مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني ، الصفحة : 658
الإعسار
المذكرة الإيضاحية :
نظرة عامة:
لم يخرج المشروع في تنظيم موقف المدين المعسر عن رد الأمر إلى نصابه في وضع حافل بأسباب الاضطراب والتشتت، والحق أن تداول اليسر والعسر في أحوال المتعاملين ظاهرة تقتضيها سنن التعامل، أرادت صناعة التشريع أم لم ترد فالإعسار بهذه المثابة، حالة واقعة ينبغي أن يعترف القانون بها، وأن يعالج ما ينشأ عنها من صعوبات.
ومن عجب أن تتوافر في النصوص الراهنة مقومات هذا الاعتراف، وأن يهمل مع ذلك، تنظم العلاج إهمالاً تاماً فقد جعل الإعسار من مسقطات الأجل، وأسس عليه جواز الطعن في تصرفات المدين من طريق الدعوى البوليصية، وجواز استعمال ما للمدين من الحقوق والدعاوى بمقتضى الدعوى غير المباشرة.
وغني عن البيان أن حالة الإعسار تستتبع بحكم الواقع سقوط بعض الحقوق وتقييد البعض الآخر، فهي تعرض الدائنين لخطر التزاحم. فن واجب كل منهم أن يأخذ بأسباب البدار ما أمكن وأن يلتمس المخرج لنفسه، وليس من المحقق، بل ولا من المحتمل أن يكون قصب السبق في هذا التزاحم من نصيب أولى المتزاحمين وأحقهم به، إزاء كل أولئك آثر المشروع أن يستأصل ما يلابس تلك الحالة من أسباب الاضطراب، ولا سيما أنها لا تعين المدين في قليل أو كثير، فضلاً عن إضرارها بمصالح الدائنين، وكان سبيله إلى ذلك وضع نظام قانوني للإعسار يفئ من الحماية ما يظل المدين والدائن على حد سواء.
فيراعى فيما يتعلق بالمدين أنه يأمن تجهيل الأمر الواقع واحتمالاته، ويطمئن إلى نظام قانوني أوفر دقة وأوضح حدوداً فلم يعد إلحاق وصف الإعسار به معقوداً بمجرد زيادة ديونه على ماله من حقوق، بل يشترط لإشهار هذا الوصف، عدا ذلك، أن تكون أمواله غير كافية لا لوفاء ديونه جميعاً، بل لوفاء ما هو مستحق الأداء منها فحسب، وهو أمعن في تحقيق الغرض المقصود ومتى أشهر الإعسار كان مركز المدين في تصفية ديونه أفضل بلاشك من مركزه وفقاً لأحكام التشريع الحالى ذلك أن هذا الإشهار لا يستتبع حتماً حلول الديون المؤجلة، فللقاضي أن يبقي على الأجل وأن يمد فيه، بل وللقاضى ما هو أفضل : فله أن ينظر المدين إلى ميسرة بالنسبة إلى الديون المستحقة الأداء، وبهذا تتاح له تصفية ديونه ودياً في أكثر الظروف ملاءمة كما أن المشروع أباح له أن يتصرف في أمواله دون أن يخشى الدائنين في شيء، متى حصل على موافقة أغلبية خاصة من بينهم، على بيع كل هذه الأموال أو بعضها للوفاء بديونه من ثمنها، ولم يشترط إجماع الدائنين على هذه الموافقة وأباح له كذلك أن يتصرف في ماله ولو بغير رضاء هؤلاء الدائنين، على أن يكون ذلك بثمن المثل، وأن يودع الثمن خزينة المحكمة للوفاء بحقوقهم، وقد بسط له المشروع في أسباب الحماية ولا سيما ما كان منها إنساني الصبغة، فخوله حق الحصول على نفقة تقتطع من إيراده، إذا كان هذا الإيراد محجوزاً.
أما الدائنون فيكفل لهم نظام الإعسار قسطاً من الحماية، لا يدانيه ما كفل لهم منها بمقتضى الأحكام الراهنة فليس لهم أن يشفقوا في ظل هذا النظام من تقدم أحدهم على الباقين، بغير حق، ذلك أن مجرد تسجيل صحيفة دعوى إشهار الإعسار يكون من أثره عدم نفاذ أي اختصاص يقع بعد ذلك على عقارات المدين في حق الدائنين السابقة ديونهم على هذا التسجيل ومن أشهر إعسار المدين أصبح من أهون الأمور على الدائنين أن يأمنوا جانبه فيما يصدر عنه من التصرفات الضارة أو المدخولة، وأصبح إعمال أحكام الدعوى البوليصية فريداً في بساطته فكل تصرف قانوني يصدر من الدين المعسر، ويكون من ورائه انتقاص حقوقه أو زيادة التزاماته ، وكل وفاء يقع منه، لا ينفذ في حق الدائنين، دون حاجة إلى تحميلهم عبء إقامة الدليل على الغش، وهو عبء في أغلب الأحيان غير يسير ولتعزيز حماية الدائنين من تصرفات المدين الضارة أو المدخولة قرر المشروع توقيع عقوبة التبديد على المدين إذا ارتكب أعمالاً من أعمال الغش البين إضراراً بدائنيه وعلى هذا النحو كفل المشروع بنظام الإعسار حماية وافية للدائنين من المدين وجعل من المساواة الواجبة بينهم حقيقة واقعية.
وقد ذهب البعض إلى أن نظام الإعسار، وإن توافرت له المزايا التي تقدمت الإشارة إليها، فليس يخطو إعماله من عيب قد يرجح هذه المزايا جميعاً، فإذا فرض في رأيهم، أن أغلب الملاك ينوءون بأعباء الدين، فمن الخطر أن تتخذ إجراءات لإشهار إعسار هؤلاء الملاك، لأن هذه الإجراءات تفضي من طريق العلانية القضائية إلى الكشف عن مراكز أو أحوال ينبغي أن يكتم أمرها عن الملأ لاعتبارات مادية وأدبية ولكن لو صح أن يستهان بما يعرض للذهن في مثل هذه الظروف من وجوب رعاية ما يقتضي التعامل من شرف وخلق، أفلا يبقى بعد ذلك أمر التساؤل عما إذا كانت هذه المراكز المضطربة تظل في الواقع خافية غير معلومة ؟ الحق إنه ليس أيسر من كشف الحقيقة والبصر بها في هذا الشأن، فإن لم يتح ذلك من طرق استفاضة الشهرة، فثمة علانية إجراءات التوزيع القضائي، وجلسات المزايدات وبعد فليس المدين الجدير بالعناية حقاً هو البين الإعسار وإنما هو المدين العاثر الجد وهو من يحتمل أن يعود سيرة راضية إذا بذلت له المعونة، بالإبقاء على ائتمانه كاملاً غير منقوص والامتناع عن إشهار إعساره.
هذه القاعدة التي يمليها العقل وتقتضيها الإنسانية، هي التي تقررت في نظام الإعسار كما صوره المشروع، وقد نصت إحدى مواده الأساسية - وهي المادة 263 – على أن من واجب المحكمة في كل حال قبل أن تشهر إعسار المدين أن تراعي في تقديرها جميع الظروف التي أحاطت به سواء أكانت تلك الظروف عامة أم خاصة ، فتنظر إلى موارده المستقبلة ومقدرته الشخصية و مسؤليته عن الأسباب التي أدت إلى إعساره، ومصالح دائنيه المشروعة وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في حالته المالية، ويراعي أخيراً أنه لو فرض أن مديناً عاثر الجد أشهر إعساره، فليس ثمة أعدل من النظام الذي يطبق عليه في هذا الشأن، ولا أدني منه إلى العقل والرحمة، وقد تقدم أن هذا النظام يكفل التوفيق بين جميع المصالح المتعارضة، فهو يحمي المدين من دائنيه، ويحمي هؤلاء الدائنين من مدينهم، ويحمي بعضهم من البعض الآخر.
نظرة عامة وردت بملحق تقرير لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ:
اقترح حذف المواد من 249 إلى 264 الخاصة بالإعسار استناداً إلى أنها لا تحقق الغرض من نظام الإعسار بعد أن اقتطعت من المشروع الأصلي النصوص المتعلقة بالتصفية فحلول الأجل والإمهال مقرران بالمادتين 277 و 346 من المشروع، ودعوى عدم نفاذ التصرف فيها حماية كافية للدائن، واستناداً إلى أنه «من شأن هذا النظام أن يمكن الدائن المتعسف من تجريح سمعة المدين وتهديده بالمحاكمة الجنائية فضلاً عما فيه من زيادة عدد القضايا والإجراءات، ولم تر اللجنة الأخذ بهذا الاقتراح لأن نظام الإعسار يكفل للمدين والدائن مزايا لا تكفي في توفيرها الأحكام الجزئية التي وردت في سياق تحبيذ فكرة الحذف ولا تعادلها الاعتبارات المتصلة بعدد الدعاوى وهى بالنسبة للمدين المعسر كثيرة وإجراءات شهر الإعسار قد تقضى على النقيض إلى الإقلال منها وبحسب اللجنة أن تعرض هذه المزايا على الوجه الذي فصلته المذكرة الإيضاحية . ( نقلت اللجنة هنا نص المذكرة الإيضاحية ابتداء من عبارة،«فيراعي فيما يتعلق بالمدين ... إلى نهاية المذكرة )
مذكرة المشروع التمهيدي :
1- انقلبت حالة الإعسار، وفقاً لأحكام المشروع من مجرد أمر واقع يكتنفه التجهيل إلى نظام قانوني واضح المعالم بين الحدود فهي لا تقوم طبقاً لهذه الأحكام إلا بمقتضى حكم قضائي متى ثبت أن أموال المدين لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة الأداء وعلى هذا النحو لا يشترط مجرد نقص حقوق المدين عن ديونه، بل يشترط أيضاً أن تكون هذه الحقوق أقل من الديون المستحقة الأداء، أي أقل من جزء معين من مجموع الديون.
فإذا توافر هذا الشرط جاز للقاضي أن يحكم بذلك، دون أن ينطوى الأمر على ضرب من ضروب الوجوب ومؤدي هذا أن للقاضي سلطة رحبة الحدود، تنيح له تقدير جميع ظروف المدين، وأخذه بالشدة أو اصطناع الرفق في معاملته، وفقاً لأحواله العامة والخاصة، وقد يكون في الأحوال العامة ما يستنهض لمصلحة المدين كما لو عرضت له عسرة موقوتة في خلال أزمة اقتصادية شاملة ويراعي من ناحية أخرى أن الأحوال المدين الخاصة النصيب الأوفى في توجيه الحكم على مركزه، فمن ذلك مثلاً كفايته الشخصية ( وهي التي يتوقف عليها إلى حد بعيد تقدير ما يرجى له من فرص التوفيق في مستقبله ) وسنه، وحرفته، ومركزه الاجتماعي، ومصالح دائنيه المشروعة، ومدى مسؤوليته عن إعساره، وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في حالته المادية.
المشروع في لجنة المراجعة
أشار أحد حضرات الأعضاء إلى أن نظام الإعسار لا يتفق مع الحالة الاقتصادية في مصر إذ هو يسيء إلى مركز الدائنين وهم أغلبية دون أن ينطوي على منفعة حقيقية لهم فذكر معالي السنهوري باشا أن وضع هذا النظام أريد به تقرير الأمر الواقع فالمدين الذي ينزع ملكه تتخذ قبله إجراءات للعلانية، وليس في شهر الإعسار ما يمس سمعة المدين بأكثر من ذلك. ثم إن النظام الذي وضعه المشروع يعود على المدين بمزايا حقيقية، و ييسر له أمر الوفاء بديونه.
ونوه أحد الأعضاء بأن نظام الإعسار يكون أولى بالقبول لو تضمن مزايا مماثلة للمزايا التي يحصل عليها المدين التاجر من طريق الصلح الواقي من الإفلاس كإبراء المدين من جزء من الديون إذا وافقت على ذلك أغلبية من الدائنين، أو إبرائه من الديون أياً كان مقدارها متى ترك للدائنين كل ما يملك من مال - فوافقت اللجنة على استيقاء نظام الإعسار في المشروع مع إحالة الاقتراح الخاص بإبراء المدين إلى لجنة فرعية تشكل من معالي السنهوري باشا وعبده بك محرم و نصيف بك زكی والدكتور حسن بغدادی والدكتور شفيق شحاته لصياغة النصوص التي يحسن تقريرها في هذا الشأن.
ثم تليت المادة 334 من المشروع فاقترح معالي السنهوري باشا تفضيل الصيغة الثانية للنص وهي :
«يجوز أن يشهر إعسار كل مدين غير تاجر إذا كانت أمواله لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة الأداء».
وقد وافقت اللجنة على ذلك، وقدمت المادة في المشروع النهائي تحت رقم 261 بالصيغة الآتية :
«يجوز أن يشهر إعسار المدين غير التاجر إذا كانت أمواله لا تكن لوفاء ديونه المستحقة الأداء».
المشروع في مجلس النواب
وافق المجلس على المادة دون تعديل تحت رقم 261
المشروع في مجلس الشيوخ
مناقشات لجنة القانون المدني :
محضر الجلسة الرابعة والعشرين
تليت المادة 261 وبعد مناقشة رأی حذف كلمتي «غير التاجر» منها لإفساح المجال لبحث فكرة وضع نصوص في القانون التجاري تجيز للمدين التاجر الاستفادة من أحكام الإعسار بما فيها من يسر.
ووافقت اللجنة على المادة معدلة كالآتي :
«يجوز أن يشهر إعسار المدين إذا كانت أمواله لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة الأداء».
تقرير اللجنة :
حذفت من النص عبارة «غير التاجر» لأن قانون التجارة تكفل بالإجراءات التي تتخذ بالنسبة إلى التاجر.
وأصبح رقم المادة 249 .
محضر الجلسة السابعة والستين
اعترض الدكتور حامد زكى على نظام الإعسار الموجود في هذا المشروع قائلاً إن هذا النظام جديد وهو نظام خطر من الناحية الموضوعية وقد انتقده كثير من الشراح ومن بينهم سعادة عبد العزيز فهمي باشا، وقد رد على هذا الاعتراض معالى السنهورى باشا قائلاً : إن هذا النظام يكفل للمدين والدائن مزايا عدة لا تكفي في توفيرها الأحكام الجزئية التي وردت في سياق تحبيذ فكرة الحذف ولا تعادلها الاعتبارات المتصلة بعدد الدعاوى وهي بالنسبة للمدين المعسر كثيرة وإجراءات شهر الإعسار قد تفضي على النقيض إلى الإقلال منها وتأييداً لهذا القول تلا معاليه ما جاء في المذكرة الإيضاحية خاصاً بهذا الموضوع.
قرار اللجنة :
لم تر اللجنة الأخذ بهذه الملاحظة للأسباب التي أبداها معالي السنهورى باشا .
مناقشات المجلس :
وافق المجلس على المادة كما أقرتها الجنة.
مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني ، الصفحة : 658
الإعسار
المذكرة الإيضاحية :
نظرة عامة:
لم يخرج المشروع في تنظيم موقف المدين المعسر عن رد الأمر إلى نصابه في وضع حافل بأسباب الاضطراب والتشتت، والحق أن تداول اليسر والعسر في أحوال المتعاملين ظاهرة تقتضيها سنن التعامل، أرادت صناعة التشريع أم لم ترد فالإعسار بهذه المثابة، حالة واقعة ينبغي أن يعترف القانون بها، وأن يعالج ما ينشأ عنها من صعوبات.
ومن عجب أن تتوافر في النصوص الراهنة مقومات هذا الاعتراف، وأن يهمل مع ذلك، تنظم العلاج إهمالاً تاماً فقد جعل الإعسار من مسقطات الأجل، وأسس عليه جواز الطعن في تصرفات المدين من طريق الدعوى البوليصية، وجواز استعمال ما للمدين من الحقوق والدعاوى بمقتضى الدعوى غير المباشرة.
وغني عن البيان أن حالة الإعسار تستتبع بحكم الواقع سقوط بعض الحقوق وتقييد البعض الآخر، فهي تعرض الدائنين لخطر التزاحم. فن واجب كل منهم أن يأخذ بأسباب البدار ما أمكن وأن يلتمس المخرج لنفسه، وليس من المحقق، بل ولا من المحتمل أن يكون قصب السبق في هذا التزاحم من نصيب أولى المتزاحمين وأحقهم به، إزاء كل أولئك آثر المشروع أن يستأصل ما يلابس تلك الحالة من أسباب الاضطراب، ولا سيما أنها لا تعين المدين في قليل أو كثير، فضلاً عن إضرارها بمصالح الدائنين، وكان سبيله إلى ذلك وضع نظام قانوني للإعسار يفئ من الحماية ما يظل المدين والدائن على حد سواء.
