَالإْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ:
تَقْسِيمُ الإْكْرَاهِ إِلَى مُلْجِئٍ وَغَيْرِ مُلْجِئٍ يَتَفَرَّدُ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ.
فَالإْكْرَاهُ الْمُلْجِئُ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ بِإِتْلاَفِ النَّفْسِ أَوْ عُضْوٍ مِنْهَا، أَوْ بِإِتْلاَفِ جَمِيعِ الْمَالِ، أَوْ بِقَتْلِ مَنْ يُهِمُّ الإْنْسَانَ أَمْرُهُ.
وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ وَلاَ يُعْدِمُهُ. أَمَّا إِعْدَامُهُ لِلرِّضَا، فَلأِنَّ الرِّضَا هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ وَالاِرْتِيَاحُ إِلَيْهِ، وَهَذَا لاَ يَكُونُ مَعَ أَيِّ إِكْرَاهٍ.
وَأَمَّا إِفْسَادُهُ لِلاِخْتِيَارِ دُونَ إِعْدَامِهِ، فَلأِنَّ الاِخْتِيَارَ هُوَ: الْقَصْدُ إِلَى فِعْلِ الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِهِ بِتَرْجِيحٍ مِنَ الْفَاعِلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يَزُولُ بِالإْكْرَاهِ، فَالْمُكْرَهُ يُوقِعُ الْفِعْلَ بِقَصْدِهِ إِلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ تَارَةً يَكُونُ صَحِيحًا سَلِيمًا، إِذَا كَانَ مُنْبَعِثًا عَنْ رَغْبَةٍ فِي الْعَمَلِ، وَتَارَةً يَكُونُ فَاسِدًا، إِذَا كَانَ ارْتِكَابًا لأِخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَذَلِكَ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ كِلاَهُمَا شَرٌّ، فَفَعَلَ أَقَلَّهُمَا ضَرَرًا بِهِ، فَإِنَّ اخْتِيَارَهُ لِمَا فَعَلَهُ لاَ يَكُونُ اخْتِيَارًا صَحِيحًا، بَلِ اخْتِيَارًا فَاسِدًا.
وَالإْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ هُوَ: الَّذِي يَكُونُ بِمَا لاَ يُفَوِّتُ النَّفْسَ أَوْ بَعْضَ الأْعْضَاءِ، كَالْحَبْسِ لِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ، وَالضَّرْبِ الَّذِي لاَ يُخْشَى مِنْهُ الْقَتْلُ أَوْ تَلَفُ بَعْضِ الأْعْضَاءِ.
وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَكِنْ لاَ يُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ اضْطِرَارِ الْمُكْرَهِ إِلَى الإْتْيَانِ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ مَا هُدِّدَ بِهِ بِخِلاَفِ النَّوْعِ الأْوَّلِ.
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ يُقَسِّمُوا الإْكْرَاهَ إِلَى مُلْجِئٍ وَغَيْرِ مُلْجِئٍ كَمَا فَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ، وَلَكِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الإْكْرَاهُ وَمَا لاَ يَتَحَقَّقُ، وَمِمَّا قَرَّرُوهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ يُؤْخَذُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَقُولُونَ بِمَا سَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا، أَمَّا مَا يُسَمَّى بِالإْكْرَاهِ غَيْرِ الْمُلْجِئِ فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَعَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأْخْرَى لاَ يُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ، وَيُعْتَبَرُ إِكْرَاهًا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَعْضِ الآْخَرِ، فَمِنَ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ الَّذِي لاَ يُعْتَبَرُ الإْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ إِكْرَاهًا فِيهِ: الْكُفْرُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، وَالْمَعْصِيَةُ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لِمَخْلُوقٍ، كَالْقَتْلِ أَوِ الْقَطْعِ، وَالزِّنَا بِامْرَأَةٍ مُكْرَهَةٍ أَوْ لَهَا زَوْجٌ، وَسَبِّ نَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ أَوْ صَحَابِيٍّ، أَوْ قَذْفٍ لِمُسْلِمٍ.
وَمِنَ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ الإْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ إِكْرَاهًا فِيهِ: شُرْبُ الْخَمْرِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَالطَّلاَقُ وَالأْيْمَانُ وَالْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ وَالآْثَارِ.
أَثَرُ الإْكْرَاهِ:
هَذَا الأْثَرُ مَوْضِعُ خِلاَفٍ، بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
أَثَرُ الإْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
- يَخْتَلِفُ أَثَرُ الإْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِاخْتِلاَفِ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ الَّذِي يَقَعُ الإْكْرَاهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الإْقْرَارَاتِ، كَانَ أَثَرُ الإْكْرَاهِ إِبْطَالَ الإْقْرَارِ وَإِلْغَاءَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الإْكْرَاهُ مُلْجِئًا أَمْ غَيْرَ مُلْجِئٍ. فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الاِعْتِرَافِ بِمَالٍ أَوْ زَوَاجٍ أَوْ طَلاَقٍ كَانَ اعْتِرَافُهُ بَاطِلاً، وَلاَ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، لأِنَّ الإْقْرَارَ إِنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِاعْتِبَارِ تَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا التَّرْجِيحُ مَعَ الإْكْرَاهِ، إِذْ هُوَ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُقِرَّ لاَ يَقْصِدُ بِإِقْرَارِهِ الصِّدْقَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دَفْعَ الضَّرَرِ الَّذِي هُدِّدَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالإْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِهَا كَانَ أَثَرُ الإْكْرَاهِ فِيهَا إِفْسَادَهَا لاَ إِبْطَالَهَا، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، حَسَبَ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا لاَزِمًا بِإِجَازَةِ الْمُكْرَهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ الْمُكْرَهُ الثَّمَنَ، أَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ طَوْعًا، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْبَيْعِ وَلُزُومُهُ.
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الإْكْرَاهَ عِنْدَهُمْ لاَ يُعْدِمُ الاِخْتِيَارَ الَّذِي هُوَ تَرْجِيحُ فِعْلِ الشَّيْءِ عَلَى تَرْكِهِ أَوِ الْعَكْسُ، وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا الَّذِي هُوَ الاِرْتِيَاحُ إِلَى الشَّيْءِ وَالرَّغْبَةُ فِيهِ، وَالرِّضَا لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَلاَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا، فَإِذَنْ فَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى فِقْدَانِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ لاَ بُطْلاَنُهُ. وَلَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ التَّصَرُّفَاتِ، فَقَالُوا بِصِحَّتِهِمَا مَعَ الإْكْرَاهِ، وَلَوْ كَانَ مُلْجِئًا، وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ: الزَّوَاجُ وَالطَّلاَقُ وَمُرَاجَعَةُ الزَّوْجَةِ وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ.
وَعَلَّلُوا هَذَا بِأَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ اللَّفْظَ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ - عِنْدَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ - قَائِمًا مَقَامَ إِرَادَةِ مَعْنَاهُ، فَإِذَا وُجِدَ اللَّفْظُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقَائِلِهِ قَصْدٌ إِلَى مَعْنَاهُ، كَمَا فِي الْهَازِلِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ صَحِيحَةً إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ، مَعَ انْعِدَامِ قَصْدِهِ إِلَيْهَا، وَعَدَمُ رِضَاهُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الآْثَارِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الأْفْعَالِ، كَالإْكْرَاهِ عَلَى قَتْلِ مَنْ لاَ يَحِلُّ قَتْلُهُ، أَوْ إِتْلاَفِ مَالٍ لِغَيْرِهِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ الإْكْرَاهِ وَالْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ الإْكْرَاهُ غَيْرَ مُلْجِئٍ - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِمَا لاَ يُفَوِّتُ النَّفْسَ، أَوْ بَعْضَ الأْعْضَاءِ كَالْحَبْسِ لِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ، أَوْ أَخْذِ الْمَالِ الْيَسِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَلاَ يَحِلُّ الإْقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ. وَإِذَا أَقْدَمَ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) عَلَى الْفِعْلِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الإْكْرَاهِ كَانَتِ الْمَسْئُولِيَّةُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، لاَ عَلَى مَنْ أَكْرَهَهُ.
وَإِنْ كَانَ الإْكْرَاهُ مُلْجِئًا - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالْقَتْلِ أَوْ تَفْوِيتِ بَعْضِ الأْعْضَاءِ أَوِ الْعَمَلِ الْمُهِينِ لِذِي الْجَاهِ - فَالأْفْعَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أ - أَفْعَالٌ أَبَاحَهَا الشَّارِعُ أَصَالَةً دُونَ إِكْرَاهٍ كَالأْكْلِ وَالشُّرْبِ، فَإِنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى ارْتِكَابِهَا وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) أَنْ يَرْتَكِبَ أَخَفَّ الضَّرَرَيْنِ.
ب - أَفْعَالٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ إِتْيَانَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ لَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوِ الْخِنْزِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللَّهِ لاَ لِحَقِّ الآْدَمِيِّ، فَالْعَقْلُ مَعَ الشَّرْعِ يُوجِبَانِ ارْتِكَابَ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ.
فَهَذِهِ يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ فِعْلُهَا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الإْتْيَانُ بِهَا، إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ قَتْلُ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وَلاَ شَكَّ أَنَّ الإْكْرَاهَ الْمُلْجِئَ مِنَ الضَّرُورَةِ الَّتِي رَفَعَ اللَّهُ الإْثْمَ فِيهَا. فَيُبَاحُ الْفِعْلُ عِنْدَ تَحَقُّقِهَا. وَتَنَاوُلُ الْمُبَاحِ دَفْعًا لِلْهَلاَكِ عَنِ النَّفْسِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا - وَاجِبٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَلَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا لَمْ يُحَدَّ، لأَِنَّهُ لاَ جِنَايَةَ حِينَئِذٍ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا شُرِعَ زَجْرًا عَنِ الْجِنَايَاتِ.
ج - أَفْعَالٌ رَخَّصَ الشَّارِعُ فِي فِعْلِهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ صَبَرَ الْمُكْرَهُ عَلَى تَحَمُّلِ الأْذَى، وَلَمْ يَفْعَلْهَا حَتَّى مَاتَ، كَانَ مُثَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوِ الاِسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ، فَإِذَا أُكْرِهَ الْإنْسَانُ عَلَى الإْتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْفِعْلُ مَتَى كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإْيمَانِ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإْيمَانِ).
وَمِنَ السُّنَّةِ مَا جَاءَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ « أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ: شَرٌّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ ؟ قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالإْيمَانِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ».
وَقَدْ أَلْحَقَ عُلَمَاءُ الْمَذْهَبِ بِهَذَا النَّوْعِ الإْكْرَاهَ عَلَى إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ تَرْكِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ، أَوْ إِتْلاَفِ مَالِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ صَبَرَ وَتَحَمَّلَ الأْذَى، وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ مُثَابًا، وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ الضَّمَانُ فِي صُورَةِ الإْتْلاَفِ عَلَى الْحَامِلِ عَلَيْهِ لاَ عَلَى الْفَاعِلِ، لأِنَّ فِعْلَ الإْتْلاَفِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْحَامِلِ بِجَعْلِ الْفَاعِلِ آلَةً لَهُ، فَيَثْبُتُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
د - أَفْعَالٌ لاَ يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ الإْقْدَامُ عَلَيْهَا بِحَالٍ مِنَ الأْحْوَالِ، كَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، أَوِ الضَّرْبِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ، فَهَذِهِ الأْفْعَالُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الإْقْدَامُ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْهَا ضَيَاعُ نَفْسِهِ، لأِنَّ نَفْسَ الْغَيْرِ مَعْصُومَةٌ كَنَفْسِ الْمُكْرَهِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلإْنْسَانِ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِيقَاعِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا، وَوَجَبَ عِقَابُ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، وَالْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي نَوْعِ هَذَا الْعِقَابِ.
فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولاَنِ: إِنَّهُ الْقِصَاصُ، لأِنَّ الْقَتْلَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْحَامِلِ بِجَعْلِ الْفَاعِلِ آلَةً لَهُ، وَالْقِصَاصُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ لاَ عَلَى آلَةِ الْقَتْلِ.
وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إِنَّهُ الدِّيَةُ، لأِنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ، وَلَمْ تُوجَدِ الْجِنَايَةُ الْكَامِلَةُ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْحَامِلِ وَالْمُكْرَهِ.
وَهَذَا الْقَتْلُ يَقُومُ مَانِعًا مِنَ الإْرْثِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) مُكَلَّفًا. أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ فَلاَ يَكُونُ مَانِعًا. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلاَ يَحْرُمُ وَلَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) فَلاَ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى الْمُكْرَهِ إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَ الْمُكْرَهِ وَلاَ الْمُكْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ كَأَنْ قَالَ لِلَّذِي قَتَلَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ، فَقَتَلَهُ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، وَلأِنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لاَ مِيرَاثًا عَنِ الْمَقْتُولِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ ثَمَّ إِكْرَاهٌ، لأِنَّ الْمُهَدَّدَ بِهِ لاَ يَزِيدُ عَلَى الْقَتْلِ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الإْكْرَاهُ وَلاَ شَيْءَ مِنْ آثَارِهِ، فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ فِي هَذَا الْقَتْلِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ لأَقْتُلَنَّكَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَخْتَارُ مَا هُوَ الأْهْوَنُ فِي ظَنِّهِ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: يَصْبِرُ وَلاَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، لأِنَّ مُبَاشَرَةَ الْفِعْلِ سَعْيٌ فِي إِهْلاَكِ نَفْسِهِ فَيَصْبِرُ تَحَامِيًا عَنْهُ. ثُمَّ إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ فَعَلَى الْمُكْرِهِ الْقِصَاصُ بِاتِّفَاقِهِمْ، كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ.
وَنَقَلَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الأْنْهُرِ أَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لِلصَّاحِبَيْنِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا: الزِّنَا، فَإِنَّهُ لاَ يُرَخَّصُ فِيهِ مَعَ الإْكْرَاهِ، كَمَا لاَ يُرَخَّصُ فِيهِ حَالَةَ الاِخْتِيَارِ، لأِنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا لاَ تَرْتَفِعُ بِحَالٍ مِنَ الأْحْوَالِ، فَإِذَا فَعَلَهُ إِنْسَانٌ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإْكْرَاهِ كَانَ آثِمًا، وَلَكِنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لأِنَّ الإْكْرَاهَ يُعْتَبَرُ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ضَابِطًا لأِثَرِ الإْكْرَاهِ، نَصُّهُ:
الإْكْرَاهُ الْمُلْجِئُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى الْقَوْلِ أَمِ الْفِعْلِ. وَالإْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ إِنْ كَانَ عَلَى فِعْلٍ فَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِغَيْرِ إِكْرَاهٍ. وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلٍ، فَإِنْ كَانَ قَوْلاً يَسْتَوِي فِيهِ الْجِدُّ وَالْهَزْلُ فَكَذَلِكَ، وَإِلاَّ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ.
أَثَرُ الإْكْرَاهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
يَخْتَلِفُ أَثَرُ الإْكْرَاهِ عِنْدَهُمْ بِاخْتِلاَفِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ:
أ - فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ عَقْدًا أَوْ حِلًّا أَوْ إِقْرَارًا أَوْ يَمِينًا لَمْ يَلْزَمِ الْمُكْرَهَ شَيْءٌ، وَيَكُونُ الإْكْرَاهُ فِي ذَلِكَ بِالتَّخْوِيفِ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ مُؤْلِمٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ صَفْعٍ لِذِي مُرُوءَةٍ عَلَى مَلأَ مِنَ النَّاسِ. وَإِنْ أَجَازَ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ) شَيْئًا مِمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ - غَيْرَ النِّكَاحِ - طَائِعًا بَعْدَ زَوَالِ الإْكْرَاهِ لَزِمَ عَلَى الأْحْسَنِ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلاَ تَصِحُّ إِجَازَتُهُ.
ب - وَإِنْ كَانَ الإْكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ
صُوَرِهِ، أَوْ قَذْفِ الْمُسْلِمَ بِالزِّنَا، أَوِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ طَائِعَةٍ خَلِيَّةٍ (غَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ)، فَلاَ يَحِلُّ لَهُ الإْقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأْشْيَاءِ إِلاَّ فِي حَالَةِ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، لاَ فِيمَا دُونَهُ مِنْ قَطْعٍ أَوْ سَجْنٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ اعْتُبِرَ مُرْتَدًّا، وَيُحَدُّ فِي قَذْفِ الْمُسْلِمِ، وَفِي الزِّنَا.
ج - وَإِنْ كَانَ الإْكْرَاهُ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ، أَوْ عَلَى زِنًا بِمُكْرَهَةٍ، أَوْ بِامْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ، فَلاَ يَجُوزُ الإْقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ. فَإِنْ قَتَلَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُعْتَبَرُ الْقَتْلُ هُنَا مَانِعًا لِلْقَاتِلِ مِنْ مِيرَاثِ الْمَقْتُولِ، لأِنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ الْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) يُقْتَصُّ مِنْهُ أَيْضًا وَيُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ. وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ، إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَهُمَا.
فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرِهَ (بِالْكَسْرِ) كَمَا لَوْ قَالَ لِلَّذِي قَتَلَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ فَقَتَلَهُ، فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ وَتَجِبُ الدِّيَةُ، لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لاَ مِيرَاثًا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ (بِالْفَتْحِ)، فَالأْصْلُ أَنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ الإْكْرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلاَ قِصَاصَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ، كَالإْحْرَاقِ بِالنَّارِ وَبَتْرِ الأْعْضَاءِ حَتَّى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ (بِالْفَتْحِ) يَخْتَارُ أَهْوَنَ الْمِيتَتَيْنِ، جَزَمَ بِهِ اللَّقَانِيُّ.وَإِنْ زَنَى يُحَدُّ.
د - وَأَمَّا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ - غَيْرِ الْكُفْرِ - لاَ حَقَّ فِيهَا لِمَخْلُوقٍ كَشُرْبِ خَمْرٍ وَأَكْلِهِ مَيْتَةً، أَوْ إِبْطَالِ عِبَادَةٍ كَصَلاَةٍ وَصَوْمٍ، أَوْ عَلَى تَرْكِهَا فَيَتَحَقَّقُ الإْكْرَاهُ بِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَفِي الصَّلاَةِ يَكُونُ الإْكْرَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ الْمُسْقِطِ لِبَعْضِ أَرْكَانِهَا، وَلاَ يَسْقُطُ وُجُوبُهَا. وَفِي شُرْبِ الْخَمْرِ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ.
وَأَلْحَقَ سَحْنُونٌ بِهَذَا النَّوْعِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ طَائِعَةٍ لاَ زَوْجَ لَهَا، خِلاَفًا لِلْمَذْهَبِ.
وَيُضِيفُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ يَسْقُطُ بِالإْكْرَاهِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ بِضَرْبٍ أَوْ سَجْنٍ لأِنَّهُ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ.
أَثَرُ الإْكْرَاهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
- يَخْتَلِفُ أَثَرُ الإْكْرَاهِ عِنْدَهُمْ بِاخْتِلاَفِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ.
أ - الإْكْرَاهُ بِالْقَوْلِ:
إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ عَقْدًا أَوْ حَلًّا أَوْ أَيَّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ أَوْ فِعْلِيٍّ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ عَمَلاً بِعُمُومِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: « رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ » إِذِ الْمَقْصُودُ لَيْسَ رَفْعَ مَا وَقَعَ لِمَكَانِ الاِسْتِحَالَةِ، وَإِنَّمَا رَفْعُ حُكْمِهِ، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ، فَيُخَصَّصُ هَذَا الْعُمُومُ فِي مَوْضِعِ دَلاَلَتِهِ. وَبِمُقْتَضَى أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ يُقَرِّرُ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ أَثَرَ لِقَوْلِ الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) إِلاَّ فِي الصَّلاَةِ فَتَبْطُلُ بِهِ وَعَلَى هَذَا فَيُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلاَ يَجِبُ، بَلِ الأْفْضَلُ الاِمْتِنَاعُ مُصَابَرَةً عَلَى الدِّينِ وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ.
وَفِي طَلاَقِ زَوْجَةِ الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) أَوْ بَيْعِ مَالِهِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا يُعْتَبَرُ الإْكْرَاهُ فِيهِ إِذْنًا - أَبْلَغُ.
وَالإْكْرَاهُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ أَوِ الزِّنَا، وَفِي الإْكْرَاهِ بِالْحُكْمِ الْبَاطِلِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ أَوِ الزِّنَا، فَلاَ يَرْتَفِعُ الإْثْمُ عَنْ شَاهِدِ الزُّورِ، وَلاَ عَنِ الْحَاكِمِ الْبَاطِلِ، وَحُكْمُهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ حُكْمُ الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ)
ب - الإْكْرَاهُ بِالْفِعْلِ:
لاَ أَثَرَ لِلإْكْرَاهِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلاَّ فِيمَا يَأْتِي:
(1) الْفِعْلُ الْمُضَمِّنُ كَالْقَتْلِ أَوْ إِتْلاَفِ الْمَالِ أَوِ الْغَصْبِ، فَعَلَى الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) الْقِصَاصُ أَوِ الضَّمَانُ، وَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ)،وَإِنْ قِيلَ: لاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) بِمَا غَرِمَ فِي إِتْلاَفِ الْمَالِ، لأِنَّهُ افْتَدَى بِالإْتْلاَفِ نَفْسَهُ عَنِ الضَّرَرِ. قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ: فَيُقْتَلُ هُوَ - الْمُكْرَهُ - (بِالْفَتْحِ) وَمَنْ أَكْرَهَهُ.
(2) الزِّنَا وَمَا إِلَيْهِ: يَأْثَمُ الْمُكْرَهُ (بِالْفَتْحِ)
بِالزِّنَا، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ حُكْمُهُ.
(3) الرَّضَاعُ: فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا.
(4) كُلُّ فِعْلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بُطْلاَنُ الصَّلاَةِ، كَالتَّحَوُّلِ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ، وَتَرْكِ قِيَامِ الْقَادِرِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَالْحَدَثِ، فَتَبْطُلُ الصَّلاَةُ بِمَا تَقَدَّمَ بِرَغْمِ الإْكْرَاهِ عَلَيْهِ.
(5) ذَبْحُ الْحَيَوَانِ: تَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمُكْرَهِ (بِالْفَتْحِ) الَّذِي تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، كَالْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ وَلَوْ كَانَ الْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) مَجُوسِيًّا، أَوْ مُحْرِمًا وَالْمَذْبُوحُ صَيْدٌ.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ رَأَيْتُ الإْكْرَاهَ يُسَاوِي النِّسْيَانَ، فَإِنَّ الْمَوَاضِعَ الْمَذْكُورَةَ، إِمَّا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ، فَلاَ يَسْقُطُ تَدَارُكُهُ، وَلاَ يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِمَّا مِنْ بَابِ الإْتْلاَفِ، فَيَسْقُطُ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَتَسْقُطُ الْعُقُوبَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ، إِلاَّ الْقَتْلَ عَلَى الأْظْهَرِ.
أَثَرُ الإْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
يَخْتَلِفُ أَثَرُ الإْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِاخْتِلاَفِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ:
أ - فَالتَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ تَقَعُ بَاطِلَةً مَعَ الإْكْرَاهِ إِلاَّ النِّكَاحَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الإْكْرَاهِ، قِيَاسًا لِلْمُكْرَهِ عَلَى الْهَازِلِ.وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ مَعَ الإْكْرَاهُ لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ « لاَ طَلاَقَ فِي إِغْلاَقٍ »، وَالإْكْرَاهُ مِنَ الإْغْلاَقِ.
ب - وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ لاَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا، وَمَتَى زَالَ عَنْهُ الإْكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلاَمِهِ، وَالأْفْضَلُ لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ أَنْ يَصْبِرَ وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الإْسْلاَمِ مَنْ لاَ يَجُوزُ إِكْرَاهُهُ كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ، فَأَسْلَمَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الإْسْلاَمِ، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْلاَمِهِ طَوْعًا.
أَمَّا مَنْ يَجُوزُ إِكْرَاهُهُ عَلَى الإْسْلاَمِ كَالْمُرْتَدِّ، فَإِنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ فَأَسْلَمَ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ ظَاهِرًا.
ج - وَالإْكْرَاهُ يُسْقِطُ الْحُدُودَ عَنِ الْمُكْرَهِ، لأِنَّهُ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ
د - وَإِذَا أَكْرَهَ رَجُلٌ آخَرَ عَلَى قَتْلِ شَخْصٍ فَقَتَلَهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ جَمِيعًا، وَإِنْ صَارَ الأْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ أَحَبَّ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ قَتْلَ أَحَدِهِمَا، وَأَخْذَ نِصْفِ الدِّيَةِ مِنَ الآْخَرِ أَوِ الْعَفْوَ فَلَهُ ذَلِكَ.وَيُعْتَبَرُ الْقَتْلُ هُنَا مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ.
وَالْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ شَخْصًا ثَالِثًا غَيْرَهُمَا.
فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرِهَ (بِالْكَسْرِ) فَإِنَّهُ
يَكُونُ هَدَرًا، وَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ قَتْلُهُ هُوَ الْمُكْرَهَ (بِالْفَتْحِ)، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الإْكْرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلاَ دِيَةَ وَلاَ قِصَاصَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلٍ أَشْنَعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَ الْمِيتَتَيْنِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
أَثَرُ إِكْرَاهِ الصَّبِيِّ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ:
إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ صَبِيًّا، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ آلَةً فِي يَدِ الْمُكْرِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ).
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) وَنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ.
فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، اعْتُبِرَ آلَةً عِنْدَهُمْ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا، فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ).
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ). وَفِي قَوْلٍ: لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ، لاَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ أَكْرَهَهُ، لأَِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ، وَالْمُكْرِهُ (بِالْكَسْرِ) شَرِيكُ الْمُخْطِئِ، وَلاَ قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (بِالْكَسْرِ) وَلاَ يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 242
تَعْذِيبٌ
التَّعْرِيفُ :
التَّعْذِيبُ: مَصْدَرُ عَذَّبَ، يُقَالُ: عَذَّبَهُ تَعْذِيبًا: إِذَا مَنَعَهُ، وَفَطَمَهُ عَنِ الأْمْرِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: أَصْلُ الْعَذَابِ الضَّرْبُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ ذَلِكَ فِي كُلِّ شِدَّةٍ، يُقَالُ مِنْهُ: عَذَّبَ تَعْذِيبًا وَالْعَذَابُ: اسْمٌ بِمَعْنَى النَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ . وَمِنْهُ قوله تعالي : ( يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - التَّعْزِيرُ :
- التَّعْزِيرُ: تَفْعِيلٌ مِنَ الْعَزْرِ، بِمَعْنَى: الْمَنْعِ وَالإْجْبَارِ عَلَى الأْمْرِ، وَأَصْلُهُ النُّصْرَةُ وَالتَّعْظِيمُ .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: عِبَارَةٌ عَنِ التَّأْدِيبِ دُونَ الْحَدِّ. وَكُلُّ مَا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ شَرْعًا فَمُوجِبُهُ التَّعْزِيرُ.
وَالتَّعْذِيبُ أَعَمُّ مِنَ التَّعْزِيرِ مِنْ وَجْهٍ، لأِنَّ التَّعْزِيرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِحَقٍّ شَرْعِيٍّ، بِخِلاَفِ التَّعْذِيبِ. فَقَدْ يَكُونُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.
وَالتَّعْزِيرُ أَعَمُّ مِنْ حَيْثُ مَا يَكُونُ بِهِ التَّعْزِيرُ.
ب - التَّأْدِيبُ :
- التَّأْدِيبُ مَصْدَرُ أَدَّبَ، مُضَعَّفًا، وَثُلاَثِيُّهُ: أَدَبَ، مِنْ بَابِ ضَرَبَ، يُقَالُ: أَدَّبْتُهُ أَدَبًا، أَيْ عَلَّمْتَهَ رِيَاضَةَ النَّفْسِ، وَمَحَاسِنَ الأْخْلاَقِ. وَيُقَالُ: أَدَّبْتُهُ تَأْدِيبًا مُبَالَغَةً وَتَكْثِيرًا: أَيْ عَاقَبْتَهُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، لأِنَّ التَّأْدِيبَ سَبَبٌ يَدْعُو إِلَى حَقِيقَةِ الأْدَبِ.
وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّعْذِيبِ وَالتَّأْدِيبِ: عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، يَجْتَمِعَانِ فِي التَّعْزِيرِ، لأِنَّ فِيهِ تَعْذِيبًا وَتَأْدِيبًا.
وَيَفْتَرِقُ التَّعْذِيبُ عَنِ التَّأْدِيبِ فِي التَّعْذِيبِ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا، فَإِنَّهُ تَعْذِيبٌ، وَلَيْسَ تَأْدِيبًا، وَيَفْتَرِقُ التَّأْدِيبُ عَنِ التَّعَذُّبِ فِي التَّأْدِيبِ بِالْكَلاَمِ وَالنُّصْحِ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ، فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ وَلاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَعْذِيبٌ.
ج - التَّمْثِيلُ :
التَّمْثِيلُ: مَصْدَرُ مَثَّلَ. وَأَصْلُهُ الثُّلاَثِيِّ:
مَثَلَ، يُقَالُ: مُثَلَّثُ بِالْقَتِيلِ: إِذَا جَدَعْتَهُ، وَظَهَرَتْ آثَارُ فِعْلِك عَلَيْهِ تَنْكِيلاً وَالتَّشْدِيدُ مُبَالَغَةٌ، وَالاِسْمُ الْمُثْلَةُ - وِزَانُ غُرْفَةٍ - وَالْمَثُلَةُ - بِفَتْحِ الْ مِيمِ وَضَمِّ الثَّاءِ: الْعُقُوبَةُ.
وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّعْذِيبِ وَالتَّمْثِيلِ، عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ. فَالتَّعْذِيبُ أَعَمُّ مِنَ التَّمْثِيلِ، فَكُلُّ تَمْثِيلٍ تَعْذِيبٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَعْذِيبٍ تَمْثِيلاً. وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، لأِنَّ الآْثَارَ تَدُلُّ: عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَأَذَّى بِمَا يَتَأَذَّى بِهِ الْحَيُّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّعْذِيبِ بِاخْتِلاَفِ الأْحْوَالِ وَالأْسْبَابِ. وَالدَّوَاعِي لِلتَّعْذِيبِ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى قَصْدِ الْمُعَذِّبِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالطَّرِيقِ الْمُبَاشِرِ، أَمْ غَيْرِ الْمُبَاشِرِ.
التَّعْذِيبُ فِي الأْصْلِ مَمْنُوعٌ شَرْعًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا».
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ: هُوَ الإْمَامُ، وَلَيْسَ لِلأْوْلِيَاءِ ذَلِكَ، لأِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْهُمُ التَّجَاوُزُ، أَوِ التَّعْذِيبُ. وَأَمَّا فِي النَّفْسِ، فَالْحَنَابِلَةُ اشْتَرَطُوا حُضُورَ الإْمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ، لِلاِحْتِرَازِ عَنِ التَّعْذِيبِ .
أَنْوَاعُ التَّعْذِيبِ :
6 - يَنْقَسِمُ التَّعْذِيبُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأْوَّلُ: تَعْذِيبُ الإْنْسَانِ.
الثَّانِي: تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ.
وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ: إِلَى مَشْرُوعٍ، وَغَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَالأَْقْسَامُ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ:
(1) التَّعْذِيبُ الْمَشْرُوعُ لِلإْنْسَانِ.
(2) التَّعْذِيبُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ لِلإْنْسَانِ.
(3) التَّعْذِيبُ الْمَشْرُوعُ لِلْحَيَوَانِ
(4) التَّعْذِيبُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ لِلْحَيَوَانِ
7 - أَمَّا الأْوَّلُ: فَهُوَ التَّعْذِيبُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِيَّةِ، كَالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَالتَّعْزِيرَاتِ بِأَنْوَاعِهَا. أَوْ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ: كَتَأْدِيبِ الأْوْلاَدِ. أَوْ عَلَى وَجْهِ الإْبَاحَةِ، كَالْكَيِّ فِي التَّدَاوِي، إِذَا تَعَيَّنَ عِلاَجًا فَإِنَّهُ مُبَاحٌ. وَ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ لأِجْلِ التَّدَاوِي فَإِنَّهُ حَرَامٌ، لأِنَّهُ تَعْذِيبٌ بِالنَّارِ، وَلاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ خَالِقُهَا .
وَمِنَ الْمَشْرُوعِ رَمْيُ الأْعْدَاءِ بِالنَّارِ وَلَوْ حَصَلَ تَعْذِيبُهُمْ بِهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ إِمْكَانِ أَخْذِهِمْ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ، لأِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي غَزَوَاتِهِمْ، وَأَمَّا تَعْذِيبُهُمْ بِالنَّارِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَلاَ يَجُوزُ، لِمَا رَوَى حَمْزَةُ الأْسْلَمِيُّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَأحْرِقُوهُ بِالنَّارِ» فَوَلَّيْتُ فَنَادَانِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَاقْتُلُوهُ، وَلاَ تَحْرُقُوهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ»
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَاقٌ 2 / 125)
وَمِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ الْمَشْرُوعِ: ضَرْبُ الأْبِ أَوِ الأْمِّ وَلَدَهُمَا تَأْدِيبًا، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ، أَوِ الْمُعَلِّمِ بِإِذْنِ الأْبِ تَعْلِيمًا.
وَذَكَرَ فِي الْقُنْيَةِ:
لَهُ إِكْرَاهُ طِفْلِهِ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ، وَالأْدَبِ، وَالْعِلْمِ، لِفَرْضِيَّتِهِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَلَهُ ضَرْبُ الْيَتِيمِ فِيمَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ، وَالأْمُّ كَالأْبِ فِي التَّعْلِيمِ، بِخِلاَفِ التَّأْدِيبِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ بِضَرْبِ الأْمِّ تَأْدِيبًا فَعَلَيْهَا الضَّمَانُ.
وَمِمَّا يُذْكَرُ: أَنَّ ضَرْبَ التَّأْدِيبِ مُقَيَّدٌ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ، وَمَحَلُّهُ فِي الضَّرْبِ الْمُعْتَادِ، كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا، فَلَوْ ضَرَبَهُ عَلَى الْوَجْهِ أَوْ عَلَى الْمَذَاكِيرِ يَجِبُ الضَّمَانُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلَوْ سَوْطًا وَاحِدًا، لأِنَّهُ إِتْلاَفٌ .
وَمِنَ التَّعْذِيبِ الْمَشْرُوعِ لِلإْنْسَانِ ثَقْبُ أُذُنِ الطِّفْلِ مِنَ الْبَنَاتِ، لأِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
تَعْذِيبُ الْمُتَّهَمِ :
- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْمُتَّهَمَ بِسَرِقَةٍ وَنَحْوِهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالصَّلاَحِ، فَلاَ تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ اتِّفَاقًا.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَجْهُولَ الْحَالِ لاَ يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلاَ فُجُورٍ، فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الأْئِمَّةِ: أَنَّهُ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَالْوَالِي، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَأَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ. عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ» .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ، كَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْقَتْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ حَبْسُهُ وَضَرْبُهُ، كَمَا «أَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ رضي الله عنه ، بِتَعْذِيبِ الْمُتَّهَمِ الَّذِي غَيَّبَ مَالَهُ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ» . وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الدَّعَاوَى يَحْلِفُ، وَيُرْسَلُ بِلاَ حَبْسٍ، وَلاَ غَيْرِهِ. وَقَالَ الْبُجَيْرِمِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّرْبَ حَرَامٌ فِي الشِّقَّيْنِ، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ ضُرِبَ لِيُقِرَّ، أَوْ لِيَصْدُقَ، خِلاَفًا لِمَا تُوُهِّمَ حِلُّهُ إِذَا ضُرِبَ لِيَصْدُقَ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَاخْتَلَفُوا فِيهِ: هَلِ الَّذِي يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي، أَوْ كِلاَهُمَا؟ أَوْ لاَ يُسَوَّغُ ضَرْبُهُ، عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، مِنْهُمْ أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُمْتَحَنُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، وَيُضْرَبُ بِالسَّوْطِ مُجَرَّدًا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْرِبُهُ الْوَالِي دُونَ الْقَاضِي، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلاَ يُضْرَبُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْبَغَ، ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُطَرِّفٌ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ .
- أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ التَّعْذِيبُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ لِلإْنْسَانِ، فَمِنْهُ تَعْذِيبُ الأْسْرَى، فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ عَدَمَ جَوَازِ تَعْذِيبِهِمْ، لأِنَّ الإْسْلاَمَ يَدْعُو إِلَى الرِّفْقِ بِالأْسْرَى، وَإِطْعَامِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ، وَحَرَّ السِّلاَحِ، قِيلُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا» وَهَذَا الْكَلاَمُ فِي أَسَارَى بَنِي قُرَيْظَةَ، حِينَمَا كَانُوا فِي الشَّمْسِ .
وَ إِذَا كَانَ هُنَاكَ خَوْفُ الْفِرَارِ، فَيَصِحُّ حَبْسُ الأْسِيرِ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ، وَ إِذَا رُجِيَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَسْرَارِ الْعَدُوِّ جَازَ تَهْدِيدُهُ وَتَعْذِيبُهُ بِالْقَدْرِ الْكَافِي، لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم : «أَنَّهُ أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ بِتَعْذِيبِ مَنْ كَتَمَ خَبَرَ الْمَالِ، الَّذِي كَانَ صلي الله عليه وسلم قَدْ عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَيْنَ كَنْزُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْفَذَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، فَقَالَ: الْمَالُ كَثِيرٌ وَالْمَسْأَلَةُ أَقْرَبُ، وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: دُونَكَ هَذَا. فَمَسَّهُ الزُّبَيْرُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَذَابِ، فَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ» .
لَكِنْ إِذَا كَانُوا يُعَذِّبُونَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْمِثْلِ، لقوله تعالي : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) وَقَوْلُهُ أَيْضًا ( وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)
قَالَ الْبَاجِيُّ: لاَ يُمَثَّلُ بِالأْسِيرِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا مَثَّلُوا بِالْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قَتْلُ الأْسِيرِ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، لاَ يُمَثَّلُ بِهِ، وَلاَ يُعْبَثُ عَلَيْهِ. قِيلَ لِمَالِكٍ: أَيُضْرَبُ وَسَطُهُ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ( فَضَرْبَ الرِّقَابِ) لاَ خَيْرَ فِي الْعَبَثِ .
- وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ التَّعْذِيبُ الْمَشْرُوعُ لِلْحَيَوَانِ - فَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ أَمْثِلَةً، مِنْهَا:
أ - تَعْذِيبُ مَاشِيَةِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ بِالْوَسْمِ - فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِهِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ فِي مَاشِيَةِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِكَيِّ الْبَهَائِمِ لِلْعَلاَمَةِ، لأِنَّهُ مْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ .
ب - إِلْقَاءُ السَّمَكِ الْحَيِّ فِي النَّارِ لِيَصِيرَ مَشْوِيًّا فَإِِنَّ الْمَالِكِيَّةَ ذَهَبُوا: إِلَى جَوَازِهِ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مَكْرُوهٌ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ رَأَى جَوَازَ أَكْلِهِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ شَيِّ الْجَرَادِ حَيًّا، فَإِنَّهُ يُجِيزُهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، لِمَا أُثِرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلُوا ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
ج - وَمِنْ ذَلِكَ التَّعْذِيبِ الْجَائِزِ: ضَرْبُ الْحَيَوَانِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْلِيمُ وَالتَّرْوِيضُ، وَيُخَاصَمُ الضَّارِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، كَمَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ .
- وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ: وَهُوَ التَّعْذِيبُ (غَيْرُ الْمَشْرُوعِ) لِلْحَيَوَانِ:
فَمِنْهُ: تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ بِالْمَنْعِ مِنَ الأْكْلِ وَالشُّرْبِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأْرْضِ» .
وَمِنْهُ: اتِّخَاذُ ذِي رُوحٍ غَرَضًا، أَيْ هَدَفًا لِلرَّمْيِ.
وَمِنْهُ : قَطْعُ رَأْسِ الْحَيَوَانِ الْمَذْبُوحِ وَسَلْخُهُ قَبْلَ أَنْ يَبْرُدَ، وَيَسْكُنَ عَنِ الاِضْطِرَابِ .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ :
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ التَّعْذِيبَ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى سَبَقَ ذِكْرُ عَدَدٍ مِنْهَا خِلاَلَ الْبَحْثِ. وَمِنْهَا أَيْضًا: الْجِنَايَاتُ، وَالتَّعْزِيرَاتُ، وَالتَّأْدِيبُ، وَالتَّذْكِيَةُ، وَالأْسْرُ، وَالسِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْجِهَادُ (السِّيَرُ).