مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني ، الصفحة : 676
مذكرة المشروع التمهيدي :
عن المادة 340: يستتبع قيام حالة الإعسار سقوط أجل الديون المستحقة الأداء وليس هذا إلا تطبيقاً لقاعدة عامة تقررت في نص المادة 396 من المشروع استقلالاً عن نظام الإعسار ويراعى أن المدين المعسر يحرم من الانتفاع بفسحة الأجل حتى في التشريعات التي لم تنظم حالة الإعسار وتركتها في نطاق الأمر الواقع، كالتقنين المصري الحالي مثلاً. ذلك أن إعسار الدين غالباً ما يفضي إلى تصفية أمواله، فإذا لم يكن في استطاعة الدائنين المؤجلة ديونهم أن ينفذوا على تلك الأموال فور الوقت بفضل سقوط الأجل، أدى هذا إلى تقدم ذوي الديون المستحقة الأداء عليهم وغني عن البيان أن ما يحل من الديون المؤجلة من جراء إشهار الإعسار ينتقص منه مقدار الفوائد، اتفاقية كانت أو قانونية، بالنسبة للمدة الباقية من الأجل. فإذا عجل الوفاء مثلاً بدين قدره 100 جنيه، كان يستحق الأداء بعد انقضاء سنة بغير فائدة، وجب عندئذ أن تقتطع منه أربعة جنيهات في مقابل الفوائد، محتسبة على أساس السعر المقرر في القانون ( قارن المادة 252 فقرة 2 من المشروع).
عن المادة 341: أجاز المشروع الإبقاء على آجال الديون المؤجلة، ومدها، والإمهال في أداء الديون الحالة فللمدين، رغم ما يترتب على حالة الإعسار من سقوط أجل الديون المؤجلة ( المادة 340) أن يطلب إلى القاضي في مواجهة دائنيه إبقاء هذا الأجل، أو مده ، أو إنظاره في الوفاء بالديون المستحقة الأداء وللقاضي أن يجيب المدين إلى طلبه هذا إذا تبين أن في الظروف ما يبرره ( كما إذا كان المدين عاثر الجد مثلاً) وأن ذلك أكفل برعاية مصالح المدين والدائنين جميعاً ( كما إذا كان الأجل الممنوح يتيح للمدين فرصة تصفية أمواله في أفضل الأحوال). والمفروض في هذا كله أن الإبقاء على الأجل لا يضر بالدائنين، فلا يكون من بينهم مثلاً من يوشك أن يتقدم على الباقين من طريق التنفيذ فوراً على أموال المدين.
يترتب على صدور حكم نهائي بشهر إعسار المدين، سقوط أجال الديون المترتبة في ذمته وتصبح بذلك مستحقة الأداء في الحال ويكون لأصحابها الرجوع بها وفقاً للإجراءات التي تتناسب معها، سواء بطريق الدعوى أو أمر الأداء، على أن يوضح كل دائن سبب سقوط الأجل الذي كان قد منحه للمدين وتقديم شهادة بصدور هذا الحكم أو صورة رسمية منه.
فإن وجدت فوائد إتفاقية أو قانونية، وجب على الدائن أن يخصم مقدارها عن المدة التي سقطت بسقوط الأجل، من الدين المستحق له، فيقصره على أصل الدين والفوائد المستحقة حتى صدور حكم الاعسار، وإلا وجب على المحكمة القيام بذلك عند الحكم في الدعوى، وعلى قاضي الأداء أن يمتنع عن إصدار الأمر وتحديد جلسة اذ ليس له القيام بهذا الخصم، لكن اذا قام به الدائن بعريضة الأمر وحصر طلباته في أصل الدين والفوائد التي استحققت حتى تاريخ حكم الإعسار، جاز لقاضي الأداء إصدار الأمر.
وتسقط أجال الديون بقوة القانون كأثر قانونی مترتب على الحكم النهائي بشهر إعسار المدين دون حاجة للنص على ذلك في هذا الحكم.
طلب إبقاء آجال الديون أو مدها :
يترتب على صدور حكم نهائي بشهر إعسار المدين سقوط آجال ديونه واعتبار هذه الديون مستحقة من هذا الوقت مما يجوز معه للدائنين مباشرة الإجراءات القضائية على نحو ما تقدم ثم إتخاذ إجراءات فردية لتنفيذ الأحكام وأوامر الأداء والحجز التي تصدر في شأنها.
ولما كان القانون يوجب على المحكمة قبل أن تشهر إعسار المدين أن تراعي في تقديرها كل الظروف التي أحاطت به، سواء أكانت تلك الظروف عامة مثل الكساد العام لظروف إقتصادية تمر بها البلاد أو بسبب أعمال حربية، أم كانت ظروف خاصة، فتنظر إلى موارده المستقبلية ومقدرته الشخصية ومسئوليته عن الأسباب التي أدت إلى إعساره ومصالح دائنيه المشروعة، وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في حالته المالية.
كما أجاز القانون للمدين، أثناء نظر دعوى الاعسار أو الطعن المرفوع عن الحكم الصادر باعساره، أن يطلب إبقاء آجال الديون أو مدها بالنسبة للديون المؤجلة اذا كانت آجالها قريبة، وإن وجدت ديون حلت آجالها، جاز له أن يطلب منحه آجلا يحدد بالنسبة لظروفه المالية، على أن يقدم هذا الطلب في مواجهة جميع دائنيه، فإن لم يكن أحدهم ماثلاً في الدعوى، وجب إدخاله فيها، وهذا تطبيق لنظرة الميسرة المنصوص عليها في المادة 346 من القانون المدني.
فإذا تبين للقاضي أن حالة الإعسار لا ترجع إلى أسباب تنهض بمسئولية المدين، جاز له إجابة طلبه، وتلك رخصة يتعاطاها القاضي دون معقب عليه إلا من محكمة الطعن إذا رأت أن ظروف المدين تجيز إجابته إلى طلبه، سواء عند نظر المعارضة أو الاستئناف، ولكن لا تعقيب عليه المحكمة النقض.
ويعتبر طلب إبقاء الآجال أو مدها أو منح نظرة الميسرة، مسألة متفرعة من دعوى الإعسار، فتقضي المحكمة فيها أولا ، فإن أجابه المدين لها، قضت بذلك، وبتأجيل دعوى الإعسار إلى ما بعد الآجال التي منحتها للمدين، فاذا تبين أن المدين قد قام بالوفاء في الآجال التي منحت له، قضى برفض دعوى الإعسار، ويلزم المدين المصاريف القضائية لأنه المتسبب في رفع الدعوى، أما إذا تبين عدم الوفاء، قضى بالإعسار، فإذا طعن المدين في الحكم وأعاد طرح طلباته السابقة على محكمة الطعن، كان لها سلطة تقديرية في اجابته أو رفضه بالنظر لما طرأ من ظروف على حالة المدين المالية.(المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الرابع الصفحة/ 616)
الغرض من تنظيم شهر الإعسار تحقيق المساواة بين الدائنين، فإذا قضي نهائياً بشهر الإعسار، كان ذلك إشعاراً للدائنين بأن يبادروا إلى التنفيذ على أموال المدين، حتى يدركوا منها ما يستطيعون أن يستوفوا به أكبر نصيب من حقوقهم. أما بالنسبة للدائنين أصحاب الحقوق المؤجلة فإن آجال ديونهم لو بقيت كما هي لما استطاعوا المبادرة إلى التنفيذ بها لأنها لم تحل بعد، فإذا انتظروا إلى أن تحل هذه الديون فربما تستنفد الديون الحالة أموال المدين، فلا يستطيعون استيفاء دیونهم، وهو ما يخل بالمساواة بين الدائنين.
وعلاجا لهذا الوضع وتحقيقاً للمساواة بين الدائنين، رتب المشرع على الحكم النهائي بشهر الإعسار سقوط آجال الديون المؤجلة حتى تصبح هذه الديون مستحقة الأداء ويستطيع الدائنون بها أن يشتركوا مع سائر الدائنين في توزيع أموال المدين.
وحتى لا يغبن المدين وأصحاب الديون الحالة من إسقاط أجال الديون. أوجب النص استنزال جزء من هذه الديون يعادل فوائدها عن المدة الباقية من آجالها.
فإذا كان الباقي من الأجل سنة مثلاً وقت الحكم النهائي بشهر الإعسار، تعين أن يستنزل من أصل الدين في مقابل إسقاط هذه السنة وصيرورة الدين مستحق الأداء فوراً 4 % من قيمته إن كان مدنياً أو 5% إن كان تجارياً باعتبار أن هذا القدر من الفوائد هو مقابل الأجل الذي سقط. وإذا كان الدين قد دخلت في حسابه فوائد اتفاقية بسعر معين وجب عند سقوط أجله أن تستنزل منه فوائد المدة الباقية بالسعر المتفق عليه. وإذا كان الدين منصوصا على أن تضاف إليه فوائده بالسعر القانوني أو بالسعر الاتفاقي عند أدائه فإن مقابل الأجل فيه هو تلك الفوائد المتفق على إضافتها، فإذا سقط الأجل نتيجة الشهر الإعسار فلا يستتزل من أصل الدين شئ ولا تضاف إليه فوائد عن المدة الباقية .
بعد أن نصت الفقرة الأولى من المادة (255) على أنه يترتب على الحكم بشهر الإعسار أن يحل كل ما في ذمة المدين من ديون مؤجلة... الخ - أوردت في فقرتها الثانية استثناء من حكمها إذ أجازت للقاضي أن يحكم بناء على طلب المدين وفي مواجهة ذوى الشأن من دائنيه بإبقاء الأجل أو مده بالنسبة إلى الديون المؤجلة، وأن يمنح المدين أجلاً أي نظرة ميسرة بالنسبة إلى الديون الحالة.
وبناء على ذلك يجوز للمدين أن يطلب من المحكمة في مواجهة الدائنين المؤجلة ديونهم وقف حكم القانون المتعلق بحلول هذه الآجال نتيجة
لشهر الإعسار أي أن يطلب الإبقاء على هذه الآجال وعدم سقوطها استثناء من حكم الفقرة الأولى من المادة، بل يجوز له ألا يكتفي بطلب الإبقاء على هذه الآجال وأن يطلب مدها، ويجوز له أيضاً أن يطلب منحه آجالا جديدة بالنسبة إلى الديون التي كانت حالة من قبل شهر الإعسار.
وقد خولت المادة المحكمة ذلك بشرطين: الأول: أن تبرر الظروف هذا الإجراء ومثل ذلك أن يكون المدين سئ الحظ جديراً بالعطف.
والثاني: أن يكون هذا الإجراء خير وسيلة تكفل مصالح المدين والدائنين جميعاً.
ومثل ذلك أن تكون الأسعار في هبوط وينتظر تحسنها.
والمفروض في هذا كله أن الإبقاء على الأجل لا يضر بالدائنين، فلا يكون من بينهم مثلاً من يوشك أن يتقدم على الباقين من طريق التنفيذ فوراً على أموال المدين.(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الثالث، الصفحة/ 781)
لا يترتب على شهر الإعسار وجوب تصفية أموال المدين تصفية جماعية كما هو الشأن في شهر إفلاس التاجر، فيبقى لكل من الدائنين حقه في اتخاذ إجراءات فردية على أموال المدين وقد نصت المادة 256 فقرة أولى على أن «لا يحول شهر الإعسار دون اتخاذ الدائنين لإجراءات فردية على أموال المدين » . فيجوز لكل منهم أن ينفذ على أي مال للمدين، ولكن يجوز لسائر الدائنين أن يتدخلوا في إجراءات التنفيذ والتوزيع في أي وقت قبل تمامها وأن يأخذوا نصيبهم من الأموال التي توزع، فلا يترتب على شهر الإعسار أى أثر خاص من هذه الناحية، وإنما تترتب عليه آثار في نواح أخرى.
و قد نصت المادة 255 على أنه يترتب على شهر الإعسار إسقاط آجال الديون المؤجلة، ونصت المادة 257 على عدم نفاذ تصرفات المدين اللاحقة لتسجيل صحيفة دعوى الإعسار، وألحقت بها المادة 256 فقرة ثانية عدم نفاذ الاختصاصات التي يأخذها بعض الدائنين على عقارات المدين بعد تسجيل صحيفة الدعوى المذكورة، وخولت المادة 259 المدين الحق في نفقة يتقاضاها من إيراداته المحجوزة، ثم نصت المادة 260 على عقاب الدين الذي شهر إعساره إذا ارتكب أعمالاً معينة.
لأن الغرض من تنظيم شهر الإعسار تحقيق المساواة بين الدائنين، ولأن هذه المساواة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا تساوى الدائنون في استحقاق ديونهم، حتى لا يسبق أصحاب الديون الحالة أصحاب الديون المؤجلة في التنفيذ على أموال المدين واستيفاء حقوقهم منها قبل الأخيرين رأي المشرع أنه من الضروري أن يرتب على شهر الإعسار سقوط آجال الديون المؤجلة حتى تصبح هذه الديون مستحقة الأداء ويستطيع الدائنون بها أن يشتركوا مع سائر الدائنين في توزيع أموال المدين، ولم يفته أن يقرر أن اسقاط هذه الآجال لا بد أن يقابله استنزال جزء من هذه الديون يعادل فوائدها عن المدة الباقية من آجالها ، فنص في المادة 255 فقرة أولى على أن لا يترتب على الحكم بشهر الإعسار أن يحل كل ما في ذمة المدين من ديون مؤجلة وبخصم من هذه الديون مقدار الفائدة الاتفاقية أو القانونية عن المدة التي سقطت بسقوط الأجل ».
فإذا كان الباقي من الأجل سنة مثلا وقت شهر الإعسار، تعين أن يستنزل من أصل الدين في مقابل إسقاط هذه السنة وصيرورة الدين مستحق الأداء فوراً 4% من قيمته أن كان مدنياً أو 5% أن كان تجارياً باعتبار أن هذا القدر من الفوائد هو مقابل الأجل الذي سقط وإذا كان الدين قد دخلت في حسابه فوائد اتفاقية بسعر معين وجب عند سقوط أجله أن تستنزل منه فوائد المدة الباقية بالسعر المتفق عليه، وإذا كان الدين المؤجل منصوصاً على أن تضاف إليه فوائده بالسعر القانوني أو بالسعر الاتفاقی فإن مقابل الأجل فيه هو تلك الفوائد المتفق على إضافتها، فإذا سقط الأجل نتيجة الشهر الإعسار فلا يستنزل من أصل الدين شيء ولا تضاف إليه فوائد عن المدة الباقية.
وقد راعى المشرع أن سقوط آجال الديون المؤجلة قد يلحق بالمدين ضرراً كبيراً ويرهقه دون مسوغ إذا كانت ظروفه تسمح بالاطمئنان إلى قدرته على الوفاء بالديون المؤجلة عند انقضاء آجالها، فنص في المادة 255 فقرة ثانية على أنه بالرغم من أنه يترتب على شهر الأعسار أن تحل بقوة القانون الديون المؤجلة، يجوز مع ذلك « للقاضي أن يحكم بناء على طلب المدين وفي مواجهة ذوى الشأن من دائنيه بابقاء الأجل أو مده بالنسبة إلى الديون المؤجلة، كما يجوز له أن يمنح المدين أجلاً بالنسبة إلى الديون الحالة إذا رأى أن هذا الإجراء تبرره الظروف وأنه خير وسيلة تكفل مصالح المدين والدائنين جميعاً »
وبناء على ذلك يجوز للمدين أن يطلب من المحكمة في مواجهة الدائنين المؤجلة ديونهم وقف حكم القانون المتعلق بحلول هذه الآجال نتيجة الشهر الإعسار أي أن يطلب الإبقاء على هذه الآجال وعدم سقوطها استثناء من حكم المادة 255 فقرة أولى، بل يجوز له أن لا يكتفي بطلب الابقاء على هذه الآجال وأن يطلب مدها، ويجوز له أيضاً أن يطلب منحه آجالاً جديدة بالنسبة إلى الديون التي كانت حالة من قبل شهر الإعسار، ويجوز للمحكمة أن تجيبه إلى طلبه في هذه الفروض المختلفة إذا توافر فيه شرطان : الأول أن يكون في الظروف ما يبرره كأن يكون المدين سيء الحظ جديراً بالعطف، والثاني أن يكون ذلك في مصلحة الدين والدائنين جميعاً كأن تكون الأسعار في هبوط وينتظر تحسنها ولا يعدو ذلك أن يكون تطبيقاً لنظرة الميسرة المنصوص عليها في المادة 346 مدنی. (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ السادس، الصفحة/ 407)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن والثلاوثون ، الصفحة / 114
مَطْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَطْلُ لُغَةً: الْمُدَافَعَةُ عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَطَلْتُ الْحَدِيدَةَ: إِذَا ضَرَبْتَهَا وَمَدَدْتَهَا لِتَطُولَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: مَطَلَهُ بِدَيْنِهِ مَطْلاً، وَمَاطَلَهُ مُمَاطَلَةً: إِذَا سَوَّفَهُ بِوَعْدِ الْوَفَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَكَى النَّوَوِيُّ وَعَلِيُّ الْقَارِي أَنَّ الْمَطْلَ شَرْعًا: مَنْعُ قَضَاءِ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَدْخُلُ فِي الْمَطْلِ كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ، كَالزَّوْحِ لِزَوْجَتِهِ، وَالْحَاكِمِ لِرَعِيَّتِهِ، وَبِالْعَكْسِ .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِنْظَارُ:
2 - الإِنْظَارُ وَالنَّظِرَةُ فِي اللُّغَةِ الإْمْهَالُ وَالتَّأْخِيرُ، يُقَالُ: أَنْظَرْتُ الْمَدِينَ، أَيْ أَخَّرْتُهُ، وَذَكَرَ الأْزْهَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّظْرِةِ فِي قوله تعالي : ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الإِنْظَارُ وَالإْمْهَالُ إِلَى أَنْ يُوسِرَ وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْلِ وَالإِنْظَارِ التَّأْخِيرُ فِي كُلٍّ، لَكِنَّهُ فِي الْمَطْلِ مِنْ جَانِبِ الْمَدِينِ وَفِي الإِنْظَارِ مِنْ جَانِبِ الدَّائِنِ .
ب - التَّعْجِيلُ:
3 - التَّعْجِيلُ لُغَةً: الإْسْرَاعُ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: عَجَّلْتُ إِلَيْهِ الْمَالَ أَسْرَعْتَ إِلَيْهِ بِحُضُورِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْلِ وَالتَّعْجِيلِ الضِّدِّيَّةُ .
(ر: تَأْخِيرٌ ف 5).
ج - الظُّلْمُ:
4 - الظُّلْمُ لُغَةً: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَاصْطِلاَحًا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعَدِّي عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْلِ وَالظُّلْمِ أَنَّ الظُّلْمَ أَعَمُّ مِنَ الْمَطْلِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَطْلِ بِاخْتِلاَفِ حَالِ الْمَدِينِ مِنْ يُسْرٍ أَوْ عُسْرٍ. فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قَادِرًا عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ كَانَ مَطْلُهُ حَرَامًا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم قَالَ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ».
وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا لاَ يَجِدُ وَفَاءً لِدَيْنِهِ أَوْ كَانَ غَنِيًّا وَمَنَعَهُ عُذْرٌ - كَغَيْبَةِ مَالِهِ - عَنِ الْوَفَاءِ لَمْ يَكُنْ مَطْلُهُ حَرَامًا وَجَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ إِلَى الإْمْكَانِ .
مَطْلُ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الَّذِي لاَ يَجِدُ وَفَاءً لِدَيْنِهِ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُمْهَلُ حَتَّى يُوسِرَ وَيُتْرَكُ يَطْلُبُ الرِّزْقَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَالْوَفَاءُ لِدَائِنِيهِ، وَلاَ تَحِلُّ مُطَالَبَتُهُ وَلاَ مُلاَزَمَتُهُ وَلاَ مُضَايَقَتُهُ، لأِنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ أَوَجَبَ إِنْ ظَارُهُ إِلَى وَقْتِ الْمَيْسَرَةِ فَقَالَ: ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لأِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ إِنَّ مَا تَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الأْدَاءِ، فَإِذَا ثَبَتَ الإْعْسَارُ فَلاَ سَبِيلَ إِلَى الْمُطَالَبَةِ، وَلاَ إِلَى الْحَبْسِ بِالدَّيْنِ، لأِنَّ الْخِطَابَ مُرْتَفِعٌ عَنْهُ إِلَى أَنْ يُوسِرَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ جَازَتْ مُؤَاخَذَتُهُ لَكَانَ ظَالِمًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَيْسَ بِظَالِمِ لِعَجْزِهِ بَلْ إِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ قَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمِدْيَانُ غَنِيًّا، فَمَطْلُهُ عَدْلٌ، وَيَنْقَلِبُ الْحَالُ عَلَى الْغَرِيمِ، فَتَكُونُ مُطَالَبَتُهُ ظُلْمًا لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ مُلاَزَمَةَ الدَّائِنِ لِمَدِينِهِ الْمُعْسِرِ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِ الإِنْ ظَارَ بِالنَّصِّ .
وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصْطَفَى صلي الله عليه وسلم فَضْلَ إِنْ ظَارِ الْمُعْسِرِ وَثَوَابَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ».
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَدْرُ الَّذِي اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ حَاضِرًا عِنْدَهُ، لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالتَّكَسُّبِ مَثَلاً، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَمْ لاَ؟
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: أَطْلَقَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِالْوُجُوبِ مُطْلَقًا.
وَفَصَّلَ آخَرُونَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الدَّيْنِ يَجِبُ بِسَبَبِ يَعْصِي بِهِ فَيَجِبُ، وَإِلاَّ فَلاَ .
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي هَلْ يُجْبَرُ الْمَدِينُ الْمُعْدِمُ عَلَى إِجَارَةِ نَفْسِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ مِنْ أُجْرَتِهِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ أَمْ لاَ؟
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِفْلاَسٌ ف 55)
مَطْلُ الْمَدِينِ الْغَنِيِّ الَّذِي مَنَعَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْوَفَاءِ
7 - مَطْلُ الْمَدِينِ الْغَنِيِّ الَّذِي مَنَعَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْوَفَاءِ، كَغَيْبَةِ مَالِهِ وَعَدَم وُجُودِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقْتَ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ تَعَمُّدِهِ فَلاَ يَكُونُ مَطْلُهُ حَرَامًا، وَذَلِكَ لأِنَّ الْمَطْلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: تَأْخِيرُ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ مَعْذُورٌ.
ثَالِثًا: مَطْلُ الْمَدِينِ الْمُوسِرِ بِلاَ عُذْرٍ
8 - مَطْلُ الْمَدِينِ الْمُوسِرِ الْقَادِرِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِلاَ عُذْرٍ وَذَلِكَ بَعْدَ مُطَالَبَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ شَرْعًا، وَمِنْ كَبَائِرِ الإْثْمِ، وَمِنَ الظُّلْمِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى الْوَفَاءِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَطْلَقَ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ مِنَ الْمَطْلِ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِجِنْسِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ سَاعَةٍ يُمْكِنُهُ فِيهَا الأْدَاءُ وَقَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِذَا كَانَ غَنِيًّا فَمَطَلَ بِمَا قَدِ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ فَقَدْ ظَلَمَ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»، وَمَعْنَى «يُحِلُّ عِرْضَهُ» أَيْ يُبِيحُ أَنْ يَذْكُرَهُ الدَّائِنُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمَطْلِ وَسُوءِ الْمُعَامَلَةِ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَلاَ نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ، أَنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ .
وَالْعُقُوبَةُ الزَّاجِرَةُ هِيَ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَمْلُهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَإِلْجَاؤُهُ إِلَى دَفْعِ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ.
أَمَّا قَبْلَ الطَّلَبِ، فَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: هَلْ يَجِبُ الأْدَاءُ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ، حَتَّى يُعَدَّ مَطْلاً بِالْبَاطِلِ قَبْلَهُ؟ وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَمَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ إِلَى تَرْجِيحِ عَدَمِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الطَّلَبِ، لأِنَّ لَفْظَ «الْمَطْلِ» فِي الْحَدِيثِ يُشْعِرُ بِتَقْدِيمِ الطَّلَبِ وَتَوَقُّفِ الْحُكْمِ بِظُلْمِ الْمُمَاطِلِ عَلَيْهِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَطْلَ يَثْبُتُ بِالتَّأْجِيلِ وَالْمُدَافَعَةِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ .
حَمْلُ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ عَلَى الْوَفَاءِ
نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى طُرُقٍ تُتَّبَعُ لِحَمْلِ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ عَلَى الْوَفَاءِ، مِنْهَا:
أ - قَضَاءُ الْحَاكِمِ دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا:
9 - إِذَا كَانَ لِلْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ مَالٌ مِنْ جَنْسِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَسْتَوْفِيهِ جَبْرًا عَنْهُ، وَيَدْفَعُهُ لِلدَّائِنِ إِنْ صَافًا لَهُ، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَهُ مَالٌ فَإِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَالدَّيْنُ دَرَاهِمُ، فَالْقَاضِي يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ دَرَاهِمِهِ بِلاَ خِلاَفٍ .
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الْحَقِّ إِذَا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ مِنِ اسْتِيفَائِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ أَخَذْنَا مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ .
ب - مَنْعُهُ مِنْ فُضُولِ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ:
10 - قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ وَامْتَنَعَ، وَرَأَى الْحَاكِمُ مَنْعَهُ مِنْ فُضُولِ الأْكْلِ وَالنِّكَاحِ فَلَهُ ذَلِكَ، إِذِ التَّعْزِيرُ لاَ يَخْتَصُّ بِنَوْعِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّ مَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي نَوْعِهِ وَقَدْرِهِ، إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ .
ج - تَغْرِيمُهُ نَفَقَاتِ الشِّكَايَةِ وَرَفْعِ الدَّعْوَى
11 - قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ عَلَيْهِ مَالٌ، وَلَمْ يُوَفِّهِ حَتَّى شَكَا رَبُّ الْمَالِ، وَغَرِمَ عَلَيْهِ مَالاً، وَكَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَمَطَلَ حَتَّى أَحْوَجَ مَالِكَهُ إِلَى الشَّكْوَى، فَمَا غَرِمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُمَاطِلِ، إِذَا كَانَ غُرْمُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ .
د - إِسْقَاطُ عَدَالَتِهِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ:
12 - حَكَى الْبَاجِيُّ عَنْ أَصْبَغَ وَسَحْنُونٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِرِدِّ شَهَادَةِ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَ غَنِيًّا مُقْتَدِرًا لأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم سَمَّاهُ ظَالِمًا فِي قَوْلِهِ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»، وَنَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مُقْتَرِفَ ذَلِكَ يُفَسَّقُ .
وَلَكِنْ هَلْ يَثْبُتُ فِسْقُهُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِمَطْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَمْ لاَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَصِيرُ عَادَةً؟
قَالَ النَّوَوِيُّ: مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا اشْتِرَاطُ التَّكْرَارِ وَقَالَ السُّبْكِيُّ: مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُهُ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنْ مَنَعَ الْحَقَّ بَعْدَ طَلَبِهِ، وَابَتْعَاءُ الْعُذْرِ عَنْ أَدَائِهِ كَالْغَصْبِ، وَالْغَصْبُ كَبِيرَةٌ، وَتَسْمِيَتُهُ فِي الْحَدِيثِ ظُلْمًا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً، وَالْكَبِيرَةُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّكْرَارُ، نَعَمْ لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ عُذْرِهِ .
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: يَفْسُقُ بِمَرَّةٍ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ: إِذَا تَكَرَّرَ، وَهُوَ الأْوْلَى .
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَفْسُقُ بِالتَّأْخِيرِ مَعَ الْقُدْرَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ أَمْ لاَ؟ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ الْبَابِ التَّوَقُّفُ عَلَى الطَّلَبِ، لأِنَّ الْمَطْلَ يُشْعِرُ بِهِ .
هـ - تَمْكِينُ الدَّائِنِ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلدَّيْنِ:
13 - نَصَّ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ، عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ الدَّائِنِ عِنْدَ مَطْلِ الْمَدِينِ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَيَسْتَرِدُّ الْبَدَلَ الَّذِي دَفَعَهُ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُ هَذَا الْخِيَارَ فِي الْفَسْخِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِزَالَةِ الضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِهِ نَتِيجَةَ مَطْلِ الْمَدِينِ وَمُخَاصَمَتِهِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلاً لِلْمَدِينِ الْمُقْتَدِرِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْوَفَاءِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوِ امْتَنَعَ - أَيِ الْمُشْتَرِي - مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ مَعَ يَسَارِهِ فَلاَ فَسْخَ فِي الأْصَحِّ ، لأِنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى أَخْذِهِ بِالْحَاكِمِ مُمْكِنٌ .
و - حَبْسُ الْمَدِينِ
14 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ الْمُوسِرَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ مَطْلاً وَظُلْمًا، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ .
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَبْسٌ ف 79 وَمَا بَعْدَهَا).
وَنَقَلَ ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمِّدٍ فِي الْمَحْبُوسِ بِالدَّيْنِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ مَالَ لَهُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَلَهُ مَالٌ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى، فَيُؤْمَرُ رَبُّ الدَّيْنِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلاً بِنَفْسِهِ عَلَى قَدْرِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ، وَيُؤْمَرُ أَنْ يَخْرُجَ وَيَبِيعَ مَالَهُ وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ، فَإِنْ أُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، أُعِيدَ حَبْسُهُ .
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ حُبِسَ بِدَيْنِ، وَلَهُ رَهْنٌ لاَ وَفَاءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَجَبَ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ إِمْهَالُهُ حَتَّى يَبِيعَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي بَيْعِهِ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَجَبَ إِخْرَاجُهُ لِيَبِيعَهُ، وَيَضْمَنُ عَلَيْهِ، أَوْ يَمْشِي مَعَهُ الدَّائِنُ أَوْ وَكِيلُهُ .
ز - ضَرْبُ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ
15 - قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: لاَ نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ، أَنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ، وَنَصُّوا عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالضَّرْبِ ثُمَّ قَالَ مُعَلِّقًا عَلَى حَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» وَالْعُقُوبَةُ لاَ تَخْتَصُّ بِالْحَبْسِ، بَلْ هِيَ فِي الضَّرْبِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْحَبْسِ .
وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْخَرَشِيِّ: إِنَّ مَعْلُومَ الْمَلاَءَةِ إِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ بِالنَّاضِّ الَّذِي عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُؤَخِّرُهُ، وَيَضْرِبُهُ بِاجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ يَدْفَعَ، وَلَوْ أَدَّى إِلَى إِتْلاَفِ نَفْسِهِ، وَلأِنَّهُ مُلِدٌّ .
ح - بَيْعُ الْحَاكِمِ مَالَ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ جَبْرًا
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَبِيعُ مَالَ الْمَدِينِ الْمُمَاطِلِ جَبْرًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.
غَيْرَ أَنَّ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفًا فِي تَأْخِيرِهِ عَنِ الْحَبْسِ، أَوِ اللُّجُوءِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَبْسِ الْمَدِينِ، أَوْ تَرْكِ الْخِيَارِ لِلْحَاكِمِ فِي اللُّجُوءِ إِلَيْهِ عِنْدَ الاِقْتِضَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ - وَلَهُ مَالٌ - فَإِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جَنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَالدَّيْنُ دَرَاهِمَ، فَالْقَاضِي يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ دَرَاهِمِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ خِلاَفِ جَنْسِ دَيْنِهِ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ وَمَالُهُ عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا أَوْ دَنَانِيرَ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يَبِيعُ الْعُرُوضَ وَالْعَقَارَ، وَفِي بَيْعِ الدَّنَانِيرِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَدِيمُ حَبْسُهُ إِلَى أَنْ يَبِيعَ بِنَفْسِهِ وَيَقْضِيَ الدَّيْنَ، وَعِنْدَ مُحَمِّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ يَبِيعُ الْقَاضِي دَنَانِيرَهُ وَعُرُوضَهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَفِي الْعَقَارِ رِوَايَتَانِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَعِنْدَهُمَا فِي رِوَايَةٍ: يَبِيعُ الْمَنْقُولَ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَ إِنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ، أَخَذْنَا مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا ظَفِرْنَا بِمَالِهِ أَوْ دَارِهِ أَوْ شَيْءٌ يُبَاعُ لَهُ فِي الدَّيْنِ - كَانَ رَهْنًا أَمْ لاَ - فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَلاَ نَحْبِسُهُ، لأِنَّ فِي حَبْسِهِ اسْتِمْرَارَ ظُلْمِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَأَمَّا الَّذِي لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهُ إِذَا طَلَبَ، فَإِذَا امْتَنَعَ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالأْصْحَابُ: إِذَا امْتَنَعَ الْمَدِينُ الْمُوسِرُ الْمُمَاطِلُ مِنَ الْوَفَاءِ، فَالْحَاكِمُ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ بَاعَ مَالَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَإِنْ شَاءَ أَكْرَهَهُ عَلَى بَيْعِهِ وَعَزَّرَهُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَبَى مَدِينٌ لَهُ مَالٌ يَفِي بِدَيْنِهِ الْحَالِّ الْوَفَاءِ، حَبَسَهُ الْحَاكِمُ، وَلَيْسَ لَهُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْحَبْسِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ، أَوْ يَبْرَأَ مِنْ غَرِيمِهِ بِوَفَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ أَوْ حَوَالَةٍ، أَوْ يَرْضَى الْغَرِيمُ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَبْسِ، لأِنَّ حَبْسَهُ حَقٌّ لِرَبِّ الدَّيْنِ وَقَدْ أَسْقَطَهُ، فَإِنْ أَصَرَّ الْمَدِينُ عَلَى الْحَبْسِ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ .