مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء : الثالث، الصفحة : 19
مذكرة المشروع التمهيدي :
1- تتناول هذه المادة أم حكم من أحكام الشرط : وهو ما يلقب اصطلاحاً بالإستناد، أو الأثر الرجعي، ولم يحد المشروع في هذا الشأن عما جرت عليه التقاليد اللاتينية، بل جعل الأصل في أثر الشرط أن يستند أو ينعطف إلى الماضي فيما عدا استثناءات معينة، القاعدة العامة هي انسحابه أثر تحقق الشرط الموقف أو الفاسخ إلى وقت التعاقد والواقع أن هذا الحكم ليس إلا تفسير معقولاً لإرادة المتعاقدين، فلو أنهما كانا من مبدأ الأمر على يقين من تحقق الشرط، لرد اثره إلى وقت انعقاد العقد، ويتفرع على فكرة استناد أثر الشرط أن الدائن بالتزام معلق على شرط موقف، يترتب حقه، لا من وقت تحقق الشرط حسب، بل من تاريخ انعقاد العقد، وكذلك الشأن في حق الدائن بإلتزام معلق على شرط فاسخ، فهو يعتبر كأن لم يكن قد ترتب قط، لا من وقت تحقق الشرط بل من تاريخ انعقاد العقد.
وإذا كان التقنين الألماني والتقنين السويسري قد أعرضا عن فكرة استناد أثر الشرط وشايعتهما في ذلك تقنينات كثيرة، فمن المحقق أن هذه التقنيات جميعاً لم تمض في هذا السيل إلى القصى من غاياته، فهي تخفف من آثار عدم الاستناد إلى حد بعيد، بمقتضى طائفة من النصوص الخاصة ( أنظر المواد 159 - 161 من التقنين الألماني) والحق أن شقة الخلاف بين المذهب اللاتيني والمذهب الجرماني، فيما يتعلق بأثر الشرط، ليست من السعة كما قد يحسب البعض، فالأحكام العملية أو التطبيقية تكاد تماثل في ظل كل من هذين المذهبين والواقع أن الخلاف بينهما لا يعدو أن يكون خلافاً في التصوير لا أكثر، فالمذهب اللاتيني يجعل من استناد أثر الشرط قاعدة عامة ويجيز مع ذلك الاتفاق على عكسها، بينا يجعل المذهب الجرماني من عدم استناد هذا الأثر قاعدة عامة، مع إباحة الخروج عليها .
2- وقد نهج المشروع نهج المذهب اللاتيني، ولم يجعل حكم استناد أثر الشرط مطلقاً، بل استثنى منه أحوالاً ثلاثة :
(أ) فأجاز أولاً استبعاد استناد أثر الشرط بإرادة المتعاقدين، وفي هذا المعنى تقول المذكرة الإيضاحية للمشروع الفرنسي الإيطالي : إن من الأحوال ما تنصرف فيه إرادة المتعاقدين انصرافاً واضحاً إلى ترتيب أثر الالتزام من وقت تحقق الشرط، ما هو الشأن فيمن يلتزم بالحاق شخص ما بخدمته، وعلق التزامه هذا على شرط معين، فليس من الميسور عند تحقق هذا الشرط الزامه بأن يسند أو الاجازة إلى الماضي .
(ب) وأجاز كذلك الخروج على حكم استناد أثر الشرط اذا كانت طبيعة الاجراء أو التصرف القانوني تقتضي ذلك كما هو الشأن في الإجراءات التحفظية التي تم اتخاذها قبل تحقق الشرط الموقف، وفي أعمال الادارة التي تتم قبل تحقق الشرط الفاسخ، وفي التطهير والشفعة ممن يملك تحته شرط فاسخ.
(ج) وقضى أخيرة بعدم استناد أثر الشرط، إذا أصبح تنفيذ الالتزام قبل تحقق الشرط غير ممكن، فإذا كان الشرط موقفاً وملك المعقود عليه، فلا يكون التحقق الشرط أثر رجعي، وتقع بيعة الملاك على المدين في العقود التبادلية، وعلى الدائن في العقود الملزمة لجانب واحد.
أما اذا كان الشرط فاسخاً وهلك المعقود عليه، قبل تحققه، فتقع تبعة الملاك على الدائن عند تحقق الشرط في العقود التبادلية، ويحتمل المدين هذه التبعة في العقود الملزمة لجانب واحد.
وقد اجترأ المشروع بهذا القدر ولم ينقل حكم المادة 269 مكرراً / 340 من التقنين المصرى، وهي الخاصة بحماية الدائن المرتهن من استناد أثر شرط يجهله، وقد راعی في ذلك أن علة وجوب هذه الحماية، في حالة إبطال عقد مرتب الرهن أو فسخه، ترجع إلى ما هو ملحوظ من احتمال الجهل بسبب الإبطال أو الفسخ، أما إذا تعلق الأمر بشرط يستند أثره، فلا عذر للدائن المرتهن في عدم العلم به.
1- يجوز فى شركات التضامن نزول أحد الشركاء عن حصته فى الشركة لواحد أو أكثر من شركائه فيها ويقع التنازل صحيحاً منتجاً لآثاره فيما بين المتنازل والمتنازل إليه ، فإذا علق هذا التنازل على شرط واقف فإنه لا يكون نافذاً إلا إذا تحقق هذا الشرط على أن يرتد أثره فى هذه الحالة – بحسب الأصل - إلى الوقت الذى نشأ فيه الالتزام بالتنازل على نحو ما تقضى به المادة 270 من القانون المدنى .
(الطعن رقم 674 لسنة 69 جلسة 2005/06/28 س 56 ص 684 ق 118)
2- لما كان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه بفسخ عقد البيع موضوع النزاع والتسليم على أن الطاعن أخل بالبند السابع منه بتجزئته قطعة الأرض محله وذلك ببيعه نصف هذه المساحة لآخرين واستدل على ذلك بعقد بيع صادر من الطاعن لآخرين بتاريخ 1/11/1980 مع أن العقد سابق فى تاريخه ووجوده على العقد موضوع النزاع فإنه يكون قد رتب جزاء الفسخ على تصرف سابق على وجوده وأعتبره إخلالا بشروطه بما لا يصلح سندا لفسخه مع أن الإخلال بالالتزام لايكون إلا تاليا لوجوده على نحو مخالف لشروطه مما يعيب الحكم بالخطأ فى تطبيق القانون والفساد فى الاستدلال.
(الطعن رقم 1131 لسنة 68 جلسة 1999/10/26 س 50 ع 2 ص 1038 ق 203)
3- إذ كان الثابت من الأوراق أن المطعون ضدهما الأولين قد قبلا بعد صدور الحكم الإبتدائي وفاء الطاعن لباقي الثمن فى 13/1/1990 نيابة عن المطعون ضده الثالث دون تحفظ وتمسك الطاعن بأن قبول الجهة الإدارية لذلك الوفاء مسقط لحقها فى طلب الفسخ فإن الحكم المطعون فيه إذ أيد قضاء الحكم الإبتدائي للمطعون ضدهما الأولين بفسخ البيع وبطلان التنازل على سند من أن قيام الطاعن بسداد باقي الثمن للجهة الإدارية المالكة لا يغير ما انتهى إليه لتحقق الشرط الصحيح الفاسخ وزوال البيع بأثر رجعي فإنه يكون قد خالف القانون وأخطأ فى تطبيقه.
(الطعن رقم 4609 لسنة 61 جلسة 1999/07/05 س 50 ع 2 ص 982 ق 193)
4- إذ كان تحقق الشرط فى عقد الإيجار - واقفاً كان هذا الشرط أو فاسخاً - ليس له أثر رجعى لان طبيعة هذا العقد بإعتباره عقداً زمنياً يتنافى مع الأثر الرجعى للشرط فإن وجود الإلتزامات الناشئة عنه إنما يكون فى الوقت الذي تحقق فيه الشرط طبقاً للمادة 270 / 1 من التقنين المدني.
(الطعن رقم 1679 لسنة 54 جلسة 1991/01/10 س 42 ع 1 ص 138 ق 27)
5- مؤدى نص المادتين 269 ، 270 من القانون المدنى يدل على أن الفسخ كما يكون جزاء على عدم تنفيذ أحد الطرفين لإلتزامه التعاقدى قد يترتب على تحقق شرط فاسخ يتفق الطرفان على أن مجرد تحققه يؤدى إلى إنفساخ العقد .
(الطعن رقم 1040 لسنة 47 جلسة 1980/02/04 س 31 ع 1 ص 393 ق 77)
6- الالتزام فى عقد الهبة شأنه شأن سائر العقود قد يكون معلقاً على شرط فاسخ فإذا تحقق الشرط ترتب على ذلك زوال الالتزام وجاز للواهب أن يسترد ما وهبه ولايشترط فى هذه الحالة أن يستند الواهب إلى عذر مقبول وإنما يكفي تحقق الشرط، كما لا يجوز للموهوب له أن يتمسك بقيام مانع من الرجوع فى الهبة، لأن العقد شريعة المتعاقدين ويجب عليهما تنفيذ ما أشتمل عليه، ويقوم مقام القانون فى تنظيم العلاقة بينهما، بل هو ينسخ القانون فى دائرة النظام العام والآداب. ولما كانت محكمة الموضوع بما لها من سلطة تفسير العقود قد استظهرت - للأسباب السائغة السابق بيانها أن الدولة وهبت جمعية الاقتصاد لموظفي البريد التي يمثلها الطاعن المبلغ موضوع النزاع هبه معلقة على شرط فاسخ هو عدم استحقاق مستخدمي المصلحة الخارجين على الهيئة والمؤقتين لمكافآت من قبل الدولة، وإن هذا الشرط قد تحقق بصدور القانون رقم 545 لسنة 1953 الذي حمل الدولة بالمكافآت المستحقة لهم، ورتب الحكم على ذلك قضاءه برد المبلغ الموهوب فإنه لايكون قد أخطأ فى تطبيق القانون.
(الطعن رقم 351 لسنة 44 جلسة 1978/03/16 س 29 ع 1 ص 773 ق 152)
7- من القواعد العامة فى الأوصاف المعدلة لأثر الإلتزام أنه إذا علق الالتزام على شرط هو ألا يقع أمر فى وقت معين ، فإن الشرط يتحقق إذا إنقضى الوقت دون أن يقع هذا الأمر ، و هو يتحقق كذلك قبل انقضاء الوقت إذا أصبح من المؤكد أنه لن يقع ، فإذا لم يحدد وقت فإن الشرط لا يتحقق إلا عندما يصبح مؤكداً عدم وقوع الأمر ، وقد يكون ذلك بإنقضاء مدة طويلة من الزمن يصبح معها عدم وقوعه أمراً يبلغ حد اليقين ، وتقرير ذلك بأدلة تبرره عقلاً مما يدخل فى سلطة محكمةالموضوع ، لما كان ذلك وكان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه بإلزام الطاعنين بأن يؤدوا للمطعون ضده من تركة مورثهم مبلغ ........ على أساس من القول مفادة أنه أعتبر إلتزام مورث الطاعنين بأداء ثلث المبلغ المخصص لتسجيل عقد شرائه معلقاً على شرط واقف هو قيام البائع الأصلى بالتوقيع مباشرة على العقود الخاصة بالمشترين من مورث الطاعنين بحيث تنتفى الحاجة إلى تسجيل عقد شراء هذا الأخير ولا يسجل فعلاً ، وأن هذا الشرط وأن لم يكن قد تحقق فعلا - يعتبر أنه تحقق حكماً بإنقضاء مدة من الزمن رأت المحكمة معها - ومع ما تبين لها من ظروف الإلتزام وملابساته - أن عدم تسجيل عقد المورث أصبح أمراً يبلغ حد اليقين ، فإنه يكون قد صادف صحيح القانون .
(الطعن رقم 679 لسنة 42 جلسة 1976/03/31 س 27 ع 1 ص 838 ق 161)
يقتصر الأثر الرجعي على الشرط دون الأجل، فإن أبرم تصرف، کبيع أو مقايضة أو هيئة أو أي تصرف آخر وعلق على شرط واقف أو ناسخ، فان التصرف يعتبر نافذاً في حالة تحقق الشرط الواقف، أو لاغياً في حالة تحقق الشرط الفاسخ من تاريخ إبرام التصرف وليس من تاريخ تحقق الشرطة ويترتب على ذلك .
1- أن التصرف المعلق على شرط واقف، يعتبر نافذاً من تاريخ التصرف عندما يتحقق الشرط، ويكون الدائن في هذا التصرف هو رحلة صاحب الحق محل التصرف، فان كان قد تصرف فيه في فترة التعليق أو كان رتب رهناً خلالها فإن تلك التصرفات تكون صادرة من مالك فتقع صحيحة، وعلى العكس من ذلك، إذا تصرف المالك تحت شرط فاسخ يبيع أو رهن، ثم نخفق الشرط فزالت عنه الملكية بأثر رجعي وآلت إلى المالك تحت شرط واقف، فان تعرف المالك تحت شرط فاسخ لا ينفذ في حق المالك تحت شرط واقف لورود هذا التصرف على ملك الغير مع مراعاة قواعد الشهر بقاعدة الحيازة في المنقول على نحو ما أوضحناه بالمادة 269 وانظر وانظر نقض 1958/3/27 بند تزاحم المشترين بالمادة 428
2- اذا قيد الدائن المرتهن سخت شرط واقف الرهن الضامن لدينه ثم تحقق الشرط بعد القيد، فان مرتبة الرهن تتحدد من تاريخ القيد وليس من تاريخ تحقق الشرط .
3- عادة ما يبرم عقد التأمين على الحياة ويعلق نفاذه على الوفاء بالقسط الأول، فإن توفي المتعاقد قبل حلول موعد الوفاء بهذا القسط، ثم قام الورثة بالوفاء، فإن الشرط يتحقق وينفذ عقد التأمين ويستحق المستفيد منه مبلغ التأمين ولا يسري الأثر الرجعي للشرط بصفة مطلقة، إذ ترد عليه الاستثناءات التالية .
1- إذا اتفق المتعاقدان على استبعاد الأثر الرجعي واعتبار تنفيذ الالتزام منذ محقق الشرط وليس من وقت التعاقد، ويكون هذا الاتفاق صريحاً أو ضمنياً على أنه يجب تفسير أي شك في إستبعاد الأثر الرجعي على الإبقاء على هذا الأثر، فإن لم يكن قصد المتعاقدين واضحاً جلياً على إستبعاد الأثر الرجعي يتعين الإبقاء عليه .
2- يستبعد الأثر الرجعي إذا كانت طبيعة العقد تستلزم ذلك، كما إذا تعهد رب العمل على إلحاق عامل لديه وعلى التزامه على شرط واقف، فإن تحقق الشرط فإن طبيعة العقد ختم استبعاد الأثر الرجعي، كذلك بالنسبة للعقد الزمني کعقد الايجار عندما يعلق على شرط فاسخ، فمتى تحقق الشرط زال العقد من وقت تحقق الشرط لا من وقت التعاقدات.
3- أعمال الإدارة :
متى تمت بحسن نية، فالمالك تحت شرط فاسخ إذا أبرم إيجاراً في فترة التعليق، فإنه يظل سارياً رغم تحقق الشرط (م 269 / 2) ومن أعمال الإدارة الايجار وقبض الأجرة وجني المحصولات والثمار وبيعها وقيد الرهن وتجديد القيد وقسمة المال الشائع وتطهير العقار المرهون.
4 - إذا أصبح تنفيذ الالتزام قبل تحقق الشرط غير ممكن لسبب أجنبي لا يد للمدين فيه، فعقد البيع المعلق على شرط واقف بالنسبة للمشتري وشرط فاسخ بالنسبة للبائع، فإذا هلكت العين قبل تحقق الشرط وكان المشترى لم يتسلمها بعد فإن الهلاك يكون على البائع م 437 فإن اشتری شخص تحت شرط فاسخ وتسلم المبيع وهلك في يده ثم تحقق الشرط الفاسخ، فإن مؤدى الأخذ بالأثر الرجعي أن يكون الهلاك على المالك وهو البائع، لكن المشرع استعد الأثر الرجعي في هذه الحالة.
5- الشرط الذي يوجبه المشرع لوجود حكم معین، فيوجد الحكم من وقت تحقق الشرط، فالملكية تنتقل بالتسجيل ومن تاریخ إجرائه ولی من تاريخ العقد وكذلك فيما يتعلق بتسكين العمال فاستحقاقه الفئة يكون من وقت خقق شروطها و بدون أثر رجعي .(المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء : الرابع، الصفحة : 662)
أثر الشرط بعد انتهاء مرحلة التعليق
إذا انتهت مرحلة التعليق فإن مآل الشرط يتبين، فهو إما أن يتحقق ,غما أن يتخلف، وسواء تحقق أو تخلف فلكل منذ لك أثره، في حالتي الشرط الواقف والشرط الفاسخ.
ويكون لتحقق الشرط، واقفاً كان أو فاسخاً، أثر رجعي في الكثرة الغالبة من الأحوال.
فنتكلم إذن في المسائل الآتية :
(1) كيف يتحقق الشرط أو يتخلف .
(2) أثر تحقق الشرط أو تخلفه في حالتي الشرط الواقف والشرط الفاسخ .
(3) الأثر الرجعي للشرط .
1- كيف يتحقق الشرط أو يتخلف
العبرة بإرادة طرفي الالتزام في تحقق الشرط أو تخلفه :
تنص المادة 1175 من التقنين المدني الفرنسي على أنه " يجب أن يكون تحقق الشرط على الوجه الذي يظهر أن الطرفين قد أرادا وقصدا أن يكون " .
وليس لهذا النص مقابل في التقنين المدني المصري، ولكنه تطبيق للقواعد العامة، فيمكن الأخذ بحكمه في مصر دون حاجة إلى نص في ذلك .
وقاضي الموضوع هو الذي يقدر الوجه الذي يريد الطرفان أن يكون عليه تحقق الشرط، وذلك بالرجوع إلى نيتهم، فيقضي بأن الشرط قد تحقق أو تخلف، ولا معقب على حكمه، فإذا كان الشرط عملاً يجب القيام به، نظر القاضي هل قصد الطرفان أن يقوم به شخص معين بالذات كما إذا كان عملاً فنياً لشخصية القائم به اعتبار ملحوظ، أو قصدا أن يقوم به أي شخص كما إذا كان عملاً لا عبرة فيه بشخصية القائم به، كذلك يقدر القاضي ما إذا كان الشرط يقبل التجزئة بحيث إن تحقق جزء منه قابله جزء من الالتزام المشروط، أو أنه لا يقبل التجزئة فأما أن يتحقق كله وإلا عد متخلفاً، وقد يكون الشرط هو تحقيق غاية، كما إذا كان زواجاً اشترط على الدائن أن يعقده، فعلى الدائن أن يعقد هذا الزواج حتى يتحقق الشرط، وليس له أن يحتج بأنه قد بذل جهده في عقد الزواج ولكنه لم يوفق، فالشرط هنا هو تحقيق غاية هي عقد الزواج، فإذا لم تتحقق هذه الغاية، مهما تكن هذه الأسباب لعدم تحققها ولو كانت أسباباً قاهرة، اعتبر الشرط متخلفاً، كما قد يكون الشرط هو بذل عناية، فعند ذلك يجب من يطلب منه بذل هذه العناية إلا يدخر وسعاً في تحقيق الغرض المقصود، ولكن ليس عليه أن يتحقق هذا الغرض.
وإذا تحقق الشرط أو تخلف، فقد تحدد مصيره على وجه نهائي لا سبيل إلى الرجوع فيه، فإذا كان الشرط مثلاً الزواج في خلال مدة معينة، وتم الزواج في خلال هذه المدة، فقد تحقق الشرط ولو وقع الطلاق بعد ذلك، وإذا لم يتم الزواج في خلال المدة المعينة، فقد تخلف الشرط ولو تم الزواج بعد انتهاء هذه المدة.
الشرط الذي حدد لتحققه أو لتخلفه وقت معين :
وتنص المادة 1176 من التقنين المدني الفرنسي على أنه " إذا علق الالتزام على شرط هو أن يقع أمر في وقت معين، فإن الشرط يعتبر متخلفاً إذا انقضى الوقت دون أن يقع هذا الأمر، فإذا لم يحدد لوقوع الأمر وقت، جاز أن يتحقق الشرط في أي وقت ولا يعتبر متخلفاً إلا إذا أصبح من المؤكد أنه لن يقع "، وتنص المادة 1177 من نفس التقنين على أنه " إذا علق الالتزام على شرط هو إلا يقع أمر في وقت معين، فإن الشرط يتحقق إذا انقضى الوقت دون أن يقع هذا الأمر، وهو يتحقق كذلك قبل انقضاء الوقت إذا أصبح من المؤكد أنه لن يقع، فإذا لم يحدد وقت، فإن الشرط لا يتحقق إلا عندما يصبح مؤكداً عدم وقوع الأمر ".
ولا مقابل لهذه النصوص في التقنين المدني المصري، ولكن يمكن الأخذ بأحكامها دون حاجة إلى نص لأنها ليست إلا تطبيقاً للقواعد العامة .
ومثل الشرط الذي يقع في وقت معين أن يعلق الملتزم التزامه على عودة ابنه الغائب في ميعاد يضربه، فيقول إذا عاد ابني الغائب في خلال ثلاث سنوات مثلاً، وقد لا يعين ميعاداً، فيقتصر على أن يقول إذا عاد ابني الغائب، ومثل الشرط الذي لا يقع في وقت معين أن يعلق الملتزم التزامه على انعدام خلف له ويضرب لذلك ميعاداً، فيقول إذا لم يولد لي ولد في خلال سنتين مثلاً، وقد لا يعين ميعاداً، فيقتصر على أن يقول إذا لم يولد لي ولد.
فإذا علق الملتزم التزامه على شرط أن يعود ابنه الغائب في خلال ثلاث سنوات، فإن هذه المدة التي عينها تكون أحد عناصر الشرط، ولا يتحقق الشرط إلا إذا عاد ابنه في خلال هذه المدة، فإذا انقضت دون إني عود فإن الشرط يتخلف، حتى لو عاد الإبن بعد ذلك بمدة وجيزة، ولا يجوز للقاضي أن يمد المدة، توقعاً لعودة الابن الغائب في أجل قريب، وتسري المدة في حق القاصر وناقص الأهلية ولو لم يكن له ولي، لأنها ليست مدة تقادم حتى يرد عليها الوقف، كذلك لا يجوز قطعها كما تقطع مدة التقادم، ويتخلف الشرط أيضاً، حتى قبل انقضاء المدة المعينة؛ متى أصبح من المؤكد أن الإبن الغائب لن يعود، بأن يموت مثلاً قبل انقضاء المدة، أما إذا عاد الإبن الغائب في خلال ثلاث سنوات، فقد تحقق الشرط، ويبت في ذلك قاضي الموضوع دون معقب على حكمه، وإذا كان الشرط غير مقترن بمدة محددة، بل كان مقتصراً على اشتراط عودة الإبن الغائب، فهو لا يتحقق إلا إذا عاد الإبن، ولكنه يتحقق بعودة الإبن في أي وقت، حتى لو كان ذلك بعد موت الملتزم؛ فإن التزامه المعلق على شرط ينتقل إلى ورثته، ويبقى معلقاً بعد انتقاله إلى الورثة حتى يعود الابن الغائب، ولا يتخلف الشرط في هذه الحالة إلا إذا أصبح من المؤكد أن الإبن الغائب لن يعود في أي وقت، ويكون ذلك إما بالتحقق من وفاته، وإما بانقضاء مدة طويلة من الزمن تصبح معها وفاته أمراً يبلغ حد اليقين، ويجوز كذلك، عند عدم تعيين مدة يتحقق في خلالها الشرط، أن يعين القاضي مدة معقولة، مستخلصاً إياها من نية الطرفين ومن ظروف التعاقد وملابساته.
وما قدمناه ينطبق على الشرط السلبي : إلا يقع أمر في خلال مدة معينة، فإذا علق الملتزم التزامه على شرط إلا يولد له ولد في خلال سنتين، فإن الشرط يكون قد تحقق إذا انقضت هذه المدة دون أن يرزق ولداً، حتى لو رزق الولد بعد انقضاء المدة بوقت وجيز، بل أن الشرط يكون قد تحقق – وقد نصت على ذلك صراحة المادة 1177 فرنسي – حتى قبل انقضاء المدة إذا أصبح مؤكداً أن الملتزم لن يولد له ولد، بان ثبت عقمه مثلاً أو مات قبل انقضاء المدة، أما إذا رزق الملتزم ولداً في خلال السنتين، فإن الشرط يكون قد تخلف، حتى لو مات الولد بعد ذلك ولو كان موته قبل انقضاء السنتين، وإذا كان الشرط غير مقترن بمدة، بل كان مقتصراً على إلا يولد للملتزم ولد، فإن الشرط يتخلف إذا رزق الملتزم ولداً في أي وقت إلى أن يموت، ويتحقق الشرط إذا أصبح من المؤكد إلا يولد له ولد، بان أصبح عقيماً مثلاً أو ماتت زوجته وكان الشرط أن يكون الولد منها.
تحقق الشرط أو تخلفه بطريق الغش :
وتنص المادة 1178 من التقنين المدني الفرنسي على أنه " يعتبر الشرط قد تحقق إذا كان المدين بالتزام معلق على هذا الشرط هو الذي منع تحققه "، وليس لهذا النص مقابل في التقنين المدني المصري، ولكن المشروع التمهيدي لهذا التقنين كان قد احتوى على نص مقابل هو المادة 388 من هذا المشروع، وكانت تجري على الوجه الآتي :
1- يعتبر الشرط قد تحقق إذا كان الطرف الذي له مصلحة في أن يتخلف في حال بطريق الغش دون تحققه .
2- لا أثر للشرط الذي تحقق إذا كان تحققه قد وقع بغش الطرف الذي له مصلحة في أن يتحقق "، والنص كما نرى أكثر استيعاباً وأوسع شمولاً من نص التقنين المدني الفرنسي، ولكنه حذف في لجنة المراجعة " لا مكان استخلاص حكمه من القواعد العامة ".
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لهذا المشروع في هذا صدد هذا النص ما يأتي :
تواجه هذه المادة فرضين : أولهما يعرض حيث يحول ذو المصلحة في تخلف الشرط دون تحققه بطريق الغش، كما هو الشأن في المدين بالتزام معلق على شرط موقف أو الدائن بالتزام معلق على شرط فاسخ، وفي مثل هذا الفرض يعتبر الشرط قد تحقق ولو أنه لا يزال متخلفاً في حكم الواقع، جزاء ما وقع من غش المدين أو الدائن بحسب الأحوال، والثاني يعرض حيث يعمد ذو المصلحة، على نقيض ما وقع في الفرض الأول، إلى تحقيق الشرط بطريق الغش، كما هو الشأن في الدائن بالتزام معلق على شرط موقف ( كالمستأمن إذا انتحر أو تسبب في الحريق عمداً )، والمدين بدين معلق على شرط فاسخ، ولا يرتب تحقق الشرط في هذا الفرض أثراً ما، بل يبرأ المدين من التزامه، أو يظل مرتبطاً به نهائياً، رغم تحقق الشرط الموقف أو الفاسخ . ومن الواضح أن إقرار هذا الحكم قصد به إلى قمع ما يقع من غش من المدين أو الدائن بحسب الأحوال " .
وواضح أن ذا المصلحة من الطرفين في تخلف الشرط إذا حال دون تحققه بطريق الغش، كالمدين تحت شرط واقف يحول دون تحقق هذا الشرط حتى لا ينفذ التزامه، أو الدائن تحت شرط فاسخ يحول دون تحقق هذا الشرط حتى يصبح حقه باتاً لا يفسخ، يكون قد عمل على نقض ما تم من جهته، ومن سعى إلى نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه، وكذلك الحال في ذي المصلحة من الطرفين في تحقق الشرط إذا عمل على تحقيقه بطريق الغش، كالمدين تحت شرط فاسخ يعمل على تحقيق هذا الشرط حتى يفسخ التزامه، وكالدائن تحت شرط واقف يعمل على تحقيق الشرط حتى يصبح حقه نافذاً، في جميع هذه الأحوال يكون هناك خطأ من الطرف الذي عمل على تخلف الشرط أو على تحققه، فيجب عليه التعويض عن خطأه، وخير تعويض هو أن يعتبر الشرط الذي عمل على تخلفه قد تحقق، أو الشرط الذي عمل على تحققه قد تخلف، فهذا هو التعويض العيني للخطأ الذي ارتكبه .
ولكن لا بد أن يكون قد ارتكب خطأ في الحيلولة دون تحقق الشرط أو دون تخلفه، ولا يكفي أن يكون بمجرد عمله قد حال دون ذلك من غير أن ينطوي هذا العمل على خطأ، فلو أن المؤجر التزم نحو المستأجر أن يؤجر له طابقاً آخر من الدار إذا بقى في الطابق الأول الذي أجره له مدة معينة، ثم تأخر المستأجر عن دفع أجرة الطابق الأول مما دعا المؤجر أن يستصدر حكماً عليه بالإخلاء قبل انقضاء المدة المعينة، فلا يقال في هذه الحالة أن المؤجر قد عمل، بإخراج المستأجر من الطابق الأول، على تخلف الشرط مما يؤدي إلى اعتباره متحققاً، ذلك أن المؤجر لم يرتكب خطأ في إخراج المستأجر من الطابق الأول، بل المستأجر هو الذي ارتكب الخطأ بتأخره عن دفع الأجرة، وإذا التزم شخص نحو ابنه بإعطائه مبلغاً من المال إذا لم يبن له داراً، فإن الأب يستطيع إني بني الدار للابن فيتخلف الشرط بذلك، ولا يعتبر الأب مخطئاً في العمل على تخلف الشرط،. وإنما يعتبر الطرف قد أخطأ في العمل على تحقق الشرط، ومن ثم يعتبر الشرط متخلفاً، في الفرض الآتي : شخص تعهد بإعطاء إيراد مرتب لشخصين طول حياتهما، على أن من يموت منهما قبل الآخر يرتد إيراده إلى صاحبه، فيجمع هذا بين الايرادات، فإذا قتل أحد هذين الشخصين الآخر، فإنه يكون بذلك قد عمل غشاً على تحقيق الشرط الذي يترتب على تحققه أن يرتد له إيراد الشخص المقتول، ومن ثم يعتبر الشرط متخلفاً جزاء له على غشه، ولا يرتد له هذا الإيراد، كذلك إذا أحرق المؤمن على الحريق المكان الذي أمنه، فإنه لا يستحق مبلغ التأمين.
على أنه ليس من الضروري، بعد أن حذف نص المادة 388 من المشروع التمهيدي وكان يشترط أن تكون الحيلولة دون تحقق الشرط أو تخلفه بطريق الغش، أن تكون الحيلولة حتما بهذا الطريق، بل يكفي أن يكون هناك خطأ في جانب من حال دون تحقق الشرط أو دون تخلفه، ولو لم يصل هذا الخطأ إلى درجة التعمد والغش، فإذا تعهد صاحب مصنع لموظفيه بأن يعطيهم تعويضاً عن مصروفات انتقالهم إلى المصنع إذا لم يقدم لهم عربة خاصة تنقلهم إليه، فإن مجرد تأخر أحد الموظفين عن إدراك العربة الخاصة يكون خطأ، ويكون قد عمل على تحقيق الشرط بخطأ منه، فلا يستحق تعويضاً عن مصروفات انتقاله إلى المصنع بوسائله الخاصة.
ولا يطلب من الطرف ذي الشأن إلا أن يثبت أن الطرف الآخر قد حال بخطأه دون تحقق الشرط أو دون تخلفه.
ولكن يجوز للطرف الآخر أن يثبت أنه بالرغم من خطأه فإن الشرط ما كان ليتحقق أو ما كان ليتخلف، وفي هذه الحالة لا يجوز اعتبار الشرط متحققاً أو متخلفاً ما دام الخطأ ليس هو السبب الحقيقي في تخلفه أو في تحققه .
أثر تحقق الشرط أو تخلفه
الشرط الواقف – النصوص القانونية :
رأينا أن المادة 268 من التقنين المدني المصري تنص في صدرها على ما يأتي : " إذا كان الالتزام معلقاً على شرط واقف، فلا يكون نافذاً إلا إذا تحقق الشرط، أما قبل تحقق الشرط " .
فإذا تحقق الشرط الواقف إذن نفذ الالتزام المعلق عليه، وكان قبل تحقق الشرط موقوفاً كما رأينا، فيجوز بعد تحقق الشرط للدائن أن ينفذ بحقه إختياراً أو إجباراً، وله أن يستعمل الدعوى البوليصة تمهيداً لهذا التنفيذ، ولا يرد ما قبضه، لأنه قبض ما هو مستحق له، ويسري التقادم في حق الالتزام منذ تحقق الشرط، وكان لا يسري حال تعلقه، وقد تقدم بيان كل ذلك هذا ويعتبر الالتزام بتحقق الشرط موجوداً، لا منذ تحقق الشرط فحسب، بل منذ نشوء الالتزام، وهذا هو الأثر الرجعي لتحقق الشرط وسيأتي بيانه، ويستخلص من ذلك أنه إذا تم العقد معلقاً على شرط واقف، لم يجز لأحد المتعاقدين أن يرجع في تعاقده ما بين تمام العقد وتحقق الشرط، فإن الشرط إذا تحقق اعتبر العقد قد تم وترتبت عليه جميع آثاره منذ انعقاده لا منذ تحقق الشرط.
أما إذا تخلف الشرط الواقف، فإن الالتزام الذي كان معلقاً على هذا الشرط – وكان له وجود ناقص كما قدمنا – ينمحي ويصبح كأن لم يكن، ولا يعتبر له وجود، لا كامل ولا ناقص، منذ البداية، وهذا هو الأثر الرجعي لتخلف الشرط، وينبني على ذلك أن المدين إذا لم يكن قد وفى شيئاً من الالتزام كان غير ملزم بالوفاء أصلاً، وإذا كان قد وفى شيئاً فإنه يسترده، وينبني على ذلك أيضاً أن الدائن إذا كان قد تصرف في الشيء، فإن تخلف الشرط الواقف يلغي جميع تصرفاته لأنها جميعها كانت معلقة على هذا الشرط الواقف كما قدمنا .
الشرط الفاسخ – النصوص القانونية :
تنص المادة 269 من التقنين المدني على ما يأتي :
1 - يترتب على تحقق الشرط الفاسخ زوال الالتزام ويكون الدائن ملزماً برد ما أخذه، فإذا استحال الرد لسبب هو مسئول عنه وجب عليه التعويض " .
2- على أن أعمال الإدارة التي تصدر من الدائن تبقى نافذة رغم تحقق الشرط".
ونرى من ذلك أنه إذا تحقق الشرط الفاسخ، فإن تحققه يزيل الالتزام المعلق عليه، فيعتبر هذا الالتزام كأن لم يكن منذ البداية بفضل الأثر الرجعي، وينفسخ الالتزام بقوة القانون، دون حاجة إلى حكم أو إعذار، ويترتب على ذلك ما يأتي :
(1) لا حاجة لطلب الفسخ، ومن باب أولى لاستصدار حكم به، ولكن إذا حصل نزاع وجب الالتجاء إلى القضاء، لا ليقضى بالفسخ كما يفعل في فسخ العقد الملزم للجانبين إذا أخل أحد المتعاقدين بالتزامه، بل يقرر أن العقد قد انفسخ، ولا يجوز له أن يمنح أية مهلة.
(2) يجوز لكل ذي مصلحة التمسك بانفساخ العقد، فيستطيع دائنو البائع بعد انفساخ عقد المشتري أن يحجزوا على المبيع مباشرة بمجرد تحقق الشرط الفاسخ .
(3) لا يجوز للطرفين باتفاقهما أن ينزلا عن الفسخ، إذ يعتبر العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه، ولا بد من إبرام عقد جديد ينعقد من وقت إبرامه .
و بتحقق الشرط الفاسخ تسقط جميع التصرفات التي صدرت من الدائن تحت شرط فاسخ، ولا تبقى إلا أعمال الإدارة على الوجه الذي سنبينه فيما يلي، وإذا كان الدائن قد استوفى الدين، وتحقق الشرط الفاسخ، فعليه أن يرده للمدين، وإذا استحال الرد لغير سبب أجنبي، كان عليه أن يعوض المدين عما أصابه من الضرر، أما إذا رجعت الاستحالة إلى سبب أجنبي، فقد انقضى الالتزام بالرد، ولا محل للتعويض في هذه الحالة، والالتزام بالرد مبنى على أساس دفع غير المستحق، فإنه لما تحقق الشرط الفاسخ بأثر رجعي، تبين أن الشيء الذي دفعه المدين للدائن لم يكن مستحقاً، فكان له الحق في استرداده.
وإذا تخلف الشرط الفاسخ، فإن الالتزام الذي كان معلقاً عليه وكان على خطر الزوال يصبح باتاً غير معرض للزوال، وتصبح جميع تصرفات الدائن تحت شرط فاسخ هي أيضاً باته غير قابلة للنقض، أما تصرفات الطرف الآخر التي كانت معلقة على شرط واقف، ولم يتحقق هذا الشرط بتخلف الشرط الفاسخ، فإنها تزول بأثر رجعي كما قدمنا ويتم كل ذلك بمجرد تخلف الشرط الفاسخ دون حاجة إلى حكم أو إعذار، كما رأينا ذلك في حالة تحقق هذا الشرط .
أعمال الإدارة في حالة تحقق الشرط الفاسخ : قدمنا أن جميع تصرفات الدائن تحت شرط فاسخ تسقط بتحقق الشرط فيما عدا أعمال الإدارة، وقد نصت على ذلك صراحة، كما رأينا، الفقرة الثانية من المادة 269 إذ تقول : " على أن أعمال الإدارة التي تصدر من الدائن تبقى نافذة رغم تحقق الشرط " .
وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي :
أما ما يصدر من الدائن من أعمال الإدارة فيظل قائماً رغم تحقق الشرط، ذلك أن هذه الأعمال لا تؤثر في الحقوق التي استقرت نهائياً من جراء تحقق الشرط، ثم أنه من الاهمية بمكان أن يكفل لها ما ينبغي من الاستقرار، وغنى عن البيان أن بقاء الأعمال التي تقدمت الإشارة إليها مشروط بحسن نية من صدرت عنه وعدم تجاوزه المألوف في حدود الإدارة، فإذا كان عمل الإدارة اجارة مثلاً، وجب إلا تجاوز مدتها ثلاث سنوات ".
والمثل المألوف لأعمال الإدارة هو الإيجار، ويدخل في أعمال الإدارة أيضاً قبض الأجرة وبيع الثمار والمحصولات وقيد الرهن وتجديد القيد وتسجيل العقد ونحو ذلك، بل يدخل في أعمال الإدارة، فلا ينفسخ بتحقق الشرط الفاسخ، القسمة وتطهير العقار، فإذا أجرى المالك قسمة العين الشائعة التي يملكها تحت شرط فاسخ، فإن هذه القسمة، سواء كانت قضائية أو رضائية، لا تنفسخ بتحقق الشرط، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وكذلك الأمر فيما يتعلق بتطهير العقار إذا كان مثقلاً برهن وأجرى المالك تحت شرط فاسخ تطهيره، فلا يعود مثقلاً بالرهن حتى لو تحقق الشرط الفاسخ، كما تقدم القول.
ولكن يشترط لبقاء أعمال الإدارة بالرغم من تحقق الشرط الفاسخ أمران :
(1) أمر ذاتي، هو حسن نية صاحب الحق المعلق على شرط فاسخ، فيجب إلا يتخذ من أعمال الإدارة ذريعة يتوسل بها إلى تعطيل حق الطرف الآخر إذا تحقق الشرط الفاسخ.
(2) وأمر موضوعي، هو إلا يجاوز في أعمال الإدارة الحد المألوف، فلا يعقد إجارة لمدة تجاوز ثلاث سنوات، ولا يبيع إلا الموجود من المحصولات فيمتنع عليه بيع المحصولات المستقبلة لسنين قادمة، وهكذا .
والسبب في بقاء أعمال الإدارة واضح، لأن هذه الأعمال ضرورية ويجب القيام بها في وقتها المناسب، ويجب أن يكون لها من الاستقرار ما يكفل لها البقاء حتى يتيسر اجراؤها، ولما كان صاحب الحق المعلق على شرط فاسخ هو الذي يملك الإدارة، فقد يسر له القانون مهمته بان أبقى أعماله قائمة حتى بعد تحقق الشرط الفاسخ، ما دام قد توافر فيها الشرطان المتقدمان .
3 - الأثر الرجعي لتحقق الشرط
النصوص القانونية :
تنص المادة 270 من التقنين المدني على ما يأتي :
1- إذا تحقق الشرط استند أثره إلى الوقت الذي نشأ فيه الالتزام، إلا إذا تبين من إرادة المتعاقدين أو من طبيعة العقد أن وجود الالتزام، أو زواله، إنما يكون في الوقت الذي تحقق فيه الشرط ".
2- ومع ذلك لا يكون للشرط أثر رجعي، إذا أصبح تنفيذ الالتزام قبل تحقق الشرط غير ممكن لسبب أجنبي لا يد للمدين فيه ".
ويقابل هذا النص في التقنين المدني السابق المواد 105 / 159 و 106 / 160 و 269 مكررة / 340، ولا فرق في الحكم بين التقنينين.
ويقابل النص في التقنينات المدنية العربية الأخرى : في التقنين المدني السوري المادة 270، وفي التقنين المدني الليبي المادة 257، وفي التقنين المدني العراقي 290، وفي تقنين الموجبات والعقود اللبناني المواد 95 و 96 و 98 و 99 وفي التقنين المدني الكويتي م 328، وفي التقنين المدني الأردني م 400.
وهذه المسألة هي من أهم المسائل في الشرط، ويختلف الشرط عن الأجل بوجه خاص في أن للشرط أثراً رجعياً ليس للأجل وفي أن الشرط أمر غير محقق الوقوع والأجل أمر محقق.
ونتكلم، في الأثر الرجعي للشرط، في المسائل الآتية :
(1) الأساس الذي يقوم عليه مبدأ الأثر الرجعي وتقدير هذا المبدأ .
(2) ما يترتب من النتائج على الأثر الرجعي .
(3) ما يستثنى من إعمال الأثر الرجعي .
الأساس الذي يقوم عليه مبدأ الأثر الرجعي – تقدير هذا المبدأ :
اشرنا فيما قدمناه إلى أن لتحقق الشرط، سواء كان الشرط واقفاً أو فاسخاً، أثراً رجعياً، وهذا ما تقوله صراحة المادة 270 مدني، فهي كما رأينا تقرر أنه إذا تحقق الشرط استند إلى وقت الذي نشأ فيه الالتزام .
ونبدأ ببيان الأساس الذي يقوم عليه مبدأ الأثر الرجعي، وقد تشعبت الآراء في بيان هذا الأساس .
فمن الفقهاء من يذهب إلى أن الأثر الرجعي لتحقق الشرط ليس إلا مجرد افتراض وهمي من جانب المشرع، الغرض منه تفسير بعض النتائج التي تترتب على تحقق الشرط، ومن ثم لا يجوز التوسع في إعمال هذا الأثر الرجعي، بل يجب قصره على الأحوال التي قصد المشرع صراحة أو ضمناً أن يكون لتحقق الشرط فيها هذا الأثر ولكن هذا الرأي لا يحل الإشكال، إذ يبقى أن نعرف لماذا افترض المشرع هذا الافتراض الوهمي في النتائج التي رتبها على تحقق الشرط .
ومن الفقهاء من يذهب إلى أن الأثر الرجعي لتحقق الشرط ليس إلا تعبيراً ملائماً للقول بأن تحقق الشرط ليس من شأنه إلا تثبيت حق كان موجوداً من قبل، وهذا التثبت هو كل المقصود بالأثر الرجعي افتراضاً وهمياً من جانب المشرع، بل هو استجابة الحقيقة واقعة، فالحق المعلق على شرط موجود منذ وجود الاتفاق، وما تحقق الشرط بمنشيء له بل هو تثبيت لوجوده. ولكن يؤخذ على هذا الرأي أنه يقتصر على تفسير الشرط الواقف دون الشرط الفاسخ، ويؤخذ عليه، حتى في تفسيره للشرط الواقف، أنه يفرض أن الحق المعلق على شرط واقف موجود منذ البداية وتحقق الشرط إنما يقتصر على تثبيته، وهذا التفسير مصادرة على المطلوب، فإن وجود الحق منذ البداية لم نقل به إلا لأن للشرط أثراً رجعياً، فلا يجوز أن يفسر هو نفسه هذا الأثر الرجعي .
ويذهب كولان وكابيتان إلى أن الأثر الرجعي للشرط ليس إلا تطبيقاً للمبدأ القاضي بأن فاقد الشيء لا يعطيه، فصاحب الحق المعلق على شرط واقف أو على شرط فاسخ لا يستطيع أن يتصرف في هذا الحق إلا تحت الشرط الواقف أو الشرط الفاسخ، وإلا أعطى أكثر مما يملك، ولكن هذا التفسير لا يكفي لتأسيس الأثر الرجعي، فإذا كان المالك تحت شرط فاسخ لا يستطيع أن ينقل للغير أكثر مما يملك، فإن هذا لا يمنعه من أن ينقل ما يملك، وهو يملك حقاً معلقاً على شرط فاسخ، فيستطيع أن ينقله، حتى إذا ما تحقق الشرط لم ينتج أثره إلا من وقت تحققه لا منذ البداية . فالمبدأ القاضي بأن فاقد الشيء لا يعطيه لا يقتضي حتماً الأخذ بمبدأ الأثر الرجعي لتحقق الشرط .
وقد ذهب بعض رجال الفقه الحديث إلى إنكار الأثر الرجعي للشرط، إذ يرونه مجافياً للواقع، و معطلاً لحرية تصرف المالك في ملكه، وضاراً بالغير إذ يبقى على الدوام مهدداً بهذا الأثر الرجعي، وبذلك تتعقد المعاملات ولا تستقر الحقوق، وقد عمدت بعض التقنينات الحديثة فعلاً إلى إنكار أن يكون لتحقق الشرط أثر رجعي، كما فعل التقنين الألماني وتقنين الالتزامات السويسري، ولم يستبق الأثر الرجعي إلا التقنينات اللاتينية، وقد سار على نهجها التقنين المصري، القديم والجديد.
والصحيح في نظرنا أن فكرة الأثر الرجعي لتحقق الشرط تستجيب في أكثر الأحوال لظروف التعاقد وللنية المحتملة للمتعاقدين، وذلك أن المتعاقدين لا يعرفان وقت التعاقد إن كان الشرط يتحقق أو لا يتحقق، ولو أنهما كانا يعرفان ذلك لما علقا العقد على الشرط ولجعلناه عقداً بسيطاً منجزاً، فيمكن إذن في كثير من الاطمئنان تفسير نيتهما على أنهما إنما أرادا أن يسندا أثر العقد إلى وقت التعاقد لا إلى وقت تحقق الشرط.
ومن أجل ذلك لم يجعل المشرع مبدأ الأثر الرجعي من النظام العام فلا تجوز مخالفته، بل جعل للمتعاقدين الحق في أن يفصحا عن نيتهما، فإن كانا لا يريدان أن يجعلا للشرط أثراً رجعياً فليس عليهما إلا أن يبينا ما أرادا، وعند ذلك لا يكون لتحقق الشرط أثر رجعي، لأن النية الحقيقية للمتعاقدين قد تعارضت مع النية المحتملة، ولا شك في أن الأولى تنسخ الثانية، وليس على المتعاقدين ضير من الأثر الرجعي ما داما يقصدان هذا الأثر، ولا على الغير ضير من ذلك أيضاً ما دامت قواعد الشهر تحمى الغير من المفاجآت ويستطيع المشرع أن يفرض أن إرادة المتعاقدين قد انصرفت إلى الأثر الرجعي إلا إذا ظهر العكس، كما فعل التقنينان الفرنسي والمصري، كما يستطيع أن يفرض انهما أرادا الأثر الفوري إلا إذا ظهر العكس، كما فعل التقنينان الألماني والسويسري، والفروق العملية ما بين الطريقتين فروق محدودة، فكل طريقة تقرر أصلاً ثم تستثنى منه، وتكاد أن تتفقان على حدود الأصل والاستثناء، ولكن الأفضل التمشي مع النية المحتملة للمتعاقدين، وجعل الأصل هو الأثر الرجعي لتحقق الشرط، لذلك نرى أن التقنين المدني الجديد لم يخطئ في استبقائه لمبدأ الأثر الرجعي على غرار التقنينات اللاتينية، مع تقييد هذا الأصل باستثناءات تقتضيها حاجات التعامل وهذا ما ننتقل الآن إلى بيانه .
ما يترتب من النتائج على الأثر الرجعي لتحقق الشرط :
ونشير إلى بعض من النتائج الهامة التي تترتب على الأثر الرجعي لتحقق الشرط فيما يأتي :
(1) التصرفات التي تصدر من صاحب الحق المعلق على شرط واقف تصبح، عند تحقق الشرط، نافذة منذ البداية، فلو أن مالكاً لعين تحت شرط واقف باع هذه العين أو رهنها، ثم تحقق الشرط الواقف، فإنه يتحقق بأثر رجعي لا بالنسبة إلى المالك تحت شرط واقف وحده، بل أيضاً بالنسبة إلى المشتري منه أو المرتهن، فيعتبر المالك تحت شرط واقف بعد تحقق الشرط مالكاً للعين منذ البداية ويترتب على ذلك أنه يعتبر مالكاً للعين وقت أن باعها للغير أو رهنها، ومن ثم تنتقل الملكية إلى المشتري أو ينشأ حق الرهن للدائن المرتهن لا من وقت تحقق الشرط الواقف، بل من وقت التعاقد مع المالك وعكس ذلك هو الذي يترتب على الأثر الرجعي لتحقق الشرط الفاسخ، فلو أن مالكاً تحت شرط فاسخ تصرف في العين ببيع أو برهن، ثم تحقق الشرط الفاسخ بأثر رجعي فاعتبر أنه لم يكن مالكاً منذ البداية، فإن البيع الذي صدر منه أو الرهن يكون قد صدر من غير مالك، فلا تنتقل الملكية إلى المشتري، ولا ينشأ حق الرهن للدائن المرتهن، ويلاحظ أن هذا الحكم الأخير، في حالة المنقول، يخفف من حدته قاعدة أخرى هي القاعدة التي تقضي بأن الحيازة في المنقول سند الملكية، فلو كان المبيع أو المرهون منقولاً، وكان البائع أو الراهن مالكاً تحت شرط فاسخ، ثم تحقق الشرط بأثر رجعي، فزالت عن المالك الملكية منذ البداية، فإن المشتري أو الدائن المرتهن، وإن اعتبر أنه تعامل مع غير مالك فلا ينتقل إليه الحق بالعقد، ينتفع من جهة أخرى بقاعدة الحيازة في المنقول، فينتقل إليه الحق بالحيازة.
(2) إذا باع شخص عقاراً تحت شرط واقف، فأصبح هو نفسه مالكاً تحت شرط فاسخ، ثم نزع دائن مرتهن للبائع ملكية العقار، وتحقق الشرط بعد ذلك، فإن الأثر الرجعي لتحققه يجعل المشتري مالكاً منذ البيع لا منذ تحقق الشرط، فإن كان الدائن المرتهن الذي نزع الملكية لم يقيد حقه إلا بعد تسجيل البيع، فإن نزع الملكية لا ينفذ في حق المشتري أما إذا كان الرهن قد قيد قبل تسجيل البيع، فإنه يكون نافذاً في حق المشتري، فينفذ في حقه أيضاً نزع الملكية.
وإذا كان بيع العقار معلقاً على شرط فاسخ، ونزع ملكية العقار دائن مرتهن للمشتري تحت شرط فاسخ، وتحقق الشرط، فإن نزع الملكية لا ينفذ في حق البائع الذي استعاد ملكيته بأثر رجعي بمجرد تحقق الشرط، فلا ينفذ في حقه الرهن الذي رتبه المشتري، ومن ثم لا ينفذ في حقه نزع الملكية.
(3) إذا كان المدين تحت شرط واقف قد اعتقد خطأ أن الشرط قد تحقق فوفى بالدين، فقد قدمنا أن له أن يسترده وفقاً للقواعد العامة في دفع غير المستحق، ولكن جواز الاسترداد مقصور على المرحلة التي يكون فيها الشرط معلقاً، فإذا ما تحقق الشرط فإنه يتحقق بأثر رجعي، ويتبين أن المدين وقت أن دفع كان مديناً فعلاً، فلا يستطيع إني سترد ما وفاه.
وعكس ذلك هو الذي يترتب على الأثر الرجعي لتحقق الشرط الفاسخ، فلو أن المدين أدى للدائن تحت شرط فاسخ حقه، فإنه يكون مؤدياً لدين مستحق عليه فلا يستطيع إني سترده ما دام الشرط معلقاً، فإذا تحقق الشرط زال حق الدائن بأثر رجعي، وكان للمدين أن يسترد ما دفع، إذا يتبين أنه وقت أن دفع لم يكن مديناً فيكون قد دفع غير المستحق .
(4) إذا ارتهن دائن تحت شرط واقف عقاراً ضماناً لدينه، وقيد الرهن قبل تحقق الشرط، فإن مرتبة الرهن تكون من يوم قيده لا من يوم تحقق الشرط، إذ يعتبر الدين موجوداً وقت قيد الرهن بفضل الأثر الرجعي لتحقق الشرط.
(5) يعتبر عقد التأمين على الحياة عادة معلقاً على شرط واقف هو دفع القسط الأول من التأمين، فإذا دفع المؤمن عليه هذا القسط تحقق الشرط بأثر رجعي، واعتبر عقد التأمين نافذاً من وقت التعاقد لا من وقت تحقق الشرط، فلو أن شخصاً امن على حياته، ثم مات قبل حلول القسط الأول، ودفع هذا القسط من تركته، فإن عقد التأمين يعتبر نافذاً قبل وفاة المؤمن على حياته، ومن ثم يكون مبلغ التأمين مستحقاً.
(6) للدائن تحت شرط واقف، إذا تحقق الشرط، أن يطعن بالدعوى البوليصية في تصرفات مدينه، حتى ما كان منها سابقاً على تحقق الشرط، فإن حقه يعتبر، بفضل الأثر الرجعي، موجوداً منذ الاتفاق عليه لا منذ تحقق الشرط، ومن ثم يعتبر سابقاً على تصرف المدين.
(7) إذا كسب شخص حقاً معلقاً على شرط واقف، في ظل تشريع معين، وقبل تحقق الشرط صدر تشريع جديد من شأنها أن يؤثر في هذا الحق، ثم تحقق الشرط، فإن التشريع الذي يسري هو التشريع القديم لا التشريع الجديد، إذ يعتبر الحق، بفضل الأثر الرجعي، موجوداً منذ البداية أي منذ أن كان التشريع القديم سارياً.
الاستثناءات من مبدأ الأثر الرجعي لتحقق الشرط :
هذه الاستثناءات ذكرتها النصوص صراحة، وهي أربعة :
(1) فقد قدمنا أن الفقرة الثانية من المادة 269 مدني تقضي بأن أعمال الإدارة التي تصدر من الدائن تبقى نافذة رغم تحقق الشرط الفاسخ . وكان مقتضى الأثر الرجعي لتحقق الشرط الفاسخ أن تسقط هذه الأعمال، ولكنها تبقى نافذة بالرغم من تحقق الشرط ما دامت قد تمت بحسن نية في الحدود المألوفة للإدارة، وقد تقدم بيان ذلك ومن أعمال الإدارة كما رأينا، الإيجار لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات، وقبض الأجرة وقبض المحصولات والثمار، وبيعها، وقيد الرهن، وتجديد القيد، وقسمة العين الشائعة، وتطهير العقار المرهون .
(2) ثم أن المادة 270 مدني أوردت، كما رأينا، ثلاثة استثناءات أخرى من مبدأ الأثر الرجعي لتحقق الشرط :
(أ) إذا تبين من إرادة المتعاقدين أنهما استبعدا الأثر الرجعي .
(ب) إذا كانت طبيعة العقد تستعصي على الأثر الرجعي .
(ج) إذا أصبح تنفيذ الالتزام غير ممكن لسبب أجنبي قبل تحقق الشرط .
أما أن إرادة المتعاقدين قد تستبعد الأثر الرجعي، فهذا هو الذي يتفق مع الأساس الصحيح الذي يقوم عليه الأثر الرجعي فيما قدمناه، فقد أسلفنا أن الأثر الرجعي إنما يقوم على نية المتعاقدين المحتملة، فإذا تعارضت هذه النية مع النية الحقيقية، فلا شك في أن النية الحقيقية هي التي يعمل بها، ومن ثم يكون للمتعاقدين أن يستبعدا، صراحة أو ضمناً، كل أثر رجعي للشرط، على أنه يجب التشدد في الاستخلاص النية الضمنية للمتعاقدين في استبعاد الأثر الرجعي، فإن القانون صرف نيتهما المحتملة إلى استبقاء هذا الأثر، ولا بد من قيام دليل واضح على أنهما قصدا العكس.
(3) وأما ما يرجع إلى طبيعة العقد فأهم تطبيق لذلك هو العقد الزمني، ففي عقد الإيجار أو عقد العمل أو عقد التوريد إذا كان العقد معلقاً على شرط فاسخ، وبقى منفذاً مدة من الزمن ثم تحقق الشرط، فإن طبيعة الأشياء هنا تستعصى على الأثر الرجعي، إذ لا يمكن الرجوع في الزمن، وما تم من العقد يبقى، ولا يفسخ العقد إلا عن المستقبل.
(4) وأما ما يرجع إلى صيرورة تنفيذ الالتزام غير ممكن لسبب أجنبي قبل تحقق الشرط، فنميز بين ما إذا كان الشرط واقفاً أو فاسخاً، فإن كان واقفاً، كما لو كان المالك لعين معينة قد باعها تحت شرط واقف وهلكت العين في يده لسبب أجنبي قبل تحقق الشرط، فيستوي هنا أن يكون للشرط أثر رجعي أو لا يكون، ذلك أنه إذا جعل له أثر رجعي، وتبين أن العين قد هلكت وهي في ملك المشتري ولكن قبل أن يتسلمها، فإن تبعة الهلاك تكون على البائع في القانون المصري، كما لو لم يكن للشرط أثر رجعي، أما في القانون الفرنسي فالأمر يختلف، لأن تبعة الهلاك قبل التسليم في هذا القانون على المشتري، فلا يكون للشرط أثر رجعي حتى لا تنتقل الملكية إلى المشتري، فيبقى الهلاك على البائع، أما إذا كان الشرط فاسخاً، كما لو كان المشتري تحت شرط فاسخ تسلم العين المبيعة وهلكت في يده لسبب أجنبي، ثم تحقق الشرط الفاسخ، فإن مقتضى الأثر الرجعي أن العين تعتبر عند هلاكها مملوكة للبائع فتهلك عليه، ولكن النص صريح في وجوب استبعاد الأثر الرجعي في هذه الحالة، وتهلك العين على المشتري لا على البائع .(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : الثالث، المجلد : الأول، الصفحة : 55)
تنص الفقرة الأولى من المادة في صدرها على أنه : "إذا تحقق الشرط استند أثره إلى الوقت الذي نشأ فيه الالتزام" .
فهذا النص يقضي بالأثر الرجعي للشرط سواء كان واقفاً أو فاسخاً.
ومن ثم إذا كان الشرط واقفاً فإن حق الدائن يترتب، لا من وقت تحقق الشرط فحسب، بل من تاريخ انعقاد العقد، وكذلك الشأن في حق الدائن بالتزام معلق على شرط فاسخ، فبتحقق الشرط يعتبر الالتزام كأن لم يكن قد ترتكب قط لا من وقت تحقق الشرط بل من تاريخ انعقاد العقد.
وتؤسس قاعدة الأثر الرجعي للشرط - وفقاً لما يذهب إليه فريق من الفقه - على أساس افتراض أو مجاز قانوني من جانب المشرع بقصد تبرير النتائج التي تترتب على تحقق الشرط فلا شك أنه لم يكن للالتزام المعلق على شرط واقف وجود مؤكد في فترة التعليق، ولا شك أن الالتزام المعلق على شرط فاسخ كان قائماً أثناء تلك الفترة، فالقول أنه بتحقق الشرط الواقف يعتبر أن الالتزام كان منجزاً من وقت الاتفاق على إنشائه، وأنه يتحقق الشرط الفاسخ يعتبر أن الالتزام لم ينشأ أصلاً، قول فيه مخالفة الحقيقة، فهو يقوم إن على المجاز أو الافتراض.
والصحيح في رأي الفقه الغالب أن فكرة الأثر الرجعي لتحقق الشرط تمتد إلى التعاقد والنية المحتملة للمتعاقدين فهي تفسير لنيتهما على أنهما لو كانا على يقين من أن الشرط الواقف سيتحقق اتفقا على إنشاء الإلتزام مؤكداً عن أول الأمر، ولو كانا على يقين من أن الشرط الفاسخ يتحقق ما اتفقا أصلاً على إنشاء الالتزام، وإذن فالأثر الرجعي للشرط يترجم عما انصرفت إليه إرادة المتعاقدين.
وهذا هو ما أخذ به التقنين المدنى حيث أجاز للمتعاقدين استبعاد هذه القاعدة (م 270 مدني).
يترتب على الأثر الرجعي للشرط عدة آثار أهمها :
1- أن الدائن بالتزام معلق على شرط واقف يترتب حقه لا من وقت تحقق الشرط بل من تاريخ انعقاد العقد، وبالتالي تكون كافة التصرفات التي تصدر منه نافذة في حقه منذ البداية وليس من تاريخ تحقق الشرطة فلو أن مالكاً تحت شرط واقف باع الحين أو رهنها ثم تحقق الشرط فإنه يتحقق بأثر رجعي لا بالنسبة للمالك تحت شرط واقف وحده، بل أيضاً بالنسبة إلى المشتري منه أو المرتهن فالرهن مثلاً لا تحسب درجته من يوم تحقق الشرط بل من يوم قيده في السجلات العقارية فلو قيد في نفس يوم العقد كانت مرتبته منذ ذلك التاريخ.
وعلى العكس من ذلك الأثر المترتب على تحقق الشرط الفاسخ كما لو كان المالك تحت شرط فاسخ قد تصرف في العين بالبيع أو بالرهن ثم تحقق الشرط الفاسخ بأثر رجعي فإنه لا يعتبر مالكاً منذ البداية ويكون البيع أو الرهن الذي صدر منه من غير مالك.
2- إذا كان المدين تحت شرط واقف قد وفي عن غلط قبل تحقق الشرط ولم يقم باسترداد ما وفي خلال فترة التعليق وفقاً للقواعد العامة في دفع غير المستحق، فإنه متى تحقق الشرط لا يستطيع أن يسترد ما وقاه عملاً بالأثر الرجعي للشرط الذي كشف أن المدين وقت أن وفي كان مديناً بالفعل.
أما إذا كان الشرط فاسخاً و قام المدين بالوفاء في خلال فترة التعليق فإنه يقوم بأداء دين مستحق عليه ولا يستطيع أن يسترد ما أداء مادام الشرط لم يتحقق فإذا تحقق الشرط الفاسخ زال حق الدائن بأثر رجعي، وكان للمدين أن يسترد ما دفع إذ تبين أنه وقت أن دفع لم يكن مديناً فيكون قد دفع غير المستحق.
3- يعتبر عقد التأمين على الحياة عادة معلقاً على شرط واقف هو دفع القسط الأول من التأمين، فإذا دفع المؤمن عليه هذا القسط تحقق الشرط بأثر رجعي، واعتبر عقد التأمين فإذا من وقت التعاقد لا من وقت تحقق الشرط، فلو أن شخصاً أمن على حياته، ثم مات قبل حلول القسط الأول، ودفع هذا القسط من تركته، فإن عقد التأمين يعتبر نافذاً قبل وفاة المؤمن على حياته، ومن ثم يكون مبلغ التأمين مستحقاً.
4- يكون للدائن تحت شرط واقف إذا تحقق الشرط أن يطعن بالدعوى البوليصية في تصرفات عينه حتى ما كان منها سابقاً على تحقق الشرط ذلك أن حقه عملاً بالأثر الرجعي للشرط يكون محقق الوجود منذ الاتفاق عليها منذ تحقق الشرط وبالتالي يعتبر سابقاً على تصرف المدين.
5- إذا نشأ الحق المعلق على شرط واقف في ظل تشريع معين ثم صدر تشريع جديد يعدل من آثار العقد قبل تحقق الشرط، ثم تحقق الشرط فإن التشريع الذي يسري هو التشريع القديم لا التشريع الجديد لأنه عملاً بالأثر الرجعى للشرط يكون الحق موجوداً منذ البداية أي وقت أن كان التشريع القديم سارياً.
استثناءان من قاعدة الأثر الرجعي :
أوردت المادة استثنائيين على قاعدة الأثر الرجعي للشرط، إذ فيهما ينتج الشرط أثره من وقت تحققه أو تخلفه وهما :
1- إذا تبين من إرادة المتعاقدين أن وجود الالتزام أو زواله يكون من وقت تحقق الشرط.
يجوز للمتعاقدين أن يستبعدا الأثر الرجعي للشرط، فيجوز لهما الاتفاق على أن وجود الالتزام في الشرط الواقف أو زواله في الشرط الفاسخ إنما يكون في الوقت الذي يتحقق فيه الشرط.
وهذا الاستثناء يبرره أن قاعدة الأثر الرجعي ليست سوى تفسير للإرادة.
فمتى استبانت هذه النية على نحو يغاير هذا التفسير تعين التزام ماقصدت إليه.
وهذا الاتفاق يكون صريحاً كما قد يكون ضمنياً، على أنه يجب التشدد في استخلاص النية الضمنية المتعاقدين في استبعاد الأثر الرجعي، فإن القانون صرف نيتهما المحتملة إلى استبقاء هذا الأثر، ولا بد من قيام دليل واضح على أنهما قصدا العكس.
ومثال ما تقدم أن يتعاقد المالك مع سائق سيارة على استخدام الأخير إذا حصل من الجهة الإدارية المختصة على ترخيص في القيادة، فمن الواضح أن المالك لم يقصد أن يكون لحصول السائق على الترخيص المذكور أثر رجعي يخول السائق حقوق المستخدم بما في ذلك الحق في الأجر المتفق عليه من وقت حصول الاتفاق.
ويجوز الاتفاق على استبعاد الأثر الرجعي بالنسبة لإحدى نتائجه دون غيرها، فيجوز الاتفاق مثلاً على أن الرهون التي يقررها المدين تحت شرط واقف أو الدائن تحت شرط فاسخ تكون نافذة في مواجهة الطرف الأخر إذا ما تحقق الشرط.
2- طبيعة العقد :
يستبعد الأثر الرجعي إذا تبين من طبيعة العقد أن وجود الالتزام أو زواله إنما يكون في الوقت الذي تحقق فيه هذا الشرط.
وهذا هو الحال في العقود الزمنية كعقد الإيجار أو عقد العمل أو عقد التوريد، فإذا كان العقد معلقاً فيها على شرط فاسخ، وبقى مدة من الزمن منقذا ثم تحقق الشرط، فإن طبيعة العقد هنا تستعصي على الأثر الرجعي، لأن الزمن هنا معقود عليه، ولا يمكن الرجوع في الزمن، فلا يكون لتحقق الشرط تأثير على المدة السابقة، بل يقتصر أثره على إنهاء العقد.
غير أنه إذا أصبح تنفيذ الالتزام قبل تحقق الشرط غير ممكن لسبب أجنبي لا يد للمدين فيه كما إذا هلك الشيء محل الالتزام بسبب أجنبي، ثم تحقق الشرط بد ذاك، فلا يكون لتحققه أثر رجعي سواء كان الشرط واقفاً أو فاسخاً .
فإذا كان الشرط واقفاً، كما لو بيعت عين معينة تحت شرط واقف، ثم هلكت العين بسبب أجنبي قبل تحقق الشرط فقد كان مقتضى الأثر الرجعي للشرط عند تحققه اعتبار الالتزام قد انعقد صحيحاً على محل موجود وقت الاتفاق في تطبيق قواعد تابعة العقد، وهي في القانون المصري تربط تبعة الهلاك بالتسليم، فيكون الهلاك على البائع إن كانت العين فهلكت قبل تسليمها للمشتري ويكون الهلاك على المشتري إن كان قد تسلم العين فهلكت في يده، أما وقد استبعد المادة (270) الأثر الرجعي للشرط، فإن هلاك العين يمنع من نشوء الالتزام لانعدام المحل ولا يكون للعقد أثر ولو تحقق الشرط بعد ذلك، فتكون تبعة الهلاك هي تبعة الشئ لا العقد كما لو كان الطرفان لم يتعاقدا أصلاً على البيع، أي أن ملاك الشئ يكون على مالكه وهو البائع، سواء كان الهلاك قبل التسليم أو بعده .
وإذا كان الشرط فاسخاً، وهلكت العين المبيعة بسبب أجنبي قبل تحقق الشرطة فقد كان مقتضى الأثر الرجعي أن يعتبر العقد كأن لم يكن فيخضع الهلاك لتبعة الشئ لا لتبعة العقد، ويكون هلاك الشئ على مالكه وهو البائع سواء كان الهلاك قبل التسليم أو بعده.
أما وقد استبعدت المادة (270) الأثر الرجعي للشرط، فإن قواعد العقد تكون هي الواجبة التطبيق وترتبط تبعة الهلاك بالتعليم، فإذا كان المشتري قد تسلم العين المبيعة وهلكت في يده لسبب أجبني فإن هلاكها يكون على المشتري لا على البائع ولو تحقق الشرط الفاسخ بعد ذلك .
هناك استثناءات أخرى عن قاعدة الأثر الرجعي للشرط لم يرد النص عليها في المادة 270 من التقنين المدني وهي :
1- حماية الغير حسن النية :
يستثنى من قاعدة الأثر الرجعي للشرط الحقوق التي اكتسبها الغير بحسن نية، فإذا كنا بصدد منقول انتقل إلى مالك تحت شرط فاسخ، وتصرف فيه وسلمه إلي مشتر حسن النية أو رهنه له رهن حيازة، ثم تحقق الشرط وزالت ملكية المتصرف أو الراهن، فإن حق المتصرف إليه أو المرتهن لا يسقط مادام حسن النية يجهل الشرط، وذلك استناداً إلى قاعدة الحيازة في المنقول سند الملكية.
2- عدم محو الحيازة المادية للشيء :
إن الأثر الرجعي الشرط لا يمكن أن يمحو واقعة الحيازة المادية للشئ في أثناء فترة التعليق، ففي تلك الفترة كان الشيء في حيازة أحد الطرفين، وهذه واقعة مادية لا سبيل إلى إنكارها أو محو أثرها في الماضي.
3- أعمال الإدارة التي تصدر من الدائن تحت شرط فاسخ :
فهي تظل باقية، وقد نص على ذلك صراحة في الفقرة الثانية من المادة 269 مدنی، وذكرنا في شرح هذه المادة أن بقاء أعمال الإدارة تسري أيضاً في حالة الشرط الواقف.
4- لا يترتب على تحقق الشرط الواقف أن تحتسب مدة التعليق في احتساب مدة التقادم المسقط، وذلك رغم أن مقتضى الأثر الرجعي أن يعتبر حق الدائن مستحق الأداء من وقت الاتفاق، إذ لا يقبل أن يسري التقادم في وقت لم يكن يستطيع الدائن فيه أن يطالب المدين بالتنفيذ، ولذلك نصت المادة 2/381 علي أنه : ".... لا يسري التقادم بالنسبة إلى دين معلق على شرط واقف إلا من الوقت الذي يتحقق فيه الشرط..... الخ .(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء : الرابع، الصفحة : 45)
إذا كان الشرط واقفاً وانتهت فترة تعليقه بتحقيقه، ترتب على ذلك أن يصبح الحق الذي كان معلقاً على تحقق الشرط نافذاً كما تقول المادة 268، أي أنه يصير مستحق الأداء، فتترتب عليه النتائج التي كانت ممنوعة في أثناء التعليق، وهي :
(1) أن يصبح المدين ملزماً بالوفاء إختياراً أو إجباراً .
(2) وأن يجوز للدائن اتخاذ الإجراءات التنفيذية، واستعمال الدعوى البوليصية تمهيداً للتنفيذ بحقه على المال موضوعها، وان لا يرد ما قبضه لأنه يكون قد قبض ما هو مستحق له .
(3) وأن تبدأ مدة التقادم المسقط لحق الدائن منذ تحقق الشرط .
(4) وأن تجوز المقاصة القانونية بهذا الحق .
(5) وأنه إذا كان موضوع التصرف نقل حق عيني على شيء معين بالذات، يصبح هذا المال ملكاً خالصاً للدائن وتزول ملكيته نهائياً عن المدين .
وقد نصت المادة 270 على أن تحقق الشرط يستند إلى الوقت الذي نشأ فيه الالتزام، ومعنى ذلك أن تحقق الشرط يكون بأثر رجعي من وقت العقد، أي أن الالتزام ينشأ كما لو كان الشرط محققاً من وقت العقد، فيعتبر كأنه لم يكن في أي وقت معلقاً على شرط.
أما اذا تخلف الشرط الواقف، فيترتب على تخلفه انعدام الحنفي الذي كان معلقا على تحققه ويعتبر هذا الحق و الالتزام الذي كان يقابله أنهما لم يكن لهما وجود أصلاً ويتفرع على ذلك أن تزول كل التصرفات والإجراءات التحفظية التي باشرها الدائن فيما يتعلق بحقه الذي كان معلقاً على تحقق الشرط، وأن يزول هذا الحق ذاته فلا يوجد في تركته ولا يؤول إلى ورثته، وأما ما كان قد قبض من الدين المعلق على شرط واقف فيصبح مقبوضاً دون حق ويلزم رده، وإذا كان القابض قد تصرف في ما قبضه أثناء فترة تعليق الشرط تلغي تصرفاته لأنها كانت معلقة على الشرط الواقف الذي صار تخلفة بعدئذ.
وإذا كان الشرط فاسخاً وانتهت فترة تعليقه بتحققه، فقد بينت المادة 269 حكم ذلك حيث نصت في فقرتها الأولى على أنه يترتب على تحقق الشرط الفاسخ زوال الالتزام ويكون الدائن ملزماً برد ما أخذه، فإذا استحالة الرد السبب هو مسئول عنه وجب عليه التعويض ».
ومؤدى ذلك أن الحق الذي كان في أثناء التعليق محققاً وجوده.
ومستحق الأداء يزول بأثر رجعي من وقت الاتفاق الذي أنشأه لا من وقت تحقق الشرط فحسب، ويكون زواله بقوة القانون اعمالاً لارادتي الطرفين فلا يحتاج ذلك الى المطالبة بالفسخ ولا الى استصدار حكم قضائي به، وعند التنازع يلجأ الى القضاء لتقرير وقوع الفسخ إلا انشائه، ويكون هذا الحكم مقرراً لا منشئاً للفسخ، ولا يجوز للطرفين باتفاقهما أن ينزلا عن الفسخ إذ يعتبر العقد مفسوخاً من تلقاء ذاته ولا يكون أمامهما وصولاً الى هذا الغرض إلا أن یبرما عقداً جديداً لا يحدث أثراً إلا من وقت إبرامه .
ويتفرع على زوال حق الدائن بأثر رجعي :
1) - أن يزول كل أثر للاجراءات التنفيذية أو التحفظية التي اتخذها الدائن في أثناء فترة التعليق.
2) أن المدين اذا قام بالوفاء عن غلط بعد تحقق الشرط، جاز له أن يسترد ما وفي باعتبار الوفاء حاصلاً بما لا يجب، أما اذا استحال الرد لغير بسبب أجنبي، كان على الموفي له أن يعوض الموفي عما أصابه من ضرر، غير أنه إذا كانت الاستحالة راجعة إلى سبب أجنبي فلا يكون ثمة محل للالتزام بالرد ولا محل للتعويض.
3) أن تمتنع المقاصة في هذا الحق الذي زال وأن لا يبقى ثمت محل لتقادمه.
4 ) أن تزول كافة التصرفات التي أجراها الدائن في هذا الحق في فترة التعليق وينعدم كل أثر ترتب عليها، وقد استثنى المشرع من ذلك أعمال الإدارة التي تكون قد صدرت من الدائن في أثناء التعليق فنص في المدة 269 فقرة ثانية على أن « تبقى نافذة رغم تحقق الشرط »، ويدخل في أعمال الادارة الإيجار وقبض الأجرة وبيع الثمار والمحصولات وقيد الرهن وتجديد القيد والقسمة وتطهير العقار، فتبقى هذه الأعمال نافذة رغم تحقق الشرط الفاسخ.
أما اذا انتهت فترة تعليق الشرط الفاسخ بتخلفه، فيترتب على ذلك تأييد حق الدائن نهائياً واعتباره أنه لم يكن في أي وقت معرض للزوال، ويتفرع على ذلك :
1) أن تأييد جميع التصرفات والإجراءات التي يكون الدائن قد باشرها فيما يتعلق بحقه المذكور في أثناء التعليق .
2) أن تجوز المقاصة بين هذا الحق وأي حق آخر مستحق الأداء للمدين ولو كان هذا الحق الآخر قد نشأ منجزاً ولم يقترن بشرط فاسخ في أي وقت من الأوقات .
3) أن يصبح للدائن التصرف في حقه تصرفات منجزة غير معرضة للزوال وأن يؤول حقه هذا من بعده الى ورثته حقاً نهائياً غير مهدد بالزوال .
وتنص المادة 270 مدني على أنه « إذا تحقق الشرط استند آثره إلى الوقت الذي نشأ فيه الالتزام، إلا إذا تبين من إرادة المتعاقدين أو من طبيعة العقد أن وجود الالتزام أو زواله انما يكون في الوقت الذي تحقق فيه الشرط، ومع ذلك لا يكون للشرط أثر رجعي إذا أصبح تنفيذ الالتزام قبل تحقق الشرط غير ممكن لسبب أجنبي لا يد للمدين فيه »، وهي تجعل الأثر الرجعي للشرط قاعدة عامة وتستثنى منها ثلاث حالات، كما أشارت المذكرة الايضاحية الى ذلك، وهذه الاستثناءات هي :
1) حالة اتفاق العاقدين صراحة أو ضمناً على أن لا يكون للشرط أثر رجعي، وفيها لا ينتج الشرط أثره إلا من وقت تحققه أو تخلفه، ومثل ذلك أن يتعاقد المالك مع سائق سيارة على استخدام الأخير إذا حصل من الجهة الادارية المختصة على ترخيص في القيادة، فمن الواضح أن المالك لم يقصد أن يكون لحصول السائق على الترخيص المذكور أثر رجعي يخول السائق حقوق المستخدم بما في ذلك الحق في الأجر المتفق عليه من وقت حصول الاتفاق، ومثل ذلك أيضاً أن تعلق الهبة على شرط فاسخ يكون تحققه متوقفاً على صدور قانون معين، ففي هذه الحالة لا ينتج الشرط الفاسخ أثره إلا من وقت تحققه بصدور ذلك القانون.
2) حالة عدم مواءمة تطبيق قاعدة الأثر الرجعي لما تقتضيه طبيعة التصرفات أو الاجراءات التي تمت في فترة التعليق بشأن موضوع الحق أو الالتزام الشرطي أو بموجبه.
ومن الأمثلة على ذلك أن عقود الإيجار التي صدرت من المالك تحت شرط فاسخ لا تتأثر بتحقق هذا الشرط وتبقى نافذة بصفة استثنائية ( المادة 269 فقرة ثانية ) لأن طبيعة أعمال الإدارة تقتضي أن يكفل لها ما ينبغي من الاستقرار بشرط حسن نية من صدرت عنه وعدم تجاوزه المألوف في حدود الادارة، والمألوف في عقود الاجارة ألا تجاوز مدتها ثلاث سنوات .
ومنها أن الدائن تحت شرط واقف اذا طعن في تصرفات مدینه بالدعوى البوليصية قبل تحقق الشرط، كانت دعواه غير مقبولة، ولا يغير من ذلك تحقق الشرط بعد ذلك، لأن طبيعة الدعوى البوليصية تقتضي أن يكون حق الدائن مستحق الأداء فعلاً وقت رفعها ولا يغني عن ذلك الأثر الرجعي للشرط.
ومنها أيضاً أن المالك تحت شرط فاسخ العقار مرهون ممن باعه إليه إذا اتخذ إجراءات تطهير هذا العقار في أثناء فترة التعليق، ثم تحقق الشرط، فإن الأثر المرجعي لتحققه لا يبطل إجراءات التطهير التي قام بها هذا المالك، لأن إجراءات التطهير ينبني عليها انقضاء الرهون وتخليص العين منها، ولأن نظام الائتمان و استقرار المعاملات يقتضيان أن تبقى آثار التطهير ولا تزول بزوال ملكية الحائز الذي قام بإجراءاته.
وكذلك أيضاً إذا أخذ مالك العقار تحت شرط فاسخ في أثناء فترة التعليق عقاراً مجاوراً من طريق الشفعة، فإن تحقق الشرط الفاسخ بعد ذلك لا يؤثر فيما تم من أخذ بالشفعة بالرغم من زوال ملكية المال المشفوع به بأثر رجعي، وذلك لأن طبيعة الشفعة تقتضي استقرار آثارها نهائياً.
3) حالة استحالة الوفاء بسبب أجنبي قبل تحقق الشرط، وهذه هي الحالة المنصوص عليها في المادة 270 فقرة ثانية، والظاهر أن المشرع قصد بها حالة هلاك العين محل الالتزام المعلق على شرط واقف.
وفي رأيي أن هذا النص لم يكن له داع في القانون المصرى لأن الهلاك عندنا مرتبط بالتسليم لا بالملكية ولأنه إذا كان انتقال الملكية أمراً إعتبارياً يمكن أن يعدل فيه الأثر الرجعى للشرط تقديماً أو تأخيراً، فإن التسليم واقعة مادية ليس لذلك الأثر الرجعي من سبيل عليها، فإذا كانت تبعة الهلاك في البيع المنجز تقع على البائع قبل التسليم، فهی كذلك أيضاً في البيع المعلق على شرط واقف ولو وقع الهلاك قبل تحقق الشرط، طالما أن الهلاك قد حدث قبل التسليم، ولا يغير من هذا الحكم أن يكون للشرط أثر رجعي أو لا يكون .
أما اذا كان الشرط فاسخاً، كما في بيع الوفاء، وكان المشتري تحت شرط فاسخ قد تسلم العين المبيعة وهلكت في يده لسبب أجنبي، ثم تحقق الشرط الفاسخ، فإن مقتضى قاعدة الأثر الرجعي الشرط أن العين تعتبر عند هلاكها مملوكة للبائع فتهلك عليه تطبيقاً لقاعدة أن الهلاك على المالك ros perit bomino المقررة في القانون الفرنسي، أما في القانون المصرى فقد نصت المادة 2/270 مدنی على أن لا يكون للشرط أثر رجعي إذا أصبح تنفيذ الالتزام قبل تحقق الشرط غير ممكن لسبب أجنبي لا يد للمدين فيه.
وهذا الحكم يبدو أنه خروج عن قاعدة الأثر الرجعي للشرطة ويتفق مع القاعدة العامة في هلاك المبيع في القانون المصري التي تجعل الهلاك على البائع الى أن يتم تسليم المبيع تسليماً فعلياً أو تسليماً قانونياً ( المادة 437 مدنی .(الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء : السادس، الصفحة : 521)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / التاسع ، الصفحة / 243
بَيْعٌ وَشَرْطٌ
1 - وَرَدَتْ فِي الشَّرِيعَةِ الإْسْلاَمِيَّةِ نُصُوصٌ شَرْعِيَّةٌ تُقَرِّرُ لِلْعُقُودِ آثَارَهَا، وَوَرَدَتْ فِيهَا نُصُوصٌ أُخْرَى، بَعْضُهَا عَامٌّ، وَبَعْضُهَا خَاصٌّ، فِيمَا يَتَّصِلُ بِمَبْلَغِ حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي تَعْدِيلِ آثَارِ الْعُقُودِ، بِالإْضَافَةِ عَلَيْهَا، أَوِ النَّقْصِ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ يَشْتَرِطَانِهَا فِي عُقُودِهِمَا.
فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَرَدَ قوله تعالي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قوله تعالي: (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) .
وَفِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَرَدَ حَدِيثُ: «... الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً» وَفِي رِوَايَةٍ: «عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».
وَحَدِيثُ: «مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ»، وَحَدِيثُ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ» أَيْ لَيْسَ فِيمَا كَتَبَهُ اللَّهُ وَأَوْجَبَهُ فِي شَرِيعَتِهِ الَّتِي شَرَعَهَا. وَحَدِيثُ: عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، «عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ: نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ».
فَهَذِهِ النُّصُوصُ - فِي مَجْمُوعِهَا - تُشِيرُ إِلَى أَنَّ هُنَاكَ: شُرُوطًا مُبَاحَةً لِلْمُتَعَاقِدِينَ، يَتَخَيَّرُونَ مِنْهَا مَا يَشَاءُونَ لِلاِلْتِزَامِ بِهَا فِي عُقُودِهِمَا، وَشُرُوطًا مَحْظُورَةً، لاَ حَقَّ لأِحَدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي عُقُودِهِمَا، لِمَا أَنَّهَا تُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ، أَوْ تُخَالِفُ الْقَوَاعِدَ الْعَامَّةَ الشَّرْعِيَّةَ، أَوْ تُصَادِمُ مَقْصِدًا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ.
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ، كُلُّ مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ لِلاِخْتِلاَفِ الشَّدِيدِ بَيْنَهَا فِي ذَلِكَ.
أَوَّلاً: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
2 - وَضَعَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الضَّابِطَ لِلشَّرْطِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، الَّذِي يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَهُوَ: كُلُّ شَرْطٍ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَلاَ يُلاَئِمُهُ وَفِيهِ نَفْعٌ لأِحَدِهِمَا، أَوْ لأِجْنَبِيٍّ، أَوْ لِمَبِيعٍ هُوَ مِنْ أَهْلِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِهِ. وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِجَوَازِهِ .
3 - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، أَيْ يَجِبُ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَإِنَّهُ يَقَعُ صَحِيحًا، وَلاَ يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ . كَمَا إِذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمَبِيعَ، أَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ، أَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، أَوِ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ الْمَبِيعُ، أَوِ اشْتَرَى دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا، أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ، أَوْ حِنْطَةً فِي سُنْبُلِهَا وَشَرَطَ الْحَصَادَ عَلَى الْبَائِعِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لأِنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَكَانَ ذِكْرُهَا فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تَقْرِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَلاَ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ .
4 - وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مُلاَئِمًا لِلْعَقْدِ، بِأَنْ يُؤَكِّدَ مُوجَبَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَلَوْ كَانَ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، لأِنَّهُ يُقَرِّرُ حُكْمَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَيُؤَكِّدُهُ، فَيُلْتَحَقُ بِالشَّرْطِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، كَشَرْطِ رَهْنٍ مَعْلُومٍ بِالإْشَارَةِ أَوِ التَّسْمِيَةِ، وَشَرْطِ كَفِيلٍ حَاضِرٍ قَبْلَ الْكَفَالَةِ، أَوْ غَائِبٍ فَحَضَرَ وَقَبِلَهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ .
وَاشْتِرَاطُ الْحَوَالَةِ كَالْكَفَالَةِ، فَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنْ يُحِيلَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَلَى غَيْرِهِ بِالثَّمَنِ، قَالُوا: فَسَدَ قِيَاسًا، وَجَازَ اسْتِحْسَانًا .
لَكِنَّ الْكَاسَانِيَّ اعْتَبَرَ شَرْطَ الْحَوَالَةِ مُفْسِدًا، لأِنَّهُ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَلاَ يُقَرِّرُ مُوجَبَهُ؛ لأِنَّ الْحَوَالَةَ إِبْرَاءٌ عَنِ الثَّمَنِ وَإِسْقَاطٌ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مُلاَئِمًا لِلْعَقْدِ، بِخِلاَفِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ .
5 - وَيَشْمَلُ شَرْطُ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَهُمْ مَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْمَنْفَعَةِ لأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ: كَمَا إِذَا بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا، ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَةً، أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا، أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا، أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي قَرْضًا، أَوْ عَلَى أَنْ يَهَبَهُ هِبَةً، أَوْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ كَذَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ قَمِيصًا، أَوْ حِنْطَةً عَلَى أَنْ يَطْحَنَهَا، أَوْ ثَمَرَةً عَلَى أَنْ يَجُذَّهَا، أَوْ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُ الْبَائِعُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَالْبَيْعُ فِي هَذَا كُلِّهِ فَاسِدٌ؛ لأِنَّ زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا، لأِنَّهَا زِيَادَةٌ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الرِّبَا، وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا فَاسِدٌ، أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا، وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ، كَحَقِيقَةِ الرِّبَا .
ب - وَيَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لأِجْنَبِيٍّ، كَمَا إِذَا بَاعَ سَاحَةً عَلَى أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا مَسْجِدًا، أَوْ طَعَامًا عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَهُوَ فَاسِدٌ، وَإِنْ يَكُنْ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَرْضِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ لأِجْنَبِيٍّ.
ج - وَيَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يُوصِيَ الْمُشْتَرِي بِعِتْقِهَا، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، لأِنَّهُ شَرَطَ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمَبِيعِ، وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ. وَكَذَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَكَذَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَبِيعَهَا أَوْ لاَ يَهَبَهَا، لأِنَّ الْمَمْلُوكَ يَسُرُّهُ أَنْ لاَ تَتَدَاوَلَهُ الأْيْدِي . وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ الإْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازَ اشْتِرَاطِ الإْعْتَاقِ عَلَى الْمُشْتَرِي.
أَمَّا مَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لأِحَدٍ فَلاَ يَتَنَاوَلُهُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ، وَلاَ يُوجِبُ الْفَسَادَ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَبِيعَهُ، أَوْ لاَ يَهَبَهُ، أَوْ بَاعَهُ دَابَّةً عَلَى أَنْ لاَ يَبِيعَهَا، أَوْ طَعَامًا عَلَى أَنْ يَأْكُلَهُ وَلاَ يَبِيعَهُ، فَهَذَا شَرْطٌ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لأِحَدٍ، فَلاَ يُوجِبُ فِي الصَّحِيحِ الْفَسَادَ؛ لأِنَّ الْفَسَادَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشُّرُوطِ - كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ - لِتَضَمُّنِهَا الرِّبَا بِزِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذَا الشَّرْطِ، لأِنَّهُ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لأِحَدٍ، وَلاَ مَطَالِبَ لَهُ بِهِ، فَلاَ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا، وَلاَ إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَالْعَقْدُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ .
6 - أَمَّا مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ لأِحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ بَاعَ الثَّوْبَ بِشَرْطِ أَنْ يَخْرِقَهُ الْمُشْتَرِي، أَوِ الدَّارَ عَلَى أَنْ يُخَرِّبَهَا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لأِنَّ شَرْطَ الْمَضَرَّةِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ. وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ هُوَ فَسَادُ الْبَيْعِ .
وَمَا لاَ مَضَرَّةَ وَلاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لأِحَدٍ، فَهُوَ جَائِزٌ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى طَعَامًا بِشَرْطِ أَكْلِهِ، أَوْ ثَوْبًا بِشَرْطِ لُبْسِهِ.
7 - وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ شَرْطِ الْمَنْفَعَةِ الْمُفْسِدِ، مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، وَتَعَامَلَ بِهِ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِشِرَاءِ حِذَاءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَضَعَ لَهُ الْبَائِعُ نَعْلاً (أَوْ كَعْبًا) أَوِ الْقَبْقَابَ بِشَرْطِ أَنْ يُسَمِّرَ لَهُ الْبَائِعُ سَيْرًا، أَوْ صُوفًا مَنْسُوجًا لِيَجْعَلَهُ لَهُ الْبَائِعُ قَلَنْسُوَةً (أَوْ مِعْطَفًا) أَوِ اشْتَرَى قَلَنْسُوَةً بِشَرْطِ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا الْبَائِعُ بِطَانَةً مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ خُفًّا أَوْ ثَوْبًا خَلَقًا عَلَى أَنْ يُرَقِّعَهُ أَوْ يَرْفُوَهُ لَهُ الْبَائِعُ.
فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنَ الشُّرُوطِ الْجَائِزَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِهَا، وَيَلْزَمُ الشَّرْطُ اسْتِحْسَانًا، لِلتَّعَامُلِ الَّذِي جَرَى بِهِ عُرْفُ النَّاسِ.
وَالْقِيَاسُ فَسَادُهُ - كَمَا يَقُولُ زُفَرُ - لأِنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لاَ يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ، وَفِيهَا نَفْعٌ لأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي هُنَا، لَكِنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوهَا، وَبِمِثْلِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ .
8 - وَنَصَّ ابْنُ عَابِدِينَ - رحمه الله - عَلَى اعْتِبَارِ الْعُرْفِ الْحَادِثِ. فَلَوْ حَدَثَ عُرْفٌ فِي غَيْرِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي بَيْعِ الثَّوْبِ بِشَرْطِ رَفْوِهِ، وَالنَّعْلِ بِشَرْطِ حَذْوِهِ، يَكُونُ مُعْتَبَرًا، إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى الْمُنَازَعَةِ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ - رحمه الله - عَنِ الْمِنَحِ، أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنَ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَلَى حَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» لأِنَّ الْحَدِيثَ مُعَلَّلٌ بِوُقُوعِ النِّزَاعِ الْمُخْرِجِ لِلْعَقْدِ عَنِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَالْعُرْفُ يَنْفِي النِّزَاعَ، فَكَانَ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَوَانِعِ إِلاَّ الْقِيَاسُ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَيْهِ .
9 - كَمَا يُسْتَثْنَى مِنْ شَرْطِ مُخَالَفَةِ اقْتِضَاءِ الْعَقْدِ، مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَهَذَا كَشَرْطِ الأْجَلِ فِي دَفْعِ الثَّمَنِ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى النِّزَاعِ . وَكَذَا شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، لأِنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ رضي الله عنه الْمَعْرُوفِ: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا ثَلاَثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْ».
وَقَدْ عَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ اثْنَيْنِ وَثَلاَثِينَ مَوْضِعًا لاَ يَفْسُدُ فِيهَا الْبَيْعُ بِالشَّرْطِ .
10 - وَهَلْ يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِالْعَقْدِ؟ وَمَا حُكْمُ التَّنْصِيصِ عَلَى الشَّرْطِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَمَا حُكْمُ ابْتِنَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ؟
أ - أَمَّا الْتِحَاقُهُ بِالْعَقْدِ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ عَنِ الْمَجْلِسِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ مُصَحَّحَتَانِ فِي الْمَذْهَبِ: إِحْدَاهُمَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَالأْخْرَى عَنِ الصَّاحِبِينَ - وَهِيَ الأْصَحُّ - أَنَّهُ لاَ يُلْتَحَقُ.
وَأُيِّدَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ: بِمَا لَوْ بَاعَ مُطْلَقًا، ثُمَّ أَجَّلَ الثَّمَنَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّأْجِيلُ، لأِنَّهُ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَبِمَا لَوْ بَاعَا بِلاَ شَرْطٍ، ثُمَّ ذَكَرَا الشَّرْطَ عَلَى وَجْهِ الْوَعْدِ، جَازَ الْبَيْعُ، وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، إِذِ الْمَوَاعِيدُ قَدْ تَكُونُ لاَزِمَةً، فَيُجْعَلُ لاَزِمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ. وَبِمَا لَوْ تَبَايَعَا بِلاَ ذِكْرِ شَرْطِ (الْوَفَاءِ) ثُمَّ شَرَطَاهُ، يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ بَيْعِ الْوَفَاءِ، إِذِ الشَّرْطُ اللاَّحِقُ يُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لاِلْتِحَاقِهِ مَجْلِسَ الْعَقْدِ.
ب - وَأَمَّا ابْتِنَاءُ الْعَقْدِ عَلَى الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، كَمَا لَوْ شَرَطَا شَرْطًا فَاسِدًا قَبْلَ الْعَقْدِ، ثُمَّ عَقَدَا الْعَقْدَ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ عَدَمَ فَسَادِ الْعَقْدِ، لَكِنَّهُ حَقَّقَ ابْتِنَاءَ الْفَسَادِ لَوِ اتَّفَقَا عَلَى بِنَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ: بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي بَيْعِ الْهَزْلِ.
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الرَّمْلِيُّ - نَقْلاً عَنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ - فِي رَجُلَيْنِ تَوَاضَعَا عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ قَبْلَ عَقْدِهِ، وَعَقَدَا الْبَيْعَ خَالِيًا عَنِ الشَّرْطِ: بِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ .
ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
11 - فَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الشَّرْطِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ حُصُولُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ إِمَّا أَنْ لاَ يَقْتَضِيَهُ الْعَقْدُ وَيُنَافِيَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ. وَإِمَّا أَنْ يُخِلَّ بِالثَّمَنِ.
وَإِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَهُ الْعَقْدُ، وَإِمَّا أَنْ لاَ يَقْتَضِيَهُ وَلاَ يُنَافِيَهُ.
فَالَّذِي يَضُرُّ بِالْعَقْدِ وَيُبْطِلُهُ هُوَ الشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ مُنَاقَضَةُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَيْعِ، أَوْ إِخْلاَلٌ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مَحْمَلُ حَدِيثِ «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ»، دُونَ الأْخِيرَيْنِ .
فَمِثَالُ الأْوَّلِ ، وَهُوَ الَّذِي لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَيُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنْهُ - وَوَصَفَهُ ابْنُ جُزَيٍّ: بِاَلَّذِي يَقْتَضِي التَّحْجِيرَ عَلَى الْمُشْتَرِي - أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ لاَ يَبِيعَ السِّلْعَةَ لأِحَدٍ أَصْلاً، أَوْ إِلاَّ مِنْ نَفَرٍ قَلِيلٍ، أَوْ لاَ يَهَبَهَا، أَوْ لاَ يَرْكَبَهَا، أَوْ لاَ يَلْبَسَهَا، أَوْ لاَ يَسْكُنَهَا، أَوْ لاَ يُؤَاجِرَهَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ إِنْ بَاعَهَا مِنْ أَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِالثَّمَنِ. أَوْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ إِلَى أَمَدٍ بَعِيدٍ.
فَفِي هَذِهِ الأْحْوَلِ كُلِّهَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَالْبَيْعُ.
12 - وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ مُنَافَاةِ الشَّرْطِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بَعْضَ الصُّوَرِ:
الأْولَى: أَنَّهُ لَوْ طَلَبَ الْبَائِعُ مِنَ الْمُشْتَرِي الإْقَالَةَ، فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: عَلَى شَرْطٍ إِنْ بِعْتَهَا غَيْرِي فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ. فَهَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عَدَمِ الْبَيْعِ مِنْ أَحَدٍ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ، لأِنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الإْقَالَةِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَقِفَ الْمَبِيعَ، أَوْ أَنْ يَهَبَهُ، أَوْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَهَذِهِ مِنَ الْجَائِزَاتِ، لأِنَّهَا مِنْ أَلْوَانِ الْبِرِّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّرْعُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَ أَمَةً بِشَرْطِ تَنْجِيزِ عِتْقِهَا، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِيًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهَذَا لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ، بِخِلاَفِ اشْتِرَاطِ التَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ، وَاتِّخَاذِ الأْمَةِ أُمَّ وَلَدٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى الْمُشْتَرِي.
13 - أَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي، وَهُوَ الإْخْلاَلُ بِالثَّمَنِ، فَهُوَ مُصَوَّرٌ بِأَمْرَيْنِ:
الأْوَّلُ: الْجَهْلُ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا يَتَمَثَّلُ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ السَّلَفِ، أَيِ الْقَرْضِ مِنْ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ.
فَإِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْمُشْتَرِي، أَخَلَّ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ، لأِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَهْلٍ فِي الثَّمَنِ، بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ؛ لأِنَّ انْتِفَاعَهُ بِالسَّلَفِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَإِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْبَائِعِ، أَخَلَّ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ، لأِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَهْلٍ فِي الثَّمَنِ، بِسَبَبِ النَّقْصِ؛ لأِنَّ انْتِفَاعَهُ بِالسَّلَفِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُثَمَّنِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ .
الآْخَرُ: شُبْهَةُ الرِّبَا؛ لأِنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ السَّلَفِ، يُعْتَبَرُ قَرْضًا جَرَّ نَفْعًا:
فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُقْتَرِضَ، صَارَ الْمُقْرِضُ لَهُ هُوَ الْبَائِعَ، فَيَنْتَفِعُ الْبَائِعُ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ - وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُقْتَرِضَ، صَارَ الْمُقْرِضُ لَهُ هُوَ الْمُشْتَرِيَ، فَيَنْتَفِعُ الْمُشْتَرِي بِنَقْصِ الثَّمَنِ.
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ جُزَيٍّ فِي هَذَا الصَّدَدِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ السَّلَفِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لاَ يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ .
14 - أَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، فَهُوَ كَشَرْطِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَالْقِيَامِ بِالْعَيْبِ، وَرَدِّ الْعِوَضِ عِنْدَ انْتِقَاضِ الْبَيْعِ، فَهَذِهِ الأْمُورُ لاَزِمَةٌ دُونَ شَرْطٍ، لاِقْتِضَاءِ الْعَقْدِ إِيَّاهَا، فَشَرْطُهَا تَأْكِيدٌ - كَمَا يَقُولُ الدُّسُوقِيُّ .
15 - وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنَ الشُّرُوطِ، فَهُوَ كَشَرْطِ الأْجَلِ الْمَعْلُومِ، وَالرَّهْنِ، وَالْخِيَارِ، وَالْحَمِيلِ (أَيِ الْكَفِيلِ) فَهَذِهِ الشُّرُوطُ لاَ تُنَافِي الْعَقْدَ، وَلاَ يَقْتَضِيهَا، بَلْ هِيَ مِمَّا تَعُودُ عَلَيْهِ بِمَصْلَحَةٍ، فَإِنْ شُرِطَتْ عُمِلَ بِهَا، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَصَحَّحُوا اشْتِرَاطَ الرَّهْنِ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا، وَتَوَقُّفَ السِّلْعَةِ حَتَّى يُقْبَضَ الرَّهْنُ الْغَائِبُ.
أَمَّا اشْتِرَاطُ الْكَفِيلِ الْغَائِبِ فَجَائِزٌ إِنْ قَرُبَتْ غَيْبَتُهُ، لاَ إِنْ بَعُدَتْ، لأِنَّهُ قَدْ يَرْضَى وَقَدْ يَأْبَى، فَاشْتُرِطَ فِيهِ الْقُرْبُ.
16 - وَقَدْ عَرَضَ ابْنُ جُزَيٍّ لِصُوَرٍ مِنَ الشَّرْطِ، تُعْتَبَرُ اسْتِثْنَاءً، أَوْ ذَاتَ حُكْمٍ خَاصٍّ، مِنْهَا هَذِهِ الصُّورَةُ، وَهِيَ: مَا إِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ، كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ أَوْ سُكْنَى الدَّارِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَإِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطَ صَحِيحٌ .
فَيَبْدُو أَنَّ هَذَا كَالاِسْتِثْنَاءِ مِنَ التَّفْصِيلِ الرُّبَاعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ . وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ
الْمَعْرُوفُ وَهُوَ: «أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، قَدْ أَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ. قَالَ: وَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، فَقَالَ: بِعْنِيهِ، فَقُلْتُ: لاَ. ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ، فَبِعْتُهُ، وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَشَرَطْتُ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ».
وَيَبْدُو أَنَّ هَذَا شَرْطٌ جَائِزٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ، فَقَدْ عَلَّقَ الشَّوْكَانِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ الرُّكُوبِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ إِذَا كَانَتْ مَسَافَةُ السَّفَرِ قَرِيبَةً، وَحَدَّهَا بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَقَلَّتِ الْمَسَافَةُ أَمْ كَثُرَتْ .
وَالْحَدِيثُ - وَإِنْ كَانَ فِي الاِنْتِفَاعِ الْيَسِيرِ بِالْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُرْكَبُ مِنَ الْحَيَوَانِ - لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَاسُوا عَلَيْهِ الاِنْتِفَاعَ الْيَسِيرَ بِكُلِّ مَبِيعٍ بَعْدَ بَيْعِهِ، عَلَى سَبِيلِ الاِسْتِمْرَارِ، تَيْسِيرًا، نَظَرًا لِحَاجَةِ الْبَائِعِينَ.
17 - وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، هُوَ أَنَّهُ: إِنْ أُسْقِطَ الشَّرْطُ الْمُخِلُّ بِالْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ شَرْطًا يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ كَاشْتِرَاطِ عَدَمِ بَيْعِ الْمَبِيعِ، أَمْ كَانَ شَرْطًا يُخِلُّ بِالثَّمَنِ كَاشْتِرَاطِ السَّلَفِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالِ سِوَى أَنْ يَكُونَ الإْسْقَاطُ مَعَ قِيَامِ السِّلْعَةِ.
فَقَدْ عَلَّلَ الْخَرَشِيُّ صِحَّةَ الْبَيْعِ هُنَا، بِحَذْفِ شَرْطِ السَّلَفِ، بِقَوْلِهِ: لِزَوَالِ الْمَانِعِ .
18 - وَهَلْ يَسْتَوِي الْحُكْمُ فِي الإْسْقَاطِ، فِي مِثْلِ شَرْطِ الْقَرْضِ، بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ؟ قَوْلاَنِ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ:
أ - فَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، أَنَّهُ: إِذَا رُدَّ الْقَرْضُ عَلَى الْمُقْرِضِ، وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَلَوْ بَعْدَ غَيْبَةِ الْمُقْتَرِضِ عَلَى الْقَرْضِ غَيْبَةً يُمْكِنُهُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ.
ب - وَقَوْلُ سَحْنُونٍ وَابْنِ حَبِيبٍ، هُوَ: أَنَّ الْبَيْعَ يُنْقَضُ مَعَ الْغَيْبَةِ عَلَى الْقَرْضِ، وَلَوْ أُسْقِطَ شَرْطُ الْقَرْضِ، لِوُجُودِ مُوجِبِ الرِّبَا بَيْنَهُمَا، أَوْ لِتَمَامِ الرِّبَا بَيْنَهُمَا - كَمَا عَبَّرَ الشَّيْخُ الدَّرْدِيرُ - فَلاَ يَنْفَعُ الإْسْقَاطُ.
وَالْمُعْتَمَدُ الأْوَّلُ عِنْدَ الدَّرْدِيرِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ، وَمَالَ الدُّسُوقِيُّ إِلَى الآْخَرِ، كَمَا يَبْدُو مِنْ كَلاَمِهِ وَنَقَلَهُ الآْخَرُ، فَقَدْ حَكَى تَشْهِيرَهُ، وَكَذَا الَّذِي يَبْدُو مِنْ كَلاَمِ الْعَدَوِيِّ .
وَهُنَا سُؤَالاَنِ يُطْرَحَانِ:
19 - السُّؤَالُ الأْوَّلُ: مَا الَّذِي يَلْزَمُ لَوْ وَقَعَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَرْضِ، وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُخِلُّ بِالثَّمَنِ، وَفَاتَتِ السِّلْعَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، بِمُفَوِّتِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ (كَمَا لَوْ هَلَكَتْ) سَوَاءٌ أَسْقَطَ مُشْتَرِطُ الشَّرْطِ شَرْطَهُ، أَمْ لَمْ يُسْقِطْهُ؟ وَفِي الْجَوَابِ أَقْوَالٌ:
الأْوَّلُ: وَهَذَا فِي الْمُدَوَّنَةِ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ هُوَ الْمُشْتَرِيَ أَوِ الْبَائِعَ:
أ - فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي أَقْرَضَ الْبَائِعَ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الأْكْثَرُ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَمِنَ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ. فَإِذَا اشْتَرَاهَا بِعِشْرِينَ وَالْقِيمَةُ ثَلاَثُونَ، لَزِمَهُ ثَلاَثُونَ.
ب - وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي أَقْرَضَ الْمُشْتَرِيَ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ الأْقَلُّ مِنَ الثَّمَنِ وَمِنَ الْقِيمَةِ، فَيَلْزَمُهُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ عِشْرُونَ، لأِنَّهُ أَقْرَضَ لِيَزْدَادَ، فَعُومِلَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ.
الثَّانِي: يُقَابِلُ الَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ لُزُومُ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسَلِّفُ هُوَ الْبَائِعَ أَمِ الْمُشْتَرِيَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ تَغْرِيمَ الْمُشْتَرِي الأْقَلَّ، إِذَا اقْتَرَضَ مِنَ الْبَائِعِ مَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَغِبْ عَلَى مَا اقْتَرَضَهُ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ .
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قِيَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، فَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ الْمِثْلُ، لأِنَّهُ كَعَيْنِهِ، فَلاَ كَلاَمَ لِوَاحِدٍ، فَهُوَ بِمَثَابَةِ مَا لَوْ كَانَ قَائِمًا، وَرُدَّ. بِعَيْنِهِ .
السُّؤَالُ الثَّانِي:
20 - مَا الَّذِي يَلْزَمُ، لَوْ وَقَعَ الْبَيْعُ بِشَرْطٍ مُنَاقِضٍ لِلْمَقْصُودِ، وَفَاتَتِ السِّلْعَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ أَأُسْقِطَ ذَلِكَ الشَّرْطُ، أَمْ لَمْ يُسْقَطْ؟
قَالُوا: الْحُكْمُ هُوَ: أَنَّ لِلْبَائِعِ الأْكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ الْقَبْضِ وَمِنَ الثَّمَنِ، لِوُقُوعِ الْبَيْعِ بِأَنْقَصَ مِنَ الثَّمَنِ الْمُعْتَادِ، لأِجْلِ الشَّرْطِ .
ثَالِثًا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
21 - الْتَزَمَ الشَّافِعِيَّةُ نَهْيَ الشَّارِعِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْتَزَمُوا حَدِيثَ ابْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» وَلَمْ يَسْتَثْنُوا إِلاَّ مَا ثَبَتَ اسْتِثْنَاؤُهُ بِالشَّرْعِ، وَقَلِيلاً مِمَّا رَأَوْا أَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ أَوْ مَصَالِحِهِ، فَكَانَ مَذْهَبُهُمْ بِذَلِكَ أَضْيَقَ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ.
وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُهُمُ الشَّرْطَ، فَقَالَ:
الشَّرْطُ إِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَهُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ، كَالْقَبْضِ وَالاِنْتِفَاعِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، أَوْ لاَ.
فَالأْوَّلُ: لاَ يَضُرُّ بِالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي - وَهُوَ الَّذِي لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ - إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، كَشَرْطِ الرَّهْنِ، وَالإْشْهَادِ وَالأْوْصَافِ الْمَقْصُودَةِ - مِنَ الْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْخِيَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - أَوْ لاَ.
فَالأْوَّلُ: لاَ يُفْسِدُهُ، وَيَصِحُّ الشَّرْطُ نَفْسُهُ.
وَالثَّانِي: - وَهُوَ الَّذِي لاَ يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ - إِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ يُورِثُ تَنَازُعًا، كَشَرْطِ أَنْ لاَ تَأْكُلَ الدَّابَّةُ الْمَبِيعَةُ إِلاَّ كَذَا، فَهُوَ لاَغٍ، وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ يُورِثُ تَنَازُعًا، فَهَذَا هُوَ الْفَاسِدُ الْمُفْسِدُ، كَالأْمُورِ الَّتِي تُنَافِي مُقْتَضَاهُ، نَحْوِ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَعَدَمِ التَّصَرُّفِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَخُلاَصَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ:
(1) أَنَّ اشْتِرَاطَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَتِهِ أَوْ بِصِحَّتِهِ، صَحِيحٌ.
(2) وَأَنَّ اشْتِرَاطَ مَا لاَ غَرَضَ فِيهِ لاَغٍ، وَلاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ.
(3) وَأَمَّا اشْتِرَاطُ مَا فِيهِ غَرَضٌ يُورِثُ تَنَازُعًا، فَهُوَ الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ، وَذَلِكَ كَاشْتِرَاطِ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ .
22 - وَمِنْ أَهَمِّ مَا نَصُّوا عَلَيْهِ تَطْبِيقًا لِلْحَدِيثَيْنِ وَلِهَذَا التَّقْسِيمِ:
(1) الْبَيْعُ بِشَرْطِ بَيْعٍ، كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الأْرْضَ بِأَلْفٍ، عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي دَارَكَ بِكَذَا، أَوْ تَشْتَرِيَ مِنِّي دَارِي بِكَذَا، فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ، لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ.
(2) الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَرْضِ، كَأَنْ يَبِيعَهُ أَرْضَهُ بِأَلْفٍ، بِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ مِائَةً، وَمِثْلُ الْقَرْضِ الإْجَارَةُ، وَالتَّزْوِيجُ، وَالإْعَارَةُ .
(3) شِرَاءُ زَرْعٍ بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُدَهُ الْبَائِعُ، أَوْ ثَوْبٍ بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ، وَمِنْهُ كَمَا يَقُولُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: شِرَاءُ حَطَبٍ بِشَرْطِ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى بَيْتِهِ، فَالْمَذْهَبُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ بُطْلاَنُ الشِّرَاءِ، لاِشْتِمَالِهِ عَلَى شَرْطِ عَمَلٍ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدُ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَلأِنَّهُ - كَمَا قَالَ الإْسْنَوِيُّ - شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ فِي الأْصَحِّ . وَإِنْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ قَوْلاَنِ آخَرَانِ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَيَلْزَمُ الشَّرْطُ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ، وَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ.
وَثَانِيهِمَا: يَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِمَا يُقَابِلُ الْمَبِيعَ مِنَ الْمُسَمَّى.
23 - وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَسَائِلَ مَعْدُودَةً مِنَ النَّهْيِ صَحَّحُوهَا مَعَ الشَّرْطِ وَهِيَ:
أ - الْبَيْعُ بِشَرْطِ الأْجَلِ الْمُعَيَّنِ، لقوله تعالي: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)
ب - الْبَيْعُ بِشَرْطِ الرَّهْنِ، وَقَيَّدُوهُ بِالْمَعْلُومِيَّةِ.
ج - الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْكَفِيلِ الْمَعْلُومِ أَيْضًا، لِعِوَضٍ مَا، مِنْ مَبِيعٍ أَوْ ثَمَنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِمَا فِي مُعَامَلَةِ مَنْ لاَ يَرْضَى إِلاَّ بِهِمَا.
د - الإْشْهَادُ عَلَى جَرَيَانِ الْبَيْعِ، لِلأْمْرِ بِهِ فِي الآْيَةِ قَالَ تَعَالَى: (وَأُشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) .
هـ - الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، لِثُبُوتِهِ بِحَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ، الْمَعْرُوفِ .
24 - الْبَيْعُ بِشَرْطِ عِتْقِ الْمَبِيعِ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ عِنْدَ
هُمْ:
الْقَوْلُ الأْوَّلُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا، أَنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ، وَالْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، فَاشْتَرَطُوا وَلاَءَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم أَنَّ شَرْطَ الْوَلاَءِ لَهُمْ، إِذْ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»
وَلأِنَّ اسْتِعْقَابَ الْبَيْعِ الْعِتْقَ عَهْدٌ فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ، فَاحْتُمِلَ شَرْطُهُ. وَلِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ لِلْعِتْقِ.
عَلَى أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُشْتَرِي، دُنْيَا بِالْوَلاَءِ، وَأُخْرَى بِالثَّوَابِ، وَلِلْبَائِعِ بِالتَّسَبُّبِ فِيهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالْبَيْعَ بَاطِلٌ، كَمَا لَوْ شَرَطَ بَيْعَهُ أَوْ هِبَتَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ .
25 - وَمِمَّا اسْتَثْنَاهُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا مِنَ النَّهْيِ: شَرْطُ الْوَلاَءِ لِغَيْرِ الْمُشْتَرِي مَعَ الْعِتْقِ، فِي أَضْعَفِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، لِظَاهِرِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، «وَقَوْلُهُ - عليه الصلاة والسلام - لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ».
لَكِنَّ الأْصَحَّ بُطْلاَنُ الشَّرْطِ وَالْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ، مِنْ أَنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ.
فَأَجَابَ هَؤُلاَءِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ» بِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَقَعْ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَبِأَنَّهُ خَاصٌّ بِقَضِيَّةِ عَائِشَةَ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: «لَهُمْ» بِمَعْنَى: عَلَيْهِمْ
26 - وَمِمَّا اسْتَثْنَوْهُ أَيْضًا: شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ، لأِنَّهُ يَحْتَاجُ الْبَائِعُ فِيهِ إِلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ، لِيَثِقَ بِلُزُومِ الْبَيْعِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُهُ مِنَ الْخَفِيِّ، دُونَ مَا يَعْلَمُهُ، مُطْلَقًا فِي حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْبَيْعُ مَعَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ صَحِيحٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَصَحَّ الشَّرْطُ أَمْ لَمْ يَصِحَّ، لأِنَّهُ شَرْطٌ يُؤَكِّدُ الْعَقْدَ، وَيُوَافِقُ ظَاهِرَ الْحَالِ، وَهُوَ السَّلاَمَةُ مِنَ الْعُيُوبِ.
وَتَأَيَّدَ هَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: بَاعَ عَبْدًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، بِالْبَرَاءَةِ فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: بِهِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي. فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه فَقَضَى عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ: لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ.
قَالُوا: فَدَلَّ قَضَاءُ عُثْمَانَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَصَارَ مِنَ الإْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.
27 - وَمِمَّا اسْتَثْنَوْهُ أَيْضًا:
أ - شَرْطُ نَقْلِ الْمَبِيعِ مِنْ مَكَانِ الْبَائِعِ، قَالُوا:
لأِنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ .
ب - شَرْطُ قَطْعِ الثِّمَارِ أَوْ تَبْقِيَتِهَا بَعْدَ صَلاَحِهَا وَنُضْجِهَا، فَهُوَ جَائِزٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، كَمَا أَنَّهُ جَائِزٌ بَيْعُهَا بَعْدَ النُّضْجِ مُطْلَقًا مِنَ الشَّرْطِ. لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لاَ تَتَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا»
فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الثَّمَرِ بَعْدَ بَدْوِ صَلاَحِهِ، وَهُوَ صَادِقٌ بِكُلِّ الأْحْوَالِ الثَّلاَثَةِ: بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَبِشَرْطِ قَطْعِهِ، وَبِشَرْطِ إِبْقَائِهِ .
ج - شَرْطُ أَنْ يَعْمَلَ الْبَائِعُ عَمَلاً مَعْلُومًا فِي الْمَبِيعِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ، فِي أَضْعَفِ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
د - اشْتِرَاطُ وَصْفٍ مَقْصُودٍ فِي الْمَبِيعِ عُرْفًا، كَكَوْنِ الدَّابَّةِ حَامِلاً أَوْ ذَاتَ لَبَنٍ، فَالشَّرْطُ صَحِيحٌ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إِنْ تَخَلَّفَ الشَّرْطُ. قَالُوا: وَوَجْهُ الصِّحَّةِ: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ.
وَلأِنَّهُ الْتِزَامٌ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْتِزَامُهُ عَلَى إِنْشَاءِ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، ذَاكَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الشَّرْطِ، فَلَمْ يَشْمَلْهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ.
هـ - اشْتِرَاطُ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ.
و - شَرْطُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، لأِنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ .
ز - خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيمَا إِذَا بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ، عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ، لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ .
رَابِعًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
28 - قَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ الشُّرُوطَ فِي الْبَيْعِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأْوَّلُ: صَحِيحٌ لاَزِمٌ، لَيْسَ لِمَنِ اشْتُرِطَ عَلَيْهِ فَكُّهُ.
الآْخَرُ: فَاسِدٌ يَحْرُمُ اشْتِرَاطُهُ.
(1) فَالأْوَّلُ: وَهُوَ الشَّرْطُ الصَّحِيحُ اللاَّزِمُ، ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: مَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَالتَّقَابُضِ، وَحُلُولِ الثَّمَنِ، وَتَصَرُّفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ، وَخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَالرَّدِّ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ.
فَهَذَا الشَّرْطُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، لاَ يُفِيدُ حُكْمًا، وَلاَ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ، لأِنَّهُ بَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.
الثَّانِي: شَرْطٌ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ، أَيْ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ تَعُودُ عَلَى الْمُشْتَرِطِ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ: الْخِيَارُ، وَالشَّهَادَةُ، أَوِ اشْتِرَاطُ صِفَةٍ فِي الثَّمَنِ، كَتَأْجِيلِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، أَوْ رَهْنِ مُعَيَّنٍ بِهِ، أَوْ كَفِيلٍ مُعَيَّنٍ بِهِ، أَوِ اشْتِرَاطِ صِفَةٍ مَقْصُودَةٍ فِي الْمَبِيعِ، كَالصِّنَاعَةِ وَالْكِتَابَةِ، أَوِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الدَّابَّةِ ذَاتَ لَبَنٍ، أَوْ غَزِيرَةَ اللَّبَنِ، أَوِ الْفَهْدِ صَيُودًا، أَوِ الطَّيْرِ مُصَوِّتًا، أَوْ يَبِيضُ، أَوْ يَجِيءُ مِنْ مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ كَوْنِ خَرَاجِ الأْرْضِ كَذَا.. فَيَصِحُّ الشَّرْطُ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ، وَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً»، وَلأِنَّ الرَّغَبَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ لَفَاتَتِ الْحِكْمَةُ الَّتِي لأِجْلِ هَا شُرِعَ الْبَيْعُ.
فَهَذَا الشَّرْطُ إِنْ وَفَّى بِهِ لَزِمَ، وَإِلاَّ فَلِلْمُشْتَرَطِ لَهُ الْفَسْخُ لِفَوَاتِهِ، أَوْ أَرْشُ فَقْدِ الصِّفَةِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ تَعَيَّنَ أَرْشُ فَقْدِ الصِّفَةِ، كَالْمَعِيبِ إِذَا تَلِفَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي .
الثَّالِثُ: شَرْطٌ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلاَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَلاَ يُنَافِي مُقْتَضَاهُ، لَكِنْ فِيهِ نَفْعًا مَعْلُومًا لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي.
أ - كَمَا لَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ سُكْنَى الدَّارِ الْمَبِيعَةِ شَهْرًا، أَوْ أَنْ تَحْمِلَهُ الدَّابَّةُ (أَوِ السَّيَّارَةُ) إِلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِحَدِيثِ «جَابِرٍ رضي الله عنه، حِينَ بَاعَ جَمَلَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم إِذْ قَالَ فَبِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي»
وَحَدِيثِ: جَابِرٍ أَيْضًا، أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، وَالثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ» وَالْمُرَادُ بِالثُّنْيَا الاِسْتِثْنَاءُ.
وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ بَاعَهُ دَارًا مُؤَجَّرَةً.
وَمِثْلُ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا: اشْتِرَاطُ الْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ، وَكَذَا اشْتِرَاطُهُ الْمَنْفَعَةَ لِغَيْرِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَلَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُشْتَرَطِ اسْتِثْنَاءُ نَفْعِهَا، قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْبَائِعِ النَّفْعَ:
فَإِنْ كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي وَتَفْرِيطِهِ، لَزِمَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، لِتَفْوِيتِهِ الْمَنْفَعَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ عَلَى مُسْتَحِقِّهَا. وَإِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْعِوَضُ .
ب - وَكَمَا لَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ حَمْلَ الْحَطَبِ، أَوْ تَكْسِيرَهُ، أَوْ خِيَاطَةَ ثَوْبٍ، أَوْ تَفْصِيلَهُ، أَوْ حَصَادَ زَرْعٍ، أَوْ جَزَّ رُطَبِهِ، فَيَصِحُّ إِنْ كَانَ النَّفْعُ مَعْلُومًا، وَيَلْزَمُ الْبَائِعَ فِعْلُهُ. وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ مَتَاعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَالْبَائِعُ لاَ يَعْرِفُهُ، فَلَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ .
ثُمَّ إِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ، أَوِ اسْتَحَقَّ النَّفْعَ بِالإْجَارَةِ الْخَاصَّةِ، أَوْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِ الْبَائِعِ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعِوَضِ ذَلِكَ النَّفْعِ، كَمَا لَوِ انْفَسَخَتِ الإْجَارَةُ بَعْدَ قَبْضِ عِوَضِهَا، رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِعِوَضِ الْمَنْفَعَةِ.
وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَرَضٍ، أُقِيمَ مَقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُ، وَالأْجْرَةُ عَلَى الْبَائِعِ، كَمَا فِي الإْجَارَةِ .
29 - اسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ جَوَازِ اشْتِرَاطِ النَّفْعِ الْمَعْلُومِ، مَا لَوْ جَمَعَ فِي الاِسْتِثْنَاءِ بَيْنَ شَرْطَيْنِ، وَكَانَا صَحِيحَيْنِ: كَحَمْلِ الْحَطَبِ وَتَكْسِيرِهِ، أَوْ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ وَتَفْصِيلِهِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ، لِحَدِيثِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» .
أَمَّا إِنْ كَانَ الشَّرْطَانِ الْمَجْمُوعَانِ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، كَاشْتِرَاطِ حُلُولِ الثَّمَنِ مَعَ تَصَرُّفِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِلاَ خِلاَفٍ. أَوْ يَكُونَا مِنْ مَصْلَحَةِ الْبَيْعِ، كَاشْتِرَاطِ رَهْنٍ وَكَفِيلٍ مُعَيَّنَيْنِ بِالثَّمَنِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ مُقْتَضَاهُ.
(2) وَالآْخَرُ: وَهُوَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ الْمُحَرَّمُ، تَحْتَهُ أَيْضًا ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأْوَّلُ:
30 - أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ عَقْدًا آخَرَ: كَعَقْدِ سَلَمٍ، أَوْ قَرْضٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ شَرِكَةٍ، فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَهُ الْبَائِعُ أَمِ الْمُشْتَرِي.
وَهَذَا مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ بُطْلاَنُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ احْتِمَالاً عِنْدَهُمْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ.
وَدَلِيلُ الْمَشْهُورِ:
أ - أَنَّهُ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، «وَأَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ» . وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.
ب - وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ رِبًا.
ج - وَلأِنَّهُ شَرَطَ عَقْدًا فِي آخَرَ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَنِكَاحِ الشِّغَارِ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ دَارِي بِكَذَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ، أَوْ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَى دَابَّتِي، أَوْ عَلَى حِصَّتِي مِنْ ذَلِكَ، قَرْضًا أَوْ مَجَّانًا .
النَّوْعُ الثَّانِي:
31 - أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهُ. مِثْلُ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ لاَ يَبِيعَ الْمَبِيعَ، وَلاَ يَهَبَهُ، وَلاَ يُعْتِقَهُ، أَوْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ، أَوْ يَقِفَهُ، أَوْ أَنَّهُ مَتَى نَفَقَ (هَلَكَ) الْمَبِيعُ فَبِهَا، وَإِلاَّ رَدَّهُ، أَوْ إِنْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ فَالْوَلاَءُ لَهُ، فَهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ.
وَفِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِهَا رِوَايَتَانِ فِي الْمَذْهَبِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَلاَ يُبْطِلُهُ الشَّرْطُ، بَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ فَقَطْ، لأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم أَبْطَلَ الشَّرْطَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ الْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يُبْطِلِ الْعَقْدَ.
32 - وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ الْبَاطِلِ الْعِتْقَ، فَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ الْمَذْكُورِ، وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعِتْقِ إِنْ أَبَاهُ، لأِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالنَّذْرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ عِتْقِهِ أَعْتَقَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ عِتْقٌ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ قُرْبَةً الْتَزَمَهَا، كَالنَّذْرِ.
33 - وَبِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَبِفَسَادِ الشَّرْطِ فَقَطْ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ - فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلَّذِي فَاتَ غَرَضُهُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ، مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ أَعَلِمَ بِفَسَادِ الشَّرْطِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ - مَا يَلِي:
أ - فَسْخُ الْبَيْعِ، لأِنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرْطِ.
ب - لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ بِمَا نَقَصَهُ الشَّرْطُ مِنَ الثَّمَنِ بِإِلْغَاءِ الشَّرْطِ، لأِنَّهُ إِنَّمَا بَاعَ بِنَقْصٍ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْغَرَضِ الَّذِي اشْتَرَطَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ رَجَعَ بِالنَّقْصِ.
ج - وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ بِإِلْغَاءِ الشَّرْطِ، لأِنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَى بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْغَرَضِ الَّذِي اشْتَرَطَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ رَجَعَ بِالزِّيَادَةِ الَّتِي سَمَحَ بِهَا، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ مَعِيبًا.
فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ أَخْذِ أَرْشِ النَّقْصِ.
وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ أَخْذِ مَا زَادَهُ عَلَى الثَّمَنِ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا احْتِمَالَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، بِدُونِ الرُّجُوعِ بِشَيْءٍ، وَذَلِكَ: قِيَاسًا عَلَى مَنْ شَرَطَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا، فَامْتَنَعَ الرَّاهِنُ وَالضَّمِينُ. وَلأِنَّهُ مَا يَنْقُصُهُ الشَّرْطُ مِنَ الثَّمَنِ مَجْهُولٌ، فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولاً. وَلأِنَّ «النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم لَمْ يَحْكُمْ لأَِرْبَابِ بَرِيرَةَ بِشَيْءٍ»، مَعَ فَسَادِ الشَّرْطِ، وَصِحَّةِ الْبَيْعِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
34 - أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي شَرْطًا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، كَقَوْلِ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا، أَوْ بِعْتُكَ إِنْ رَضِيَ فُلاَنٌ، وَكَقَوْلِ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ إِنْ جَاءَ زَيْدٌ، فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لأِنَّ مُقْتَضَى الْبَيْعِ نَقْلُ الْمِلْكِ حَالَ التَّبَايُعِ، وَالشَّرْطُ هُنَا يَمْنَعُهُ. وَلأِنَّهُ عَلَّقَ الْبَيْعَ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ إِذَا جَاءَ آخِرُ الشَّهْرِ. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ قَوْلَ الْبَائِعِ: بِعْتُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَوْلَ الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَيْعَ الْعُرْبُونِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، لأِنَّ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ اشْتَرَى لِعُمَرَ دَارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ، فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ، وَإِلاَّ لَهُ كَذَا وَكَذَا . (ر: مُصْطَلَحُ عُرْبُون)
بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ:
35 - وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ» .
وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه. قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ».
وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: جَمْعُ بَيْعَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ. وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَيْعَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الثَّمَنِ .
وَأَشَارَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى تَوَهُّمِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ حَدِيثُ الْبَيْعَتَيْنِ أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِ الصَّفْقَتَيْنِ؛ لأِنَّ الأْوَّلَ خُصُوصُ صَفْقَةٍ مِنَ الصَّفَقَاتِ، وَهِيَ الْبَيْعُ، وَأَمَّا حَدِيثُ الصَّفْقَتَيْنِ فَهُوَ أَعَمُّ لِشُمُولِهِ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ، كَالإْجَارَةِ . وَاخْتَلَفَتِ الصُّوَرُ الَّتِي أَلْقَاهَا الْفُقَهَاءُ لِتَصَوُّرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / العشرون ، الصفحة / 77
خِيَارُ الشَّرْطِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِيَارُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ الاِخْتِيَارِ، وَمَعْنَاهُ طَلَبُ خَيْرِ الأْمْرَيْنِ، أَوِ الأْمُورِ .
أَمَّا (الشَّرْطُ) - بِسُكُونِ الرَّاءِ - فَمَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالْجَمْعُ شُرُوطٌ، وَبِفَتْحِهَا: الْعَلاَمَةُ، وَالْجَمْعُ أَشْرَاطٌ، وَالاِشْتِرَاطُ: الْعَلاَمَةُ يَجْعَلُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ .
2 - أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: «إِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ صَارَ عَلَمًا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى: مَا يَثْبُتُ (بِالاِشْتِرَاطِ) لأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنَ الاِخْتِيَارِ بَيْنَ الإْمْضَاءِ وَالْفَسْخِ» .
وَقَدْ عَرَّفَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (ابْنُ عَرَفَةَ) - بِمُلاَحَظَةِ الْكَلاَمِ عَنْ (بَيْعِ الْخِيَارِ) - بِقَوْلِهِ: (بَيْعٌ وُقِفَ بَتُّهُ أَوَّلاً عَلَى إِمْضَاءٍ يُتَوَقَّعُ). وَاحْتَرَزَ بِعِبَارَةِ وُقِفَ بَتُّهُ عَنْ بَيْعِ الْبَتِّ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ.
كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ قَيْدَ (أَوَّلاً) لإِخْرَاجِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَنَحْوِهِ (خِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ) لأِنَّ أَمْثَالَ هَذَا الْخِيَارِ لَمْ تَتَوَقَّفْ أَوَّلاً، بَلْ آلَ أَمْرُهَا إِلَى الْخِيَارِ، أَيْ لأِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا يَثْبُتُ فِيمَا بَعْدُ، حِينَ ظُهُورِ الْعَيْبِ .
3 - وَلِخِيَارِ الشَّرْطِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى دَعَاهُ بِهَا بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ، مِنْهَا:
أ - الْخِيَارُ الشَّرْطِيُّ (بِالْوَصْفِيَّةِ لاَ بِالإْضَافَةِ) وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ ظَاهِرٌ، وَالْغَرَضُ مِنْ وَصْفِهِ بِالشَّرْطِيِّ تَمْيِيزُهُ عَنِ الْخِيَارِ (الْحُكْمِيِّ) الَّذِي يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى اشْتِرَاطٍ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُتَدَاوَلَةٌ كَثِيرًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .
ب - خِيَارُ التَّرَوِّي، لأِنَّهُ شُرِعَ لِلتَّرَوِّي وَهُوَ النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي الأْمْرِ وَالتَّبَصُّرُ فِيهِ قَبْلَ إِبْرَامِهِ.
وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ يَسْتَعْمِلُهَا الشَّافِعِيَّةُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ .
ج - بَيْعُ الْخِيَارِ، وَهَذَا الاِسْمُ وَاقِعٌ عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَيُعَبِّرُ بِهِ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ كُلُّهُمْ وَبِخَاصَّةِ الْمَالِكِيَّةُ .
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الأْخْذِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَاعْتِبَارَهُ مَشْرُوعًا لاَ يُنَافِي الْعَقْدَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ.
فَأَمَّا السُّنَّةُ: فَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ «رَجُلاً مِنَ الأْنْصَارِ كَانَ بِلِسَانِهِ لَوْثَةٌ، وَكَانَ لاَ يَزَالُ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ، مَرَّتَيْنِ».
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ حِبَّانَ قَالَ: هُوَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ رَجُلاً قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسِهِ، فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ وَنَازَعَتْهُ عَقْلَهُ، وَكَانَ لاَ يَدَعُ التِّجَارَةَ وَلاَ يَزَالُ يُغْبَنُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ، ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ تَبْتَاعُهَا بِالْخِيَارِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا». وَقَدْ كَانَ عُمِّرَ طَوِيلاً، عَاشَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه حِينَ فَشَا النَّاسُ وَكَثُرُوا، يَتَبَايَعُ
الْبَيْعَ فِي السُّوقِ وَيَرْجِعُ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَقَدْ غُبِنَ غَبْنًا قَبِيحًا، فَيَلُومُونَهُ وَيَقُولُونَ: لِمَ تَبْتَاعُ؟ فَيَقُولُ: أَنَا بِالْخِيَارِ إِنْ رَضِيتُ أَخَذْتُ، وَإِنْ سَخِطْتُ رَدَدْتُ، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا، فَيَرُدُّ السِّلْعَةَ عَلَى صَاحِبِهَا مِنَ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَقْبَلُهَا، قَدْ أَخَذْتُ سِلْعَتِي وَأَعْطَيْتنِي دَرَاهِمَ، قَالَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَدْ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا. فَكَانَ يَمُرُّ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَيَقُولُ لِلتَّاجِرِ: وَيْحَكَ إِنَّهُ قَدْ صَدَقَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَدْ كَانَ جَعَلَهُ بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا .
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ «الْمُتَبَايِعَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» الَّتِي فِيهَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام : «إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلاَّ صَفْقَةَ خِيَارٍ» . فَحَمَلَ هَؤُلاَءِ ذَلِكَ الاِسْتِثْنَاءَ عَلَى حَالَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ، وَقَالُوا فِي مَعْنَاهُ: هُوَ خِيَارُ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الإْقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ، أَوِ الإْحْجَامِ عَنْهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَمْتَدَّ فَيَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ أَطْوَلَ مِنْ تِلْكَ الْفَتْرَةِ إِذَا كَانَ الْبَيْعُ مُشْتَرَطًا فِيهِ خِيَارٌ .
وَأَمَّا الإْجْمَاعُ: فَاسْتَدَلَّ بِهِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ كَثِيرُونَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: «وَقَدْ نَقَلُوا فِيهِ الإْجْمَاعَ» وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «وَهُوَ جَائِزٌ بِالإْجْمَاعِ». لَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ إِلَى أَنَّ صِحَّتَهُ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا هِيَ فِيمَا «إِذَا كَانَتْ مُدَّتُهُ مَعْلُومَةً»
وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: «وَشَرْطُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ».
صِيغَةُ الْخِيَارِ:
5 - لاَ يَتَطَلَّبُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ التَّعْبِيرَ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَمَا يَحْصُلُ بِلَفْظِ اشْتِرَاطِ (الْخِيَارِ) يَحْصُلُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمُرَادِ، مِثْلُ لَفْظِ (الرِّضَا) أَوِ (الْمَشِيئَةِ) بَلْ يَثْبُتُ وَلَوْ لَمْ يَتَضَمَّنُ الْكَلاَمُ لَفْظَ الْخِيَارِ أَوْ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ، فِيمَا إِذَا وَرَدَ عِنْدَ التَّعَاقُدِ أَوْ بَعْدَهُ مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخِيَارِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: «إِذَا بَاعَ مِنْ آخَرَ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ قَالَ لِلْمُشْتَرِي: لِي عَلَيْكَ الثَّوْبُ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ (وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ) قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا عِنْدَنَا خِيَارٌ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ». وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ نَقْلاً عَنِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: خُذْهُ وَانْظُرْ إِلَيْهِ الْيَوْمَ فَإِنْ رَضِيتَهُ أَخَذْتَهُ بِكَذَا، فَهُوَ خِيَارٌ. وَنُقِلَ عَنِ الذَّخِيرَةِ مِثْلُ هَذَا الاِعْتِبَارِ فِيمَا لَوْ قَالَ: هُوَ بَيْعٌ لَكَ إِنْ شِئْتَ الْيَوْمَ.
وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الثَّمَنِ، أَوِ الْمَبِيعِ بَدَلاً عَنِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَيَكُونُ بِمَثَابَةِ اشْتِرَاطِهِ فِيهِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي الثَّمَنِ أَوْ فِي الْمَبِيعِ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ (فِي الْعَقْدِ).
وَمِنْ ذَلِكَ: التَّوَاطُؤُ عَلَى أَلْفَاظٍ أَوْ تَعَابِيرَ بِأَنَّهَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا الْخِيَارُ، سَوَاءٌ كَانَ ارْتِبَاطُ هَذِهِ التَّعَابِيرِ بِنُشُوءِ الْخِيَارِ مُنْبَعِثًا عَنِ الاِسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ مُبَاشَرَةً أَوِ الْعُرْفِ. فَمِمَّا اعْتُبِرَ مِنَ الأْلْفَاظِ الْمُتَوَاطَأِ عَلَى أَنَّهَا يُرَادُ بِهَا الْخِيَارُ، تَبَعًا لِلاِسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ، عِبَارَةُ «لاَ خِلاَبَةَ» شَرِيطَةَ عِلْمِ الْعَاقِدَيْنِ بِمَعْنَاهَا .
قَالَ النَّوَوِيُّ: اشْتُهِرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ قَوْلَهُ: «لاَ خِلاَبَةَ» عِبَارَةٌ عَنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَهُمَا عَالِمَانِ بِمَعْنَاهَا كَانَ كَالتَّصْرِيحِ بِالاِشْتِرَاطِ، وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ قَطْعًا، فَإِنْ عَلِمَهُ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَابْنُ الْقَطَّانِ وَآخَرُونَ (أَصَحُّهُمَا) لاَ يَثْبُتُ، (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) يَثْبُتُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، بَلْ غَلَطٌ، لأِنَّ مُعْظَمَ النَّاسِ لاَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ عَارِفٍ بِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ الْعَقْدُ مَعَ شَرْطِ الاِسْتِئْمَارِ خِلاَلَ وَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ عَلَى أَنْ أَسْتَأْمِرَ فُلاَنًا، وَحَدَّدَ لِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا، فَهُوَ خِيَارٌ صَحِيحٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ. وَقَالُوا: إِنَّ لَهُ الْفَسْخَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ «لأِنَّ ا جَعَلْنَا ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْخِيَارِ» وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ قَبْلَ الاِسْتِئْمَارِ، وَالأْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ .
هَذَا إِذَا ضُبِطَ شَرْطُ الاِسْتِئْمَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُضْبَطْ، فَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ فِي الأْصَحِّ أَنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ. أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ، لاَ يَصِحُّ عَلَى الرَّاجِحِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَادَةَ تَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالْخِيَارِ. قَالَ الزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: «لَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِاشْتِرَاطِهِ (أَيْ خِيَارِ الشَّرْطِ) كَانَ خِيَارًا، لأِنَّ هَا - أَيِ الْعَادَةَ - كَالشَّرْطِ صَرَاحَةً».
فَإِذَا تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ مِنَ السِّلَعِ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِيهَا بِلاَ شَرْطٍ .
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الأْخْرَسَ تَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ الصِّيغَةِ، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ أَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَامَ وَلِيُّهُ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ مَقَامَهُ .
شَرَائِطُ قِيَامِ الْخِيَارِ:
6 - لاَ يَقُومُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِمُجَرَّدِ حُدُوثِ الاِشْتِرَاطِ فِي الْعَقْدِ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ لَهُ، فَإِذَا اكْتَمَلَتْ تِلْكَ الشَّرَائِطُ غَدَا خِيَارُ الشَّرْطِ قَائِمًا مَرْعِيَّ الاِعْتِبَارِ، وَإِذَا اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْهَا اعْتُبِرَ الْعَقْدُ لاَزِمًا بِالرَّغْمِ مِنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ. غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِطَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَهِيَ مُتَفَاوِتَةُ الْعَدَدِ بَيْنَ مَذْهَبٍ وَآخَرَ، وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُهَا:
أَوَّلاً: شَرِيطَةُ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ:
7 - الْمُرَادُ مِنَ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ أَنْ يَحْصُلَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ مَعَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ أَوْ لاَحِقًا بِهِ، لاَ أَنْ يَسْبِقَ الاِشْتِرَاطُ الْعَقْدَ. فَلاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ قَبْلَ إِجْرَاءِ الْعَقْدِ، إِذِ الْخِيَارُ كَالصِّفَةِ لِلْعَقْدِ فَلاَ يُذْكَرُ قَبْلَ الْمَوْصُوفِ. وَبَيَانُ الصُّورَةِ الْمُحْتَرَزِ مِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْعَتَّابِيَّةِ أَنَّهُ «لَوْ قَالَ: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي نَعْقِدُهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ».
وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ مَا لَوْ أُلْحِقَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَئِذٍ، بِتَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَذَلِكَ فِي حُكْمِ حُصُولِهِ فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ أَوْ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْمُلْتَزَمَيْنِ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ .
ذَهَبَ إِلَى تِلْكَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُقَارَنَةِ وَاللَّحَاقِ الْحَنَفِيَّةُ. وَمِنْ مُسْتَنَدِهِمُ الْقِيَاسُ لِهَذَا عَلَى مَا فِي النِّكَاحِ مِنْ جَوَازِ الاِتِّفَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ، كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ أَوِ الْحَطِّ مِنْهُ، وَدَلِيلُ هَذَا الْحُكْمِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ يَجُوزُ إِلْحَاقُ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالْبَيْعِ، لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَوْ بِأَيَّامٍ: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ صَحَّ بِالإْجْمَاعِ - أَيْ إِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ - ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ جَارٍ مَجْرَى إِدْخَالِهِ فِي الْعَقْدِ تَمَامًا مِنْ حَيْثُ نَوْعُ الْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ وَمُدَّتُهُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْحَقُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِالْعَقْدِ بَعْدَهُ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي مَجْلِسِهِ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ الْمَانِعِ مِنْ تَأَخُّرِ الْخِيَارِ عَنِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَجْلِسِ أَصْبَحَ لاَزِمًا، فَلَمْ يَصِرْ جَائِزًا بِقَوْلِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ . وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ إِلْحَاقَ الزِّيَادَةِ (فِي الأْجْرَةِ) وَالشُّرُوطِ بِالْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ لاَ يَصِحُّ.
وَبَيْن هَذَيْنِ الاِتِّجَاهَيْنِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ اشْتَرَكَ مَعَ الْمَذْهَبِ الأْوَّلِ فِي النَّتِيجَةِ وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي تَحْدِيدِ طَبِيعَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ عَلَى النِّيَّاتِ، سَوَاءٌ كَانَ إِلْحَاقُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ كِلَيْهِمَا، فَيَصِحُّ الاِشْتِرَاطُ اللاَّحِقُ، وَيَلْزَمُ مَنِ الْتَزَمَهُ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ خَالِيًا مِنْهُ، لَكِنَّهُ - وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ عَنِ الْمَذْهَبِ الأْوَّلِ - بِمَثَابَةِ بَيْعٍ مُؤْتَنَفٍ، بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ.. صَارَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بَائِعًا.. كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ اللاَّحِقَ لِلْعُقُودِ لَيْسَ كَالْوَاقِعِ فِيهَا، فَمَا أَصَابَ السِّلْعَةَ فِي أَيَّامِ الْخِيَارِ فَهُوَ مِنَ الْمُشْتَرِي.
وَأَشَارَ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُهُ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ إِلْحَاقِ الْخِيَارِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ انْتِقَادِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَمَّا إِلْحَاقُهُ قَبْلَ انْتِقَادِهِ فَلاَ يُسَاوِيهِ فِي الْجَوَازِ لِمَا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ (فَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ) وَأَصْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مَنْعُهُ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي خِلاَلِ مُنَاقَشَةِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ «جَعْلَ الْخِيَارِ لأِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ عَقْدًا حَقِيقَةً، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَطْيِيبُ نَفْسِ مَنْ جُعِلَ لَهُ الْخِيَارُ لاَ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ». قَالَ الْخَرَشِيُّ وَالدُّسُوقِيُّ: لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ الأْوَّلُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، أَيِ اقْتِصَارُ الْجَوَازِ عَلَى مَا لَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا .
ثَانِيًا: شَرِيطَةُ التَّوْقِيتِ أَوْ مَعْلُومِيَّةُ الْمُدَّةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَضْبُوطَةٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ خِيَارٍ غَيْرِ مُؤَقَّتٍ أَصْلاً، وَهُوَ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ فِيهِ بِالتَّفْصِيلِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالأْصْلُ فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ، فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الأْصْلِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، إِلاَّ أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا (بِخِلاَفِ الْقِيَاسِ) بِالنَّصِّ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .
وَالْحِكْمَةُ فِي تَوْقِيتِ الْمُدَّةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْخِيَارُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُعِ، وَهُوَ مِمَّا تَتَحَامَاهُ الشَّرِيعَةُ فِي أَحْكَامِهَا.
9 - وَلِلْمُدَّةِ الْجَائِزِ ذِكْرُهَا حَدَّانِ: حَدٌّ أَدْنَى، وَحَدٌّ أَقْصَى.
أَمَّا الْحَدُّ الأْدْنَى فَلاَ تَوْقِيتَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مَحْدُودٌ بِحَيْثُ لاَ يَقِلُّ عَنْهُ فَيَجُوزُ مَهْمَا قَلَّ، لأِنَّ جَوَازَ الأْكْثَرِ يَدُلُّ بِالأْوْلَوِيَّةِ عَلَى جَوَازِ الأْقَلِّ، وَمِنْ هُنَا نَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ «وَلَوْ لَحْظَةً» .
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: (أَقَلُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ). وَنَحْوُهُ نُصُوصُ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ يُعْرَفُ .
وَأَمَّا الْحَدُّ الأْقْصَى لِلْمُدَّةِ الْجَائِزَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، يُمْكِنُ حَصْرُهُ فِي الاِتِّجَاهَاتِ الْفِقْهِيَّةِ التَّالِيَةِ: التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا - التَّفْوِيضُ لَهُمَا فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ - التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.
الاِتِّجَاهُ الأْوَّلُ - التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا:
10 - مُقْتَضَى هَذَا الاِتِّجَاهِ جَوَازُ اتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى أَيِّ مُدَّةٍ مَهْمَا طَالَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، لَكِنَّهُ قَالَ: لاَ يُعْجِبُنِي الطَّوِيلُ .
فَعِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، لِمَا فِي النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ مِنَ الإْطْلاَقِ وَعَدَمِ التَّفْصِيلِ، وَلأِنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ يَعْتَمِدُ الشَّرْطَ مِنَ الْعَاقِدِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيرِهِ. أَوْ يُقَالُ: هُوَ مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ فَتَقْدِيرُهَا إِلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَهُنَاكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ تُشْبِهُ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِّ الأْدْنَى لِلْمُدَّةِ لَكِنَّهَا تَسْتَحِقُّ الإْشَارَةَ إِلَيْهَا، لِمَا فِي بَحْثِهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِأَنْ لاَ يُنَافِيَ الْعَقْدَ وَيُفْقِدَهُ غَايَتَهُ. تِلْكَ الصُّورَةُ مَا لَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ مُدَّةً طَوِيلَةً خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ «كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَمِائَةِ سَنَةٍ» فَقَدِ اسْتَوْجَهَ صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى أَنْ لاَ يَصِحَّ لإِفْضَائِهِ - عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ وَنَحْوِهَا - إِلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَهَذَا الْمَنْعُ مُنَافٍ لِلْعَقْدِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ إِرْفَاقًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي - التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ:
11 - وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحْدَهُ. فَيَتَحَدَّدُ أَقْصَى مُدَّةِ الْخِيَارِ الْجَائِزَةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، نَظَرًا لاِخْتِلاَفِ الْمَبِيعَاتِ، فَلِلْعَاقِدِ تَعْيِينُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَشَاءُ عَلَى أَنْ لاَ يُجَاوِزَ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ فِي كُلِّ نَوْعٍ .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا عُمْدَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْخِيَارِ هُوَ اخْتِبَارُ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْدُودًا بِزَمَانِ إِمْكَانِ اخْتِبَارِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ كُلِّ مَبِيعٍ .
وَبِمَا أَنَّ لِهَذَا الاِتِّجَاهِ الْفِقْهِيِّ تَقْدِيرَاتٍ مُحَدَّدَةً بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فَقَدْ جَرَى تَصْنِيفُهَا لَدَى الْمَالِكِيَّةِ إِلَى زُمَرٍ:
الْعَقَارُ:
12 - وَأَقْصَى مُدَّتِهِ شَهْرٌ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ هُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ، فَأَقْصَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ مَدُّ الْخِيَارِ إِلَيْهَا فِي الْعَقَارِ (36) يَوْمًا. وَهُنَاكَ الْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ بِزَمَنِ الْخِيَارِ وَهُمَا لِلتَّمْكِينِ مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ حِينَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ (الشَّهْرِ وَالأْيَّامِ السِّتَّةِ) بِيَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ يُرِيدُ الْفَسْخَ، وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَلْزَمَ الْمَبِيعُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لَهُ أَوْ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ. فَالْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ هُمَا لِهَذَا الْغَرَضِ (دَفْعِ اللُّزُومِ عَنِ الْمُشْتَرِي دُونَ إِرَادَتِهِ). أَمَّا زَمَنُ الْخِيَارِ لِلْعَقَارِ فَهُوَ شَهْرٌ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ.
الدَّوَابُّ:
13 - وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ فِيهَا بِحَسَبِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخِيَارِ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِمَعْرِفَةِ قُوَّتِهَا وَأَكْلِهَا وَسِعْرِهَا فَأَقْصَى مُدَّتِهِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَإِنْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ مُتَضَمِّنًا أَنَّهَا لِلاِخْتِبَارِ فِي الْبَلَدِ نَفْسِهِ فَالْمُدَّةُ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَشَبَهُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ خَارِجَهُ فَأَقْصَى الْمُدَّةِ بَرِيدٌ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبَرِيدَانِ عِنْدَ أَشْهَبَ. وَقَدْ أُلْحِقَ بِالثَّلاَثَةِ الأْيَّامِ يَوْمٌ وَاحِدٌ لِتَمْكِينِ الْمُشْتَرِي مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ، كَمَا سَلَفَ .
بَقِيَّةُ الأْشْيَاءِ:
14 - وَتَشْمَلُ: الثِّيَابَ، وَالْعُرُوضَ، وَالْمِثْلِيَّاتِ.
وَأَقْصَى الْمُدَّةِ لَهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ وَيَلْحَقُ بِهَا يَوْمٌ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْخَرَشِيُّ لَفْظَ (الْمِثْلِيَّاتِ) عَلَى كُلِّ مَا عَدَا (الرَّقِيقِ وَالْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ) وَبِالرَّغْمِ مِنْ شُمُولِ الْمِثْلِيَّاتِ لِلْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ إِلاَّ أَنَّ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ حُكْمًا خَاصًّا بِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ نَظَرًا لِطَبِيعَتِهِمَا الْخَاصَّةِ مِنْ تَسَارُعِ التَّلَفِ إِلَيْهِمَا، فَالْخُضَرُ وَالْفَوَاكِهُ بِخَاصَّةٍ أَمَدُ الْخِيَارِ فِيهِمَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْمُدَّةُ الَّتِي لاَ تَتَغَيَّرُ فِيهَا .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ - التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ:
15 - وَهَذَا التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا مَهْمَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، مَعَ الْمَنْعِ مِنْ مُجَاوَزَتِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ .
وَقَدِ احْتَجَّ لِهَذَا التَّحْدِيدِ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ لإِثْبَاتِ الْخِيَارِ فِيهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ .
وَالْبَيَانُ الدَّقِيقُ لِمُسْتَنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَحْدِيدِ الثَّلاَثَةِ الأْيَّامِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ، فَقَدْ قَالَ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الإْمَامِ: لاَ يَكُونُ الْخِيَارُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ: إِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» . فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ الْخِيَارَ كُلَّهُ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم .
وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: (الْخِيَارُ جَائِزٌ شَهْرًا كَانَ أَوْ سَنَةً وَبِهِ نَأْخُذُ ). وَنَحْوُهُ مُسْتَنَدُ الشَّافِعِيِّ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الأْصْلُ فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا، وَلَكِنْ لَمَّا شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فِي الْمُصَرَّاةِ خِيَارَ ثَلاَثٍ فِي الْبَيْعِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ خِيَارَ ثَلاَثٍ فِيمَا ابْتَاعَ، انْتَهَيْنَا إِلَى مَا قَالَ صلي الله عليه وسلم .
كَمَا احْتَجُّوا لَهُ مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْخِيَارَ مُنَافٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَقَدْ جَازَ لِلْحَاجَةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْهُ، وَآخِرُ الْقِلَّةِ ثَلاَثٌ، وَاحْتَجَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ بَعْدَمَا أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ حِبَّانَ .
الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ:
16 - إِذَا زَادَتْ مُدَّةُ خِيَارِ الشَّرْطَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا لَدَى هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِ بِالتَّحْدِيدِ بِهَا، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، ذَهَابًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ لاَ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ فَقَطْ، بَلْ فِي الْمَجْلِسِ أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ، لأِنَّ الْمَجْلِسَ ثَبَتَ لِعَقْدٍ صَحِيحٍ، لاَ لِفَاسِدٍ، لِوُقُوعِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَثْبُتُ دَائِمًا.
غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ شَرْطِ الْخِيَارِ الزَّائِدِ عَنِ الثَّلاَثِ - أَوْ إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ - يُصَحِّحُ الْعَقْدَ، وَلَوْ حَصَلَ ذَلِكَ الإْسْقَاطُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَمْضِ الأْيَّامُ الثَّلاَثَةُ. وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ زُفَرُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزَّائِدِ لاَ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ لأِنَّ الْبَقَاءَ عَلَى حَسَبِ الثُّبُوتِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الصُّوَرِ الْمُفْسِدَةِ: - اشْتِرَاطَ مُشَاوَرَةِ مَنْ لاَ يَعْلَمُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُدَّةِ بِأَمَدٍ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْعَقَارِ لِمُدَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَعَ أَنَّ الْمُدَّةَ الْمُحَدَّدَةَ لِلْعَقَارِ أَقْصَاهَا ثَمَانِيَةٌ وَثَلاَثُونَ يَوْمًا.
- اشْتِرَاطَ مُدَّةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مُدَّةِ تِلْكَ السِّلْعَةِ بِكَثِيرٍ، أَمَّا لَوْ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ فَلاَ يَضُرُّ.
الْخِيَارُ الْمُطْلَقُ:
17 - فِي الْخِيَارِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْمُدَّةِ تَتَّجِهُ الْمَذَاهِبُ إِلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ: بُطْلاَنِ الْعَقْدِ أَوْ فَسَادِهِ - بُطْلاَنِ الشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ - صِحَّةِ الْعَقْدِ وَتَعْدِيلِ الشَّرْطِ - صِحَّةِ الْعَقْدِ وَبَقَاءِ الشَّرْطِ بِحَالِهِ.
أ - بُطْلاَنُ الْعَقْدِ أَوْ فَسَادُهُ، فَالْبُطْلاَنُ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَسَادِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا هُنَا بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ أَوِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْحَصَادِ مَثَلاً، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْخِيَارِ الْمُفْسِدِ لَوْ أَبْطَلَ خِيَارَهُ، أَوْ بَيَّنَهُ، أَوْ سَقَطَ بِسَبَبٍ مَا وَلَزِمَ الْبَيْعُ فِي الأْيَّامِ الثَّلاَثَةِ التَّالِيَةِ لِلْعَقْدِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ (خِلاَفًا لأِبِي حَنِيفَةَ الْمُشْتَرِطِ حُصُولَ ذَلِكَ قَبْلَ مُضِيِّ الأْيَّامِ الثَّلاَثَةِ) انْقَلَبَ الْعَقْدُ صَحِيحًا عِنْدَ الْجَمِيعِ - بَلْ لَوْ بَعْدَ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ - لِحَذْفِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِالْعَقْدِ لأِنَّهُمَا يُجِيزَانِ الزِّيَادَةَ عَنِ الثَّلاَثَةِ .
ب - بُطْلاَنُ الشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لأِحْمَدَ وَمَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى
ج - صِحَّةُ الْعَقْدِ وَتَعْدِيلُ الشَّرْطِ، فَالْخِيَارُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمُؤَبَّدُ هُنَا يُخَوِّلُ الْقَاضِي تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي الْعَادَةِ لاِخْتِبَارِ مِثْلِ السِّلْعَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْعَقْدِ؛ لأِنَّ الْخِيَارَ مُقَيَّدٌ فِي الْعَادَةِ، فَإِذَا أَطْلَقَا حُمِلَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ .
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ إِنْ أَطْلَقَا الْخِيَارَ وَلَمْ يُوَقِّتَاهُ بِمُدَّةٍ تَوَجَّهَ أَنْ يَثْبُتَ ثَلاَثًا، لِخَبَرِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ .
د - صِحَّةُ الْعَقْدِ وَبَقَاءُ الشَّرْطِ بِحَالِهِ: فَيَبْقَى الْخِيَارُ مُطْلَقًا أَبَدًا كَمَا نَشَأَ حَتَّى يَصْدُرَ مَا يُسْقِطُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَقَوْلٌ لأِحْمَدَ .
تَأْبِيدُ الْخِيَارِ:
18 - مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ فِي الْبَيْعِ بِأَنْ قَالَ (أَبَدًا) أَوْ (أَيَّامًا) .
التَّوْقِيتُ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ:
19 - مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ سَوَاءٌ كَانَتْ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً، كَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَجِيءِ الْمَطَرِ، وَقُدُومِ فُلاَنٍ، وَمَوْتِ فُلاَنٍ، وَوَضْعِ الْحَامِلِ وَنَحْوِهِ. أَوْ جَهَالَةً مُتَقَارِبَةً، كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَقُدُومِ الْحَاجِّ .
ثَالِثًا - شَرِيطَةُ الاِتِّصَالِ، وَالْمُوَالاَةِ
20 - الْمُرَادُ بِالاِتِّصَالِ أَنْ تَبْدَأَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مِنْ فَوْرِ إِبْرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ لاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَرَاخَى عَنْهُ، فَلَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ الْخِيَارَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مَثَلاً مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، أَوْ تَبْدَأُ مِنَ الْغَدِ، أَوْ تَبْدَأُ مَتَى شَاءَ.. أَوْ شَرَطَا خِيَارَ الْغَدِ دُونَ الْيَوْمِ، فَسَدَ الْعَقْدُ لِمُنَافَاتِهِ لِمُقْتَضَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمُقْتَضَى هُنَا: حُصُولُ آثَارِهِ مُبَاشَرَةً. هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: (وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مُتَّصِلَةً بِالْعَقْدِ. لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ خِيَارًا مُتَرَاخِيًا عَنِ الْعَقْدِ) لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ لاَ يُبْطِلُونَ هَذَا الْعَقْدَ لأِنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ نَظَرًا لِذَهَابِهِمْ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ، وَالْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ مُنْعَقِدٌ وَيَحْتَمِلُ بَعْضُهُ التَّصْحِيحَ، وَسَبِيلُ ذَلِكَ هُنَا اعْتِبَارُ الْمُدَّةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ مَبْدَأِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ مَشْمُولَةً بِالشَّرْطِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ اشْتِرَاطَ خِيَارِ أَيَّامٍ غَيْرِ مُتَّصِلَةٍ بِالْعَقْدِ، مِثْلُ مَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ وَاشْتَرَطَ خِيَارَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ رَمَضَانَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ (الْيَوْمُ الآْخِرُ مِنْ رَمَضَانَ وَالْيَوْمَانِ مِمَّا بَعْدَهُ).
وَهَكَذَا يُحْمَلُ كَلاَمُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْمُدَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَمَا بَعْدَهَا. أَمَّا إِذَا كَانَ الاِشْتِرَاطُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ بِإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ وَبِإِرَادَةِ الْقَاضِي، وَمِثَالُهُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - مَا لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ فِي رَمَضَانَ، وَلَهُ كَذَا يَوْمًا مِمَّا بَعْدَهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ .
21 - وَيَتْبَعُ شَرِيطَةَ الاِتِّصَالِ شَرِيطَةٌ أُخْرَى يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهَا «الْمُوَالاَةَ» لأِنَّ الْمُرَادَ بِهَا: تَتَابُعُ أَجْزَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ. فَلَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ لِمُدَّةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّهُ يَوْمًا يَثْبُتُ وَيَوْمًا لاَ يَثْبُتُ فَفِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ -: الصِّحَّةُ فِي الْيَوْمِ الأْوَّلِ ، لإِمْكَانِهِ، وَالْبُطْلاَنُ فِيمَا بَعْدَهُ، لأِنَّ الْعَقْدَ إِذَا لَزِمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يَعُدْ إِلَى عَدَمِ اللُّزُومِ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ: (احْتِمَالُ) بُطْلاَنِ الشَّرْطِ كُلِّهِ، لأِنَّهُ شَرْطٌ وَاحِدٌ تَنَاوَلَ الْخِيَارَ فِي أَيَّامٍ، فَإِذَا فَسَدَ فِي بَعْضِهِ فَسَدَ جَمِيعُهُ .
رَابِعًا - تَعْيِينُ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:
22 - مُسْتَحِقُّ الْخِيَارِ أَوْ صَاحِبُ الْخِيَارِ: هُوَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي يَكُونُ إِلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْخِيَارِ وَمُمَارَسَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ مُشْتَرِطَهُ أَوْ خُوِّلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ أَمْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَلاَ يَصِحُّ تَطَرُّقُ الْجَهَالَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ، فَلَوِ اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لأِحَدِهِمَا لاَ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنَا هَلْ هُوَ الْبَائِعُ أَمِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِشَخْصٍ مَا يُعَيِّنُهُ أَحَدُهُمَا فِيمَا بَعْدُ، أَوْ لِمَنْ يَشَاءُ أَحَدُهُمَا، فَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ لِلنِّزَاعِ.
وَلِذَا صَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، لأِنَّهُ مَجْهُولٌ وَلأِنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ. لِذَا كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ تَعْيِينًا مُشَخَّصًا أَهُوَ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُهُ بِالذَّاتِ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْعَقْدِ، وَعَدَمُ الاِكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الصِّفَةِ (مَثَلاً) كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لأِحَدِ التُّجَّارِ أَوِ الْخُبَرَاءِ دُونَ تَحْدِيدٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: (لَوْ يُشْرَطُ الْخِيَارُ لأِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلاَنِ، الأْصَحُّ: الصِّحَّةُ) .
مَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ:
23 - خِيَارُ الشَّرْطِ لاَ يَثْبُتُ فِي غَيْرِ الْعُقُودِ، وَالْعُقُودُ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا وُقُوعُ خِيَارِ الشَّرْطِ هِيَ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ الْقَابِلَةُ لِلْفَسْخِ، لأِنَّ فَائِدَتَهُ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِيهَا فَقَطْ. أَمَّا الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ فَهِيَ بِمَا تَتَّصِفُ بِهِ مِنْ طَبِيعَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ لاَ فَائِدَةَ لاِشْتِرَاطِ خِيَارٍ فِيهَا. وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لاَ تَقْبَلُ الْفَسْخَ فَيَتَعَذَّرُ قِيَامُ الْخِيَارِ فِيهَا، لأِنَّهُ يُنَاقِضُ طَبِيعَتَهَا.
وَالْبَيْعُ هُوَ الْمَجَالُ الأْسَاسِيُّ لِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَجَرَيَانُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ اتِّفَاقِيٌّ، لأِنَّهُ هُوَ الْعَقْدُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ أَخْبَارُ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالْبَيْعُ عَقْدٌ لاَزِمٌ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ (بِطَرِيقِ الإْقَالَةِ) فَهُوَ يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ. بَلْ يَدْخُلُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَمَا هُوَ نَصُّ الْهِدَايَةِ لِلْمَرْغِينَانِيِّ، كَمَا لاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْبَيْعِ بَيْعَ مُسَاوَمَةٍ، أَوْ بَيْعَ أَمَانَةٍ كَالْمُرَابَحَةِ وَأَخَوَاتِهَا .
أَمَّا الْمُسْتَثْنَيَاتُ مِنَ الْبَيْعِ فَهِيَ: السَّلَمُ، وَالصَّرْفُ، وَبَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِقَوْلِهِ: كُلُّ بَيْعٍ قَبْضُ عِوَضِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ . وَهِيَ عُقُودٌ يُبْطِلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ إِسْقَاطُهُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ .
وَقَدْ نَبَّهَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ مُخِلٌّ بِالضَّابِطِ، وَهُوَ ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْدِ اللاَّزِمِ الْمُحْتَمَلِ الْفَسْخَ، فَهُمَا -أَيِ السَّلَمُ وَالصَّرْفُ- كَذَلِكَ .
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ فِي السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ قَصِيرٍ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (سَلَمٌ)، (صَرْفٌ).
وَيَجْرِي خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الإْجَارَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَيَّدُوا الْخِيَارَ بِالإْجَارَةِ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ، أَمَّا الإْجَارَةُ الْمُعَيَّنَةُ فَيَدْخُلُهَا الْخِيَارُ إِذَا كَانَتْ لِمُدَّةٍ غَيْرِ تَالِيَةٍ لِلْعَقْدِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ لِمُدَّةٍ تَبْدَأُ مِنْ فَوْرِ الْعَقْدِ فَلاَ يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا، لأِنَّهُ يُفْضِي إِلَى فَوَاتِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ، أَوْ إِلَى اسْتِيفَائِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَكِلاَهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي وَجْهٍ لِلْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ فِي الْمُدَّةِ التَّالِيَةِ لِلْعَقْدِ أَيْضًا، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِقِيمَةِ الْمَنَافِعِ .
وَالْحَوَالَةُ: اخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأْوَّلُ: تَقْبَلُهُ، وَعَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلْحَنَابِلَةِ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ - فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْحَوَالَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْمُحَالِ، وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ - وَهُمَا اللَّذَانِ يَجِبُ رِضَاهُمَا فِي عَقْدِهَا - أَمَّا الْمُحِيلُ - وَرِضَاهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الأْصَحِّ - فَلَيْسَ لَهُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ أَصَالَةً أَيْ بِاعْتِبَارِهِ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِنِ اشْتَرَطَ لَهُ كَمَا يَشْتَرِطُ الأْجْنَبِيُّ مِنْ قِبَلِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، بِأَنِ اشْتَرَطَهُ لَهُ الْمُحَالُ أَوِ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ، وَلَكِنْ تُطَبَّقُ أَحْكَامُ الاِشْتِرَاطِ لأِجْنَبِيٍّ، وَهِيَ ثُبُوتُهُ لَهُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ فَيَكُونُ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِطِ. وَعَلَّلَ ابْنُ قُدَامَةَ قَبُولَ الْحَوَالَةِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ بِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يُقْصَدُ بِهَا الْعِوَضُ.
الثَّانِي: عَدَمُ قَبُولِ الْحَوَالَةِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأِنَّ عَقْدَ الْحَوَالَةِ لَمْ يُبْنَ عَلَى الْمُغَابَنَةِ. وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ: اخْتَلَفَ الرَّأْيُ فِيهَا بِحَسَبِ النَّظَرِ إِلَيْهَا هَلْ هِيَ بَيْعٌ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَمْ هِيَ تَمْيِيزُ حُقُوقٍ كَمَا يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُفَادُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ. وَمَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الشَّرْطِ فِيهَا مِنَ الْحَنَابِلَةِ احْتَجَّ بِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَمْ يُشْرَعْ خَاصًّا بِالْبَيْعِ، بَلْ هُوَ لِلتَّرَوِّي وَتَبَيُّنِ أَرْشَدِ الأْمْرَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ.
وَالْقِسْمَةُ أَنْوَاعٌ: قِسْمَةُ الأْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَهِيَ قِسْمَةُ تَرَاضٍ لاَ إِجْبَارَ فِيهَا - وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، وَهِيَ تَقْبَلُ الإْجْبَارَ وَلاَ يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ - وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، كَالْبَقَر وَالْغَنَمِ، أَوِ الثِّيَابُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ تَقْبَلُ الإْجْبَارَ وَيَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ .
وَالْكَفَالَةُ: يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَلِلْكَفَالَةِ خِصِّيصَةٌ فِي بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ حَيْثُ التَّوْقِيتُ إِذْ يَجُوزُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لِمَذْهَبِهِ فِي اشْتِرَاطِ التَّحْدِيدِ بِالثَّلاَثِ، لأِنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ .
وَالْوَقْفُ: يَجْرِي فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا شَرَطَ فِي الْوَقْفِ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ فَاسِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ .
وَتَفْصِيلُهُ فِي (وَقْفٌ).
اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ:
24 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ لأِيِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِكِلَيْهِمَا (فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً: لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي). وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ مِنْ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ لِنَفْسِهِ، (وَمُقْتَضَى هَذَا النَّقْلِ عَنْهُمَا أَنَّ مَجَالَ الْخِيَارِ عِنْدَهُمَا هُوَ عَقْدُ الْبَيْعِ فَقَطْ) وَعِنْدَ هَذَيْنِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْبَائِعُ فَسَدَ الْعَقْدُ .
وَفِي اشْتِرَاطِهِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا لاَ فَرْقَ أَنْ يَنْشَأَ الاِشْتِرَاطُ مِنَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ أَوْ مِنْهُ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَحْصُلُ كَثِيرًا، إِذْ يَجْعَلُ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، كَمَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ لَكَ ذَا الشَّيْءَ عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ، فَإِذَا صَدَرَ الْقَبُولُ مِنَ الْمُشْتَرِي كَانَ الْخِيَارُ لَهُ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِمَنْ شُرِطَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ الْعَاقِدِ الْمُشْتَرِطِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ أَيْضًا وَرَضِيَ الآْخَرُ .
اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلأْجْنَبِيِّ عَنِ الْعَقْدِ:
25 - يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لأِجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الاِشْتِرَاطُ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الأْجْنَبِيُّ الْمُشْتَرَطُ لَهُ الْخِيَارُ شَخْصًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا مِنَ الْعَاقِدَيْنِ كِلَيْهِمَا أَوْ كَانَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا شَخْصٌ غَيْرُ مَنِ اشْتَرَطَهُ الآْخَرُ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى نَصٍّ عَنْ غَيْرِهِمْ، لأِنَّ دَلاَئِلَ الْجَوَازِ تَشْمَلُهُ.
وَأَصْلُ هَذَا الْحُكْمِ (صِحَّةُ الاِشْتِرَاطِ لأِجْنَبِيٍّ) مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَجْعُولُ لَهُ الْخِيَارُ مِمَّنْ يَجُوزُ قَوْلُهُ - لاَ كَالطِّفْلِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ - وَإِلاَّ بَطَلَ الْخِيَارُ .
وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الاِسْتِحْسَانُ، فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، وَلِذَا خَالَفَ فِيهِ زُفَرُ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ مُوَاجِبِ الْعَقْدِ وَأَحْكَامِهِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ بِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالاِسْتِحْسَانِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، لأِنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً ظَاهِرَةً حِينَ يَكُونُ الْمُتَعَاقِدُ قَلِيلَ الْخِبْرَةِ بِالأْشْيَاءِ يَخْشَى الْوُقُوعُ فِي الْغَبْنِ فَيَلْجَأُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْصَرُ مِنْهُ وَيُفَوِّضُ إِلَيْهِ الْخِيَارَ. وَفَضْلاً عَنْ هَذَا أَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ لَيْسَ أَصَالَةً بَلْ هُوَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الْعَاقِدِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُ - عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ - فَيُقَدَّرُ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدِ اقْتِضَاءً، ثُمَّ يَجْعَلُ الأَْجْنَبِيَّ نَائِبًا عَنْهُ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِدِ .
فَإِذَا جَعَلَ الْخِيَارَ لأِجْنَبِيٍّ، فَمَا هِيَ صِفَةُ هَذَا الْجُعْلِ؟ وَمَا أَثَرُهُ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وِجْهَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ تَوْكِيلٍ لِغَيْرِهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ، فَالْخِيَارُ لِلْعَاقِدِ وَالأْجْنَبِيِّ مَعًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. بَلْ إِنَّ الْحَنَابِلَةَ جَعَلُوا الْخِيَارَ لَهُمَا أَيْضًا فِيمَا لَوْ قَصَرَ الْعَاقِدُ الْخِيَارَ عَلَى الأْجْنَبِيِّ وَقَالَ: هُوَ لَهُ دُونِي، وَذَهَبَ أَبُو يَعْلَى مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ لاَ يَصِحُّ .
الْوِجْهَةُ الأْخْرَى: أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلأْجْنَبِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ جَعْلَ الْخِيَارِ لِلأْجْنَبِيِّ تَفْوِيضٌ - أَوْ تَحْكِيمٌ - لاَ تَوْكِيلٌ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ.
شَرْطُ الاِسْتِئْمَارِ (أَوِ الْمُؤَامَرَةِ) أَوِ الْمَشُورَةِ:
26 - مِمَّا يَتَّصِلُ بِمَعْرِفَةِ صَاحِبِ الْخِيَارِ قَضِيَّةُ اشْتِرَاطِ مَشُورَةِ فُلاَنٍ مِنَ النَّاسِ، أَوِ اسْتِئْمَارِهِ: أَيْ مَعْرِفَةُ أَمْرِهِ وَامْتِثَالُهُ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُسْتَأْمِرِ وَالْمُسْتَأْمَرِ الاِسْتِقْلاَلَ فِي الرَّدِّ وَالإْمْضَاءِ (بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ وَرِضَاهُ، فَلاَ اسْتِقْلاَلَ لَهُ دُونَ مَنْ شَرَطَ لَهُ، وَهَذَا فِي الْمَشُورَةِ الْمُطْلَقَةِ، أَمَّا إِذَا قَالَ عَلَى مَشُورَتِهِ إِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ رَدَّ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ هَاهُنَا تَفْصِيلٌ بِحَسَبِ صِيغَةِ جَعْلِ الْخِيَارِ لِلأْجْنَبِيِّ، فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْمَشُورَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْخِيَارِ أَوِ الرِّضَا.
فَإِذَا قَالَ: عَلَى مَشُورَةِ فُلاَنٍ، فَإِنَّ لِلْعَاقِدِ - بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا - أَنْ يَسْتَبِدَّ بِإِبْرَامِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ دُونَ أَنْ يَفْتَقِرَ ذَلِكَ إِلَى مَشُورَتِهِ. لأِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنَ الْمُشَاوِرَةِ الْمُوَافَقَةُ، وَمُشْتَرِطُ الْمَشُورَةِ اشْتَرَطَ مَا يُقَوِّي بِهِ نَظَرَهُ.
أَمَّا إِذَا قَالَ: عَلَى خِيَارِ فُلاَنٍ أَوْ رِضَاهُ، فَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مِنْهَا أَنَّهُ تَفْوِيضٌ فَلَيْسَ لِلْعَاقِدِ - بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا - أَنْ يَسْتَقِلَّ بِإِبْرَامِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ، ذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ - أَوِ الرِّضَا - لِلأْجْنَبِيِّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ تَوْكِيلاً بَلْ هُوَ تَفْوِيضٌ، حَيْثُ إِنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِغَيْرِهِ مُعْرِضٌ عَنْ نَظَرِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَلْحَقُوا بِلَفْظِ الْخِيَارِ أَوِ الرِّضَا لَفْظَ الْمَشُورَةِ - السَّابِقَ ذِكْرُهُ - إِذَا جَاءَ مُقَيَّدًا بِمَا يَدْنُو بِهِ إِلَى هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: عَلَى مَشُورَةِ فُلاَنٍ إِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، فَحُكْمُ هَذَا كَالْخِيَارِ وَالرِّضَا . وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِاللَّفْظَيْنِ مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ أَلْفَاظٍ مُسْتَحْدَثَةٍ تُؤَدِّي الْمَعْنَى نَفْسَهُ كَالرَّغْبَةِ وَالرَّأْيِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذَا اتِّجَاهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَتَّى يَقُولَ: اسْتَأْمَرْتُهُ فَأَمَرَنِي بِالْفَسْخِ، وَالاِتِّجَاهُ الآْخَرُ - وَعَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ -: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ اسْتِئْمَارُهُ، وَأَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْمُثْبِتُونَ قَدْ جَاءَ بِقَصْدِ الاِحْتِيَاطِ لِئَلاَّ يَكُونَ كَاذِبًا. وَنَحْوُهُ مَا ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ (إِنْ أَخَذْتُ) عَلَى (إِنْ رَضِيتُ)، إِذْ قَدْ يَرْضَى، ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ، وَقَدْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ الرَّأْيَ الأْوَّلَ . وَلاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَنْ سَيُشَاوِرُهُ. أَمَّا لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ أُشَاوِرَ (كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا)، لَمْ يَكْفِ. قَالَ الأْذْرَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ يَكْفِي، وَهُوَ فِي هَذَا شَارِطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَفِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
النِّيَابَةُ فِي الْخِيَارِ:
27 - الْخِيَارُ يَثْبُتُ لِلْعَاقِدِ الْمُشْتَرِطِ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ مَهْمَا كَانَتْ صِفَةُ الْعَاقِدِ، فَسَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَمْ وَصِيًّا يَعْقِدُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوصَى عَلَيْهِ، أَمْ وَلِيًّا لِمَصْلَحَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، أَمْ كَانَ يَعْقِدُ بِالْوَكَالَةِ.
ذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي حَالِ الْوِلاَيَةِ أَوِ الْوِصَايَةِ هُوَ مِنْ بَابِ النَّظَرِ وَالرِّعَايَةِ لِلصَّغِيرِ فَذَلِكَ لَهُمَا. وَأَمَّا فِي الْوَكَالَةِ، فَلأِنَّ تَصَرُّفَهُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْعَقْدِ أَمْرًا مُطْلَقًا فَيَظَلُّ عَلَى إِطْلاَقِهِ، فَيَشْمَلُ الْعَقْدَ بِخِيَارٍ أَوْ بِدُونِهِ.
وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ أَوِ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ، يَمْلِكُ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي مُعَامَلاَتِ الشَّرِكَةِ بِمُقْتَضَى إِطْلاَقِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ.
وَهَذَا شَامِلٌ لِمَا لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ الَّذِي يُشَاطِرُهُ التَّعَاقُدَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا بِصِحَّتِهِ فِي الْوَكَالَةِ - فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ - إِذَا اشْتَرَطَهُ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ، لأِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِيهِ، كَمَا مَنَعُوا الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ فَعَلَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَهَذَا مَا لَمْ يَأْذَنَ الْمُوَكِّلُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَالأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَتَجَاوَزُ الْخِيَارُ مَنْ شُرِطَ لَهُ فَلاَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ وَلاَ الْعَكْسُ - وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - لأِنَّ ثُبُوتَهُ بِالشَّرْطِ فَكَانَ لِمَنْ شَرَطَهُ خَاصَّةً. أَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَأَطْلَقَ، فَشَرْطُ الْوَكِيلِ كَذَلِكَ بِإِطْلاَقٍ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ لِلْوَكِيلِ، لأِنَّ مُعْظَمَ أَحْكَامِ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ وَحْدَهُ وَلاَ يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِرِضَا الْمُوَكِّلِ، لأِنَّ الْخِيَارَ مَنُوطٌ بِرِضَا وَكِيلِهِ.
وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي صِحَّةِ اشْتِرَاطِ الْوَكِيلِ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ، لاَ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ مَعَ احْتِمَالِ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ فِيهَا بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ: لِلْوَكِيلِ التَّوْكِيلُ .
ثُمَّ إِنَّ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَفْعَلَ مَا فِيهِ حَظُّ الْمُوَكِّلِ، لأِنَّهُ مُؤْتَمَنٌ .
وَكَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الاِنْفِرَادِ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ وَاحِدًا، يَثْبُتُ لِلْمُتَعَدِّدِ أَيْضًا إِذَا كَانَ الطَّرَفُ الْمُتَعَاقِدُ مُتَعَدِّدًا، كَمَا لَوْ بَاعَ شَرِيكَانِ شَيْئًا، أَوْ بَاعَ الْمَالِكُ سِلْعَةً لاِثْنَيْنِ وَاشْتَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا.
آثَارُ الْخِيَارِ:
أَوَّلاً: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ:
28 - حُكْمُ الْخِيَارِ أَنَّهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ الْعَقْدِ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْمُعْتَادُ لِلْحَالِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَذَلِكَ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَقِّ الْعَاقِدِ الآْخَرِ أَيْضًا، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الْحُكْمُ نَافِذٌ فِي حَقِّ مَنْ لاَ خِيَارَ لَهُ، لأِنَّهُ لاَ مَانِعَ بِالنِّسْبَةِ لَهُ - وَسَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ عَنْهُ - وَلِذَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ: (هُوَ لِلْحَالِ مَوْقُوفٌ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ حُكْمُهُ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ) وَالْعِلَّةُ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ أَنَّهُ لاَ يُدْرَى أَيَتَّصِلُ بِهِ الْفَسْخُ أَوِ الإْجَازَةُ . ثُمَّ قَالَ بَعْدَئِذٍ: «فَيَتَوَقَّفُ فِي الْجَوَابِ لِلْحَالِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا، وَقَالَ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ: شَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ».
وَتَبَيَّنَ مِنْ مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى الْعَقْدِ حُكْمُهُ فِي الْحَالِ، فَلاَ يَخْرُجُ الْمَبِيعُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلاَ الثَّمَنُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَفْتَرِقُ هَذَا الْعَقْدُ عَنِ الْعَقْدِ الْبَاتِّ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ تَعَرُّضُهُ لِلْفَسْخِ بِمُوجِبِ خِيَارِ الشَّرْطِ الَّذِي زَلْزَلَ حُكْمَ الْعَقْدِ وَجَعَلَهُ عُرْضَةً لِلْفَسْخِ. فَفِي حَالِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلطَّرَفَيْنِ لاَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ أَصْلاً .
وَإِلَى مِثْلِ ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي صُورَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلطَّرَفَيْنِ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، لاَ يُحْكَمُ بِانْتِقَالِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَلاَ أَنَّهُ لِلْبَائِعِ خَالِصًا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِلْكِيَّةُ مَحَلِّ الْخِيَارِ بَاقِيَةٌ لِلْبَائِعِ، وَلَمْ تَنْتَقِلْ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَحُكْمُ الْعَقْدِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى خِيَارٍ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ نَفَاذِهِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ .
ثَانِيًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ:
يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ كَوْنِهِ لأِحَدِهِمَا.
أ - كَوْنُ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ:
29 - إِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ ثَابِتًا لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلاَ تَغْيِيرَ يَحْصُلُ فِي قَضِيَّةِ الْمِلْكِ لِلْبَدَلَيْنِ، فَمَحَلُّ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَالثَّمَنُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا. ذَلِكَ مَوْقِفُ الْحَنَفِيَّةِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فِي الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا، فَلاَ يَزُولُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلاَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا الثَّمَنُ... لأِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الاِنْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَوْجُودٌ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ الْخِيَارُ . وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَوْقِفُ الشَّافِعِيَّةِ بِمُلاَحَظَةِ اخْتِيَارِهِمْ وَصْفَ هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ بِانْتِظَارِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمِلْكَ مَا زَالَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ تَمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ لِلْمُشْتَرِي مُنْذُ الْعَقْدِ .
وَالْمَذَاهِبُ الأْخْرَى لاَ تُفْرِدُ هَذِهِ الْحَالَةَ بِالْحُكْمِ، بَلْ يَنْصَبُّ نَظَرُهَا إِلَى خِيَارِ الْبَائِعِ، فَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْقَضِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى النَّقِيضِ مِمَّا سَبَقَ، فَالْمِلْكُ فِي الْعَقْدِ الْمُقْتَرِنِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَمْ لأِحَدِهِمَا أَيًّا كَانَ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ عَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْعَقْدَ مَعَ الْخِيَارِ كَالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عَنْهُ .
ب - كَوْنُ الْخِيَارِ لأِحَدِهِمَا:
30 - تَخْتَلِفُ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْمَالِكِ لِمَحَلِّ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الآْخَرِ، وَتَنْحَصِرُ الآْرَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ: بَقَاءُ الْمِلْكِ، انْتِقَالُهُ، التَّفْصِيلُ بِحَسَبِ صَاحِبِ الْخِيَارِ.
1 - ذَهَبَ الرَّأْيُ الأْوَّلُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ لِصَاحِبِ الْمَحَلِّ كَمَا كَانَ قَبْلَ حُصُولِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَائِعُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لأِحَدِهِمَا. بِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ وَالأْوْزَاعِيِّ. وَقَدْ عَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ بَيْعَ الْخِيَارِ مُنْحَلٌّ لاَ مُنْعَقِدٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ لَمْ يَنْتَقِلْ، فَالإْمْضَاءُ اللاَّحِقُ بَعْدَئِذٍ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ لاَ مُقَرِّرٌ .
فَقَدِ اعْتَبَرَ هَؤُلاَءِ يَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى مَحَلِّ الْخِيَارِ يَدَ أَمَانَةٍ، وَأَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الْمَالِكُ (وَالضَّامِنُ أَيْضًا) وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِيَارُ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ، أَيْ هُوَ عَقْدٌ غَيْرُ نَافِذٍ فِي الْجُمْلَةِ: لَمْ يَنْتَقِلَ الْمِلْكُ عَنِ الْبَائِعِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقَعْ قَبُولٌ مِنَ الْعَاقِدِ الآْخَرِ (الْمُشْتَرِي مَثَلاً).
2 - الرَّأْيُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، فَالإْمْضَاءُ تَقْرِيرٌ لاَ نَقْلٌ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْضًا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ .
3 - وَالرَّأْيُ الثَّالِثُ قَائِمٌ عَلَى التَّفْصِيلِ بِحَسَبِ صَاحِبِ الْخِيَارِ.
فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْمِلْكُ بَاقٍ لَهُ، لأِنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ مِنْهُ إِبْقَاءٌ عَلَى مِلْكِهِ فَلاَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلِهَذَا نَتَائِجُ عَدِيدَةٌ أَبْرَزُهَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ - بِالرَّغْمِ مِنَ الْعَقْدِ - لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ، كَمَا أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْبَائِعِ تَنْفُذُ، وَتُعْتَبَرُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ الأْقْوَالِ . وَهَذَا الْقَوْلُ لِلشَّافِعِيَّةِ قَائِمٌ عَلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي - وَهُوَ الأْظْهَرُ - وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ أُخْرَى (مُطَّرِدَةٌ فِي حَالِ كَوْنِ الْخِيَارِ لَهُمَا أَوْ لأِحَدِهِمَا) أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَبِيعَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ، وَالثَّمَنُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ إِلَى تَمَامِ الْبَيْعِ لِلْحُكْمِ بِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي مُنْذُ الْعَقْدِ، أَوْ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْمِلْكُ زَائِلٌ عَنِ الْبَائِعِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ، حَيْثُ لاَ مَانِعَ فِي حَقِّهِ، لأِنَّ الْعَقْدَ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ مَنْ لاَ خِيَارَ لَهُ وَهُوَ الْبَائِعُ. وَالتَّصَرُّفُ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، لأِنَّهُ شُرِعَ نَظَرًا لَهُ وَحْدَهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَدْرِ اتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ عَمَّنْ لاَ خِيَارَ لَهُ .
ثَالِثًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى ضَمَانِ الْمَحَلِّ:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَتَحَمَّلُ تَبِعَةَ هَلاَكِ مَحَلِّ الْخِيَارِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
فَالْحَنَفِيَّةُ فَرَّقُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ عِدَّةِ صُوَرٍ:
1 - إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ - وَبِالأْوْلَى إِذَا كَانَ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي - وَهَلَكَ مَحَلُّ الْخِيَارِ بِيَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، لأِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ اتِّفَاقًا، وَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْخِيَارِ الْقَبْضُ لِيَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي تَعْدِيلِ ارْتِبَاطِ تَبِعَةِ الْهَلاَكِ بِالْمِلْكِ، وَلاَ إِشْكَالَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْخِيَارِ .
2 - إِذَا هَلَكَ مَحَلُّ الْخِيَارِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَالضَّمَانُ مِنْهُ، لأِنَّهُ غَدَا بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ بَيْعًا مُطْلَقًا. وَالضَّمَانُ حِينَئِذٍ بِالثَّمَنِ لأِنَّهُ هَلَكَ بَعْدَمَا أُبْرِمَ الْبَيْعُ، وَإِبْرَامُهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لِعَدَمِ فَسْخِ الْبَائِعِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلأِنَّ هَلاَكَهُ بِمَثَابَةِ الإْجَازَةِ .
3 - إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَقَدْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي مَحَلَّ الْخِيَارِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي خِلاَلَ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي، لأِنَّ الْبَيْعَ قَدِ انْفَسَخَ بِهَلاَكِ الْمَحَلِّ إِذْ كَانَ مَوْقُوفًا، لأِجْلِ خِيَارِ الْبَائِعِ، وَلاَ نَفَاذَ لِلْمَوْقُوفِ إِذَا هَلَكَ الْمَحَلُّ، فَبَقِيَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَقْبُوضًا عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ (أَيِ الْمُعَاوَضَةِ)، لاَ عَلَى وَجْهِ الأْمَانَةِ الْمَحْضَةِ كَالإْيدَاعِ وَالإْعَارَةِ، لأِنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ إِلاَّ عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَسَوَّوْا بَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ وَبَيْنَ إِيدَاعِ الْمُشْتَرِي إِيَّاهُ بَعْدَ الْقَبْضِ عِنْدَ الْبَائِعِ.
أَمَّا كَيْفِيَّةُ ضَمَانِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ - إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا (لأِنَّ ضَمَانَهُ حِينَئِذٍ بِالْمِثْلِ) - وَالضَّمَانُ بِالْقِيمَةِ، لاَ بِالثَّمَنِ، هُوَ الشَّأْنُ فِيمَا قُبِضَ عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
وَقَدْ جَعَلَ الْكَاسَانِيُّ ضَمَانَهُ أَوْلَى مِنْ ضَمَانِ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
4 - إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَقَدْ قَبَضَ مَحَلَّ الْخِيَارِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَالضَّمَانُ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ هُنَا بِالثَّمَنِ.
وَبَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ وَسَابِقَتِهَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ فَهُنَا الضَّمَانُ بِالثَّمَنِ، وَهُنَاكَ الضَّمَانُ بِالْقِيمَةِ، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إِلَى وَجْهِ الْفَرْقِ، وَتَابَعَهُ الشُّرَّاحُ مُفَصِّلِينَ الْوَجْهَ نَفْسَهُ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَهَلَكَ الْمَبِيعُ فَإِنَّهُ بِمَثَابَةِ تَعَيُّبٍ آلَ إِلَى تَلَفٍ، لأِنَّ التَّلَفَ لاَ يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ، فَبِدُخُولِ الْعَيْبِ عَلَى مَحَلِّ الْخِيَارِ لاَ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي (صَاحِبُ الْخِيَارِ) الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْبِ، كَائِنًا مَا كَانَ الْعَيْبُ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْهَلاَكُ لَمْ يَبْقَ الرَّدُّ سَائِغًا، فَيَهْلِكُ الْمَحَلُّ بَعْدَ أَنِ انْبَرَمَ الْعَقْدُ بِمُقَدِّمَاتِ الْهَلاَكِ، وَبِلُزُومِ الْعَقْدِ يَجِبُ الثَّمَنُ لاَ الْقِيمَةُ.
أَمَّا فِي حَالَةِ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَتَلَفِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ تَعَيُّبَ الْمَبِيعِ وَإِشْرَافَهُ عَلَى الْهَلاَكِ لاَ يَمْنَعُ الرَّدَّ حُكْمًا، لأِنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ لَمْ يَسْقُطْ لأِنَّهُ لَمْ يَعْجِزْ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ الَّذِي لَوْ رَضِيَ بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنَ الاِسْتِرْدَادِ، فَإِذَا هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً لِعَدَمِ الْمَحَلِّ فَيَكُونُ ضَمَانُهُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، أَيْ بِالْقِيمَةِ، لاَ بِالثَّمَنِ لِفُقْدَانِ الْعَقْدِ .
32 - أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالضَّمَانُ مُنْسَجِمٌ مَعَ الْمِلْكِ الَّذِي جَعَلُوهُ ثَابِتًا مُطْلَقًا لِلْبَائِعِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ أَيْضًا إِلاَّ فِي اسْتِثْنَاءَاتٍ يَدْعُو إِلَيْهَا إِعْوَازُ الْمُشْتَرِي الدَّلِيلَ عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِ وَعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، لأِنَّ ضَمَانَ الْبَائِعِ لِلتَّلَفِ خَاصٌّ بِمَا لَوْ كَانَ تَلَفًا بِحَادِثٍ سَمَاوِيٍّ، أَوْ ضَيَاعٍ، وَيَتَمَثَّلُ الأْصْلُ فِي صُورَتَيْنِ:
الأْولَى : إِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي مَحَلَّ الْخِيَارِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ، إِذْ هُوَ أَقْدَمُ مِلْكًا، فَلاَ يَنْتَقِلُ الضَّمَانُ عَنْهُ إِلاَّ بِتَمَامِ انْتِقَالِ مِلْكِهِ .
وَذَلِكَ الأْصْلُ ثَابِتٌ فِيمَا إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مِمَّا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ (أَيْ: مِمَّا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ)، حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُ الْمُشْتَرِي فِي دَعْوَاهُ التَّلَفَ دُونَ صُنْعِهِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ ثَبَتَ تَلَفُهُ أَوْ ضَيَاعُهُ بِبَيِّنَةٍ (لأِنَّ هَلاَكَهُ ظَاهِرٌ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي قَبْضِهِ كَالرَّهْنِ وَالْعَارِيَّةِ).
وَفِيمَا وَرَاءَ هَذَا الأْصْلِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فِيمَا كَانَ مُحْتَرِزًا عَنْهُ بِقُيُودِ الصُّورَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ (صُورَةِ مَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ كَذِبُ الْمُشْتَرِي، وَصُورَةِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَثَبَتَ أَنَّ التَّلَفَ لَيْسَ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي) يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي .
33 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، لأِنَّهُ يَنْفَسِخُ بِذَلِكَ عِنْدَ بَقَاءِ يَدِهِ، فَعِنْدَ بَقَاءِ مِلْكِهِ أَوْلَى، وَلأِنَّ نَقْلَ الْمِلْكِ بَعْدَ التَّلَفِ لاَ يُمْكِنُ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُودَعًا مَعَ الْبَائِعِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِهِ لأِنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُشْتَرِي وَيَرُدُّ الْبَائِعُ عَلَيْهِ الثَّمَنَ وَلَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيمَةُ فِي الْمُتَقَوِّمِ، وَالْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ أَوْ لَهُمَا فَتَلِفَ الْمَبِيعُ بَعْدَ قَبْضِهِ لَمْ يَنْفَسِخَ الْبَيْعُ لِدُخُولِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ وَلَمْ يَنْقَطِعَ الْخِيَارُ كَمَا لاَ يَمْتَنِعُ التَّحَالُفُ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ وَلَزِمَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ فُسِخَ فَالْقِيمَةُ أَوِ الْمِثْلُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ وَلَوْ بَعْدَ قَبْضِهِ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ كَمَا فِي صُورَةِ التَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَأَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ وَلَوْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَنْفَسِخْ، أَيِ الْبَيْعُ، لِقِيَامِ الْبَدَلِ اللاَّزِمِ لَهُ مِنْ قِيمَةِ أَوْ مِثْلٍ مَقَامَهُ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِلْمُشْتَرِي لِفَوَاتِ عَيْنِ الْمَبِيعِ وَالْخِيَارُ بِحَالِهِ وَإِنْ أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْخِيَارُ لَهُ أَوْ لَهُمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، لأِنَّهُ بِإِتْلاَفِهِ الْمَبِيعَ قَابِضٌ لَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ، وَلَوْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَتَلَفِهِ بِآفَةٍ .
34 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ جَعَلُوا الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ ضَمَانَ مَحَلِّ الْخِيَارِ عَلَى الْمُشْتَرِي لأِنَّهُ مِلْكُهُ، وَغَلَّتُهُ لَهُ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ. وَمَئُونَتُهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا عَلَى إِطْلاَقِهِ (قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا كَالْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ، شَرِيطَةَ أَنْ لاَ يَكُونَ عَدَمُ الْقَبْضِ نَاشِئًا مِنْ مَنْعِ الْبَائِعِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مِنَ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا فَلاَ بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ لِيَكُونَ ضَمَانُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ لَمْ يَحْصُلْ فَالضَّمَانُ حِينَئِذٍ عَلَى الْبَائِعِ. وَلاَ يُعْتَبَرُ الْحُكْمُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ اسْتِثْنَاءً، بَلْ هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْحَنَابِلَةِ مِنِ اعْتِبَارِهِمُ الْقَبْضَ ضَمِيمَةً لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِيَنْتَقِلَ ضَمَانُهُ عَنِ الْبَائِعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ حُكْمٌ يَتَّفِقُ فِيهِ الْبَيْعُ الْمُقَيَّدُ بِالْخِيَارِ، وَالْبَيْعُ الْمُطْلَقُ. وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَبْضِ فِي الْكَيْلِ وَالْمَوْزُونِ هُوَ اكْتِيَالُهُ أَوْ وَزْنُهُ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ التَّخْلِيَةِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَبِالاِكْتِيَالِ يُعْرَفُ هَلْ وَصَلَ إِلَى الْمُشْتَرِي حَقُّهُ كَامِلاً أَمْ نَقَصَ مِنْهُ أَوْ زَادَ عَنْهُ .
أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى زِيَادَةِ الْمَبِيعِ وَغَلَّتِهِ وَنَفَقَتِهِ.
35 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الزَّوَائِدَ الَّتِي قَدْ تَطْرَأُ عَلَى الْمَبِيعِ إِلَى الأْقْسَامِ التَّالِيَةِ:
1 - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ، كَالسِّمَنِ فِي الْحَيَوَانِ وَزِيَادَةِ وَزْنِهِ، وَالْبُرْءِ مِنْ دَاءٍ كَانَ فِيهِ، وَالنُّضْجِ فِي الثَّمَرِ، وَالْحَمْلِ الَّذِي يَحْدُثُ زَمَنَ الْخِيَارِ (أَمَّا الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَهُوَ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، كَالأْمِّ، فَيُقَابِلُهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى مَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ).
2 - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأْصْلِ، وَمِثَالُهَا: الصَّبْغُ وَالْخِيَاطَةُ، وَالْبِنَاءُ فِي الأْرْضِ، وَالْغَرْسُ فِيهَا، وَلَتُّ السَّوِيقِ بِسَمْنٍ.
3 - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الأْصْلِ، وَمِثَالُهَا: الْوَلَدُ، وَالثَّمَرُ، وَاللَّبَنُ، وَالْبَيْضُ، وَالصُّوفُ.
4 - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأْصْلِ. وَمِثَالُهَا: غَلَّةُ الْمَأْجُورِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوٍ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْعُقْرُ وَهُوَ مَا يُعْتَبَرُ مَهْرًا لِلْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ .
هَذَا تَقْسِيمُ الْحَنَفِيَّةِ لِلزَّوَائِدِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عِنَايَةً بِتَنْوِيعِهَا، نَظَرًا لِتَفَاوُتِ أَحْكَامِهَا عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ تِلْكَ الأْنْوَاعِ.
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَمَا بَيْنَ مُوَحِّدِ النَّظْرَةِ إِلَى الزِّيَادَةِ، أَوْ مُكْتَفٍ بِتَقْسِيمِ الزَّوَائِدِ إِلَى مُتَّصِلَةٍ أَوْ مُنْفَصِلَةٍ، وَإِدَارَةُ الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ فَقَطْ.
وَإِنَّ لِلزَّوَائِدِ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ أَحْكَامًا أَهَمُّهَا اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: لِمَنْ يَكُونُ مِلْكُ الزَّوَائِدِ؟ وَالثَّانِي كَوْنُهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، أَيْ تَعْدَمُ الْخِيَارَ بِإِلْزَامِ صَاحِبِهِ بِالإْجَازَةِ دُونَ الْفَسْخِ. ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأْصْلَ فِي الزِّيَادَةِ أَنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَسْرِي امْتِنَاعُ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا سِوَى الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ اتِّفَاقًا، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ عَلَى خِلاَفٍ. فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَنْبَرِمُ الْعَقْدُ وَيَلْزَمُ، وَتَكُونُ الزَّوَائِدُ مُطْلَقًا لِلْمُشْتَرِي الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مِلْكُ الأْصْلِ. أَمَّا فِي الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ حَيْثُ لاَ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، وَفِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ حَيْثُ اخْتُلِفَ فِي امْتِنَاعِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَمْلِكُ تِلْكَ الزَّوَائِدَ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي .
الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ:
36 - إِذَا كَانَتْ زَوَائِدُ مَحَلِّ الْخِيَارِ مِنْ نَوْعِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأْصْلِ، فَفِيهَا يَجْرِي الْخِلاَفُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ. وَهَذَا الْخِلاَفُ لاَ مَجَالَ لَهُ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءَ الْعَقْدِ لأِنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُ الأْصْلَ وَالزَّوَائِدَ اتِّفَاقًا، لأِنَّهُ بِالإْمْضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوَائِدَ كَسْبُ مِلْكِهِ فَكَانَتْ مِلْكًا لَهُ، أَمَّا إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ وَإِعَادَةَ مَحَلِّ الْخِيَارِ إِلَى الْبَائِعِ فَهَلْ يُعِيدُ مَعَهَا الزَّوَائِدَ أَمْ لاَ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرُدُّ الأْصْلَ مَعَ الزَّوَائِدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كَانَ مَوْقُوفًا، فَإِذَا حَصَلَ الْفَسْخُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتُرَدُّ إِلَيْهِ مَعَ الأْصْلِ. وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: الْمَبِيعُ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتِ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً عَلَى مِلْكِهِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسْخِ فِي الأْصْلِ لاَ فِي الزَّوَائِدِ لأِنَّ هَا بَقِيَتْ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُهَا هُوَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلاَفِ الْكَبِيرِ السَّابِقِ.
الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ:
37 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْخِيَارِ الأْصْلَ وَالزِّيَادَةَ، لأِنَّهُ تَبَيَّنَ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِمَحَلِّ الْخِيَارِ فَيَمْلِكُ زَوَائِدَهُ مَهْمَا كَانَ وَصْفُهَا. وَعِنْدَ الإْمَامِ مُحَمَّدٍ لاَ يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ بَيْنَ الإْمْضَاءِ وَالْفَسْخِ، .
وَيَكُونُ مَصِيرُ هَذِهِ الصُّورَةِ مُمَاثِلاً لِلصُّورَةِ السَّابِقَةِ (صُورَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ) حَيْثُ يَظَلُّ صَاحِبُ الْخِيَارِ مُتَمَكِّنًا مِنَ اسْتِعْمَالِ خِيَارِهِ.
أَحْكَامُ الزَّوَائِدِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:
لِلْمَالِكِيَّةِ مَنْحًى آخَرُ فِي شَأْنِ الزَّوَائِدِ، فَهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الاِتِّصَالِ وَالاِنْفِصَالِ، كَمَا لَمْ يَعْتَبِرُوا التَّوَلُّدَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، بَلْ خَصُّوا مَا يُعْتَبَرُ جُزْءًا بَاقِيًا مِنَ الْمَبِيعِ فَاعْتَبَرُوهُ لاَ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْعَقْدِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْوَلَدِ وَالصُّوفِ، فَالْوَلَدُ لأِنَّهُ لَيْسَ بِغَلَّةٍ - وَمِثْلُهُ الصُّوفُ - تَمَّ أَمْ لاَ «لأِنَّهُمَا كَجُزْءِ الْمَبِيعِ، أَيْ أَنَّ الْوَلَدَ كَالْجُزْءِ الْبَاقِي، بِخِلاَفِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ كَجُزْءٍ فَاتَ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ» يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، لأِنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الأْصْلِ - زَمَنَ الْخِيَارِ - يَظَلُّ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَعْمِلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ الزَّوَائِدُ كُلُّهَا - عَدَا الْوَلَدِ وَالصُّوفِ - لِلْبَائِعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ:
1 - الْغَلَّةُ الْحَادِثَةُ زَمَنَ الْخِيَارِ مِنْ لَبَنٍ وَسَمْنٍ وَبَيْضٍ، لِلْبَائِعِ أَيْضًا.
2 - أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَبِيعِ بِالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ زَوَائِدُ مُنْفَصِلَةٌ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، كَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ وَالثَّمَرِ، فَهِيَ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ وَهُوَ مَنِ انْفَرَدَ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ كَحُكْمِ الْبَيْعِ نَفْسِهِ، فَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَهِيَ لِلْبَائِعِ وَإِلاَّ فَلِلْمُشْتَرِي. أَمَّا الزَّوَائِدُ الْمُتَّصِلَةُ فَتَابِعَةٌ لِلأْصْلِ.
وَالْحَمْلُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ كَالأْصْلِ فِي أَنَّهُ مَبِيعٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِقِسْطٍ مِنَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ بِيعَ مَعَهُ بَعْدَ الاِنْفِصَالِ لاَ كَالزَّوَائِدِ . أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالزَّوَائِدُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَيَشْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ كَالْكَسْبِ وَالأْجْرَةِ بَلْ لَوْ كَانَتْ نَمَاءً مُنْفَصِلاً مُتَوَلِّدًا مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ (وَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُعْتَبَرُ الزَّوَائِدُ أَمَانَةً عِنْدَ الْبَائِعِ فَلاَ يَضْمَنُهَا لِلْمُشْتَرِي إِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ خِلاَفًا لِحُكْمِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ قَبْلَ قَبْضِهِ) وَسَوَاءٌ تَمَخَّضَ الْخِيَارُ عَنْ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِلْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . وَهَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَاسْتَدَلَّ لَهُ أَيْضًا بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَى الْمُشْتَرِي، أَيْ فَهِيَ تَتْبَعُهُ فِي الاِنْتِقَالِ .
رَابِعًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَسْلِيمُ الْبَدَلَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي حَالِ الإْطْلاَقِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ ابْتِدَاءً، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً لاِحْتِمَالِ الْفَسْخِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْخِيَارِ، أَوْ يُسْقِطُ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ .
أَمَّا التَّسْلِيمُ لِلثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ اخْتِيَارًا وَطَوَاعِيَةً فَلاَ مَانِعَ مِنْهُ عِنْدَهُمْ أَيْ لاَ يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَإِذَا بَادَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا إِلَى تَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ - فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ - فَهُوَ جَائِزٌ، لأِيٍّ مِنْهُمَا كَانَ الْخِيَارُ، وَلاَ أَثَرَ لِلتَّسْلِيمِ عَلَى الْخِيَارِ فَنَقْدُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ أَوْ دَفْعُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي لاَ يُبْطِلُ الْخِيَارَ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ الاِخْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي صُلُوحِهِ أَوْ عَدَمِهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَهُ الْمَبِيعَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ - وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ - فَإِنَّ خِيَارَهُ يَبْطُلُ، .
وَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا تَطَوُّعًا فَامْتَنَعَ الآْخَرُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ الآْخَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ إِجْبَارِ الآْخَرِ أَيْضًا وَهُمْ يَقُولُونَ: بِأَنَّ لِمَنْ سَلَّمَ مُؤَمِّلاً التَّسْلِيمَ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَحْدُثْ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ .
سُقُوطُ الْخِيَارِ:
39 - يَسْقُطُ الْخِيَارُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ بِعَدَدٍ مِنَ الأْسْبَابِ هِيَ: الْبُلُوغُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الَّذِي عَقَدَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ، وَالْجُنُونُ وَنَحْوُهُ، وَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عَلَى خِلاَفٍ فِي هَذَا السَّبَبِ الأْخِيرِ:
أ - بُلُوغُ الصَّبِيِّ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:
40 - يَرَى الإْمَامُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ دُخُولَ الصَّغِيرِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فِي طَوْرِ الْبُلُوغِ، فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُحَدَّدَةِ بِوَقْتٍ يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ سَعْيًا مِنْهُمَا لِمَصْلَحَةِ الصَّبِيِّ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَقْدُ. أَمَّا الإْمَامُ مُحَمَّدٌ، فَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ الْخِيَارَ لاَ يَسْقُطُ، ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي مَصِيرِ الْخِيَارِ بَعْدَئِذٍ هَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّغِيرِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بِدُونِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ، أَوْ يَبْقَى لِلْوَصِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ؟
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب - طُرُوءُ الْجُنُونِ وَنَحْوِهِ:
41 - قَدْ يَطْرَأُ الْجُنُونُ عَلَى الْعَاقِدِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، وَمِثْلُهُ (مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ مِنْ حَيْثُ ذَهَابُ الْعَقْلِ وَعَجْزُ الإْنْسَانِ عَنْ إِظْهَارِ مَوْقِفِهِ، كَالإْغْمَاءِ وَالنَّوْمِ أَوِ السَّكْتَةِ) فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَغْرَقَ وَقْتَ الْخِيَارِ مِنْ حَالَةِ تَوْقِيتِهِ سَقَطَ الْخِيَارُ. لَكِنَّ سُقُوطَهُ لَيْسَ لِكَوْنِ الْجُنُونِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْخِيَارِ، بَلْ لاِنْقِضَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ صُدُورِ فَسْخٍ مِنْهُ، فَالْجُنُونُ نَفْسُهُ لَيْسَ مُسْقِطًا بَلِ اسْتِغْرَاقُ الْوَقْتِ كُلِّهِ دُونَ فَسْخٍ، وَلِذَا لَوْ أَفَاقَ خِلاَلَ الْمُدَّةِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا فِي الأْصَحِّ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الإْغْمَاءَ وَالْجُنُونَ لاَ يُسْقِطَانِ الْخِيَارَ وَإِنَّمَا الْمُسْقِطُ لَهُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَاخْتُلِفَ فِي السُّكْرِ هَلْ هُوَ فِي حُكْمِ الْجُنُونِ أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ بِالْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُسْتَخْدَمَةِ فِي الطِّبِّ، وَبَيْنَ السُّكْرِ بِالْمُحَرَّمِ. وَيُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلاَتِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ جُنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَفِيقُ أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ طُولٍ يَضُرُّ الصَّبْرُ إِلَيْهِ بِالآْخَرِ، نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي الأْصْلَ حِ لَهُ، أَيْ لاَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي انْتِقَالِ الْخِيَارِ .
ج - تَغَيُّرُ مَحَلِّ الْخِيَارِ:
42 - إِذَا كَانَ تَغَيُّرُ مَحَلِّ الْخِيَارِ بِالْهَلاَكِ وَالتَّعَيُّبِ أَوِ النُّقْصَانِ، فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَلاَكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أُسْوَةً بِالْعَقْدِ الْبَاتِّ، فَهَذَا أَوْلَى، لأِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْهَلاَكُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ، فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا . وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ لِلْعَقْدِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ تَبَعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيَرْبِطُونَهُ بِمَسْأَلَةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقُ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي - فَالْمِلْكُ لِلْبَائِعِ - فَإِذَا هَلَكَ لَمْ تُمْكِنُ الْمُبَادَلَةُ عَلَيْهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْهَلاَكُ فِي عِدَادِ مُسْقِطَاتِ الْخِيَارِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْعَقْدُ لأِنَّهُ عَجْزٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ حِينَ أَشْرَفَتِ السِّلْعَةُ عَلَى الْهَلاَكِ. وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لأِنَّ الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا مَعًا، فَلاَ أَثَرَ لِلْهَلاَكِ عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الْخِيَارِ إِنَّمَا تَتَأَثَّرُ تَصْفِيَةُ هَذَا الْعَقْدِ، فَإِنِ اخْتَارَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الإْمْضَاءَ فَالْوَاجِبُ هُوَ الثَّمَنُ وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَالْوَاجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ بَدَلاً مِنَ الْمَبِيعِ .
وَمِثْلُ الْهَلاَكِ النُّقْصَانُ بِالتَّعَيُّبِ بِمَا لاَ يَحْتَمِلُ الاِرْتِفَاعَ أَوْ لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ مَهْمَا كَانَ قَدْرُهُ أَوْ فَاعِلُهُ، لإِخْلاَلِ النُّقْصَانِ بِشَرْطِ رَدِّ الْمَبِيعِ كَمَا قُبِضَ. أَمَّا لَوْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمَرَضِ فَالْخِيَارُ بَاقٍ وَلاَ يُرَدُّ حَتَّى يَبْرَأَ فِي الْمُدَّةِ فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يَبْرَأْ لَزِمَ الْبَيْعُ.
43 - وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِالزِّيَادَةِ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّهَا لاَ أَثَرَ لَهَا فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلاَ أَثَرَ لَهَا أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَهْمَا كَانَ نَوْعُهَا وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ، أَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الأْصْلِ فَإِنَّهَا تُسْقِطُ الْخِيَارَ لِتَعَذُّرِ وُرُودِ الْفَسْخِ عَلَيْهَا، لأِنَّ هَا غَيْرُ مَبِيعٍ، فَالرَّدُّ بِدُونِهَا مُؤَدٍّ لِشُبْهَةِ الرِّبَا، وَإِنْ رَدَّهَا مَعَ الأْصْلِ كَانَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ .
د - إِمْضَاءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
44 - إِذَا تَعَاقَدَ شَرِيكَانِ مَعَ آخَرَ عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ سَقَطَ الْخِيَارُ بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا جَمِيعًا وَلَزِمَ الْعَقْدُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحَيْثُ لاَ يَمْلِكُ الشَّرِيكُ الآْخَرُ الْفَسْخَ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَالْخِيَارُ لاَ يَسْقُطُ عَمَّنْ لَمْ يُجِزِ الْعَقْدَ بَلْ يَبْقَى خِيَارُهُ عَلَى حَالِهِ .
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
هـ - مَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ
45 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلاً أَمْ نَائِبًا (وَكِيلاً، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ وَلِيًّا) فَبِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَسْقُطُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى بَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْوَرَثَةِ، فَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ لَيْسَ مُسْقِطًا، بَلْ هُوَ نَاقِلٌ فَقَطْ.
أَمَّا وَفَاةُ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَلاَ يَسْقُطُ بِهَا الْخِيَارُ، بَلْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ وَيَكُونُ رَدُّهُ إِنْ شَاءَ الرَّدَّ فِي مُوَاجِهَةِ الْوَرَثَةِ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَأَجْمَعُوا (أَيِ الْحَنَفِيَّةُ) أَنَّهُ إِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَإِنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ .
انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:
46 - يَنْتَهِي خِيَارُ الشَّرْطِ بِأَحَدِ سَبَبَيْنِ:
الأْوَّلُ: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِإِجَازَتِهِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ،
وَالثَّانِي: فَسْخُ الْعَقْدِ.
السَّبَبُ الأْوَّلُ: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالإْجَازَةِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ:
47 - يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا بِإِجَازَتِهِ، وَإِمَّا بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ.
إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالإْجَازَةِ:
48 - إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالإْجَازَةِ يُنْهِي الْخِيَارَ بِالاِتِّفَاقِ، لأِنَّ الأْصْلَ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ وَالاِمْتِنَاعُ يُعَارِضُ الْخِيَارَ وَقَدْ بَطَلَ بِالإْجَازَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ .
أَنْوَاعُ الإْجَازَةِ:
49 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الإْجَازَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: صَرِيحٍ أَوْ شِبْهِ الصَّرِيحِ، وَدَلاَلَةٍ.
فَالصَّرِيحُ، بِالنِّسْبَةِ لِلْبَائِعِ، أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ الْعَقْدَ - أَوِ الْبَيْعَ مَثَلاً - أَوْ أَمْضَيْتُهُ أَوْ أَوْجَبْتُهُ، أَوْ أَلْزَمْتُهُ، أَوْ رَضِيتُهُ، أَوْ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ. وَشِبْهُ الصَّرِيحِ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُشْتَرِي الإِْجَازَةَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ . وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ لَوْ قَالَ: هَوِيتُ أَخْذَهُ، أَوْ أَحْبَبْتُ، أَوْ أَعْجَبَنِي، أَوْ وَافَقَنِي لاَ يَبْطُلُ خِيَارُهُ .
أَمَّا الدَّلاَلَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، كَالْبَيْعِ، وَالْمُسَاوَمَةِ، وَالإْجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ. لأِنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، فَالإْقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ، أَوْ تَقَرُّرِ الْمِلْكِ - عَلَى اخْتِلاَفِ الأْصْلَ يْنِ - وَذَلِكَ دَلِيلُ الإْمْضَاءِ . هَذَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَإِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَالدَّلاَلَةُ عَلَى الإْمْضَاءِ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
هَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْمَحَلِّ لِلإْجَازَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ فِي الإْجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ، وَلَيْسَ الإْنْشَاءِ، فَبِالإْجَازَةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَقْدَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَالْمَحَلُّ كَانَ قَابِلاً وَقْتَ الْعَقْدِ فَهَلاَكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ الإْجَازَةَ .
كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالإْجَازَةِ . فَلَوْ أَجَازَ الْعَقْدَ فَإِنَّهُ لاَزِمٌ مُنْذُ الإْجَازَةِ سَوَاءٌ أَبْلَغَ الْعَاقِدُ الآْخَرَ ذَلِكَ أَمْ لاَ.
وَنَحْوُ هَذَا التَّقْسِيمِ جَاءَ فِي الْمَذَاهِبِ الأْخْرَى .
إِنْهَاءُ الْخِيَارِ بِعِوَضٍ:
50 - جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ صَاحِبَ الْخِيَارِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ عَلَى عَرَضٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيُمْضِيَ الْبَيْعَ جَازَ ذَلِكَ وَيَكُونُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ فَيَحُطَّ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ يَزِيدَهُ هَذَا الْعَرَضَ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْعِ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا .
ثَانِيًا - انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ:
51 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يَنْتَهِي بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ، ذَلِكَ لأِنَّهُ خِيَارٌ مُؤَقَّتٌ بِمُدَّةٍ (سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِتَحْدِيدِ الْعَاقِدِ، أَمْ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ فِي حَالِ الإْطْلاَقِ)، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي وُقِّتَ بِهَا الْخِيَارُ فَمِنَ الْبَدَهِيِّ أَنْ يَنْتَهِيَ بِمُضِيِّهَا «لأِنَّ الْمُؤَقَّتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ» . وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَنَعَ مِنْ لُزُومِ الْعَقْدِ تِلْكَ الْمُدَّةَ - وَالأْصْلُ هُوَ اللُّزُومُ - فَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَثْبُتُ مُوجِبُ الْعَقْدِ، وَتَرْكُ صَاحِبِ الْخِيَارِ الْفَسْخَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ رِضًا مِنْهُ بِالْعَقْدِ.
عَلَى ذَلِكَ تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْهُمْ .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَائِلُونَ بِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يُنْهِي الْخِيَارَ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمُ اتِّجَاهًا خَاصًّا فِيمَا يُنْتَجُ عَنْ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْحَالُ عِنْدَ غَيْرِهِمُ اعْتِبَارَهُ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِلْخِيَارِ وَلَيْسَ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ إِلاَّ حَيْثُ تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، وَالْمَبِيعُ بِيَدِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي (مَثَلاً) كَانَ تَرْكُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ بِمَثَابَةِ الإْمْضَاءِ وَلُزُومِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَانْقَضَى الأْمَدُ - وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ - فَذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ مِنَ الْبَائِعِ. هَذَا مِنْ حَيْثُ أَدَاؤُهُ إِلَى إِمْضَاءِ الْعَقْدِ. أَمَّا اعْتِبَارُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَسْخًا أَوْ إِجَازَةً فَيُنْظَرُ إِلَى مَنْ يَنْقَضِي زَمَنُ الْخِيَارِ وَالْمَبِيعُ بِيَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْبَائِعِ آنَئِذٍ فَهُوَ فَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ إِمْضَاءٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَلْزَمُ الْمَبِيعُ بِالْخِيَارِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ مِنْهُمَا كَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَوْ غَيْرَهُ بِانْقِضَاءِ زَمَنِ الْخِيَارِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ وَالْيَوْمَانِ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ .
السَّبَبُ الثَّانِي: انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ
52 - يَنْقَسِمُ الْفَسْخُ إِلَى صَرِيحٍ وَدَلاَلَةٍ، أَوْ بِنَظْرَةٍ أُخْرَى إِلَى فَسْخٍ قَوْلِيٍّ، وَفَسْخٍ فِعْلِيٍّ، فَالْفَسْخُ الْقَوْلِيُّ أَوِ الصَّرِيحُ يَقَعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: فَسَخْتُ الْبَيْعَ، أَوِ اسْتَرْجَعْتُ الْمَبِيعَ، أَوْ رَدَدْتُهُ، أَوْ رَدَدْتُ الثَّمَنَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَذَا فَسْخٌ صَرِيحٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ: لاَ أَبِيعُ حَتَّى تَزِيدَ فِي الثَّمَنِ، مَعَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي لاَ أَفْعَلُ، وَكَذَلِكَ مِنْهُ عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: لاَ أَشْتَرِي حَتَّى يُنْقِصَ عَنِّي مِنَ الثَّمَنِ، عَلَى قَوْلِ الْبَائِعِ لاَ أَفْعَلُ. وَكَذَا مِنْهُ طَلَبُ الْبَائِعِ حُلُولَ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَطَلَبُ الْمُشْتَرِي تَأْجِيلَ الثَّمَنِ الْحَالِّ فَكُلُّ هَذَا فَسْخٌ .
وَصُورَةُ الْفَسْخِ دَلاَلَةً - وَيُسَمَّى الْفَسْخَ الْفِعْلِيَّ - (أَوِ الْفَسْخَ بِالْفِعْلِ كَمَا سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ):
أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الْمَبِيعِ. هَذَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِي فَبِأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ عَيْنًا. أَمَّا إِنْ كَانَ دَيْنًا فَلاَ يُتَصَوَّرُ الْفَسْخُ دَلاَلَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَلِذَلِكَ أَغْفَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مُقْتَصِرًا عَلَى تَصْوِيرِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، لأِنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ - وَهُوَ دَيْنٌ - يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ لاَ فِي الثَّمَنِ «لأِنَّ الأْثْمَانَ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ» .
وَالسَّبَبُ فِي الاِعْتِدَادِ بِالتَّصَرُّفِ كَالْمُلاَّكِ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ أَنَّ الْخِيَارَ إِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ. إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَتَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ إِذَا كَانَ عَيْنًا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ. وَاسْتِبْقَاءُ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْفَسْخِ، فَالإْقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْمَذْكُورِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلاَلَةً، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْكَاسَانِيُّ: «وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي الثَّمَنِ لَكَانَ إِجَازَةً لِلْبَيْعِ: يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ دَلاَلَةً».
وَالْفَسْخُ دَلاَلَةً مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الآْخَرِ بِهِ، أَمَّا فِي الْفَسْخِ الصَّرِيحِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ .
ثُمَّ إِنَّ لِلْفَسْخِ دَلاَلَةً بَعْدَ هَذَا الضَّابِطِ تَفَارِيعَ مِنْهَا:
- أَكْلُ الْمَبِيعِ وَشُرْبُهُ وَلُبْسُهُ، يُسْقِطُ الْخِيَارَ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ: إِذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لاَ يَبْطُلُ خِيَارُهُ.
- النَّسْخُ مِنَ الْكِتَابِ، لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لاَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، وَلَوْ دَرَسَ فِيهِ يَسْقُطُ.
- رُكُوبُ الدَّابَّةِ لِيَسْقِيَهَا، أَوْ يَرُدَّهَا، وَيَعْلِفَهَا، إِجَازَةٌ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِدُونِ الرُّكُوبِ لاَ يَكُونُ إِجَازَةً. وَأَطْلَقَ قَاضِيخَانْ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ لاَ يَبْطُلُ خِيَارُهُ فَقَالَ: وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لاَ يُبْطِلُ خِيَارَهُ اسْتِحْسَانًا، فَجَعَلَهُ مِنَ الاِسْتِحْسَانِ.
- بَيْعُ مَحَلِّ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتُهُ أَوْ رَهْنُهُ - مَعَ التَّسْلِيمِ - مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ لاَ يَنْفَسِخُ.
- إِيجَارُ مَحَلِّ الْخِيَارِ فَسْخٌ وَلَوْ لَمْ يُسَلِّمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ فَسْخًا مَا لَمْ يُسَلِّمْ.
- تَسْلِيمُ مَحَلِّ الْخِيَارِ إِلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَضْلِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ عَلَى وَجْهِ الاِخْتِيَارِ فَلاَ يُبْطِلُ خِيَارَهُ وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي، وَالتَّسْلِيمُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ فَيَبْطُلُ خِيَارُهُ.
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لاَ يَحِلُّ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ، وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لاَ يَنْفُذُ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالإْجَارَةِ .
شَرَائِطُ الْفَسْخِ:
53 - يُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الْفَسْخِ نَافِذًا الشَّرَائِطُ التَّالِيَةُ:
1 - قِيَامُ الْخِيَارِ، لأِنَّ الْخِيَارَ إِذَا زَالَ، بِالسُّقُوطِ مَثَلاً، يَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَلاَ أَثَرَ لِلْفَسْخِ حِينَئِذٍ.
2 - عِلْمُ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ بِعِبَارَةِ الْفَسْخِ بِحَضْرَةِ الْعَاقِدِ، وَعَكْسُهُ الْفَسْخُ فِي غَيْبَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَضْرَةِ، الْعِلْمُ لاَ الْحُضُورُ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ جَرَى الْفَسْخُ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ دُونَ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ فَالْفَسْخُ مَوْقُوفٌ: إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَسْخِ. وَفِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ - حَيْثُ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا - لَوْ عَادَ الْعَاقِدُ عَنْ فَسْخِهِ فَأَمْضَى الْعَقْدَ قَبْلَ عِلْمِ الآْخَرِ فَذَلِكَ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ فَسْخُهُ السَّابِقُ.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ: الأْوَّلُ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَوْلٌ آخَرُ لَهُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَائِعُ فَلاَ يُشْتَرَطُ بَلْ يَقْتَصِرُ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّ الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ وَرَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ بِالْقَوْلِ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الآْخَرِ، وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْفِعْلِ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ .
وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالرِّوَايَاتُ السَّابِقَةُ لِبَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، عَلَى مَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَاسِخَ مِنْهَا مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي لاَ خِيَارَ لَهُ فَلاَ يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْوَكِيلِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ جَائِزٌ، فَلاَ يُشْتَرَطُ الرِّضَا هُنَا وَلاَ هُنَاكَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، مِنْهَا: أَنَّ الْفَسْخَ كَالإْجَازَةِ فِي هَذَا، لأِنَّهُمَا شَقِيقَانِ كِلاَهُمَا لاِسْتِعْمَالِ الْخِيَارِ فَهُوَ - كَمَا قَالَ الْبَابَرْتِيُّ – قِيَاسٌ لأِحَدِ شِطْرَيِ الْعَقْدِ عَلَى الآْخَرِ .
3 - أَنْ لاَ يَنْشَأَ عَنِ الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، أَيْ أَنْ يَقَعَ الْفَسْخُ عَلَى جَمِيعِ الصَّفْقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الصَّفْقَةِ وَيَفْسَخَ فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، لأِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الإْجَازَةِ فِي الْبَعْضِ، فَيَنْشَأُ عَنْهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي اللُّزُومِ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُجْبِرُونَ الْعَاقِدَ عَلَى رَدِّ الْجَمِيعِ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ فِي الْبَعْضِ وَرَدَّ الْبَعْضَ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ الْعَاقِدُ الشَّرِكَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرَادَ الْفَسْخَ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْخِيَارُ فَالأْصَحُّ لاَ يَجُوزُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا مِنْ وَاحِدٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلأِحَدِهِمَا الْفَسْخُ فِي نَصِيبِهِ .
الأْدِلَّةُ: لِكُلٍّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَدِلَّةٌ تَدُورُ بَيْنَ وُجُوهٍ مِنَ الْمَعْقُولِ وَالاِسْتِشْهَادِ بِالنَّظَائِرِ الْفِقْهِيَّةِ.
انْتِقَالُ خِيَارِ الشَّرْطِ:
أَوَّلاً - انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ:
54 - ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمَوْرُوثِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهًا بِإِرْثِ خِيَارِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا.
وَقَدْ عَلَّلَ الْقَائِلُونَ بِانْتِقَالِ الْخِيَارِ لِلْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ مِنْ مُشْتَمِلاَتِ التَّرِكَةِ؛ لأِنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لإِصْلاَحِ الْمَالِ، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّمَنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ. فَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ تَرَكَ مَالاً أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ» ،، وَخِيَارُ الشَّرْطِ حَقٌّ لِلْمَوْرُوثِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِهِ كَمَا يَقْضِي الْحَدِيثُ.
ثُمَّ قَاسُوا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى خِيَارَيِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ الْمُتَّفَقِ عَلَى انْتِقَالِهِمَا لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْخِيَارَاتِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لاَ يُورَثُ، وَمِنْ عِبَارَاتِهِمْ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ: الْخِيَارُ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لأِنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةً وَإِرَادَةً فَلاَ يَنْتَقِلُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لاَ يَصِحُّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ فَلَمْ يُورَثْ، نَظِيرُ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ. وَقَالُوا أَيْضًا: خِيَارُ الشَّرْطِ لَيْسَ وَصْفًا بِالْمَبِيعِ حَتَّى يُورَثَ بِإِرْثِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَهُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِشَخْصِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ فَلاَ يُورَثُ عَنْهُ، لأِنَّ الإْرْثَ يَجْرِي فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، وَالْوَصْفُ الشَّخْصِيُّ لاَ يَقْبَلُ النَّقْلَ بِحَالٍ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَحْدَهُمْ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ، بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ، أَمَّا إِنْ طَالَبَ بِذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ. فَالأْصْلُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ .
وَقَدْ صَوَّرَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ نَقْلٌ، وَتَوْرِيثٌ مِنَ الْمُوَرِّثِ لِوَرَثَتِهِ بِإِرَادَاتِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الْعَدِيدَةِ قَوْلُ الْفَقِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَهْلاَنَ - شَيْخِ الْمُؤَلِّفِ -: «إِذَا مَاتَ وَوَرِثَ خِيَارَهُ وَرَثَتُهُ، لِشَرْطِهِ لَهُمْ فَأَسْقَطَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ سَقَطَ خِيَارُ الْجَمِيعِ» . وَقَدْ جَاءَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ إِيضَاحًا وَتَقْيِيدًا لِعِبَارَةِ أَحَدِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ مُوهِمَةً أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يُورَثُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ الأْمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ مُطَالَبَةُ الْمُوَرِّثِ بِحَقِّ الْخِيَارِ.
وَأَمَّا ابْنُ قُدَامَةَ فَقَالَ: الْمَذْهَبُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ مِنْهُمَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَيَبْقَى خِيَارُ الآْخَرِ بِحَالِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ طَالَبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِيهِ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ .
ثَانِيًا: انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْجُنُونِ وَحَالاَتِ الْغَيْبُوبَةِ:
55 - سَبَقَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (فِقْرَةِ 41 )
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ - أَوِ الإْغْمَاءُ - عَلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُهُ، بَلْ يَقُومُ وَلِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فَيَفْعَلُ مَا فِيهِ الأْحَظُّ مِنَ الْفَسْخِ وَالإْجَازَةِ وَكَذَلِكَ إِذَا أَصَابَهُ خَرَسٌ - وَلَمْ تَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ - نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجُنُونِ وَالإْغْمَاءِ:
أ - فَفِي الْجُنُونِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَفِيقُ، أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ وَقْتٍ طَوِيلٍ يَضُرُّ الاِنْتِظَارُ إِلَيْهِ بِالْعَاقِدِ الآْخَرِ، يَنْظُرُ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ فِي الأْصْلَ حِ لَهُ مِنْ إِمْضَاءٍ أَوْ رَدٍّ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرِ السُّلْطَانُ حَتَّى مَضَى جُزْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ فَزَالَ الْجُنُونُ يُحْتَسَبُ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَوْ لَمْ يُنْظَرْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَمَدِ الْخِيَارِ لاَ يُسْتَأْنَفُ لَهُ أَجَلٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمَبِيعُ لاَزِمٌ لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ. وَمِثْلُ الْمَجْنُونِ - فِي الْحُكْمِ - الْمَفْقُودُ، عَلَى الرَّاجِحِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
ب - وَفِي الإْغْمَاءِ يُنْتَظَرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لِكَيْ يَفِيقَ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ إِذَا مَضَى زَمَنُ الْخِيَارِ وَطَالَ إِغْمَاؤُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ لِلآْخَرِ فَيُفْسَخُ. وَلاَ يَنْظُرُ لَهُ السُّلْطَانُ.
فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَيَّامِ الْخِيَارِ اسْتُؤْنِفَ لَهُ الأْجَلُ، وَهَذَا الْحُكْمُ خِلاَفُ مَا مَرَّ فِي الْمَجْنُونِ .
هَذَا وَقَدْ يَزُولُ الطَّارِئُ الَّذِي نُقِلَ الْخِيَارُ بِسَبَبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْجُنُونِ النَّاقِلِ لِلْخِيَارِ إِلَى السُّلْطَانِ، لَوْ أَفَاقَ بَعْدَهُ لاَ عِبْرَةَ بِمَا يَخْتَارُهُ بَلِ الْمُعْتَبَرُ بِمَا نَظَرَهُ السُّلْطَانُ.
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَخَالَفَهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ: لَوْ أَفَاقَ الْعَاقِدُ وَادَّعَى أَنَّ الْغِبْطَةَ خِلاَفُ مَا فَعَلَهُ الْقَيِّمُ عَنْهُ يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَدَ الأْمْرَ كَمَا يَقُولُ الْمُفِيقُ مَكَّنَهُ مِنَ الْفَسْخِ وَالإْجَازَةِ وَنَقَضَ فِعْلَ الْقَيِّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ الْمُفِيقُ ظَاهِرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَيِّمِ مَعَ يَمِينِهِ، لأِنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فَعَلَهُ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْمُفِيقُ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ .
خِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ
التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الْخِيَارِ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارٌ) وَكَذَلِكَ سَبَقَ تَعْرِيفُ الشَّرْطِ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الشَّرْطِ) وَفَوَاتُ الشَّرْطِ: هُوَ عَدَمُ تَحْقِيقِ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَخِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ: هُوَ خِيَارٌ يَثْبُتُ بِفَوَاتِ الْفِعْلِ الْمَشْرُوطِ مِنَ الْعَاقِدِ فَوْقَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - لِهَذَا الْخِيَارِ صِلَةٌ بِأَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ الأْخْرَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا جَمِيعًا تَسْلُبُ لُزُومَ الْعَقْدِ مَعَ انْفِرَادِ كُلِّ خِيَارٍ بِالإْضَافَةِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ، كَالْعَيْبِ أَوِ الرُّؤْيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ مَا يَتَّصِلُ بِكُلِّ خِيَارٍ فِي مُصْطَلَحِهِ.
الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِخِيَارِ فَوَاتِ الشَّرْطِ:
3 - مِنَ الْمَبَادِئِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعَاقِدَ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْوَفَاءِ بِشَرْطٍ الْتَزَمَ بِهِ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ فِي الْعَقْدِ - وَكَانَ شَرْطًا صَحِيحًا - فَإِنَّ الأْصْلَ أَنْ يَتَوَصَّلَ الْمُشْتَرِطُ إِلَى تَنْفِيذِهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْقَضَاءِ لِيُوَفِّيَ الْمُتَخَلِّفَ عَنِ الشَّرْطِ جَبْرًا. وَهَذَا فِي شَرْطٍ يُمْكِنُ الإْجْبَارُ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْمُمْتَنِعِ عَلَى فِعْلِهِ. كَالْتِزَامِهِ بِأَنْ يُقَدِّمَ رَهْنًا بِالثَّمَنِ. فَهَاهُنَا يُثْبِتُونَ خِيَارَ فَوَاتِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانُوا لاَ يُسَمُّونَهُ بِذَلِكَ، بَلْ يُعَبِّرُونَ بِأَنَّ لَهُ حَقَّ فَسْخِ الْعَقْدِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: يُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَدْفَعَ الرَّهْنَ - أَوْ قِيمَتَهُ - أَوْ تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ (عَاجِلاً) أَوْ يَفْسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ.. وَلَوِ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَالْغَرَضِ.
ثُمَّ نَصَّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ إِعْطَاءِ الْكَفِيلِ، وَلَمْ يُجْعَلْ مِنْهُ شَرْطُ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ أَخَذُوا بِمَبْدَأِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ، أَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ، أَوْ زَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُدَهُ الْبَائِعُ. لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ صُوَرًا حَكَمُوا بِصِحَّتِهَا، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الأْجَلِ، أَوِ الرَّهْنِ، أَوِ الْكَفِيلِ - مَعَ الْمَعْلُومِيَّةِ وَالتَّعْيِينِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ - أَوْ بِشَرْطِ الإْشْهَادِ.
فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ الْمُلْتَزِمُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ لَمْ يَرْهَنْ أَوْ لَمْ يَتَكَفَّلَ الْكَفِيلُ الْمُعَيَّنُ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِطِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.
وَلاَ يُجْبَرُ مَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الشَّرْطَ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا شَرَطَ، لِزَوَالِ الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ، كَمَا لاَ يَقُومُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ مَقَامَهُ إِذَا تَلِفَ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ لِلْحَنَابِلَةِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلُ إِنْ وَفَّى الْمُلْتَزِمُ بِالشَّرْطِ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَبَى فَلِلْمُشْتَرِطِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإْمْضَاءِ بِدُونِ مُقَابِلٍ عَنْ تَرْكِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ .
وَالْمَذْهَبُ الْحَنْبَلِيُّ هُوَ أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ عِنَايَةً بِالشُّرُوطِ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الأْصْلَ فِي الْعُقُودِ رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَنَتِيجَتُهَا هُوَ مَا أَوْجَبَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالتَّعَاقُدِ . وَقَدِ اعْتَدُّوا بِمَبْدَأِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فِي اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ بَعْدَمَا وَسَّعُوا مِنْ مَفْهُومِهِ، عَلَى أَسَاسِ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْعَاقِدِ هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يُوجِبْهَا الْعَقْدُ فَأَبَاحُوا أَكْثَرَ مِنْ شَرْطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُصَادِمُ نَصًّا شَرْعِيًّا أَوْ أَصْلاً مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يَكُونُ فِي ذَاتِهِ غَيْرَ مُلْزِمٍ شَرْعًا لِلْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ، وَتَكُونُ ثَمَرَةُ صِحَّةِ اشْتِرَاطِهِ تَمْكِينَ الشُّرُوطِ لَهُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ وَفَاءِ الْمُشْتَرِطِ .
وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَنَابِلَةُ مَعَ هَذَا خِيَارَ فَوَاتِ الشَّرْطِ فِي عِدَادِ مَا أَوْرَدُوهُ مِنْ خِيَارَاتٍ . إِلاَّ أَنَّ صَاحِبَ «غَايَةِ الْمُنْتَهَى» اسْتَوْجَهَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْخِيَارَاتِ الثَّمَانِيَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (بِاسْتِمْرَارِ) قِسْمًا تَاسِعًا مِنْ أَقْسَامِ الْخِيَارِ وَهُوَ الْخِيَارُ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي لِفَقْدِ شَرْطٍ صَحِيحٍ، أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ فَاسِدٍ، سَوَاءٌ كَانَ يُبْطِلُ الْعَقْدَ أَوْ لاَ يُبْطِلُهُ، وَقَدْ أَقَرَّهُ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ الاِسْتِدْرَاكِ، وَإِنْ كَانَتْ فَائِدَتُهُ شَكْلِيَّةً فَالْخِيَارُ كَمَا رَأَيْنَا مُعْتَبَرٌ فِي الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ لِلْحَنَابِلَةِ وَإِنْ لَمْ تُبْرِزْهُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا يُورِدُونَهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ صُوَرِهِ وَقُيُودِهِ .
انْتِقَالُهُ بِالْمَوْتِ:
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ الثَّابِتَ لِلْبَائِعِ عِنْدَ عَجْزِ الْمُشْتَرِي عَنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِلاَ خِلاَفٍ .
سُقُوطُهُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهِ:
5 - يُطَبَّقُ مَا يَجْرِي فِي خِيَارِ الْعَيْبِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكَلاَمِ عَنْ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ، (ر: خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ).