مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثالث، الصفحة : 136
حوالة الدين
المذكرة الإيضاحية :
نظرة عامة :
استحدث المشروع في هذا الفصل نظاماً جديداً هو نظام حوالة الدين، ويراعی أن هذا النظام إسلامي بحت، وإن كان له نظير في التشريعات الجرمانية، وغنى عن البيان أن نفعه من الناحية العملية يقتضي إقراره في نطاق التشريع .
مذكرة المشروع التمهيدي :
تعرض أول صورة من صور حوالة الدين حيث يتم التعاقد مباشرة بين المدين الأصلي والمحال عليه، وهو من يتحمل الدين عنه ( المادة 444 فقرة 1). وفي هذه الحالة يعمد الدين إلى التصرف في مرکزه، بوصفه هذا، شأنه شأن الدائن عنيد التصرف في مركزه من طريق حوالة حقه .
1 ـ المقرر أنه إذا بيعت العين المؤجرة و حول المالك البائع عقد إيجارها إلى المشترى كان ذلك كافياً لتخويل الأخير حق رفع دعوى الإخلاء بإسمه . على المستأجر بسبب التأجير من الباطن ، ذلك أنه إذا كانت الحوالة نافذة فى حق المدين لإعلانه بها فإنه للمحال له أن يقاضيه فى شأن الحقوق المحال بها دون حاجة إلى إختصام المحيل لأن الحق المحال به ينتقل إلى المحال له مع الدعاوى التى تؤكده . لما كان ذلك و كان الثابت فى الدعوى أن ممثل المالك البائع لعين النزاع قد حول إلى مشتريها - المطعون عليه الأول - عقد تأجيرها إلى مورث المطعون عليهم من الثانية إلى الأخير ، و كان قد تم إعلان المستأجر الأصلى بهذه الحوالة بمقتضى إعلانه بصحيفة إفتتاح الدعوى الماثلة مما يجعل الحوالة نافذة قبله تطبيقاً لنص المادة 315 من القانون المدنى ، و قبل المستأجر من باطنه - الطاعن - بحكم تلقيه الحق فى الإيجار منه ، و ينتقل بذلك إلى المطعون عليه الأول الحق المحال به شاملاً حقه فى إقامة دعوى الأخلاء للتأجير من الباطن ، فإن الدعوى تكون بذلك قد أقيمت من ذى صفة .
(الطعن رقم 618 لسنة 45 جلسة 1979/04/07 س 30 ع 2 ص 40 ق 193)
2 ـ مفاد المواد 315، 316، 321 من القانون المدني أن حوالة الدين تتحقق إما بإتفاق بين المدين الأصلي والمحال عليه الذي يصبح بمقتضاه مديناً بدلاً منه، ولا ينفذ فى مواجهة الدائن بغير إقراره، وإما بإتفاق بين الدائن والمحال عليه بغير رضاء المدين الأصلي.
(الطعن رقم 606 لسنة 43 جلسة 1978/04/19 س 29 ع 1 ص 1031 ق 204)
3 ـ تقرير وزارة التربية و التعليم إعانة مالية للمدارس الخاصة - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - هو بمثابة هبة تمنحها الوزارة لهذه المدارس لاعتبارات تتصل بأداء رسالة التعليم فلا تلزم إلا طرفيها ولا يتأدى من تقريرها أو تخصيص جزء منها لسداد اشتراكات التأمين بمجرد تغيير شخص المدير بها، ولا ينبني على تعهد وزارة التربية والتعليم بسداد الاشتراكات انتقال الالتزام بها إلى هذه الوزارة طالما لم يتم الاتفاق فيما بين صاحب المدرسة الخاصة ووزارة التربية والتعليم على حوالة الدين إلى الأخيرة ولم تقر الطاعنة هذه الحوالة وفق ما تقضى به المادتان 315، 316 من القانون المدني.
(الطعن رقم 96 لسنة 48 جلسة 1983/11/07 س 34 ع 2 ص 1558 ق 304)
4 ـ حوالة الدين بين تاجرين تكتسب الصفة التجارية متى عقدت لشئون تتعلق بتجارتهما و يجوز إثباتها بالبينة و القرائن .
(الطعن رقم 621 لسنة 39 جلسة 1976/05/31 س 27 ع 1 ص 1240 ق 237)
فى حوالة الدين، يتفق المدين مع أجنبي على أن يتحمل عنه الدين الذي في ذمته للدائن، فيحل الأجنبي محل المدين فى هذا الدين نفسه بجميع مقوماته وخصائصه وضماناته ودفوعه، وقد رأينا فى حوالة الحق أن الدائن هو الذى يتفق مع أجنبي على أن يحول له الحق الذي فى ذمة المدين، فيحل الأجنبي محل الدائن فى هذا الحق نفسه.
وفى حوالة الدين يسمى المدين محيلاً، لأنه يحيل على الأجنبي الدين الذى فى ذمته، أما المحيل فى حوالة الحق فهو الدائن.
ويسمى الأجنبي محالاً عليه، لأن المدين أحال عليه الدين، والمحال عليه فى حوالة الحق هو المدين.
ويسمى الدائن محالاً، لأن المدين أحاله على الأجنبي، والمحال –أو المحال له - فى حوالة الحق هو الأجنبي.
على أن التقنين المدني لم يستعمل من هذه المصطلحات فى حوالة الدين إلا المصطلح الخاص بالأجنبي الذي يتحمل الدين عن المدين الأصلي، فأسماه المحال عليه، واستبقى لكل من الدائن والمدين الأصلي اسميهما، فأطراف الحوالة إذن هم المدين الأصلي والمحال عليه والدائن، وسنتابع التقنين فيما فعل، حتى لا ننحرف عن نصوصه.
ويصح أن تتم حوالة المدين –بل هذا هو الأصل فيها - باتفاق بين الدائن والمحال عليه دون تدخل المدين الأصلي، فيتفق الدائن مع أجنبي على أن يتحمل هذا الأجنبي الدين عن المدين الأصلي، وتبرأ ذمة المدين الأصلي دون حاجة إلى رضاه.
حوالة الدين اتفاق بين طرفين على تحويل الدين من ذمة المدين الأصلي إلى ذمة مدين جديد يحل محله، فأركان هذه الحوالة، كأركان حوالة الحق ، هى أركان أي اتفاق يتم بين طرفين، ومن ثم تكون هذه الأركان هى التراضي والمحل والسبب.
ولابد أن يصدر التراضى من ذى أهلية، خالياً من عيوب الإرادة من غلط وتدليس وإكراه واستغلال.
كذلك يجب أن تتوافر فى المحل شرائطه العامة، ومحل حوالة الدين هو الدين الذى يحول من ذمة المدين الأصلي إلى ذمة المدين الجديد، وترد حوالة الدين على جميع الديون، لا فرق فى ذلك بين ما يكون منه مؤجلاً أو معلقاً على شرط أو مستقبلاً، وهى تنعقد صحيحة فى الدين المستقبل، ولكنها لا تنفذ إلا بوجود الدين.
والسبب فى حوالة الدين هو الباعث الذي دفع إلى عقدها، ويختلف باختلاف الأغراض المتنوعة التى تفى حوالة الدين بها، وقد سبق بيان ذلك، وفى القوانين الجرمانية تعتبر حوالة الدين، كحوالة الحق ، مصدراً لالتزام مجرد .
فنحيل في كل ذلك إلى القواعد العامة المتعلقة بنظرية العقد، ونكتفي هنا ببحث الصورتين اللتين تتم فى إحداهما حوالة الدين :
الصورة الأولى : اتفاق بين المدين الأصلي والمحال عليه، ويقر الدائن هذا الاتفاق ليكون نافذاً في حقه.
والصورة الثانية : اتفاق بين الدائن والمحال عليه، دون تدخل المدين الأصلي بل ودون حاجة إلى رضائه، وهذه الصورة أكثر تمشياً مع إرادة الدائن، إذ الدائن فيها يتدخل مباشرة لإبرام الحوالة، ولا يقتصر على إقرارها كما فى الصورة الأولى.
ويتبين من هذا النص أن حوالة الدين تتم باتفاق بين المدين والمحال عليه، أي بين المدين الأصلي والمدين الجديد، أما رضاء الدائن فليس بضروري لانعقاد الحوالة، وإن كان ضرورياً لنفاذها فى حقه.(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء/ الثالث المجلد/ الأول الصفحة/630)
حوالة الدين اتفاق (عقد) بين طرفين على تحويل الدين من ذمة المدين الأصلي إلى ذمة مدين جديد يحل محله، فأركانه في التراضي والمحل والسبب على نحو ما ذكرناه في العقد ويكفي في انعقاد حوالة الدين أن يتفق المدين الأصلي مع المدين الجديد وهو المحال عليه على نقل الدين من ذمة الأول الذي يشترط فيه أهلية التعاقد على ذمة الثاني الذي يشترط فيه أهلية الالتزام معاوضة أو تبرعاً تبعاً لعلاقته بالأول ولا يجوز للمحال عليه الرجوع فيها إلا باتفاق آخر بينه وبين المدين الأصلي قبل أن يقر الدائن الحوالة.( المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الخامس الصفحة/ 214)
حوالة الدين هي وسيلة لانتقال الالتزام في ناحيته السلبية من ذمة إلى أخرى بحيث يحل مدین محل المدين الأصلي في الدين ذاته، كما يحل من طريق حوالة الحق دائن جديد محل الدائن الأصلي في الحق .
والصورة الأولى لحوالة المدين هي ما تنص عليه هذه المادة، وهي تتم بالاتفاق بين الدائن والمدين الجديد على أن يتحمل هذا بالدين محل المدين الأصلي، وذلك دون حاجة إلى رضاء المدين الأصلي كما سنرى.
ويكون المدين الأصلي محيلاً والطرف الآخر محالاً عليه، وهذه هي الحالة الغالبة.
أما الحالة الثانية فهي التي تتم باتفاق بين الدائن والمحال عليه يتقرر فيه أن هذا يحل محل المدين الأصلي في التزامه (م 321).(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الرابع الصفحة/ 264)
تنص المادة 315 على أن « تتم حوالة الدين باتفاق بين المدين وشخص آخر يتحمل عنه الدين ). وظاهر أن الحوالة في هذه الحالة تتم بعيداً عن الدائن أي بدون اشتراكه فيها أو رضاه بها، مع أنه صاحب المصلحة الأولى في هذا الدين، ولشخصية المدين لديه أهمية كبيرة، ليس من ناحية درجة يساره فحسب بل أيضاً من ناحية حسن استعداده للوفاء أو عدمه، خلافاً لشخصية الدائن بالنسبة إلى المدين الذي يتغير عليه دائنه من طريق حوالة الحق، إذ أن المدين لا يعنيه كثيراً أن يدفع دينه إلى زيد أو إلى عمرو في حين أن حق الدائن قد يفقد قيمته إذا حل محل المدين الأصلي مدين جديد لا مال له أو له مال ولكنه كتير المطل والتسويف ميال إلى المنازعة والشغب .
لذلك رأى المشرع بعد أن اكتفى في انعقاد الحوالة في هذه الصورة بمجرد الاتفاق بين الدين الأصلي والمدين الجديد،و غني عن البيان أن هذا الاتفاق الذي تقدم به حوالة الدين بين الدين الأصلي والدين الجديد، يجب أن تتوافر فيه الأركان اللازمة لا تعتاد و أي عقد وشروط صحته فتتم بإيجاب وقبول متطابقين بين المدين الأصلي والمدين الجديد ومحل الحوالة هو الدين الحال : وسببها هو التبرع إذا كان قبول الدين الجديد حوالة الدين إليه بدون مقابل، أما إذا كانت أول معاوضة يكون سببها هو المقابل الذي يتقاضاه الدين في نظير التزامه بالدين الحال ، ويجب أن تتوافر في الدين الحالي إليه أهلية التبرع إذا كانت الحوالة تبرعاً، وإلا فأهلية الأعمال الدائرة بين النفع والضرر ( السنهوري في المرجع المتقدم نبذة 313)، أن يقصر أثر هذه الحوالة على العلاقة فيما بين طرفيها وأن لا يجعلها نافذة في حق الدائن إلا إذا أقرها.(الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ السادس الصفحة/ 658)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الثاني، الصفحة / 103
الاحتيال بالحق من جهة المحيل يكون نتيجة عقد الحوالة، فالحوالة عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى أخرى، وهي مستثناة - كما يقول بعض الفقهاء - من بيع الدين بالدين.
7 - وهي جائزة للحاجة إليها. والأصل فيها قول النبي صلي الله عليه وسلم «إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل» والحكم فيها براءة ذمة المحيل من دين المحال له. وقد اشترط الفقهاء لصحتها شروطا، كرضا المحيل المحال له، والعلم بما يحال به وعليه.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الخامس ، الصفحة / 65
أصيل
التعريف:
1 - الأصيل في اللغة مشتق من أصل، وأصل الشيء أساسه وما يستند وجود ذلك الشيء إليه، ويطلق الأصيل على الأصل. ويأتي بمعنى الوقت بعد العصر إلى غروب الشمس.
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذين المعنيين اللغويين، فيطلقونه في الكفالة والحوالة على المطالب ابتداء بالحق، وفي الوكالة على من يملك التصرف ابتداء.
الحكم الإجمالي:
2 - يختلف الحكم تبعا للاستعمالات الفقهية، فالحوالة توجب براءة الأصيل عند جمهور الفقهاء لأن معناها نقل الحق، وذلك لا يتحقق إلا بفراغ ذمة الأصيل، أما الكفالة فلا توجب براءة الأصيل، لأن معناها ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة، وأما الوكالة ففيها حلول الوكيل محل الأصيل في الجملة، وتفصيل كل من ذلك في بابه.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / السادس ، الصفحة / 171
انتقال الالتزام:
54 - يجوز انتقال الالتزام بالدين من ذمة إلى ذمة أخرى، إذ هو نوع من التوثيق بمنزلة الكفالة، وهو ما يسمى بالحوالة، وهي معاملة صحيحة مستثناة من بيع الدين بالدين فجازت للحاجة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على
مليء فليتبع » . وللتفصيل ومعرفة الخلاف (ر: حوالة).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / السادس عشر ، الصفحة / 230
ذكر الجودة في الحوالة :
5 - يرى الحنابلة والشافعية على الأصح وجوب تساوي الدينين - المحال به والمحال عليه - في الصفة؛ لأن الحوالة تحويل الحق، فيعتبر تحوله على صفته، والمراد بالصفة ما يشمل الجودة والرداءة، والصحة والتكسر، والحلول والتأجيل.
وقال المالكية: وفي جواز تحوله بالأعلى على الأدنى صفة أو قدرا، ومنعه تردد، وعلل الجواز بأنه من المعروف الذي هو الأصل في الحوالة.
وعلل المنع بأنه يؤدي إلى التفاضل بين العينين.
وقال الشافعية في وجه: تجوز الحوالة بالقليل على الكثير، وبالصحيح على المكسر، وبالجيد على الرديء، وبالمؤجل على الحال، وبالأبعد أجلا على الأقرب.
وأما الحنفية فلا يشترطون لصحة الحوالة أن يكون المحال عليه مديونا للمحيل، ومن ثم لا يشترط عندهم التساوي بين المالين المحال به والمحال عليه جنسا، أو قدرا، أو صفة. وللتفصيل: (ر: حوالة).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الثامن عشر ، الصفحة / 169
حوالة
التعريف:
1 - الحوالة في اللغة: من حال الشيء حولا وحؤولا: تحول. وتحول من مكانه انتقل عنه وحولته تحويلا نقلته من موضع إلى موضع.
والحوالة بالفتح مأخوذة من هذا، فإذا أحلت شخصا بدينك فقد نقلته إلى ذمة غير ذمتك.
2 - والحوالة في الاصطلاح: نقل الدين من ذمة إلى ذمة. فمتى تم الإيجاب والقبول تحميلا وتحملا لأداء الدين من المحتمل إلى الدائن، بين اثنين من الثلاثة الأطراف المعنية، الدائن والمدين والملتزم بالأداء، مع الاستيفاء لسائر الشرائط التي ستأتي، فقد تم هذا النقل من الوجهة الشرعية.
مثال ذلك أن يقول للدائن قائل: لك على فلان دين مقداره كذا فاقبل حوالته علي، فيقول الدائن: قبلت أو يبتدئ الدائن فيقول لصاحبه: لي على فلان كذا، فاقبل دينه عليك حوالة، فيجيب: قد فعلت
3 - بعد هذا التعريف يتبين ما يلي:
أ - أن المحيل هو المدين، وقد يكون دائنا أيضا باعتبار آخر (كما سنرى)، وهو طرف في العقد إذا باشره بنفسه أو أجازه.
ب - وأما المحال، فهو الدائن، وهو أبدا طرف في العقد، إما بمباشرته، وإما بإجازته.
ويقال له أيضا: حويل، ومحتال (بصيغة اسم الفاعل). ولا يقال: محال له، أو محتال له، لأن هذه الصلة لغو - كما قال في المغرب - وإن أثبتها البعض، وتكلف ابن عابدين تصحيحها.
ج - وأما المحال عليه (ويقال له أيضا: حويل، بزنة «كفيل»، ومحتال عليه) فهو الذي التزم لأحد الآخرين بديته على ثانيهما، وهو أيضا أبدا طرف في العقد، على نحو ما ذكر في المحال.
د - وأما المحال به، (ويقال: المحتال به) فهو الدين نفسه الذي للمحتال على المحيل، وهو هنا محل عقد الحوالة.
ألفاظ ذات صلة:
أ - الكفالة أو الضمان:
4 - الكفالة أو الضمان لغة: الالتزام بالشيء. وفي الاصطلاح: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق . والفرق بين الحوالة والكفالة أو الضمان: أن الحوالة نقل للدين من ذمة إلى ذمة أخرى، أما الكفالة أو الضمان فهو ضم ذمة إلى ذمة في الالتزام بالحق فهما متباينان، لأن بالحوالة تبرأ ذمة المحيل، وفي الكفالة لا تبرأ ذمة المكفول.
ب - الإبراء:
5 - الإبراء لغة: التنزيه والتخليص والمباعدة عن الشيء. واصطلاحا: إسقاط الشخص حقا له في ذمة آخر أو قبله.
والفرق بين الحوالة والإبراء، أن الحوالة نقل للحق من ذمة إلى ذمة، والإبراء إسقاط للحق.
الحكم التكليفي:
6 - الحوالة بالدين مشروعة يدل لذلك ما يأتي:
أ - السنة:
7 - روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع»،، وفي لفظ عند الطبراني في الأوسط: «ومن أحيل على مليء فليتبع» وفي آخر عند أحمد وابن أبي شيبة: «ومن أحيل على مليء فليحتل» وقد يروى بفاء التفريع: «وإذا أحلت على مليء فاتبعه» فيفيد أن ما قبله علته، أي أن مطل أهل الملاءة واليسار ظلم محرم في الإسلام، فلا يخشينه مسلم فيأبى من خشيته قبول الحوالة على مليء بل إنه لمأمور بقبولها.
ب - الإجماع:
8 - انعقد الإجماع على مشروعية الحوالة.
ج - القياس:
9 - الحوالة مقيسة على الكفالة، بجامع أن كلا من المحال عليه والكفيل قد التزم ما هو أهل لالتزامه وقادر على تسليمه، وكلاهما طريق لتيسير استيفاء الدين، فلا تمتنع هذه كما لم تمتنع تلك. والحاجة تدعو إلى الحوالة، والدين يسر. واستدل الحنفية بقياس المجموع على آحاده: ذلك أن كلا من نوعي الحوالة (المطلقة أو المقيدة) يتضمن تبرع المحال عليه بالالتزام والإيفاء، وأمره بالتسليم إلى المحال، وتوكيل المحال بالقبض منه. وما منها خصلة إلا وهي جائزة على الانفراد، فلتكن كذلك عند الاجتماع، بجامع عدم الفرق.
10 - واختلفوا في قبول المحال للحوالة المأمور به في الحديث، هل هو أمر إيجاب، أم ندب أم إباحة؟ قال بالأول أحمد وأبو ثور وابن جرير.
لأنه الأصل في صيغة الأمر، وقال بالثاني: أكثر أهل العلم، ومنهم من يصرح بتقييده بأن يكون المليء ليس في ماله شبهة حرام.
وإنما صرفوا الكلام عن ظاهره إلحاقا للحوالة بسائر المعاوضات، لأنها لا تخلو من شوب معاوضة.
واستظهر الكمال بن الهمام أنه أمر إباحة، لأن أهل الملاءة قد يكون فيهم اللدد في الخصومة والمطل بالحقوق، وهو ضرر لا يأمر الشارع بتحمله، بل بالتباعد عنه واجتنابه. فمن عرف منهم بحسن القضاء استحب اتباعه، تفاديا للمساس بمشاعره، وتنفيسا عن المدين نفسه، ومن جهل حاله فعلى الإباحة، إذ لا ترجيح بلا مرجح.
وبعض الشافعية يجعل الملاءة شيئا، وكلا من الإقرار بالدين وعدم المماطلة شيئا آخر.
وذلك إذ يقول: (يسن قبولها على مليء، مقر، باذل، لا شبهة في ماله).
حقيقة عقد الحوالة وحكمة مشروعيتها:
11 - يرى الحنفية والحنابلة وهو الأصح عند الشافعية، أن الحوالة مستثناة من بيع الدين بالدين، ونسب النص عليه إلى الشافعي نفسه لأن كل واحد ملك بها ما لم يكن يملك، فكأنما المحال قد باع ما له في ذمة المحيل بما لهذا في ذمة مدينه.
وعبارة صاحب المهذب من الشافعية: (الحوالة بيع في الحقيقة: لأن المحتال يبيع ما له في ذمة المحيل بما للمحيل في ذمة المحال عليه، أو أن المحيل يبيع ما له في ذمة المحال عليه بما عليه من الدين).
وجزم به ابن رشد الحفيد من المالكية أول كلامه، إذ يقول بإطلاق: (والحوالة معاملة صحيحة مستثناة من الدين بالدين).
فالحوالة، على هذا، بيع دين بدين، أو كما يقول في الحاوي الزاهدي: (هي تمليك الدين من غير من هو عليه)، والقياس امتناعه، ولكنه جوز للحاجة، رخصة من الشارع وتيسيرا.
فكثيرا ما يكون المدين مماطلا، يؤذي دائنيه بتسويفه وكذوب وعوده، أو بمشاغباته وضيق ذات يده، وربما كان له دين على آخر هو ألين عريكة، وأحسن معاملة، وأوفر رزقا، فيرغب دائنو الأول في التحول إلى هذا توفيرا للجهد والوقت، واتقاء لأخطار الخصومات، وتحصيلا لجزء من المال عاطل، يمكن أن تنمى به ثروة، أو تسد به خلة. فرخص في الحوالة من أجل هذا وما شاكله، إذ لو لم تشرع لفاتت كل هذه الأغراض الصحيحة، ولحاقت بالدائنين أضرار جمة، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام. والعكس صحيح أيضا: فربما كان المحال عليه مماطلا، وكان المحال أقدر من المحيل على استخلاص الحق منه، ولولا الحوالة لطال عناء الدائن الضعيف، أو لضاع ماله. وليس في كل وقت يتاح الوكيل الصالح، وإن أتيح فقلما يكون بغير أجر. على أن الوكالة لا تغني في الحالة الأولى، لأنها عقد غير لازم: فقد يوكل المدين المماطل دائنه في استيفاء الدين، ويسلطه على تملكه بعد قبضه، تحت ضغط ظروف خاصة، ثم لا يلبث أن يعزله قبل قبضه، فيعود كما بدأ.
12 - ولا يبعد كثيرا عن هذا المذهب من الرأي رأي الذاهبين إلى أن الحوالة بيع عين بعين تقديرا.
وقد يوضحه أن المقصود بالدين هو الماصدق الخارجي له، إذ المعاني الكلية القائمة بالذمة، كمائة ثوب أو دينار، لا تعني لذاتها - وكذا لا يبعد عنهم الرأي القائل بأنها بيع عين بدين - وهذا قد يقرب من مذهب الحنفية إذا كانت الحوالة مقيدة على ما قرره الزاهدي، إذ المقصود عندهم بالمبيع عينه، لتعلق الحاجة بمنفعتها الذاتية، أما المقصود بالثمن فماليته. ولذا يكون للمشتري تسليم مثله مع بقائه، ولو تلف أو استحق لا يبطل العقد، ويسلم المثل، نعم في الحوالة المطلقة التي تفرد بها الحنفية لا يتصور معنى البيع على حال، وهي بالحمالة (الكفالة) أشبه.
13 - على أن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لا يسلمان بأن الحوالة واردة على خلاف القياس وإن كان فيها بيع دين بدين. وفي ذلك يقرر ابن القيم في إعلام الموقعين أن امتناع بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام، ولا إجماع. وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو الشيء المؤخر الذي لم يقبض، كما لو أسلم شيئا في شيء في الذمة، وكلاهما مؤخر، فهذا لا يجوز بالاتفاق، وهو بيع كالئ بكالئ.
وأما بيع الدين بالدين فهو على أربعة وجوه:
إما أن يكون بيع واجب بواجب كالصورة التي ذكرنا، وهو الممنوع، أو يكون بيع ساقط بساقط (كما في صور المقاصة) أو يكون بيع ساقط بواجب (كما لو باعه دينا له في ذمته، بدين آخر من غير جنسه)، فقد سقط الدين المبيع ووجب عوضه، أو يكون بيع واجب بساقط (كما لو اشترى من مديونه قمحا على سبيل السلم بالدين الذي له عليه فقد وجب له عليه دين، وسقط عنه غيره). وقد حكى بعضهم الإجماع على امتناع هذا شرعا، ولا إجماع فيه.
ونقل تلميذه ابن القيم عنه اختيار جوازه، ثم قال: وهو الصواب، إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى. فإن المنهي عنه قد شغلت فيه الذمتان بغير فائدة: فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله، وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما شغلت ذمته بغير فائدة. وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منها غرض صحيح، ومنفعة مطلوبة، وذلك ظاهر في مسألة التقاص: فإن ذمتهما تبرأ من أسرها، وبراءة الذمة مطلوب لهما وللشارع.
وأما في الصورتين الآخرتين: فأحدهما يعجل براءة ذمته والآخر ينتفع بربحه، يعني فثم نفع في مقابلة نفع، فتجوز، كما في بيع العين بالدين سواء اتحدت الذمة أم اختلفت.
14 - وهناك أقوال أخر أجملها السيوطي في ستة
1 - بيع.
2 - استيفاء.
3 - بيع مشتمل على استيفاء.
4 - استيفاء مشتمل على بيع.
5 - إسقاط بعوض.
6 - ضمان بإبراء.
15 - والصحيح عند الحنابلة أن الحوالة عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس بمحمول على غيره وليست الحوالة بيعا، لأنها لو كانت بيعا لكانت بيع دين بدين ولما جاز التفرق قبل القبض، وليست في معنى البيع لعدم العين فيها، وهذا موافق للمعتمد عند الحنفية، إذ يقولون: (الحوالة ما وضعت للتمليك، وإنما وضعت للنقل)، أو لقول بعض الشافعية، كما يفهم من عبارة صاحب المهذب: (إذا أحال بالدين انتقل الحق إلى المحال عليه، وبرئت ذمة المحيل، لأن الحوالة إما أن تكون تحويل حق، أو بيع حق، وأيهما كان وجب أن تبرأ به ذمة المحيل). وهو عند المالكية صريح كلامهم في تعليل شريطة تساوي الدينين قدرا وصفة: هذا ابن رشد الحفيد نفسه - على خلاف ما تقدم له - يعود فيقول: (لأنه إن اختلفا في أحدهما كان بيعا ولم يكن حوالة) فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج إلى باب البيع دخله الدين بالدين. إلا أن يكون تأويل كلامه ما قاله بعض المالكية: (إن الحوالة من أصلها مستثناة من بيع الدين بالدين، فهو لازم لها، إلا أنه إذا استوفيت شرائط الصحة كان ذلك هو محل الرخصة) وإذن يظل المالكية - قولا واحدا - مع القائلين بأن الحوالة مستثناة من بيع الدين.
ولكن الواقع أن الخلاف ثابت عندهم، غير أن أكثرهم على أنها مستثناة من بيع الدين بالدين.
16 - وإليك ما قاله ابن تيمية:
الوجه الثاني: (يعني مما يبين أن الحوالة على وفق القياس) أن الحوالة من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي في ذمة المحيل، ولهذا ذكر النبي صلي الله عليه وسلم الحوالة في معرض الوفاء، فقال في الحديث الصحيح: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» فأمر المدين بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبين أنه ظالم إذا مطل، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء. وهذا كقوله تعالى. (فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ). أمر المستحق أن يطالب بالمعروف، وأمر المدين أن يؤدي بإحسان. ووفاء المدين ليس هو البيع الخاص، وإن كان فيه شوب معاوضة.
تقسيم الحوالة وبيان أنواعها:
17 - تتنوع الحوالة عند الحنفية، إلى نوعين أصليين:
1 - حوالة مقيدة.
2 - وحوالة مطلقة.
ثم تتنوع الحوالة المطلقة، بدورها، إلى نوعين فرعيين:
1 - حوالة حالة.
2 - وحوالة مؤجلة. ويمكن أيضا أن تتنوع الحوالة المقيدة إلى أنواع فرعية:
1 - حوالة مقيدة بدين خاص.
2 - حوالة مقيدة بعين هي أمانة، كالوديعة.
3 - حوالة مقيدة بعين مضمونة، كالمغصوبة. هذا، وتوجد حالة خاصة للحوالة لا تخرج عن هذين النوعين، هي السفتجة في بعض صورها.
والسفتجة ورقة تكتب للمقرض في بلد ليستوفي نظير قرضه في بلد آخر اتقاء لخطر الطريق المحتمل، لو أن صاحب المال سافر بماله إلى البلد الذي يقصده، فيلتمس من يحتاج إلى المال هنا وله مال أو دين في البلد الآخر، فيقرضه المال هنا على أن يستوفيه هناك من وكيل المقترض، أو من مدينه في ذاك البلد.
ونظرا لأن بعض صور السفتجة قرض محض مشروط الوفاء في بلد آخر، وبعضها يتوافر فيها معنى الحوالة، فقد أفرد لها بحث في آخر موضوع الحوالة.
أولا - النوعان الأصليان للحوالة:
18 - قد يقيد قضاء دين الحوالة بأن يكون من مال المحيل الذي عند المحال عليه أو في ذمته.
وقد لا يقيد بذلك. ففي الحالة الأولى، تكون الحوالة مقيدة، وفي الحالة الثانية، تكون حوالة مطلقة.
وفي الحوالة المطلقة قد لا يكون للمحيل عند المحال عليه عين - بغصب أو إيداع أو نحوهما - أو لا يكون له في ذمته دين بسبب ما - كمعاوضة أو إتلاف أو غيرهما - فيقبل الحوالة متبرع لم تتوجه عليه للمحيل أية حقوق. وقد يكون شيء من ذلك لكن الحوالة أرسلت إرسالا، ولم تقيد بشيء من ذلك. وإذن يمكن تفسير كل من الحوالة المطلقة والمقيدة كما يلي:
19 - الحوالة المقيدة: هي التي تقيد بدين للمحيل على المحال عليه، أو بعين له عنده، أمانة كانت أم مضمونة.
مثال ذلك: أن يقول المدين لآخر: أحلت فلانا عليك بالألف التي لي في ذمتك، فيقبل (المحال عليه)، أو يقول له: أحلت فلانا عليك بالألف التي له علي، على أن تؤديها إليه من الدنانير التي أودعتكها. أو على أن تؤديها إليه من الدنانير التي اغتصبتها مني، فيقبل (المحال عليه)، ويجيز المحال في الأحوال كلها.
20 - والحوالة المطلقة: هي التي لم تقيد بشيء من ذلك، ولو كان للمحيل لدى المحال عليه شيء تمكن التأدية منه.
مثال ذلك: أن يرى رجل خير دائنا ومدينه يتشاجران فيقول للدائن: دينك علي، ولا شأن لك بهذا وإن لم يكن له علي شيء، فيقبل الدائن. أو يقول المدين لغاصبه - سواء أكانت العين المغصوبة باقية أم تالفة - أحلت فلانا عليك بالألف التي له علي (ولم يقل: على أن تقتضيه مما أستحقه عليك) فيقبل الغاصب، ويجيز المحال.
ومن الأمثلة ذات الأهمية العلمية: أنه إذا باع المدين الراهن العين المرهونة دون إذن من المرتهن، فإن هذا البيع لا يسلب حق المرتهن في حبس المرهون إلا أن يجيز هذا البيع فيكون عندئذ قد تنازل عن حقه في حبسه بمقتضى الرهن، أما إذا تمسك المرتهن بحقه ولم يجز البيع، فإن المشتري يتخير بين أن يصبر حتى يفك الرهن، أو يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ له البيع، بسبب العجز عن التسليم.
فإذا آثر الانتظار فقد يطول أمده وحينئذ ربما بدا له أن خير وسيلة لحل المشكلة أن ينقل الدين على نفسه بطريق الحوالة، ثم يفك الرهن بقضاء الدين عن الراهن ويتسلم المبيع المرهون، وبعد ذلك يرجع على الراهن بما دفع عن ذمته إلى المرتهن.
ثانيا - الأنواع الفرعية للحوالة:
أنواع الحوالة المقيدة:
21 - تبين مما سلف في الحوالة المقيدة، أنها عند الحنفية - بالتفصيل - أنواع ثلاثة:
1 - حوالة مقيدة بدين خاص.
2 - حوالة مقيدة بعين هي أمانة: كالعارية والوديعة والعين الموهوبة - إذا تراضيا على ردها، أو قضى القاضي به - أو المأجور بعد انقضاء مدة الإجارة .
3 - حوالة مقيدة بعين مضمونة. والعين المضمونة عند الإطلاق - كما هنا - إنما تنصرف إلى المضمونة بنفسها، أي التي إذا هلكت وجب مثلها، إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت قيمية - كالمغصوب، وبدل الخلع، والمهر، وبدل الصلح عن دم العمد، والمبيع بيعا فاسدا، والمقبوض على سوم الشراء (والعين المضمونة بنفسها هذه ملحقة بالديون فتكفل).
أما العين المضمونة بغيرها، فإنها لا يجري ضمانها على قواعد الضمان العامة، بل يكون لها ضمان خاص: وذلك كالمبيع في يد البائع - ولو بعد امتناعه من تسليمه إلى المشتري، إذ لا يصير بذلك غاصبا - وكالرهن في يد المرتهن، فإنه إذا هلك غير مضمون بمثل ولا قيمة، لكن هلاك المبيع في يد البائع يسقط الثمن عن المشتري، وبهلاك الرهن يسقط ما يقابله من الدين عن الراهن. وما زاد من قيمته على الدين يهلك عند الحنفية على حكم الأمانة، ولذا سمي مضمونا بغيره.
أنواع الحوالة المطلقة:
22 - الحوالة المطلقة نوعان:
أ - حوالة حالة:
23 - وهي حوالة الطالب بدين حال على المحيل: إذ يكون الدين حالا كذلك على المحال عليه. لأن الدين يتحول في الحوالة، بالصفة التي كان عليها لدى المحيل، كما أن الكفيل يتحمل ما على الأصيل، بأي صفة كان.
ب - حوالة مؤجلة:
24 - وهي حوالة اشترط فيها أجل معين، أو كانت بدين مؤجل على المحيل، أو المحال عليه وإن لم يصرح فيها بالأجل كشرط.
إذ يكون المال على المحال عليه، إلى ذلك الأجل السابق، أو الذي استحدث بالشرط، لأن الفرض في حالة الشرط، أو العلم بالتأجيل على المحال عليه أن الحوالة كذلك قبلت. وفي حالة سبق الأجل في جانب المحيل إنما يتحول الدين بالوصف الذي كان عليه، اعتبارا بالكفالة.
على أنهما قد تفترقان في بعض جوانب الأجل: ففي الكفالة، إذا أجل الطالب الدين، ولم يضف الأجل إلى الكفيل، يصير الأجل مشروطا للأصيل - حتى لو مات الكفيل، يبقى الدين على الأصيل مؤجلا. ولو وقع ذلك في الحوالة، ولم يضف الأجل إلى المحال عليه - وبالأولى إذا أضافه - لا يصير الأجل مشروطا في حق الأصيل - فلو مات المحال عليه مفلسا عاد الدين على الأصيل حالا.
ثم تغتفر في الأجل الجهالة اليسيرة. فقد نصوا على أنه لو قبل الحوالة إلى الحصاد، لا يجبر على الأداء قبله. وسواء هنا في لزوم التأجيل دين القرض وغيره (وإن كان الأصل في دين القرض عدم لزوم التأجيل فيه، إذ المقرض متبرع، فلا يجبر على عدم المطالبة) فقد جاء في الكافي للحاكم الشهيد ما خلاصته: (رجل مدين بألف قرضا، ودائن بمثلها، له أن يحيل دائنه على مدينه إلى أجل معين كسنة. ثم ليس له بعد ذلك، أن يأخذ مدينه بدينه، أو أن يبرئه منه، أو يهبه له). ومن جملة ما علله به شارحه السرخسي في مبسوطه: (إن حق الطالب تعلق بالمال المحال به، وذلك يوجب الحجر على المحيل عن التصرف فيه، وإلا بطل حق الطالب: لأن المحال عليه ما التزم الحوالة مطلقة، وإنما مقيدة بذلك المال، فإذا سقط لم تبق عليه مطالبة بشيء. ألا ترى أن الحوالة لو كانت مقيدة بوديعة، فهلكت تلك الوديعة، بطلت الحوالة). ولذا نقل عنه في جامع الفصولين: إن الحيلة في تأجيل القرض أن يحال به الدائن على ثالث، فيؤجل ذلك الثالث مدة معلومة. إذ هذا صحيح، ومن لوازمه ألا يطالب المحيل، لأن الحوالة مبرئة من مطالبته، ولا المحال عليه قبل حلول أجله بسبب ما، ولو بموته أو إسقاطه.
ثالثا: أقسام الحوالة عند جمهور الفقهاء:
25 - لا يوجد عند الجمهور هذا التنويع للحوالة إلى مطلقة ومقيدة. وإن كان من الجائز (على المرجوح عند المالكية والشافعية) حوالة على غير مدين - بشرط رضاه - تترتب عليها أحكامها عندهم وفي مقدمتها سقوط دين المحيل وبراءة ذمته (بصورة نهائية غير موقوتة)، فيصدق عليها أنها حوالة مطلقة، وإن لم يسموها هم بهذا الاسم.
على أن ابن الماجشون - وهو صاحب هذا القول المرجوح عند المالكية - قد اشترط أن تقع الحوالة بلفظها وإلا فهي حمالة، أي ضمان (كفالة).
والذي رجحه المالكية والشافعية والحنابلة، أن هذا من قبيل الضمان، وليس من الحوالة في شيء، ولو استعمل لفظها.
ويفرع المالكية على هذا الذي رجحوه قائلين: (لو أعدم - أي أفلس - المحال عليه لرجع المحال على المحيل - إلا أن يعلم المحال أنه لا شيء للمحيل على المحال عليه - ويشترط المحيل براءته من الدين، فلا رجوع له عليه).
وليس الإعدام، أي الفقر، شريطة حتمية عندهم ليثبت حق الرجوع، بل مثله الموت وكل سبب يتعذر به استيفاء الحق من المحال عليه، كامتناع ذي سطوة. وهذه طريقة أشهب، وعليها تعويلهم في هذا الحكم خلافا لابن القاسم، فإنه يرى عدم الرجوع مطلقا.
الحوالة على عين:
26 - والحوالة على عين - أيا كان نوع العين - لا تعرف عند جمهور الفقهاء. إذ هم جميعا شارطون في المال المحال عليه أن يكون دينا.
كما أطبق الحنفية وغيرهم على هذه الشريطة في جانب المال المحال به.
على أن التحقيق عند الحنفية أنفسهم يردهم إلى وفاق الآخرين. فقد قال السرخسي: (حقيقة الحوالة هي المطلقة، فأما المقيدة من وجه فتوكيل بالأداء والقبض).
حلول الحوالة وتأجيلها
27 - فيما يتعلق بحلول الحوالة وتأجيلها عند جمهور الفقهاء سيأتي بيانه.
أركان الحوالة وشروطها:
28 - ذهب الفقهاء إلى أنه لا بد لوجود الحوالة من الآتي:
1 - الصيغة.
2 - المحيل.
3 - المحال.
4 - المحال عليه.
5 - المحال به (دين المحال على المحيل).
كما ذهب جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة) إلى أنه لا بد لوجود الحوالة من وجود دين للمحيل على المحال عليه في الجملة.
ولم يعتبر الحنفية لوجود الحوالة وجود هذا الدين.
ولكن الفقهاء اختلفوا في اعتبار ما سبق أركانا فذهب الجمهور إلى اعتبارها كلها أركانا.
وذهب الحنفية إلى اعتبار الصيغة وحدها ركنا، أما المحيل والمحال والمحال عليه فهم أطراف الحوالة. والمحال به هو محلها.
المراد بالصيغة:
29 - الصيغة تتألف في الجملة من إيجاب وقبول.
المراد بالإيجاب عند الجمهور: كل ما يدل على النقل والتحويل كأحلتك، وأتبعتك، وبالقبول: كل ما يدل على الرضا بهذا النقل والتحويل، نحو رضيت، وقبلت، وفعلت. ومن القبول: أحلني، أو لتحلني (بلام الأمر)، على الأصح من خلاف فقهي عام، لدلالته على الرضا، ويغني عن إعادته مرة أخرى بعد الإيجاب .
والإيجاب عند الحنفية: هو قول الطرف البادئ بالعقد، والقبول هو القول المتمم له من الطرف الآخر بأية ألفاظ تدل على معنى الحوالة. ويقوم مقام الألفاظ كل ما يدل دلالتها، كالكتابة، وإشارة الأخرس المفهمة، ولو كان الأخرس قادرا على الكتابة فيما اعتمدوه. فالإيجاب أن يقول كل واحد منهما: قبلت، أو رضيت، أو نحو ذلك مما يدل على الرضا.
ويكفي عند الحنفية أن يجري الإيجاب والقبول بين اثنين فحسب أيا كانا من الأطراف الثلاثة لتنعقد الحوالة، لكنها عندئذ قد تنعقد ناجزة أو موقوفة على رضا الثالث بحسب كون الثالث أي الثلاثة هو:
أ - فإن جرى الإيجاب والقبول بين المحال والمحال عليه وكان الثالث هو المحيل، انعقدت الحوالة ناجزة دون توقف على إجازته، بناء على رواية الزيادات وهي الصحيحة، وخلافا لرواية القدوري التي اشترطت رضاه، ولو خارج مجلس العقد.
ب - وإن كان الثالث هو المحال عليه انعقدت موقوفة على إجازته ولو خارج مجلس العقد.
ج - وإن كان الثالث هو المحال، انعقدت موقوفة أيضا على إجازته ولو خارج مجلس العقد، أخذا بمذهب أبي يوسف الذي اعتمدته المجلة (م 683) تيسيرا على الناس في معاملاتهم، وإن شرط أبو حنيفة ومحمد قبوله في مجلس العقد، واعتبره شيوخ الحنفية المصحح في المذهب.
تغير الحوالة بألفاظ معينة:
30 - ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة وأكثر المالكية إلى أنه لا تقيد بألفاظ معينة في عقد الحوالة، شأنها في ذلك كسائر العقود، إذ العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ.
ولذا قالوا: إن الكفالة بشرط أن يبرأ الأصيل ، حوالة، والحوالة بشرط ألا يبرأ كفالة فيتبع المعنى جريان أحكام الحوالة أو الكفالة، كما نص عليه في البحر.
فإذا اختلفت الأطراف المعنية ولا بينة: أهي كفالة بشرط براءة الأصيل - أي حوالة معنى - أم بدون شرط البراءة؟ فالمصدق هو الدائن الطالب، لأن الأصل بقاء حقه في مطالبة الأصيل ، فلا ينتقل إلا بإقراره.
فتنعقد عندهم بكل ما يفيد معناها، كنقلت حقك إلى فلان، أو جعلت ما أستحقه على فلان لك بحقك علي، أو ملكتك الدين الذي عليه بحقك علي، أو أتبعتك ديناك على فلان، أو اقبض ديني عليه لنفسك، أو خذ - أو اطلب - دينك منه.
وذهب بعض المالكية إلى أنه يشترط في الصيغة لفظ الحوالة، واعتمده خليل في مختصره، واشترط لفظه الحوالة دون بديل، وهو الذي جرى عليه أبو الحسن من أئمة المالكية.
31 - ولا تنعقد الحوالة عند الشافعية بلفظ البيع مراعاة للفظ، وقيل: تنعقد مراعاة للمعنى، كالبيع بلفظ السلم.
والمالكية يتوسعون ما لا يتوسع غيرهم، وهم بصدد صيغة الحوالة فيقولون: إنها تحصل (ولو بإشارة أو كتابة) ويطلقون ذلك إطلاقا يتناول القادر - على النطق - والعاجز، ثم يعقبون بمقابل ضعيف عندهم - وإن اعتمده بعض متأخريهم - قائلين: وقيل: لا تكفي الإشارة والكتابة إلا من الأخرس.
الصيغة:
32 - الصيغة تدل على التراضي ويتناول بحث التراضي العناصر الثلاثة التالية:
1 - رضا المحيل
2 - رضا المحال
3 - رضا المحال عليه.
ويلاحظ أن رضا المحال والمحال عليه مختلف في اعتبارهما من شرائط الانعقاد أو من شرائط النفاذ.
أولا: رضا المحيل:
33 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى اشتراط رضا المحيل، وعللوه بأنه مخير في جهات قضاء الدين، فلا تتعين عليه جهة قهرا، كجهة الدين الذي له على المحال عليه.
34 - واشترط الحنفية أن تقع الحوالة عن رضا من المحيل لأنها إبراء فيه معنى التمليك، فيفسدها الإكراه كسائر التمليكات.
وفي اشتراط رضاه اختلاف بين روايتي القدوري والزيادات: ووجه رواية القدوري الموجبة: أن ذوي المروءات قد يأنفون من أن يحمل عنهم أحد شيئا من ديونهم، فلا بد من رضاهم، ثم يطرد الباب كله على وتيرة واحدة. ووجه الرواية الصحيحة النافية: أن التزام الدين من المحال عليه تصرف في حق نفسه، والمحيل لا يلحقه به ضرر، بل فيه نفعه عاجلا وآجلا: أما عاجلا فلأنه سيكفي المطالبة بدينه في الحال، وأما آجلا فلأن المحال عليه لا يرجع عليه إن لم يكن بأمره قد قبل حوالة دينه، فلم يبق معنى لاشتراط رضاه. لكن كثيرا من محققي المذهب لا يرون أن هناك في الحقيقة خلافا: فإن القدوري لم يوجب رضا المحيل لنفاذ عقد الحوالة، بل ليسقط بالوفاء دين المحيل في ذمة المحال عليه - إن كان - وليرجع هذا إلى المحيل بما أدى عنه إن لم يكن مدينا له.
فإنه لا رجوع على المحيل ولا سقوط لدينه ما لم يرض .
رضا المحال:
35 - ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى وجوب رضا المحال للمعنى نفسه الآنف في رضا المحيل، ولأن الدين حقه، فلا ينتقل من ذمة إلى ذمة إلا برضاه، إذ الذمم تتفاوت يسارا وإعسارا، وبذلا ومطلا، وتتأثر بذلك قيمة الدين نفسه، ولا سبيل إلى إلزامه بتحمل ضرر لم يلتزمه.
واشترط أبو حنيفة ومحمد أن يكون هذا الرضا في مجلس العقد، حتى إذا كان غائبا عن المجلس ثم بلغه خبر الحوالة فأجازها، لم تنفذ الحوالة، لأنها لم تنعقد أصلا إذ أن رضا المحال عندهما ركن في انعقادها. أما عند أبي يوسف فيكتفى منه بمجرد الرضا، أينما كان ولو خارج مجلس العقد، فيكون شريطة نفاذ.
وأما الحنابلة فلا يوجبون رضا المحال، إلا على احتمال ضعيف عندهم. بل يجبر المحال على القبول، إذا كان المحال عليه مليئا غير جاحد ولا مماطل. وقال بعض الحنابلة: يستغنى بتاتا عن قبول المحال، فإن قبل فذاك، وإن لم يقبل فلا بأس، والحوالة نافذة برغمه.
قال صاحب الإنصاف: في رواية عن الإمام أحمد: لا يبرأ المحيل إلا برضا المحال. فإن أبى أجبره الحاكم، لكن تنقطع المطالبة بمجرد الحوالة. وقيل: يتوجه أن للمحال مطالبة المحيل قبل إجبار الحاكم.
ومبنى الروايتين: أن الحوالة هل هي نقل للحق أو تقبيض؟ فإن قلنا: هي نقل للحق، لم يعتبر لها قبول. وإن قلنا: هي تقبيض، فلا بد من القبض بالقول، وهو قبولها. فيجبر عليه المحال. ا ه.
واستدل الحنابلة بظاهر حديث أبي هريرة عند الجماعة: قال صلي الله عليه وسلم : «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع». ويفسره لفظ أحمد وابن أبي شيبة: «ومن أحيل على مليء فليحتل». فقد أمر صلوات الله عليه الدائن بقبول الحوالة أو الالتزام بمقتضاها، والأمر بأصل وضعه للوجوب، وليس هنا ما يصرفه عن هذا الأصل.
كما استدلوا بالمعقول: فإن الدائن الذي يهيئ له مدينه مثل دينه عدا ونقدا من يد أخرى فيأبى أن يأخذه، ويصر على أن ينقده إياه مدينه بالذات، لا يكون إلا متعنتا معاندا.
رضا المحال عليه:
36 - ذهب جمهور الفقهاء (الحنابلة والمالكية في المشهور عندهم والشافعية في الأصح ) إلى أنه لا يشترط رضا المحال عليه لقول الرسول صلي الله عليه وسلم «من أحيل على مليء فليتبع» ولم يقل على مليء راض.
ولأن الحق للمحيل فله أن يستوفيه بغيره كما لو وكل غيره بالاستيفاء.
وذهب الحنفية في المشهور عندهم إلى اشتراط رضا المحال عليه سواء أكان مدينا أم لا، وسواء أتساوى الدينان أم لا، لأن الناس يتفاوتون في تقاضي ديونهم رفقا وعنفا، ويسرا وعسرا، فلا يلزم من ذلك بما لم يلتزمه.
وقياسا على المحال فإن المحال عليه مثله في أنه طرف في الحوالة لا تمام لها بدونه فليكن مثله في اشتراط رضاه.
اختلاف المتعاقدين في أن المقصود بالحوالة وكالة:
37 - قد يختلف المحيل والمحال في حقيقة العقد الواقع بينهما: هل كان حوالة أو وكالة عن المحيل بقبض الدين من المحال عليه.
38 - وفي هذه المسألة عند الحنفية احتمالان:
أ - إما أن يختلفا في اللفظ المستعمل بينهما نفسه: هل كان لفظ الحوالة أو الوكالة؟
ب - وإما أن يتفقا على أن اللفظ المستعمل بينهما كان لفظ الحوالة ولكن المحيل يقول: إنه إنما أراد بذلك وكالة بقبض دين له على الثالث، أما المحال فيدعي أن المقصود بالحوالة معناها الظاهر المتبادر الحقيقي وليس الوكالة.
ففي الحالة الأولى: يكون من الواضح أن القول للمحيل في عدم الحوالة لأنها عقد ملزم، فلا يثبت عليه إلا ببينة، إذ الأصل عدمه وعلى مدعيه إثباته.
وفي الحالة الثانية: يقبل في القضاء زعم المحيل بيمينه أنه إنما أراد الوكالة، لأن لفظ الحوالة صالح لمعنى الوكالة أيضا بطريق المجاز ومستعمل بمعناها في العرف الفقهي، كما وقع في كلام محمد بن الحسن وغيره، ولا سيما أن الأصل عدم الحوالة وبقاء حق المحيل دينا، فإذا أنكر المحيل ولا بينة، لم يكن عليه إلا اليمين، لنص الحديث المشهور: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر». ولا يكون استعمال لفظ الحوالة بمثابة إقرار من المحيل بدين عليه للمحال ما دام لفظها صالحا لمعنى الوكالة.
وبهذا الأصل يتمسك لقول محمد - في رواية ابن سماعة - أن للمحيل أن يقبض المال في غيبة المحال، وأن ينهى عن دفعه إليه بدعوى أنه حين أحاله إنما أراد توكيله. وإن كان الذي رواه بشر - واعتمدوه ويعزى إلى أبي يوسف - خلاف ذلك، بناء على أن تصديقه في دعواه هذه هو من قبيل القضاء على الغائب. نعم إذا كان في صيغة التعاقل نفسها - وراء ظاهر اللفظ - ما يكذب هذا الادعاء، فلا سبيل إلى قبوله، ولذا ينصون على أنه إذا وقعت الحوالة بصيغة: اضمن عني كذا من المال لفلان، كانت دعوى الوكالة كذبا مرفوضا، لأن الصيغة لا تحتملها.
39 - وقد ذهب بعض الحنفية إلى أن قبول قول المحيل بأن الحوالة كان المقصود بها وكالة، وتعليله بأن كلمة الحوالة مستعملة في الوكالة، فلا يكون إقرارا بدين المحال، لا يستقيم إلا بناء على أن كلمة الحوالة مستعملة في المعنيين (معنى الحوالة، ومعنى الوكالة) على سواء، لتكون من قبيل اللفظ المشترك، ولا يكفي أن يكون استعمالها في الوكالة من قبيل المجاز المتعارف - إلا عند الصاحبين - لأن الحقيقة مقدمة على المجاز عند الإمام، ولذا تكلف شمس الأئمة السرخسي فحمل المسألة على: ما إذا ادعى المحال أن ما على المحال عليه ليس إلا ثمن مال له هو، وأن المحيل كان وكيلا عنه في بيعه.
فالدين دينه هو، وقد وصل إليه حقه. وإذن يكون القول للمحيل، لأن أصل المنازعة وقع بينهما في ملك ذلك المال، واليد كانت للمحيل فالظاهر أنه له. وعلق عليه الكمال بن الهمام بقوله: (ظاهره تخصيص المسألة بنحو هذه الصورة)، وليس كذلك بل جواب المسألة مطلق في سائر الأمهات، والحق أن لا حاجة إلى ذلك بعد تجويز كون اللفظ: (أحلتك بألف) يراد به ألف للمحيل، لأن ثبوت الدين على الإنسان لا يمكن بمثل هذه الدلالة، بل لا بد من القطع بها من جهة اللفظ أو دلالته، مثل: له علي أو في ذمتي، لأن فراغ الذمة كان ثابتا بيقين فلا يلزم فيه ضرر شغل ذمته إلا بمثله من اللفظ، ومنه قوله: اتزنها، في جواب: «لي عليك ألف» للتيقن بعود الضمير في اتزنها على الألف المدعاة بخلاف مجرد (قوله: أحلتك).
40 - ويترتب على ذلك:
أ - أنه إذا كان المحال قد قبض بالفعل دين الحوالة، التي أنكر المحيل حقيقتها، بدعوى أنها وكالة، فإنه يؤمر برد ما قبضه إلى المحيل، إذ قد سقط - بسقوط دعواه - حقه فيه.
ب - إذا كان المحيل صادقا في دعواه - وليس كاذبا يريد الحيلة - فإن الحوالة لا يكون قد طرأ عليها أي تغيير، إلا بحسب ظاهر الحال، وهي إذن لم تنعقد من الأصل حوالة حقيقية، بل وكالة.
41 - رأي غير الحنفية: الذي قرره الحنفية في هذه الحالة، هو قول المزني عند الشافعية، وقد اعتمدوه، لأن الأصل بقاء الدين في محله، ولكن أبا العباس بن سريج منهم ينازع فيه، وعنده أن مدعي الحوالة هو الذي يصدق بيمينه، لأن استعمال صيغة الحوالة بلفظها يؤيده، فالظاهر معه، كما لو تنازع اثنان على ملك دار، وهي في يد أحدهما، وسيأتي الفصل في الموضوع وفق القواعد المقررة (ر: ف 42).
وواضح أن حكم المسألة يبقى كما هو، إذا كان النزاع منصبا على اللفظ الذي استعمل: أكان لفظ الحوالة أم لفظ الوكالة.
والفرض أن لا بينة لأحدهما، وإلا عمل بها في هذه الصورة الأخيرة لإمكانها، وهذا مما نص عليه الشافعية، كما نصوا على أن منكر الحوالة هو في معتمدهم الصدق على كل حال - لأن الأصل معه - ولو كان منكرها وزاعم الوكالة هو المحال نفسه لأمر ما، كما لو تبين له إفلاس المحال عليه.
ومن أهم ما صرحوا به أيضا أن محل الخلاف إنما هو فيما إذا كان المحيل مقرا بدين المحال، وإلا فلا يتجه سوى تصديق المحيل، وللمحال تحليفه على نفي دينه، لأنه ، أي المحيل، متمسك عندئذ بنفس الأصل الأول الذي لا تتحقق حوالة إلا بعد تحققه وهو كونه مدينا للمحال.
وكما وافق الشافعية - في المعتمد لديهم - الحنفية في الأصل، وافقوهم في الاستثناء أيضا - إذ هو مما لا يقبل النزاع، فذكروا أنه إذا كان في صيغة التعاقد ما يكذب المحيل - كما لو قال: أحلتك بالمائة التي لك في ذمتي على فلان مديني - فالقول قول المحال عندئذ، لأن هذا لا يحتمل غير الحوالة وكل ما قرره الشافعية، أصلا واستثناء ووفاقا وخلافا وترجيحا، ذكره الحنابلة حذو القذة بالقذة.
42 - والقولان اللذان ذكرهما الشافعية يوجدان أيضا عند المالكية. فابن القاسم يرى رأي المزني، وابن عبد الملك يرى رأي أبي العباس، وإن كان الذي يوجد لكل منها إنما هو نصوص جزئية قام أصحابهما بتخريج نظائرها عليها، وقد جرى خليل على الثاني، ولكنهم نقدوه وآثروا الأول.
ومن آثار هذا الخلاف: فيما نص عليه الشافعية والحنابلة حالات واحتمالات تختلف في الأحكام تبعا لما إذا كان منكر الحوالة ومدعي الوكالة هو المحيل أو المحال. وتفصيل ذلك كما يلي:
43 - الحالة الأولى - حين يكون المحيل هو منكر الحوالة:
أ - فعند من يقولون بترجيح زعم مثبتها (وهو المحال) تثبت الحوالة بيمينه وتترتب عليها آثارها، وفي طليعة هذه الآثار براءة المحيل، ومطالبة المحال عليه.
ب - وعند من يقولون بترجيح زعم منكرها (وهو المحيل) تنتفي الحوالة وتثبت الوكالة بيمينه، ثم تبرز بعد ذلك احتمالات ثلاثة: لأن المحال إما أن يكون قد قبض المال من المحال عليه، أو لم يقبضه، وفي الحالة الأولى: إما أن يكون المال باقيا عنده أو هالكا.
44 - الاحتمال الأول: أن المحال لم يقبض المال:
في هذه الحالة ينعزل الوكيل من الوكالة بإنكاره إياها، فلا يكون له الحق في القبض من المحال عليه، وهل يرجع بدينه على المحيل؟ الصواب: نعم، لأن المحيل ينكر الحوالة، وقيل: لا يرجع، مؤاخذة له بقول نفسه لأن مقتضى الحوالة التي يدعيها براءة المحيل، وثبوت حقه على المحال عليه - ولو قبضه المحيل منه - لأنه في نظره وزعمه ليس إلا قبض ظالم ما ليس له بحق.
45 - الاحتمال الثاني: أن المحال قبض المال، وما زال عنده.
في هذه الحالة يكون على المحال رد ما قبضه إلى المحيل، وللمحيل استرداده منه، ثم يرجع هو على المحيل بدينه، لأنه إن كان محالا فقد استرد منه المحيل ما قبضه على أساس الحوالة فعلى المحيل أن يفيه دينه، وإن كان وكيلا فحقه باق في ذمة المحيل.
هكذا قالوا، مع تسليمهم بأنه دائن، ولم يقولوا بالمقاصة، لأن الذي بيده عين والذي له دين، والمقاصة عندهم إنما تكون بين دينين متساويين جنسا وقدرا وصفة: فليس لها هنا موضع.
نعم إن خشي ضياع حقه كان له، بينه وبين الله، أخذ ما معه على سبيل الظفر بالحق.
وهناك من يقول: ليس للمحال حق الرجوع بدينه، مؤاخذة له بمقتضى قوله، لأنه بإقراره بالحوالة مقر ببراءة ذمة المحيل من هذا الدين.
46 - الاحتمال الثالث: أن المحال قبض المال، ولكنه هلك عنده:
فلا حق للمحيل على المحال، ولا للمحال على المحيل، سواء أكان التلف بتفريط منه أم بدون تفريط.
فإن كان بتفريط، فلأنه إما ماله قد تلف بيده، وذلك إذا كان في الواقع صادقا في زعمه الحوالة، وإما مال لزمه ضمانه، فيثبت عليه مثل ما له عند المحيل ويتقاصان.
وأما إن كان بغير تفريط، فلأن المحيل مقر بأن المال إنما تلف في يد أمينه، أي وكيله بمقتضى دعواه، والفرض أن لا تعدي. وإن كان البغوي من كبار الشافعية، ينازع في هذا، بناء على أن أخذ الوكيل لنفسه يوجب ضمانه ويقول: إنه يضمن لثبوت وكالته، كما أنه، أي المحال، مقر بأنه قد استوفى حقه، وتلف عنده.
47 - (الحالة الثانية): حين يكون المحال هو منكر الحوالة:
أ - فعند من يقولون بترجيح زعم مثبتها (وهو المحيل): تثبت الحوالة بيمينه، وتترتب عليها أحكامها، فيبرأ المحيل، ويطالب المحال عليه، ثم ما قبض منه يكون للمحال، لأنا إذا نظرنا إلى جانب المحيل، فهذا هو مقتضى الحوالة التي أقر هو بها، وإذا نظرنا إلى جانب المحال، فإنه ظافر بجنس حقه الذي يأبى المحيل تسليمه إليه.
ب - أما عند من يقولون بترجيح زعم نافيها (وهو المحال) فتثبت الوكالة بيمينه ويعتبر وكيلا بالقبض، عن المحيل، كما أن المحيل في تمسكه بأن العقد كان حوالة يكون معترفا بدين المحال في ذمته.
ثم الاحتمالات بعد ذلك ثلاثة: لأن المحال إما أن يكون قد قبض المال من المحال عليه، أو لم يقبضه، وفي الحالة الأولى: إما أن يكون المال باقيا عنده أو هالكا.
48 - (الاحتمال الأول) أن المحال لم يقبض المال:
وفي هذه الحالة يأخذ المحال حقه من المحيل، ثم يكون للمحيل مطالبة المحال عليه بدينه، لأن الواقع إن كان وكالة - كما ثبت ظاهرا - فدينه ما زال في ذمة مدينه لم يقبضه الوكيل بعد، وإن كان في الواقع حوالة، فإن المحال لم يعمل بمقتضاها لأنها اعتبرت في الظاهر وكالة، وبدلا من أن يأخذ المحال حقه من المحال عليه، أخذه من المحيل ظلما وعدوانا، فيكون له - رغم إقراره بأن ما في ذمة المحال عليه هو للمحيل - أن يأخذه لنفسه وفاء بما أخذه المحال منه، كالظافر بجنس حقه، وهذا هو الذي رجحه ابن المقري من متأخري الشافعية والقاضي من الحنابلة. وإن كان ثم من يمنعه من أخذه، وقوفا عند مؤاخذته بإقراره هذا.
49 - (الاحتمال الثاني) أن المحال قبض المال، وما زال عنده:
في هذه الحالة يكون له الحق في تملك ما قبض. لأنه مع ثبوت الوكالة يعتبر ظافرا بجنس حقه الذي يأبى المحيل تسليمه إليه تمسكا بالحوالة التي تتضمن إقرار المحيل له بدينه.
50 - (الاحتمال الثالث) المحال قبض المال، ولكنه هلك عنده:
وفي هذه الحالة - تفريعا على الوكالة التي ثبتت - إن كان قد تلف بتفريط منه لزمه ضمانه، وثبت عليه مثل ما له في ذمة المحيل، فيتقاصان، وإن كان من غير تفريط، فقد هلك على صاحبه وهو المحيل، ويرجع هو بدينه عليه، وعلى كل حال يبرأ المحال عليه، بالدفع إلى المحال، لأنه إن كان محالا، فذاك حقه، وإن كان وكيلا، فقد دفع إليه بمقتضى عقد الوكالة.
51 - تنبيه:
عدم تضمين المحال في هذه الحالة الأخيرة عندما يتلف المال بيده دون تفريط - ولها نظائر - مبني على أنه إذا انتفت الحوالة في هذا التنازع المشروع ثبتت الوكالة، وقد عبر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في المهذب بذلك فعلا: فهو يقول في هذا الشق من القضية (وإن قلنا بقول المزني، وحلف المحال ثبت أنه وكيل)، كما عبر به البغوي في خلافيته الآنفة الذكر (ر: ف 42).
ولكن الجويني يحكي وجها آخر بتضمين المحال، ويعلله بأن الأصل فيما يتلف في يد إنسان من ملك غيره هو الضمان، ولا يلزم من تصديقه في نفي الحوالة، ليبقى حقه، تصديقه في إثبات الوكالة ليسقط عنه الضمان. كما إذا اختلف المتبايعان في قدم العيب وحدوثه، وصدقنا البائع بيمينه في منع الرد بذا العيب، ثم وقع الفسخ، بتحالف أو غيره، فإنه لا يمكن من المطالبة بأرش ذلك العيب، ذهابا إلى أنه حادث بمقتضى يمينه.
ولعل مثل هذا الملحظ هو الذي حدا بالمتأخرين من الشافعية إلى العدول عن عبارتي الشيرازي والبغوي إلى مثل قولهم: (وبالحلف تندفع الحوالة)، ولكنهم لم يعولوا على هذا الوجه، بل ولم يلتفتوا إليه بأكثر من هذه الإشارة - إن صح - أنها مقصودة ومضوا في التفريع على أساس ثبوت الوكالة.
مجلس العقد:
51 م - ذهب المالكية في المشهور عندهم والشافعية في الأصح إلى أن الحوالة تنعقد بالإيجاب من المحيل، والقبول من المحال.
ولا يكون قبولا بمعناه المتبادر عند الإطلاق، بلا قرينة صارفة إلا في مجلس العقد وهو مجلس علم المحال بالإيجاب غير المرجوع عنه بكتابة أو غيرها.
ويجبر المحال على القبول عند الحنابلة إذا أحيل على مليء. أما المحال عليه فلا يشترط رضاه، لا في العقد ولا خارجه، لأنه مدين للمحيل، فلا شأن له بمن هو مكلف بالتأدية إليه أو إلى من يختاره. لكن الإيجاب من المحيل كاف وحده عند الحنابلة، فهم يكتفون في مجلس العقد بإيجاب المحيل فقط.
ويشترط بعض المالكية حضور المحال عليه وإقراره، أو حضوره وعلمه.
واشترط ابن القاسم من المالكية حضور المحال عليه وإقراره أو حضوره وعلمه، ووافقه من المالكية طائفة كبيرة كابن يونس وابن عرفة وأبي الحسن، حتى لقد استنبط ابن سودة في شرح التحفة من اجتماع كل هؤلاء أن هذا الرأي هو المعتمد، وبناء عليه تفسخ الحوالة على الغائب. وبالرغم من ذلك فالذي جرى عليه خليل والقرافي وابن سلمون - واشتهر عند المالكية - عدم اشتراط هذه الشريطة وهو في الأصل قول ابن الماجشون وينسب إلى مالك نفسه وعليه عامة الموثقين والأندلسيين. وهو قول من عدا المالكية من الفقهاء.
52 - وذهب الحنفية إلى أن شريطة الإيجاب والقبول أن يكونا بمجلس واحد هو مجلس العقد، وقد يسمى: محل الإيجاب ، وقد عرفنا أن كلا من الابتداء والتعقيب يمكن أن يكون من كل واحد من الأطراف الثلاثة لكل حوالة، وبذلك تنعقد الحوالة إلا أنها تكون ناجزة أو موقوفة، نحو ما أسلفناه (ر: ف 29).
وقد لخصه صاحب النهر من الحنفية - على طريقة أبي حنيفة ومحمد - بقوله: (الشرط قبول المحتال في المجلس، ورضا المحال عليه ولو غائبا).
الشروط التي يشترطها الأطراف:
53 - يشترط الحنفية كما سبق (ر: ف 24) في صيغة الحوالة عدم وجود شرط غير جائز، من مبطل، كالتعليق والتأقيت، أو مفسد كالتأجيل إلى أجل مجهول جهالة فاحشة.
ففي جامع الفصولين: (إن تعليق التمليكات والتقييدات لا يجوز، فالتمليك، كبيع وهبة وإجارة، وأما التقييد فكعزل الوكيل وحجر المأذون).
وهذا النص ينطبق على الحوالة، لما فيها من معنى المعاوضة والتقييد أيضا، إذ كل من المحال والمحال عليه يلتزم بها التزامات جديدة.
54 - أما التأقيت، والتأجيل إلى الأجل المجهول جهالة فاحشة: فلأن التأقيت ينافي طبيعة الحوالة - أعني نقل الدين - فلو قيل الحوالة قابل لمدة سنة واحدة، مثلا، فلا حوالة أصلا، ولأن التأجيل بالأجل المجهول جهالة فاحشة يفضي إلى النزاع المشكل، مثال ذلك: أن يقول الملتزم: قبلت حوالة الدين الذي لك على فلان، على أن أؤديه إليك عند هطول المطر، أو عند هبوب الريح، وهذا شرط لا منفعة فيه لأحد فيلغو، وتكون الحوالة حالة بخلاف التأجيل بالأجل المعلوم كغاية شهر كذا، أو المجهول جهالة محتملة كموسم حصاد القمح هذا العام، فإنه تأجيل بأجل متعارف، ولا غرر فيه أصلا، أو لا غرر يذكر.
وصرح فقهاء الحنفية في الحوالة بأن تأجيل عقدها لا يصح، ولكن تأجيل الدين فيها يصح، فلو قال لآخر: ضمنت بما لك على فلان على أن أحيلك به على فلان إلى شهر، انصرف التأجيل إلى الدين لأن تأجيل عقدها لا يصح.
55 - ومقتضى قواعد المالكية الحكم بصحة أن يشترط البائع على المشتري أن يحيل عليه دائنه، وهذا على ما قرره أبو إسحاق التونسي المالكي من الاكتفاء بأن يكون الدين في الحوالة مقارنا لثبوتها ولا يشترط أن يكون سابقا عليها.
وعند الشافعية أنه لو شرط العاقد في الحوالة رهنا أو ضمينا فالمعتمد أنه لا يجوز، وقالوا في خيار الشرط: أنه لا يثبت في عقدها لأنه لم يبن على المغابنة.
ويرى الحنابلة أن الحوالة لا يدخلها خيار وتلزم بمجرد العقد، ويرون كذلك أنه لو شرط على المحتال أن يؤخر حقه أو يؤخر بعضه إلى أجل ولو معلوما لم تصح الحوالة، لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل.
أطراف الحوالة:
أولا - المحيل وشرائطه:
56 - يشترط في المحيل عدة شرائط لصحة العقد، وشريطة واحدة لنفاذه (ر: ف 94).
فشرائط صحة الحوالة في المحيل نوعان:
النوع الأول: شرائط تتعلق بأهلية المحيل:
57 - أ - العقل: يشترط في المحيل أن يكون عاقلا، فلا تنعقد حوالة المجنون والصبي اللذين لا تمييز لديهما. إذ العقل من شرائط أهلية التصرفات كلها
ب - نفاذ التصرفات المالية: ذهب بعض الفقهاء إلى أن الحوالة تصح من المحجور عليه لفلس بشريطتين: إذن القاضي، وعدم ظهور دائن آخر. وعليه بعض الشافعية.
ولكنهم ضعفوه، لأن الحجر لحق الغرماء بعامة، وقد يكون ثم دائن آخر في الواقع ونفس الأمر.
والرأيان يردان في حوالة السفيه بإذن وليه، إلا أن القول بالجواز هنا في حالة الحجر للسفه أقوى، حتى لقد قطع به إمام الحرمين. ويرى كثير من الفقهاء أن الإجازة اللاحقة لتصرف السفيه كالإذن السابق. ومن هؤلاء الحنفية والمالكية. فإذا كان الدين على اثنين فأحالا به، وأحدهما نافذ التصرف والآخر بخلافه - أو كانا هما المحال عليهما معا، وأحدهما غير نافذ التصرف - فيجري فيه الخلاف المعروف في نتيجة تفريق الصفقة.
النوع الثاني: مديونية المحيل للمحال:
58 - صرح المالكية والشافعية والحنابلة بأن من شروط الحوالة، أن يكون المحيل مدينا للمحال ولو بدين حوالة سابقة، أو دين كفالة، أو بدين مركب من هذا كله أو بعضه. وعللوه بأن ليس من المتصور حوالة دين لا وجود له. ويثبت الدين بطرق الإثبات المقررة فقها، وينص المالكية على الاكتفاء بإقرار المحال بثبوته.
واشترط الحنفية أن يكون المحيل مدينا للمحال. وإلا كانت الحوالة على مدين وكالة بالقبض، أو هبة دين، أو بيع دين من غير من هو عليه، وهذه الهبة وهذا البيع باطلان عندهم.
ثانيا: المحال وشرائطه:
59 - يشترط جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية) في المحال لانعقاد الحوالة أن يكون عاقلا، لأن قبوله الحوالة شريطة أو ركن فيها، وغير العاقل ليس من أهل القبول، فلا يصح احتيال مجنون ولا صبي غير مميز.
ولم يتعرض الحنابلة لهذا الشرط، لأنه م لا يشترطون رضا المحال - إلا على احتمال ضعيف لهم - بل المحال عندهم يجبر على القبول إذا أحيل على مليء.
ثالثا: المحال عليه وشرائطه:
60 - أن المحال عليه أجنبي على الأصح - عن عقد الحوالة عند أكثر منكري الحوالة المطلقة - وإذن فليس يشترط فيه شيء من هذه الشرائط التي يذكرها الحنفية سوى مراعاة مصلحة القاصر، لأنه عندهم ليس إلا محل استيفاء الحق كالدار يكون فيها المتاع، أو الكيس تكون فيه النقود.
ويشترط في المحال عليه عند الحنفية أن يكون متمتعا بأهلية الأداء الكاملة، وذلك بأن تتوافر فيه الصفتان التاليتان:
الأولى: الأهلية:
61 - أن يكون عاقلا، لما قدمناه في المحال، فلا تصح الحوالة على مجنون أو صبي لا تمييز له. كما يشترط أن يكون بالغا، فلا يصح من الصبي قبولها بحال، قياسا على الكفالة، وما دام ليس في ذمته ولا عنده للمحيل ما يفي بالدين المحال به، لأن قبول هذه الحوالة حينئذ تبرع ابتداء، إن كانت الحوالة بأمر المحيل، وتبرع ابتداء وانتهاء إن لم تكن بأمره، إذ لا يملك حق الرجوع عليه في هذه الحالة الأخيرة ، سواء بعد ذلك أكان الصبي مأذونا في التجارة أم غير مأذون، بل وسواء قبوله بنفسه وقبول وليه له، لأنه من التصرفات الضارة، فلا يملكه الولي. والتقييد - بكونه ليس في ذمته ولا عنده للمحيل ما يكفي - ليس في كلام الحنفية. ولكن ابن عابدين استظهره في حاشيته على البحر فإذا اختل هذا القيد - بأن كان في ذمته أو عنده للمحيل ما يكفي سداد دينه - فينبغي ألا يشترط بلوغه لأصل انعقاد الحوالة، بل لنفاذها، فتنعقد موقوفة على إجازة وليه إن كان دون البلوغ.
وعندئذ ينبغي أن تكون شريطة البلوغ هذه شريطة نفاذ مطلوبة في المحال عليه بالنسبة إلى الحوالة المقيدة بالدين الذي عليه، لأن فيها معنى المعاوضة انتهاء، حيث يقضى فيها دين بدين بطريق التقاص، فتحتاج إلى إذن الولي أو إجازته.
أما إذا كانت الحوالة مطلقة فإن بلوغ المحال عليه عندئذ شريطة انعقاد لا بد منها، لأنها كما قال صاحب البحر هنا: إن كانت بأمر المحيل كانت تبرعا ابتداء، معاوضة انتهاء، وإن كانت بدون أمره كانت تبرعا ابتداء وانتهاء فهي من المضار التي لا يملكها على الصغير وليه كسائر التبرعات، فلا تصح من غير البالغ ولو بإذن وليه أو إجازته.
وكون المحال عليه مدينا للمحيل أو عنده مال له لا يمنع إطلاق الحوالة دون ارتباطها بالدين أو المال الذي للمحيل عنده، إلا أن يقال: إنها عندئذ تعقد مقيدة حكما بهذا المال أو الدين ولو صدرت بصيغة مطلقة، وتكون موقوفة على إجازة الولي، فليتأمل.
الثانية: قدرة المحال عليه على الوفاء بما التزم به:
62 - يشترط الحنفية في المحال عليه أن يكون قادرا على تنفيذ الحوالة، فلو قبل الحوالة مقيدة بشرط الإعطاء من ثمن دار المحيل، فهي حوالة فاسدة، لأنه لا يقدر على بيع دار ليست له.
فإن كان ثم إذن سابق من صاحب الدار ببيعها صحت الحوالة، لانتفاء المانع، لكنه لا يجبر على البيع، وإن كان وجوب الأداء في الحوالة متوقفا عليه، فإذا باع الدار مختارا يجبر على الأداء، كما لو قبل الحوالة إلى الحصاد، فإنه لا يجبر على الأداء قبله.
وكذا لو قبل الحوالة على أن يؤدي من ثمن داره هو، فإنه لا يجبر على الأداء حتى يبيع مختارا، لكن إن شرط قيامه بهذا البيع في صلب عقد الحوالة أجبر عليه، قياسا على الرهن، إذا شرط فيه بيع المرهون عند عدم الوفاء، فإنه يكون شرطا ملزما، لا يملك الراهن الرجوع فيه. هكذا جمع صاحب الظهيرية بين قولين: (أحدهما) إطلاق الإجبار، (والثاني) إطلاق عدمه، فحمل الأول على حالة الاشتراط، والثاني على عدمه.
ملاءة المحال عليه:
63 - لم يشترط الحنفية، ولا الشافعية، ملاءة المحال عليه.
ويرى المالكية أن حق المحتال يتحول على المحال، بمجرد عقد الحوالة، وإن أفلس المحال عليه، أو جحد الدين الذي عليه بعد تمام الحوالة وسواء كان الفلس سابقا على عقد الحوالة، أو طارئا عليها إلا أن يعلم المحيل وحده بإفلاس المحال عليه، فإن حق المحال لا يتحول على ذمة المحال عليه ولا تبرأ ذمة المحيل بذلك.
ويرى الرهوني اشتراط ملاءة المحال عليه للزوم الحوالة إذا لم يرض المحال بالحوالة.
ويرى الخرشي بطلان الحوالة في حالة جهل المحال عدم ملاءة المحال عليه وعلم المحيل ذلك.
أما الحنابلة فيشترطون ملاءة المحال عليه للزوم الحوالة إذا لم يرض المحال بالحوالة، على معتمد الحنابلة، أو إذا جهل حال المحال عليه، على رواية عندهم، وينصون على أن من قبل الحوالة على مليء بعدما أفلس كان رضاه معيبا فلا يعتبر، بل يحق له فسخ الحوالة.
وقد اعتبر أحمد في المليء الذي يجب قبول الحوالة عليه ملاءته بماله، وبقوله، وببدنه، أي أن يكون قادرا على الوفاء، غير جاحد، ولا مماطل، كما هو المتبادر، وكما فهم ابن قدامة في المغني.
ولكن متأخري الحنابلة على أن الملاءة بالقول تعني عدم الجحد وعدم المماطلة، ويفسرون الملاءة بالبدن بإمكان إحضار المحال عليه إلى مجلس الحكم. ولذا لا يجب عندهم على المحال قبول الحوالة على أبيه، دون رضاه، ولا على من في غير بلده، لأنه لا يمكن إحضارهما إلى مجلس الحكم، وبالتالي لا يجبر المحال على هذا القبول.
ولم يعتبروا في القدرة على الوفاء أن تكون ناجزة، فذو المال الذي لا تصل إليه يده الآن لأمر ما، هو مليء ما دام على ما سبق وصفه.
64 - وقال الحنفية إذا كان المحال ولي قاصر كوصي يتيم، أو كان صغيرا مميزا، أجاز وليه الإحالة، فإنه يشترط أن يكون المحال عليه حينئذ أملأ من المدين الأول صيانة لحق الصغير، لقوله تعالي: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) والصغير بمثابة اليتيم. لكن ابن عابدين في حواشيه على البحر نقل نصوصا مذهبية تنافيه: وذلك إذ يقول - نقلا عن كتاب أحكام الصغار - (ذكر فخر الدين في بيوع فتاواه: الأب والوصي إذ قبلا الحوالة على شخص دون المحيل في الملاءة) - إن وجب - أي الدين - بعقدهما جاز عند أبي حنيفة ومحمد، ولا يجوز عند أبي يوسف، وإن لم يكن واجبا بعقدهما (كالإرث) لا يصح في قولهم.
وذكر صدر الإسلام أبو اليسر في باب الخلع من المبسوط - في حيلة هبة صداق الصغيرة - أن الأب يحتال على نفسه شيئا، فتبرأ ذمة الزوج من ذلك القدر، ولو كان الأب مثل الزوج في الملاءة فينبغي أن تصح أيضا، وقد اكتفى ابن نجيم في البحر بحكاية القولين عند التساوي في الملاءة.
وصرح الشافعية بصحة احتيال ولي القاصر بشريطة واحدة: أن تقتضي ذلك مصلحة القاصر نفسه، أخذا من نص التنزيل الحكيم : (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ) دون تقييد بأي قيد آخر. ولذا أبطلوا احتياله على مفلس، علم إفلاسه أم جهل، واحتياله بدين موثق عليه برهن أو ضمان، لما في انفكاك الوثيقة من الضرر البين.
وقد سئل السيوطي عن رجل له على رجل دين، فمات الدائن وله ورثة، فأخذ الأوصياء من المدين بعض الدين، وأحالهم على آخر بالباقي، فقبلوا الحوالة وضمن لهم آخر فمات المحال عليه، فهل لهم الرجوع على المحيل أم لا؟
فأجاب - يطالبون الضامن وتركة المحال عليه - فإن تبين إفلاسهما تبين فساد الحوالة، لأنها لم تقع على وفق المصلحة للأيتام، فيرجعون على المحيل .
ومن أمثلة المصلحة أن يكون المحيل بمال اليتيم فقيرا، أو مماطلا، أو مخوف الامتناع بسطوة، أو هرب أو سيئ القضاء على أية صورة، والمحال عليه بعكس ذلك كله، فتكون الحوالة من مصلحة القاصر.
إمكان إحضار المحال عليه مجلس الحكم:
65 - تفرد بهذه الشريطة الحنابلة، وقد فسر الزركشي (في شرح الخرقي) القدرة بالبدن - في صدد بحث المليء الذي يجبر المحال على إتباعه - بإمكان حضوره لمجلس الحكم:
أ - فلا يصح عندهم أن يحيل ولد على أبيه إلا برضا الأب، لأنه لا يملك طلب أبيه. قال ابن نصر الله: هذه المسألة لم يذكرها أحد ممن تقدم من الأصحاب. وظاهره صحة الحوالة على أمه ولو بغير رضاها.
ب - كما لا يلزم بقبول الحوالة على أبيه (أي أب المحال).
ج - ولا يلزم المحال بقبول الحوالة على من في غير بلده.
د - ولا يلزم المحال كذلك بقبول الحوالة على ذي شوكة.
مديونية المحال عليه للمحيل عند من لا يجيز الحوالة المطلقة:
66 - لا يشترط الحنفية هذه الشريطة، لإجازتهم الحوالة المطلقة، ومن فروع هذا الأصل ما نقلوه في الهندية عن المحيط ونصه: لو أن مسلما باع من مسلم خمرا بألف درهم، ثم إن البائع أحال مسلما على المشتري حوالة مقيدة - بأن قال: أحلت فلانا عليك بالألف التي لي عليك - ثم اختلفوا: فقال المحال عليه (وهو المشتري): الألف كان من ثمن خمر، وقال المحيل (وهو البائع): كان من ثمن متاع، فالقول قول البائع المحيل، فإن أقام المحال عليه بينة على المحيل بذلك قبلت بينته. وإن لم تكن الحوالة مقيدة بل كانت مطلقة - بأن قال البائع للمشتري: أحلت فلانا عليك بألف درهم - لا تبطل الحوالة، وإن أثبت المشترى على المحيل أن الألف التي عليه كانت ثمن خمر.
أما غير القائلين بالحوالة المطلقة فيشترطون في المحال عليه أن يكون مدينا للمحيل بدين الحوالة.
67 - والذي يموت وهو مدين تظل ذمته مشغولة بدينه حتى يؤدى عنه، فإن لم تكن له تركة لا يسقط دينه من ذمته ما لم يتبرع متبرع بقضاء دينه، وعلى هذا يكون لدائنه بعد موته أن يحيل بدينه عليه، لا على تركته، لأنها من ناحية ليست شخصا، ولا تحقق للحوالة إلا على شخص يسمى محالا عليه، ومن ناحية أخرى هي إما عين، ولا تصح الحوالة على عين عند غير الحنفية، وإما دين له وهذا ينتقل للوارث، وعليه الوفاء مما ورث أو من غيره.
أما الأصل المقرر من أن ذمة الميت تخرب بموته - أو بعبارة أخرى: إن الميت لا ذمة له - فإنما هو بالنسبة إلى المستقبل، لا الماضي. هكذا نص الشافعية.
وهو ظاهر مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة.
ودين المحيل أعم من أن يكون دين حوالة، أو ضمان، أو غيرهما (ر: ف 58).
ومثله في هذا التعميم الدين الذي يحال عليه في الحوالة المقيدة. ومن المسائل الواردة تفريعا على هذا الأصل: ما إذا أقرض شخص اثنين مائة دينار - على كل منهما خمسون - وتضامنا، ثم أحال على أحدهما بخمسين دينارا، هل تنصرف الحوالة إلى الخمسين الأصلية التي عليه - حتى ينفك رهنها إن كان فيها رهن - أم توزع عليها وعلى الخمسين الأخرى التي ضمنها عن رفيقه، أم يرجع إلى إرادة المحيل؟ رجحوا الرجوع إلى إرادة المحيل، فإن لم تكن له إرادة، كان بالخيار يصرفها إلى ما شاء من ذلك بإرادة جديدة محدثة، هكذا نص الشافعية.
حوالة الدين:
68 - لا خلاف في جواز أن يكون المال المحال به دينا. وكذلك المال المحال عليه - عند من يشترط وجوده - فلا خلاف في جواز أن يكون دينا.
ثانيا: حوالة العين:
69 - الحوالة بعين - مطلقة كانت أو مقيدة - لا تصح، إذ لا يتصور فيها النقل الحكمي. أما الحوالة على العين - أي في الحوالة المقيدة - أيا كان نوع العين، فلا تعرف عند غير الحنفية. إذ غير الحنفية جميعا شارطون في المال المحال عليه أن يكون دينا. فالعين لا تصح الحوالة عليها، سواء أكانت أمانة أم مضمونة، كوديعة، ومال مضاربة أو شركة، ومرهون بعد فكاكه، وموروث، وباق في يد ولي بعد رفع الحجر عن قاصره، وعارية، ومغصوب، ومأخوذ على سوم الشراء، ومقبوض بعقد فاسد.
ثالثا: حوالة المنفعة:
70 - لا تصح كذلك، إذ المنفعة كالعين، لا يتصور فيها النقل الحكمي.
أما الحوالة على المنفعة فلم نجد في نصوص الفقهاء ما يشعر بجواز كونها مالا محالا عليه.
والظاهر أن ذلك لكون المنافع التي يستحقها إنسان بسبب ما، إنما تستوفى شخصيا من قبل صاحبها، وهي دائما من غير جنس الدين المحال به.
رابعا: حوالة الحق:
لا تصح كذلك حوالة الحق. وقد نص الفقهاء على أن الحوالة إنما تكون بدين.
شرائط المال المحال به والمحال عليه:
أولا: كون المال المحال به لازما:
71 - يشترط في المال المحال به عند الحنفية أن يكون دينا لازما. قياسا على الكفالة: بجامع أن كلا من الكفالة والحوالة عقد التزام بما على مدين. فالأصل أن كل دين تصح به الكفالة تصح به الحوالة وما لا فلا.
ومقتضى ذلك ألا تصح حوالة الزوجة بنفقتها المفروضة - بالقضاء أو بالتراضي - غير المستدانة، لأنها دين ضعيف يسقط بالطلاق وبموت أحد الزوجين. لكنهم نصوا على صحة الكفالة بها استحسانا. ومن قواعدهم أن كل دين تصح كفالته تصح حوالته، ما لم يكن مجهولا. وإذن فتصح حوالة دين النفقة هذا، بل تصح بالنفقة غير المفروضة - رغم أنها تسقط بمضي شهر - إذا تمت الحوالة قبل سقوطها، وإلا فلا تصح، لأنه م كذلك قالوا في الكفالة بها، وأولوا به قول من نفى صحة الكفالة بها، معللا بأنها ليست دينا أصلا.
أما مهر الزوجة فدين قوي صحيح يصدق عليه أنه لا ينقطع استمرار وجوبه إلا بالأداء أو الإبراء، وإن أمكن أن يعرض له ما يبطل حكم العقد نفسه، كالطلاق المنصف للمهر قبل الدخول فتصح الحوالة بالمهر بلا نزاع.
وأما دين الزكاة فليس دينا حقيقة بالمعنى الخاص من كل وجه - ولذا لا يستوفى من تركة المتوفى - فلا تصح الحوالة به. وهذا كله عند الحنفية، أما غيرهم فلا يشترطون اللزوم بإطلاق الفقهاء عدا المالكية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة.
ومما فرعه المالكية على اشتراط اللزوم أن الحوالة لا تصح بالدين الذي يستدينه صبي أو سفيه ويصرفه فيما له عنه غنى، لأن الولي لا يقره.
والذي اعتمده الشافعية، أن الشرط هو أن يكون الدين لازما، أو آيلا إلى اللزوم بنفسه: فاللازم هو الذي لا خيار فيه، والآيل إلى اللزوم كالثمن في مدة الخيار، لأن الأصل في البيع لزوم الثمن، وأن الخيار عارض في طريق اللزوم، وبزوال العارض يعود الأصل تلقائيا. ثم بمجرد الحوالة بالثمن في مدة الخيار يبطل خيار الطرفين، لأن تراضيهما بالحوالة إجازة للعقد الذي بنيت عليه، ولأن بقاء الخيار في الثمن ينافي اللزوم الذي في طبيعة عقد الحوالة.
وعلى هذا فإن الجعل المشروط للعامل في الجعالة، لا تصح الحوالة به عند الشافعية قبل تمام العمل، لأنه لم يلزم بعد، وقد لا يلزم قط، ثم هو إذا لزم فليس لزومه بنفسه، بل بواسطة العمل.
أما الكثرة الغالبة من الحنابلة فقد جروا على عدم اعتبار هذه الشريطة أصلا. ولذا فهم مصرحون بصحة الحوالة بمال الكتابة، وبجعل العامل في الجعالة حتى قبل الشروع في العمل.
ومنهم من يضيف إيضاحا لوجهة نظرهم أن الحوالة بمنزلة الوفاء. وكذلك يجيزون الحوالة بالثمن في مدة الخيار، بل هذا أولى لأنه آيل إلى اللزوم.
ثانيا: كون المال المحال به أو عليه يصح الاعتياض عنه:
أ - المال المحال به:
72 - اشترط الشافعية صحة الاعتياض عن المال المحال به، ورأوا أنها تغني عن شريطة اللزوم أو الأيلولة إليه. فما لا يصح الاعتياض عنه - كالمسلم فيه، وكل مبيع قبل قبضه، ودين الزكاة - لا تصح الحوالة به برغم لزومه.
والمالكية، وجماهير الحنابلة، يصرحون بهذه الموافقة، كل على طريقته.
ومما يستدل به لعدم صحة الاعتياض عن المسلم فيه حديث أبي سعيد أنه صلي الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» لكن قالوا إن في إسناده عطية بن سعد العوفي، قال المنذري: لا يحتج بحديثه، ويغني عنه النهي الثابت عن بيع ما لم يقبض.
وقد نص بعض الحنفية على صحة ضمان المسلم فيه، ومعنى ذلك صحة الحوالة به أيضا، إذ من قواعدهم أن كل دين صح ضمانه صحت حوالته ما لم يكن مجهولا. وصرح به السرخسي في المبسوط، كما صرح به بعض الحنابلة تنزيلا له منزلة الموجود لصحة الإبراء منه.
لكن الشافعية وموافقيهم يفرقون في دين السلم من حيث تصحيحهم ضمانه دون الحوالة به بأن دين السلم لا يصح الاعتياض عنه، وأن الحوالة اعتياض، لأنها بيع بخلاف الضمان.
وظاهر أن كل من يجيز أخذ القيمة عن الزكاة، لا يسلم بهذا التعليل (عدم صحة الاعتياض) لمنع الحوالة بدين الزكاة، فالذي لا يرى علة مانعة أخرى يصرح بجواز الحوالة به.
ومن الشافعية أنفسهم من يصرح أيضا بصحة الحوالة بدين الزكاة، على أنها استيفاء لا بيع.
وقد تقدم أن الثمن في مدة الخيار تصح الحوالة به عند كثيرين، كالشافعية والحنابلة، لأن الحوالة متسامح فيها استثناء لأنها إرفاق كما تقدم.
73 - ولاعتبار هذه الشريطة نص المالكية - خلافا لأشهب - على امتناع أن يكون الدينان (المحال به والمحال عليه) طعامين من بيع (سلم). بل هم يقتصرون على هذا القدر في صياغة هذه الشريطة، لأن الذي يمتنع عندهم بيعه قبل قبضه إنما هو طعام المعاوضة لا غير.
(ومقتضى هذه العلة أن تمتنع عندهم أيضا الحوالة بدين على دين، وأحدهما طعام من بيع والآخر من قرض). وهذا هو الذي قرره أبو الوليد بن رشد. وقد جرى عليه خليل في البيوع، ولكنه جرى هنا في الحوالة على عدم امتناع هذه الصورة، متى كان أحد الدينين حالا - كما حكي عن مالك نفسه، وعليه عامة أصحابه عدا ابن القاسم - ركونا إلى قول ابن يونس: إن هذا هو الأصوب، تغليبا لجانب الدين الآخر الذي ليس بطعام معاوضة. أما ابن القاسم فلم يصححها إلا بشريطة حلول الدينين كليهما فهو تنزيل للحلول منزلة القبض.
ب - المال المحال عليه:
74 - الذين اشترطوا صحة الاعتياض عن المال المحال عليه هم الذين اشترطوا مثلها في المحال به، فعلى ما هناك لا تصح الحوالة برأس مال السلم، وعلى ما هنا لا تصح الحوالة عليه وكذا المسلم فيه، وكل مبيع قبل قبضه، ودين الزكاة وإن كان عند الحنابلة في كل من دين السلم المسلم فيه، ورأس ماله وجه بصحة الحوالة عليه وبه.
وواضح بناء هذه الشريطة على أن الحوالة بيع وقد فرغنا من ذلك قبلا (ر: ف/ 11).
ثالثا: كون المال المحال به أو عليه مستقرا
أ - المال المحال به:
75 - الدين المستقر هو الذي لا يتطرق إليه انفساخ بتلف مقابله، أو فواته بأي سبب كان كتعذر المال المسلم فيه في عقد السلم.
فالمهر قبل الدخول وقبل الموت، والأجرة قبل استيفاء المنفعة، أو قبل مضي المدة، والثمن قبل قبض المبيع، وما شاكل ذلك، كلها ديون لازمة يصح الاعتياض عنها، ولكنها غير مستقرة لأنها عرضة للسقوط بفوات مقابلها، كردة الزوجة، وموت الأجير أو المستأجر، وتلف المبيع فلا تصح الحوالة بها، وبالأولى إذا اختلت شريطة أخرى، كالثمن في مدة الخيار، لانتفاء لزومه.
وهذه الشريطة يجزم بها كثير من الحنابلة وإن لم يكونوا جمهورهم، على أن بعضهم يدعي أنه الأشهر عندهم.
ب - المال المحال عليه:
76 - لم يصرح باشتراط استقراره سوى الحنابلة أيضا نقلا عن نص أحمد، وفي التفريع على ذلك يقول ابن قدامة: (دين السلم ليس بمستقر، لكونه بعرض الفسخ، لانقطاع المسلم فيه) ثم يقول: (وإن أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدخول لم يصح، لأنه غير مستقر، وإن أحالها الزوج به صح، لأن له تسليمه إليها، وحوالته به تقوم مقام تسليمه، وإن أحالت به بعد الدخول صح لأنه مستقر، وإن أحال البائع بالثمن على المشتري في مدة الخيار لم يصح في قياس ما ذكر، وإن أحاله المشتري به صح، لأنه بمنزلة الوفاء، وله الوفاء قبل الاستقرار).
ويلحظ هنا أن ابن قدامة في كلامه هذا يجري على عدم التفريق بين الدين غير اللازم كمال الكتابة، والثمن في مدة الخيار، وبين الدين اللازم غير المستقر كدين السلم، والمهر قبل الدخول، كما أنه جرى على عدم اشتراط الاستقرار إلا في الدين المحال عليه دون المحال به، فصحح إحالة الزوج لزوجته بمهرها قبل الدخول، ومنع الإحالة منها عليه، لأن له الإحالة به حيث يصح منه التسليم. ومع ذلك ففي الحنابلة من ينازع في اعتبار هذه الشريطة، فالمجد بن تيمية في «المحرر» لم يستثن من الديون التي تصح الحوالة بها وعليها سوى دين السلم - فمنع الحوالة به وعليه - وهذا الذي استثناه منازع في منعه عندهم: فقد حكى صاحب الإنصاف صحة الحوالة بدين السلم وعليه مطلقا.
رابعا: كون المال المحال عليه ناشئا عن معاوضة مالية:
77 - وهذه الشريطة شريطة لزوم. فالذي يخالع زوجته على مال، ثم يحيل على هذا المال، فتموت الزوجة ولو موسرة قبل أن يقبضه المحال، أو تفلس - كما استظهروه - يكون للمحال الرجوع عليه بدينه. هذه حوالة صحيحة ولازمة ابتداء، ولكنها قد تتحول عن هذا اللزوم كما رأينا. هكذا قرره ابن المواز من المالكية.
خامسا: كون المال المحال به أو عليه معلوما:
أ - المال المحال به:
78 - اشترط الفقهاء هذه المعلومية وذلك لما في الجهالة من الغرر المفسد لكل معاوضة، والحوالة لا تخلو من معنى المعاوضة، كما سلف، فلا تصح الحوالة بمجهول، كالحوالة بما سيثبت على فلان.
ولا نزاع في هذه الشريطة، سواء أقلنا: إن الحوالة اعتياض، أم قلنا إنها استيفاء، لأن المجهول يمتنع الاعتياض عنه لما فيه من الغرر، كما يتعذر استيفاؤه وإيفاؤه لما يثيره من نزاع مشكل يحتج فيه كل من الخصمين بالجهالة احتجاجا متعادلا حتى لو كانت على شخص ما ديون كثيرة لا يعلم مقدارها، فقال لدائنه: أحلتك على فلان بكل ما لك علي، لم تصح الحوالة.
79 - وكثيرون يحددون بوضوح كيف يكون المال معلوما هنا. ومن هؤلاء الشافعية والحنابلة إذ يقولون: (كل ما لا يصح السلم فيه لا تصح الحوالة به): فهم إذن يشرطون معلومية قدره كمائة ثوب، ومعلومية جنسه، كقطن أو صوف، ومعلومية صفاته التي تختلف باختلافها الأغراض اختلافا بينا، أي صفاته الضابطة، أو كما قالوا: (صفاته المعتبرة في السلم) كالطول والعرض، والرقة، والصفاقة، والنعومة والخشونة، واللون، وما إلى ذلك.
وذلك يعني عدم صحة الحوالة بإبل الدية، لأنها لا تعلم إلا بالسن والعدد وهذا لا يكفي لضبطها المعتبر في السلم، وهذا هو الذي اعتمده فيها الشافعية وأبو الخطاب من الحنابلة، وإن كان هنالك من يقول بصحة الحوالة بها وعليها، كما لو كان لرجل، وعليه، خمس من الإبل أرش موضحة فيحيل بهذه على تلك، وإلى هذا ذهب القاضي من الحنابلة، وهو قول للشافعي نفسه، اكتفاء بالعلم بسنها وعددها، فليس الضبط بالصفات المطلوبة في السلم إذن بحتم ليتحقق معنى العلم بالمحال به، ولحسم ما عساه ينشأ من نزاع يعتبر أقل ما يقع عليه الاسم في السن والقيمة وسائر الصفات، كما قرره القاضي من الحنابلة (وإن كان قياس كلام الشافعية في الضمان أن يراعى فيما وراء السن والعدد حال غالب إبل البلد).
ب - المال المحال عليه:
80 - يصرح الشافعية والحنابلة باشتراط معلومية الدينين (المحال به، والمحال عليه) لدى المتعاقدين المحيل والمحال.
ولم نجد في كلام فقهاء الحنفية والمالكية تصريحا باشتراط معلومية المال المحال عليه في الحوالة المقيدة، كما هو موجود في المال المحال به، ولكن يستنتج من قواعد الحنفية هذا الاشتراط.
سادسا: كون المال المحال به أو عليه ثابتا قبل الحوالة:
أ - المال المحال به:
81 - صرح المالكية باشتراط ثبوت المال المحال به في الذمة قبل الحوالة. وفرعوا عليه أنه لا يصح أن يسلف (يقرض) شخص آخر نقودا أو طعاما مثلا، على أن يستوفي المسلف ممن هو مدين للمستلف بمثل ذلك، إذ من الواضح في هذه الحالة أن الدين المحال به لم يثبت إلا مع الحوالة في وقت واحد.
وبعض المالكية يصرحون، بأن لا بأس أن تكتري من رجل داره بدين لك حال أو مؤجل على رجل آخر، وتحيله عليه في الوقت نفسه.
وعند الحنابلة أن المحيل إذا أحال شخصا غير مدين له على من عليه دين للمحيل فهي وكالة جرت بلفظ الحوالة.
ب - المال المحال عليه:
82 - اشترط المالكية والحنابلة، ثبوت المال المحال عليه قبل الحوالة، وفرع الباجي من المالكية على هذه الشريطة أن المدين لو أحال على غير مدينه ثم أعطى المحال عليه ما يقضي به دين الحوالة، فأفلس هذا أو مات قبل أن يقضي الدين يكون للمحال الحق في الرجوع على المحيل بدينه، ثم يرجع هذا بدوره على المحال عليه بما كان أعطاه، لكن هذا هو حكم الحمالة عندهم، وهذه الواقعة هي من الحمالة وإعطاؤه بعد ذلك ما يقضي به لا تتحول به هذه الحمالة إلى حوالة.
ولكن الشافعية ينصون على خلاف هذا.
فقد قال الخطيب: (فإن قيل: إن صحة الحوالة - أي بالثمن على المشتري - زمن الخيار مشكل، إذا كان الخيار للبائع أو لهما يعني البائع والمشتري)، لأن الثمن لم ينتقل عن ملك المشتري، أجيب بأن البائع إذا أحال فقد أجاز، فوقعت الحوالة مقارنة للملك وذلك كاف .
سابعا: كون المال المحال به أو عليه حالا:
أ - المال المحال به:
83 - لا تصح الحوالة بدين لم يحل أجله بعد، إلا إذا كان الدين المحال عليه قد حل، إذ لو لم يحل هو أيضا فلا أقل من أن يلزم بيع الكالئ بالكالئ، وينضاف إليه محذور آخر هو ربا النساء، إن جمعت الدينين علة ربوية واحدة.
هكذا قرر المالكية هذه الشريطة بإطلاقها هذا، على طريقة ابن القاسم.
واشترط الحنفية أن يستمر حلول المال المحال به إن كان حالا، في الحوالة بمال القاصر وما شاكلها من كل من تجب فيه رعاية الأصلح لصاحبه، لأن الحوالة به إلى أجل إبراء مؤقت فلا يجوز اعتبارا بالإبراء المؤبد الذي لا يملكه الولي في مال القاصر، وقد أطلق أبو يوسف هنا، ولم يفصل تفصيل أبي حنيفة ومحمد بين الدين الواجب بعقد الأب أو الوصي، فيجوز تأجيله، والدين الواجب بغير عقدهما - كالإرث والإتلاف - فلا يجوز.
(نقله في البحر عن المحيط) ثم قال: وكذا قبول الحوالة من المتولي أي (ناظر الوقف) فهي على هذا التفصيل.
وهذه الشريطة ليست إلا تطبيقا جزئيا للأصل العام، الذي لا يختلف عليه، في تصرفات الولي من أنها منوطة بالمصلحة (ر: ف/ 96).
ب - المال المحال عليه:
84 - اشترط المالكية حلول المال المحال عليه، ولو لم يكن الدين المحال به حالا.
ثامنا: كون المال المحال به أو عليه مثليا:
85 - لا خلاف بين الفقهاء في صحة الحوالة بالدين أو الحوالة عليه إن كان المال مثليا، وذهب جمهور الفقهاء - وهو الأصح عند الشافعية - إلى صحة الحوالة بالدين القيمي أو الحوالة عليه، لأن ما له صفات ضابطة ففي ضبطه بها بلاغ، كما لا يجادل في ذلك أحد في باب السلم، فيقاس القيمي المنضبط على المثلي ما دام كلاهما دينا في الذمة له صفات تضبطه تضاف إلى معرفة النوع والقدر: كالثياب، والدواب - على ما فيها من الخلاف المعروف - والصوف، والقطن، والشعر، والأخشاب، والأحجار، والحديد، والرصاص، والبلور، والزجاج، والفخار والورق، والكتب والآلات ما دامت ذات صفات ضابطة كإنتاج مصنع بعينه. بل لمجتهد أن يعتبر هذه الأشياء الأخيرة حينئذ من قبيل المثلي الذي لا تفاوت فيه يذكر.
وذهب قلة من الشافعية والحنابلة إلى اشتراط كون المال المحال به أو عليه مثليا، بل من الشافعية وغيرهم من يشترط خصوص الثمنية ولا يكتفي بمطلق المثلية، فلا حوالة على هذا القول إلا بالذهب أو الفضة، أو ما يجري مجراهما في التعامل النقدي.
والمراد عند هؤلاء جميعا بالمثلية أن يكون الدين من جنس ما يكال أو يوزن ويضبطه الوصف، كالنقود والحبوب والأدهان، فلا تصح الحوالة بالقيمي، وهو ما خرج عن هذا النمط كالثياب المتفاوتة، والحيوان، فقد يثبت شيء من غير المثلي في الذمة، كما لو بيع بوصف، أو التزم صداقا، أو بدل خلع، ولكن لا يحال به، لأن المقصود بالحوالة الوصول إلى الحق دون تفاوت، وهذا لا يكون إلا في المثليات.
تاسعا: كون المالين المحال به أو عليه متساويين جنسا وقدرا وصفة:
86 - لم يشترط الحنفية التساوي بين المالين المحال به والمحال عليه في الحوالة المقيدة جنسا أو قدرا أو صفة، وإنما الكلام في اشتراط ذلك يجري على غير مذهبهم.
وتفصيل ذلك فيما يلي:
أ - المال المحال به:
87 - المراد بالصفة ما يشمل الجودة والرداءة، والحلول والتأجيل، وقدر الأجل، لا صفة التوثق برهن أو ضمان، بل هذه تسقط عن كلا الدينين بمجرد الحوالة، لأنها بمثابة القبض، فلا تصح الحوالة بنقود فضية على ذهبية، أو ذهبية على فضية، ولا بقمح على شعير، ولا بضأن على معز، ولا عكسه، ولا بخمسة أثواب، مثلا على عشرة، ولا بعشرة على خمسة (نعم إذا كان له عشرة على آخر، فأحال على خمسة منها بخمسة صحت الحوالة لتحقق الشريطة)، ولا بالمغشوش على الخالص ولا بالخالص على المغشوش، ولا بحال على مؤجل، ولا بمؤجل على حال، ولا بمؤجل إلى شهر على مؤجل إلى شهرين ولا عكسه.
ولكنها تصح بمائة دينار ذهبية من نقود بلد بعينه، أو مائة إردب من القمح الهندي، أو مائة شاة من الضأن التركي مضبوطة الوصف سنا ولونا - وما إليها - على مائة مثلها، والدينان حالان، أو مؤجلان إلى أجل واحد كسنة مثلا.
والحكمة في اشتراط هذه الشريطة، أن الحوالة - سواء جرينا على أنها معاوضة أو ليست بمعاوضة - عقد إرفاق يقصد به الإيفاء والاستيفاء، لا الاسترباح والاستكثار، فلو أذن بالتفاوت فيها لتبارى المتعاملون بها، كل يريد أن يغبن الآخر، ويصيب منه أكثر مما يترك له، وهذا خلاف موضوعها. ثم بالنسبة إلى من لا يشترطون رضا المحال، كيف يعقل إجباره مع اختلاف الدينين؟
ومبالغة في اتقاء التفاوت منع القاضي أبو الطيب من الشافعية صحة الحوالة بألف على شخصين، كل منهما مدين للمحيل بألف على التضامن، على أن يطالب المحال أيهما شاء، وعلل المنع بأن المحال يستفيد زيادة في المطالبة، إذ كان قبل الحوالة يطالب واحدا، فصار بعدها يطالب اثنين. وإن كان الشيخ أبو إسحاق من الشافعية أيضا يخالفه، ويصحح هذه الحوالة، لأن المحال، مهما استفاد من زيادة مطالبة، فلن يأخذ إلا قدر حقه، وما يزال المتأخرون من الشافعية متأرجحين بين هذين الرأيين: فبينا يصحح البلقيني والسبكي الأول، يأخذ الرملي الكبير بالثاني.
هكذا قرر الشافعية هذه الشريطة، وفق ما استقر عليه المذهب، وإن كان منهم من ينازع في شريطة التساوي في الصفة إذا كان التفاوت لمصلحة المحال، لأن المحيل إذن متبرع بالزيادة على سبيل إحسان القضاء.
88 - وهذه الشريطة يقررها أيضا المالكية والحنابلة، (ر: ف/ 83)، باستثناء ما تفرد به المالكية من أن محل المنع عند الاختلاف بالجودة والرداءة، أو القلة، والكثرة إذا لم يقبض المحال من المحال عليه قبل تفرقهما.
وهؤلاء جميعا يحاذون الشافعية في تقريراتهم الآنفة الذكر، حتى إن الخلاف فيما إذا كان التفاوت لمصلحة المحال ينص الحنابلة على بقائه كما هو، وإن كان المالكية يعكسون الموقف: فيمنعون التحول على الأعلى صفة أو الأكثر قدرا، قولا واحدا، ويترددون ويختلفون في التحول على الأدنى أو الأقل.
وينص المالكية على أن لا خلاف في صحة الحوالة مع التفاوت في القدر، إذا وقعت بلفظ الإبراء من الزيادة والحوالة بالباقي، كما لو قال الدائن بألف: أبرأتك من ثلاثمائة، وأحلني على مدينك فلان بالباقي، فيقول: أحلتك وهذا واضح جدا.
الاستعاضة في الحوالة:
89 - المراد بالاستعاضة أن يتراضى المحال والمحال عليه بعد صحة الحوالة بدفع عوض عن المحال به.
والاستعاضة جائزة عند الحنفية وهو المذهب عند الحنابلة. ولا نص فيها عن الشافعي ولا عن قدماء أصحابه. ولم نطلع على مذهب المالكية في ذلك.
وقيد الحنفية والحنابلة الجواز بأن لا يكون العوضان ربويين، فإن كانا كذلك وجب التقابض في المجلس.
ب - المال المحال عليه:
90 - سلف الكلام في هذه الشريطة بالنسبة للدين المحال به، وهو بعينه الكلام هنا فلا حاجة إلى إعادته، بيد أنه ينبغي التنبيه هنا على أن هذه الشريطة تفسر في كلام بعض الشافعية بالمساواة في الواقع، وفي اعتبار المتعاقدين (المحيل والمحال) - أي في رأيهما ومبلغ علمهما - ومعنى ذلك أنه إذا تساوى الدينان في الواقع ونفس الأمر، ولكنهما جهلا هذا التساوي أو جهله أحدهما فالحوالة باطلة، وكذلك تكون الحوالة باطلة إذا اعتقد التساوي، ولا تساوي، في الحقيقة.
عاشرا: قبض المال المحال عليه (إن كان رأس مال سلم أو ربويا يوافق المحال به في علة الربا).
91 - صرح الحنفية باشتراط قبض المال المحال عليه إن كان رأس مال سلم أو ربويا يوافق المحال به في علة الربا، ونص عبارة السرخسي في مبسوطه: (ولأنه - أي دين الحوالة - يثبت في ذمة المحال عليه على الوجه الذي كان في ذمة المحيل، حتى لو كان بدل صرف أو سلم لا يجوز الاستبدال به مع المحال عليه) كما لا يجوز مع المحيل، ويبطل عقد الصرف والسلم بافتراق المتعاقدين قبل القبض من المحال عليه. ولم يذكر المالكية القبض هنا في حوالة الطعام على الطعام، لكنهم نصوا على ضرورته في حالة الصرف خاصة وعبارتهم في عقد حوالته: (لا بد من القبض قبل افتراق كلامهم، وقبل طول مجلسهم، وإلا فسد).
ولم يتردد الشافعية في رفض هذه الشريطة ولو في الربويات، لأن المعاوضة في الحوالة - بعد القول بها - ليس على سنن سائر المعاوضات. ونص عبارة الشافعية كما يلي: (هي - أي الحوالة - بيع دين بدين جوز للحاجة، ولهذا لم يعتبر التقابض في المجلس، وإن كان الدينان ربويين).
أما في رأس مال السلم، فيقول البجيرمي فيما كتبه على شرح المنهاج من كتب الشافعية المعتمدة: (لا تصح الحوالة بما لا يعتاض عنه، ولا تصح الحوالة عليه، كدين السلم)، أي مسلما فيه ورأس مال (أيهما كان).
ما لا يشترط في الحوالة:
92 - لا يشترط أن يكون سبب الدينين في الحوالة من نوع واحد، بأن يكون كلاهما من قرض، أو بيع، أو ضمان مثلا، فلا مانع أن يكون أحد ديني الحوالة من عقد معاوضة، والآخر دين إتلاف مثلا. أو أحدهما صداقا، والآخر بدل خلع، أو بدل قرض، أو أجرة.
كما لا يشترط أيضا أن يكون الدين المحال به ثابتا على المحيل ثبوتا أصليا. فالدين الذي يكون في غير محله الأصيل ، كما لو كان من حوالة أو كفالة، تصح الحوالة به، بأن يحيل المحال عليه أو الكفيل على مدين له هو. بل يجوز أيضا للمحال أن يحيل دائنه على المحال عليه، وللمكفول له أن يحيل دائنه على الكفيل.
وهذا في الأصل موجود في كتب الشافعية، مع زيادة تعدد المحالين مع بقاء المحال عليه واحدا. ونص عبارة الرافعي في الشرح الكبير هكذا: (إذا أحلت زيدا على عمرو، ثم أحال عمرو زيدا على بكر، ثم أحال بكر على آخر، جاز. وقد تعدد المحال عليهم وزيد المحال واحد. ولو أحلت زيدا على عمرو، ثم أحال زيد بكرا على عمرو، ثم أحال بكر آخر على عمرو جاز، والتعدد هاهنا في المحتالين، وعمرو المحال عليه واحد. ولو أحلت زيدا على عمرو، ثم ثبت لعمرو عليك مثل ذلك الدين فأحال زيدا عليك جاز).
الجزاء على تخلف إحدى شرائط الانعقاد (بطلان الحوالة):
93 - إذا عدمت شرائط انعقاد الحوالة كلا أو بعضا فالنتيجة المقررة فقها هي بطلانها، أي عدم انعقادها، جزاء لمخالفة تلك الشرائط.
وهذا مبدأ متفق عليه بين فقهاء الشريعة ولا مجال للخلاف فيه، وإلا لم يبق أية ثمرة لشرائط الانعقاد (وهذا معروف في الأحكام العامة للتعاقد مما يسمى اليوم: نظرية العقد).
ولكن قد يختلف الفقهاء في اشتراط بعض الشرائط لانعقاد الحوالة، فمن يشترط لانعقاد شريطة ما، يحكم ببطلان الحوالة عند فقد هذه الشريطة، ويخالفه في ذلك من لا يشترطها.
ومن المقرر في القواعد أنه يستوي في النتيجة تخلف جميع المقومات وشرائط الانعقاد وتخلف بعضها فقط، فإن تخلف بعض العناصر الأساسية، كتخلف الكل من حيث النتيجة وهي البطلان.
ومن الواضح أنه حيثما يتقرر بطلان الحوالة فإن هذا البطلان يستتبع آثارا، إذ يجب فيه عندئذ نقض ما قد تم تنفيذه من العقد قبل تقرير بطلانه، ثم رد ما يستلزم هذا النقض رده مما قبض دون حق، كما هو معلوم من الأحكام العامة في التعاقد.
وسيأتي في آثار الحوالة والأحكام المترتبة عليها أن الحوالة الصحيحة التي نفذت بدفع المحال عليه إلى المحال دين الحوالة يترتب فيها للمحال عليه حق الرجوع على المحيل.
غير أنهم في الحوالة الباطلة أو الفاسدة قد أعطوا المحال عليه الخيار في الرجوع على المحيل أو على المحال القابض، لأنه قبض ما ليس له بحق نظرا لبطلان الحوالة.
شرائط النفاذ:
أولا: بلوغ المحيل والمحال، والمحال عليه بحسب الأحوال:
94 - أ - يشترط الحنفية لنفاذ الحوالة أن يكون المحيل بالغا، لأن في الحوالة معنى المعاوضة، ومعاوضات الصبي المميز لا تنفذ إلا بإجازة وليه. فحوالته منعقدة موقوفة على الإجازة.
والبلوغ شرط صحة عند الجمهور.
فإذا كان المحيل مميزا غير بالغ ففيه الخلاف المشهور بين الفقهاء في تصرفات الصغير المميز إذا باشرها بنفسه: أتكون باطلة، أم موقوفة على إجازة وليه، إن رآها وفق مصلحته؟ وتفصيل ذلك في مصطلح (أهلية) و (صغر).
ب - ويشترط الحنفية لنفاذ الحوالة أن يكون المحال بالغا، لما قلناه في المحيل، ولذا ينعقد احتيال الصبي المميز، ولكنه لا ينفذ إلا بإجازة وليه، وهذه الإجازة مشروطة بأن يكون المحال عليه أملأ من المحيل.
وهذه الشريطة يوافق عليها المالكية والشافعية، ويخالف فيها الحنابلة، لأنه م لا يشترطون رضا المحال، إلا على احتمال ضعيف للحنابلة.
ج - أما شريطة بلوغ المحال عليه، فسبق بحثها كشريطة انعقاد أثناء بحث المحال عليه وشرائطه (ر: ف/ 62).
ثانيا: ولاية المحال على المال المحال به:
95 - يشترط لنفاذ الحوالة أن تكون للمحال على المال المحال به ولاية. فالفضولي لا يكون محالا إلا بإجازة من له الولاية، أما الوكيل فإن كان وكيلا بالقبض فليس له أن يحتال أصلا، لأن المقصود من وكالته الاستيفاء لا الإبراء، وإن كان وكيلا في العقد ففي قبوله حوالة الثمن خلاف مشهور: جوزها منه الطرفان أبو حنيفة ومحمد، على الأملأ والأفلس مطلقا - ويضمن للموكل لأن الحوالة إبراء مؤقت فتعتبر بالمطلق - ومنعها أبو يوسف. وقد أجرى الخلاف في البدائع بين أبي حنيفة مجوزا، والصاحبين مانعين.
واستدل لهما: بأن هذه الحوالة هي تصرف في ملك الموكل من غير إذنه، فلا ينفذ عليه كتصرف الأجنبي.
واستدل لأبي حنيفة: بأن الوكيل بقبوله الحوالة إنما تصرف بالإبراء في حق نفسه (وهو قبض الثمن) بمقتضى عقد الوكالة لأن قبض الثمن من حقوق العبد التي تعود للوكيل بالبيع، فإبراؤه المشتري عن الثمن أو قبوله الحوالة به إسقاط لحق نفسه وهو القبض فينفذ عليه، لأن الحوالة كالإبراء تمنع مطالبة المحيل، ويسقط بذلك الثمن من ذمة المشتري تبعا لسقوط حق القبض، ولكن لا يسقط حق الموكل في الثمن الذي هو عوض ملكه. وإنما يسقط الثمن من ذمة المشتري تبعا، لأنه لو لم يسقط مع سقوط حق الوكيل في قبضه لبقي دينا غير قابل للقبض، وهذا لا نظير له في الشرع، كما أنه غير مفيد. فلذا يسقط الثمن من ذمة المشتري تبعا لسقوط حق الوكيل في قبضه، ولكن يضمنه الوكيل للبائع الموكل، لأن الوكيل بتصرفه هذا قد تجاوز إلى حق غيره وهو الثمن نفسه حيث أتلفه على صاحبه بالإبراء أو قبول الحوالة به.
وقد لخصه في مجمع الأنهر بأن حقوق العقد للعاقد، والحوالة من هذه الحقوق. واحتيال الوكيل في البيع، بثمن المبيع بالصورة المشروحة لم نجد حكمه منصوصا عند غير الحنفية.
أما النائب الشرعي عن الصغير، وليا كان كالأب أو وصيا، فلا يملك عند الحنفية حق الاحتيال بمال هذا الصغير على ما قرره السرخسي في المبسوط بإطلاقه، على خلاف عامة الكتب. ونص عبارته: لو احتال بمال ابنه الصغير، أو اليتيم الذي تحت وصايته، لم يجز، لأن الحوالة إبراء الأصيل ، وهو لا يملكه في مال القاصرين.
96 - وأما احتيال ولي القاصر، كأبيه أو وصيه بدينه، فلم نر في المذاهب الأخرى إطلاق عدم جوازه، كما فعل السرخسي من الحنفية.
بل في كلام بعضهم - كما هو مقتضى إطلاق حديث الحوالة - التصريح بصحتها بشريطة واحدة: أن تقتضيها مصلحة القاصر نفسه - أخذا من نص التنزيل الحكيم : (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ) - دون تقيد بأي قيد آخر. ولذا أبطلوا احتياله على مفلس سواء أعلم إفلاسه أم جهل، وكذا احتياله بدين موثق عليه برهن أو ضمان، لما في انفكاك الوثيقة من الضرر البين بالقاصر.
وقد سئل السيوطي عن رجل له على رجل دين، فمات الدائن وله ورثة فأخذ الأوصياء من المدين بعض الدين، وأحالهم على آخر بالباقي فقبلوا الحوالة وضمنها لهم آخر، فمات المحال عليه، فهل لهم الرجوع على المحيل أم لا
فأجاب: يطالبون الضامن وتركة المحال عليه، فإن تبين إفلاسهما فقد بان فساد الحوالة، لأنها لم تقع على وفق المصلحة للأيتام، فيرجعون على المحيل.
ومن أمثلة المصلحة أن يكون المحيل بمال اليتيم فقيرا أو مماطلا، أو مخوف الامتناع بسطوة أو هرب، أو سيئ القضاء على أية صورة، والمحال عليه بعكس ذلك كله فتصح الحوالة حينئذ، لأنها أصلح للقاصر.
97 - وكون احتيال الفضولي موقوفا على إجازة من له الولاية على دين الحوالة، هو اتجاه فقهي يوجد أيضا عند كثيرين غير الحنفية، كالمالكية، والشافعي في القديم، وأحمد في رواية. ولكن الذي عند الشافعية في الجديد، وهو المعتمد عند الحنابلة أن حوالة الفضولي كسائر تصرفاته باطلة من أصلها، فلا تعود بالإجازة صحيحة. وهذه قاعدة عامة، أخذت من حديث ثابت في بياعات الفضولي عند أبي داود والترمذي (الذي اعتبره حسنا) ونصه: «لا بيع إلا فيما تملك». وطردوا هذا فيما عدا البيع فأصبح قاعدة. ومثله حديث حكيم بن حزام «أنه صلي الله عليه وسلم قال: لا تبع ما ليس عندك»..
ثالثا: قبول المحال والمحال عليه:
98 - (أ) قبول المحال - إذا لم يكن هو أحد الطرفين المنشئين للعقد - ليس شريطة انعقاد إلا عند أبي حنيفة ومحمد.
أما أبو يوسف فيكتفي برضا المحال، ولو خارج مجلس العقد، على أن يكون إذن شريطة نفاذ. وهذا هو الذي أخذت به مجلة الأحكام العدلية في المادة 683
(ب) ورضا المحال عليه كذلك - ولو خارج مجلس العقد - شريطة نفاذ باتفاق أئمة المذهب الحنفي الثلاثة.
هذا، وقد سبق الكلام بالتفصيل على فقه هذه المسألة والخلاف الاجتهادي فيها بين المذاهب بما فيه الكفاية.
الشروط اللاحقة:
103 - اختلف الفقهاء في الشروط الواقعة بعد العقد - أيا كان هذا العقد - هل تلحقه أم لا؟
فشرط الشافعية والحنابلة للحاق الشروط التي لم تشرط في صلب العقد وقوعها قبل لزوم العقد.
وللحنفية في ذلك قولان: قول باللحاق، ويعزى إلى أبي حنيفة، وقول بعدمه ويعزى إلى الصاحبين، وعلى القول باللحاق:
1 - لا فرق بين أن يقع الشرط في مجلس العقد، وأن يقع خارجه، خلافا لمن شرط اتحاد المجلس.
2 - إذا كان الشرط فاسدا يفسد العقد لحاقه إلا أنه إذا خرج مخرج الوعد (ولنسمه شرطا وعديا) لا يفسده، بل لا بأس حينئذ بأن يكون في صلب العقد.
ثم هل يكون هذا الشرط الوعدي ملزما أو غير ملزم؟ في ذلك قولان مصححان في المذهب، بعد أن يكون الشرط الوعدي في ذاته ليس من المحظورات الشرعية.
فالقائل بعدم اللزوم جار على المشهور من أن الوعد لا يجب الوفاء به قضاء.
والقائل باللزوم ملحظه أن المواعيد قد تلزم، فتجعل هنا لازمة لحاجة الناس إلى لزومها.
هذا تقرير القاعدة في ذاتها عند الحنفية على صعيد العقد بوجه عام أيا كان نوعه.
فإذا أريد تطبيقها هنا على عقد الحوالة - بوجه خاص يجب أن يفرق عند الحنفية - كما هو واضح بين نوعين من الشروط، ونوعين من العبارات التي تصاغ بها.
النوع الأول من الشروط الملحقة: شروط فاسدة:
104 - (1) كما لو اشترط أحد الأطراف شرطا ملحقا بعد العقد أن تكون الحوالة عقدا غير لازم: بمعنى أن يكون لمن شاء من أطرافها، أو لطرف معين أن ينقضها متى شاء، دون تقيد بمدة معينة.
(2) أو يشترط المحيل أن الحوالة ماضية قطعية قطعت كل علاقة بينه وبين المحال عليه لا تتأثر بموت محيل، ولا بموت محال عليه أو إفلاسه، ولا رجوع عليه للمحال سواء وفيت الحوالة أم لا.
(3) أو يشترط ما يشبه المقامرة من نوع آخر، كما لو شرط في الحوالة المقيدة أن لا رجوع عليه فيها، ولو تلف المال الذي قيدت به أو استحق. وواضح أن هذا النوع من الشروط مناف لمقتضى العقد في قواعد الحنفية فهي شروط فاسدة في نفسها. ثم إن قلنا بلحاقها بعقد الحوالة إذا شرطت بعد العقد فإنها تفسده أيضا، وإن لم نقل يلحقاها اقتصر فسادها عليها بذواتها، ولم يتعد إلى العقد نفسه. على أنه حين يصاغ الشرط من هذه الشروط وأمثالها بصيغة الوعد (كأن يقول المحال بعد العقد: إني ملتزم بهذه الحوالة أبدا ولن أرجع عليك بحال من الأحوال، أو يقول المحيل: إننا ملتزمان بهذه الحوالة، ولكنني سأذعن لإرادتك إن بدا لك أن تفسخها أنت فالذي يبدو أن هذا لا يغير شيئا من مقتضى العقد. أما جعله أمرا جائزا بطريق العدة، فهذا وما إليه مما يجيء فيه الخلاف في لزوم الوعد وعدم لزومه.
أثر الحوالة في علاقة المحيل والمحال عليه:
أ - حق المحال عليه في ملازمة المحيل:
119 - يرى الحنفية أن ملازمة المحال عليه للمحيل خاصة بالحوالة المطلقة. أما ملازمة المحال للمحال عليه فهي حكم عام يثبت في كل حوالة. وهذان الحقان في اللازمة أحدهما - وهو حق المحال عليه - تبع للآخر - وهو حق المحال - ما دام الوفاء لم يتم بعد. فإن المحال إذا لازم المحال عليه، كان للمحال عليه أن يلازم المحيل، ليخلصه وإذا حبسه المحال، كان له أن يحبس المحيل، لهذا الغرض نفسه، لكن بشريطتين أخريين:
1 - أن تكون الحوالة بإذن المحيل، أعني المدين الأصلي.
2 - وأن تكون الحوالة مطلقة غير مقيدة، لأنه عند توافر هذه الشرائط، يكون المحيل هو الذي جر على المحال عليه هذه التبعة، فعهدة تخليصه عليه جزاء وفاقا.
أما إذا لم يلازمه المحال أو يحبسه، فبأي حق يلازم هو المحيل أو يحبسه، والفرض أن ليس له عليه دين؟ فإذا لم تكن الحوالة بإذن المحيل يكون المحال عليه متبرعا بالتزامها، فلا يتوجه له على المحيل حق، وإذا كانت الحوالة مقيدة لم تكن ملازمته للمحيل، أو حبسه بأولى من العكس، فيمتنعان إذ لو استعمل هو حقه في ذلك لعامله المحيل بالمثل، فلا تكون ثم جدوى.
120 - وواضح أن الشرائط التي شرطها الحنفية لملازمة المحال عليه المحيل، يستغني غير الحنفية منها عن شريطة رضا المحيل، إذ الحوالة عندهم لا تكون إلا برضاه (ر: ف/ 33) كما يستغنون - باستثناء مثبتي الحوالة المطلقة منهم - عن شريطة الحوالة المقيدة، لأن الحوالة عندهم لا تكون إلا مقيدة (ر: ف/ 25).
ب - حق المحال عليه في الرجوع:
أولا - حالة الأداء الفعلي:
121 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أن استحقاق رجوع المحال عليه بعد أدائه دين الحوالة، لا يتصور في حوالة صحيحة عند غير الحنفية من نفاة الحوالة المطلقة، لأن المحال عليه عندهم هو مدين للمحيل، فما يؤديه بحكم الحوالة إنما يوفي به ذمته المحال عليها، فلا رجوع له (ر: ف/ 25 و 66)
122 - ويرى الحنفية أنه متى أدى المحال عليه إلى المحال استحق الرجوع على المحيل إذا توافرت شرائط الرجوع التالية:
(1) - أن تكون الحوالة برضا المحيل:
لأن المحال عليه حينئذ إذا أدى لا يكون متبرعا، بل يكون في حقيقة الأمر قد اشترى من المحال الدين الذي له في ذمته بما أداه هو إليه، وحيث ملك الدين استحق الرجوع به على المدين، كما لو ورثه أو وهب منه، أما إذا كانت الحوالة بغير رضا المدين، كما لو قال قائل للطالب: لك على فلان ألف فاحتل بها علي فقبل الطالب، فإن الحوالة حينئذ صحيحة على المعتمد، ولكن لا تثبت للمحال عليه ولاية الرجوع على المدين إذا أدى، لأنه يكون متبرعا بالأداء، لا مالكا للدين بطريق الشراء حذرا من تمليك الدين من غير من عليه الدين. وإن الرجوع في الحوالة يكون بحكم الملك.
(2) أن يؤدي المحال عليه مال الحوالة إلى المحال:
لأنه إذا لم يؤد لم يملك الدين، وهو إنما يرجع بحكم ملكه.
(3) أن لا يكون المحال عليه مدينا للمحيل بمثل دينه:
لأنه لو كان مدينا لالتقى الدينان ووقع التقاص، ومن ثم يمتنع الرجوع، لأنه لو رجع على المحيل، لرجع المحيل عليه، فيكون عبثا.
123 - ويرجع المحال عليه بالمحال به، إلا في حالة واحدة، هي ما إذا صالح المحال عليه المحال عن حقه بأقل منه من جنسه فإنه يرجع بما أدى.
فمثلا لو كان حقه مائة دينار فصالحه عنها بثمانين، لم يكن له حق الرجوع إلا بالثمانين التي أداها.
والمحال عليه بعين للمحيل عنده، كوديعة إذا لم يعط المحال تلك العين نفسها، وإنما قضى الدين من ماله هو، يعد متبرعا لا رجوع له على المحيل قياسا، لكنهم استبعدوا ذلك استحسانا، ومنحوه حق الرجوع بما أدى، فإن كان هناك غرماء فإنه يحاصهم.
ثانيا: حالة الأداء الحكمي:
124 - يقوم مقام الأداء الفعلي الأداء الحكمي عند الحنفية.
وفي حالة الأداء الحكمي بطريق الحوالة، أي إذا أحال المحال عليه الطالب على غير المحيل، لا يملك المحال عليه الأول حق الرجوع على المحيل، إلا بعد قبض الطالب فعلا من المحال عليه الثاني، وعلله السرخسي بقوله: (لأنه بعرضة العود على الأصيل ، لأن الحوالة تنفسخ بموت المحال عليه مفلسا).
ج - حق المحيل في مطالبة المحال عليه:
125 - يقرر الحنفية أن المحال عليه في الحوالة المطلقة، إما أن يكون مدينا للمحيل أو عنده له عين، وإما أن لا يكون:
(أ) فإن كان: طولب بعد الحوالة بدينين، أو دين وعين.
1 - دين الحوالة الذي التزمه بمقتضاها ونشأ معه للمحال حق مطالبة لم تكن.
2 - ودين المحيل القائم بذمته من قبل، أو ماله الذي عنده، مقترنا بحق مطالبة قديمة، فإن هذا الحق القديم لا ينقطع بسبب الحوالة، لأنها لم تقيد بالدين السابق ولا بالعين فبقيا كما كانا بحقوقهما كاملة، ومنها حق المحيل في مطالبته والقبض منه.
ويظل المحال عليه كذلك إلى أن يؤدي إلى المحال، فإذا أدى سقط ما عليه بطريق المقاصة لكنها مقاصة دين للمحال عليه بعين للمحيل فتتوقف على التراضي.
(ب) وإذا لم يكن للمحيل عنده شيء، فإنما يطالب بدين واحد، وهو دين الحوالة لا غيره، ثم إذا أداه ثبت له حق الرجوع على المحيل إن كانت الحوالة برضاه، وإلا فلا رجوع عليه.
والطالب في هذه الحالة هو المحال وحده، إلا أنه في الحوالة المؤجلة لا تستحق مطالبته أثناء الأجل، فهي إذن لا تحل عليه إلا بموته هو، لا بموت المحيل - وإن كان تأجيله تابعا لتأجيل المحيل - لأن حلول الأجل في حق الأصيل ، إنما هو لاستغنائه عن الأجل بموته، فإذا مات هو فإن المحال عليه ما زال على قيد الحياة، وفي حاجة إلى الأجل، فلا وجه لحلوله عليه بحلوله على الأصيل ، لأن الأصيل برئ عن الدين في أحكام الدنيا والتحق بالأجانب.
وبقاء المحيل على قيد الحياة لا يؤثر في حلول الأجل على المحال عليه بموته هو، لأنه استغنى عن الأجل بموته، ثم إن لم يكن في تركته وفاء بدين الحوالة، استحق الطالب الرجوع على المحيل إلى أجله الأصلي، لأن هذا الأجل لم يكن سقط حقيقة، وإنما سقط في ضمن الحوالة حكما، وقد انتقضت الحوالة بموت المحال عليه مفلسا فينتقض ما تضمنته، أعني سقوط الأجل. نظيره: ما لو أن المدين بدين مؤجل باع به سلعة من دائنه ثم استحقت السلعة، فإن الأجل يعود، لأن سقوطه إنما كان بحكم البيع، وقد انتقض البيع.
نعم إن كان الأجل باقيا لكن المحال عليه نزل عنه فذاك، إذ الأجل حقه فيسقط بإسقاطه. (نظيره ما لو أسقط الأصيل الأجل قبل الحوالة) ثم إن أدى قبل الموعد الأصلي لحلول الأجل فليس له أن يرجع على المحيل حتى يحل ذاك الموعد، إذ إسقاط الأجل صحيح في حقه، لا في حق المحيل.
126 - ويقرر الحنفية كذلك في الحوالة المقيدة أن المحيل لا يملك مطالبة المحال عليه بالمال الذي قيد وفاؤها به، لأنه قد تعلق به حق المحال، فإنه إنما رضي بنقل حقه إلى المحال عليه على أن يوفيه حقه مما للمحيل عنده، فتعلق به حق استيفائه، فلو أخذه المحيل لبطل هذا الحق، فلا يسلط على أخذه، وإلا فات الرضا، وبطلت الحوالة.
وبعبارة أوجز: لما قيدت الحوالة بشيء تعلق حق الاستيفاء به كالرهن، فلا يزاحم فيه المستحق، ولا يدفع إلى غيره. فإذا اتفق أن المحال عليه دفعه إلى المحيل وجب عليه ضمانه للمحال، لأنه فوت عليه ما تعلق به حقه، كما لو استهلك الرهن أحد، فإنه يضمنه لصاحب حق الاستيفاء منه وهو المرتهن.
127 - وهذان الأثران ليسا عند جماهير الفقهاء من غير الحنفية مجرد سقوط مطالبة المحيل ومنع الدفع إليه، لأن حقه صار كالمرهون، بل عند الجماهير يبرأ المحال عليه من دين المحيل، ومن ثم يمتنع الدفع إليه، لأن حقه صار ملكا للمحال، ولذا إذا توي فإنما يتوى على المحال نفسه.
انتهاء الحوالة:
128 - انتهاء الحوالة قد يكون بأداء مالها إلى المحال، وقد يكون بما يساوي هذا الأداء، وقد يكون بدون هذا وذاك، ويمكن ترتيب ذلك. في فرعين
أولا - انتهاء الحوالة بالتنفيذ:
129 - إذا أدى المحال عليه مال الحوالة - بعينه إن كان عينا، وبمثله إن كان دينا - إلى المحال أو من ينوب منابه فهذه هي غايتها المنشودة.
ومتى انتهت إلى غايتها فلا بقاء لها. بل لو تحققت هذه الغاية لا عن طريق المحال عليه مباشرة، بل عن طريق متبرع بالوفاء - وهو لا يكون إلا متبرعا عن المحال عليه، ما لم يصرح بخلافه - فإن هذا الوفاء والذي قبله سواء، من حيث إنهاء الحوالة.
وقد لا يؤدي المحال عليه العين نفسها التي قيدت بها الحوالة، ولا مثل دينها - مطلقة كانت أو مقيدة - ومع ذلك تنتهي الحوالة، لأنه قد وقع ما يساوي هذا الأداء، كما في الحالتين التاليتين:
(أ) أن يؤدي المحال عليه شيئا آخر عن تراض بينه وبين المحال: كما لو كانت الحوالة مقيدة بوديعة - ككتاب أو أكثر - فيؤثر المحال عليه الاحتفاظ لنفسه بالوديعة لرغبته فيها ويعيض المحال منها قيمتها نقدا، أو كان المحال به دينا على المحيل، مقداره ألف دينار مثلا، فيرغب المحال عليه وهو تاجر أن يبايع بها المحال فيعرض عليه أن يعيضه من دنانيره، بضائع كثياب أو غيرها.
(ب) أن يموت المحال، ويرث المحال عليه مال الحوالة: لأن الإرث من أسباب الملك فيملك المحال عليه الدين في هذه الحال.
وهذا يعادل تماما ما لو كان قد وفاه دينه قبل وفاته، ثم عاد إليه المال بطريق الميراث.
وفي معنى الإرث أن يهب المحال المحال عليه دين الحوالة أو يتصدق به عليه فيقبل أو لا يرد.
ثانيا: انتهاء الحوالة دون تنفيذ:
130 - تنتهي الحوالة دون تنفيذ في حالتين:
الأولى: الانتهاء الرضائي.
الثانية: الانتهاء غير الرضائي. الأولى الانتهاء الرضائي: وذلك بطريقين:
(الأول) الانتهاء بطريق التقايل (التراضي على الفسخ).
(الثاني) الانتهاء بطريق الإبراء.
أ - الانتهاء بطريق التقايل (التراضي على الفسخ).
131 - الفسخ في اصطلاح الفقهاء هو إنهاء العقد قبل أن يبلغ غايته، وعبارة ابن نجيم: (الفسخ حل ارتباط العقد).
فإذا أراد واحد أو أكثر من أطراف الحوالة - دون أن يكون له خيار الشرط - أن يرجع في الحوالة، فقد قال الحنفية: (إن المحيل والمحال يملكان النقض) أي نقض الحوالة. وظاهر أنهم يعنون أن يكون ذلك عن تراض بينهما، لا أن يكون بطريق الإرادة المنفردة.
وعلى ذلك فإن المحيل لا يملك إبطال الحوالة بعد ثبوت صحتها.
أما المحال عليه، فإذا تراضى مع بقية أطراف العقد على نقضه فذاك. وإذا تراضى الطرفان الآخران واعترض هو، فلا قيمة لاعتراضه هذا، لأن العقد حقهما، ولصاحب العقد إسقاطه. أما أن يستبد هو بفسخ العقد فهذا ما لا سبيل إليه.
132 - ومفاد ما تقدم: أن الحوالة عند الحنفية تقبل التفاسخ والتقايل برضا الطرفين الأولين فيه والمحيل والمحال فقط، ولا يتوقف ذلك على رضا المحال عليه.
وقد نقل الخطيب عن الرافعي (عدم صحة التقايل في الحوالة، كما أن المتولي مصرح بأن الحوالة من العقود اللازمة، وأنها لو فسخت لا تنفسخ).
والذي ذكره السيوطي في فتاويه أن البلقيني حكى في صحة إقالتها خلافا، نقلا عن الخوارزمي، وكل ما فعله أنه رجح الصحة لما مر من أنها بيع، كما أنه يوجد بإزاء نص المتولي العام نص عام يقابله، وهو قولهم: (فسخ الحوالة انقطاع من حينه) وإذن فالخلاف ثابت في المذهب.
133 - ويستوي عند الحنفية أن يكون التراضي على الفسخ إلى غير بديل، أو إلى بديل. ومن النوع الثاني تصريحهم بأن (الحوالة إذا تعددت على رجلين كانت الثانية نقضا للأولى) فهذه كأنها استعاضة عن حوالة بحوالة.
فإذا كان الرجلان المحال عليهما بمثابة رجل واحد، لأنه ما أصيل وكفيله، وإنما التعدد الحقيقي في جانب المحال، فإن الثانية لا تكون نقضا للأولى، بل إما أن تصح الحوالتان، وإما أن تصح الأولى، وتلغو الثانية. والسر في ذلك أن الحوالة على الكفيل لا تقتضي براءة الأصيل من حق المحيل، فيتسنى للمحيل أن يحيل عليه بعد أن أحال على الكفيل، بخلاف العكس، إذ إن الحوالة على الأصيل تقتضي براءته وبراءة الكفيل كليهما من حق المحيل براءة مراعاة - وسماها بعضهم: تأخير المطالبة - فلا يسعه بعد أن أحال على الأول أن يحيل على الثاني، وقد أصبح بريئا.
ب - الانتهاء بطريق الإبراء:
134 - إبراء المحال للمحال عليه من دين الحوالة يقع تحت احتمالين فهو إما أن يكون إبراء استيفاء، أو إبراء إسقاط.
135 - (أ) فإذا كان إبراء استيفاء فإنه في معنى الإقرار بالقبض. وعندئذ تنتهي الحوالة بما دل عليه هذا الإبراء من وقوع الوفاء فعلا. وتصبح المسألة من قبيل النهاية بطريق الأداء، ويترتب فيها ما يترتب على أداء الحوالة من حق المحال عليه في الرجوع بدين الحوالة على المحيل إن لم يكن مدينا له بمثله. فإن كان مدينا له وقع التقاص بينهما.
136 - (ب) وأما إذا كان إبراء المحال للمحال عليه إبراء إسقاط قبل الوفاء، فإنه يخرج به المحال عليه من الحوالة كما صرح به صاحب البدائع وغيره. وعندئذ يسقط حق المحال في دين الحوالة سقوطا نهائيا، ولو كانت الحوالة على كفيل المدين ومقيدة بدين الكفالة.
ذلك لأن حق المحال قد تحول عن المحيل بمقتضى الحوالة نفسها حيث يبرأ بها المحيل ويحل محله المحال عليه في التزام الأداء.
فإذا أبرئ المحال عليه لم يبق للمحال حق تجاه أحد، سواء أكان المحال عليه مدينا أصليا للمحيل أم كفيلا أم غير مدين أصلا، بأن كانت الحوالة مطلقة عند الحنفية.
137 - (ج) وقد يقع هذا الإبراء - إبراء الإسقاط - من المحال للمحال عليه بعد أن أدى هذا إليه دين الحوالة، ويكون هذا عند الحنفية إبراء صحيحا، بناء على نظريتهم في أن إيفاء الديون لا يسقطها من الذمم، وإنما يؤدي إلى المقاصة وامتناع المطالبة: فإن الدين قبل الوفاء يكون قائما بذمة المدين، وبالأداء يقوم دين نظيره في ذمة الدائن المستوفي، أي يصبح المدين دائنا أيضا لدائنه فيصير كل منهما دائنا ومدينا للآخر، فتمتنع المطالبة من الجانبين لعدم فائدتها، وهذه هي المقاصة.
فالإبراء بعد الأداء الأصل فيه أن يكون إبراء استيفاء، لكن إذا صرح المبرئ أو دلت القرائن على أنه أريد به الإسقاط فإنه يصادف دينا قائما فيسقطه، ولكن هذا لا يؤثر في الحوالة التي تنتهي بمجرد الأداء، وإنما يقتصر أثره على أن يصبح للذي أبرئ - أي المحال عليه - حق مطالبة المحال الذي أبرأه بما كان قد أداه إليه، لأنه بعد الإبراء أصبح المقبوض بلا مقابل، فتنتقض المقاصة السابقة التقدير.
هذا، ولا نعلم أحدا من أهل العلم والاجتهاد يقول بما يقول به الحنفية في هذا الشأن، أي بصحة الإبراء بعد الوفاء، بناء على نظريتهم الآنفة الذكر.
الثانية - الانتهاء غير الرضائي:
وذلك في أربع حالات:
1 - الانتهاء بموت المحيل:
138 - يرى جمهور الفقهاء عدم انفساخ الحوالة بموت المحيل، لأن المال قد تحول من ملك المحيل إلى ملك المحال (ر: ف/ 127) وما تأثير موت المحيل في الحوالة بعد صحتها ولزومها إلا كتأثير موت بائع السلعة بعد صحة البيع ولزومه، بل بعد إقباضه إياها فضلا عن الصحة واللزوم، لأن الحوالة عندهم بمثابة الإقباض والتسليم. نعم تتأثر الحوالة بموت المحال عليه، إذ يحل به دينها المؤجل، وفي ذلك يقول صاحب نهاية المحتاج: (لو أحال بمؤجل على مثله حلت الحوالة بموت المحال عليه، ولا تحل بموت المحيل، لبراءته بالحوالة).
ويؤخذ مثله من نص المالكية في الضمان، وفي الشرح الكبير للحنابلة: (فإن مات المحيل أو المحال فالأجل باق بحاله، وإن مات المحال عليه انبنى على (قاعدة) حلول الدين بالموت - أي بموت المدين) -
وفيه روايتان (ولا يعلم في حلول الدين بموت المدين خلاف لأحد من أرباب المذاهب المدونة سوى أحمد في إحدى هاتين الروايتين).
ويترتب على ذلك عند الجمهور أن ما قبضه المحال من المحال عليه - قبل موت المحيل أو بعده، في صحته أو مرضه - كل ذلك هو له خاصة لا يشركه فيه أحد من غرماء المحيل، كما لا يشركونه في سلعة كان اشتراها في حال الصحة.
ويرى الحنفية أنه إذا مات المحيل حوالة مطلقة لا تنفسخ هذه الحوالة.
ثم إن كان له على المحال عليه مال (بالمعنى الشامل للدين توسعا، فإنه مال حكمي عند الحنفية) فلا شأن للمحال بهذا المال ولا تعلق لأن حقه في ذمة المحال عليه، وهذا المال تركة للمحيل، فيئول إلى ورثته، بعد أن تقضى منه الحقوق المقدمة، كالديون الأخرى غير دين المحال، لأنه لا يعود على المحيل ما دامت الحوالة قائمة، وموت المحيل لا يبطل الحوالة المطلقة.
139 - وأما في الحوالة المقيدة، فقد يموت المحيل قبل استيفاء دينها، وفي هذه الحالة تنفسخ الحوالة، لأن المال الذي قيدت به قد استحق من المحال عليه، ودخل في تركة المحيل، وعلى هذه التركة يعود المحال بدينه، ويكون أسوة الغرماء، هكذا علل صاحب - البدائع - ثم فرق بين الحوالة والرهن، بأن المرتهن اختص بغرم الرهن من بين سائر الغرماء، لأنه إذا هلك سقط دينه خاصة، ولما اختص بغرمه اختص بغنمه، لأن الخراج بالضمان. وأما المحال في الحوالة المقيدة فلم يختص بغرم ذلك المال، لأنه لو توي لا يسقط دينه عن المحيل.
فلما لم يختص بغرمه لم يختص بغنمه، ويكون أسوة الغرماء.
140 - ومن نتائج القول بالانفساخ عند الحنفية:
(أ) إن المحال إذا رجع إلى تركة المحيل وعرف نصيبه في القسمة بين الغرماء، فأراد أن يستوفي نصيبه هذا من المحال عليه بدلا من التركة لم يجز له ذلك، لأن ما على المحال عليه صار مشتركا بين المستحقين.
(ب) لو نقصت حصة المحال في المقاسمة عن الوفاء بدينه، لا يكون له حق الرجوع بما بقي له على المحال عليه، لأنه صار تاويا فلا يرجع به على أحد.
(ج) إن كان المحال قد قبض شيئا من دين الحوالة قبل موت المحيل - ولو في أثناء مرضه - فله ما قبضه، ثم يحاص الغرماء في الباقي. لكن في حالة القبض، والمحيل مريض مرض الموت، يوجد في كلام بعضهم تفرقة بين قبض الدين وقبض العين.
1 - ففي قبض الدين يسلم للمحال ما أخذه، ولا سبيل للغرماء عليه، لكن يكون المحال عليه - بأدائه الدين - غريما للمحيل يستحق الرجوع عليه كسائر الغرماء، ولا يملك الاستئثار بما كان في ذمته ليقع التقاص، بل يشاركه فيه الغرماء، ولا يسلم له منه إلا حصته في المحاصة.
2 - أما في قبض العين - كالوديعة والمغصوب - فبالعكس: أي لا سبيل حينئذ لغرماء المحيل على المحال عليه، لكن لا تسلم العين المأخوذة للمحال، بل يحاصه فيها الغرماء.
2 - الانتهاء بموت المحال عليه:
141 - نص بعض الحنفية على أن الحوالة تنتهي بموت المحال عليه، وذهب آخرون منهم إلى أن الحوالة لا تنتهي بموت المحال عليه سواء مات مدينا أم غير مدين. إلا أن يكون قد مات مفلسا، فإن الحوالة حينئذ تنتهي في الدين كله - إن لم يترك وفاء بشيء منه - أو تنتهي في باقيه، إن ترك وفاء ببعضه، ويرجع الباقي إن مات المحال عليه مفلسا، وسيجيء في التوى (ر: ف/ 164): ذلك أن التركة خلف عن صاحبها في قضاء دينه، كما صرح به السرخسي في المبسوط.
3 - الانتهاء بفوات المحل:
(أ) ارتفاع المال المحال به أصالة:
142 - اتفق الفقهاء على أنه إذا أحال المشتري البائع بالثمن على ثالث، ثم استحق المبيع، تبطل الحوالة، لأنه تبين أن المحيل - وهو المشتري - غير مدين للمحال - البائع - ومديونية المحيل للمحال شريطة لانعقاد الحوالة لا تقوم بدونها كما تقدم بيانه (ف / 59).
(ب) ارتفاع المال المحال عليه أصالة:
143 - في الحوالة المطلقة: لو كان للمحيل على المحال عليه دين أو عين هي أمانة أو مضمونة، فاستحقت أو تبين أن الدين لم يجب أصلا في حقيقة الأمر، كما لو كان ثمن مبيع فاستحق المبيع، فإن الحوالة تبقى كما هي صحيحة نافذة، لا يتطرق إليها بطلان أو انفساخ، لأن دين الحوالة المطلقة إنما يتعلق بذمة المحال عليه - كما سبق بيانه - وفي الذمة سعة، فلا يتأثر بمثل هذه العوارض، وقد سبق بحث ذلك (ر: ف/ 66)
144 - أما في الحوالة المقيدة: فيقرر الفقهاء في الجملة أن المال الذي تقيد الحوالة بإيفاء دينها به أو منه، إذا كان عينا - أمانة كانت أو مضمونة كالمغصوبة - ثم تبين استحقاقها لغير المحيل، أو كان دينا ثم تبين انعدامه من الأصل لا بسبب عارض، أي إن الذمة لم تشغل به أصلا، لا أنها شغلت ثم فرغت بسبب طارئ: فهنا يتبين بطلان الحوالة، بمعنى عدم انعقادها بتاتا.
مثال ذلك في الأعيان: رجل له عند رجل ألف دينار. بطريق الوديعة أو الغصب، فأحال عليه بها دائنا له، ثم بعد ذلك تبين أن هذه الدنانير ليست ملكا للمحيل، ولا له عليها ولاية، كما لو كانت في يده بطريق السرقة، أو ظهرت مستحقة لغيره، فإن الحوالة تبطل لأنها علقت بمعدوم حكما.
ومثاله في الديون: رجل باع آخر منزلا أو خلا، فأحال عليه بالثمن دائنا له، ثم بعد ذلك استحق المبيع أو تبين أن الخل خمر، فتبطل الحوالة، لأنها قيدت بدين لم يكن له وجود قط.
وفي جميع الأحوال متى بطلت الحوالة، فإن الدين يعود على المدين الأصلي، وهو المحيل.
ومن أمثلتهم: ما لو باع منزلا، وأحال على ثمنه، أو أحيل هو به، ثم تبين أن المنزل موقوف، إما ببينة، وإما بإقرار الأطراف الثلاثة - المحيل والمحال والمحال عليه - وكذا عند الشافعية ما لو أحال على أجرة شهر لدار له، فمات المستأجر خلاله، إذ قالوا: تبطل الحوالة في مقابل ما بقي من المدة، لبطلان الإجارة فيها.
قال الباجي في تعليل القول: بأن الحوالة باطلة، والدين كما كان، ولو دفع المحال عليه إلى المحال لرجع عليه به، فهو أن المحال عليه ليس طرفا في عقد الحوالة، وإنما يلزمه أن يدفع الثمن للبائع المحيل - مباشرة، أو بواسطة كالمحال - لأنه مستحق عليه للبائع بعقد آخر، فإذا سقط استحقاقه بهلاك المبيع مثلا قبل التسليم برئت ذمته من الثمن فلا يكلف أداءه، وإن كان قد دفعه حق له استرداده، ومعلوم أن من شرائط الحوالة أن يكون على المحال عليه مثل ما على المحيل فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط. قال ابن المواز: هذا أحب إلي، وهو قول أصحاب مالك كلهم.
يرى ابن القاسم من المالكية أن الحوالة معروف، وأنها لا تبطل بتبين أن لا دين على المحال عليه، ويرجع بعد أدائه على المحيل. وعلل الباجي تعليل كلا الوجهين عندهم.
أما تعليل قول ابن القاسم بعدم البطلان فهو أن الحوالة عقد لازم، فلا ينتقص في حق المحال باستحقاق سلعة لم يعاوض هو عليها بدين الحوالة سواء قبضه أم لم يقبضه بعد.
ج - ارتفاع المال المحال به عروضا:
145 - يرى الحنفية أنه إذا أحال المشتري البائع بالثمن على ثالث، حوالة مقيدة (أو مطلقة)، ثم هلك المبيع عند البائع قبل تسليمه إلى المشتري أو رد عليه بعيب بعد التسليم، تبطل الحوالة، لأنه قد تبين أن المحيل وهو المشتري غير مدين.
د - ارتفاع المال المحال عليه عروضا:
146 - ذهب الحنفية إلى أن المال المحال عليه إذا كان ثابتا ثم طرأ عليه الارتفاع له ثلاث حالات.
(الحالة الأولى) - ارتفاع المحال عليه عروضا في الحوالة المطلقة:
147 - إذا كان للمحيل مال عند المحال عليه ولكن الحوالة صدرت مطلقة لم يقيد فيها الوفاء بذلك المال، فإن هذه الحوالة المطلقة لا تبطل بفوات المال الذي للمحيل عند المحال عليه سواء أكان بخلو يده من العين التي كانت له عنده بهلاك، أم كان باسترداد المحيل ماله من المحال عليه، إذ إن حق الطالب إنما تعلق بذمة المحال عليه، لا بشيء، عنده أو عليه، وفي الذمة سعة. فللمحيل أن يطالب المحال عليه بما له عنده، كما أن للمحال أن يطالبه بدين الحوالة. فإذا أدى هذا الدين الأخير، سقط عنه الدين الأول بطريق المقاصة بين دين الحوالة الذي أداه ودين المحيل.
وقد سئل ابن نجيم عن مدين باع دائنه شيئا بمثل دينه، ثم أحال عليه بالثمن أو بنظيره، هل تصح الحوالة؟ فأجاب: (إن وقعت بنظير الثمن صحت، لأنها لم تقيد بالثمن - ولا يشترط لصحتها دين على المحال عليه - وإن وقعت بالثمن فهي مقيدة بالدين، وهو مستحق للمحال عليه، لوقوع المقاصة بنفس الشراء، وقدمنا أن الدين إذا استحق للغير فإنها تبطل).
(الحالة الثانية) - ارتفاع المال المحال عليه عروضا في الحوالة المقيدة بعين:
148 - لا تبطل الحوالة المقيدة إذا كان المال الذي قيدت به الحوالة عينا مضمونة، ثم لحقها الهلاك بسبب طارئ، كما لو ضاعت أو سرقت أو تلفت في حريق مثلا، فإن الحوالة تبقى كما هي، ومطالبة المحال عليه متوجهة، كما كانت قبل التلف لأن الحوالة قيدت حين عقدت بشيء موجود فعلا، فلا يضير ارتفاعه الطارئ، لأن العين المضمونة كالمغصوب مثلا إذا هلكت وجب على ضامنها مثلها، إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت قيمية، فيكون فواتها إلى خلف. والفوات إلى خلف كالبقاء حكما، لأن الخلف قائم مقام الأصل، فيتعلق به حق المحال.
وهذا منطبق تماما على الأمانات التي تفوت بتعدي من هي عنده، إذ هي إذ ذاك تدخل في عداد الأعيان المضمونة بخلاف الفوات بطريق استحقاق العين للغير، ولو كانت مغصوبة، فإن الذمة تبرأ فيه من ضمانات الفائت بعوده إلى مالكه، فيفوت إلى غير خلف، ولذا تبطل الحوالة به، كما تقدم (ر: ف/ 143)
أما فوات الأمانات بغير تعدي من هي عنده، كالوديعة إذا احترقت أو سرقت، فإنه ينهي الحوالة، وتبرأ ذمة المحال عليه ويعود الدين على المحيل.
وإذا استرد المحيل من المحال عليه العين التي قيدت الحوالة بالأداء منها، لا تبطل الحوالة ولا تتأثر بذلك، لأن المحال عليه متعد بدفع ما تعلق به حق المحال إلى من ليس له حق أخذه، وربما كان هذا كيدا يكيده للمحال، فيضمن المحال عليه للمحال، ويرجع هو على المحيل بما أخذه.
(الحالة الثالثة) - ارتفاع المال المحال عليه عروضا في الحوالة المقيدة بدين:
149 - إذا استوفى المحيل من المحال عليه دينه الذي قيدت به الحوالة، لا تبطل الحوالة بذلك ولا تتأثر به في شيء للسبب المذكور في حالة استرداد المحيل العين التي قيدت بها الحوالة.
150 - لا تبطل الحوالة المقيدة إذا كان المال الذي قيدت به الحوالة دينا فات بأمر عارض بعد الحوالة كذلك.
مثاله: رجل باع بضاعة بألف دينار، وأحال على المشتري بثمنها، ثم احترقت البضاعة مثلا أو غرقت قبل تسليمها إلى المشتري، أو ردت بعيب، أو خيار ما - ولو بعد التسليم - أو تقايلا البيع، فإن الثمن يسقط عن المشتري، ولكن لا تبطل الحوالة، لأن الدين الذي قيدت به كان قائما عند عقدها، فليس يضر سقوطه بعد. ثم إذا أدى المحال عليه استحق الرجوع على المحيل، لأنه قضى دينه بأمره.
فإذا كان المشتري في المثال الآنف هو المحيل للبائع بالثمن، فقد تقدم في الفقرة (145) حكمهم ببطلان الحوالة.
151 - والشافعية يوافقون الحنفية على هذه التفرقة تمام الموافقة، فيما اعتمدوه، وكذلك الحنابلة، فيما عليه القاضي وأصحابه، وإن كانوا كسائر الحنابلة لا يبطلون الحوالة بعد قبض دينها، ويقولون: يتبع صاحب المال ماله حيث كان. وهو وجه لبعض الشافعية (ر: ف 150) وقد علل الشافعية وموافقوهم بقولهم: إن الدين سقط في الحالين بعد ثبوت، فصار كأن لم يكن، نظير ما لو تبين أنه ثمن خمر موقوف، ومقتضى ذلك بطلان الحوالة فيهما، إلا أنه منع من ذلك مانع في حالة الحوالة عليه، وهو تعلق حق الغير به، وهذا الغير هو المحال.
وقد استنبط بعض متأخري الشافعية من هذا التعليل أنه في حالة الحوالة به - أي بالثمن من قبل المشتري - لو أن المحال - وهو البائع - كان قد أحل مكانه دائنا له، بطريق الحوالة، قبل سقوط الدين، لم تبطل الحوالة أيضا لتعلق حق الغير.
152 - ثم الأصح أنه لا فرق عند الشافعية - في حالتي البطلان وعدمه - بين أن يكون طروء الطارئ المسقط للدين قد وقع بعد قبض دين الحوالة أو قبله.
ويترتب على بطلانه بعد القبض، أن يرجع صاحب المال (المحيل) على المحال الذي قبضه - إما بعينه إن كان باقيا، أو ببدله إن كان تالفا - ولو رده المحال على المحال عليه، لأنه لا يملك الحق في هذا الرد، فقد قبض بإذن، فإن لم يقع القبض عن نفسه، وقع عن الآذن، ويتعين حقه فيما قبضه.
ويترتب على بقاء صحتها قبل القبض أن المحال عليه لا يملك الرجوع على المحيل إلا بعد الدفع.
ويفرق الحنابلة وبعض الشافعية في ذلك بين ما قبل القبض وبعده: فبعد القبض لا تبطل الحوالة عندهم جزما، بل يتبع صاحب المال ماله حيث كان. أما قبل القبض فعندهم قولان: بالبطلان وبعدمه.
أما أشهب - وهو الذي اعتمد متأخرو المالكية طريقته في المسألة - فيطلق القول هنا بعدم البطلان، لأن الفسخ عارض - إلا أنه يبطل الحوالة بالثمن أو عليه، إذا رد المبيع بعيب.
153 - والتفرقة بين الحوالة بالدين والحوالة عليه، جارية على المعتمد عند الشافعية، وعلى قول القاضي وأصحابه عند الحنابلة، ومن هؤلاء وهؤلاء مخالفون: يسوون بين الحوالة بالدين والحوالة عليه في البطلان، لما قدمناه هناك، ولا يأبهون لتعلق حق الغير، لعدم فائدة الحوالة.
وآخرون: يسوون بينهما في الصحة - منهم أبو علي الطبري من الشافعية - فهم لا ينظرون إلى تعلق حق أجنبي، بل إلى أن الدين كان قائما عند عقد الحوالة على أية حال وصحت الحوالة وبرئت بها ذمة المحيل، فلا يضر سقوطه بعد ثبوته، لأنه يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء.
والقياس الذي كان أبو علي الطبري نفسه يتعلق به: هو أن الحوالة بالدين وعليه، إذا طرأ فاسخ لسبب وجوبه، تقاس على التصرف في أحد عوضي البيع، إذا طرأ ما يفسخه، كما لو اشترى زيد بثوبه شيئا ما من عمرو، وباع زيد هذا الشيء ثم رد عليه الثوب بعيب، فإن الصفقة الثانية ماضية. والجامع في هذا القياس أن كلا منهما صفقة سبقتها أخرى، فلا يؤثر في الثانية طروء انفساخ الأولى.
4 - الانتهاء بالتوى:
154 - التوى في اللغة: وزان الهوى - وقد يمد - التلف والهلاك. هكذا عمم في - المصباح - وقصره صاحب - الصحاح - على هلاك المال. ويشتق منه فيقال: توي المال - من باب فرح - يتوى، فهو تو وتاو.
أما في اصطلاح الفقهاء هنا: فالتوى هو العجز عن الوصول إلى الحق، أي عجز المحال عن الوصول إلى حقه من طريق المحال عليه.
155 - الرجوع على المحيل إذا توي المال على المحال عليه، لم يقل به سوى الحنفية.
والذين وافقوا على الرجوع بسبب العجز عن الوصول إلى الحق في حالات الغرور خاصة، لم يعتبروه فاسخا للحوالة - إن صححوا انعقادها - بل سببا من أسباب الخيار في الإبقاء على عقدة الحوالة أو فسخها.
لكن المالكية قالوا: إنه بمجرد الحوالة، يتحول الدين إلى ذمة المحال عليه نتيجة لاعتبارها كالقبض، وتبرأ ذمة المحيل نهائيا، فلا رجوع عليه بسبب فلس المحال عليه، ولو كان هذا الفلس قائما عند الحوالة، ولا بجحده للدين بعد الحوالة، إلا أن غره المحيل، بأن علم أو ظن ظنا قويا فقر المحال عليه أو جحده، فكتمه عن المحال، فإن ثبت هذا العلم أو الظن، ببينة أو إقرار، لم يتحول الدين ولم تبرأ ذمة المحيل.
ومعنى ذلك: أن الحوالة باطلة.
156 - نعم إذا شرط المحال الرجوع عند العجز عن الوصول إلى الحق من قبل المحال عليه بسبب معين أو أكثر، فهنا يختلف نفاة الرجوع بالتوى: فالمالكية، وبعض الشافعية، يقولون إن له شرطه. ويعلله الباجي قائلا: (ووجه ذلك أن الحوالة صحيحة، وقد شرط فيها سلامة ذمته، فله شرطه).
أما جماهير الشافعية فيرون أن شرط الرجوع عند العجز شرط مناف لمقتضى العقد فيبطل، ثم الأصح عندهم أنه يبطل العقد نفسه أيضا.
157 - يعتبر الحنفية التوى نهاية للحوالة على التفصيل الذي سيأتي. يخالفهم أئمة المذاهب الثلاثة الأخرى وغيرهم:
فالشافعية والليث وأبو عبيد على أن التوى لا يعتبر نهاية للحوالة، وبالتالي لا رجوع به للمحال على المحيل. وكذلك يقول أحمد إلا أنه استثنى في رواية عنه ما إذا كان المحال عليه مفلسا عند الحوالة، ولم يعلم المحال بإفلاسه، فإنه حينئذ يكون له الرجوع على المحيل - إلا أن يثبت علم المحال بذلك ورضاه به - وهذه الرواية عن أحمد تتفق مع مذهب المالكية الذين يقولون أيضا بأن اشتراط الرجوع في حالة التوى مقبول ويعمل به، ولكن بشريطة علم المحيل بهذا الإفلاس.
وألحقوا به علمه بجحده كما بيناه آنفا (ف/ 155).
158 - وبهذا يتحرر: أن المذاهب في الرجوع بالتوى ثلاثة:
1 - إطلاق القول به: على خلاف في تحديد أسبابه أو إطلاقها.
وهذا هو مذهب الحنفية (ما عدا زفر)، ورأي بعض السلف.
2 - إطلاق رفضه: وهذا هو مذهب جماهير الشافعية.
3 - وجوب استحقاق الرجوع إذا شرط، وإلا فلا رجوع إلا في حالات الغرور - وعليه المالكية.
أدلة الحنفية:
يستدل الحنفية لقولهم بالرجوع في حالة التوى بما يلي:
(أ) إجماع الصحابة:
159 - فقد جاء عن عثمان - رضي الله عنه - في المحال عليه إذا مات مفلسا أنه يعود الدين إلى ذمة المحيل، وقال: (ليس على مال امرئ مسلم توى)
ولم ينقل عن أحد من الصحابة خلافه، فكان إجماعا. وجاء عن شريح مثله.
(ب) - المعقول:
160 - قالوا: لأن المقصود بالحوالة أن ينوب الثاني عن الأول في الإيفاء، لا مجرد نقل الوجوب من ذمة إلى ذمة، إذ الذمم لا تتفاوت في أصل الوجوب، هذا هو ما يتعارفه الناس، وما تعارفوه فهو كالمشروط.
وعلى هذا، فبراءة المحيل لم تثبت مطلقة، بل مشروطة بعوض. فإذا لم يسلم هذا العوض عاد الدين إلى ذمة المحيل فشغلها كما كان. نظيره أن يهلك المبيع قبل قبضه، أو يخرج مستحقا، أو يتبين به عيب، فإن المشتري يرجع بالثمن، إذ العرف قاض بأنه ما بذل الثمن إلا ليحصل على مبيع سليم، فإذا فات هذا المقصود الذي هو في قوة المشروط، عاد بالثمن الذي بذله. هذا قياس لا شك في جلائه.
أدلة الشافعية وموافقيهم:
ويستدل الشافعية وموافقوهم على عدم الرجوع في حالة التوى مطلقا بالأدلة التالية:
أ - السنة المطهرة:
161 - فقد جاء في قوله صلوات الله عليه عند الطبراني في الأوسط، وأصله عند الجماعة «من أحيل على مليء فليتبع» هذا من غير فصل بين توى وغيره، ولا يوجد مخصص لهذا العموم.
ب - آثار الصحابة:
162 - من ذلك: (أن حزنا جد سعيد بن المسيب كان له على علي رضي الله عنه دين فأحاله به، فمات المحال عليه فأخبره فقال: اخترت علينا، أبعدك الله) وروى ابن حزم، عن سعيد بن المسيب: أنه كان لأبيه المسيب دين على إنسان ألفا درهم، ولرجل آخر على علي بن أبي طالب ألفا درهم: فقال ذلك الرجل للمسيب: أنا أحيلك على علي، وأحلني أنت على فلان، ففعلا. فانتصف المسيب من علي، وتلف مال الذي أحاله المسيب عليه. فأخبر المسيب بذلك علي بن أبي طالب، فقال له علي: أبعده الله.
أدلة المالكية وموافقيهم:
162 م - المالكية في استدلالهم على عدم الرجوع في التوى إلا في حالتي الشرط أو الغرور يقولون:
إن أدلة الشافعية في رفض الرجوع مطلقا مخصصة بهذين الدليلين التاليين وليست على إطلاقها:
(1) المحال على مفلس يجهل إفلاسه كمشتري السلعة يجهل عيبها، إذ الإفلاس عيب في المحال عليه، فيكون له الرجوع، كما أن للمشتري الرد بالعيب. وهكذا يقول الحنابلة .
(2) المحيل الذي يكتم إفلاس المحال عليه كالبائع يدلس عيب المبيع، فيجب أن تقع المسئولية على المدلس، ولا تقتصر على المفلس. هكذا يقول المالكية، وإنما خصوا بالذكر في قياسهم حالة التدليس من حالات الرد بعيب المبيع، مع أنه عام سواء أدلس البائع أم لم يدلس، لأن للذمم خفاء وسرية لا تعلم، فصارت أشبه بالمبيع الذي يجهل باطنه، وهذا لا رد بعيبه عندهم إلا عن تدليس.
أسباب التوى:
163 - للتوى - في الحوالة بنوعيها المطلقة والمقيدة - سببان عند أبي حنيفة، وثلاثة أسباب عند الصاحبين. وتنفرد الحوالة المقيدة بسبب مستقل، فيكون مجموع الأسباب أربعة في الجملة.
(أولا) موت المحال عليه مفلسا قبل الأداء.
(ثانيا) جحد المحال عليه الحوالة ولا بينة.
(ثالثا) تفليس القاضي للمحال عليه.
(رابعا) تلف الأمانة التي قيدت بها الحوالة، أو ضياعها.
أولا - موت المحال عليه مفلسا قبل الأداء:
164 - وذلك بأن لا يترك ما يقضي منه دين المحال، ولا كفيلا به.
أما إذا ترك ما يقضى منه دين المحال - مهما كان ما تركه، ولو دينا في ذمة أو أكثر - فإنه لا يتحقق إفلاسه، ولا يمكن حينئذ الرجوع على المحيل، مهما تكن الأسباب والمعاذير. حتى إنه لو مات المحال عليه إلى أجل مليئا وله دين سيفضي انتظار قسمته إلى تأخير أداء الحوالة لما بعد الأجل لا يكون للطالب أن يتعلل بذلك ليرجع على المحيل، لبقاء الحوالة، إذ التركة خلف عن صاحبها في المقصود هنا، وهو قضاء الدين.
فإن كان ما تركه المحال عليه لا يفي إلا ببعض دين المحال، فلا إفلاس ولا توى إلا بالنسبة إلى باقيه. ولذا يقولون: (إذا مات المحال عليه مديونا، قسم ماله بين الغرماء وبين المحال بالحصص، وما بقي له يرجع به على المحيل).
165 - كذلك إذا ترك كفيلا بدين الحوالة، لا يعد مفلسا بالنسبة إليه - لأن الكفيل قائم مقام الأصيل ، وخلف عنه - إلا أن يموت الكفيل أيضا مفلسا، أو يبرئه المحال - لأن هذا الإبراء كالفسخ للكفالة معنى - وهذا وهو الذي عناه صاحب الخلاصة، حين قال: (إن المحال لو أبرأ الكفيل بعد موت المحال عليه، فله أن يرجع بدينه على المحيل).
هذا، وفي حالة الكفالة ببعض الدين يكون التوى بالنسبة إلى باقيه لا غير.
166 - ولهذا وذاك يقول في «البزازية»: أخذ المحال من المحال عليه بالمال كفيلا، ثم مات المحال عليه مفلسا، لا يعود الدين إلى ذمة المحيل، سواء كفل بأمره أو بغير أمره، وسواء أكانت الكفالة حالة أم مؤجلة، أم كفل حالا ثم أجله المكفول له.
وإن لم يكن به - أي بالمال - كفيل، ولكن تبرع رجل ورهن به رهنا، ثم مات المحال عليه مفلسا، عاد الدين إلى ذمة المحيل، ولو كان المحال مسلطا على بيع الرهن فباعه، ولم يقبض الثمن حتى مات المحال عليه مفلسا، بطلت الحوالة، والثمن لصاحب الرهن.
ثانيا - جحد المحال عليه الحوالة، ولا بينة:
167 - إذا جحد المحال عليه الحوالة، ولا بينة عليها، فقد تحقق التوى بهذا السبب. فلا يمكن أن يقبل هذا الجحد مع وجود بينة على الحوالة، سواء أقامها المحال أم المحيل. فإذا لم تكن لأحدهما بينة على الحوالة يحلف المحال عليه اليمين: أن لا حوالة عليه، وفقا للقاعدة القائلة: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر».
فإذا قبل من المحال عليه جحده هذا وقضى بمنع المحال عنه فقد تحقق عجز المحال عن الوصول إلى الحق، أي أنه توى.
ثم إذا أراد المحال الرجوع على المحيل بحجة التوى بسبب هذا الجحد لا يثبت الجحد بمجرد دعوى المحال لأجل الرجوع على المحيل، كما هو واضح، بل لا بد من ثبوت الجحد بالبينة.
على أن هذه البينة لا يمكن القضاء بمقتضاها إلا بحضور المحال عليه، إذ لا يمكن القضاء على غائب، لكن المحال يكفي مئونة هذا القضاء إذا صدقه المحيل في دعوى الجحد، فيستحق الرجوع عليه حينئذ، ولو لم تكن له بينة.
ثالثا - تفليس القاضي المحال عليه:
168 - ومعناه أن يحكم القاضي بإفلاسه بعد أن يظهر له حاله.
وليس حتما أن يكون ظهور الحال الذي يبني عليه القاضي حكمه بالإفلاس عن شهادة شهود - وإن كان هذا احتياطا حسنا - فإنها شهادة نفي ليست بحجة، بل يكفيه اجتهاد الرأي. وفي موضوعنا هذا لا يكون التفليس إلا بعد الحبس.
169 - ومن فروع هذا الأصل المتنازع فيه، وهو إمكان تحقق التوى بالتفليس، ما إذا مات المحال عليه، ولم يترك إلا دينا على مفلس، فعند أبي حنيفة: لا توى في هذه الحالة، وعند الصاحبين: بل يحصل التوى بتفليس القاضي لهذا المدين.
رابعا - تلف الأمانة التي قيدت بها الحوالة أو ضياعها:
170 - إذا أصاب الوديعة مثلا تلف أو ضياع ولو بمجرد دعوى الوديع - كما لو ادعى ضياع الدنانير المودعة عنده - تكون النتيجة عند الحنفية انفساخ الحوالة التي قيدت بها، وبراءة المحال عليه من المطالبة بمقتضاها، وإذن يعود الدين إلى ذمة المحيل كما كان بادئ ذي بدء، ذلك أن المحال عليه لم يلتزم التسليم مطلقا، بل مقيدا بشيء معين، وقد ذهب ذلك الشيء المعين، فلم تبق عليه مطالبة بشيء ما.
بخلاف العين المضمونة - كالمغصوب - فإن الحوالة المقيدة بها لا تنفسخ بفواتها، لأنها تفوت - إن فاتت - إلى خلف، من مثل أو قيمة، فتتعلق الحوالة بهذا الخلف، فإن فاتت لا إلى خلف بأن ظهرت مستحقة - بطلت الحوالة من أصلها، كما سبق إيضاحه (ر: ف/ 144).
آثار التوى:
171 - ذهب الحنفية إلى أنه متى تحقق التوى في دين الحوالة وثبت بأحد أسبابه المتقدمة ترتب عليه أثران:
(أولا) - انتهاء الحوالة، فتنتهي بانتهائها أحكامها.
(ثانيا) - رجوع المحال على المحيل بدينه: لأن براءة المحيل من هذا الدين كانت مشروطة بسلامة عاقبة الحوالة، أي باستيفاء الحق من المحل الثاني، فلما انتفت الشريطة انتفى المشروط، وعاد الدين إلى ذمة المحيل كما كان. وإذن تتوجه عليه للمحال جميع حقوق الدائنين تجاه مدينهم، كالمطالبة والمقاضاة.
نعم لا رجوع على المحال عليه إذا هو أحال الطالب على المحال نفسه، فتوي المال عنده - وإن كان يصدق عليه (أي على المحال عليه) حينئذ أنه محل توي مال حوالته -
وفي عقد الحوالة إذا اشترطت براءة الأصيل صراحة - رغم أن مقتضاها هذه البراءة دون شرط - هل يرجع المحال على المحيل في حالة التوى؟ إن مقتضى كونها حوالة أن تثبت أحكام الحوالة، ومن جملتها الرجوع على المحيل بسبب التوى، ومقتضى شرط البراءة صراحة عدم هذا الرجوع، لكنهم نصوا على ثبوت حق الرجوع بالتوى في هذه الحالة.
وهم يختلفون في كيفية عود الدين إلى ذمة المحيل حينئذ:
(1) فمن قائل إن ذلك يكون طريق الفسخ: أي أن المحال هو الذي يفسخ الحوالة متى تحقق سبب من أسباب التوى، ومن ثم يعاد الدين على المحيل، كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبا، لفوات وصف السلامة المشروط عرفا في الموضعين.
(2) ومن قائل: بل عن طريق الانفساخ التلقائي: دون حاجة إلى تدخل المحال، نظير البيع إذا هلك المبيع قبل قبضه، فإنه ينفسخ دون تدخل من أحد، لفوات وصف السلامة، ويعود حق المشتري في الثمن، فكذلك هنا - بنفس العلة - تنفسخ الحوالة تلقائيا عند التوى، ويعود الدين إلى ذمة المحيل.
(3) ومن قائل: إن كان السبب هو الجحود فالطريق هو الفسخ، وإن كان هو الموت عن إفلاس فالطريق هو الانفساخ.
ولا يخفى ما يترتب على هذا الاختلاف من آثار عملية.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الحادي والعشرون ، الصفحة / 130
(تمليك الديون لغير المدين):
62 - اختلف الفقهاء في حكم تمليك الدين لغير من عليه على أربعة أقوال:
أحدها: رواية عن أحمد ووجه عند الشافعية: وهو أنه يجوز تمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض وبغير عوض .
والثاني: للحنفية والحنابلة والشافعية في الأظهر: وهو أنه لا يصح تمليك الدين لغير من هو عليه، سواء أكان بعوض أم بغير عوض.
كأن يقول شخص لآخر: وهبتك ما لي من دين على فلان فيقبل. أو يقول له: اشتريت منك كذا بما لي من دين على فلان، فيقبل أو يقول له: استأجرت منك كذا بالدين الثابت لي في ذمة فلان، فيقبل. فهذا كله غير جائز؛ لأن الواهب أو المشتري أو المستأجر يهب أو يبيع ما ليس في يده، ولا له من السلطة شرعا ما يمكنه من قبضه منه، فكان بيعا لشيء لا يقدر على تسليمه، إذ ربما منعه المدين أو جحده، وذلك غرر فلا يجوز .
وقد استثنى الحنفية من قاعدة عدم جواز تمليك الدين لغير من هو عليه ثلاث حالات
الأولى: إذا وكل الدائن الشخص الذي ملكه الدائن في قبض ذلك الدين من مدينه، فيصح ذلك، ويقبض الدين من المدين باعتباره وكيلا عن الدائن، وبمجرد القبض يصير قابضا لنفسه، وتنتقل ملكية الدين إليه.
والثانية: إذا أحال الدائن الشخص الذي ملكه الدين على مدينه، فيصح ذلك، ويقبض الدين من المدين باعتباره محالا من الدائن عليه، وبمجرد القبض تنتقل ملكية الدين إليه.
والثالثة: الوصية، فإنها تصح بالدين لغير من هو عليه؛ لأن ها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، فينتقل الملك فيه كما ينتقل بالإرث.
والثالث: للشافعية في قول - صححه كثير من أئمتهم كالشيرازي في المهذب والنووي في زوائد الروضة، واختاره السبكي وأفتى به زكريا الأنصاري وغيره - وهو أنه يجوز بيع سائر الديون - عدا دين السلم - لغير من عليه الدين، كما يجوز بيعها للمدين ولا فرق، وذلك إذا كان الدين حالا والمدين مقرا مليئا أو عليه بينة لا كلفة في إقامتها. وذلك لانتفاء الغرر الناشئ عن عدم قدرة الدائن على تسليم الدين إليه .
وكما اشترط التقابض في المجلس في بيع الدين للمدين إذا كان بما لا يباع به نسيئة - كالربويات ببعضها - فإنه يشترط كذلك في بيع الدين لغير من هو عليه.
والرابع للمالكية: وهو أنه يجوز بيع الدين لغير المدين بشروط تباعد بينه وبين الغرر، وتنفي عنه سائر المحظورات الأخرى، وهذه الشروط ثمانية
1 - أن يعجل المشتري الثمن؛ لأنه إذا لم يعجل في الحين فإنه يكون من بيع الدين بالدين.
2 - أن يكون المدين حاضرا في البلد؛ ليعلم من فقر أو غنى؛ لأن عوض الدين يختلف باختلاف حال المدين، والمبيع لا يصح أن يكون مجهولا.
3 - أن يكون المدين مقرا بالدين، فإن كان منكرا له فلا يجوز بيع دينه ولو كان ثابتا بالبينة حسما للمنازعات.
4 - أن يباع بغير جنسه، أو بجنسه بشرط أن يكون مساويا له.
5 - ألا يكون ذهبا بفضة ولا عكسه، لاشتراط التقابض في صحة بيعها.
6 - ألا يكون بين المشتري والمدين عداوة.
7 - أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه، احترازا مما لو كان طعاما، إذ لا يجوز بيعه قبل قبضه.
8 - ألا يقصد المشتري إعنات المدين والإضرار به.
الحوالة:
77 - وذلك أن المحال إذا قبل الحوالة ورضي المحال عليه بها برئ المحيل وكفيله - إن كان له كفيل - من الدين ومن المطالبة معا؛ لانقضاء الدين بالحوالة، ويثبت للمحال حق مطالبة المحال عليه، غير أن براءة المحيل وكفيله المشار إليها مقيدة بسلامة حق المحال لدى المحال عليه عند الحنفية . (ر: حوالة).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الثاني والعشرون ، الصفحة / 173
ذكر الجودة والرداءة في الحوالة:
5 - يشترط المالكية والحنابلة والشافعية في الأصح لصحة الحوالة تماثل الدينين - المحال به والمحال عليه - جنسا وقدرا، وحلولا أو تأجيلا، وصحة أو تكسرا، وجودة أو رداءة. لأن الحوالة تحويل الحق فيعتبر تحوله على صفته والمراد بالصفة ما يشمل الجودة أو الرداءة، والصحة أو التكسر.
وقال الشافعية في وجه: تجوز الحوالة بالقليل على الكثير، وبالصحيح على المكسر، وبالجيد على الرديء، وبالمؤجل على الحال، وبالأبعد أجلا على الأقرب.
أما الحنفية فلا يشترطون لصحة الحوالة أن يكون المحال عليه مديونا للمحيل، ومن ثم لا يشترط عندهم التماثل بين الدينين المحال به والمحال عليه جنسا، أو قدرا، أو صفة.
والتفصيل (ر: حوالة).
قبول الرديء عن الجيد في القرض:
6 - لا يجب على المقرض قبول الرديء عن الجيد في القرض، فإن أقرضه مطلقا من غير شرط فقضاه خيرا منه في القدر أو الصفة أو دونه برضاهما جاز في الجملة.
وفي بعض صور المسألة خلاف وتفصيل للفقهاء ينظر في مصطلح: (قرض)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / الخامس والعشرون ، الصفحة / 23
سفتجة
التعريف:
1 - السفتجة بضم السين وفتحها، وفتح التاء، فارسي معرب. قال في القاموس: السفتجة كقرطقة، أن يعطي شخص مالا لآخر، وللآخر مال في بلد المعطي فيوفيه إياه ثم. فيستفيد أمن الطريق .
والسفتجة اصطلاحا كما قال ابن عابدين: إقراض لسقوط خطر الطريق.
وفي الدسوقي: هي الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله ببلد ليدفع للمقرض نظير ما أخذه منه ببلده وهي المسماة بالبالوصة .
هل السفتجة قرض أو حوالة:؟
2 - السفتجة تشبه الحوالة باعتبار أن المقترض يحيل المقرض إلى شخص ثالث فكأنه نقل دين المقرض من ذمته إلى ذمة المحال عليه، والحوالة لا تخرج عن كونها نقل الدين من ذمة إلى ذمة.
لكن جمهور الفقهاء - المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية - اعتبروها من باب القرض؛ لأن الكلام في القرض الذي يجر منفعة هل هو جائز أو غير جائز، أما الحوالة فهي في دين ثبت في الذمة فعلا.
وقد ذكرها بعض فقهاء الحنفية كالحصكفي والمرغيناني في آخر باب الحوالة مع ذكرها في باب القرض أيضا.
وقال ابن الهمام والبابرتي: أورد القدوري هذه المسألة هنا لأنها معاملة في الديون كالكفالة والحوالة، وقال الكرماني: هي في معنى الحوالة لأنه أحال الخطر المتوقع على المستقرض. وهذا ما قاله الحصكفي، قال: السفتجة: إقراض لسقوط خطر الطريق، فكأنه أحال الخطر المتوقع على المستقرض فكان في معنى الحوالة. قال ابن عابدين وفي نظم الكنز لابن الفصيح: وكرهت سفاتج الطريق وهي إحالة على التحقيق. قال شارحه المقدسي: لأنه يحيل صديقه عليه أو من يكتب إليه .
الحكم الإجمالي:
3 - القرض من القرب المندوب إليها، وهو من باب المعروف، شرع للتعاون بين الناس وتفريج كرب المحتاجين بما يبذله المقرض للمستقرض المحتاج، وهو لا يطلب من وراء ذلك سوى الثواب من الله سبحانه وتعالى، فإذا طلب المقرض من وراء إقراضه نفعا خاصا له من المستقرض فقد خرج بذلك عن موضوع القرض لأنه عقد إرفاق وقربة، ولذلك يحرم إذا كان يجلب نفعا للمقرض وخاصة إذا شرط ذلك في عقد القرض، كأن يشترط المقرض زيادة عما أقرض أو أجود منه؛ لأن ذلك من باب الربا، ومن القواعد المعروفة: أن كل قرض جر منفعة فهو حرام، روى ذلك عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود - رضي الله تعالي عنهم - ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الصحابة والسلف. قال: حدثنا خالد الأحمر عن حجاج عن عطاء قال: كانوا يكرهون كل قرض جر منفعة.
ومن الصور التي قد تجلب نفعا للمقرض ما يسمى بالسفتجة وصورتها: أن يقرض شخص غيره - تاجرا أو غير تاجر - في بلد ويطلب من المستقرض أن يكتب له كتابا يستوفي بموجبه بدل القرض في بلد آخر من شريك المقترض أو وكيله.
والنفع المتوقع هنا هو أن يستفيد المقرض دفع خطر الطريق؛ إذ قد يخشى لو سافر بأمواله أن يسطو عليه اللصوص وقطاع الطرق فيلجأ إلى هذه الحيلة ليستفيد من وراء هذا القرض دفع الخطر المتوقع في الطريق.
والحكم في ذلك يختلف؛ لأنه إما أن يكون الكتاب الذي يكتبه المستقرض لوكيله (وهو السفتجة) مشروطا في عقد القرض أو غير مشروط.
فإن كان ذلك مشروطا في عقد القرض فهو حرام والعقد فاسد؛ لأنه قرض جر نفعا فيشبه الربا؛ لأن المنفعة فضل لا يقابله عوض، وهذا عند جمهور الفقهاء (الحنفية والشافعية وبعض فقهاء المالكية ورواية عن أحمد) وذكر ابن عبد البر أن مالكا كره العمل بالسفاتج بالدنانير والدراهم ولم يحرمها، وأجاز ذلك طائفة من أصحابه وجماعة من أهل العلم، وقد روي عن مالك أيضا أنه لا بأس بذلك، والأشهر عنه كراهيته لما استعمله الناس من أمر السفاتج.
وفي رواية عن أحمد جوازها لكونها مصلحة لهما جميعا، وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق فيأخذونها منه، فسئل عن ذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - فلم ير به بأسا، وممن لم ير به بأسا: ابن سيرين والنخعي، رواه كله سعيد بن منصور.
وذكر القاضي من الحنابلة أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد أخرى ليربح خطر الطريق، والصحيح جوازه، لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما.
والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها بل بمشروعيتها، و لأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص، فوجب إبقاؤه على الإباحة. غير أن المالكية استثنوا ما إذا عم الخوف جميع طرق المحل التي يذهب المقرض منها إليه، فإذا كان الخوف على النفس أو المال غالبا لخطر الطريق فلا حرمة في العمل بالسفتجة بل يندب ذلك تقديما لمصلحة حفظ النفس والمال على مضرة سلف جر نفعا، كما أنه يجوز ذلك عندهم إذا كان فيه نفع للمقترض أو كان المتسلف هو الذي طلب ذلك.
وإن كان المقترض هو الذي كتب السفتجة من غير شرط من المقرض بذلك جاز ذلك باتفاق لأنه من حسن القضاء، وقد «استسلف النبي صلي الله عليه وسلم من رجل بكرا فقدمت عليه إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء» .
ورخص في ذلك ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والنخعي والشعبي والزهري ومكحول وقتادة وإسحاق .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه - 2012 م الجزء / التاسع والثلاوثون ، الصفحة / 292
أثر الموت على الالتزامات الثابتة باختيار المكلف:
الالتزام الاختياري للمكلف هو ما يثبت بإرادته واختياره، وهذا الالتزام قد يكون أثرا لتعاقد وارتباط تم بين إرادة شخصين، وقد يكون أثرا لعهد قطعه على نفسه بإرادته المنفردة.
أولا - الالتزامات العقدية التي تنشأ بإرادة طرفين:
65 - ومنشأ هذه الالتزامات العقد، الذي هو عبارة عن ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه .
والالتزامات الناشئة عن العقود على ثلاث أقسام، التزامات ناشئة عن عقود لازمة من الجانبين، والتزامات ناشئة عن عقود جائزة (غير لازمة) من الجانبين، والتزامات ناشئة عن عقود لازمة من جانب واحد، وبيان ذلك فيما يلي:
القسم الأول: العقود اللازمة من الجانبين:
أ - البيع:
66 - لم يختلف الفقهاء في أن البيع متى لزم، فإن ما ينشأ عنه من التزام على أحد العاقدين تجاه الآخر لا يسقط ولا يبطل بموته، فإذا مات البائع قام ورثته بإيفاء ما عليه من التزامات تجاه المشتري، وإذا مات المشتري قام ورثته بتنفيذ ما عليه من واجبات والتزامات تجاه البائع، وذلك في حدود ما ترك . قال ابن قدامة: وإن مات المتبايعان، فورثتهما بمنزلتهما، لأنهم يقومون في أخذ مالهما وإرث حقوقهما، فكذلك ما يلزمهما أو يصير لهما .
وللتفصيل (ر: عقد ف 61).
67 - وقد استثنى الفقهاء من ذلك ما إذا مات أحد العاقدين مفلسا، وأوردوا تفصيلا في أثر ذلك على الالتزامات الناشئة عن عقد البيع، وإن كان بينهم ثمة اختلاف في الفروع والجزئيات، وبيان ذلك فيما يلي:
أ - إذا اشترى شخص شيئا، ثم مات مفلسا بعد أداء ثمنه للبائع، فالمبيع ملكه خاصة، سواء قبضه من البائع أو لم يقبضه، وهذا باتفاق الفقهاء.
ب - أما إذا مات مفلسا قبل تأدية الثمن، فينظر:
فإن لم يكن المشتري قد قبض المبيع، فقال الحنفية: للبائع أن يحبسه حتى يستوفي ثمنه من تركة المشتري أو يبيعه القاضي ويؤدي للبائع حقه من ثمنه، فإن زاد الثمن عن حق البائع يدفع الزائد لباقي الغرماء، وإن نقص عن حق البائع أخذ البائع الثمن الذي بيع به، ويكون في الباقي أسوة الغرماء .
وقال المالكية: يكون البائع أحق به أي أن له فسخ العقد واستيفاء المبيع لنفسه .
أما إذا كان المشتري قد قبض المبيع، فهل يكون للبائع أن يسترده فيحبسه إن كان باقيا بعينه، ويكون أحق به من غيره من أرباب الحقوق على المشتري كما لو كان باقيا في يده، أم يصير البائع بقبض المشتري له قبل موته مثل باقي الغرماء؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: للحنفية والمالكية والحنابلة، وهو أنه ليس للبائع بعد أن قبض المشتري المبيع استرداده، بل يكون أسوة الغرماء، فيقسمونه، جميعا واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا، فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء».
القول الثاني: للشافعية وهو أن البائع بالخيار: إن شاء ترك المبيع وضارب الغرماء بثمنه، وإن شاء استرده، وكان أحق به من سائر الغرماء وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلي الله عليه وسلم قضى: أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه».
ج - أما إذا مات البائع مفلسا بعد قبض الثمن وقبل تسليم المبيع للمشتري، ففي هذه الحالة نص الحنفية والمالكية على أن المشتري يكون أحق بالمبيع من سائر الغرماء، لأنه ليس للبائع حق حبسه في حياته، بل للمشتري جبره على تسليمه إليه ما دامت عينه قائمة، فيكون له أخذه بعد موت البائع أيضا، إذ لا حق للغرماء فيه بوجه، لأنه أمانة عند البائع - وإن كان مضمونا بالثمن لو هلك عنده - وعلى هذا كان له أخذه إن كانت عينه باقية أو استرداد ثمنه إن كان قد هلك عند البائع أو عند ورثته . وانظر مصطلح (إفلاس ف 37).
ب - السلم:
68 - لا خلاف بين الفقهاء في أن رب السلم إذا مات بعد تأدية رأس مال السلم فإن المسلم فيه يكون دينا له في ذمة المسلم إليه، ويقوم ورثته مقامه في استيفائه منه كسائر ديونه المؤجلة.
ولكن إذا مات المسلم إليه قبل حلول زمن الوفاء، فهل يبطل الأجل بموته، ويحل دين السلم، أم أنه يبقى كما هو إلى وقته؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: لجمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو أن الأجل يبطل بموت المسلم إليه، ويحل دين السلم، ويلزم تسليمه من تركته حالا إلى رب السلم إذا كان موجودا.
أما إذا لم يكن متوفرا في وقت الحلول الطارئ بموت المسلم إليه فقد اختلفوا: هل يفسخ عقد السلم لذلك أم لا؟ وعلى تقدير عدم الفسخ، هل توقف قيمة المسلم فيه من التركة إلى الوقت الذي يوجد فيه عادة أم لا؟
فقال الحنفية: يؤخذ من التركة حالا لأن من شروط صحة السلم وجود المسلم فيه في الأسواق من وقت العقد إلى محل الأجل عندهم، وذلك لتدوم القدرة على تسليمه، إذ لو لم يشترط ذلك، ومات المسلم إليه قبل أن يحل الأجل ، فربما يتعذر تسليم المسلم فيه، فيؤول ذلك إلى الغرر .
وقال المالكية: إن المسلم فيه يحل بموت المسلم إليه كما هو الشأن في حلول سائر الديون المؤجلة بموت المدين، وفي هذه الحالة فإن المسلم فيه يجب تسليمه من التركة، إلا أنه إذا كان موت المسلم إليه قبل محل أجله، ولم يكن المسلم فيه موجودا في الأسواق، فإنه يوقف تقسيم التركة إلى الوقت الذي يغلب وجوده فيه.
قال الحطاب: إذا مات المسلم إليه قبل وقت الإبان، أي وقت وجود المسلم فيه عادة، فإنه يجب وقف قسم التركة إليه.
وقال ابن رشد: إنما يوقف إن خيف أن يستغرق المسلم فيه كل التركة، فإن كان أقل من التركة وقف قدر ما يرى أن يفي بالمسلم فيه، وقسم ما سواه، وهذا خلافا لما يراه أشهب، فإنه يرى أن القسم لا يجوز إذا كان على الميت دين، وإن كان يسيرا.
وقال ابن عبد السلام: إن كان على المسلم إليه ديون أخرى قسمت التركة عليه، ويضرب للمسلم قيمة المسلم فيه في وقته على ما يعرف في أغلب الأحوال من غلاء ورخص.
وقال بعضهم تتميما لقول ابن عبد السلام بأنه يوقف للمسلم ما صار له في المحاصة حتى يأتي وقت الإبان، فيشترى له ما أسلم فيه، فإن نقص عن ذلك أتبع بالقيمة ذمة الميت إن طرأ له مال، وإن زاد لم يشتر له إلا قدر حقه، وتترك البقية إلى من يستحق ذلك من وارث أو مديان .
وقال الشافعية في الأصح : إذا كان المسلم فيه موجودا في الأسواق فيجب تحصيله وتسليمه لرب السلم وإن غلا وزاد على ثمن مثله، أما إذا لم يكن موجودا فيها، فيثبت للمسلم الخيار بين الفسخ والصبر حتى يوجد المسلم فيه دفعا للضرر، ولا ينفسخ العقد - كما لو أفلس المشتري بالثمن - لأن المسلم فيه يتعلق بالذمة، وهي باقية، والوفاء في المستقبل ممكن، والقول الآخر عند الشافعية ينفسخ العقد كما لو تلف المبيع قبل القبض .
القول الثاني: للحنابلة في المعتمد، وهو أن الأجل لا يحل بموت المدين إذا وثقه الورثة أو غيرهم برهن أو كفيل مليء على أقل الأمر ين من قيمة التركة أو الدين، ولا يوقف شيء من تركة المسلم إليه لأجل دين السلم.
فإن لم يوثق بذلك حل، لأن الورثة قد لا يكونون أملياء، ولم يرض بهم الغريم، فيؤدي ذلك إلى فوات الحق .
ج - الإجارة:
69 - اختلف الفقهاء في تأثير موت المؤجر في إجارة الأعيان والأجير في إجارة الأعمال على ما التزم به في عقد الإجارة، وذلك على قولين:
القول الأول: للمالكية والشافعية والحنابلة، وهو أن ما التزم به المؤجر لا يبطل بموته، لأن الإجارة لا تنفسخ بالموت، بل تبقى على حالها، لأن ها عقد لازم فلا ينفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه، ولذلك تبقى العين عند المستأجر حتى يستوفي منها ما تبقى له من المنفعة، وليس لورثة المؤجر أن يمنعوه من الانتفاع بها، وهو قول إسحاق والبتي وأبي ثور وابن المنذر .
وأما ما التزم به الأجير من العمل: فإما أن يكون مرتبطا بعينه وذاته، كما إذا قال له: استأجرتك أو اكتريتك لتعمل كذا أو لكذا أو لعمل كذا، أو يكون مرتبطا بذمة الأجير ، كما إذا استأجره لأداء عمل معين يلزم ذمته، مثل أن يلزمه حمل كذا إلى مكان كذا أو خياطة كذا دون أن يشترط عليه مباشرته بنفسه، وذلك ما يسمى في الاصطلاح الفقهي بإجارة الذمة.
فإن كان الالتزام مرتبطا بعين الأجير وذاته، فإنه يسقط وينتهي بموت الأجير لانفساخ عقد الإجارة بموته نظرا لفوات محل المنفعة المعقود عليها واستحالة إكمال تنفيذ العقد فيما يتعلق بالمدة المتبقية، أما فيما مضى من الزمن فلا يسقط حق الأجير فيما يقابله من أجر، وذلك لاستقراره بالقبض.
وأما إذا كان الالتزام موصوفا في ذمة الأجير ، فإنه لا يسقط بموته، وينظر: إن كان له تركة استؤجر منها من يقوم بإكمال وتوفية التزامه، لأنه دين عليه. وإن لم يكن له تركة، ولم يرغب ورثته في إتمام ذلك العمل الموصوف في ذمته ليستحقوا الأجر، فإنه يثبت ما للمستأجر حق الفسخ لموت الملتزم مفلسا .
القول الثاني: للحنفية والثوري والليث وهو أن الإجارة تنفسخ بموت المؤجر لأعيانه والأجير على عمله، سواء مات قبل تنفيذ العقد أو في أثنائه، لأن استيفاء المنفعة على ملك المؤجر يتعذر بالموت، فينفسخ العقد ضرورة، وينتهي التزام كل من المؤجر والأجير .
غير أن الحنفية استثنوا بعض الحالات الخاصة، وقالوا إن الإجارة فيها لا تنفسخ بموت المؤجر ضرورة، وهي:
أ - إذا مات المؤجر قبل انقضاء المدة، وفي الأرض المستأجرة زرع بقل، أي لم ينضج بعد، فيبقى العقد ولا ينفسخ بموته حتى يدرك الزرع، ويكون الواجب عندئذ الأجر المسمى إلى نهاية مدة العقد، وبعد انقضاء المدة أجر المثل حتى يدرك.
ب - إذا استأجر دابة إلى مكان معين، فمات صاحب الدابة وسط الطريق، فإن للمستأجر أن يركب الدابة إلى المكان المسمى بالأجر إذا لم يجد دابة أخرى يصل بها أو لم يكن هناك ثمة قاض يرفع الأمر إليه، ولا ينفسخ العقد بموت صاحب الدابة .
وانظر التفصيل في (إجارة ف 59 - 72).
د - المساقاة:
70 - اختلف الفقهاء في تأثير الموت على الالتزامات المترتبة على عقد المساقاة، سواء في ذلك ما التزم به صاحب الشجر أو النخل بتمكين العامل من القيام بسقيه وإصلاحه، أو ما التزم به العامل من تعهد الشجر وعمل سائر ما يحتاج إليه، وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: للمالكية والشافعية وبعض الحنابلة، وهو أن عقد المساقاة لا ينفسخ بموت أحد طرفيه، سواء كان ذلك قبل بدء العمل أو في أثنائه، لأنه عقد لازم، فأشبه الإجارة، ويقوم الوارث مقام الميت منهما.
وعلى ذلك.
فإن كان الميت عامل المساقاة، كان لورثته أن يقوموا مقامه في إتمام العمل إذا كانوا عارفين بالعمل أمناء، ويلزم المالك أو ورثته تمكينهم من العمل إن كانوا كذلك.
فإن أبى الورثة القيام بذلك العمل لم يجبروا عليه، لأن الوارث لا يلزمه من الحقوق التي على مورثه إلا ما أمكن أداؤه من تركته، والعمل هاهنا ليس من هذا القبيل، وفي هذه الحالة يستأجر الحاكم من التركة من يقوم بالعمل، لأنه دين على الميت، فأشبه سائر الديون، فإن لم يكن هناك تركة، ولم يتبرع الورثة بالوفاء، فلرب المال الفسخ، لتعذر استيفاء المعقود عليه، كما لو تعذر ثمن المبيع قبل قبضه.
وإن كان الميت رب الشجر، لم تفسخ المساقاة، ويستمر العامل في عمله، ويجب على ورثة رب المال تمكينه من العمل والاستمرار فيه وعدم التعرض له، وبعد تمام العمل يأخذ حصته من الثمر بحسب ما اشترط في العقد .
القول الثاني: للحنفية، وهو أن المساقاة تبطل بالموت، أي بموت رب الشجر أو العامل، قبل بدء العمل أو في أثنائه، لأن ها في معنى الإجارة، وهذا هو الأصل عندهم.
ثم فصلوا في المسألة فقالوا: إذا قام العامل برعاية وسقاية الشجر، ولقحه حتى صار بسرا أخضر، ثم مات صاحب الشجر، فإن المساقاة تنتقض بينهما في القياس، ولكن للعامل - استحسانا - أن يقوم برعاية الشجر حتى يدرك الثمر، وإن كره ذلك ورثة رب الشجر، لأن في انفساخ العقد بموت رب الشجر إضرارا بالعامل وإبطالا لما كان مستحقا له بالعقد، وهو ترك الثمار على الأشجار إلى وقت الإدراك، وإذا انتقض العقد فإنه يكلف الجذاذ قبل الإدراك، وفي ذلك ضرر بالغ عليه، ولهذا لا تبطل المساقاة بموت رب الشجر في الاستحسان، فإن أبى العامل أن يستمر في عمل الشجر وأصر على قطعه وأخذه بسرا انتقض العقد، لأن إبقاء العقد تقديرا إنما كان لدفع الضرر عنه، فإذا رضي التزام الضرر كان له ما اختار، غير أنه لا يملك إلحاق الضرر بورثة رب الشجر، فيثبت لهم الخيار على النحو التالي:
أ - أن يقسموا البسر على الشرط المنصوص عليه في العقد الذي كان بين مورثهم والعامل.
ب - أن يعطوا العامل قيمة نصيبه من البسر.
ج - أن ينفقوا على البسر حتى يبلغ، فيرجعوا بذلك في حصة العامل من الثمر.
وأما إذا مات عامل المساقاة في هذه الحالة فإن العقد لا يبطل بموته استحسانا ويكون لورثته أن يقوموا مقامه في تعهد الشجر ورعايته، وإن كره رب الشجر، لأنهم قائمون مقامه، إلا أن يقول الورثة: نحن نأخذه بسرا، وطلبوا نصيب مورثهم من البسر، ففي هذه الحالة يكون لصاحب الشجر من الخيار مثل ما قدمنا، وهو ما يكون لورثته إذا أبى العامل أن يستمر في القيام على الشجر.
وأما إذا ماتا جميعا، كان الخيار في القيام عليه لورثة العامل، لأنهم يقومون مقامه، وقد كان له في حياته هذا الخيار إذا مات صاحب الشجر، فكذلك يكون لورثته بعد موته، فإن أبوا ذلك كان الخيار لورثة رب الشجر على ما قدمنا في الوجه الأول .
القول الثالث: للحنابلة على المذهب، وهو أن المساقاة تنفسخ بموت أحد العاقدين، فإذا مات العامل أو رب الشجر انفسخت المساقاة، كما لو فسخها أحدهما، بناء على قولهم إن عقد المساقاة من العقود الجائزة من الطرفين.
ومتى انفسخت المساقاة بموت أحدهما بعد ظهور الثمرة، فهي بينهما على ما شرطاه في العقد، ويلزم العامل أو وارثه إتمام العمل، فإن ظهرت، ثمرة أخرى بعد الفسخ فلا شيء للعامل فيها، وإذا انفسخت المساقاة بموت أحدهما بعد شروع العامل في العمل وقبل ظهور الثمرة، فله أجرة مثل عمله، ويقوم وارث العامل بعد موته مقامه في الملك والعمل، فإن أبى الوارث أن يأخذ ويعمل، لم يجبر، ويستأجر الحاكم من التركة من يعمل، فإن لم تكن تركة، أو تعذر الاستئجار منها بيع من نصيبه من الثمر الظاهر ما يحتاج إليه لتكميل العمل، واستؤجر من يعمله .
ه - المزارعة:
71 - يرى الحنفية والحنابلة أن المزارعة تنفسخ بموت أحد العاقدين، سواء أكان العامل أم رب الأرض ، بناء على أن المزارعة من العقود الجائزة من الطرفين عندهم .
وللحنفية تفصيل في المسألة حيث قالوا: إذا مات أحدهما قبل الزراعة، فإن المزارعة تنفسخ، إذ ليس في ذلك إبطال مال على المزارع، ولا شيء له بمقابلة ما عمل.
أما إذا مات أحدهما بعد الزراعة فإن المزارعة تبقى استحسانا، وذلك لدفع ما يصيب أحدهما من ضرر، والقياس أنها تبطل، ولكن تبقى حكما إلى حصد الزرع.
وقد ذكر الكاساني: أن صاحب الأرض إذا مات والزرع بقل، فإن العمل يكون على المزارع خاصة، لأن العقد وإن كان قد انفسخ حقيقة لوجود سببه وهو الموت، إلا أننا أبقيناه تقديرا دفعا للضرر عن المزارع، لأنه لو انفسخ لثبت لصاحب الأرض حق القلع، وفيه ضرر بالمزارع، فجعل ذلك عذرا في بقاء العقد تقديرا، فإذا بقي العقد كان العمل على المزارع خاصة كما كان قبل الموت.
وأما إذا مات المزارع والزرع بقل، فلورثته أن يعملوا على شرط المزارعة، وإن أبى ذلك صاحب الأرض ، لأن في القطع ضررا بهم ولا ضرر بصاحب الأرض في الترك إلى وقت الإدراك، وإن أراد الورثة قلع الزرع وترك العمل، لم يجبروا عليه، لأن العقد قد انفسخ حقيقة، إلا أنا أبقيناه باختيارهم نظرا لهم، فإن امتنعوا عن العمل بقي الزرع مشتركا، ويخير صاحب الأرض : إما أن يقسمه بالحصص، أو يعطيهم قيمة حصصهم من الزرع البقل، أو أن ينفق على الزرع من مال نفسه إلى وقت الحصاد ثم يرجع عليهم بحصصهم، لأن في ذلك رعاية للجانبين .
و - الحوالة:
72 - اختلف الفقهاء في تأثير موت المحال عليه أو المحيل في عقد الحوالة على الالتزامات الناشئة عن تلك المعاقدة إذا مات أحدهما قبل استيفاء دين الحوالة، وذلك على النحو التالي:
أولا: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن المحال عليه يلزم بالدين المحال به، ولا يطالب به المحيل أبدا، لأن ذمته قد برئت بمقتضى الحوالة، فلا يكون للمحال الحق في الرجوع على المحيل بحال، وعلى ذلك فإذا مات المحال عليه، فإن ما التزم به لا يبطل بموته، بل يؤخذ من تركته، فإذا مات مفلسا لا تركة له فإن التزامه لا يبطل، ولا يكون للمحال حق في الرجوع على المحيل، لأن الحوالة عقد لازم لا ينفسخ بالموت فامتنع الرجوع على المحيل لبقاء الدين المحال به في ذمة المحال عليه .
أما موت المحيل فلا تأثير له على الحوالة عند الشافعية والمالكية والحنابلة، لأن ذمته قد برئت وانتقل الدين إلى ذمة المحال عليه، فأصبح هو المطالب به وحده، إذ الحوالة بمنزلة الإيفاء .
ثانيا: ذهب الحنفية إلى أنه لا تأثير لموت المحال عليه على ما التزم به من مال، فيؤخذ من تركته ويعطى للمحال.
وإذا كان المحال عليه مدينا قسم ماله بين الغرماء وبين المحال بالحصص، فإن بقي للمحال شيء من الدين رجع به على المحيل.
وإذا كان دين الحوالة مؤجلا فإنه يحل بوفاة المحال عليه لاستغنائه عن الأجل بموته.
ويستثنى من ذلك ما إذا مات المحال عليه مفلسا، فإن الحوالة حينئذ تنتهي في الدين كله - إن لم يترك وفاء بشيء منه - أو تنتهي في باقيه إن ترك وفاء ببعضه .
أما إذا مات المحيل فإن لوفاته تأثيرا على الحوالة المقيدة، وإن كان الأصل عندهم أن ذمة المحيل قد برئت لانتقال الدين إلى ذمة المحال عليه، ولكن ذلك مقيد بسلامة حق المحال، فخوفا أن يضيع حقه ويتوى، كان له الرجوع على المحيل رغم براءة ذمته منه، إذ البراءة ههنا مؤقتة ومرهونة بسلامة حق المحال، ولهذا فإن مات المحيل بعد الحوالة وقبل استيفاء المحال المال من المحال عليه بطلت الحوالة، وإذا كان على المحيل ديون أخرى، فالمحال أسوة الغرماء .
أما إذا كانت الحوالة مطلقة، فإنه لا تبطل بموت المحيل، ولا تأثير لموته على الحوالة، وأساس ذلك كما جاء في العقود الدرية: أن الحوالة المطلقة تبرع، وإذا كان المحال عليه مدينا للمحيل لا تتقيد بدينه، ولذا كان للمحيل مطالبته به قبل الأداء، فلا تبطل بقسمة دين المحيل بين غرمائه، لأن المحال لم يبق من غرمائه، بل صار من غرماء المحال عليه، فهذا كله دليل على أن الحوالة المطلقة لا تبطل بموت المحيل، بل تبقى مطالبة المحال على المحتال عليه، وإن أخذ منه دين المحيل وقسم بين غرمائه، وهذا جار على القواعد الفقهية .
ثالثا: ذهب المالكية إلى أن الحوالة متى تمت، فإن الدين ينتقل من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ويصبح المحال عليه ملتزما بأدائه للمحال، فإذا مات قبل الأداء، فإنه يؤخذ الدين المحال به من تركته، ولا رجوع للمحال على المحيل بحال، حتى وإن مات المحال عليه مفلسا، إلا أن يشترط المحال على المحيل أنه إذا مات المحال عليه أو أفلس، فإنه يرجع عليه، فله عند ذلك شرطه إذا مات المحال أو فلس .
____________________________________________________________________
الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء/ الثالث المجلد/ الاول
انتقال الالتزام في الفقه الإسلامي : ويجدر بناء أن ننظر ، بعد هذه العجالة التاريخية ، ماذا كان موقف الفقه الإسلامي من انتقال الالتزام ، وما مدي التطور الذي بلغه في هذه المسألة ( ) .
يعرف الفقه الإسلامي الحوالة ، ومن أهم المميزات له في تنظيمها هو التفريق بين الحوالة المقيدة والحوالة المطلقة ( ) . ويوجد في كل من الحوالتين دائن ومدين ثم أجنبي محال عليه ، وهذا الأجنبي المحال عليه هو الذي يتركز فيه التفريق بين الحوالة المقيدة والحوالة المطلقة .
فإن كان هذا الأجنبي مدينا للمدين أو كان في يده له وديعة أو عين مغصوبة ، $ 421 $ وأراد المدين عن طريق الحوالة الوفاء بالدين الذي في ذمته للدائن بالحق الذي له في ذمة الأجنبي ، فهذه هي الحوالة المقيدة ( ) . وهل أقرب إلي أن تكون طريقا من طرق الوفاء بالدين من أن تكون حوالة بالمعني الدقيق . وتقرها المذاهب جميعا ، علي خلاف بينها في الصياغة القانونية سنذكره فيما يلي :
أما أن كان الأجنبي غير مدين للمدين ، أو كان مدينا ولكن لم تقيد الحوالة بهذا الدين في المذهب الحنفي ، فهذه هي الحوالة المطلقة . ويمكن في الحوالة المطلقة . أن نتصور أن المدين يريد أن يحيل دينه علي الأجنبي ، وهذه هي حوالة الدين بالمعني الدقيق ، ولا يسلم بها الفقه الإسلامي خلافا لما يقال عادة وهي عنده أقرب إلي أن تكون كفالة أو تجديدا ، من أن تكون حوالة للدين وقد قدمنا أن الكفالة في الفقه الإسلامي هي الأصل في التضامن ، والآن نراها الأصل أيضا في الحوالة . ويمكن كذلك في الحوالة المطلقة أن نتصور أن الدائن هو الذي يريد أن يحيل حقه للأجنبي ، وهذه هي حوالة الحق بالمعني الدقيق . وحوالة الحق أيضا لا يسلم بها الفقه الإسلامي بوجه عام ، خلافا لما يقال عادة . ذلك أن الحنفية والشافعية والحنابلة لا يسلمون بهذه الحوالة ، أما المالكية فيسلمون بها في حدود معينة .
وقبل أن نفصل ما أجملناه ، يحسن أن نشير إلي خطأين شائعين ينسبان إلي الفقه الإسلامي في خصوص الحوالة : ( أولا ) ما يرد ذكره عادة في الفقه والقضاء في مصر علي أنه حوالة الحق في الفقه الإسلامي إنما هو حوالة الدين لا حوالة الحق . ( ثانيا ) ليس صحيحا أن الفقه الإسلامي عرف حوالة الدين ولم يعرف حواله الحق ، وإلا كان هذا بدعا في تطور القانون . فمن غير الطبيعي أن يعرف نظام قانوني حوالة الدين قبل أن يعرف حوالة الحق ، كما أنه من غير الطبيعي أن يسلم نظام قانوني بانتقال الدين بين الأحياء وهو لم يعترف بانتقاله بسبب الموت . فالفقه الإسلامي كان في توره طبيعيا كسائر النظم القانونية : $ 422 $ لم يعرف حوالة الدين ، لا بسبب الموت إذ الدين لا ينتقل إلي الورثة بل يبقي في التركة حتي تقوم بسداده ، ولا بين الأحياء إلا في صورة من صور الكفالة أو التجديد . وعرف حوالة الحق ، بسبب الموت حوالة كاملة إذ الحقوق الشخصية التي للتركة تنتقل إلي الورثة ، وبين الأحياء بقيود معينة وفي مذهب واحد هو المذهب المالكي ( ) .
والآن ننتقل الي تفصيل ما أجملناه ، في غير إطالة إذ لا يتسع المقام هنا للإسهاب . ونتناول حوالة الدين وهي المعنية بلفظ " الحوالة " في الفقه الإسلامي فإذا ذكرت الحوالة قصد بها حوالة الدين دون غيرها ، ثم حوالة الحق ولا يعرف الفقه الإسلامي هذا التعبير ويسمي حوالة الحق بيع الدين أو هبه الدين .
حوالة الدين : يختلف ، في حوالة الدين ، المذهب الحنفي عن المذاهب الثلاثة الأخري . علي أن التمييز بين الحوالة المطلقة والحوالة المقيدة ، وإن كان غير منصوص عليه إلا في فقه المذهب الحنفي ، لا يقل أهمية في المذاهب الثلاثية الأخري عنه في المذهب الحنفي ، بل لعله يزيد كما سنري .
ونبدأ بالمذهب الحنفي : ففي هذه المذهب تتم الحوالة المطلقة برضاء الأطراف الثلاثة ، الدائن والمدين والمحال عليه . ويجوز أن تتم برضاء الدائن والمحال عليه دون المدين ( ) ، ولكن لا يرجع المحال عليه في هذه الحالة علي المدين ، إذا دفع الدين للدائن ، إلا إذا كانت الحوالة بأمر المدين . أما الحوالة المقيدة فلا بد فيها من رضاء الأطراف الثلاثة . وسواء كانت الحوالة مطلقة أو مقيدة ، $ 423 $ فإن الدائن يرجع علي المحال عليه بالدين ، فهل انتقل الدين إلي ذمة المحال عليه بالحوالة؟ هنا تتضارب الآراء في المذهب الحنفي . فعند أبي حنيفة وأبي يوسف ، ينتقل الدين من ذمة المدين إلي ذمة المحال عليه ، فلو أبرأ الدائن المحال عليه منن الدين صح ذلك ولو أبرأ المدين لا يصح ، ولكن الين يعود إلي ذمة المدين إذا توي عند المحال عليه . وعند محمد ، تنتقل المطالبة وحدها دون الدين من المدين إلي المحال عليه ، ويبقي الدين دون المطالبة في ذمة المدين . فلو أراد هذا أن يقضية للدائن ، لا يكون متبرعا ، لأنه لا يزال مدينا ، ويجبر الدائن علي الاستيفاء . ولو أبرأ الدائن المحال عليه ، لا يرتد الإبراء بالرد ، لأن الدائن إنما أسقط المطالبة لا الدين ، ولا يرجع المحال عليه علي المدين ولو كانت الحوالة بأمره ، لأن الدائن لم يبريء المحال عليه من الدين بل من مجرد المطالبة . وإذا توي الدين عند المحال عليه ، عادت المطالبة إلي المدين واجتمعت عنده مع الدين فيرجع عليه الدائن بالدين نفسه ، ولو كان الدين قد انتقل إلي المحال عليه لما كان للدائن الرجوع بنفس الدين وإنما كان يرجع بالضمان . وعند زفر ، لا ينتقل الدين ولا المطالبة إلي ذمة المحال عليه ، بل تضم ذمة المحال عليه إلي ذمة المدين في المطالبة ، فيكون المحال عليه كفيلا للمدين .
ثم إن الدائن إذا طالب المحال عليه بالوفاء ، وجب هنا أن نميز بين الحوالة المطلقة والحوالة المقيدة . ففي الحوالة المطلقة ، إذا دفع المحال عليه الدين للدائن ، فإن لا يرجع علي المدين إلا إذا كانت الحوالة بأمره كما قدمنا ، ويرجع بالدين نفسه لا بما أدي . وهذا يدل إما علي أن الدين لا يزال باقيا في ذمة المدين كما يقول محمد ، فيرجع المحال عليه به . وإما علي أن الدين قد انتقل مع المطالبة إلي المحال عليه كما يقول أبو حنيفة وأبو يوسف ، فأداه المحال عليه وحل محل الدائن فيه ، فيرجع به علي المدين . وإما علي أن الدين والمطالبة لم ينتقلا عن المدين كما يقو زفر ، ولهذا يرجع المحال عليه بنفس الدين ، كما يرجع الكفيل في الكفالة بما كفل لا بما أدي . أما إذا توي الدين عند المحال عليه - بأن مات هذا مفلسا أو أفلس وهو حي أو جحد الحوالة ولم تكن هناك بينه - فإن الدائن يرجع علي المدين بنفس الدين ( ) . كما سبق القول . وفي الحوالة المقيدة يخصص $ 424 $ الحق الذي للمدين في ذمة المحال عليه لوفاء الدين المحال به ( ) ، دون أن ينتقل هذا الحق للدائن ، بل دون أن يكون رهنا عنده لسببين : ( 1 ) إذا أفلس المدين قبل أن يؤدي المحال عليه الدين للدائن ، فليس الدائن أحق من سائر غرماء المدين بالدين الذي خصص له وقيدت به الحوالة . وعند زفر الدائن أحق من سائر الغرماء ، لأن الدين صار له بالحوالة رهنا ( ) . ( 2 ) ولو توي هذا الدين $ 425 $ عند المحال عليه ( ) ، توي علي المدين لا علي الدائن ، ولا يسقط في مقابلته شيء من الدين المحال به ( ) . وهذان السببان يبينان أن الدين الذي تقيدت به الحوالة لا ينتقل إلي الدائن ولا يكون رهنا عنده .
هذه هي جملة أحكام حوالة الدين - المطلقة والمقيدة - في المذهب الحنفي ، أوجزناها متوخين إبراز المقومات الرئيسية لهذه الحوالة في هذا المذهب . ويبقي أن نضيف إلي ما قدمناها أن التأمينات التي كانت تكفل الدين المحال به وهو في ذمة المدين قبل الحوالة تنقضي بالحوالة عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، ولا تنتقل لتكفل الدين في ذمة المحال عليه ( ) . وننظر بعد ذلك في تأصيل حوالة الدين في $ 426 $ المذهب الحنفي ، أيفي التكييف القانوني الذي يساير المقومات الرئيسة السالفة الذكر . ونبادر إلي القول إن هذا التكييف لا يختلف باختلاف ما إذا كانت الحوالة مطلقة أو مقيدة . وسنراه في المذاهب الثلاثة الأخري يختلف في الحوالة المطلقة عنه في الحوالة المقيدة ، وهذا يؤكد ما سبق أن قررناه من أن التمييز بين الحوالة المطلقة والحوالة المقيدة قد تزيد أهميته في المذاهب الثلاثة الأخري عنها في المذهب الحنفي . وإنما يختلف التكييف في المذهب الحنفي باختلاف ما اعتبر انتقاله بالحوالة إلي المحال عليه ، هل هو الدين والمطالبة معا ، أو المطالبة وحدها ، أو أن المحال عليه لم ينتقل إليه بالحوالة لا الدين ولا المطالبة :
أما عند زفر ، حيث لا ينتقل الدين ولا المطالبة من ذمة المدين إلي ذمة $ 427 $ المحال عليه ، بل تضم ذمة المحال عليه إلي ذمة المدين في المطالبة ، فالأمر واضح ، ولا تعدو حوالة الدين أن تكون كفالة محضة كما قدمنا . فإذا حول المدين دينه حوالة مطلقة ، كان معني هذا عند زفر أنه اتخذ من المحال عليه كفيلا عاديا له ، وبقيت ذمته هو مشغولة بالدين كما كانت . ويكون للدائن أن يرجع إما علي المحال عليه وإما علي المدين كما يشاء ، شأنه في ذلك شأن الدائن في الكفالة يرجع إما علي الكفيل وإما علي المدين . وإذا كانت الحوالة مقيدة ، بقي المحال عليه عند زفر كفيلا للمدين ، وأضيف إلي ذلك أن الدين الذي تقيدت به الحوالة يصبح مرهونا في الدين المحال به ، فيكون المدين قد قدم للدائن ضمانين " كفيلا ورهنا .
وأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، حيث تنتقل المطالبة والدين من ذمة المدين إلي ذمة المحال عليه ، فهذا قول ينبغي ألا يؤخذ علي علاته . والصحيح أن الدين الأصلي قد انقضي ، ومما يقطع في انقضائه انقضاء التأمينات التي كانت تكلفة . وحل محل الدين الأصلي دين جديد في ذمة المحال عليه ، لا تنتقل إليه تأمينات الدين الأصلي كما قدمنا . وتكون حوالة الدين ، مطلقة كانت أو مقيدة ، عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، ليست إلا تجديدا بتغيير المدين فقد استبدل المحال عليه بالمدين الأصلي ( ) . فإذا توي الدين عند المحال عليه ، فسخ التجديد ، وعاد الدين إلي ذمة المدين الأصلي ( ) .
أما عند محمد ، حيث لا ينتقل الدين إلي ذمة المحال عليه وإنما تنتقل المطالبة وحدها ، وحيث لا تنقضي التأمينات بل تبقي علي حالها تكفل الدين الباقي في ذمة المدين ( ) ، فإن حوالة الدين ، مطلقة كانت أو مقيدة ، أقرب إلي 428 $ أن تكون كفالة محورة ، ووجه التحوير فيها أن الدائن يرجع علي المحال عليه ( الكفيل ) أولا ، لأن المطالبة انتقلت إليه ولم تبق عند المدين . فإن توي الدين عند المحال عليه ، يرجع الدائن علي المدين الأصلي ، إذ تعود المطالبة بالتوي إلي المدين لتنضم إلي الدين كما كانت . أما في الكفالة العادية فالدائن بالخيار إن شاء طالب المدين الأصلي أولا وإن شاء طالب الكفيل ( ) ، لأن المطالبة بقيت عند المدين وإنما ضمت فيها إلي ذمته ذمة الكفيل ( ) .
( ب ) وننتقل الآن ، في حوالة الدين ، إلي المذاهب الثلاثة الأخري ، المالكية والشافعية الحنابلة . وهنا يجب أن نميز ، منذ البداية ، بين الحوالة المقيدة والحوالة المطلقة . وهذا تمييز جوهري لا تصرح به نصوص هذه المذاهب ، ويرجع ذلك في الغالي إلي أن الفرق بين هاتين الحوالتين كبير إلي حد أن إحداهما – وهي الحوالة المطلقة - ليست بحوالة أصلا كما سنري ، فلا تستحق هذه التسمية حتى لا تكون نوعا ثانيا إلي جانب الحوالة المقيدة . وهذا يعود بنا مرة أخري إلي تأكيد أهمية هذا التمييز في المذاهب الثلاثة .
ففي الحوالة المقيدة – أو الحوالة إطلاقا لأن الحوالة المطلقة لا تدعي في العادة حوالة في المذاهب الثلاثة – يشترط أن يكون للمدين دين في ذمة المحال عليه معادل في الجنس ومساو في المقدار للدين المحال به ، فيوفي المدين الدين الذي في ذمته للدائن بالدين الذي له في ذمة المحال عليه . ومن ثم وجب أن يكون الدين المحال به والدين الذي تقيدت به الحوالة متساويين ، كما قدمنا ، في الصفة $ 429 $ والمقدار ( ) ، فإن اختلفا في شيء من ذلك لم تصح الحوالة ( ) . ويشترط لانعقاد الحوالة المقيدة في المذاهب الثلاثة رضاء كل من الدائن والمدين ، أما رضاء المحال عليه فلا يشترط علي الأرجح ، لأن الدائن يستوفي الدين منه كما كان يستوفيه المدين فلا يتضرر المحال عليه بذلك . بل إن رضاء الدائن عند الحنابلة لا يشترط هو أيضا إذا كان المحال عليه مليئا ، فيكفي إذن عندهم في هذه الحالة إرادة المدين المنفردة . ومتي تمت الحوالة علي هذا النحو ، برئت ذمة المدين نحو الدائن ، وبرئت ذمة المحال عليه نحو المدين ، وصار المحال عليه مدينا للدائن . ولا تنتقل تأمينات الدين المحال به بل تنقضي ( ) ، مما يقطع $ 430 $ في أن هذا الدين قد انقضي ، فليس هو الذي قام في ذمة المحال عليه للدائن . كذلك لا ينتقل إلي الدائن الحق الذي كان للمدين في ذمة المحال عليه للأسباب الآتية : ( 1 ) لا تنتقل أيضا تأمينات هذا الحق لتكفل الحق الذي قام للدائن في ذمة المحال عليه ( ) . ( 2 ) لو كان حق المدين في ذمة المحال عليه قد انتقل إلي الدائن ، فقد كان ينبغي أن يكون للمحال عليه أن يدفع مطالبة الدائن بالدفوع التي كان يدفع بها مطالبة المدين دون الدفوع المستمدة من علاقة المديونية ما بين المدين والدائن ، ولكن في بعض النصوص ما يصرح بعكس ذلك ( ) . ( 3 ) ولو كان هذا الحق $ 431 $ قد انتقل إلي الدائن ، وكان المحال عليه معسرا وقت الحوالة أو أعسر بعد ذلك ، فقد كان ينبغي أن يرجع الدائن علي المدين بالضمان ، ولكن الظاهر من النصوص أن المدين لا يضمن إعسار المحال عليه ( ) . ( 4 ) ولو كان مقدرا لهذا الحق أن ينتقل إلي الدائن ، ولكن لم يتمكن المدين من نقله ، كأن كان الحق ثمنا لمبيع استحق أو كان وديعة فهلكت ، فقد كان ينبغي أن يعتبر الدائن غير مستوف لدينه أو أن الحق لم ينتقل إليه ، فيبقي للدائن دينه في ذمة المدين ، ولكن هذا الحكم لا يظهر في وضوح من النصوص .
ويستوقف النظر علي كل حال أن الحوالة ، في المذاهب الثلاثة ، لا تكون إلا حيث يكون المدين دائنا في الوقت ذاته للمحال عليه بجنس ما عليه وبمقداره ( ) . $ 432 $ أليس من البديهي أن يقال في هذه الحالة إن المدين إنما يوفي ، عن طريق ما يسمي بالحوالة ، الدين الذي عليه للدائن بالحق الذي له في ذمة المحال عليه ، ثم يوفي بهذا الحق الذي استوفاه الدين الذي عليه للدائن ، يختصر هاتين العمليتين في عملية واحدة ، فيقضي الدين الذي عليه بالحق الذي له ، دون أن يستوفي شيئا من مدينة أو يوفي شيئا لدائنه ، بل يقتصر علي أن يحيل دائنه علي مدينة هذا هو الظاهر الواضح . ولكن علي أي أساس أجري المدين كل ذلك؟ لا نري أن المدين حول علي مدينة الدين الذي في ذمته للدائن ، لأن تأمينات هذا الدين لا تنتقل بل تنقضي كما قدمنا . وإنما هو وفي لدائنه ما عليه من الدين من طريق التجديد بتغيير المدين ، فانقضي الدين الأصلي ، وحل محله دين جديد استبدل فيه بنفسه المحال عليه ، ومن ثم لم تنتقل التأمينات إلي هذا الدين الجديد . ولا نري أن المدين حول لدائنه الحق الذي له في ذمة المحال عليه ، لأن تأمينات هذا الحق لا تنتقل بل تنقضي كما قدمنا ، وهذا إلي الأسباب الأخري التي سبق ذكرها والتي تدعو إلي القول بأن هذا الحق لم ينتقل . وإنما هو استوفي من المحال عليه حقه هذا عن طريق التجديد بتغيير الدائن ، فانقضي الحق الأصلي ، وحل محله حق جديد استبدل فيه بنفسه الدائن ، ومن ثم لم تنتقل التأمينات إلي هذا الحق الجديد . فهو باعتباره مدينا قد استبدل بنفسه مدينة ، وهو باعتباره دائنا قد استبدل بنفسه دائنه . وخرج علي هذا النحو عن المديونية والدائنية ، فأسقط كلا من الدين والحق . وأنشأ التزاما جديدا ، إذ وضع مدينة مكانه تجاه دائنه ، كما وضع دائنه مكانه تجاه مدينه ، واستطاع بهذا أن يصل بين مدينه ودائنه ، فيجعل الأول هو المدين للثاني في هذا الالتزام الجديد ( ) . $ 433 $ فالحوالة المقيدة في المذاهب الثلاثة هي إذن ، في نظرنا ، وفاء دين بحق ، عن طريق إسقاط كل من الدين والحق ، وإنشاء التزام جديد يستوفي به المدين الحق وبقي بالدين . فتنتهي إلي تجديد بتغيير الدائن بالنسبة إلي استيفاء الحق ، وإلي تجديد بتغيير المدين بالنسبة إلي الوفاء بالدين .
أما ما يمكن أن نسميه بالحوالة المطلقة في المذاهب الثلاثة ، حيث لا يكون للمدين دين في ذمة المحال عليه ، فهذه ليست حوالة أصلا ، حتي بالاسم ، فقد رأينا ان المذاهب الثلاثة لا تسميها حوالة . فإذا حول المدين دائنه علي أجنبي غير مدين له ، فهو إنما يجعل من هذا الأجنبي كفيلا له . فالحوالة هنا كفالة محضة لا تحوير فيها ، أو هي حمالة كما تقول المالكية ( ) . ولابد من رضاء الدائن والمدين والمحال عليه جميعا بهذا الحوالة . فإذا انعقدت ، اعتبر المحال عليه كفيلا للمدين ، وكان الدائن بالخيار إن شاء طالب المدين وإن شاء طالب المحال عليه ، ولا يتعين أن يطالب المحال عليه أولا كما يتعين ذلك في المذهب الحنفي فيما دعوناه بالكفالة المحورة ( ) .
$ 434 $ حوالة الحق : رأينا في حوالة الدين أن المذهب الحنفي يتميز عن المذاهب الثلاثة الأخري . أما هنا ، في حوالة الحق ، فالمذهب المالكي هو الذي يتميز عن المذاهب الثلاثة الأخري ، الحنفية والشافعية والحنابلة .
فنبدأ بالمذهب المالكي : والظاهر أن هذا المذهب يقر حوالة الحق فيما يسمييه بهبة الدين وببيع الدين . ويشترط لانعقاد هبه الدين من غير المدين - وهي حوالة حق عن طريق التبرع - ما يشترط لانعقاد الهبة بوجه عام . فيشترط إذن القبض ، ويتم بالإشهاد أو بتسليم سند الدين أو " ذكر الحق " كما يقول مالك ( ) . ويشترط لانعقاد بيع الدين من غير المدين - وهو حوالة حق عن طريق المعاوضة - ما يشترط لانعقاد البيع بوجه عام . ويشترط إلي جانب ذلك شروط أخري . منها إقرار من عليه الدين بحق الدائن ، فلا يجوز بيع حق متنازع فيه . ومنها التعجيل بالثمن ، وأن يكون الدين المبيع غير طعام ، وأن يكون الثمن من غير جنس المبيع ، وأن يقع البيع لغير خصم المدين حتي لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين خصمه منه ( ) . ولا تنتقل التأمينات التي كانت $ 435 $ للحق من رهن أو كفالة ، إلا بالشرط وبإقرار الكفيل بالكفالة وإن كان لا يشترط رضاؤه بالحوالة ( ) .
وننتقل الآن ، في حوالة الحق ، إلي المذاهب الثلاثة الأخري ، الحنفية والشافعية والحنابلة . فهذه المذاهب جميعا لا تقر حوالة الحق ، ولا تجيز بيع الدين $ 436 $ إلا ممن عليه الدين ، لأن الدين غير مقدور التسليم إلا للمدين نفسه ( ) . علي أن في المذهب الحنفي تحقق كثيرا من الأغراض التي يراد الوصول إليها من وراء حوالة الحق ( ) .
ويخلص من كل ذلك أن الفقه الإسلامي لم يقر حوالة الدين بالمعني المفهوم في الفقه الغربي في أن مذهب من مذاهبه . وقد أقر حوالة الحق بشروط معينة في أحد مذاهبه ، وهو مذهب مالك ، دون المذاهب الأخري . فلم يكن الفقه $ 437 $ الإسلامي إذن بدعا في تطوره كما قدمنا ، ولم يقر حوالة الدين دون أن يقر حوالة الحق ، بل هو قد سار علي السنن المألوفة في التطور ، إذ بدأ بإقرار حوالة الحق بسبب الموت ، ثم بإقرار هذه الحوالة بين الأحياء ولكن في مذهب واحد من مذاهب . ثم وقف تطوره عند ذلك ، فلم يقر حوالة الحق بين الأحياء في المذاهب الأخري ، ولم يقر حوالة الدين أصلا لا بسبب الموت ولا بين الأحياء
( [1] ) ويذهب الأستاذ شفيق شحاته إلي أن الالتزام لا ينتقل ، في الواقع من الأمر ، من دائن إلي دائن أو من مدين إلي مدين ، بل الدائن أو المدين يستخلف شخصا آخر - دائنا أو مدينا - علي الالتزام . فهو يميز ، من ناحية التعبير ، ما بين انتقال الالتزام والاستخلاف عليه ، ففي الحالة الأولي ينتقل الالتزام إلي شخص جديد ، أما في الحالة الثانية فلا ينتقل الالتزام بل يستخلف شخص عليه شخصا آخر . ويقول في هذا المعني ما يأتي : " والواقع ان الذي وصلت إليه التشريعات الحديثة بعد تطور طويل هو إباحة الاستخلاف ما بين الأحياء في الحق الواحد ، كما يحدث تماما عند وفاة الشخص بالنسبة إلي مجموعة حقوقه . فالدائن الجديد يخلف الدائن القديم ، وكذلك المدين الجديد يخلف المدين القديم ، في الحق الشخصي . فلا ينشأ حق جديد ، ولا ينتقل الحق القديم إلي شخص جديد ، بل أن شخصا يحل محل آخر في نفس الحق ، من طريق ما يسمي خطأ في القوانين الوضعية بالحوالة " ( الأستاذ شفيق شحاته : حوالة الحق في قوانين البلاد العربية ص 7 ) وقد يقتضي كل هذه الدقة ، فلا يقال إن الالتزام انتقل من شخص قديم إلي شخص جديد ، بل إن شخصا قديما استخلف عليه شخصا جديدا . ويوزان سالي بين العبارتين ، فيري العبارة الثانية أدق ، إذ يقول : " ان استبدال شخص بآخر ، فيما يتعلق بالالتزام ، هو الذي يعدل انتقال الالتزام . ولكن لفظ الاستخلاف أدق من لفظ الانتقال . فما دام الالتزام لصيقا بالشخص ، فنقله لا يعني إلا أن شخصا جديدا أصبحا هو صاحب الالتزام وخلف عليه من نقله . بل إن التعبير الصحيح ، ليس أن يقال أن شخصا قد استخلف علي حق الغير ، بل أن يقال إن شخصا خلف شخصا آخر فيما يتعلق بهذا الحق " ( سالي : بحث في النظرية العامة للالتزام في القانون الألماني فقرة 74 ص 64 ) . ومهما يكن من أمر ، فما لا شك فيه أن عندما يقال ان الالتزام انتقل من شخص إلي شخص آخر ، يكون المقصود دائما أن هذا الشخص الآخر قد خلف الشخص الأول علي هذا الالتزام . فالانتقال هنا معناه الاستخلاف ، واستعمال لفظ الانتقال أيسر من الناحية العلمية . علي أن الأستاذ شفيق شحاته أجاز في مكان آخر أن يقال " إن الحق وقد كان محله الشيء انتقل إلي شخص آخر وبقي محله نفس هذا الشيء " ( النظرية العامة للحق العيني ص 114 و ص115 وهامش رقم 1 في ص 115 ) . ويعترض الأساتذة بلانيول وريبير وبولانجية علي التمسك بهذا القدر من الدقة ، ويذهبون إلي أن الحق ، وبخاصة حق المليكة والحق الشخصي من ناحيته الإيجابية ، ينتقل فعلا من شخص إلي آخر ( بلانيول وريبير وبولانجيه 1 فقرة 2859 ) .
انظر في هذا الموضوع الدكتور صبحي المحصاني : انتقال الالتزام في القانون المدني اللبناني – النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية 2 ص 341 – ص 356 .
( [1] ) هذا التفريق بين الحوالة المقيدة والحوالة المطلقة مذكور في نصوص المذهب الحنفي دون نصوص المذاهب الأخري . ولكنه تفريق جوهري لتفهم الحوالة في الفقه الإسلامي في المذاهب جميعا لا في المذهب الحنفي وحده ، كما سنري .
( [1] ) وفي المذهب الحنفي لا تكون الحوالة مقيدة إلا إذا قيد المدين الحوالة بالدين الذي له في ذمة المحال عليه ، فإذا كان للمدين دين في ذمة المحال عليه ولم يقيد به الحوالة ، فإن الحوالة تكون مطلقة بالرغم من مديونية المحال عليه للمدين .
( [1] ) قارن الدكتور حسن الذنون ، وهو يقول : " والشريعة الإسلامية أقرت حوالة الدين دون حوالة الحق علي رأي معظم الفقهاء " ( أحكام الالتزام في القانون المدني العراقي فقرة 218 ص 207 ) .
( [1] ) أما إذا اتفق المدين مع المحال عليه علي الحوالة ، فان هذا لا يكفي ، بل لابد أيضا من قبول الدائن ، ولا تنعقد الحوالة إلا من وقت هذا القبول دون أثررجعي . ويشترط أيضا لانعقاد الحوالة بلوغ المحال عليه ، لأنه يعتبر في مقام المتبرع . أما المدين والدائن فيكفي فيهما التمييز لانعقاد الحوالة ، ويشترط لنفاذها الإجازة ، فإذا كان المميز هو الدائن اشترط في الإجازة أن يكون المحال عليه أكثر ملاءة من المدين .
ويعتمد المذهب الحنفي - ومعه سائر المذاهب - في مشروعية الحوالة علي حديث عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال : مطل الغني ظلم ، وإذا اتبع أحدكم علي ملي فليتبع .
( [1] ) ويرجع بنفس الدين لا بالضمان ، وسنري أن هذا يمكن حمله علي أن الحوالة تفسخ إذا توي الدين . ولكن قد يؤخذ هذا دليلا علي صحة قول محمد من أن الدين لا ينتقل بالحوالة ، بل يبقي في ذمة المدين ، وتعود المطالبة بالتوي فتجتمع مع الدين ، ومن ثم يرجع الدائن بنفس الدين علي المدين ، وقد سبقت الإشارة إلي ذلك .
( [1] ) ونصوص المذهب الحنفي لا تشترط التساوي ما بين الدين المحال به والدين المحال عليه ، أما نصوص المذاهب الثلاثة الأخري فتصرح بوجب هذا التساوي كما سنري .
وفي الحوالة المقيدة في الفقه الحنفي يخصص الدين المحال عليه للوفاء بالدين المحال به كما يخصص مقابل الوفاء ( Provision ) لدفع قيمة الكمبيالة . وقد عرف الفقه الإسلامي الكمبيالة فعلا ، وسماها " السفتجة " ، وبني أحكامها علي أساس الحوالة .
( [1] ) وقد أخذت " المجلة " بقول زفر في هذه المسألة ، إذا نصت المادة 692 منها علي ما يأتي : " ينقطع حق مطالبة المحيل بالمحال به في الحوالة المقيدة ، وليس للمحال عليه أن يعطي المحال به للمحيل فان أعطاه ضمن ، وبعد الضمان يرجع علي المحيل . ولو توفي المحيل قبل الأداء وكانت ديونه أزيد من تركته ، فليس لسائر الغرماء حق في المحال به " . ويقول الأستاذ سليم باز تعليقا علي هذا النص ما يأتي : " التعبير بالمحال به . . غير مصيب ، إذ المقصود هنا ما في يد المحال عليه أو في ذمته من العين والدين كما هو ظاهر . أما أن المحال له أحق من سائر الغرماء في ذلك ، فلم يظهر لي وجهه ، مع أن عامة كتب المذهب قد صرحت بأن المحال له أسوة للغرماء ، لأن العين التي للمحيل في يد المحال عليه والدين الذي له في ذمته لم يصر مملوكا للمحتال بعقد الحوالة ، لا يدا وهو ظاهر ، ولا رقبة لأن الحوالة ما وضعت للتمليك بل للنقل ، فيكون بين الغرماء بالأسوة . أما المرتهن فملك المرهون يدا وحبسا ، فيثبت له نوع اختصاص بالمرهون شرعا لم يثبت لغيره ، فلا يكون لغيره أن يشاركه فيه ( درر ) . أما لو كانت الحوالة مطلقة ، فالمحتال أسوة الغرماء عند الكل ( رد مختار ) . والظاهر أن جمعية المجلة لم تخالفهم إلا في الحوالة المقيدة فقط ، ولعلها أخذت بقول زفر ، فمان المحتال عنده أحق من سائر الغرماء ، لأن الدين صار له بالحوالة كالمرتهن بالرهن بعد موت الراهن ( مجمع الأنهر ) ، ( شرح المجلة للأستاذ سليم باز م 692 ص 379 ) . ولو أخذنا برأي زفر ، يكون الدين المحال عليه وهنا في الدين المحال به كما رأينا ، فلا تنتقل ملكية الدين المحال عليه إلي الدائن كما تنتقل في حوالة الحق بالمعني المفهوم في القوانين الغربية . ومن ثم لا تكون الحوالة في رأي زفر ، حتي بالنسبة إلي الدين المحال عليه ، حوالة حق ( انظر الأستاذ مصطفي الزرقا في الحقوق المدنية جزي 2 ص 30 في الهامش - الأستاذ أميل تيان في مقال له بمجلة كلية الحقوق ببيروت في حوالة الدين وحوالة الحق في الفقه الإسلامي علما وعملا - وقارن الأستاذ شفيق شحاته في حوالة الحق في قوانين البلاد العربية ص 58 هامش رقم 3 ) .
( [1] ) أو لم يستوف الدائن الدين لأي سبب آخر ، كأن كان ثمن مبيع فاستحق أو كان وديعة فهلكت . ولكن الحوالة تبطل في هذه الحالة ، لأن الدين الذي قيدت به يعتبر سببا لها ، وقد انعدام فانعدمت .
( [1] ) ولو كان الدين الذي قيدت به الحوالة رهنا عند الدائن ، وتوي عند المحال عليه ، ليقسط الدين المحال به بقدر ما توي من الرهن ، لأن المرهون إذا هلك سقط من الدين ما يقابله .
( [1] ) أما عند محمد فتبقي التأمينات علي حالها تكفل الدين الباقي في ذمة المدين ، وقد قدمنا أن الحوالة عند محمد لا تنقل الدين وإنما تنقل المطالبة وحدها . وجاء في فتح الغدير : " فعند أبي يوسف ينتقل الدين والمطالبة ، وعند محمد تنتقل المطالبة لا الدين . قال وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألتين : إحداهما أن الراهن إذا أحال المرتهن بالدين ، فله أن يسترد الرهن عند أبي يوسف كما لو أبراه عنه ، وعند محمد لا يسترده كما لو أجل الدين بعد الرهن . . " ( فتح القدير جزء 5 ص 446 ) . وجاء في البحر الرائق : " لو أحال المشتري البائع بالثمن علي رجل ، لم يملك ( البائع ) حبس المبيع . وكذا لو أحال الراهن المرتهن ، لا يحبس ( المرتهن ) الرهن . ولو أحال الزوج المرأة بصداقها ، لم تحبس نفسها " ( البحر الرائق 6 ص 268 وما بعدها ) . وجاء في الزيلعي : " ثم اختلفوا في البراءة ، فقال أبو يوسف يبرأ عن الدين والمطالبة ، وقال محمد يبرأ عن المطالبة فقط ولا يبرأ عن الدين . وثمرة الخلاف تظهر في موضعين : أحدهما . . . والثاني أن الراهن إذا أحال المرتهن بالدين علي إنسان ، كان للراهن أن يسترد الرهن عند أبي يوسف كما لو أبراه عن الدين ، وعند محمد ليس له ذلك كما لو أجل الدين " ( الزيلعي 4 ص171 ) .
وكما أن التأمينات لا تنتقل لتكفل الدين في ذمة المحال عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، كذلك نحسب أن الدفوع أيضا لا تنتقل . فليس للمحال عليه أن يتمسك ضد الدائن بالدفوع التي كان المدين يتمسك بها ضد الدائن ، بل ولا يجوز للمحال عليه أن يتمسك ضد الدائن بالدفوع المستمدة من علاقته هو بالمدين ، وهذا ما لم تكن الحوالة مقيدة وسقط الدين الذي تقيدت به أو هلكت الوديعة علي النحو الذي قدمناه . فيعتبر التزام المحال عليه نحو الدائن التزاما مجردا ، فلا يتأثر لا بالعلاقة القائمة بين المدين والدائن ولا بالعلاقة القائمة بينه وبين المدين ، وإنما هي علاقة جديدة قامت بينه وبين الدائن مستقلة عن العلاقتين السالفتي الذكر . صحيح أن الدين الذي يقوم في ذمة المحال عليه للدائن يشارك الدين كان في ذمة المدن للدائن في صفته من حيث الحلول والتأجيل ، وقد جاء في المادة 896 من مرشد الحيران : " يتحول الدين علي المحتال عليه بصفته التي علي المحل . فإن كان الدين علي المحيل حالا ، تكون الحوالة به علي المحتال عليه حاله ، ويدفع المحتال عليه الدين المحال به معجلا . وإن كان الدين علي المحيل مؤجلا ، تكون الحوالة به علي المحتال عليه مؤجله ، ولا يلزم بالدفع إلا عند حلول الأجل . فلو مات المحيل بقي الأجل ، وإن مات المحتال عليه صار الدين حالا ويؤدي من التركة إن كان بها ما يفي بأدائه ، وإلا رجع المحتال بالدين أو بما بقي له منه علي المحيل ليؤديه عند حلول الأجل " . ولكن هذا لا يفيد أن المحال عليه يتمسك بالدفوع التي كان يتمسك بها المدين . للمحال عليه طبعا أن يتمسك بالدفوع المستمدة من عقد الحوالة ذاته إذ هو طرف فيه ، فإذا كان هذا العقد باطلا جاز له أن يتمسك ببطلانه . وله أيضا أن يتمسك بالدفوع التي يستمدها من علاقته هو بالدائن ، فله أن يتمسك ببطلانه . وله أيضا أن يتمسك بالدفوع التي يستمدها من علاقته هو بالدائن ، فله أن يتمسك باتحاد ذمته مع الدائن ، وأن يتمسك بالمقاصة بينه وبين الدائن . أما أن يتمسك بالمقاصة بين الدائن والمدين ، فإن جاز له ذلك فإنما يحمل علي أنه يتمسك بدفع مستمد من عقد الحوالة . ذلك أنه إذا كان الدين المحال به قد انقضي بالمقاصة بين الدائن والمدين قبل الحوالة ، فالحوالة باطلة ، لأن من شروط انعقادها أن يكون هناك دين قائم في ذمة المدين للدائن ، فتمسك المحال عليه بالمقاصة في هذه الحالة إنما هو تمسك ببطلان الحوالة ( قارن الدكتور صبحي المحمصاني في النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية 2 ص 355 – انتقال الالتزام في القانون اللبناني ص 58 ) .
( [1] ) وفي الحوالة المقيدة تبرأ ذمة المحال عليه نحو المدين بقدر ما أدي من الدين للدائن .
( [1] ) ذلك أن المدين يضمن للدائن يسار المحال عليه ، بحيث تنفسخ الحوالة إذا توي الدين عنده . وهذا بخلاف المذاهب الثلاثة الأخري ، فسنري أن المدين لا يضمن يسار المحال عليه ، إلا في مذهب مالك حيث يعتبر المدين قد غر الدائن إذا كان المحال عليه مفلسا وقت الحوالة دون أن يعلم الدائن ذلك ويعلمه المدين .
( [1] ) وقد قدما أن التأمينات ، عند محمد ، تبقي علي حالها تكفل الدين الباقي في ذمة المدين ، خلافا لأبي حنيفة ولأبي يوسف : فتح القدير 5 ص 446 – الزيلعي 4 ص 171 – ويقضي المنطق ، عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، بأن تعود التأمينات إذا فسخت الحوالة بالتوي وعاد الدين إلي ذمة المدين الأصلي ، ولكن لا يوجد في نصوص المذهب الحنفي نص صريح في هذا المعني .
( [1] ) بل إن الدائن في الكفالة العادية يغلب أن يرجع أولا علي الكفيل ، لأنه يختار عادة لكفالة الدين من هو أكثر ملاءة من المدين الأصلي ، فيكون الرجوع علي الكفيل أيسر من الرجوع علي المدين . وهذا الذي يقع فعلا في الكفالة العادية يقع قانونا في حوالة الدين . فالذي تتميز به حوالة الدين إذن هو أن المدين في الحوالة يأمن رجوع الدائن عليه قبل رجوعه علي الكفيل ، فالحوالة من هذا الوجه أقرب إلي أن تكون ضمانا للمدين منها ضمانا للدائن .
( [1] ) أو لعل حوالة الدين ، عند محمد ، هي ضرب من الأنابة القاصرة ( delegation imparfaite ) ، ينيب فيها المدين المحال عليه في الوفاء بالدين عن طريق نقل المطالبة إليه ، فيرجع الدائن ( المناب ) هنا أيضا علي المحال عليه ( المناب لديه ) أولا ، فإن توي الدين عنده رجع علي المدين ( المنيب ) .ويستوي في ذلك أن تكون الحوالة مطلقة أو مقيدة .
( [1] ) وهذا لا يمنع من أن يكون ما علي المدين للدائن أكثر أو أقل مما علي المحال عليه للمدين . فان كان أكثر ، جازت حوالة جزء منه يعادل في المقدار ما علي المحال عليه للمدين ، وإن كان أقل ، جازت حوالته علي جزء مما علي المحال عليه للمدين معادل له في المقدار . جاء في الشرح الصغير للدردير ( جزء 2 ص 143 ) : " وشرط لصحتها . . تساوي الدينين ، المحال به وعليه ، قدرا وصفة . فلا تصح حوالة بعشرة علي أكثر منها ولا أقل ، ولا بعشرة محمدية علي عشرة يزيدية ولا عكسه ، فليس المراد بالتساوي أن يكون ما علي المحيل مثل ما علي المحال عليه قدرا وصفة ، لأنه يجوز أن يحيل بعشرة علي عشرة من عشرين لي غريمة ، وأن يحيل بخمسة من عشرة علي خمسة علي غريمة " .
( [1] ) وتصرح المالكية بأن الحوالة ، في حالة تساوي الدينين ، هي " إحالة " الدين ، وليست بيع الدين بالدين . قال ابن جزي : " والشرط الثاني أن يكون الدين المحال به مساويا للمحال فيه في الصفة والمقدار ، فلا يجوز أن يكون أحدهما أقل أو أكثر ، أو أدني أو أعلي ، لأنه يخرج عن الأحالة إلي البيع ، فيدخله الدين بالدين " ( القوانين الفقهية ص 327 ) .أما عند الشافعية فالحوالة هي بيع دين بدين . جاء في المهذب : " لا تجوز الحوالة إلا علي دين يجوز بيعه . . لأن الحوالة بيع في الحقيقة ، لأن المحتال يبيع ماله في ذمة المحيل بما له في ذمة المحال عليه ، والمحيل يبيع ما له في ذمة المحال عليه بما عليه من الدين ، فلا تجوز إلا فيما يجوز بيعه " ( المهذب جزء أول ص 337 ) .
( [1] ) جاء في أسني المطالب شرح روض الطالب ( جزء 3 ص 232 ) : " لا يعتبر اتفاقهما في الرهن ولا الضمان ، بل لو أحاله بدين أو عي دين به رهن أو ضامن ، انفك الرهن وبريء الضامن ، لأن الحوالة كالقبض بدليل سقوط حبس المبيع والزوجة فيما إذا أحال المشتري بالثمن والزوج بالصداق . ويفارق المحتال الوارث في نظيره من ذلك ، لأن الوارث خليفة مورثه فيما ثبت له من الحقوق " . وجاء في حاشية الشرقاوي علي شرح التحرير ( جزء 2 ص 26 ) . " فلو كان في أحد الدينين توثق برهن أو ضامن ، لم يؤثر ولم ينتقل الدين بصفة التوثق . بل يسقط التوثق ، لأحد الحوالة كالقبض بدليل سقوط حبس المبيع والزوجة فيما إذا أحال المشتري بالثمن والزوج بالصداق " وجاء في نهاية المحتاج إلي شرح المنهاج ( جزء 3 ص394 ) : " إن أطلق الحوالة ولم يتعرض لتعلق حقه بالرهن ، فينبغي أن تصح وجها واحدا وينفك الرهن ، كما إذا كان له به ضامن فأحال عليه به من له دين لا ضامن به صحت الحوالة وبردي الضامن ، لأنها معارضة أو استيفاء وكل منهما ينقضي براءة الأصيل فكذلك يقتضي فك الرهن . فان شرط بقاء الرهن ، فهو شرط فاسد تبطل به الحوالة إن قارنها " .
( [1] ) جاء في الغرر البهية شرح البهجة الوردية ( جزء 3 ص 144 وما بعدها ) : " لو أحاله علي دين به رهن أو ضامن ، انفك الرهن وبريء الضامن ، لأن الحوالة كالقبض " . انظر ايضا ما قدمناه من النصوص : أسني المطالب شرح روض الطالب جزء 3 ص 232 - حاشية الشرقاوي علي شرح التحرير جزء 2 ص 26 - نهاية المحتاج إلي شرح المنهاج جزء 3 ص 394 .
( [1] ) أما أنه ليس للمحال عليه أن يدفع مطالبة الدائن بالدفوع التي كان يدفع بها مطالبة المدين ما لم يكن الدين الذي في ذمته للمدين غير موجود أصلا ، فقد جاء في المهذب ( جزء أول ص 338 ص339 ) : " وإن أحال البائع رجلا علي المشتري بالألف ، ثم رد المشتري المبيع بعيب ، لم تبطل الحوالة وجها واحدا ، لأنه تعلق بالحوالة حق غير المتعاقدين وهو الأجنبي المحتال فيم يجز إبطاها . وإن أحال البائع علي المشتري رجلا بألف ، ثم اتفقا علي أن البعد كان حرا ، فإن كذبهما المحتال لم تبطل الحوالة . . فان أقاما علي ذلك بينة لم تسمع ، لأنهما كذبا البينة بدخولهما في البيع . وإن صدفهما المحتال بطلت الحوالة ، لأنه ثبتت الحرية وسقط الثمن فبطلت الحوالة " - وهناك خلاف فيما إذا كان يجوز للمحال عليه أن يدفع مطالبة الدائن بالدفوع المستمدة من علاقة المديونية ما بين الدائن والمدين ، فقد جاء في المهذب : " وإذا اشتري رجل من رجل شيئا بألف وأحال المشتري البائع علي رجل بالألف ، ثم وجد بالمبيع عيبا فرده ، فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو علي الطبري لا تبطل الحوالة فيطالب البائع المحال عليه بالمال ، ويرجع المشتري علي البائع بالثمن ، لأنه تصرف في أحد عوضي البيع فلا يبطل بالرد بالعيب ، كما لو اشتري عبدا بثوب وقبضه وباعه ثم وجد البائع بالثوب عيبا فرده . وقال أبو اسحق تبطل الحوالة . . فلا يجوز للبائع مطالبة المحال عليه ، لأن الحوالة وقعت بالثمن ، فإذا فسخ البيع خرج المحال به عن أن يكون ثمنا ، فإذا خرج عن أن يكون ثمنا ولم يتعلق به حق غيرهما وجب أن تبطل الحوالة . . ويخالف هذا إذا اشتري عبدا وقبضه وباعه ، لأن العبد تعلق به حق غير المتبايعين وهو المشتري الثاني فلم يمكن إبطاله ، والحوالة لم يتعلق بها حق غيرهما فوجب إبطالها ( المهذب جزء أول ص 338 ) .
( [1] ) جاء في القوانين الفقهية لابن جزي : " فإذا وقعت الإحالة ، برئت بها ذمة المحيل من الدين الذي كان عليه للمحال ، وانتقل إلي طلب المحال عليه . ولا رجوع للمحال علي المحيل إن أفلس المحال عليه أو أنكر ، إلا أن يكون المحيل قد غر المحال لكونه يعلم فليس المحال عليه أو بطلان حقه قبله ولم يعلم المحال بذلك . وقال الشافعي لا يرجع علي المحيل ، غره أو لم يغره " ( القوانين الفقهية ص 327 ) . وجاء في المهذب : " إذا أحال بالدين ، انتقل الحق إلي المحال عليه وبرئت ذمة المحيل ، لأن الحوالة إما أن تكون تحويل حق أو بيع حق ، وأيهما كان وجب أن تبرأ من ذمة المحيل . وإن أحاله علي مليء فأفلس أو جحد الحق وحلف عليه ، ولم يرجع إلي المحيل ، لأنه انتقل حقه إلي مال يملك بيعه ، فسقط حقه من الرجوع ، كما لو أخذ بالدين سلعة ثم تلفت بعد القبض . وإن أحاله علي رجل بشرط أن مليء فبان أنه معسر ، فقد ذكر المزني أنه لا خيار له ، وأنكر أبو العباس هذا وقال له الخيار لأنه غره بالشرط فثبت له الخيار ، كما لو باعه عبدا بشرط أنه كاتب ثم بأن أنه ليس بكاتب . وقال عامة أصحابنا لا خيار له ، لأن الإعسار نقص ، فلو ثبت به الخيار لثبت من غير شرط كالعيب في المبيع ، ويخالف الكتابة فإن عدم الكتابة ليس بنقص وإنما هو عدم فضيلة ، فاختلف الأمر فيه بين أن يشرط وبين ألا يشرط " ( المهذب جزء أول ص 338 ) . وجاء في الأم للشافعي ( جزء 2 ص 203 ) : " اخبرنا الربيع بن سليمان قال اخبرنا الشافعي إملاء قال : والقول عندنا والله تعالي أعلم ما قال مالك بن أنس أن الرجل إذا أحال علي الرجل بحق له ، ثم أفلس المحال عليه أو مات ، لم يرجع المحال علي المحيل أبدا " . وجاء في المغني : " فإذا اجتمعت شروط الحوالة وصحت ، برئت ذمة المحيل في قول عامة الفقهاء . . . إذا ثبت أن الحق انتقل . فمتي رضي بها المحتال ولم يشترط اليسار ، لم يعد الحق إلي المحيل أبدا ، سواء أمكن استيفاء الحق أن تعذر لمطل أو فلس أو غير ذلك " ( المغني 5 ص58 ) .
( [1] ) بل ان الفقه المالكي يشترط فوق ذلك أن يكون الدين المحال به حالا ، فإذا لم يكن حالا وجب علي الأقل أن يكون الدين المحال عليه حالا وأن يقبضه المحال قبل التفرق ، وفي هذا ما يبرز في وضوح أن الحوالة ليست إلا وفاء دين بدين . جاء في الشرح الكبير للدردير ( جزء 3 ص 226 وما بعدها ) : " شرط صحة الحوالة . . حلول الدين المحال به ، وهو الذي علي المحيل لأنه إذا لم يكن حالات أدي إلي تعمير ذمة بذمي فيؤدي إلي بيع الدين بالدين . . إلأا أن يكون المحال عليه حالا ويقبضه قبل أن يتفرقا مثل الصرف فيجوز " .
( [1] ) ومما يؤيد أن الدين الذ قام في ذمة المحال عليه للدائن ليس هو نفس الدين الذي كان في ذمة المدين للدائن بل هو نظيره أي التزام جدي معادل له ، ما جاء في كشاف القناع بحل ألفاظ أبي شجاع ( جزء 2 ص48 ) : " وتبرأ بالحوالة الصحيحة ذمة المحيل عن دين المحتال ، ويسقط دينه عن المحال عليه ، ويلزم دين محتال محالا عليه أي يصير نظيره في ذمته " .
ويخلص من كل ذلك أن حوالة الدين في الفقه الإسلامي تدخل في منطقة الوفاء بالدين لا في منطقة بيعه أو انتقاله . ويقول ابن القيم نقلا عن ابن تيمية في هذا المعني : " إن الحوالة من جنس إيفاء الحق لا من جنس البيع ، فإن صاحب الحق إذا استوفي من المدين ما له كان هذا استيفاء ، فإذا أحاله علي غيره كان قد استوفي ذلك الدين عن الدين الذي في ذمة المحيل . . ووفاء الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شوب المعارضة " ( إعلام الموقعين 1 ص341 ) .
( [1] ) يؤيد ذلك النصوص الآتية : جاء في الخطاب ( جزء 5 ص 91 ) : " قال في المدونة وإذا أحالك علي من ليس قبله دين ، فليست حوالة وهي حمالة " . وجاء في الخرشي ( جزء 6 ، 17 ) : " ومن شروطها ثبوت دين للمحيل في ذمة المحال عليه ، وإلا كانت حمالة عند الجمهور " . وجاء في المهذب ( جزء أول ص 337 ) : " ولا تجوز الحوالة إلا علي من له عليه دين ، لأنابينا أن الحوالة بيع ما في الذمة بما في الذمة ، فإذا أحال علي من لا دين له عليه كان بيع معدوم فلم تصح . ومن أصحابنا من قال تصح إذا رضي المحال عليه ، لأنه تحمل دين يصح إذا كان عليه مثله فيصح وأن لم يكن عليه مثله كالضمان . فعلي هذا يطالب المحيل بتخليصه ، كما يطالب الضامن المضمون عنه بتخليصه . فإن قضاه بإذنه رجع علي المحيل . وإن قضاه بغير إذنه لم يرجع " .
( [1] ) ويخلص من ذلك أن الحوالة المطلقة في المذاهب الثلاثة تختلف في طبيعتها عن الحوالة المقيدة ، فالأولي كفالة محضة ، والثانية تجديد بتغيير المدين وتجديد بتغيير الدائن . أما في المذاهب الحنفي ، فالحوالة المطلقة لا تختلف في طبيعتها عن الحوالة المقيدة ، كلتاهما إما تجديد بتغيير المدين إذا قلنا بانتقال المطالبة والدين جميعا ، وإما كفالة محورة إذا قلنا بانتقال المطالبة وحدها دون الدين ، وإما كفالة محضة إذا قلنا بعدم انتقال أي من الدين والمطالبة . وإنما تزيد الحوالة المقيدة علي الحوالة المطلقة ، في المذهب الحنفي ، بوجود دين في ذمة المحال عليه للمدين يخصص لوفاء الدين المحال به علي قول الأئمة الثلاثة ، أو يكون مرهونا فيه علي قول زفر .
( [1] ) وقد جاء في المدونة : " قلت أرايت أن وهبت لرجل دينا لي عليه كيف يكون قبضه ، قال إذا قال قد قبلت فذلك جائز له ، وهذا قبض لأن الدين عليه ، وهذا قول مالك ، وإذا قبل سقط . قلت فإن وهبت لرجل دينا علي رجل آخر ، قال مالك إذا أشهد له ، وجمع بينه وبين غريمه ، ودفع إليه ذكر الحق ، فهو قد قبض . قلت فإن لم يكن كتب عليه ذكر حق كيف يصنع ، قال إذا أشهد له وأحاله عليه فهذا قبض في قول مالك . قلت فإن كان الغريم غائبا ، فوهب لرجل ماله علي غريمه وأشهد له بذلك ودفع إليه ذكر الحق وأحاله عليه ، أيكون هذا قبضا في قول مالك ، قال نعم . قلت أرايت الدين إذا كان علي الرجل وهو بأفريقية وأنا بالفساط ، فوهبت ذلك الدين الذي لي بأفريقية لرجل معي بالفسطاط ، وأشهدت له ، وقل أتري ذلك جائزا ، قال نعم . قلت لم أجزته في قول مالك ، قال لأن الديون هكذا تقبض ، وليس هو شيئا بعينه يقبض ، إنما هو دين علي رجل فقبضه أن يشهد له ويقبل الموهوب له الهبة " ( المدونة الكبري جزء 15 ص 126 - 127 ) .
( [1] ) وقد جاء في شرح التاودي للتحفة : " وإنما يجوز بيع الدين لغير من هو عليه ، مع حضور المدين وإقراره وإن كان عليه بينه ، لأنه قد يطعن فيها أو يدعي القاضء فيكون من شراء ما فيه خصومة وهو ممنوع علي المشهور . وأجاز ابن القاسم في سماع موسي بن معاوية شراء الدين علي الغائب . . مع تعجيل الثمن وإلا كان من بيع الدين بالدين ، وكونه ليس طعام من يبيع فإن كان الدين طعام من يبيع لم يجز لما تقدم من منع بيع طعام المعاوضة قبل قبضة . وبيعه بغير جنس مرعي : فإن بيع بجنسه لم يجز ، لأنه الشأن في الدين أن يباع بأقل فيكون سلفا بمنفعة . وسادس الشروط ألا يكون المشتري عدوا للمدين يقصد بالشراء إعناته ، وإلا رد البيع وفسخ " ( التاودي علي التحفة 2 ص47 ) .
ونري من هذا النص إنه لا يشترط لجواز بيع الدين لغير من هو عليه رضا المدين ، ولكن يجب مع ذلك توافر الشروط الآتية : ( 1 ) ألا يكون الدين حقا متنازعا فيه ، لأن شراء ما فيه خصومة ممنوع . ( 2 ) ألا يكون الدين طعاما في ذمة المدين ، لأن بيع الطعام قبل قبضه ممنوع . ( 3 ) ألا يكون الثمن من جنس الدين ، إذ المشتري يشتري الدين المؤجل عادة بأقل من قيمته فيكون سلفا بمنفعة ويداخله الربا . ( 4 ) أن يعجل الثمن ، وإلا كان من بيع للدين بالدين وهذا غير جائز . ( 5 ) ألا يكون المشتري خصما للمدين ، وإلا كان في هذا إعنات للمدين بتسليط خصمه عليه . ( انظر في ذلك أيضا المدونة الكبري 9 ص 128 - ص130 ) . ويبدو أن بيع الدين من غير المدين في المذهب المالكي ، بالشروط المتقدمة الذكر ، أقرب إلي أن يكون وفاء مع الحلول أو وفاء للدين بمقابل صادرا من غير المدين . فالأجنبي يتقدم إلي الائن ويوفيه دينه أو يوفيه مقابلا من غير جنس الدين ، ويرجع بالدين علي المدين . ولو كان هذا بيعا لأمكن تأجيل الثمن ، فمن المسلم أن البيع يجوز تأجيل الثمن فيه ، ولأمكن الأجنبي ، بدلا من الوفاء بالدين أو بمقابل الدين في الحال ، وهذا هو التعجيل بالثمن ، أن يبقيه دينا في ذمته . ولكن المقطوع به في مذهب مالك أنه لا يجوز بيع الدين من غير المدين بثمن مؤجل .
( [1] ) وقد جاء في شرح التاودي للتحفة : " وإذا بيع الدين أو وهب أو تصدق به ، وكان فيه رهن أو حميل ، لم يدخل واحد منهما إلا بالشرط ، مع حضور الحميل وإقراره بالحمالة ، وإن لم يرض بالتحمل لمن ملكه . ( تنبيه ) من بيع الدين المسألة الملقبة عند العامة بقلب الرهن ، وهي أن يكون بيد رهن في دين مؤجل ، ويحتاج إلي دينه فيبيعه بما يباع به . ويحل المشتري للدين محل بائعه في حوز الرهن ، والمنفعة إن كانت المنفعة جعلت له ، والبيع للرهن بالتفويض الذي جعل للبائع المرتهن ، وغير ذلك . ويكتب في ظهر وثيقة الدين أو في طرتها . فإن سكتا عن الرهن يدخل ، وإن اختلفا في اشتراطه حلفا وفسخ . وحيث دخل فللرهن جعله تحت يد أمين إن لم تشترط منفعته أو اشترطت والحقه ضرر ، وإلا فلا كلام له " ( التاودي علي التحفة 2 ص48 ) .
( [1] ) والحنفية تجيز بيع الدين ممن عليه الدين : إما بثمن معجل ، ويبدو أن هذا أقرب إلي أن يكون وفاء للدين بمقابل . وإما بثمن مؤجل ، ويبدو أن هذا أقرب إلي أن يكون تجديدا بتغيير محل الدين .
أما الشافعية ففي أحد قولين في مذهبهم أنه يجوز بيع الدين من غير المدين ، بشرط قبض الدين والثمن في المجلس . وهذا لا يعدو أن يكون بيعا محضا ، عجل فيه الثمن وسلم المبيع . فالبائع تقدم إلي الدائن بسلعته ، وباعها منه بثمن معادل للدين ، ووكله الدائن ( المشتري ) في قبض هذا الدين . فقبض البائع الدين من المدين ، واحتجزه ثمنا ، وسلم المبيع إلي المشتري ، وذلك كله في مجلس البيع .
وأما الحنابلة فلا يجيزون بيع الدين من غير المدين . ويجيزون بيعه من المدين بثمن معجل –وهذا وفاء بمقابل - لا بثمن مؤجل . غير أن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يذهبان إلي جواز بيع الدين بالدين ولو بثمن مؤجل ( إعلام الموقعين 1 ص 340 - ص341 ) ، ولا يمنعان إلا ابتداء الدين بالدين ، أي أن يكون المبيع دينا مؤجلا في الذمة ويكون الثمن كذلك دينا مؤجلا في الذمة ، كبيع مقدار من القمح مؤجل التسليم في مبلغ من النقود مؤجل الدفع . وهذا يخرج عن منطقة بيع الدين بالدين .
( [1] ) فيحتال علي حوالة الحق بأحد طريقين : ( 1 ) يوكل الدائن من يريد أن يحول له حقه في قبض هذا الحق من المدين ثم يهبه إياه ، وهو الطريق الذي كان القانون الروماني يلجأ إليه . ولكن يستطيع الموكل ، في هذه الحالة ، عزل الوكيل قبل قبض الدين . ( 2 ) يقر الدائن لمن يريد أن يحول له حقه بأن الحق له . وهذا الإقرار مقصور علي العلاقة فيما بين المقر والمقر له ، أما المدين فلا يطالب بالدفع للمقر له . ولذلك يصحب الإقرار توكيل من الدائن للمقر له بقبض الدين ، أو يصدق المدين علي الإقرار فيسري في حقه ( انظر في ذلك الأستاذ شفيق شحاته في حوالة الحق في قوانين البلاد العربية ص 62 - ص 64 . أما ما يذكره الأستاذ شفيق شحاته في ص 57 – ص61 من المسائل التي يستدل بها علي جواز حوالة الحق في الفقه الحنفي ، فيبدو لنا أن التعامل فيها إنما يقع علي حوالة الدين لا علي حوالة الحق ، فتجري أحكام حوالة الدين علي الوجه الذي أسلفناه في هذا المذهب ، أو أن الحوالة في هذه المسائل إنما قصد بها التوكيل بقبض الدين وهذا مألوف في المذهب الحنفي كما قدمنا : انظر في هذا المعني الأستاذ عيسوي أحمد عيسوي مجلة الأزهر 27 ص 1014 – ص 1018 و ص 116 - ص 1120 ) .
( [1] ) انظر في الحوالة بوجه عام في الفقه الإسلامي في مذاهبه الأربعة : البدائع 6 ص15 - ص 19 – فتح القدير 5 ص 443 – ص 452 - الزيلعي 4 ص 171 – ص 175 - الفتاوي الهندية 3 ص 295 – ص 306 - ابن عابدين 4 ص446 – ص459 - بداية المجتهد 2 ص 250 - 252 - الخرشي 6 ص 16 - ص 21 - الخطاب 5 ص 90 – ص 96 - القوانين الفقهية لابن جزي ص 327 - المهذب 1 ص 338 ص 339 - المغني ( الطبعة الثالثة ) 4 ص 521 – ص534 .
والذي يخلص من كل ذلك أن حوالة الدين هي إما تجديد أو كفالة محورة أو كفالة محضة في المذهب الحنفي ، وهي تجديد للدين بتغيير المدين وبتغير الدائن في المذاهب الأخري . فلم يسلم الفقه الإسلامي أصلا بانتقال الدين ، لا فيما بين الأحياء ولا بسبب الموت ، لا عن طريق الخلافة الخاصة ولا عن طريق الخلافة العامة . وإنما سلم بانتقال الحق بسبب الموت ، عن طريق الخلافة العامة في الميراث ، وعن طريق الخلافة الخاصة في الوصية بالدين . ولا يكاد يسلم بانتقال الحق فيما بين الأحياء إلا عن طريق الحيلة في المذهب الحنفي ، وإلا في كثير من التردد فذ مذهب مالك . ولا عجب في ذلك ، فهذا هو السير الطبيعي في تطور الحالة . أما تسليمه بانتقال الحق بسبب الموت ، فيبدو أن ذلك قد قام علي فكرة الخلافة : خلافة الوارث للمورث وخلافة الموصي له للموصي . وهي خلافة لا تتحقق عنده إلا بالموت ، فيختفي شخص السلف ويحل محله شخص الخلف .
مجلة الأحكام العدلية
مادة (673) الحوالة
الحوالة: هي نقل الدين من ذمة إلى ذمة أخرى.
كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفور له (محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية) بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه
(مادة 199)
الكفالة والحوالة لا يصحان بالإكراه فمن كفل عن غيره كرها أو قبل حوالة دين عليه جبرا فلا يلزمه شيء مما التزم به قهرا.
(مادة 777)
إذا قبل المحتال الحوالة ورضي المحتال عليه بها برئ المحيل وكفيله إن كان له كفيل من الدين ومن المطالبة معا وثبت للمحتال حق مطالبة المحتال عليه غير أن براءة المحيل وكفيله مقيدة بسلامة حق المحتال.
(مادة 232)
الحوالة والكفالة يصح تعليقهما بالشرط الملائم ويصحان مع اقترانهما بالشرط الفاسد ويلغو الشرط وكذلك ما كان من الإطلاقات كالإذن للصبي بالتجارة.
(مادة 766)
الحوالة هي نقل الدين والمطالبة من ذمة المحيل إلى ذمة المحتال عليه.
(مادة 767)
الحوالة قسمان مطلقة ومقيدة.
(مادة 768)
الحوالة المطلقة هي أن يحيل المدين بدينه غريمه على آخر حوالة مطلقة غير مقيدة بأدائه من الدين الذي للمحيل في ذمة المحتال عليه أو من العين التي له عنده وديعة أو مغصوبة أو يحيله على شخص ليس له عنده ولا عليه شيء.
(مادة 769)
الحوالة المقيدة هي أن يحيل المديون بدينه غريمه على المحتال عليه حوالة مقيدة بأدائه من الدين الذي للمحيل في ذمة المحتال عليه أو من العين التي له عنده أمانة أو مغصوبة.
(مادة 770)
يشترط لصحة انعقاد الحوالة أن يكون المحيل والمحتال عاقلين وأن يكون المحتال عليه عاقلا بالغا فلا تصح حوالة مجنون وصبي غير مميز ولا احتيالهما كما أنه لا يصح قبولهما الحوالة على أنفسهما ولو كان الصبي المحتال عليه مميزا أو مأذونا له في التجارة.
(مادة 771)
يشترط لنفاذ عقد الحوالة أن يكون المحيل والمحتال بالغين فلا تنفذ حوالة الصبي المميز بل تنعقد موقوفة على إجازة وليه أو وصية فإن أجازها نفذت وإلا فلا.
ولا ينفذ احتياله إلا إذا أجازه الولي أو الوصي وكان المحتال عليه أملا من المحيل.
(مادة 774)
كل دين لا تصح به الكفالة فالحوالة به غير صحيحة.
(مادة 775)
كل دين تصح به الكفالة فالحوالة به صحيحة بشرط أن يكون معلوما فلا تصح الحوالة بالدين المجهول فلو احتال بما سيثبت للمحيل على المحتال عليه فالحوالة باطلة.
(مادة 776)
كما تصح الحوالة بالديون الصحيحة المترتبة أصالة في الذمة تصبح الحوالة أيضا بالديون المترتبة في الذمة من جهة الكفالة والحوالة.
(مادة 790)
عقد الحوالة يفيد النقل والتحويل لا التمليك سواء كانت الحوالة مطلقة أو مقيدة.
فإذا مات المحيل مديونا قبل استيفاء المحتال جميع الدين من المحتال عليه فاقبضه منه في حياة المحيل فهو له أي للمحتال وما لم يقبضه فهو فيه أسوة لغرماء المحيل.
وإذا قسم الدين بين غرماء المحيل فلا يرجع المحتال على المحتال عليه بالحصص التي أخذها الغرماء.
(مادة 791)
إذا مات المحيل وله ورثة لا غرماء وكان موته قبل استيفاء المحتال دينه من المحتال عليه فلورثة المحيل المطالبة به دون المحتال وضمه إلى التركة وحينئذ يتبع المحتال التركة.
(مادة 792)
إذا مات المحتال عليه مديونا يقسم ماله بين الغرماء وبين المحتال بالحصص وما بقي للمحتال بعد القسمة يرجع به على المحيل.
(مادة 793)
إذا مات المحتال وكان المحتال عليه وارثا له بطل ما كان للمحيل على المحتال عليه وكذا لو وهب المحتال مال الحوالة للمحتال عليه.
(مادة 794)
يبرأ المحتال عليه بتأديته الدين المحال به أو بإحالته المحتال على غيره وقبول ذلك الغير الحوالة.