فيراعى فيما يتعلق بالمدين أنه يأمن تجهيل الأمر الواقع واحتمالاته، ويطمئن إلى نظام قانوني أوفر دقة وأوضح حدوداً فلم يعد إلحاق وصف الإعسار به معقوداً بمجرد زيادة ديونه على ماله من حقوق، بل يشترط لإشهار هذا الوصف، عدا ذلك، أن تكون أمواله غير كافية لا لوفاء ديونه جميعاً، بل لوفاء ما هو مستحق الأداء منها فحسب، وهو أمعن في تحقيق الغرض المقصود ومتى أشهر الإعسار كان مركز المدين في تصفية ديونه أفضل بلاشك من مركزه وفقاً لأحكام التشريع الحالى ذلك أن هذا الإشهار لا يستتبع حتماً حلول الديون المؤجلة، فللقاضي أن يبقي على الأجل وأن يمد فيه، بل وللقاضى ما هو أفضل : فله أن ينظر المدين إلى ميسرة بالنسبة إلى الديون المستحقة الأداء، وبهذا تتاح له تصفية ديونه ودياً في أكثر الظروف ملاءمة كما أن المشروع أباح له أن يتصرف في أمواله دون أن يخشى الدائنين في شيء، متى حصل على موافقة أغلبية خاصة من بينهم، على بيع كل هذه الأموال أو بعضها للوفاء بديونه من ثمنها، ولم يشترط إجماع الدائنين على هذه الموافقة وأباح له كذلك أن يتصرف في ماله ولو بغير رضاء هؤلاء الدائنين، على أن يكون ذلك بثمن المثل، وأن يودع الثمن خزينة المحكمة للوفاء بحقوقهم، وقد بسط له المشروع في أسباب الحماية ولا سيما ما كان منها إنساني الصبغة، فخوله حق الحصول على نفقة تقتطع من إيراده، إذا كان هذا الإيراد محجوزاً.
أما الدائنون فيكفل لهم نظام الإعسار قسطاً من الحماية، لا يدانيه ما كفل لهم منها بمقتضى الأحكام الراهنة فليس لهم أن يشفقوا في ظل هذا النظام من تقدم أحدهم على الباقين، بغير حق، ذلك أن مجرد تسجيل صحيفة دعوى إشهار الإعسار يكون من أثره عدم نفاذ أي اختصاص يقع بعد ذلك على عقارات المدين في حق الدائنين السابقة ديونهم على هذا التسجيل ومن أشهر إعسار المدين أصبح من أهون الأمور على الدائنين أن يأمنوا جانبه فيما يصدر عنه من التصرفات الضارة أو المدخولة، وأصبح إعمال أحكام الدعوى البوليصية فريداً في بساطته فكل تصرف قانوني يصدر من الدين المعسر، ويكون من ورائه انتقاص حقوقه أو زيادة التزاماته ، وكل وفاء يقع منه، لا ينفذ في حق الدائنين، دون حاجة إلى تحميلهم عبء إقامة الدليل على الغش، وهو عبء في أغلب الأحيان غير يسير ولتعزيز حماية الدائنين من تصرفات المدين الضارة أو المدخولة قرر المشروع توقيع عقوبة التبديد على المدين إذا ارتكب أعمالاً من أعمال الغش البين إضراراً بدائنيه وعلى هذا النحو كفل المشروع بنظام الإعسار حماية وافية للدائنين من المدين وجعل من المساواة الواجبة بينهم حقيقة واقعية.
وقد ذهب البعض إلى أن نظام الإعسار، وإن توافرت له المزايا التي تقدمت الإشارة إليها، فليس يخطو إعماله من عيب قد يرجح هذه المزايا جميعاً، فإذا فرض في رأيهم، أن أغلب الملاك ينوءون بأعباء الدين، فمن الخطر أن تتخذ إجراءات لإشهار إعسار هؤلاء الملاك، لأن هذه الإجراءات تفضي من طريق العلانية القضائية إلى الكشف عن مراكز أو أحوال ينبغي أن يكتم أمرها عن الملأ لاعتبارات مادية وأدبية ولكن لو صح أن يستهان بما يعرض للذهن في مثل هذه الظروف من وجوب رعاية ما يقتضي التعامل من شرف وخلق، أفلا يبقى بعد ذلك أمر التساؤل عما إذا كانت هذه المراكز المضطربة تظل في الواقع خافية غير معلومة ؟ الحق إنه ليس أيسر من كشف الحقيقة والبصر بها في هذا الشأن، فإن لم يتح ذلك من طرق استفاضة الشهرة، فثمة علانية إجراءات التوزيع القضائي، وجلسات المزايدات وبعد فليس المدين الجدير بالعناية حقاً هو البين الإعسار وإنما هو المدين العاثر الجد وهو من يحتمل أن يعود سيرة راضية إذا بذلت له المعونة، بالإبقاء على ائتمانه كاملاً غير منقوص والامتناع عن إشهار إعساره.
هذه القاعدة التي يمليها العقل وتقتضيها الإنسانية، هي التي تقررت في نظام الإعسار كما صوره المشروع، وقد نصت إحدى مواده الأساسية - وهي المادة 263 – على أن من واجب المحكمة في كل حال قبل أن تشهر إعسار المدين أن تراعي في تقديرها جميع الظروف التي أحاطت به سواء أكانت تلك الظروف عامة أم خاصة ، فتنظر إلى موارده المستقبلة ومقدرته الشخصية و مسؤليته عن الأسباب التي أدت إلى إعساره، ومصالح دائنيه المشروعة وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في حالته المالية، ويراعي أخيراً أنه لو فرض أن مديناً عاثر الجد أشهر إعساره، فليس ثمة أعدل من النظام الذي يطبق عليه في هذا الشأن، ولا أدني منه إلى العقل والرحمة، وقد تقدم أن هذا النظام يكفل التوفيق بين جميع المصالح المتعارضة، فهو يحمي المدين من دائنيه، ويحمي هؤلاء الدائنين من مدينهم، ويحمي بعضهم من البعض الآخر.
نظرة عامة وردت بملحق تقرير لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ:
اقترح حذف المواد من 249 إلى 264 الخاصة بالإعسار استناداً إلى أنها لا تحقق الغرض من نظام الإعسار بعد أن اقتطعت من المشروع الأصلي النصوص المتعلقة بالتصفية فحلول الأجل والإمهال مقرران بالمادتين 277 و 346 من المشروع، ودعوى عدم نفاذ التصرف فيها حماية كافية للدائن، واستناداً إلى أنه «من شأن هذا النظام أن يمكن الدائن المتعسف من تجريح سمعة المدين وتهديده بالمحاكمة الجنائية فضلاً عما فيه من زيادة عدد القضايا والإجراءات، ولم تر اللجنة الأخذ بهذا الاقتراح لأن نظام الإعسار يكفل للمدين والدائن مزايا لا تكفي في توفيرها الأحكام الجزئية التي وردت في سياق تحبيذ فكرة الحذف ولا تعادلها الاعتبارات المتصلة بعدد الدعاوى وهى بالنسبة للمدين المعسر كثيرة وإجراءات شهر الإعسار قد تقضى على النقيض إلى الإقلال منها وبحسب اللجنة أن تعرض هذه المزايا على الوجه الذي فصلته المذكرة الإيضاحية . ( نقلت اللجنة هنا نص المذكرة الإيضاحية ابتداء من عبارة،«فيراعي فيما يتعلق بالمدين ... إلى نهاية المذكرة )
مذكرة المشروع التمهيدي :
1- انقلبت حالة الإعسار، وفقاً لأحكام المشروع من مجرد أمر واقع يكتنفه التجهيل إلى نظام قانوني واضح المعالم بين الحدود فهي لا تقوم طبقاً لهذه الأحكام إلا بمقتضى حكم قضائي متى ثبت أن أموال المدين لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة الأداء وعلى هذا النحو لا يشترط مجرد نقص حقوق المدين عن ديونه، بل يشترط أيضاً أن تكون هذه الحقوق أقل من الديون المستحقة الأداء، أي أقل من جزء معين من مجموع الديون.
فإذا توافر هذا الشرط جاز للقاضي أن يحكم بذلك، دون أن ينطوى الأمر على ضرب من ضروب الوجوب ومؤدي هذا أن للقاضي سلطة رحبة الحدود، تنيح له تقدير جميع ظروف المدين، وأخذه بالشدة أو اصطناع الرفق في معاملته، وفقاً لأحواله العامة والخاصة، وقد يكون في الأحوال العامة ما يستنهض لمصلحة المدين كما لو عرضت له عسرة موقوتة في خلال أزمة اقتصادية شاملة ويراعي من ناحية أخرى أن الأحوال المدين الخاصة النصيب الأوفى في توجيه الحكم على مركزه، فمن ذلك مثلاً كفايته الشخصية ( وهي التي يتوقف عليها إلى حد بعيد تقدير ما يرجى له من فرص التوفيق في مستقبله ) وسنه، وحرفته، ومركزه الاجتماعي، ومصالح دائنيه المشروعة، ومدى مسؤوليته عن إعساره، وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في حالته المادية.
المشروع في لجنة المراجعة
أشار أحد حضرات الأعضاء إلى أن نظام الإعسار لا يتفق مع الحالة الاقتصادية في مصر إذ هو يسيء إلى مركز الدائنين وهم أغلبية دون أن ينطوي على منفعة حقيقية لهم فذكر معالي السنهوري باشا أن وضع هذا النظام أريد به تقرير الأمر الواقع فالمدين الذي ينزع ملكه تتخذ قبله إجراءات للعلانية، وليس في شهر الإعسار ما يمس سمعة المدين بأكثر من ذلك. ثم إن النظام الذي وضعه المشروع يعود على المدين بمزايا حقيقية، و ييسر له أمر الوفاء بديونه.
ونوه أحد الأعضاء بأن نظام الإعسار يكون أولى بالقبول لو تضمن مزايا مماثلة للمزايا التي يحصل عليها المدين التاجر من طريق الصلح الواقي من الإفلاس كإبراء المدين من جزء من الديون إذا وافقت على ذلك أغلبية من الدائنين، أو إبرائه من الديون أياً كان مقدارها متى ترك للدائنين كل ما يملك من مال - فوافقت اللجنة على استيقاء نظام الإعسار في المشروع مع إحالة الاقتراح الخاص بإبراء المدين إلى لجنة فرعية تشكل من معالي السنهوري باشا وعبده بك محرم و نصيف بك زكی والدكتور حسن بغدادی والدكتور شفيق شحاته لصياغة النصوص التي يحسن تقريرها في هذا الشأن.
ثم تليت المادة 334 من المشروع فاقترح معالي السنهوري باشا تفضيل الصيغة الثانية للنص وهي :
«يجوز أن يشهر إعسار كل مدين غير تاجر إذا كانت أمواله لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة الأداء».
وقد وافقت اللجنة على ذلك، وقدمت المادة في المشروع النهائي تحت رقم 261 بالصيغة الآتية :
«يجوز أن يشهر إعسار المدين غير التاجر إذا كانت أمواله لا تكن لوفاء ديونه المستحقة الأداء».
المشروع في مجلس النواب
وافق المجلس على المادة دون تعديل تحت رقم 261
المشروع في مجلس الشيوخ
مناقشات لجنة القانون المدني :
محضر الجلسة الرابعة والعشرين
تليت المادة 261 وبعد مناقشة رأی حذف كلمتي «غير التاجر» منها لإفساح المجال لبحث فكرة وضع نصوص في القانون التجاري تجيز للمدين التاجر الاستفادة من أحكام الإعسار بما فيها من يسر.
ووافقت اللجنة على المادة معدلة كالآتي :
«يجوز أن يشهر إعسار المدين إذا كانت أمواله لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة الأداء».
تقرير اللجنة :
حذفت من النص عبارة «غير التاجر» لأن قانون التجارة تكفل بالإجراءات التي تتخذ بالنسبة إلى التاجر.
وأصبح رقم المادة 249 .
محضر الجلسة السابعة والستين
اعترض الدكتور حامد زكى على نظام الإعسار الموجود في هذا المشروع قائلاً إن هذا النظام جديد وهو نظام خطر من الناحية الموضوعية وقد انتقده كثير من الشراح ومن بينهم سعادة عبد العزيز فهمي باشا، وقد رد على هذا الاعتراض معالى السنهورى باشا قائلاً : إن هذا النظام يكفل للمدين والدائن مزايا عدة لا تكفي في توفيرها الأحكام الجزئية التي وردت في سياق تحبيذ فكرة الحذف ولا تعادلها الاعتبارات المتصلة بعدد الدعاوى وهي بالنسبة للمدين المعسر كثيرة وإجراءات شهر الإعسار قد تفضي على النقيض إلى الإقلال منها وتأييداً لهذا القول تلا معاليه ما جاء في المذكرة الإيضاحية خاصاً بهذا الموضوع.
قرار اللجنة :
لم تر اللجنة الأخذ بهذه الملاحظة للأسباب التي أبداها معالي السنهورى باشا .
مناقشات المجلس :
وافق المجلس على المادة كما أقرتها الجنة.
الإعسار:
الإعسار، أما أن يكون إعساراً فعلياً، وإما أن يكون إعساراً قانونياً، والإعسار الفعلي يتحقق عندما تكون أموال الشخص، السائلة وغير السائلة من عقار ومنقول، غير كافية للوفاء بديونه. أما الإعسار القانوني فهو حالة قانونية تستفاد من أن أموال الشخص ليست كافية للوفاء بديونه الحالة المستحقة الأداء، ومن ثم لا يتحقق الاعسار القانوني عندما تكون أموال المدين في جملتها مساوية لديونه المستحقة الأداء أو تجاوزها ولا ينال من ذلك أن يتوقف الشخص عن سداد دين مستحق الأداء مادامت أمواله تجاوز ديونه، كذلك لا يعتبر الشخص معسراً إعساراً قانونياً، إذا كانت أمواله تفي بديونه المستحقة الأداء، فلا يشترط أن تكون هذه الأموال كافية للوفاء بجميع الديون، الحال منها والمؤجل. إذ يكفي أن تكون كافية للوفاء بالدين الحال دون المؤجل. إذ يظل الدين المؤجل على أجله ولا يحل بمجرد اتخاذ إجراءات شهر الاعسار، بل يجب لحلوله صدور حكم شهر الإعسار م 255.
والتاجر يشهر إفلاسه إذا توقف عن دفع دین تجاری مستحق الأداء مهما كان موسراً. كما يجوز شهر إعساره لدين مدني كثمن أدوات لمنزله وذلك وفقاً للمادة 249 مدنی. ولا يجوز شهر الإعسار وفقاً للمادة سالفة الذكر إلا في حالة الإعسار القانوني دون الإعسار الفعلي.
إثبات الإعسار :
الإعسار وهو عدم كفاية أموال المدين للوفاء بديونه المستحقة الأداء، واقعة مادية، للدائن المدعي إثباتها بكافة الطرق القانونية ومنها البينة والقرائن، وله الاستناد للمادة 239 مدنی كقرينة قضائية، كما عليه هذا الإثبات عند الطعن بالدعوى البوليصية.
إشهار إعسار المدين، أمر جوازي للمحكمة، فلها أن تفضي به ولها أن ترفضه رغم تحقق شروطه وفي هذه الحالة الأخيرة يجب أن توضح أسباب الرفض على النحو الذي سوف نوضحه بالمادة 251.(المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الرابع، الصفحة/ 605)
فإن مجرد توقف المدين عن الدفع ليس بالدليل على إعساره فلا يكفى، حتى يجوز شهر إعسار المدين، أن تكون أمواله غير كافية للوفاء بجميع ديونه، ولا يكفى أن يتوقف عن دفع دين مستحق الأداء، بل يجب أن يكون أشد إعساراً من كل ذلك ، فتكون أمواله غير كافية للوفاء بديونه المستحقة الأداء وحدها . فلو أن أمواله كانت كافية للوفاء بالديون المستحقة الأداء، لم يجز شهر إعساره، حتى لو كانت هذه الأموال غير كافية للوفاء بجميع الديون الحالة والمؤجلة، وحتى لو توقف عن دفع دين حال .(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفي الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء/ الثاني المجلد/ الثاني الصفحة/ 1573)
الإعسار هو حالة المدين الذي تربو ديونه المستحقة الأداء على حقوقه. وعلى ذلك فلا يعتد في هذا المجال بالديون المؤجلة .
وهذا الإعسار يسمى بالإعسار القانوني .
ويختلف الإعسار القانوني عن الإعسار الفعلي، الذي يتحقق بحالة المدين التي تزيد فيها ديونه على حقوقه. سواء أكانت ديونه مستحقة الأداء أم مؤجلة وهذا الإعسار الفعلي هو الذي يلزم توافره ليبرر التجاء الدائن إلى الطعن في تصرفات مدينه عن طريق الدعوى البوليصية أو إلى استعمال حقوق مدينه من طريق الدعوى غير المباشرة.
غير أن المشرع رأي - عندما اتجه إلى وضع نظام قانوني للإعسار المدني يفرض به قيوداً شديدة على المدين - أن المصلحة تقتضي تضييق فكرة الإعسار المدني التي يترتب على تحققها فرض القيود التي نص عليها القانون.
ومؤدى ذلك أنه لا يكفي في تحقق الإعسار الذي تنطبق عليه المواد 249 ومابعدها أن تكون أموال المدين غير كافية لسداد جميع ديونه الحالة والمؤجلة بل يجب أن تقصر أمواله عن وفاء الديون الحالة وحدها. وهي درجة من الإعسار أشد من الدرجة التي يكتفي بها في استعمال الدعوى البوليصية والدعوى غير المباشرة .
نظام الإعسار المنصوص عليه في المواد (249 - 264 ) خاص بالإعسار المدني لغير التجار، وهو يختلف عن نظام الإفلاس التجاري المنصوص عليه في قانون التجارة.
وكانت المادة (334 ) من المشروع التمهيدي المقابلة للمادة (249 ) مدنی تنص على أنه: "يجوز أن يشهر إعسار كل مدين غير تاجر، تزيد ديونه على أمواله، متى توقف عن دفع ديونه المستحقة الأداء". أو يجوز أن يشهر إعسار كل مدين غير تاجر، إذا كانت أمواله لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة الأداء".
إلا أنه أثناء مناقشة المادة بلجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ رأى حذف كلمتي "غير التاجر" منها لإفساح المجال لفكرة وضع نصوص في القانون التجاري تجيز للمدين التاجر الاستفادة من أحكام الإعسار بما فيها من يسر. وقد جاء بتقرير اللجنة أنه: "حذفت من النص عبارة "غير التاجر" لأن قانون التجارة تكفل بالإجراءات التي تتخذ بالنسبة للتاجر.
وواضح أن ليس من شأن هذا الحذف إباحة شهر إعسار المدين التاجر، بل يظل نظام الإعسار قاصراً على غير التجار .
يشترط لشهر إعسار المدين شرطان هما :
1-أن يثبت أن أموال المدين لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة الأداء :
فإذا كانت على المدين ديون مستحقة الأداء وأخرى مؤجلة، فلا يشترط لشهر الإعسار أن تكون أمواله غير كافية لوفاء هذه الديون جميعاً، بل يكفي أن تكون هذه الأموال أقل من الديون المستحقة الأداء .
راجع نقض رقم 492 لسنة 46 ق جلسة 1978/5/8
2- صدور حكم بشهر الإعسار:
يجب أن يطلب الحكم بشهر الإعسار من المحكمة المختصة. وإذا كان الغالب أن يقوم الدائنون بذلك، إلا أن القانون يجعل طلب شهر الإعسار للمدين نفسه أو لأحد دائنيه. (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الثالث، الصفحة/ 756)
الإعسار هو حالة المدين الذي تربو دیونه على أمواله . والأصل أن يعول فيه على جميع ديون المدين، الحالة منها والمؤجلة.. فإذا زادت قیمتها جميعاً على قيمة أمواله في وقت معين، فهو معسر في هذا الوقت، وهذا الإعسار يقوم بحكم الواقع ويسمى إعساراً فعلياً " insolvabilite وهو الذي يلزم توافره ليبرر التجاء الدائن إلى الطعن في تصرفات مدينه من طريق الدعوى البوليصية أو إلى استعمال حقوق مدینه من طريق الدعوى غير المباشرة.
غير أن المشرع رأي - عندما اتجه إلى وضع نظام قانوني للإعسار المدني يفرض به قيوداً شديدة على المدين - أن المصلحة تقتضي تضييق فكرة الإعسار المدني التي يترتب على تحققها فرض القيود المذكورة، فنص في المادة 249 على أن « يجوز أن يشهر إعسار المدين إذا كانت أمواله لا تكفي لوفاء ديونه المستحقة » ومؤدى ذلك أنه لا يكفي في تحقق الإعسار الذي تنطبق عليه المواد 249 وما بعدها أن تكون أموال المدين غير كافية لسداد جميع ديونه الحالة والمؤجلة، بل يجب أن تقصر أمواله حتى عن وفاء ديونه الحالة وحدها، وهي درجة من الإعسار أشد من الدرجة التي يكتفي بها في استعمال الدعوى البوليصية والدعوى غير المباشرة .
ولذلك يوصف الإعسار الذي تنطبق عليه المواد 249 وما بعدها بأنه إعسار قانونی de confiture تمييزاً له من الإعسار الفعلي insolvabilité الذي يكتفى به في الدعوى البوليصية والدعوى غير المباشرة .(الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ السادس، الصفحة/ 398)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس ، الصفحة / 246
إِعْسَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإْعْسَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَعْسَرَ، وَهُوَ ضِدُّ الْيَسَارِ، وَالْعُسْرُ: اسْمُ مَصْدَرٍ وَهُوَ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالصُّعُوبَةُ، قَالَ تَعَالَى : سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا).
وَفِي التَّنْزِيلِ: ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)
وَالْعُسْرَةُ: قِلَّةُ ذَاتِ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ الإْعْسَارُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفَقَةِ، أَوْ أَدَاءُ مَا عَلَيْهِ بِمَالٍ وَلاَ كَسْبَ.
وَقِيلَ: هُوَ زِيَادَةُ خَرْجِهِ عَنْ دَخْلِهِ وَهُمَا تَعْرِيفَانِ مُتَقَارِبَانِ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإْفْلاَسُ:
2 - الإْفْلاَسُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْتِقَالُ مِنْ حَالَةِ الْيُسْرِ إِلَى حَالَةِ الْعُسْرِ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الشَّخْصِ أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإْعْسَارِ أَنَّ الإْفْلاَسَ لاَ يَنْفَكُّ عَنْ دَيْنٍ، أَمَّا الإْعْسَارُ فَقَدْ يَكُونُ عَنْ دَيْنٍ أَوْ عَنْ قِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ.
ب - الْفَقْرُ:
3 - الْفَقْرُ: لُغَةً الْحَاجَةُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْفَقِيرَ: بِأَنَّهُ الَّذِي لاَ شَيْءَ لَهُ، وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي لَهُ بَعْضُ مَا يَكْفِيهِ، وَعَرَّفَهُمَا بَعْضُهُمْ بِعَكْسِهِ. هَذَا إِذَا اجْتَمَعَا، كَمَا فِي قوله تعالي( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) أَمَّا إِذَا افْتَرَقَا بِأَنْ ذُكِرَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْحَاجَةِ.
مَا يَثْبُتُ بِهِ الإْعْسَارُ:
4 - يَثْبُتُ الإْعْسَارُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أ - إِقْرَارُ الْمُسْتَحِقِّ (صَاحِبُ الدَّيْنِ) فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ مَدِينَهُ مُعْسِرٌ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَيُخَلَّى سَبِيلُ الْمَدِينِ، لأِنَّهُ اسْتَحَقَّ الإْنْظَارَ بِالنَّصِّ.لقوله تعالي وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُلاَزَمَتُهُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يُمْنَعُ مِنْ مُلاَزَمَتِهِ.
ب - وَيَثْبُتُ الإْعْسَارُ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى كَالشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَالْقَرَائِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِثْبَاتٌ).
إِعْسَارُ الْمَدِينِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ. وَهَلْ يُحْبَسُ بِذَلِكَ أَمْ لاَ ؟
15 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي فَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي حَبْسَ الْمَدِينِ، أَمَرَهُ الْقَاضِي بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ، لأِنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ.
لِلْحَدِيثِ «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ». وَالْعُقُوبَةُ الْحَبْسُ.
فَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّ غَرِيمَهُ مُعْسِرٌ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، لأِنَّهُ اسْتَحَقَّ الإْنْظَارَ بِالنَّصِّ، وَلاَ يُمْنَعُ مِنَ الْمُلاَزَمَةِ. وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: هُوَ مُوسِرٌ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا مُعْسِرٌ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ يَسَارَهُ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَدَلَ مَالٍ كَالثَّمَنِ وَالْقَرْضِ، أَوِ الْتَزَمَهُ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِ حَبَسَهُ، لأِنَّ الظَّاهِرَ بَقَاءُ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ، وَالْتِزَامُهُ يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَلاَ يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ، لأِنَّهُ الأْصْلُ، وَذَلِكَ مِثْلُ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَنَفَقَةِ الأْقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ لَهُ مَالاً فَيَحْبِسُهُ، لأِنَّهُ ظَالِمٌ. فَإِذَا حَبَسَهُ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالٌ لَهُ أَظْهَرَهُ، وَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ، خَلَّى سَبِيلَهُ، لأِنَّ الظَّاهِرَ إِعْسَارُهُ فَيَسْتَحِقُّ الإْنْظَارَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِإِعْسَارِهِ. وَتُقْبَلُ بَيِّنَةُ الإْعْسَارِ بَعْدَ الْحَبْسِ بِالإْجْمَاعِ وَقَبْلَهُ لاَ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ وَجَدَ بَعْدَ الْحَبْسِ قَرِينَةً، وَهُوَ تَحَمُّلُ شِدَّةِ الْحَبْسِ وَمَضَايِقِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ إِعْسَارِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَقِيلَ تُقْبَلُ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى يَسَارِهِ أَبَدًا حَبَسَهُ لِظُلْمِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْحَبْسِ، قِيلَ: شَهْرَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ، وَبَعْضُهُمْ بِأَرْبَعَةٍ، وَبَعْضُهُمْ بِسِتَّةٍ. وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي احْتِمَالِ الْحَبْسِ، وَيَتَفَاوَتُونَ تَفَاوُتًا كَثِيرًا فَإِنَّهُ يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُحْبَسُ الْمَدِينُ الْمَجْهُولُ إِذَا ادَّعَى الْعُدْمَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ بِإِثْبَاتٍ، وَمَحَلُّ حَبْسِهِ مَا لَمْ يَسْأَلِ الصَّبْرَ وَالتَّأْخِيرَ إِلَى إِثْبَاتِ عُسْرِهِ، وَإِلاَّ أُخِّرَ مَعَ كَفَالَةِ كَفِيلٍ وَلَوْ بِالنَّفْسِ، وَيُحْبَسُ إِنْ جُهِلَ حَالُهُ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ عُسْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ الْحَمِيلُ (الْكَفِيلُ) غَرِمَ مَا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ عُسْرُهُ.
وَثُبُوتُ عُسْرِهِ يَكُونُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُمَا لاَ يَعْرِفَانِ لَهُ مَالاً ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا، وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ عَلَى الْبَتِّ، وَيَزِيدُ فِي مِينِهِ: وَإِنْ وَجَدْتُ الْمَالَ لأََقْضِيَنَّهُ عَاجِلاً، وَإِنْ كُنْتُ مُسَافِرًا عَجَّلْتُ الأْوْبَةَ (الإْيَابَ). وَبَعْدَ الْحَلِفِ يَجِبُ إِطْلاَقُهُ وَإِنْظَارُهُ، لقوله تعالي : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ.
فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُسْرُهُ وَطَالَ حَبْسُهُ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُ، لَكِنْ بَعْدَ حَلِفِهِ أَنَّهُ لاَ مَالَ عِنْدَهُ.
وَلاَ حَبَسَ عَلَى مُعْدَمٍ ثَابِتِ الْعُدْمِ، لِلآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، لأِنَّ حَبْسَهُ لاَ يَحْصُلُ بِهِ فَائِدَةٌ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَنْ يُوصِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ وُفِّيَ عَنْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِقَوْلِهِ عليه السلام (فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِيعَ مَا ظَهَرَ لَهُ وَدُفِعَ وَلَمْ يُحْبَسْ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُبِسَ وَبِيعَ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ عُسْرَهُ قُبِلَتْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ، لِقَوْلِهِ غز وجل وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ). وَأُحَلِّفُهُ مَعَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ وَأُخَلِّيهِ، وَمَنَعْتُ غُرَمَاءَهُ مِنْ لُزُومِهِ، حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ قَدْ أَفَادَ مَالاً، فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا فِي يَدِهِ مَالاً سُئِلَ، فَإِنْ قَالَ مُضَارَبَةٌ قُبِلَتْ مَعَ يَمِينِهِ، وَلاَ غَايَةَ لِحَبْسِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْكَشْفِ عَنْهُ، فَمَتَى اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَا وَصَفْتُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُهُ، وَلاَ يَغْفُلُ الْمَسْأَلَةَ عَنْهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ فَطُولِبَ بِهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ، نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ ظَاهِرٌ أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالاً ظَاهِرًا فَادَّعَى الإْعْسَارَ وَصَدَّقَهُ غَرِيمُهُ لَمْ يُحْبَسْ وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ، وَلَمْ تَجُزْ مُلاَزَمَتُهُ، لقوله تعالي وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم لِغُرَمَاءِ الَّذِي كَثُرَ دَيْنُهُ: (خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ).
وَلأِنَّ الْحَبْسَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لإِثْبَاتِ عُسْرَتِهِ أَوْ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَعُسْرَتُهُ ثَابِتَةٌ، وَالْقَضَاءُ مُتَعَذِّرٌ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي الْحَبْسِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ غَرِيمُهُ فَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُرِفَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ لِكَوْنِ الدَّيْنِ ثَبَتَ عَنْ مُعَاوَضَةٍ، كَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ، أَوْ عُرِفَ لَهُ أَصْلُ مَالٍ سِوَى هَذَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ غَرِيمِهِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ ذُو مَالٍ حُبِسَ حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الأْمْصَارِ وَقُضَاتِهِمْ يَرَوْنَ الْحَبْسَ فِي الدَّيْنِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس عشر ، الصفحة / 310
الْحَبْسُ لِلتَّفْلِيسِ :
83 - يَشْتَرِكُ الْمُفْلِسُ مَعَ الْمَدِينِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأْحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَيَفْتَرِقُ عَنْهُ - بِحَسَبِ مَا ذَكَرُوهُ - فِي أَنَّ الْحَاكِمَ يَتَدَخَّلُ لِشَهْرِ الْمُفْلِسِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِعْلاَنِ عَجْزِهِ عَنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ وَجَعْلِ مَالِهِ الْمُتَبَقِّي لِغُرَمَائِهِ.
وَلاَ يُحْبَسُ الْمُعْسِرُ وَلَوْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ ذَلِكَ لقوله تعالي : (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).
وَإِذَا كَانَ الْمُفْلِسُ مَجْهُولَ الْحَالِ لاَ يُعْرَفُ غِنَاهُ أَوْ فَقْرُهُ حُبِسَ بِطَلَبٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ كَفَالَتِهِ بِوَجْهٍ أَوْ بِمَالٍ حَتَّى تَزُولَ الْجَهَالَةُ. وَقَالُوا: إِذَا أَخْبَرَ بِإِعْسَارِهِ وَاحِدٌ مِنَ الثِّقَاتِ أُخْرِجَ مِنْ حَبْسِهِ.
وَإِذَا حُبِسَ الْمُفْلِسُ الْمَجْهُولُ الْحَالِ وَظَهَرَ أَنَّ لَهُ مَالاً، أَوْ عُرِفَ مَكَانُهُ أُمِرَ بِالْوَفَاءِ. فَإِنْ أَبَى أُبْقِيَ فِي الْحَبْسِ - بِطَلَبِ غَرِيمِهِ - حَتَّى يَبِيعَ مَالَهُ وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ. فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى عَدَمِ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَقَضَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقِيلَ: يُخَيَّرُ الْحَاكِمُ بَيْنَ حَبْسِهِ لإِجْبَارِهِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ بَيْعِهِ عَلَيْهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يُجِيبُ الْغُرَمَاءَ إِلَى بَيْعِ مَالِ الْمُفْلِسِ وَعُرُوضِهِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ تَخْسَرَ عَلَيْهِ وَيَتَضَرَّرَ. بَلْ يَقْضِي دَيْنَهُ بِجِنْسِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيُؤَبِّدُ حَبْسَهُ لِحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».
وَإِذَا قَامَتِ الْقَرَائِنُ أَوِ الْبَيِّنَةُ عَلَى وُجُودِ مَالٍ لِلْمَدِينِ الْمُفْلِسِ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ حُبِسَ حَتَّى يُظْهِرَهُ إِنْ طَلَبَ غَرِيمُهُ ذَلِكَ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ الآْنِفِ ذِكْرُهُ.
حَبْسُ الْمُفْلِسِ بِطَلَبِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ :
84 - إِنْ طَلَبَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ حَبْسَ الْمُفْلِسِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ وَأَبَى بَعْضُهُمْ حُبِسَ وَلَوْ لِوَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسُوا مُحَاصَّةَ الْحَابِسِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ فَلَهُمْ ذَلِكَ. وَلَهُمْ أَيْضًا إِبْقَاءُ حِصَصِهِمْ فِي يَدِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ. وَلَيْسَ لِلْغَرِيمِ الْحَابِسِ إِلاَّ حِصَّتُهُ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن والثلاوثون ، الصفحة / 114
مَطْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَطْلُ لُغَةً: الْمُدَافَعَةُ عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَطَلْتُ الْحَدِيدَةَ: إِذَا ضَرَبْتَهَا وَمَدَدْتَهَا لِتَطُولَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: مَطَلَهُ بِدَيْنِهِ مَطْلاً، وَمَاطَلَهُ مُمَاطَلَةً: إِذَا سَوَّفَهُ بِوَعْدِ الْوَفَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَكَى النَّوَوِيُّ وَعَلِيُّ الْقَارِي أَنَّ الْمَطْلَ شَرْعًا: مَنْعُ قَضَاءِ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَدْخُلُ فِي الْمَطْلِ كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ، كَالزَّوْحِ لِزَوْجَتِهِ، وَالْحَاكِمِ لِرَعِيَّتِهِ، وَبِالْعَكْسِ .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِنْظَارُ:
2 - الإِنْظَارُ وَالنَّظِرَةُ فِي اللُّغَةِ الإْمْهَالُ وَالتَّأْخِيرُ، يُقَالُ: أَنْظَرْتُ الْمَدِينَ، أَيْ أَخَّرْتُهُ، وَذَكَرَ الأْزْهَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّظْرِةِ فِي قوله تعالي : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الإِنْظَارُ وَالإْمْهَالُ إِلَى أَنْ يُوسِرَ وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْلِ وَالإِنْظَارِ التَّأْخِيرُ فِي كُلٍّ، لَكِنَّهُ فِي الْمَطْلِ مِنْ جَانِبِ الْمَدِينِ وَفِي الإِنْظَارِ مِنْ جَانِبِ الدَّائِنِ .
ب - التَّعْجِيلُ:
3 - التَّعْجِيلُ لُغَةً: الإْسْرَاعُ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: عَجَّلْتُ إِلَيْهِ الْمَالَ أَسْرَعْتَ إِلَيْهِ بِحُضُورِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْلِ وَالتَّعْجِيلِ الضِّدِّيَّةُ .
(ر: تَأْخِيرٌ ف 5).
ج - الظُّلْمُ:
4 - الظُّلْمُ لُغَةً: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَاصْطِلاَحًا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعَدِّي عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْلِ وَالظُّلْمِ أَنَّ الظُّلْمَ أَعَمُّ مِنَ الْمَطْلِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَطْلِ بِاخْتِلاَفِ حَالِ الْمَدِينِ مِنْ يُسْرٍ أَوْ عُسْرٍ. فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قَادِرًا عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ كَانَ مَطْلُهُ حَرَامًا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم قَالَ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ».
وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا لاَ يَجِدُ وَفَاءً لِدَيْنِهِ أَوْ كَانَ غَنِيًّا وَمَنَعَهُ عُذْرٌ - كَغَيْبَةِ مَالِهِ - عَنِ الْوَفَاءِ لَمْ يَكُنْ مَطْلُهُ حَرَامًا وَجَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ إِلَى الإْمْكَانِ .
مَطْلُ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الَّذِي لاَ يَجِدُ وَفَاءً لِدَيْنِهِ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُمْهَلُ حَتَّى يُوسِرَ وَيُتْرَكُ يَطْلُبُ الرِّزْقَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَالْوَفَاءُ لِدَائِنِيهِ، وَلاَ تَحِلُّ مُطَالَبَتُهُ وَلاَ مُلاَزَمَتُهُ وَلاَ مُضَايَقَتُهُ، لأِنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ أَوَجَبَ إِنْ ظَارُهُ إِلَى وَقْتِ الْمَيْسَرَةِ فَقَالَ: ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لأِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ إِنَّ مَا تَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الأْدَاءِ، فَإِذَا ثَبَتَ الإْعْسَارُ فَلاَ سَبِيلَ إِلَى الْمُطَالَبَةِ، وَلاَ إِلَى الْحَبْسِ بِالدَّيْنِ، لأِنَّ الْخِطَابَ مُرْتَفِعٌ عَنْهُ إِلَى أَنْ يُوسِرَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ جَازَتْ مُؤَاخَذَتُهُ لَكَانَ ظَالِمًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَيْسَ بِظَالِمِ لِعَجْزِهِ بَلْ إِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ قَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمِدْيَانُ غَنِيًّا، فَمَطْلُهُ عَدْلٌ، وَيَنْقَلِبُ الْحَالُ عَلَى الْغَرِيمِ، فَتَكُونُ مُطَالَبَتُهُ ظُلْمًا لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ مُلاَزَمَةَ الدَّائِنِ لِمَدِينِهِ الْمُعْسِرِ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِ الإِنْ ظَارَ بِالنَّصِّ .
وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصْطَفَى صلي الله عليه وسلم فَضْلَ إِنْ ظَارِ الْمُعْسِرِ وَثَوَابَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ».
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَدْرُ الَّذِي اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ حَاضِرًا عِنْدَهُ، لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالتَّكَسُّبِ مَثَلاً، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَمْ لاَ؟
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: أَطْلَقَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِالْوُجُوبِ مُطْلَقًا.
وَفَصَّلَ آخَرُونَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الدَّيْنِ يَجِبُ بِسَبَبِ يَعْصِي بِهِ فَيَجِبُ، وَإِلاَّ فَلاَ .
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي هَلْ يُجْبَرُ الْمَدِينُ الْمُعْدِمُ عَلَى إِجَارَةِ نَفْسِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ مِنْ أُجْرَتِهِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ أَمْ لاَ؟
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِفْلاَسٌ ف 55)
مَطْلُ الْمَدِينِ الْغَنِيِّ الَّذِي مَنَعَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْوَفَاءِ
7 - مَطْلُ الْمَدِينِ الْغَنِيِّ الَّذِي مَنَعَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْوَفَاءِ، كَغَيْبَةِ مَالِهِ وَعَدَم وُجُودِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقْتَ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ تَعَمُّدِهِ فَلاَ يَكُونُ مَطْلُهُ حَرَامًا، وَذَلِكَ لأِنَّ الْمَطْلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: تَأْخِيرُ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ مَعْذُورٌ.
ثَالِثًا: مَطْلُ الْمَدِينِ الْمُوسِرِ بِلاَ عُذْرٍ
8 - مَطْلُ الْمَدِينِ الْمُوسِرِ الْقَادِرِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِلاَ عُذْرٍ وَذَلِكَ بَعْدَ مُطَالَبَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ شَرْعًا، وَمِنْ كَبَائِرِ الإْثْمِ، وَمِنَ الظُّلْمِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى الْوَفَاءِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَطْلَقَ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ مِنَ الْمَطْلِ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِجِنْسِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ سَاعَةٍ يُمْكِنُهُ فِيهَا الأْدَاءُ وَقَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِذَا كَانَ غَنِيًّا فَمَطَلَ بِمَا قَدِ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ فَقَدْ ظَلَمَ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»، وَمَعْنَى «يُحِلُّ عِرْضَهُ» أَيْ يُبِيحُ أَنْ يَذْكُرَهُ الدَّائِنُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمَطْلِ وَسُوءِ الْمُعَامَلَةِ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَلاَ نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ، أَنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ .
وَالْعُقُوبَةُ الزَّاجِرَةُ هِيَ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَمْلُهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَإِلْجَاؤُهُ إِلَى دَفْعِ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ.
أَمَّا قَبْلَ الطَّلَبِ، فَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: هَلْ يَجِبُ الأْدَاءُ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ، حَتَّى يُعَدَّ مَطْلاً بِالْبَاطِلِ قَبْلَهُ؟ وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَمَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ إِلَى تَرْجِيحِ عَدَمِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الطَّلَبِ، لأِنَّ لَفْظَ «الْمَطْلِ» فِي الْحَدِيثِ يُشْعِرُ بِتَقْدِيمِ الطَّلَبِ وَتَوَقُّفِ الْحُكْمِ بِظُلْمِ الْمُمَاطِلِ عَلَيْهِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَطْلَ يَثْبُتُ بِالتَّأْجِيلِ وَالْمُدَافَعَةِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ .
حَمْلُ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ عَلَى الْوَفَاءِ
نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى طُرُقٍ تُتَّبَعُ لِحَمْلِ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ عَلَى الْوَفَاءِ، مِنْهَا:
أ - قَضَاءُ الْحَاكِمِ دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا:
9 - إِذَا كَانَ لِلْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ مَالٌ مِنْ جَنْسِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَسْتَوْفِيهِ جَبْرًا عَنْهُ، وَيَدْفَعُهُ لِلدَّائِنِ إِنْ صَافًا لَهُ، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَهُ مَالٌ فَإِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَالدَّيْنُ دَرَاهِمُ، فَالْقَاضِي يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ دَرَاهِمِهِ بِلاَ خِلاَفٍ .
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الْحَقِّ إِذَا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ مِنِ اسْتِيفَائِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ أَخَذْنَا مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ .
ب - مَنْعُهُ مِنْ فُضُولِ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ:
10 - قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ وَامْتَنَعَ، وَرَأَى الْحَاكِمُ مَنْعَهُ مِنْ فُضُولِ الأْكْلِ وَالنِّكَاحِ فَلَهُ ذَلِكَ، إِذِ التَّعْزِيرُ لاَ يَخْتَصُّ بِنَوْعِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّ مَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي نَوْعِهِ وَقَدْرِهِ، إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ .
ج - تَغْرِيمُهُ نَفَقَاتِ الشِّكَايَةِ وَرَفْعِ الدَّعْوَى
11 - قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ عَلَيْهِ مَالٌ، وَلَمْ يُوَفِّهِ حَتَّى شَكَا رَبُّ الْمَالِ، وَغَرِمَ عَلَيْهِ مَالاً، وَكَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَمَطَلَ حَتَّى أَحْوَجَ مَالِكَهُ إِلَى الشَّكْوَى، فَمَا غَرِمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُمَاطِلِ، إِذَا كَانَ غُرْمُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ .
د - إِسْقَاطُ عَدَالَتِهِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ:
12 - حَكَى الْبَاجِيُّ عَنْ أَصْبَغَ وَسَحْنُونٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِرِدِّ شَهَادَةِ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَ غَنِيًّا مُقْتَدِرًا لأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم سَمَّاهُ ظَالِمًا فِي قَوْلِهِ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»، وَنَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مُقْتَرِفَ ذَلِكَ يُفَسَّقُ .
وَلَكِنْ هَلْ يَثْبُتُ فِسْقُهُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِمَطْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَمْ لاَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَصِيرُ عَادَةً؟
قَالَ النَّوَوِيُّ: مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا اشْتِرَاطُ التَّكْرَارِ وَقَالَ السُّبْكِيُّ: مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُهُ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنْ مَنَعَ الْحَقَّ بَعْدَ طَلَبِهِ، وَابَتْعَاءُ الْعُذْرِ عَنْ أَدَائِهِ كَالْغَصْبِ، وَالْغَصْبُ كَبِيرَةٌ، وَتَسْمِيَتُهُ فِي الْحَدِيثِ ظُلْمًا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً، وَالْكَبِيرَةُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّكْرَارُ، نَعَمْ لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ عُذْرِهِ .
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: يَفْسُقُ بِمَرَّةٍ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ: إِذَا تَكَرَّرَ، وَهُوَ الأْوْلَى .
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَفْسُقُ بِالتَّأْخِيرِ مَعَ الْقُدْرَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ أَمْ لاَ؟ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ الْبَابِ التَّوَقُّفُ عَلَى الطَّلَبِ، لأِنَّ الْمَطْلَ يُشْعِرُ بِهِ .
هـ - تَمْكِينُ الدَّائِنِ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلدَّيْنِ:
13 - نَصَّ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ، عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ الدَّائِنِ عِنْدَ مَطْلِ الْمَدِينِ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَيَسْتَرِدُّ الْبَدَلَ الَّذِي دَفَعَهُ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُ هَذَا الْخِيَارَ فِي الْفَسْخِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِزَالَةِ الضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِهِ نَتِيجَةَ مَطْلِ الْمَدِينِ وَمُخَاصَمَتِهِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلاً لِلْمَدِينِ الْمُقْتَدِرِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْوَفَاءِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوِ امْتَنَعَ - أَيِ الْمُشْتَرِي - مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ مَعَ يَسَارِهِ فَلاَ فَسْخَ فِي الأْصَحِّ ، لأِنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى أَخْذِهِ بِالْحَاكِمِ مُمْكِنٌ .
و - حَبْسُ الْمَدِينِ
14 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ الْمُوسِرَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ مَطْلاً وَظُلْمًا، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ .
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَبْسٌ ف 79 وَمَا بَعْدَهَا).
وَنَقَلَ ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمِّدٍ فِي الْمَحْبُوسِ بِالدَّيْنِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ مَالَ لَهُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَلَهُ مَالٌ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى، فَيُؤْمَرُ رَبُّ الدَّيْنِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلاً بِنَفْسِهِ عَلَى قَدْرِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ، وَيُؤْمَرُ أَنْ يَخْرُجَ وَيَبِيعَ مَالَهُ وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ، فَإِنْ أُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، أُعِيدَ حَبْسُهُ .
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ حُبِسَ بِدَيْنِ، وَلَهُ رَهْنٌ لاَ وَفَاءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَجَبَ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ إِمْهَالُهُ حَتَّى يَبِيعَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي بَيْعِهِ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَجَبَ إِخْرَاجُهُ لِيَبِيعَهُ، وَيَضْمَنُ عَلَيْهِ، أَوْ يَمْشِي مَعَهُ الدَّائِنُ أَوْ وَكِيلُهُ .
ز - ضَرْبُ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ
15 - قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: لاَ نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ، أَنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ، وَنَصُّوا عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالضَّرْبِ ثُمَّ قَالَ مُعَلِّقًا عَلَى حَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» وَالْعُقُوبَةُ لاَ تَخْتَصُّ بِالْحَبْسِ، بَلْ هِيَ فِي الضَّرْبِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْحَبْسِ .
وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْخَرَشِيِّ: إِنَّ مَعْلُومَ الْمَلاَءَةِ إِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ بِالنَّاضِّ الَّذِي عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُؤَخِّرُهُ، وَيَضْرِبُهُ بِاجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ يَدْفَعَ، وَلَوْ أَدَّى إِلَى إِتْلاَفِ نَفْسِهِ، وَلأِنَّهُ مُلِدٌّ .
ح - بَيْعُ الْحَاكِمِ مَالَ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ جَبْرًا
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَبِيعُ مَالَ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ جَبْرًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.
غَيْرَ أَنَّ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفًا فِي تَأْخِيرِهِ عَنِ الْحَبْسِ، أَوِ اللُّجُوءِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَبْسِ الْمَدِينِ، أَوْ تَرْكِ الْخِيَارِ لِلْحَاكِمِ فِي اللُّجُوءِ إِلَيْهِ عِنْدَ الاِقْتِضَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ - وَلَهُ مَالٌ - فَإِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جَنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَالدَّيْنُ دَرَاهِمَ، فَالْقَاضِي يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ دَرَاهِمِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ خِلاَفِ جَنْسِ دَيْنِهِ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ وَمَالُهُ عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا أَوْ دَنَانِيرَ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يَبِيعُ الْعُرُوضَ وَالْعَقَارَ، وَفِي بَيْعِ الدَّنَانِيرِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَدِيمُ حَبْسُهُ إِلَى أَنْ يَبِيعَ بِنَفْسِهِ وَيَقْضِيَ الدَّيْنَ، وَعِنْدَ مُحَمِّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ يَبِيعُ الْقَاضِي دَنَانِيرَهُ وَعُرُوضَهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَفِي الْعَقَارِ رِوَايَتَانِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَعِنْدَهُمَا فِي رِوَايَةٍ: يَبِيعُ الْمَنْقُولَ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَ إِنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ، أَخَذْنَا مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا ظَفِرْنَا بِمَالِهِ أَوْ دَارِهِ أَوْ شَيْءٌ يُبَاعُ لَهُ فِي الدَّيْنِ - كَانَ رَهْنًا أَمْ لاَ - فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَلاَ نَحْبِسُهُ، لأِنَّ فِي حَبْسِهِ اسْتِمْرَارَ ظُلْمِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَأَمَّا الَّذِي لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهُ إِذَا طَلَبَ، فَإِذَا امْتَنَعَ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالأْصْحَابُ: إِذَا امْتَنَعَ الْمَدِينُ الْمُوسِرُ الْمُمَاطِلُ مِنَ الْوَفَاءِ، فَالْحَاكِمُ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ بَاعَ مَالَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَإِنْ شَاءَ أَكْرَهَهُ عَلَى بَيْعِهِ وَعَزَّرَهُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَبَى مَدِينٌ لَهُ مَالٌ يَفِي بِدَيْنِهِ الْحَالِّ الْوَفَاءِ، حَبَسَهُ الْحَاكِمُ، وَلَيْسَ لَهُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْحَبْسِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ، أَوْ يَبْرَأَ مِنْ غَرِيمِهِ بِوَفَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ أَوْ حَوَالَةٍ، أَوْ يَرْضَى الْغَرِيمُ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَبْسِ، لأِنَّ حَبْسَهُ حَقٌّ لِرَبِّ الدَّيْنِ وَقَدْ أَسْقَطَهُ، فَإِنْ أَصَرَّ الْمَدِينُ عَلَى الْحَبْسِ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ .