مذكرة المشروع التمهيدي :
1- تعرض النصوص (م 819 - 822) لحرمان المستأجر من الانتفاع بالأرض الزراعية لقوة قاهرة، إما لأنه لم يتمكن من تهيئة الأرض للزراعة أو لأن المحصول قد ملك قبل الحصد أو بعده.
وفي التقنين الحالي يوجد نصان (م 392 -393 / 479 - 480 ) يقضيان بأنه إذا تعذر على المستأجر تهيئة الأرض للزراعة أو زرعها ولكن تلف البذر قبل أن ينتج، فالمؤجر هو الذي يتحمل تبعة ذلك، أما إذا تنتج الزرع، سواء حصد أو لم يحصد، ثم ملك بقوة قاهرة فالمستأجر هو الذي يتحمل التبعة، فالعبرة إذن في التقنين الحالي بأن ينتج المحصول، ومتى نتج اعتبر المستأجر مستوفياً لمنفعة الأرض ويكون هلاك الحصول عليه، ولا يخفي ما في هذا الحكم من عنت على المستأجر، فهو لا يعنيه أن ينتج المحصول إذا كان يملك بعد ذلك بغير إهمال منه قبل أن يحصده.
2- لذلك أدخل المشروع تعديلاً في هذه الأحكام، وجعل العبرة بحصد المحصول، فقبل الحصد إذا امتنع على المستأجر أن ينتفع بالأرض، سواء كان ذلك لأنه لم يتمكن من تهيئة الأرض الزراعة، أو هيأها ولكنه لم يتمكن من بذرها، أو بذرها ولكن البذر لم ينتج لهلاکه كله أو أكثره، أو أنتج البذر ولكن الزرع هلاك كله أو بعضه قبل الحصاد، جاز للمستأجر أن يطلب إسقاط الأجرة كلها أو بعضها بنسبة ما حرم من الانتفاع، مع ملاحظة ما يأتي :
(أ) إذا أنتج البذر زرعاً، وهلك بعضه قبل الحصاد، فلا تنقص الأجرة، إلا إذا ترتب على الهلاك نقص كبير في ريع الأرض، (ب) ( وحتى في حالة ما إذا ترتب على هلاك بعض الزرع نقص كبير في ريع الأرض وفي حالة ما إذا هلك الزرع كله قبل الحصاد، لا يجوز للمستأجر أن يطلب إنقاص الأجرة أو إسقاطها إذا كان قد عوض عما أصابه من الضرر من طريق آخر ، كأن كان مؤمناً ضد التلف و عوض مبلغ التأمين، أو كان سبب الهلاك فيضان النيل فيضاناً استثنائياً و أعطت الحكومة تعويضاً عن ذلك، (ج) ولا تعتبر هذه الأحكام من النظام العام، فيجوز الاتفاق على ما يخالفها، كأن يشترط المستأجر ضمان المؤجر لأي محصول بها بعد الحصاد مهما كان مقداره، أو كأن يشترط المؤجر صراحة أن يتحمل المستأجر تبعة هلاك المحصول أو البذر إذا نشأ الهلاك عن حوادث معتادة ( كدودة القطن والجراد و الفيضان المعتاد) ، أما الهلاك الذي ينشأ عن حوادث غير معتادة ( كالحرب والزلزال والفيضان غير المعتاد) فلا يجوز أن يتحمل المستأجر تبعته ولو أنفق على ذلك مع المؤجر، ويلاحظ أن ما تقدم من الأحكام إنما هو تطبيق خاص في إيجار الأراضي الزراعية لمبدأ و الإيجار المرهق، وهو مأخوذ من الشريعة الإسلامية ( أنظر م 675 من مرشد الحيران).
و بعد حصد المحصول تنتهي تبعة المؤجر، فلا يتحمل هلاك الزرع المحصود، ولو هلك الزرع كله ، إلا إذا كان جزء من المحصول الذي هلك يدخل في الأجرة، فيهلك على المؤجر إذا كان الهلاك قد وقع قبل أن يعذر المستأجر بالتعليم، بشرط أن يثبت المستأجر أن الهلاك لم يقع بخطأ منه.
مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الرابع ، الصفحة : 626
مذكرة المشروع التمهيدي :
تعرف هذه المادة المزارعة، بأنها إبحار أرض زراعية أو مغروسة بالأشجار، وتكون الأجرة فيها جزءاً من المحصول ، فللمزارعة إذن خاصيتان :
(أ) هي شركة ما بين المؤجر والمستأجر .
(ب) شخصية المستأجر ملحوظة فيها.
المزارعة عقد إيجار وليست عقد شركة، كما تتميز عن عقد العمل فالمزارع ليس أجيراً إذ أنه يساهم في الربح وفي الخسارة، ويلزم العقد المؤجر بأن يقدم أرضاً للمستأجر ينتفع بزراعتها في مقابل أجرة يتقاضاها المؤجر منه، ولكنه يعقد إيجار عادي، لأن الأجرة فيه نسبة معينة من المحصول، فالمؤجر يساهم في الربح وفي الخسارة كما يساهم الشريك، وتشبه المزارعة الشركة أيضاً في أنها عقد لشخصية المستأجر فيه اعتبار جوهري، فتبطل للغلط في شخص المستأجر ولا يجوز التنازل عن الإيجار أو الإيجار من الباطن إلا برضاء المؤجر ولا تكون بموجب هذا العقد شخصية معنوية.
وكان عند المزارعة وفقاً لقانون الإصلاح الزراعي عقداً رضائياً يكفي التراضي لانعقاده فلم تكن الكتابة لازمة لا لانعقاده ولا لإثباته، وفقاً لأحكام المادة 36 ثم صدر القانون 17 لسنة 1963 معدلاً لهذه المادة، واشترط الكتابة لانعقاد المزارعة فأصبح هذا العقد شكلياً، ومن ثم فان لم يوجد عقد مكتوب أو وجد ولم تودع صورته بالجمعية فلا تقبل الدعوى ولا يجوز إخراج المستأجر من الأرض وإنما محرر له الجمعية عقد إيجار- إذا رفض المالك - بالأجرة القانونية.(المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الثامن الصفحة/ 309)
المزارعة عقد بموجبه يعطى المؤجر أرضاً زراعية، سواء كانت أرضاً عارية أو كانت مغروسة بالأشجار إلى شخص آخر يسمى المزارع يزرعها أو يستثمرها في مقابل أخذه جزءاً معيناً من ذات محصول الأرض.
فالأجرة في المزارعة يجب أن تكون جزءاً عينياً من محصول ذات الأرض المؤجرة، كنصف المحصول أو الثلث أو الربع مثلاً فإذا كانت الأجرة ليست نسبة معينة من المحصول بل مقداراً معيناً منه كعشرة قناطير من القطن أو عشرين أردبا من القمح، لم يكن العقد مزارعة بل عقد إيجار عادي والأجرة فيه ليست نقوداً، لأن الأجرة في الإيجار العادي قد تكون نقوداً وقد تكون أي تقدمه أخرى، ولو كانت مقداراً معيناً من المحصول.
كذلك لا يكون العقد مزارعة إذا كان المقابل مبلغاً من النقود ولو تحدد على أساسه نسبة من المحصول، كأن يتفق على أن يحصل المؤجر على نصف الربح الناتج عن بيع المحصول.
ولا يكون العقد مزارعة إذا اتفق على أن يكون المقابل نسبة معينة من المحصول بشرط ألا يقل عن قدر معين أو بشرط ألا يزيد على قدر معين كأن يتفق على أن تكون الأجرة ثلث المحصول بشرط ألا يقل عن خمسة أرانب أو بشرط ألا يزيد على خمسة أرانب. لأن الأجرة تكون قد تحددت مقدماً وبمقدار ثابت .(.موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ السابع الصفحة/ 1215)
تعريف المزارعة وخصائصها - المزارعة عقد بموجبه يعطى المالك أرضه الزراعية أو أرضه المغروسة بالاشجار إلى شخص آخر يزرعها أو يستثمرها في مقابل أخذه جزء معيناً من المحمول ( أنظر المادة 619 مدني).
ويبين من ذلك أن عقد المزارعة نسبة الإيجار من حيث أنه يمكن المزارع من الإنتفاع بأرض مملوكة لغيره بمقابل، ويشبه الشركة من حيث أنه ينشىء مساهمة في إنتاج المحصول بين المالك بأرضه والمزارع بعمله وأنه يخول الملك لا جعلاً معيناً، نقداً كان أو عيناً، بل حصة معينة من المحصول تتفاوت قيمتها زيادة ونقصاً تبعاً لحالة المحصول، فهو مزيج من الإيجار والشركة .
وقد غلب المشرع في أحكام المزارعة صبغة الإيجار، ولكنه جعل فيه لفكرة الشركة اعتباراً خاصاً ورتب عليها بعض أحكام تغاير أحكام الإيجار بوجه عام .
ولذلك كان أهم خصائص المزارعة :
1- إنها إيجار من طريق المشاركة في استغلال الأرض.
2- وأن الأجرة فيها حصة معينة من الحصول .
3- وأن لشخصية المزارع اعتباراً خاصاً في عقدها .
ويترتب على ذلك :
1-أن الملك لا يقتصر كما في الإجارة العادية على تمكين المزارع من الزرع بل يسهم معه في إنتاج المحصول بها يتحمله من نفقات لازمة لانتاجه.
٢- وأنه لا محل في المزارعة لأن يطلب المزارع - كما في الإجارة العادية - نقص الأجرة إذا تلف بعض البذر أو المحصول بقوة قاهرة لأن المالك شريك له في الحصول لا يأخذ نصيبه إلا مما تغله الأرض فعلاً، فيتحمل نصيبه من الخسارة بطريقة آلية ودون حاجة الى استصدار حكم بذلك .
3 - وأن المزارع لا يطالب بأن يبذل في العناية بالزرع أكثر من عنايته بشئون نفسه كما أنه لا يجوز له النزول عن المزارعة إلى غيره أو التأجير من باطنه. (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الثامن الصفحة/ 851)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولى 1433 ه- 2012 م الجزء/ الثاني، الصفحة/ 26
المزارعة لا يجيزها الإمام أبو حنيفة، ويجيزها الصاحبان أبو يوسف ومحمد وبقولهما يفتى في المذهب. كما لا يجيزها الشافعية إلا إذا كان بين النخل أو العنب بياض أي أرض لا زرع فيها.
صحت المزارعة عليه مع المساقاة على النخل أو العنب تبعا للمساقاة، وترى المالكية ومحمد بن الحسن والحنابلة أن عقد المزارعة يجوز بلا بيان مدة، وتقع على أول زرع يخرج، ويرى جمهور الحنفية أن من
شروط صحة عقد المزارعة ذكر مدة متعارفة، فتفسد بما لا يتمكن فيها من المزارعة، وبما لا يعيش إليها أحدهما غالبا.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولى 1433 ه- 2012 م الجزء/ الثالث، الصفحة/ 233
استحقاق الأرض التي بها
غراس أو بناء للمستأجر:
30- لو استحقت الأرض المؤجرة وقد غرس فيها المستأجر، فإن الفقهاء يختلفون في قلع الفراس ، وفي إبقائه وتملكه، ولهم في ذلك ثلاث آراء:
أحدها: للمستحق قلع الفراس دون مقابل. وهو قول الحنفية فيما بعد انقضاء المدة والشافعية. قال الشافعية: وليس للمالك تملك الفراس بالقيمة أو الإبقاء له بالأجرة؛ لتمكن الغاصب من القلع.
ويغرم المستأجر المؤجر قيمة الشجر مقلوعا عند الحنفية، وعند الشافعية يرجع المستأجر بالأشر على الغاصب لشروعه في العقد على ظن السلامة.
والثاني: للمستحق تملك الفراس بقيمته قائما، وهو قول المالكية إن فسخ المستحق قبل مضي المدة، وليس له قلع الفراس ولا دفع قيمته مقلوعا، لأن المكاري غرس بوجه شبهة، فإن أبى المستحق دفع قيمة الفراس قائما قيل للمكاري : ادفع له قيمة الأرض، فإن أبى كانا شريكي المكاري بقيمة غرسه، والمستحق بقيمة أرضه، فإن أجاز بعد مضي المدة يدفع قيمة الفراس مقلوعا بعد طرح أجر القلع.
الثالث: تملك المستحق للغراس بما أنفقه المستأجر على الفراس ، وهو المنصوص عند الحنابلة، والمتوجه على قول القاضي ومن وافقه إن غرسه كغرس الغاصب، ولهم قول آخر، وهو إن الفراس للمستأجر، وعليه الأجرة لصاحب الأرض، ويرجع على من آجره. والبناء كالفراس عند فقهاء المذاهب الأربعة.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولى 1433 ه- 2012 م الجزء/ العاشر، الصفحة/ 33
ب- المزارعة والمساقات:
9- ذهب أبو حنيفة إلى عدم جواز المزارعة، خلافا لأبي يوسف ومحمد، فقد قالا بجوازها.
وإن من شروط صحتها بيان المدة، فهي من العقود المؤقتة عندهما.
وأما المساقات فلا يشترط توقيتها عندهما، فإن ترك تأقيتها جازت استحسانا؛ لأن وقت إدراك الثمر معلوم.
وأما المالكية فلم يتعرضوا لذكر التأقيت في المزارعة، فتصح عندهم بلا تقدير مدة.
وأما المساقات عندهم فإنها تبقت بالجذاذ، أي: جني الثمر، حتى أن بعضهم يرى فسادها أن أطلقت ولم تبقت ، أو أقتات بوقت يزيد على الجذاذ، ويرى ابن الحاجب من المالكية أنها إن أطلقت صحت وحملت على الجذاذ، وذكر صاحب الشرح الكبير: إن التأقيت ليس شرطا في صحتها، وغاية ما في الأمر أنها إن أقتت فإنها تبقت بالجذاذ.
وأما الشافعية فإنهم يرون أن المزارعة إذا أفردت بالعقد فلا بد فيها من تقرير المدة، وأما إذا كانت تابعة للمساقات فإن ما يجري على المساقات يجري عليها.
وأما المساقات فإن من شروط صحتها عندهم أن تكون مؤقتة، إذ يشترط فيها معرفة العمل بتقدير المدة كسنة.
وأما الحنابلة فلا يشترطون لصحة المزارعة والمساقات التأقيت، بل تصح مؤقتة وغير مؤقتة، فلو زارعه أو ساقاه دون أن يذكر مدة جاز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضرب لأهل خيبر مدة. وكذا خلفاؤه من بعده صلى الله عليه وسلم. ولكل من العاقدين فسخها متى شاء، فإن كان الفسخ من رب المال قبل ظهور الثمر وبعد شروع العامل بالعمل فعليه للعامل أجرة مثل عمله. وإن فسخ العامل قبل ظهور الثمر فلا شيء له.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولى 1433 ه- 2012 م الجزء/ الخامس عشر، الصفحة/ 22
رهن الثمار:
18- اتفق الفقهاء على جواز رهن الثمار سواء ما كانت على الشجر أم لا، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الرهن بعد بذو الصلاح أو قبله، وذلك لأن النهي عن البيع قبل بذي الصلاح إنما كان لعدم الأمن من العاهة وهذا مفقود هنا، وبتقدير تلفها لا يفوت حق المرتهن من الدين لتعلقه بذمة الراهن.
وأجاز المالكية رهن الثمار التي لم تخلق بعدا.
ثم إن الحنفية لم يحوزوا رهن الثمر دون الشجر، أو الشجر دون الثمر بناء على أصل عندهم وهو أن المرهون متى أتصل بغير المرهون خلقة لا يجز لامتناع قبض الرهن وحده، وعلى ذلك فلو رهن شجرا وفيه ثمر لم يسمه في الرهن دخل في الرهن تصحيح للعقد، وقد فصل الشافعية في رهن الثمار، وفرقوا بين أن تكون الثمار مع الشجر أو وحدها، وبين أن يكون الثمر مما يتسارع فساده أو لا، فقرروا أن رهن الثمار على الشجر له حالان، أحدهما: إن يرهن الثمر مع الشجر، وحينئذ فإن كان الثمر مما يمكن تجفيفه صح الرهن مطلقا، أي سواء أبدا فيه الصلاح أم لا، وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا.
وإن كان مما لا يمكن تجفيفه فسد الرهن إلا في ثلاث مسائل هي: إن يرهنه بدين حال، أو مؤجلا يحل قبل فساده، أو يحل بعد فساده، أو معه، لكن بشرط بيعه عند إشرافه على الفساد وجعل الثمن رهنا مكانه.
الثاني: رهن الثمر وحده. فإن كان لا يحفظ بالجفاف فهو كالذي يتسارع إليه الفساد، وقد تقدم حكمه، وإن كان يتعفف فهو على ضربين:
الضرب الأول: إن يرهن قبل بذو الصلاح، فإن رهنا بدينا حال وشرط قطعه وبيعه جازا، وإن أطلق جاز أيضا، وإن رهنا بمؤجل نظر، إن كان يحل قبل بلوغ الثمر وقت الإدراك أو بعده جازا الرهن، إلا أن الجواز في حالة ما قبل بلوغه وقت الإدراك مقيد بشرط القطع، أما إذا رهنها مطلقا لم يصح.
الضرب الثاني: إن يرهن بعد بذي الصلاح. فيجوز بشرط القطع مطلقا إن رهنا بحال أو مؤجل هو في معناه. وإن رهنه بمؤجل يحل قبل بلوغ الثمر وقت الإدراك، فعلى ما سبق في الضرب الأول.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولى 1433 ه- 2012 م الجزء/ الثامن عشر، الصفحة/ 28
المنافع:
25- المنافع كذلك يجوز إسقاطها، سواء أكان المسقط مالكا للرقبة والمنفعة، أم كان مالكا للمنفعة فقط بمقتضى عقد، كالإجارة والعارية والوصية بالمنفعة، أم بغير عقد كتحجير الموات لإحيائه، ومن ذلك الاختصاص بمقاعد الأسواق وما شابه ذلك، فالمنافع تقبل الإسقاط بإسقاط مستحق المنفعة ما لم يكن هناك مانعا.
ومن أمثلة ذلك أن من أوصى لرجل بسكنى داره فمات الموصي وباع الوارث الدار ورضي الموصى له جاز البيع وبطلت سكناه، وكذا لو لم يبع الوارث الدار ولكن قال الموصى له بالمنفعة: أسقطت حقي سقط حقه بالإسقاط.
وأماكن الجلوس في المساجد والأسواق يجوز للمنتفع بها إسقاط الحق فيها. هذا بالنسبة لإسقاطها دون عوض، أما بالنسبة لإسقاطها بعوض فإنه يرجع إلى قاعدة التفريق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، فمن ملك المنفعة ملك المعاوضة عليها، ومن ملك الانتفاع فقط فإنه يملك الإسقاط ولكن لا يجوز المعاوضة عليه، وهذا عند الجمهور- المالكية والشافعية والحنابلة- أما الحنفية فلهم بعض القيود فإن الاعتياد عن المنافع عندهم لا يجوز إلا لمالك الرقبة والمنفعة، أو لمالك المنفعة بعوض، أما مالك المنفعة دون عوض فلا يجوز الاعتياد عنها. والمنافع عندهم ليست بأموال. كما لا يجوز عندهم إفراد حقوق الارتفاق بعقد معاوضة على الأصح وإنما يجوز تبعا.
ومن أمثلة المعاوضة على المنفعة ما لو أوصى شخص لرجلي أحدهما بعين الدار والثاني بسكناها، وصالح الأول الثاني لأن الموصى له بعين الدار صالح الموصى له بسكناها بدراهم أو بمنفعة عين أخرى لتسلم الدار له جاز.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولى 1433 ه- 2012 م الجزء/ الخامس والعشرون، الصفحة/ 353
المساقات في الشجر:
7- المساقات: هي أن يدفع شخص شجرا إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره. فهي عقد على خدمة شجر بجزء من غلته.
وهي جائزة عند جمهور الفقهاء (المالكية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد من الحنفية، وهو القول القديم للشافعي) في كل شجر مثمر، لما روى عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: «عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر نخلها وأرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع».
ولأن الحاجة داعية إليها، لأن مالك الأشجار قد لا يحسن تعهدها أو لا يتفرغ له، ومن يحسن التعهد ويتفرغ قد لا يملك الأشجار، فيحتاج ذلك إلى الاستعمال، وهذا للعمل.
والمراد بالشجر في باب المساقات عند الفقهاء أن يكون له ساق وأن يكون مثمرا، (وإن لم يشترط تلك الشافعية في النخل) وما لا ساق له كالبطيخ ونحوه أو لا يكون مثمرا كالتوت الذكر ونحوه لا تجوز فيه المساقات.
وقال أبو حنيفة: المساقات عقد فاسد، لأنه استئجار بأجرة مجهولة معدومة واستئجار ببعض ما يحصل من عمله، كقفزي الطحان، وذلك مفسد.
قال الموصلي: والفتوى على قولهما- أي بالجواز- لحاجة الناس، وقد تعامل بها السلف.
وقال الشافعية في الجديد: لا تصح المساقاة إلا في النخل؛ لأنها رخصة فتختص بما ورد فيه النص، ويشترط فيه أن يكون مغروسا معينا مرئيا. ومثل النخل العنب بجامع وجوب الزكاة فيهما.
ولبيان سائر شروط المساقاة وأحكامها ينظر مصطلح: ( مساقاة ).
التخلي تحت الشجر:
8- يكره عند جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية) التخلي تحت شجرة مثمرة.
قال الشافعية: ولو مباح وفي غير وقت الثمرة؛ صيانة لها عن التلوث عند الوقوع فتعافها الأنفس، ولم يقولوا بالتحريم لأن التنجس غير متيقن.
وزاد الحنفية والمالكية: أو في ظل ينتفع بالجلوس فيه أو ما من شأنه الاستظلال به.
وقال الحنابلة: يحرم التبول أو التغوط في ظل نافع وتحت شجرة عليها ثمرة مقصودة مأكولة؛ لأنه يفسدها وتعافها الأنفس. فأما في غير حال الثمرة فلا بأس.
وتفصيل ذلك في مصطلح: (قضاء الحاجة).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 ه- 2012 م الجزء/ الحادي والثلاثون، الصفحة/ 178
غرس الشجر في المسجد والأرض الموقوفة.
9- اختلف الفقهاء في حكم غرس الأشجار في المسجد والأرض الموقوفة: فقال الحنفية: لو أن رجلا غرس شجرة في المسجد فهي للمسجدة أو في أرض موقوفة على رباط مثلا فهي للوقف إن قال للقيم: تعاهدها، ولو لم يقل فهي له يرفعها؛ لأنه ليس له هذه الولاية، ولا يكون غارسا للوقف. وقيد الحصكفي هذا الجواز بأن يكون الغرس لنفع المسجد، كتقليل نز، وهو ما يتحلب من الأرض من الماء.
وقال الحنفية: إن كان لنفع الناس بظله، ولا يضيق على الناس، ولا يفرق الصفوف، لا بأس به، وإن كان لنفع نفسه بورقة أو ثمرة، أو يفرق الصفوف، أو كان في موضع تقع به المشابهة بين البيعة والمسجد، يكره.
وقال المالكية: إن بنى أو غرسا محبس أو أجنبي في أرض الوقف، فإن بين أن ما غرسه وقف كان الغرس والبناء وقفا، وكذلك إن لم يبين قبل موته بأنه وقفا، أما إذا بين أنه ملك له، كان له أو لوارثه، فيؤمر بنقضه، أو يأخذ قيمته منقوضا بعد إسقاط كلفة لم يتولها.
وقال النووي: ينبغي إن لا تغرس الأشجار في المسجد وفي موضع آخر قال: يكره غرس الشجر في المسجد، فإن غرس قطعه الإمام.
وفصل الزركشي في الموضوع فقال: يكره غرس الشجر والنخل وحفر الآبار في المساجد، لما فيه من التضييق على المصلين، والصحيح تحريمه، لما فيه من تحجير موضع الصلاة، والضيق وجلب النجاسات من ذرق الطيور.
أما الحنابلة فقد نصوا على عدم جواز الغرس في المسجد، وقال أحمد: إن كانت غرست النخلة بعد أن صار مسجدا فهذه غرست بغير حق، فلا أحب الأكل منها، ولو قلعها الإمام لجاز؛ وذلك لأن المسجد لم يبن لهذا، وإنما بني لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن؛ ولأن الشجرة تؤذي المسجد، وتمنع المصلين من الصلاة في موضعها، ويسقط ورقها في المسجد وثمرها، وتسقط عليها العصافير والطيور فتبول في المسجد، وربما اجتمع الصبيان في المسجد لأجلها ورموها بالحجارة ليسقط ثمرها.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولى 1433 ه- 2012 م الجزء/ السادس والثلاوثون، الصفحة/ 251
الحيلة في الإجارة والمساقات
25- الأصل أن اشتراط المكرمة على المستأجر يفسد الإجارة، والحيلة في جواز ذلك عند الحنفية والحنابلة: إن ينظر إلى قدر ما يحتج إليه، فيضم إلى الأجرة، ثم يأمره المؤجر بصرفه إلى المكرمة ، فيكون المستأجر وكيلا بالإنفاق.
وكذلك اشتراط خراج الأرض على المستأجر غير جائز، لأن الأصل أن الخراج على المالك وليس على المستأجر، والحيلة في جوازه عند الحنفية والحنابلة: إن يزيد في الأجرة بقدره، ثم يأذن له أن يدفع في خراجها ذلك القدر الزائد على أجرتها، لأنه متى زاد مقدار الخراج على الأجرة أصبح ذلك دينا على المستأجر، وقد أمره أن يدفعه إلى مستحق الخراج وهو جائز.
ونظير هذا عند الحنفية أن يؤجر دابة، ويشترط علفها على المستأجر، فإنه غير جائز، لأنه مجهول والأجر من شرطه أن يكون معلوما والحيلة في جوازه كما سبق.
وهذه الحيلة غير محتاج إليها عند الحنابلة، لأن هم يحوزون استئجار الظئر بطعامها وكسوتها والأجير بطعامه وكسوته، فكذلك إجارة الدابة بعلفها وسقيها.
والأصل عند الحنفية: إن الإجارة تنفسخ بموت أحد طرفي العقد، وبه قال الثوري والليث وعلى هذا إذا أراد المستأجر أن لا تنفسخ بموت المؤجر، فالحيلة: إن يقر المؤجر بأنها للمستأجر عشر سنين يزرع فيه ما شاء، وما خرج فهو له، فلا تبطل بموت أحدهما.
والأصل عند الحنفية والمالكية، والشافعية: إنه لو دفع غزل لآخر لينسجه له بنصف الغزل، أو استأجر بغلا ليحمل طعامه ببعضه، أو ثورا ليطحن بره ببعض دقيقة، فسدت الإجارة في الكل، لأنه استأجره بجزء عمله، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن قفزي الطحان.
والحيلة في جواز ذلك عند الحنفية: إن يفرز الأجر أولا ويسلمه إلى الأجير، أو يسمي فيزا بلا تعيين، ثم يعطيه فيزا منه فيجوز، فلو خلطه بعد ذلك، وطحن الكل ثم أفرز الأجرة، ورد الباقي جاز، لأنه لم يستأجره أن يطحن بجزء منه.
الحيلة في الرهن
26- الأصل عند الحنفية أنه لا يجوز رهن مشاع، والحيلة في جواز ذلك عندهم: إن يبيع نصف داره مشاعا من طالب الرهن، ويقبض منه الثمن على أن المشتري بالخيار، ويقبض الدار ثم يفسخ البيع بحكم الخيار، فتبقى في يده بمنزلة الرهن بالثمن.
وأما الأئمة الثلاثة فلا حاجة للحيلة عندهم، لأنه يجوز عندهم رهن مشاع.
الحيلة في المزارعة
34- الأصل عند أبي حنيفة أنه لا تجوز المزارعة بالنصف أو الثلث أو الربع، والحيلة في ذلك حتى تجوز المزارعة في قول أبي حنيفة: إن يأخذها مزارعة، ثم يتنازعا إلى قاض يرى أن المزارعة جائزة فيحكم بجوازها عليهم، فيجوز ذلك إذا قضى به قاض، أو يكتبان كتاب إقرار عنهما يقران بذلك، فيجوز إقرارهما بذلك على أنفسهما، ولا حاجة إلى الحيلة على قول أبي يوسف ومحمد لأن المزارعة ببعض الخارج جائزة عندهما، والفتوى على قولهما لحاجة الناس.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولى 1433 ه- 2012 م الجزء/ السابع والثلاثون، الصفحة/ 49
مزارعة
التعريف:
1- المزارعة في اللغة من زرع الحب زرعا وزراعة: بذرة، والأرض: حرثها للزراعة، وزرع الله الحرث: أنبته وأتماه ، وزارعه مزارعة: عامله بالمزارعة.
والمزارعة: المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها.
وفي الاصطلاح عرفها الفقهاء بعدة تعريفات.
فعرفها الحنفية بأنها: عقد على الزرع ببعض الخارج.
وعرفها المالكية: بأنها الشركة في الزرع.
وعند الشافعية هي: عمل على أرض ببعض ما يخرج منها، والبذر من المالك.
وهي عند الحنابلة: دفع أرض وحب لمن يزرعه ويقوم عليه، أو مزروع ليعمل عليه بجزء مشاع معلوم من المتحصل.
الألفاظ ذات الصلة:
أ- المساقات:
2- المساقات لغة: إن يستعمل رجل رجل في نخيل أو كروم ليقوم بإصلاحها على أن يكون له معلوم مما تغليه.
وفي الاصطلاح: دفع شجر مغروس معلوم له ثمرا مأكولا لمن يعمل عليه بجزء مشاع معلوم من ثمره.
والصلة بين المزارعة والمساقات:
إن للعامل في كل منهما حصة شائعة من الإنتاج، إلا أن المزارعة تقع على الزرع كالحبوب، والمساقات تقع على الشجر كالنخيل.
ب- الإجارة:
3- الإجارة لغة: اسم للأجرة، وهي كراء الأجير، ونقل عن المبرد أنه يقال: أجر وآجر إجارا وإجارة، وعليه فتكون مصدرا وهذا المعنى هو المناسب للمعنى الاصطلاحي.
والإجارة في الاصطلاح عرفها الفقهاء بأنها: عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض.
(ر: إجارة ف 1 – 2).
والصلة بين الإجارة والمزارعة: إن المزارعة فرع من الإجارة، إلا أن الأجرة في الإجارة معينة القدر في العقد، أما في المزارعة فهي جزء من الناتج.
حكم المزارعة
4- اختلف الفقهاء في حكم المزارعة إلى اتجاهين:
فذهب المالكية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد وعليه الفتوى عند الحنفية إلى جواز عقد المزارعة، ومشروعيتها، وممن رأى ذلك سعيد بن المسيب، وطاوس، وعبد الرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وابنه، وابن عباس رضي الله عنهما في قول.
وقد روي ذلك عن معاذ رضي الله عنه، والحسن، وعبد الرحمن بن يزيد، وسفيان الثوري، والأوزاعي وابن المنذر وإسحاق، وآخرين.
واستدلوا على ذلك بالسنة والإجماع والمعقول.
فمن السنة ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع».
أما الإجماع فقد أجمع الصحابة قولا وعملا على مشروعية المزارعة، ولم يخالف في ذلك أحد منهم.
فالمزارعة شريعة متوارثة، لتعامل السلف والخلف ذلك من غير نكير.
وأما المعقول، فقالوا: إن المزارعة عقد شركة بمال من أحد الشريكين وهو الأرض، وعمل من الآخر وهو الزراعة، فيجوز بالقياس على المضاربة، والجامع بينهما دفع الحاجة في كل منهما، فإن صاحب المال قد لا يهتدي إلى العمل، والمهتدي إليه قد لا يجد المال، فمست الحاجة إلى انعقاد هذا العقد بينهما.
وذهب أبو حنيفة وزفر إلى عدم جواز المزارعة مطلقا، واستدلوا على ذلك بالسنة المطهرة والمعقول.
أما السنة فمنها ما ورد أن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا تخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافع، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا وأنفع، قال: قلنا: وما ذلك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخوه، ولا يماريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى».
وأما المعقول فمن وجهين:
الأْوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» وَالاِسْتِئْجَارُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ - الْمُزَارَعَةُ - فِي مَعْنَاهُ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَكُونُ الاِسْتِئْجَارُ لِبَعْضِ الْخَارِجِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ كَذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنَّ الاِسْتِئْجَارَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِ اسْتِئْجَارٌ بِبَدَلٍ مَجْهُولٍ أَوْ مَعْدُومٍ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ .
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الأْرْضِ مُزَارَعَةً إِلاَّ أَنْ تَكُونَ أَرْضًا وَشَجَرًا، فَيَكُونُ مِقْدَارُ الْبَيَاضِ مِنَ الأْرْضِ ثُلُثَ مِقْدَارِ الْجَمِيعِ، وَيَكُونُ السَّوَادُ مِقْدَارَ الثُّلُثَيْنِ مِنَ الْجَمِيعِ، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ تُعْطَى بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَالنِّصْفِ عَلَى مَا يُعْطَى بِهِ ذَلِكَ السَّوَادُ .
يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الأْرْضُ تَبَعًا لِلثَّمَرِ، وَكَانَ الثَّمَرُ أَكْثَرَ ذَلِكَ، فَلاَ بَأْسَ بِدُخُولِهَا فِي الْمُسَاقَاةِ، اشْتَرَطَ جُزْءًا خَارِجًا مِنْهَا أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَحَدَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ بِأَنْ يَكُونَ الثُّلُثَ فَمَا دُونَهُ، أَعْنِي أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ كِرَاءِ الأْرْضِ الثُّلُثَ مِنَ الثَّمَرِ فَمَا دُونَهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِطَ رَبُّ الأْرْضِ أَنْ يَزْرَعَ الْبَيَاضَ لِنَفْسِهِ، لأِنَّهَا زِيَادَةٌ ازْدَادَهَا عَلَيْهِ .
وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْرْضِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ النَّخِيلِ أَوِ الْعِنَبِ إِذَا كَانَ بَيَاضُ الأْرْضِ أَقَلَّ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَالأْصَحُّ جَوَازُهَا أَيْضًا، وَقِيلَ: لاَ تَجُوزُ، وَلَكِنَّهُمْ مَنَعُوهَا مُطْلَقًا فِي الأْرْضِ الْبَيْضَاءِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ.
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْمُزَارَعَةِ
5 - شُرِعَتِ الْمُزَارَعَةُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا، لأِنَّ مُلاَّكَ الأْرْضِ قَدْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ زَرْعَهَا وَالْعَمَلَ عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّهُمْ قَدْ يُرِيدُونَ تَأْجِيرَهَا بِجُزْءٍ مِنَ الْمَحْصُولِ وَلَيْسَ بِأُجْرَةٍ نَقْدِيَّةٍ، وَمِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ فَالْعُمَّالُ يَحْتَاجُونَ إِلَى الزَّرْعِ وَلاَ مَالَ لَهُمْ يَتَمَلَّكُونَ بِهِ الأْرْضَ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الزِّرَاعَةِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ جِوَازَ الْمُزَارَعَةِ، كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، بَلْ إِنَّ الْحَاجَةَ هَاهُنَا آكَدُ مِنْهَا فِي الْمُضَارَبَةِ، لأِنَّ حَاجَةَ الإْنْسَانِ إِلَى الزَّرْعِ آكَدُ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مُقْتَاتًا، وَلِكَوْنِ الأْرْضِ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا إِلاَّ بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا بِخِلاَفِ الْمَالِ .
أَرْكَانُ الْمُزَارَعَةِ
6 - أَرْكَانُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ هِيَ أَرْكَانُ الْعَقْدِ بِصِفَّةٍ عَامَّةٍ.
وَهِيَ - عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا مِنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْعَاقِدَانِ، وَمَحَلُّ الْعَقْدِ، وَالصِّيغَةُ، أَيِ الإْيجَابُ وَالْقَبُولُ الدَّالاَّنِ عَلَى التَّرَاضِي.
وَرُكْنُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصِّيغَةُ فَقَطْ .
وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ أَرْكَانَ الْمُزَارَعَةِ أَرْبَعَةٌ: أَرْضٌ، وَبَذْرٌ، وَعَمَلٌ، وَبَقَرٌ .
حَقِيقَةُ الْمُزَارَعَةِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، وَهَلْ هُوَ إِجَارَةٌ، أَوْ شَرِكَةٌ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ الاِثْنَيْنِ؟.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْعَقِدُ إِجَارَةً، ثُمَّ تَتِمُّ شَرِكَةً، فَفِيهَا مَعْنَى الإْجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الإْجَارَةِ فَلأِنَّ الإْجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَالْمُزَارَعَةُ كَذَلِكَ، لأِنَّ الْبَذْرَ إِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الأْرْضِ فَالْعَامِلُ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ مِنْ رَبِّ الأْرْضِ بِعِوَضٍ هُوَ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَصَاحِبُ الأْرْضِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ أَرْضِهِ مِنَ الْعَامِلِ بِعِوَضٍ هُوَ نَمَاءُ بَذْرِهِ، فَكَانَتِ الْمُزَارَعَةُ اسْتِئْجَارًا، إِمَّا لِلْعَامِلِ، وَإِمَّا لِلأْرْضِ ، وَالأْجْرَةُ فِيهَا بَعْضُ الْخَارِجِ مِنْهَا.
وَأَمَّا أَنْ فِيهَا مَعْنَى الشَّرِكَةِ، فَلأِنَّ الْخَارِجَ مِنَ الأْرْضِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ صَاحِبِهَا وَبَيْنَ الْمُزَارِعِ حَسَبَ النِّسْبَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمَا .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا شَرِكَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي تَعْرِيفِهَا: هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الزَّرْعِ .
وَجَاءَ فِي مُوَاهِبِ الْجَلِيلِ: قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: الْمُزَارَعَةُ دَائِرَةٌ بَيْنَ الشَّرِكَةِ وَالإْجَارَةِ ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَالأْقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهَا شَرِكَةٌ حَقِيقَةً، وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا: لاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ .
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ أَنَّهَا شَرِكَةُ عَمَلٍ وَإِجَارَةٌ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ غَلَّبَ الشَّرِكَةَ عَلَى الإْجَارَةِ ، وَالْبَعْضَ غَلَّبَ الإْجَارَةَ عَلَى الشَّرِكَةِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ مِنْ جَنْسِ الْمُشَارَكَاتِ وَلَيْسَتْ مِنْ جَنْسِ الْمُؤَجَّرَاتِ، وَهِيَ نَظِيرُ الْمُضَارَبَةِ .
صِفَةُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ
8 - يُرَادُ بِصِفَةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ أَيْ مِنْ حَيْثُ اللُّزُومُ وَعَدَمُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ لاَزِمَةٌ فِي جَانِبٍ مَنْ لاَ بَذْرَ لَهُ، فَلاَ يَمْلِكُ فَسْخَهَا بِدُونِ رِضَا الآْخَرِ إِلاَّ بِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ مِنْ إِتْمَامِهَا، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ لاَزِمَةً فِي جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ قَبْلَ إِلْقَاءِ بَذْرِهِ فِي الأْرْضِ ، فَيَمْلِكُ فَسْخَهَا بِعُذْرٍ وَبِدُونِ عُذْرٍ، لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَمَلِ إِلاَّ بِإِتْلاَفِ مَالِهِ - وَهُوَ الْبَذْرُ - بِإِلْقَائِهِ فِي الأْرْضِ فَيَهْلِكُ فِيهَا، وَلاَ يَدْرِي إِنْ كَانَ يَنْبُتُ أَمْ لاَ؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ لاَ بَذْرَ لَهُ.
وَلَكِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْفَسْخَ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الأْرْضِ ، إِلاَّ بِعُذْرٍ طَارِئٍ يَحُولُ دُونَ إِتْمَامِ الْعَقْدِ .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ لاَزِمَةٍ قَبْلَ إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الأْرْضِ ، فَيَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهَا، فَالْمُزَارَعَةُ لاَ تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلاَ بِالْعَمَلِ فِي الأْرْضِ قَبْلَ إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِيهَا - أَيْ زَرْعِهَا - وَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ كَثِيرًا كَحَرْثِ الأْرْضِ وَتَسْوِيَتِهَا وَرَيِّهَا بِالْمَاءِ.
وَجَزَمَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٌ: بِلُزُومِ الْمُزَارَعَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ وَابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ سَحْنُونٍ .
وَمَرْجِعُ الْخِلاَفِ بَيْنَهُمْ، أَنَّ الْمُزَارَعَةَ شَرِكَةُ عَمَلٍ وَإِجَارَةٍ، فَمَنْ غَلَّبَ الشَّرِكَةَ قَالَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لأِنَّ شَرِكَةَ الْعَمَلِ لاَ تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْعَمَلِ، وَمَنْ غَلَّبَ الإْجَارَةَ قَالَ: بِلُزُومِهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهَا تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ عَمَلٌ، وَتَلْزَمُ بِالْبَذْرِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ عَمَلٌ .
وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ - أَنَّ الْمُزَارَعَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ لأِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا الرَّسُولَ صلي الله عليه وسلم أَنْ يُقِرَّهُمْ بِخَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَكُونَ لِلرَّسُول صلي الله عليه وسلم شَطْرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ صلي الله عليه وسلم : «نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ لاَزِمًا لَمَا جَازَ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ وَلاَ جَعَلَ الْخِيَرَةَ لِنَفْسِهِ فِي مُدَّةِ إِقْرَارِهِمْ، وَ لأِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، وَلَوْ قَدَّرَ لَمَا تُرِكَ نَقْلُهُ، لأِنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ الإْخْلاَلُ بِنَقْلِهِ، وَعُمَرُ رضي الله عنه أَجْلاَهُمْ مِنَ الأْرْضِ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ مُدَّةٌ مُقَدَّرَةٌ لَمَا جَازَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْهَا، وَلأِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى جُزْءٍ مِنْ نَمَاءِ الْمَالِ فَكَانَ جَائِزًا كَالْمُضَارَبَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْمُزَارَعَةَ لاَزِمَةٌ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لأِنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَامَّةَ فِي الْعُقُودِ هِيَ اللُّزُومُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .
شُرُوطُ صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ
شُرُوطُ صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ بِالْبَذْرِ، أَوْ بِالْخَارِجِ مِنَ الأْرْضِ ، أَوْ بِالأْرْضِ ، أَوْ بِمَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْمُزَارَعَةُ، أَوْ بِالْمُدَّةِ.
أَوَّلاً: الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ:
9 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ مَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 28 وَمَا بَعْدَهَا).
ثَانِيًا: مَا يَخُصُّ الْبَذْرَ:
10 - الْبَذْرُ: هُوَ كُلُّ حَبٍّ يُزْرَعُ فِي الأْرْضِ وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، بِأَنْ يُبَيِّنَ جِنْسَهُ، وَنَوْعَهُ، وَوَصْفَهُ .
وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ إِعْلاَمَ جِنْسِ الأْجْرَةِ لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَلاَ يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا إِلاَّ بِبَيَانِ جِنْسِ الْبَذْرِ.
وَأَنَّ حَالَ الْمَزْرُوعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الزَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَرُبَّ زَرْعٍ يَزِيدُ فِي الأْرْضِ ، وَرُبَّ آخَرَ يَنْقُصُهَا، وَقَدْ يَكْثُرُ النُّقْصَانُ وَقَدْ يَقِلُّ فَوَجَبَ الْبَيَانُ وَالتَّحْدِيدُ، حَتَّى يَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إِلَى الْتِزَامِهِ.
وَإِذَا عَيَّنَ صَاحِبُ الأْرْضِ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الزَّرْعِ كَالْقُطْنِ أَوِ الْقَمْحِ أَوِ الأْرْزِ مَثَلاً وَجَبَ عَلَى الْمُزَارِعِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِزِرَاعَتِهِ، فَإِذَا خَالَفَ وَقَامَ بِزِرَاعَةِ نَوْعٍ آخَرَ خُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَإِمْضَائِهِ، لِعَدَمِ الْتِزَامِ الْمُزَارِعِ بِالشَّرْطِ الصَّحِيحِ.
أَمَّا لَوْ أَطْلَقَ صَاحِبُ الأْرْضِ ، وَلَمْ يُعَيِّنْ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الزَّرْعِ، بِأَنْ قَالَ لِلْمُزَارِعِ: ازْرَعْ فِيهَا مَا شِئْتَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا يَشَاءُ، لأِنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الأْمْرَ إِلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ بِالضَّرَرِ الَّذِي قَدْ يَنْجُمُ عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَرَضِيَ أَيْضًا بِأَنْ تَكُونَ حِصَّتُهُ النِّسْبَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أَيِّ مَحْصُولٍ تُنْتِجُهُ الأْرْضُ .
إِلاَّ أَنَّ لِرَبِّ الأْرْضِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَلاَّ يَزْرَعَ فِيهَا مَا يَضُرُّ بِأَرْضِهِ أَوْ شَجَرِهِ - إِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا شَجَرٌ - فَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ وَلاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، لأِنَّهُ شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.
(ر: شَرْطٌ ف 19، 20)
تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْبَذْرِ
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَحْدِيدِ مِقْدَارِ الْبَذْرِ الَّذِي يُزْرَعُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، لأِنَّ هَذَا تُحَدِّدُهُ حَاجَةُ الأْرْضِ إِلَيْهِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْبَذْرِ لأِنَّهَا مُعَاقَدَةٌ عَلَى عَمَلٍ، فَلَمْ تَجُزْ عَلَى غَيْرِ مَعْلُومِ الْجَنْسِ وَالْقَدْرِ كَالأْجْرَةِ .
الطَّرَفُ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْبَذْرُ
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْمُزَارِعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا مَعًا، فَوَجَبَ بَيَانُ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ، لأِنَّ عَدَمَ الْبَيَانِ يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَهِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ: يُحَكَّمُ الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ إِنِ اتَّحَدَ وَإِلاَّ فَسَدَ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ أَيٍّ مِنْهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا مَعًا، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ مُقَابِلَ الأْرْضِ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى كِرَاءِ الأْرْضِ بِمَمْنُوعٍ، وَهُوَ مُقَابَلَةُ الأْرْضِ بِطَعَامٍ كَالْعَسَلِ، أَوْ بِمَا تُنْبِتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَعَامًا كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ مِنْهُمَا مَعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ خَلْطِ مَا أَخَرَجَاهُ مِنْ بَذْرٍ.
فَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْخَلْطُ حَقِيقَةً وَلاَ حُكْمًا، وَهُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي بِهِ الْفَتْوَى، فَلَوْ بَذَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَذْرَهُ فِي جِهَةٍ أَوْ فَدَّانٍ غَيْرَ الآْخَرِ، جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ عِنْدَهُمْ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ أَنْ يَتَمَاثَلَ الْبَذْرَانِ جِنْسًا وَصِنْفًا، فَلَوْ أَخَرَجَ أَحَدُهُمَا قَمْحًا، وَالآْخَرُ شَعِيرًا - مَثَلاً - فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ لاَ تَصِحُّ، وَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا أَنْبَتَهُ بَذْرُهُ وَيَتَرَاجَعَانِ فِي الأْكْرِيَةِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَهُمْ.
وَفِي الْقَوْلِ الآْخَرِ لِسَحْنُونٍ - وَهُوَ قَوْلُ خَلِيلٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ - أَنَّهُ يُشْرَطُ الْخَلْطُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
فَالْخَلْطُ الْحَقِيقِيُّ يَكُونُ بِضَمِّ بَذْرِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى بَذْرِ صَاحِبِهِ ثُمَّ يُبْذَرُ الْجَمِيعُ فِي الأْرْضِ .
أَمَّا الْحُكْمِيُّ فَيَكُونُ بِأَنْ يَحْمِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَذْرَهُ إِلَى الأْرْضِ وَيَبْذُرَهُ بِهَا بِدُونِ تَمَيُّزٍ لأِحَدِ هِمَا عَنِ الآْخَرِ، فَإِنْ تَمَيَّزَ بَذْرُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الأْرْضِ انْتَفَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ لِكُلِّ مِنْهُمَا مَا أَنْبَتَهُ حَبُّهُ، وَيَتَرَاجَعَانِ فِي الأْكْرِيَةِ وَيَتَقَاصَّانِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الأْرْضِ ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُهُمْ، قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَهِيَ أَقْوَى دَلِيلاً.
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ اشْتِرَاطُهُ، قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأْصْحَابِ .
مَا يَخُصُّ الأْرْضَ (مَحَلُّ الْمُزَارَعَةِ):
14 - الْمَزْرُوعُ فِيهِ هُوَ: الأْرْضُ، وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا شُرُوطًا هِيَ:
أ - أَنْ تَكُونَ الأْرْضُ مَحَلَّ الْمُزَارَعَةِ مَعْلُومَةً أَيْ مُعَيَّنَةً تَعْيِينًا نَافِيًا لِلْجَهَالَةِ، فَإِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ .
ب - أَنْ تَكُونَ الأْرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ فِي مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، بِأَنْ كَانَتْ سَبِخَةً، أَوْ نَزَّةً، فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَيْهَا لاَ تَجُوزُ، لأِنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ اسْتِئْجَارٍ، وَالأْجْرَةُ فِيهَا بَعْضُ الْخَارِجِ، وَالأْرْضُ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ لاَ تَجُوزُ إِجَارَتُهَا، فَلاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهَا كَذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ فِي الْمُدَّةِ، وَلَكِنْ لاَ يُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا وَقْتَ التَّعَاقُدِ لِعَارِضٍ مُؤَقَّتٍ كَانْقِطَاعِ الْمَاءِ أَوْ فِي زَمَنِ الْفَيَضَانِ، أَوْ كَثْرَةِ الثُّلُوجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي هِيَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فِي مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ صَحِيحًا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
ج - التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الأْرْضِ وَالْعَامِلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ فِيهَا بِلاَ مَانِعٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ لَوِ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ أَوْ عَلَيْهِمَا مَعًا فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الأْرْضِ وَالْمُزَارِعِ
وَالتَّخْلِيَةُ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الأْرْضِ لِلْعَامِلِ:
سَلَّمْتُ إِلَيْكَ الأْرْضَ ، وَمِنَ التَّخْلِيَةِ أَنْ تَكُونَ الأْرْضُ فَارِغَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ قَدْ نَبَتَ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ بِأَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ بِمَجْرَى الْعَادَةِ لأِنَّ مَا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ عَادَةً لاَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُزَارَعَةِ .
جِوَازُ الْمُزَارَعَةِ بِالأْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ نَقْدًا
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الأْرْضُ مَمْلُوكَةً لِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَنْفَعَتِهَا فَقَطْ، وَعَلَى ذَلِكَ: لَوِ اسْتَأْجَرَ إِنْسَانٌ أَرْضًا مِنَ الْغَيْرِ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِمَبْلَغٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِهَذَا الْمُسْتَأْجَرِ أَنْ يَدْفَعَ هَذِهِ الأْرْضَ مُزَارَعَةً إِلَى شَخْصٍ آخَرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِعْيَارَ لِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَةُ الأْرْضِ مَمْلُوكَةً لِمَنْ يُزَارِعُ عَلَيْهَا، أَمَّا مِلْكِيَّةُ رِقْبَتِهَا فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِذَلِكَ .
خَامِسًا: مَا يَخُصُّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ:
16 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ مَقْصُودًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا إِجَارَةُ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الأْمْرُ الأْوَّلُ: مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ، لأِنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ لِيَزْرَعَ لَهُ أَرْضَهُ بِنِسْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْمَحْصُولِ.
الأْمْرُ الثَّانِي: مَنْفَعَةُ الأْرْضِ ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ، لأِنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلأْرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهَا يَدْفَعُهُ لِصَاحِبِهَا.
وَإِذَا اجْتَمَعَا فِي الاِسْتِئْجَارِ فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ.
أَمَّا مَنْفَعَةُ الْمَاشِيَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الآْلاَتِ اللاَّزِمَةِ لِلزِّرَاعَةِ فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِلْعَقْدِ، أَوْ مَقْصُودَةً بِذَاتِهَا، فَإِنْ جُعِلَتْ تَابِعَةً لَهُ جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَقْصُودَةً فَسَدَتْ.
وَوَجْهُ عَدَمِ جِوَازِ جَعْلِ مَنْفَعَةِ الْمَاشِيَةِ مَقْصُودَةً فِي الْعَقْدِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْعَقِدُ إِجَارَةً ثُمَّ تَتِمُّ شَرِكَةً، وَلاَ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْمَاشِيَةِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ، وَأَنَّ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَبَقَ - لأِنَّ الأْجْرَةَ مَعْدُومَةٌ وَهِيَ مَعَ انْعِدَامِهَا مَجْهُولَةٌ فَيَقْتَصِرُ جَوَازُهَا عَلَى الْمَحَلِّ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الآْلَةُ تَابِعَةً، فَإِذَا جُعِلَتْ مَقْصُودَةً يَرُدُّ إِلَى الْقِيَاسِ .
شُرُوطُ الْمُزَارَعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
18 - لاَ يُجِيزُ الشَّافِعِيَّةُ الْمُزَارَعَةَ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ عَلَى الْبَيَاضِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ النَّخِيلِ أَوِ الْعِنَبِ الَّذِي تَمَّتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ وَأَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِعَقْدِ الْمُسَاقَاةِ.
وَحَتَّى تَتَحَقَّقَ هَذِهِ التَّبَعِيَّةُ اشْتَرَطُوا مَا يَلِي:
أ - اتِّحَادُ الْعَامِلِ: وَمَعْنَى اتِّحَادِ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الْمُسَاقَاةِ هُوَ عَامِلَ الْمُزَارَعَةِ نَفْسَهُ، فَإِذَا كَانَ مُخْتَلِفًا لاَ يَجُوزُ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ، لأِنَّ إِفْرَادَ الْمُزَارَعَةِ بِعَامِلٍ يُخْرِجُهَا عَنِ التَّبَعِيَّةِ.
ب - تَعَسُّرُ الإْفْرَادِ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَتَعَسَّرَ إِفْرَادُ النَّخِيلِ أَوِ الْعِنَبِ مَحَلَّ الْمُسَاقَاةِ، وَإِفْرَادُ الْبَيَاضِ بِالزِّرَاعَةِ، لأِنَّ التَّبَعِيَّةَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ بِخِلاَفِ تَعَسُّرِ أَحَدِهِمَا.
ج - اتِّصَالُ الْعَقْدَيْنِ: وَمَعْنَاهُ أَنْ لاَ يَفْصِلَ الْعَاقِدَانِ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ التَّابِعَةِ لَهَا، بَلْ يَأْتِيَانِ بِهِمَا عَلَى الاِتِّصَالِ لِتَحْصُلَ التَّبَعِيَّةُ.
وَيُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْعَقْدِ بِأَنْ يَشْمَلَهُمَا عَقْدٌ وَاحِدٌ حَتَّى تَتَحَقَّقَ التَّبَعِيَّةُ، فَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الأْرْضِ لِلْعَامِلِ: سَاقَيْتُكَ عَلَى النِّصْفِ، فَقَالَ لَهُ: قَبِلْتُ، ثُمَّ زَارَعَهُ صَاحِبُ الأْرْضِ عَلَى الْبَيَاضِ، لاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ، لأِنَّ تَعَدُّدَ الْعَقْدِ يُزِيلُ التَّبَعِيَّةَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَفِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ لِحُصُولِهِمَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ.
د - تُقَدَّمُ الْمُسَاقَاةُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ عِنْدَ التَّعَاقُدِ: فَالأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ تَقَدُّمِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى الْمُزَارَعَةِ فَلاَ تَتَقَدَّمُ الْمُزَارَعَةُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِالْمُسَاقَاةِ عَقِبَهَا، لأِنَّ التَّابِعَ - الْمُزَارَعَةَ - لاَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَتْبُوعِ وَهُوَ الْمُسَاقَاةُ.
وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ، يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمُزَارَعَةِ عَلَى الْمُسَاقَاةِ وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى انْعِقَادِ الْمُسَاقَاةِ فَإِنْ عَقَدَا الْمُسَاقَاةَ بَعْدَهَا بَانَ صِحَّتُهَا، وَإِلاَّ لاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ .
الشُّرُوطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُزَارَعَةِ
19 - الشُّرُوطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُزَارَعَةِ هِيَ:
أ - شَرْطُ كَوْنِ الْمَحْصُولِ النَّاتِجِ مِنَ الأْرْضِ كُلِّهِ لأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانَ لِرَبِّ الأْرْضِ أَمْ كَانَ لِلْمُزَارِعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لأِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ.
ب - الشَّرْطُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ نَصِيبِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ يَشْتَرِطُ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ كَمِّيَّةً مُحَدَّدَةً مِنَ الْمَحْصُولِ، أَوْ زَرْعَ نَاحِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلِلآْخَرِ زَرْعُ النَّاحِيَةِ الأْخْرَى، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا لأِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعُودُ إِلَى جَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَالْمُضَارَبَةَ مَعَ جَهَالَةِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَالإْجَارَةَ مَعَ جَهَالَةِ الأْجْرَةِ ، كَمَا أَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَلاَّ تُخْرِجَ الأْرْضُ إِلاَّ الْقَدْرَ الَّذِي اشْتَرَطَهُ أَحَدُهُمَا لَهُ.
ج - شَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ وَحْدَهُ، أَوِ اشْتِرَاكُهُ مَعَ الْمَزَارِعِ فِي الْعَمَلِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالْمُزَارَعَةُ شَرِكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَرْضٍ وَعَمَلٍ وَنَفَقَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَوَجْهُ عَدَمِ جَوَازِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، أَنَّهُ يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الأْرْضِ وَالْمُزَارِعِ وَكُلُّ شَرْطٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ فَاسِدًا كَمَا سَبَقَ.
أَمَّا لَوِ اسْتَعَانَ الْمُزَارِعُ بِصَاحِبِ الأْرْضِ فِي الْعَمَلِ فَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ جَائِزًا عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ مِنْهُ فَقَطْ .
د - شَرْطُ كَوْنِ الْمَاشِيَةِ عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ ، لأِنَّ فِيهِ جَعْلَ مَنْفَعَةِ الْمَاشِيَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا مَقْصُودَةً فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَلاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
هـ - شَرْطُ الْحَمْلِ وَالْحِفْظِ عَلَى الْمُزَارِعِ بَعْدَ قِسْمَةِ الْمَحْصُولِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الأْرْضِ ، لأِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
و - شَرْطُ حِفْظِ الزَّرْعِ عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ قَبْلَ الْحَصَادِ، لأِنَّ هَذَا يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الأْرْضِ وَالْعَامِلِ وَهَذَا مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ - كَمَا سَبَقَ - نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
ز - شَرْطُ الْحَصَادِ وَالرَّفْعِ إِلَى الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسِ، وَالتَّذْرِيَةِ عَلَى الْعَامِلِ، لأِنَّ الزَّرْعَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذْ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَمَاؤُهُ وَصَلاَحُهُ .
وَالأْصْلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَحْتَاجُ الزَّرْعُ إِلَيْهِ قَبْلَ تَنَاهِيهِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَفَافِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى إِصْلاَحِهِ، مِنَ السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَقَلْعِ الْحَشَاوَةِ، وَحَفْرِ الأْنْهَارِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَتَسْوِيَةِ الْمُسَنَّاةِ فَعَلَى الْمُزَارِعِ، لأِنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الزَّرْعِ وَهُوَ النَّمَاءُ لاَ يَحْصُلُ بِدُونِهِ عَادَةً، فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ، فَيَكُونُ عَلَى الْمُزَارِعِ.
وَكُلُّ عَمَلٍ يَكُونُ بَعْدَ تَنَاهِي الزَّرْعِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَفَافِهِ قَبْلَ قِسْمَةِ الْحَبِّ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِخُلُوصِ الْحَبِّ وَتَنْقِيَتِهِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِ الْخَارِجِ، أَيْ يَتَحَمَّلُ مِنْ نَفَقَاتِهِ بِنِسْبَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمَحْصُولِ، لأِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ.
وَكُلُّ عَمَلٍ يَكُونُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مِنَ الْحَمْلِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لإِحْرَازِ الْمَقْسُومِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ، لأِنَّ ذَلِكَ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ دُونَ غَيْرِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَجَازَ شَرْطَ الْحَصَادِ وَالرَّفْعِ إِلَى الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ عَلَى الزَّارِعِ، لِتَعَامُلِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ .
ح - اشْتِرَاطُ صَاحِبِ الأْرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ عَمَلاً يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ إِلَى مَا بَعْدَ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ كَبِنَاءِ حَائِطٍ وَحَفْرِ النَّهَرِ الْكَبِيرِ وَرَفْعِ الْمُسَنَّاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ إِلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، لأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
ط - شَرْطُ الْكِرَابِ عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الأْرْضِ فَإِنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ لأِنَّهُ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَالْعَقْدُ فِي جَانِبِ رَبِّ الأْرْضِ ، يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا الشَّرْطُ بِعَدَمِ التَّخْلِيَةِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ الأْرْضِ فَلُزُومُ الْعَقْدِ فِي جَانِبِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الأْرْضِ وَالْكِرَابُ يَسْبِقُ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ فِي أَرْضٍ مَكْرُوبَةٍ (مَقْلُوبَةٍ) نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
ي - اشْتِرَاطُ الْبَذْرِ عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ وَالْعَامِلِ مَعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
ك - اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ لاَ يَأْخُذَ كُلٌّ مِنَ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِ، كَمَا سَبَقَ.
ل - شَرْطُ التِّبْنِ لِمَنْ لاَ يَكُونُ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، وَهَذَا لاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
الأْوَّلُ: أَنْ يَشْتَرِطَ صَاحِبُ الأْرْضِ وَالْمُزَارِعُ أَنْ يُقْسَمَ التِّبْنُ وَنَحْوُهُ كَالْحَطَبِ وَقَشِّ الأْرْزِ وَالدَّرِيسِ بَيْنَهُمَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، لأِنَّهُ مُقَرِّرٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، لأِنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ مِنَ الزَّرْعِ مِنْ مَعَانِيهِ وَلاَزِمٌ مِنْ لَوَازِمِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ .
الثَّانِي: أَنْ يَسْكُتَا عَنْهُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَفْسُدُ الْعَقْدُ، لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ التِّبْنِ وَالْحَبِّ مَقْصُودٌ مِنَ الْعَقْدِ، فَكَانَ السُّكُوتُ عَنِ التِّبْنِ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ عَنِ الْحَبِّ وَهَذَا مُفْسِدٌ بِالإْجْمَاعِ فَكَذَا هَذَا.
وَيَرَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَدَمَ الْفَسَادِ إِذَا سَكَتَا عَنْ ذِكْرِ التِّبْنِ، وَيَكُونُ التِّبْنُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ الأْرْضِ أَمِ الْمُزَارِعَ، لأِنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِبَذْرِهِ لاَ بِالشَّرْطِ، فَكَانَ شَرْطُ التِّبْنِ لأِحَدِ هِمَا وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: التِّبْنُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا تَبَعًا لِلْحَبِّ، لأِنَّ التِّبْنَ كَالْحَبِّ كُلٌّ مِنْهُمَا يُعْتَبَرُ مِنْ نِتَاجِ الأْرْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ وَالْمُزَارِعِ عَلَى حَسَبِ النِّسْبَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا لِتَقْسِيمِ الْحَبِّ ذَاتِهِ لأِنَّهُ تَابِعٌ لَهُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يَكُونَ التِّبْنُ لأِحَدِ هِمَا دُونَ الآْخَرِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ جَازَ هَذَا الشَّرْطُ وَيَكُونُ لَهُ، لأِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لِكَوْنِهِ نَمَاءُ مِلْكِهِ فَالشَّرْطُ لاَ يَزِيدُهُ إِلاَّ تَأْكِيدًا.
وَإِنْ شَرَطَاهُ لِمَنْ لاَ بَذْرَ لَهُ فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، لأِنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْبَذْرِ لِلتِّبْنِ بِالْبَذْرِ لاَ بِالشَّرْطِ، لأِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَنَمَاءُ مِلْكِ الإْنْسَانِ مِلْكُهُ، فَصَارَ شَرْطُ كَوْنِ التِّبْنِ لِمَنْ لاَ بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْحَبِّ لَهُ، وَذَا مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، كَذَا هَذَا .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التِّبْنَ يُقْسَمُ بَيْنَ صَاحِبِ الأْرْضِ وَالْمُزَارِعِ عَلَى مَا تَعَامَلاَ عَلَيْهِ، لأِنَّ التِّبْنَ كَالْحَبِّ فَيُقْسَمُ عَلَيْهِمَا كَمَا يُقْسَمُ الْحَبُّ، وَ لأِنَّهُ رُبَّمَا يُصَابُ الزَّرْعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلاَ تُخْرِجُ الأْرْضُ إِلاَّ التِّبْنَ، فَلَوِ اسْتَقَلَّ بِهِ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ الآْخَرَ لَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخَارِجِ شَيْئًا، وَهَذَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ كَمَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ، أَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ كَمِّيَّةً مُعَيَّنَةً مِنَ الْمَحْصُولِ .
صُوَرٌ مِنَ الْمُزَارَعَةِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ صُوَرٍ مِنَ الْمُزَارَعَةِ: مِنْهَا الصَّحِيحَةُ، وَهِيَ مَا اسْتَوْفَتْ شُرُوطَ صِحَّتِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا، وَمِنْهَا الْفَاسِدَةُ، وَهِيَ الَّتِي فَقَدَتْ شَرْطًا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ.
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ هَذِهِ الصُّوَرِ.
صُوَرٌ مِنَ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ
21 - أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِنْ أَرْضٍ وَبَذْرٍ وَمَاشِيَةٍ وَآلاَتٍ وَنَفَقَاتٍ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
وَوَجْهُ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ صَاحِبَ الأْرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ لاَ غَيْرُ، لِيَعْمَلَ لَهُ فِي أَرْضِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا، الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يَنْعَقِدَ بِلَفْظِ الشَّرِكَةِ، فَإِنْ عَقَدَا بِلَفْظِ الإْجَارَةِ لاَ تَصِحُّ لأِنَّهَا إِجَارَةٌ بِجُزْءٍ مَجْهُولٍ، وَإِنْ أَطْلَقَا الْقَوْلَ فَقَدْ حَمَلَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى الإْجَارَةِ فَمَنَعَهَا، وَحَمَلَهَا سَحْنُونٌ عَلَى الشَّرِكَةِ فَأَجَازَهَا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الأْوَّلُ أَيْ: حَمْلُهَا عَلَى الإْجَارَةِ ، فَلاَ تَجُوزُ.
22 - أَنْ تَكُونَ الأْرْضُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الأْرْضِ وَالْعَمَلُ مِنَ الْعَامِلِ كَانَتِ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةً وَهَذَا هُوَ الأْصْلُ فِي الْمُزَارَعَةِ فَقَدْ عَامَلَ الرَّسُولُ صلي الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى هَذَا.
وَوَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْعَامِلَ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلأْرْضِ لاَ غَيْرُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ .
23 - أَنْ تَكُونَ الأْرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْعَمَلُ وَالْمَاشِيَةُ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ وَهُوَ الْمُزَارِعُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
وَوَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ لِلْعَامِلِ لاَ غَيْرُ مَقْصُودًا، فَأَمَّا الْبَذْرُ فَغَيْرُ مُسْتَأْجَرٍ مَقْصُودًا وَلاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الأْجْرَةِ بَلْ هِيَ تَوَابِعُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ، لأِنَّهُ آلَةٌ لِلْعَمَلِ فَلاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْهُ، وَ لأِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَانَ جَارِيًا مَجْرَى الصِّفَةِ لِلْعَمَلِ، فَكَانَ الْعَقْدُ عَقْدًا عَلَى عَمَلٍ جَيِّدٍ، وَالأْوْصَافُ لاَ قِسْطَ لَهَا مِنَ الْعِوَضِ فَأَمْكَنَ أَنْ تَنْعَقِدَ إِجَارَةً ثُمَّ تَتِمَّ شَرِكَةً بَيْنَ مَنْفَعَةِ الأْرْضِ وَمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ .
24 - أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْجَمِيعِ، أَرْضًا وَعَمَلاً وَبَذْرًا وَمَاشِيَةً وَنَفَقَاتٍ، لأِنَّ أَحَدَهُمَا لاَ يَفْضُلُ صَاحِبَهُ بِشَيْءِ.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ .
وَوَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، نَصَّ عَلَيْهِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: وَإِذَا كَانَتِ الأْرْضُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاشْتَرَطَا عَلَى أَنْ يَعْمَلاَ فِيهَا جَمِيعًا سَنَتَهُمَا هَذِهِ بِبَذْرِهِمَا وَبَقَرِهِمَا، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ جَائِزٌ، لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامِلٌ فِي نَصِيبِهِ مِنَ الأْرْضِ بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِصَاحِبِهِ شَيْئًا مِنَ الْخَارِجِ مِنْهُ، فَإِنِ اشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا ثَلاَثًا كَانَ فَاسِدًا، لأِنَّ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَ كَأَنَّهُ دَفَعَ نَصِيبَهُ مِنَ الأْرْضِ وَالْبَذْرِ إِلَى صَاحِبِهِ مُزَارَعَةً بِثُلُثِ الْخَارِجِ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ هُوَ مَعَهُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَلأِنَّ مَا شُرِطَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ يَكُونُ أُجْرَةً لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، فَلاَ يَسْتَوْجِبُ الأْجْرَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا وَالْخَارِجُ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا، لأِنَّ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَ الْخَارِجِ كَأَنَّهُ أَعَارَ شَرِيكَهُ ثُلُثَ نَصِيبِهِ مِنَ الأْرْضِ وَأَعَانَهُ بِبَعْضِ الْعَمَلِ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَوِ اشْتَرَطَا أَنَّ الْخَارِجَ نِصْفَانِ كَانَ فَاسِدًا، لأِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ ثُلُثُ الْبَذْرِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ بَعْضَ الْخَارِجِ مِنْ بَذْرِ شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِعَمَلِهِ وَالْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لاَ يَسْتَوْجِبُ الأْجْرَ عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ هُوَ يَصِيرُ دَافِعًا سُدُسَ الأْرْضِ مِنْ شَرِيكِهِ مُزَارَعَةً بِجَمِيعِ الْخَارِجِ مِنْهُ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، ثُمَّ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِمَا، وَعَلَى صَاحِبِ ثُلُثَيِ الْبَذْرِ أَجْرُ مِثْلِ سُدُسِ الأْرْضِ لِشَرِيكِهِ، لأِنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الأْرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ الزَّرْعِ طَيِّبًا لاَ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، لأِنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا سُدُسُ الزَّرْعِ فَإِنَّهُ يُدْفَعُ مِنْهُ رُبُعُ بَذْرِهِ الَّذِي بَذَرَهُ، وَمَا غَرِمَ مِنَ الأْجْرِ وَالنَّفَقَةِ فِيهِ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، لأِنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ الزَّرْعِ طَيِّبًا لاَ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ لأِنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَوْ كَانَتِ الأْرْضُ لِثَلاَثَةٍ فَاشْتَرَكُوا عَلَى أَنْ يَزْرَعُوهَا بِبَذْرِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَالِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ، لأِنَّ أَحَدَهُمْ لاَ يَفْضُلُ صَاحِبَيْهِ بِشَيْءٍ .
25 - إِذَا قَابَلَ بَذْرَ أَحَدِهِمَا عَمَلٌ مِنَ الآْخَرِ، وَكَانَتِ الأْرْضُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا بِمِلْكٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً، وَتَسَاوَتْ قِيمَةُ الْعَمَلِ وَالْبَذْرِ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ .
26 - إِذَا قَابَلَ الأْرْضَ وَبَعْضَ الْبَذْرِ عَمَلٌ مِنَ الآْخَرِ مَعَ بَعْضِ الْبَذْرِ، نَصَّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ .
وَشَرْطُ صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ لاَ يَنْقُصَ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِلُ مِنَ الرِّبْحِ عَنْ نِسْبَةِ بَذْرِهِ بِأَنْ زَادَ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى بَذْرِهِ أَوْ سَاوَاهُ عَلَى الأْقَلِّ.
مِثَالُ الزِّيَادَةِ: أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا الأْرْضَ وَثُلُثَيِ الْبَذْرِ، وَالثَّانِي الْعَمَلَ وَثُلُثَ الْبَذْرِ، عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلٌّ نِصْفَ الرِّبْحِ، فَفِي هَذَا الْمِثَالِ يَكُونُ الْعَامِلُ قَدْ أَخَذَ أَزْيَدَ مِنْ نِسْبَةِ مَالِهِ مِنَ الْبَذْرِ فَتَكُونُ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةً.
وَمِثَالُ الْمُسَاوَاةِ: أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الأْرْضِ الثُّلُثَيْنِ مِنَ الرِّبْحِ وَيَأْخُذَ الْعَامِلُ الثُّلُثَ، فَفِي هَذَا الْمِثَالِ يَكُونُ الْعَامِلُ قَدْ أَخَذَ مَا يُسَاوِي مِثْلَ نِسْبَةِ مَالِهِ مِنَ الْبَذْرِ فَتَكُونُ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةً كَذَلِكَ.
أَمَّا لَوْ أَخَذَ الْعَامِلُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَكُونُ فَاسِدَةً، لأِنَّهُ أَخَذَ أَقَلَّ مِنْ نِسْبَةِ مَالِهِ مِنَ الْبَذْرِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ لاَ تَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأِنَّ الْبَذْرَ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا كَمَا سَبَقَ.
27 - أَنْ تَكُونَ الأْرْضُ وَالْمَاشِيَةُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْعَمَلُ وَالْبَذْرُ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لأِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الأْرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْ جَانِبٍ جَازَ، وَجُعِلَتْ مَنْفَعَةُ الْمَاشِيَةِ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ، فَكَذَا إِذَا كَانَتِ الأْرْضُ وَالْمَاشِيَةُ مِنْ جَانِبٍ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ، وَتُجْعَلُ مَنْفَعَةُ الدَّوَابِّ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الأْرْضِ .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لاَ تَجُوزُ لأِنَّ الْعَامِلَ هُنَا يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلأْرْضِ وَالْمَاشِيَةِ جَمِيعًا مَقْصُودًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ، لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ هُنَا لاِخْتِلاَفِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، لأِنَّ مَنْفَعَةَ الْمَاشِيَةِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الأْرْضِ فَبَقِيَتْ أَصْلاً بِنَفْسِهَا، فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا لِلْمَاشِيَةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ أَصْلاً وَمَقْصُودًا، وَاسْتِئْجَارُ الْمَاشِيَةِ مَقْصُودًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ لاَ يَجُوزُ.
صُوَرٌ مِنَ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ:
28 - أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ وَالدَّوَابُّ مِنْ جَانِبٍ، وَالأْرْضُ وَالْعَمَلُ مِنَ الْجَانِبِ، الآْخَرِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لأِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلأْرْضِ وَالْعَامِلِ مَعًا بِبَعْضِ الْمَحْصُولِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الأْرْضِ وَالْعَامِلِ مَعًا فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ، لأِنَّهُ عَلَى خِلاَفِ مَوْرِدِ الأْصْلِ.
29 - أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ طَرَفٍ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِنَ الطَّرَفِ، الآْخَرِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَوَجْهُ فَسَادِ هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ وَجْهُ فَسَادِ الصُّورَةِ الأْولَى، حَيْثُ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الأْرْضِ وَالْعَمَلِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا عَلَى خِلاَفِ مَوْرِدِ الشَّرْعِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْلُ بِالْجِوَازِ فِي الصُّورَتَيْنِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، أَنَّ اسْتِئْجَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ عِنْدَ الاِنْفِرَادِ فَكَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الاِجْتِمَاعِ.
30 - أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْبَذْرِ مِنَ الْمُزَارِعِ، وَالْبَعْضُ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَوَجْهُ فَسَادِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا صَاحِبَهُ فِي قَدْرِ بَذْرِهِ، فَيَجْتَمِعُ اسْتِئْجَارُ الأْرْضِ وَالْعَامِلِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ.
وَوَجْهُ فَسَادِهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْبَذْرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَامِلِ طِبْقًا لِظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، لأِنَّ الْمَالَ كُلَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ كَالْمُضَارَبَةِ.
وَلَكِنْ هَذِهِ الصُّورَةُ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لأِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْتَرِكَ صَاحِبُ الأْرْضِ وَالْمُزَارَعُ فِي الْبَذْرِ كَمَا سَبَقَ .
31 - أَنْ تَكُونَ الأْرْضُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْبَذْرُ وَالْمَاشِيَةُ مِنْ جَانِبٍ، بِأَنْ دَفَعَ صَاحِبُ الأْرْضِ أَرْضَهُ إِلَى الْمُزَارِعِ لِيَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَمَاشِيَتِهِ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنَ الأْرْضِ فَثُلُثُهُ لِصَاحِبِ الأْرْضِ ، وَثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَالْمَاشِيَةِ، وَثُلُثُهُ لِذَلِكَ الْعَامِلِ الآْخَرِ، هَذِهِ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ صَاحِبِ الأْرْضِ ، وَالْمُزَارِعُ الأْوَّلُ، وَفَاسِدَةٌ فِي حَقِّ الْمُزَارِعِ الثَّانِي، وَيَكُونُ ثُلُثُ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الأْرْضِ وَثُلُثَاهُ لِلْمَزَارِعِ الأْوَّلِ ، وَلِلْعَامِلِ الآْخَرِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ الْمُزَارَعَةُ فِي حَقِّ الْكُلِّ، لأِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ وَهُوَ الْمُزَارِعُ الأْوَّلُ جَمَعَ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الأْرْضِ وَالْعَامِلِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ بِكَوْنِهِ خِلاَفَ مَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَمَعَ ذَلِكَ حُكِمَ بِصِحَّتِهَا فِي حَقِّ الأْرْضِ وَالْمُزَارِعِ الأْوَّلِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لأِنَّ الْعَقْدَ فِيمَا بَيْنَ صَاحِبِ الأْرْضِ وَالْمُزَارِعِ الأْوَّلِ وَقَعَ اسْتِئْجَارًا لِلأْرْضِ لاَ غَيْرُ وَهَذَا جَائِزٌ، وَفِيمَا بَيْنَ الْمُزَارِعَيْنِ وَقَعَ اسْتِئْجَارُ الأْرْضِ وَالْعَامِلِ جَمِيعًا وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَقْدِ الْوَاحِدِ جِهَتَانِ، جِهَةُ الصِّحَّةِ وَجِهَةُ الْفَسَادِ خُصُوصًا فِي حَقِّ شَخْصَيْنِ، فَيَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا وَفَاسِدًا فِي حَقِّ الآْخَرِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الْبَذْرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَقَعُ صَحِيحَةً فِي حَقِّ الْجَمِيعِ وَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، لأِنَّ صَاحِبَ الأْرْضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلَيْنِ مَعًا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْعَامِلَيْنِ لاَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ كَانَ النَّمَاءُ عَلَى الشَّرْطِ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ .
32 - إِذَا قَالَ صَاحِبُ الأْرْضِ لِرَجُلٍ: أَنَا أَزْرَعُ الأْرْضَ بِبَذْرِي، وَعَوَامِلِي، وَيَكُونُ سَقْيُهَا مِنْ مَائِكَ، وَالزَّرْعُ بَيْنَنَا، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ تَصِحُّ، لأِنَّ مَوْضِعَ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالأْرْضُ مِنَ الآْخَرِ، وَلَيْسَ مِنْ صَاحِبِ الْمَاءِ هُنَا أَرْضٌ وَلاَ عَمَلٌ، لأِنَّ الْمَاءَ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُشْتَرَى وَلاَ يُسْتَأْجَرُ، فَكَيْفَ تَصِحُّ بِهِ الْمُزَارَعَةُ؟
وَقَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ كُلٌّ مِنَ الْقَاضِي وَابْنُ قُدَامَةَ، وَعَلَّلَ الأْخِيرُ هَذَا الاِخْتِيَارَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ.
وَالثَّانِيَةُ: تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ، لأِنَّ الْمَاءَ أَحَدُ الأْشْيَاءِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا الزَّرْعُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا كَالأْرْضِ وَالْعَمَلِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَبُو بَكْرٍ وَنَقَلَهَا عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ وَحَرْبٌ .
33 - إِذَا قَالَ صَاحِبُ الأْرْضِ لآِخَرَ: أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي هَذِهِ بِنِصْفِ بَذْرِكَ وَنِصْفِ مَنْفَعَتِكَ وَمَنْفَعَةِ مَاشِيَتِكَ، وَأَخْرَجَ الْمُزَارِعُ الْبَذْرَ كُلَّهُ لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ، لأِنَّ الْمَنْفَعَةَ مَجْهُولَةٌ وَإِذَا جُهِلَتْ فَسَدَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَهَا أُجْرَةً لأِرْضٍ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ، وَيَكُونُ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِلْمُزَارِعِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الأْرْضِ .
وَإِنْ أَمْكَنَ عِلْمُ الْمَنْفَعَةِ وَضَبْطُهَا بِمَا لاَ تَخْتَلِفُ مَعَهُ مَعْرِفَةُ الْبَذْرِ جَازَ وَكَانَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا.
وَقِيلَ: لاَ يَصِحُّ أَيْضًا، لأِنَّ الْبَذْرَ عِوَضٌ فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَبِيعًا وَمَا حَصَلَ فِيهِ قَبْضٌ.
وَإِنْ قَالَ لَهُ: آجَرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي بِنِصْفِ مَنْفَعَتِكَ وَمَنْفَعَةِ مَاشِيَتِكَ، وَأَخْرَجَا الْبَذْرَ مَعًا، فَهِيَ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ، إِلاَّ أَنَّ الزَّرْعَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، نَصَّ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ .
34 - إِذَا اشْتَرَكَ أَرْبَعَةٌ فِي عَقْدِ مُزَارَعَةٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمُ الأْرْضُ، وَمِنَ الثَّانِي الْمَاشِيَةُ، وَمِنَ الثَّالِثِ الْبَذْرُ، وَمِنَ الرَّابِعِ الْعَمَلُ فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الصُّورَةِ .
وَلَوِ اشْتَرَكَ ثَلاَثَةٌ: مِنْ أَحَدِهِمُ الأْرْضُ، وَمِنَ الثَّانِي الْبَذْرُ، وَمِنَ الثَّالِثِ الْمَاشِيَةُ وَالْعَمَلُ، عَلَى أَنْ يُقْسَمَ الْمَحْصُولُ بَيْنَهُمْ فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ .
وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَذَا الْعَقْدُ جَائِزٌ .
آثَارُ الْمُزَارَعَةِ
تَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ آثَارٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ صِحَّتِهَا أَوْ فَسَادِهَا.
أَوَّلاً: الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ
35 - إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ انْعَقَدَتْ صَحِيحَةً وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الآْثَارُ الآْتِيَةُ:
أ - عَلَى الْمُزَارِعِ كُلُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُزَارَعَةِ مِمَّا يَحْتَاجُ الزَّرْعُ إِلَيْهِ لِنَمَائِهِ وَصَلاَحِ حَالِهِ، كَالرَّيِّ وَالْحِفْظِ وَتَطْهِيرِ الْمَرَاوِي الدَّاخِلِيَّةِ وَالتَّسْمِيدِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لأِنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ قَدْ تَنَاوَلَ هَذِهِ الأْشْيَاءَ فَيَكُونُ مُلْزَمًا بِهَا.
ب - عَلَى الْمُزَارِعِ تَقْلِيبُ الأْرْضِ بِالْحَرْثِ (الْكِرَابِ) إِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، لأِنَّهُ شَرْطٌ صَحِيحٌ فَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ وَلَمْ يَشْتَرِطَاهُ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ أَيْضًا إِنْ كَانَتِ الأْرْضُ لاَ تُخْرِجُ زَرْعًا أَصْلاً بِدُونِهِ، أَوْ كَانَ مَا تُخْرِجُهُ قَلِيلاً لاَ يُقْصَدُ مِثْلُهُ بِالْعَمَلِ، لأِنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ يَقَعُ عَلَى الزِّرَاعَةِ الْمُعْتَادَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأْرْضُ مِمَّا تُخْرِجُ الزَّرْعَ بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى الْحَرْثِ زَرْعًا مُعْتَادًا يُقْصَدُ مِثْلُهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمُزَارِعُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
وَعَلَى هَذَا إِذَا امْتَنَعَ الْمُزَارِعُ عَنْ سَقْيِ الأْرْضِ بِالْمَاءِ، وَقَالَ: أَتْرُكُهَا حَتَّى تُسْقَى مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا لاَ يَكْتَفِي بِمَاءِ الْمَطَرِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّيِّ بِالْمَاءِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، لأِنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ يَقَعُ عَلَى الزِّرَاعَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيهِ مَاءُ الْمَطَرِ، وَيَخْرُجُ زَرْعًا مُعْتَادًا بِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُلْزَمُ الْعَامِلُ بِمَا فِيهِ صَلاَحُ الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ مِنَ السَّقْيِ وَالْحَرْثِ وَنَحْوِهِمَا .
ج - عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ تَسْلِيمُهَا إِلَى الْمُزَارِعِ لِيَزْرَعَهَا أَوْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ بِهَا نَبَاتٌ، لأِنَّ عَدَمَ التَّسْلِيمِ يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الأْرْضِ وَالْعَامِلِ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ.
د - عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ ، الأْعْمَالُ الأْسَاسِيَّةُ الَّتِي يَبْقَى أَثَرُهَا وَمَنْفَعَتُهَا إِلَى مَا بَعْدَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، كَبِنَاءِ حَائِطٍ وَإِجْرَاءِ الأْنْهَارِ الْخَارِجِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ .
هـ - عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ خَرَاجُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْمُزَارِعِ، وَلاَ دَفْعُهُ مِنَ الْمَحْصُولِ وَالْبَاقِي يُقْسَمُ عَلَيْهِمَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْخَرَاجَ مَبْلَغٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَالِ، فَاشْتِرَاطُ دَفْعِ هَذَا الْمَبْلَغِ مِنَ الْخَارِجِ مِنَ الأْرْضِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الأْرْضِ ، وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، لأِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّيعِ مَعَ حُصُولِهِ، لِجَوَازِ أَلاَّ يَحْصُلَ إِلاَّ ذَلِكَ الْقَدْرُ أَوْ دُونَهُ.
و - عَلَى الْمُزَارِعِ وَصَاحِبِ الأْرْضِ مَعًا، كُلُّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّرْعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا كَثَمَنِ السَّمَادِ وَقَلْعِ الْحَشَائِشِ الْمُضِرَّةِ، وَعَلَيْهِمَا أَيْضًا أُجْرَةُ الْحَصَادِ، وَحَمْلُ الْمَحْصُولِ إِلَى الْجُرْنِ، وَالدِّيَاسُ، وَالتَّذْرِيَةُ، لأِنَّ هَذِهِ الأْعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ الْمُزَارَعَةِ حَتَّى يَخْتَصَّ بِهَا الْمُزَارِعُ وَحْدَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذِهِ الأْشْيَاءَ الأْخِيرَةَ عَلَى الْمُزَارِعِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
ز - يُقْسَمُ مَحْصُولُ الأْرْضِ بَيْنَ صَاحِبِهَا وَالْمُزَارِعِ عَلَى حَسَبِ الاِتِّفَاقِ الْمُبْرَمِ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُزَارِعِ وَصَاحِبِ الأْرْضِ ، حَمْلُ نَصِيبِهِ مِنَ الْمَحْصُولِ وَحِفْظُهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، لأِنَّهُ بِانْتِهَاءِ قِسْمَةِ الْمَحْصُولِ يَنْتَهِي عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ، فَكُلُّ عَمَلٍ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَحَمَّلُ صَاحِبُهُ نَفَقَاتِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
ح - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ مَا جَازَ إِنْشَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ جَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ فَلاَ، أَمَّا الْحَطُّ فَجَائِزٌ فِي الْحَالَيْنِ مَعًا .
وَعَلَى هَذَا فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمُزَارِعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حَصَادِ الزَّرْعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ.
وَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْمُزَارِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ .
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَصَادِ - وَالْبَذْرِ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ - فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لاَ تَجُوزُ مِنَ الْعَامِلِ، وَإِنَّمَا يَنْقَسِمُ الْمَحْصُولُ عَلَى حَسَبِ الاِتِّفَاقِ الْمُبْرَمِ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ زَادَ صَاحِبُ الأْرْضِ فِي نَصِيبِ الْمُزَارِعِ، وَرَضِيَ بِهَا الْمُزَارِعُ، جَازَتِ الزِّيَادَةُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُزَارِعَ فِي الْحَالَةِ الأْولَى زَادَ عَلَى الأْجْرَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ لأِنَّهُ مَا لَوْ أَنْشَآ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ بَعْدَ الْحَصَادِ لاَ يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِيبِ لاَ تَجُوزُ بَعْدُ، أَمَّا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَدْ حَطَّ صَاحِبُ الأْرْضِ مِنَ الأْجْرَةِ ، وَالْحَطُّ لاَ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
هَذَا إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ فَزَادَ صَاحِبُ الأْرْضِ مِنْ نَصِيبِ الْمُزَارِعِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لاَ تَجُوزُ، وَلَكِنْ إِنْ زَادَ الْمُزَارِعُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الأْرْضِ جَازَتِ الزِّيَادَةُ لِمَا ذُكِرَ.
هَذَا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ أَيِّهِمَا بَعْدَ حَصَادِ الزَّرْعِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ أَيٍّ مِنْهُمَا، لأِنَّ الْوَقْتَ يَحْتَمِلُ إِنْشَاءَ الْعَقْدِ، فَيَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ، بِخِلاَفِ الأْمْرِ بَعْدَ الْحَصَادِ فَإِنَّهُ لاَ يَحْتَمِلُ إِنْشَاءَ الْعَقْدِ، فَلاَ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
أَمَّا الْحَطُّ فَجَائِزٌ فِي الْحَالَيْنِ أَيْ قَبْلَ الْحَصَادِ وَبَعْدَهُ.
ط - إِذَا لَمْ تُخْرِجُ الأْرْضُ شَيْئًا فَلاَ يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا تُجَاهَ الآْخَرِ أَيَّ شَيْءٍ، لاَ أَجْرَ الْعَمَلِ لِلْعَامِلِ وَلاَ أُجْرَةَ الأْرْضِ لِصَاحِبِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ أَمْ كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الأْرْضِ ، لأِنَّهَا إِمَّا إِجَارَةٌ أَوْ شَرِكَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةً فَالْوَاجِبُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ مِنْهَا هُوَ الْمُسَمَّى - وَهُوَ مَعْدُومٌ - فَلاَ يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَتْ شَرِكَةً فَالشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ هُنَا خَارِجٌ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
ثَانِيًا: الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ
36 - إِذَا فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ لِفِقْدَانِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الآْثَارُ التَّالِيَةُ:
أ - عَدَمُ وُجُوبِ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُزَارَعَةِ عَلَى الْمُزَارِعِ، لأِنَّ وُجُوبَهُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ، فَلاَ يُطَالَبُ الْمُزَارِعُ بِأَيِّ عَمَلٍ مِنَ الأْعْمَالِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ.
ب - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْبَذْرِ الْخَارِجَ كُلَّهُ مِنَ الأْرْضِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُهُ هُوَ الْمُزَارِعَ أَمْ رَبَّ الأْرْضِ وَعَلَيْهِ الأْجْرَةُ لِصَاحِبِهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْبَذْرِ الْخَارِجَ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ، لاَ بِالشَّرْطِ لِوُقُوعِ الاِسْتِغْنَاءِ بِالْمِلْكِ عَنِ الشَّرْطِ، وَاسْتِحْقَاقُ الأْجْرِ الْخَارِجِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الْعَقْدُ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ وَلاَ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الأْرْضِ أَخَذَ الْخَارِجَ كُلَّهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ صَاحِبَ الأْرْضِ يَكُونُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ، فَإِذَا فَسَدَتِ الإْجَارَةُ وَجَبَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ كُلَّهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الأْرْضِ أُجْرَةُ مِثْلِ أَرْضِهِ، وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ أَيْضًا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْعَامِلَ يَكُونُ مُسْتَأْجِرًا لِلأْرْضِ ، فَإِذَا فَسَدَتِ الإْجَارَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَجْرِ الأْرْضِ لِصَاحِبِهَا.
وَهَلْ يَطِيبُ النَّاتِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ عِنْدَمَا يَسْتَحِقُّهُ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ:
إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الأْرْضِ وَاسْتَحَقَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ وَغَرِمَ لِلْعَامِلِ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ، فَإِنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ مِنَ الأْرْضِ يَكُونُ طَيِّبًا لَهُ، لأِنَّهُ نَاتِجٌ مِنْ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ - فِي مِلْكِهِ - وَهُوَ الأْرْضُ - نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ، وَاسْتَحَقَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ وَغَرِمَ لِصَاحِبِ الأْرْضِ أَجْرَ مِثْلِ أَرْضِهِ، فَإِنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لاَ يَكُونُ طَيِّبًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِنَ الزَّرْعِ قَدْرَ بَذْرِهِ وَقَدْرَ أَجْرِ مِثْلِ الأْرْضِ وَيَطِيبُ لَهُ ذَلِكَ، لأِنَّهُ سُلِّمَ لَهُ بِعِوَضٍ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى ذَلِكَ، لأِنَّهُ وَإِنْ تَوَلَّدَ مِنْ بَذْرِهِ لَكِنْ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الْخَبَثِ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
ج - وَلاَ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ مَا لَمْ يُوجَدِ اسْتِعْمَالٌ لِلأْرْضِ ، لأِنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ إِجَارَةٍ، وَالأْجْرَةُ فِي الإْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ لاَ تَجِبُ إِلاَّ بِحَقِيقَةِ الاِسْتِعْمَالِ وَلاَ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ، لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ فِيهَا حَقِيقَةً، إِذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْمَوَانِعِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلاَفِ الإْجَارَةِ الصَّحِيحَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
د - إِذَا اسْتَعْمَلَ الْمُزَارِعُ الأْرْضَ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
هـ - وَأَجْرُ الْمِثْلِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ يَجِبُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَالِغًا مَا بَلَغَ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الأْجْرَةُ وَهِيَ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُسَمَّاةً فِيهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَهُمَا مَعًا .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمُزَارَعَةُ إِذَا وَقَعَتْ فَاسِدَةً بِأَنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا فَإِنَّهَا تُفْسَخُ قَبْلَ الْعَمَلِ، فَإِنْ فَاتَتْ بِالْعَمَلِ وَتَسَاوَيَا فِيهِ فَإِنَّ الزَّرْعَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمَا، لأِنَّهُ تَكَوَّنَ عَنْهُ وَيَتَرَادَّانِ غَيْرَ الْعَمَلِ، كَمَا لَوْ كَانَتِ الأْرْضُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْبَذْرُ مِنَ الآْخَرِ، فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْبَذْرِ عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ بِمِثْلِ نِصْفِ بَذْرِهِ، وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الأْرْضِ عَلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ بِأُجْرَةِ نِصْفِ أَرْضِهِ.
وَإِذَا وَقَعَتْ فَاسِدَةً وَلَمْ يَتَكَافَآ فِي الْعَمَلِ، بَلْ كَانَ الْعَامِلُ أَحَدَهُمَا فَقَطْ، فَالزَّرْعُ كُلُّهُ يَكُونُ لِلْعَامِلِ، لأِنَّهُ نَشَأَ عَنْ عَمَلِهِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الأْرْضِ لِصَاحِبِهَا وَأُجْرَةُ الْبَقَرِ لِصَاحِبِهِ أَوْ مَكِيلَةُ الْبَذْرِ لِصَاحِبِهِ إِنْ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ صَاحِبَ الأْرْضِ ، لَكِنَّ شَرْطَ اخْتِصَاصِ الْعَامِلِ بِالزَّرْعِ: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ الْعَمَلِ إِمَّا بَذْرٌ وَالأْرْضُ لِلآْخَرِ، أَوْ أَرْضٌ وَالْبَذْرُ لِلآْخَرِ، وَإِذَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَى عَمَلِهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْضٍ أَوْ بَذْرٍ أَوْ بَقَرٍ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، لأِنَّهُ أَجِيرٌ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَتِ الأْرْضُ وَالْبَذْرُ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَالْعَمَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَالزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ، سَوَاءٌ كَانَ مُخْرِجُ الْبَذْرِ صَاحِبَ الأْرْضِ أَوْ غَيْرَهُ، وَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ هُوَ مُخْرِجَ الْبَذْرِ كِرَاءَ أَرْضِ صَاحِبهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُخْرِجَ الْبَذْرِ فَعَلَيْهِ لَهُ مِثْلُ بَذْرِهِ.
قَالَ الْعَدَوِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ: إِذَا فَاتَتْ بِالْعَمَلِ سِتَّةَ أَقْوَالٍ:
الرَّاجِحُ مِنْهَا أَنَّهُ لِمَنِ اجْتَمَعَ لَهُ شَيْئَانِ مِنْ ثَلاَثَةِ أُصُولٍ: الْبَذْرِ وَالأْرْضِ وَالْعَمَلِ، فَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً وَاجْتَمَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْئَانِ مِنْهَا أَوِ انْفَرَدَ كُلٌّ وَاحِدٍ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْهَا كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلاَثًا، وَإِنِ اجْتَمَعَ لِوَاحِدٍ شَيْئَانِ مِنْهَا دُونَ صَاحِبَيْهِ كَانَ لَهُ الزَّرْعُ دُونَهُمَا وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ مُحَمَّدٌ، وَنَقَلَ شَيْخُنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبْدِ الْبَاقِي أَنَّهُ الْمُفْتَى بِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَ شَيْئًا لِشَخْصَيْنِ مِنْهُمْ فَالزَّرْعُ لَهُمَا دُونَ الثَّالِثِ، فَالصُّوَرُ أَرْبَعٌ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي ثَلاَثِ صُوَرٍ:
الأْولَى: أَنْ تَجْتَمِعَ الثَّلاَثَةُ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ اثْنَانِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تَجْتَمِعَ الثَّلاَثَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَخْصَيْنِ مِنْهُمْ وَيَجْتَمِعُ لِلشَّخْصِ الثَّالِثِ اثْنَانِ.
الثَّالِثةُ: أَنْ تَجْتَمِعَ الثَّلاَثَةُ لِوَاحِدٍ وَيَجْتَمِعَ اثْنَانِ لِوَاحِدٍ وَيَنْفَرِدَ الثَّالِثُ بِوَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ لَهُ اثْنَانِ يُسَاوِي مَنْ لَهُ ثَلاَثَةٌ لأِنَّ مَنْ لَهُ ثَلاَثَةٌ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ لَهُ اثْنَانِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ: إِنْ أُفْرِدَتْ أَرْضٌ بِالْمُزَارَعَةِ فَالْمُغَلُّ لِلْمَالِكِ لأِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ وَدَوَابِّهِ وَآلاَتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ، وَسَلَّمَ الزَّرْعَ لِبُطْلاَنِ الْعَقْدِ، وَلاَ يَمْكَنُ إِحْبَاطُ عَمَلِهِ مَجَّانًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يُسَلَّمِ الزَّرْعُ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِلِ لأِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَالِكِ شَيْءٌ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي تَوْجِيهِ الْحُكْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الزَّرْعَ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، لأِنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ يَنْمُو كَأَغْصَانِ الشَّجَرِ وَيَنْقَلِبُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ الأْجْرَةِ عَلَى مَنْ أَخَذَ الزَّرْعَ لِصَاحِبِهِ: أَيْ لأِنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا سُمِّيَ، فَإِذَا فَاتَ رَجَعَ إِلَى بَدَلِهِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ فَالزَّرْعُ لَهُ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ الأْرْضِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَبِّ الأْرْضِ فَالزَّرْعُ لَهُ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ الْعَامِلِ، وَلَوْ دَفَعَ بَذْرًا لِصَاحِبِ أَرْضٍ يَزْرَعُهَا فِيهَا وَمَا يَخْرُجُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ فَاسِدٌ، لأِنَّ الْبَذْرَ لَيْسَ مِنْ رَبِّ الأْرْضِ وَلاَ مِنَ الْعَامِلِ فَالزَّرْعُ لِمَالِكِ الْبَذْرِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الأْرْضِ وَالْعَمَلِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ .
الاِخْتِلاَفُ حَوْلِ شَرْطِ الأْنْصِبَاءِ أَوْ صَاحِبِ الْبَذْرِ:
50 - إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الأْرْضِ أَوِ الْمُزَارِعُ أَوْ مَاتَا جَمِيعًا، فَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا أَوِ اخْتَلَفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا مَعَ وَرَثَةِ الآْخَرِ فِي شَرْطِ الأْنْصِبَاءِ ، فَإِنَّ الْقَوْلَ يَكُونُ قَوْلَ صَاحِبِ الْبَذْرِ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، أَوْ وَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ لأِنَّ الأْجْرَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي الْمَشْرُوطِ - وَأَنْكَرَهَا هُوَ - كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَوَرَثَتُهُ يَخْلُفُونَهُ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ بِاللَّهِ عَلَى عَمَلِهِمْ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الآْجِرِ، لأِنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةُ بِبَيِّنَةٍ.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي صَاحِبِ الْبَذْرِ مَنْ هُوَ؟ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُزَارِعِ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَقَوْلَ وَرَثَتِهِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ إِنْ كَانَ مَيِّتًا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخَارِجَ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ أَوْ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ مَعَ الْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الأْرْضِ ، لأِنَّهُ خَارِجٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الإْثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ.
وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ فَاخْتَلَفَا، فَأَقَامَ صَاحِبُ الأْرْضِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ، وَأَنَّهُ شَرَطَ لِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَ، وَأَقَامَ الْمُزَارِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْبَذْرِ، وَأَنَّهُ شَرَطَ لِصَاحِبِ الأْرْضِ الثُّلُثَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الأْرْضِ ، لأِنَّهُ هُوَ الْخَارِجُ الْمُحْتَاجُ إِلَى الإْثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ.
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الأْرْضِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ، لأِنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَةٍ .
التَّوْلِيَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالشَّرِكَةُ فِيهَا:
51 - إِذَا دَفَعَ شَخْصٌ أَرْضَهُ إِلَى آخَرَ لِيَزْرَعَهَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَهَا الْمُزَارِعُ بِدَوْرِهِ إِلَى آخَرَ مُزَارَعَةً أَوْ يُشَارِكَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ أَوْ يَكُونَ مِنَ الْمُزَارِعِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الأْرْضِ ، فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ لِلْمَزَارِعِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، وَإِمَّا أَلاَّ يَقُولَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِهِ مُزَارَعَةً، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَ صَاحِبِ الأْرْضِ وَالْمُزَارِعِ الآْخَرِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْمُزَارِعِ الأْوَّلِ .
وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهَا بِرَأْيِكَ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِهِ لِيَزْرَعَهَا، فَإِذَا خَالَفَ وَأَعْطَاهَا لآِخَرَ لِيَزْرَعَهَا مُنَاصَفَةً - وَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ - كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ الأْوَّلِ وَالْمُزَارِعِ الثَّانِي نِصْفَيْنِ عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ، وَلِصَاحِبِ الأْرْضِ أَنْ يُضَمِّنَ بَذْرَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ نُقْصَانُ الأْرْضِ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْقَوْلِ الآْخَرِ يُضَمِّنُ الثَّانِيَ خَاصَّةً، ثُمَّ لِلثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الأْوَّلِ بِمَا ضَمِنَ لأِنَّهُ غَرَّهُ.
ب - إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الأْرْضِ ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ، فَأَشْرَكَ فِيهِ رَجُلاً آخَرَ بِبَذْرٍ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَعْمَلاَ بِالْبَذْرَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَعَمِلاَ عَلَى هَذَا، فَجَمِيعُ الْخَارِجِ بَيْنَهُمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَلاَ شَيْءَ لِصَاحِبِ الأْرْضِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ لَهُ الْمُزَارِعُ وَحْدَهُ ثَمَنَ بَذْرِهِ، وَضَمَانُ النُّقْصَانِ فِي الأْرْضِ عَلَى الاِثْنَيْنِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ وَيُشَارِكَ مَنْ أَحَبَّ - وَكَانَتِ الْمِلَّةُ بِحَالِهَا - فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَيُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا، نِصْفُهُ لِلْمُزَارِعِ الآْخَرِ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي بَيْنَ الأْوَّلِ وَبَيْنَ رَبِّ الأْرْضِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الرُّبُعُ.
ج - إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَدَفَعَ الأْرْضَ مُزَارَعَةً لآِخَرَ بِالنِّصْفِ جَازَتْ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُ صَاحِبُ الأْرْضِ : اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ، وَيُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَ صَاحِبِ الأْرْضِ وَالْمُزَارِعِ الآْخَرِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْمُزَارِعِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الآْخَرِ .
الْوَكَالَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ
الْوَكَالَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُزَارِعِ.
الْحَالَةُ الأْولَى: الْوَكَالَةُ مِنْ صَاحِبِ الأْرْضِ :
52 - إِذَا وَكَّلَ صَاحِبُ الأْرْضِ رَجُلاً بِأَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ لآِخَرَ مُزَارَعَةً، جَازَ ذَلِكَ، وَكَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدْفَعَهَا لَهُ وَيَشْتَرِطَ أَيَّةَ حِصَّةٍ مِنَ الْخَارِجِ لِرَبِّ الأْرْضِ ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ حِينَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حِصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ يَكُونُ قَدْ فَوَّضَ الأْمْرَ إِلَيْهِ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْحِصَّةِ مَعَ الْمُزَارِعِ، فَبِأَيَّةِ حِصَّةٍ دَفَعَهَا مُزَارَعَةً كَانَ مُمْتَثِلاً لأِمْرِهِ مُحَصِّلاً لِمَقْصُودِهِ.
وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدْفَعَهَا بِشَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَابَى فِيهِ بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، لأِنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ.
فَإِنْ دَفَعَهَا مَعَ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَالْوَكِيلِ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلاَ شَيْءَ مِنْهُ لِرَبِّ الأْرْضِ، أَيْ أَنَّ الْوَكَالَةَ تَكُونُ بَاطِلَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لأِنَّ الْوَكِيلَ صَارَ غَاصِبًا لِلأْرْضِ بِمُخَالَفَتِهِ الْمُوَكِّلَ، وَغَاصِبُهَا إِذَا دَفَعَهَا مُزَارَعَةً كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَلِصَاحِبِ الأْرْضِ تَضْمِينُ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُزَارِعِ نُقْصَانَ الأْرْضِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الأْوَّلِ وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُزَارِعَ رَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِمَا ضَمِنَ، لأِنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الآْخَرِ: يَضْمَنُ الْمُزَارِعُ خَاصَّةً، لأِنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَغَاصِبٌ وَالْعَقَارُ عِنْدَهُ لاَ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُزَارِعُ عَلَى الْوَكِيلِ لِلْغُرُورِ.
فَإِنْ كَانَ حَابَى فِيهِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، فَالْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَرَبِّ الأْرْضِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي قَبَضَ نَصِيبَ الْمُوَكِّلِ لأِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَجَّرَ الأْرْضَ .
وَإِنَّمَا وَجَبَ نَصِيبُ رَبِّ الأْرْضِ بِعَقْدِهِ فَهُوَ الَّذِي يَلِي قَبْضَهُ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الأْرْضِ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلاَّ بِوَكَالَةٍ مِنَ الْوَكِيلِ .
وَإِذَا وَكَّلَهُ وَلَمْ يُحَدِّدْ لَهُ مُدَّةً لِلْمُزَارَعَةِ جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدْفَعَهَا مُزَارَعَةً سَنَتَهُ الأْولَى، فَإِنْ دَفَعَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ يَدْفَعْ هَذِهِ السَّنَةَ الأْولَى، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ قِيَاسًا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ عَنِ الْوَقْتِ فَفِي أَيِّ سَنَةٍ وَفِي أَيِّ مُدَّةٍ دَفَعَهَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ فَجَازَ.
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ دَفْعَ الأْرْضِ مُزَارَعَةً يَكُونُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ مِنَ السَّنَةِ عَادَةً وَالتَّقْيِيدُ الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ فِي الْوَكَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، فَإِذَا دَخَلَهُ التَّقْيِيدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُحْمَلُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ، وَهُوَ وَقْتُ الزِّرَاعَةِ مِنَ السَّنَةِ الأْولَى .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: التَّوْكِيلُ مِنَ الْمُزَارِعِ:
53 - إِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ آخَرَ بِأَنْ يَأْخُذَ لَهُ هَذِهِ الأْرْضَ مُزَارَعَةً هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْمُوَكِّلِ كَانَتِ الْوَكَالَةُ جَائِزَةً وَتَسْرِي أَحْكَامُ الْوَكَالَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْحَالَةِ الأْولَى هُنَا أَيْضًا، أَيْ أَنَّ الْوَكِيلَ يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالْمُتَعَارَفِ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي التَّعَامُلِ، كَمَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالشِّرْعِ، فَلاَ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِالْمُوَكِّلِ.
هَذَا إِذَا كَانَ التَّوْكِيلُ مُطْلَقًا عَنِ الْقُيُودِ، أَمَّا إِذَا قَيَّدَ الْمُوَكِّلُ - سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الأْرْضِ أَمِ الْمُزَارِعُ - وَكِيلَهُ بِقَيْدٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ الاِلْتِزَامُ بِهِ فَإِذَا خَالَفَهُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمُخَالَفَةُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهَا تَكُونُ نَافِذَةً فِي حَقِّهِ، لأِنَّهَا تُعْتَبَرُ مُوَافَقَةً ضِمْنِيَّةً، فَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ بِالْمَعَانِي لاَ بِالأْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.
فَلَوْ وَكَّلَ صَاحِبُ الأْرْضِ رَجُلاً لِيَدْفَعَ لَهُ أَرْضَهُ لآِخَرَ مُزَارَعَةً بِالثُّلُثِ مَثَلاً، فَدَفَعَهَا الْوَكِيلُ لَهُ بِالنِّصْفِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ هُنَا يَكُونُ قَدْ خَالَفَ مُوَكِّلَهُ، وَلَكِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ صَحِيحًا، لأِنَّ الْمُخَالَفَةَ لِخَيْرِ الْمُوَكِّلِ وَمَصْلَحَتِهِ، فَقَدْ عَقَدَ لَهُ بِالنِّصْفِ بَدَلاً مِنَ الثُّلُثِ.
لِذَلِكَ لاَ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ إِذَا أَجَازَ الْمُوَكِّلُ تَصَرُّفَ وَكِيلِهِ الْمَخَالِفِ، لأِنَّ الإْجَازَةَ اللاَّحِقَةَ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَهَذَا كُلُّهُ طِبْقًا لِلْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الْوَكَالَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَكَالَةٌ).
الْكَفَالَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ
54 - إِذَا دَفَعَ رَجُلٌ لآِخَرَ أَرْضًا لَهُ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، وَضَمِنَ رَجُلٌ آخَرُ لِرَبِّ الأْرْضِ الزِّرَاعَةَ مِنَ الزَّارِعِ كَانَ الضَّمَانُ بَاطِلاً، لأِنَّ الْمُزَارِعَ مُسْتَأْجِرٌ لِلأْرْضِ عَامِلٌ وَالْمُزَارَعَةُ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِرَبِّ الأْرْضِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الأْصِيلِ لِلْمَضْمُونِ لَهُ.
فَإِذَا كَانَ الضَّمَانُ شَرْطًا فِي الْمُزَارَعَةِ كَانَتْ فَاسِدَةً، لأِنَّهَا اسْتِئْجَارٌ لِلأْرْضِ ، فَتَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ وَبَطَلَ الضَّمَانُ.
وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الأْرْضِ جَازَ الضَّمَانُ وَالْمُزَارَعَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، لأِنَّ رَبَّ الأْرْضِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ، وَقَدْ صَارَتْ إِقَامَةُ الْعَمَلِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الأْرْضِ ، وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي تَسْلِيمِهِ، فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ أَوْ مَقْصُودًا بَعْدَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ.
وَإِنْ تَعَنَّتَ الزَّارِعُ أَخَذَ الْكَفِيلَ بِالْعَمَلِ، لأِنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِإِيفَاءِ مَا كَانَ عَلَى الأْصِيلِ وَهُوَ عَمَلُ الزِّرَاعَةِ.
فَإِذَا عَمِلَ الْكَفِيلُ وَبَلَغَ الزَّرْعُ الْحَصَادَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُزَارِعُ كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، لأِنَّ الْكَفِيلَ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ فِي إِقَامَةِ الْعَمَلِ، وَيَسْتَحِقُّ الْكَفِيلُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ إِنْ كَانَ كَفَلَهُ بِأَمْرِهِ، لأِنَّهُ الْتَزَمَ الْعَمَلَ بِأَمْرِهِ وَقَدْ أَوْفَاهُ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، وَمِثْلُهُ هُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ.
وَلاَ يَجُوزُ ضَمَانُ الْمُزَارِعِ إِذَا كَانَ رَبُّ الأْرْضِ قَدِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ، لأِنَّ مَا الْتَزَمَهُ الْعَامِلُ هُنَا لاَ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، وَهُوَ عَمَلُ الْمُزَارِعِ بِنَفْسِهِ، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْكَفِيلِ إِبْقَاءُ ذَلِكَ، فَيَبْطُلُ الضَّمَانُ وَتَبْطُلُ مَعَهُ الْمُزَارَعَةُ أَيْضًا لَوْ كَانَ شَرَطَا فِيهَا.
وَإِذَا ضَمِنَ الْكَفِيلُ لِرَبِّ الأْرْضِ حِصَّتَهُ مِنَ الْخَارِجِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَصِحُّ سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الأْرْضِ أَمْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمُزَارِعِ، لأِنَّ نَصِيبَ صَاحِبِ الأْرْضِ مِنَ الْخَارِجِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ.
وَالْكِفَالَةُ بِالأْمَانَةِ لاَ تَصِحُّ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ بِمَا هُوَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَى الأْصْلِ، ثُمَّ تَبْطُلُ الْمُزَارَعَةُ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ شَرْطًا فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ .
مُزَارَعَةُ الأْرْضِ الْعَشْرِيَّةِ
55 - لَوْ زَارَعَ بِالأْرْضِ الْعَشْرِيَّةِ فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْعُشْرُ عَلَى صَاحِبِ الأْرْضِ كَمَا فِي الإْجَارَةِ . وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ فِي الزَّرْعِ كَالإْجَارَةِ .
وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الأْرْضِ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الأْرْضِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
الْمُزَارَعَةُ فِي الأْرْضِ الْمَرْهُونَةِ
56 - إِذَا رَهَنَ إِنْسَانٌ عِنْدَ آخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَبَضَهَا الْمُرْتَهِنُ زَارَعَهُ الرَّاهِنُ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ وَالْبَذْرُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ وَيَقْتَسِمَانِ الْخَارِجَ عَلَى الشَّرْطِ، لأِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ وَهُوَ الدَّائِنُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَأْجِرٌ لِلأْرْضِ ، وَالْمُرْتَهِنُ إِذَا اسْتَأْجَرَ الْمَرْهُونَ مِنَ الرَّاهِنِ بَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ، لأِنَّ الإْجَارَةَ أَلْزَمُ مِنَ الرَّهْنِ، وَقَدْ طَرَأَ الاِثْنَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكَانَ الثَّانِي رَافِعًا لِلأْوَّلِ، فَلِهَذَا كَانَ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يُعِيدَهَا رَهْنًا.
وَإِنْ مَاتَ الْمَدِينُ الرَّاهِنُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنِ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غُرَمَائِهِ لِبُطْلاَنِ عَقْدِ الرَّهْنِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْمَدِينِ الرَّاهِنِ فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَكُونُ جَائِزَةً أَيْضًا وَلَكِنَّ الرَّهْنَ لاَ يَبْطُلُ، وَيَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعِيدَ الأْرْضَ فِي الرَّهْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الزَّرْعِ، لأِنَّ الْعَقْدَ هُنَا يَرِدُ عَلَى عَمَلِ الْمُزَارِعِ فَلاَ يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ .
أَخْذُ الْمَأْذُونِ لَهُ الأْرْضَ مُزَارَعَةً
57 - يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الأْرْضَ مُزَارَعَةً، لأِنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ، لأِنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلأْرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ مِنَ الاِسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ، لأِنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ خَارِجٌ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلاَفِ الاِسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ.
وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الأْرْضِ فَهُوَ آجِرٌ نَفْسَهُ مِنْ رَبِّ الأْرْضِ لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ بِالدَّرَاهِمِ جَازَ فَكَذَا هَذَا .
اشْتِرَاطُ عَدَمِ بَيْعِ النَّصِيبِ أَوْ هِبَتِهِ:
58 - إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنْ لاَ يَبِيعَ الآْخَرُ نَصِيبَهُ أَوْ يَهَبَهُ جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ، لأِنَّهُ لَيْسَ لأِحَدِ الْعَامِلَيْنِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ .
مُسَاقَاةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُسَاقَاةُ فِي اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ السَّقْيِ - بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ - وَهِيَ دَفْعُ النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ إِلَى مَنْ يَعْمُرُهُ وَيَسْقِيهِ وَيَقُومُ بِمَصْلَحَتِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ سَهْمٌ (نَصِيبٌ) وَالْبَاقِي لِمَالِكِ النَّخِيلِ.
وَأَهْلُ الْعِرَاقِ يُسَمُّونَهَا الْمُعَامَلَةَ .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هِيَ دَفْعُ الشَّجَرِ إِلَى مَنْ يُصْلِحُهُ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُزَارَعَةُ:
2 - الْمُزَارَعَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الزِّرَاعَةِ وَتُسَمَّى مُخَابِرَةً مِنَ الْخَبَارِ - بِفَتْحِ الْخَاءِ - وَهِيَ الأْرْضُ اللَّيِّنَةُ .
وَالْمُزَارَعَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ الشَّجَرُ، وَمَوْضُوعَ الْمُزَارَعَةِ الْبَذْرُ وَالزَّرْعُ.
ب - الْمُنَاصَبَةُ:
3 - الْمُنَاصَبَةُ وَتُسَمَّى الْمُغَارَسَةَ وَهِيَ دَفْعُ أَرْضٍ بَيْضَاءَ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِيَغْرِسَ فِيهَا وَتَكُونَ الأْرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَهُمَا . أَوْ هِيَ كَمَا قَالَ الْبُهُوتِيُّ دَفْعُ الشَّجَرِ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَهُ ثَمَرٌ مَأْكُولٌ بِلاَ غَرْسٍ مَعَ أَرْضِهِ لِمَنْ يَغْرِسُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى يُثْمِرَ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ ثَمَرِهِ أَوْ مِنْهُمَا.
وَتَخْتَلِفُ الْمُسَاقَاةُ عَنِ الْمُنَاصَبَةِ فِي أَنَّ الشَّجَرَ فِي الْمُسَاقَاةِ مَغْرُوسٌ، وَفِي الْمُنَاصَبَةِ غَيْرُ مَغْرُوسٍ .
ج - الإْجَارَةُ:
4 - الإْجَارَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلأْجْرَةِ، وَهِيَ كِرَاءُ الأْجِيرِ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الإْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ هِيَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ أَعَمُّ مِنَ الإْجَارَةِ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الأْوَّلُ: أَنَّهَا جَائِزَةٌ شَرْعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلي الله عليه وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» .
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ مِنْ حَيْثُ الشَّرِكَةُ فِي النَّمَاءِ فَقَطْ دُونَ الأْصْلِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه حَيْثُ جَاءَ فِيهِ «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا، وَلاَ يُكَارِهَا بِثُلُثٍ وَلاَ رُبُعٍ وَلاَ بِطَعَامٍ مُسَمًّى» ،، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي الْمُزَارَعَةِ غَيْرَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ - وَهُوَ الْكِرَاءُ بِجُزْءٍ مِنَ الْخَارِجِ مِنَ الأْرْضِ - وَارِدٌ فِي الْمُسَاقَاةِ أَيْضًا .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» ،، وَغَرَرُ الْمُسَاقَاةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَعَدَمِهَا، وَبَيْنَ قِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا، فَكَانَ الْغَرَرُ أَعْظَمُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِإِبْطَالِهَا أَحَقُّ .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وسلم عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» ،، وَالْمَعْنَى الَّذِي نَهَى لأِجَلِهِ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ مَوْجُودٌ فِي الْمُسَاقَاةِ، لأِنَّهَا اسْتِئْجَارُ الْعَامِلِ بِبَعْضِ مَا يُخْرِجُ مِنْ عَمَلِهِ .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ فِي الْمَعْقُولِ: أَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
صِفَّةُ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ مِنْ حَيْثُ اللُّزُومُ وَعَدَمُهُ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ ابْتِدَاءً فَوْرَ انْعِقَادِهَا مِنْ حَيْثُ لُزُومُ الْعَقْدِ أَوْ جَوَازُهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَإِنَّهُ لاَ خِيَرَةَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي فَسْخِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى لُزُومِ الْعَقْدِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: -
أَنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي التَّنْفِيذِ.
- وَأَنَّهَا كَالإْجَارَةِ مِنْ حَيْثُ وُرُودُ الْعَقْدِ عَلَى عَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا.
- وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً غَيْرَ لاَزِمَةٍ وَفَسَخَ الْمَالِكُ الْعَقْدَ قَبْلَ ظُهُورِ الثِّمَارِ فَقَدْ فَاتَ عَمَلُ الْعَامِلِ وَذَهَبَ سُدًى.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَهُوَ قَوْلُ السُّبْكِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَوَرَدَ فِيهِ: «نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا»، وَلَوْ كَانَتْ عَقْدًا لاَزِمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ الْخِيَرَةَ إِلَيْهِ فِي مُدَّةِ إِقْرَارِهِمْ، وَلَمَا جَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى جُزْءٍ مِنْ نَمَاءِ الْمَالِ فَكَانَتْ جَائِزَةً غَيْرَ لاَزِمَةٍ كَالْمُضَارَبَةِ .
وَتَفَرَّعَ عَلَى الْقَوْلِ بِاللُّزُومِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الاِسْتِقْلاَلَ بِفَسْخِ الْمُسَاقَاةِ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ وَلاَ الاِمْتِنَاعَ مِنَ التَّنْفِيذِ إِلاَّ بِرِضَا الطَّرَفِ الآْخَرِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَالِكِ الشَّجَرِ إِخْرَاجُ الْعَامِلِ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ .
وَكَذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَى الْقَوْلِ «بِعَدَمِ اللُّزُومِ».
أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخَهَا مَتَى شَاءَ وَلَوْ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَأَنَّهَا لاَ تَفْتَقِرُ إِلَى ضَرْبِ مُدَّةٍ يَحْصُلُ الْكَمَالُ فِيهَا، وَأَنَّهَا تَبْطُلُ بِمَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ مِنَ الْمَوْتِ وَالْجُنُونِ وَالْحَجْرِ وَالْعَزْلِ .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
7 - الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِ الْمُسَاقَاةِ تَحْقِيقُ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعُ الْحَاجَةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الشَّجَرَ وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى طُرُقِ اسْتِثْمَارِهِ أَوْ لاَ يَتَفَرَّغُ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إِلَى الاِسْتِثْمَارِ وَيَتَفَرَّغُ لَهُ وَلاَ يَمْلِكُ الشَّجَرَ، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِلِ .
أَرْكَانُ الْمُسَاقَاةِ
8 - قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَرْكَانُ الْمُسَاقَاةِ خَمْسَةٌ وَهِيَ: الأْوَّلُ: الْعَاقِدَانِ، وَالثَّانِي: الصِّيغَةُ، وَالثَّالِثُ: مُتَعَلِّقُ الْعَمَلِ (الشَّجَرُ)، وَالرَّابِعُ: الثِّمَارُ، الْخَامِسُ: الْعَمَلُ، وَزَادَ ابْنُ رُشْدٍ: الْمُدَّةَ فَهِيَ سِتَّةٌ.
وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَارِدٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، مَعَ مُلاَحَظَةِ أَنَّ الرُّكْنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ وَالْبَوَاقِي أَطْرَافٌ .
وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الأْرْكَانِ شُرُوطٌ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
الرُّكْنُ الأْوَّلُ: الْعَاقِدَانِ:
وَيُرَادُ بِهِمَا الْعَامِلُ وَالْمَالِكُ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْعَامِلِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ عَاقِلاً أَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَتَجُوزُ مُزَارَعَةُ وَمُسَاقَاةُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ تَصِحُّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ وَلِصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَسَفِيهٍ بِالْوِلاَيَةِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ لِلاِحْتِيَاجِ إِلَى ذَلِكَ.
الرُّكْنُ الثَّانِي: الصِّيغَةُ:
10 - الْمُرَادُ بِهَا الإْيجَابُ وَالْقَبُولُ بِكُلِّ مَا يُنْبِئُ عَنْ إِرَادَةِ الْمُسَاقَاةِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى عُلِمَ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي قَضِيَّةِ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ أَمِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْدِ .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَحَلُّ وَشُرُوطُهُ:
يُقْصَدُ بِالْمَحَلِّ هُنَا: مُتَعَلَّقُ الْعَمَلِ فِي الْمُسَاقَاةِ، أَيْ مَا يَقُومُ الْعَامِلُ بِسَقْيِهِ وَرِعَايَتِهِ مُقَابِلَ جُزْءٍ مِنَ الْعُمُرِ.
وَيَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ الْمُسَاقَاةِ شُرُوطًا هِيَ:
أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِجِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى جِوَازِهَا فِي النَّخْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي جِوَازِهَا فِي: الْعِنَبِ، وَالشَّجَرِ الْمُثْمِرِ وَغَيْرِ الْمُثْمِرِ، وَكَذَا الْبُقُولُ وَالرِّطَابُ وَنَحْوُهَا.
وَتَبِعَ ذَلِكَ اخْتِلاَفُ الشُّرُوطِ الْخَاصَّةِ بِكُلِّ مَحَلٍّ عَلَى حِدَةٍ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمَذَاهِبِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
12 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ نَوْعٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الشَّجَرِ، فَالْمُثْمِرُ وَغَيْرُ الْمُثْمِرِ سَوَاءٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَتَصِحُّ فِي الْحَوَرِ، وَالصَّفْصَافِ وَفِيمَا يُتَّخَذُ لِلسَّقْفِ وَالْحَطَبِ، كَمَا أَنَّهُ تَصِحُّ عِنْدَهُمْ فِي الرِّطَابِ، وَجَمِيعِ الْبُقُولِ، قَالَ فِي تَنْوِيرِ الأْبْصَارِ وَشَرْحِهِ: وَتَصِحُّ فِي الْكَرْمِ وَالشَّجَرِ وَالرِّطَابِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا جَمِيعُ الْبُقُولِ، وَأُصُولُ الْبَاذِنْجَانِ وَالنَّخْلُ، وَتَصِحُّ فِي نَحْوِ الْحَوَرِ وَالصَّفْصَافِ مِمَّا لاَ ثَمَرَةَ لَهُ، وَالْبُقُولُ غَيْرُ الرِّطَابِ، فَالْبُقُولُ مِثْلُ الْكُرَّاتِ وَالسِّلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالرِّطَابُ كَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْبَاذِنْجَانِ فَإِنْ سَاقَى عَلَيْهَا قَبْلَ الْجُذَاذِ، كَانَ الْمَقْصُودُ الرَّطْبَةَ فَيَقَعُ الْعَقْدُ عَلَى أَوَّلِ جَزَّةٍ، وَإِنْ سَاقَى بَعْدَ انْتِهَاءِ جُذَاذِهَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْبَذْرَ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْبَذْرِ، كَمَا يَقْصِدُ الثَّمَرَ مِنَ الشَّجَرِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ وَحْدَهُ .
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الْجِوَازَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ عَمَّتْ، وَأَثَرُ خَيْبَرَ لاَ يَخُصُّهَا لأِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الأْشْجَارِ وَالرِّطَابِ أَيْضًا .
13 - وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الشَّجَرُ الَّذِي يُسَاقَى عَلَى قِسْمَيْنِ:
الْقَسْمُ الأْوَّلُ: مَا لَهُ أُصُولٌ ثَابِتَةٌ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطَانِ:
الشَّرْطُ الأْوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُثْمِرُ فِي عَامِهِ، فَلاَ تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ فِي صِغَارِ الأْشْجَارِ ، قَالَ عِيَاضٌ مِنْ شُرُوطِ الْمُسَاقَاةِ: أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ إِلاَّ فِي أَصْلٍ يُثْمِرُ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ ذَوَاتِ الأْزْهَارِ وَالأْوْرَاقِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا كَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ.
وَقَالَ ابْنُ غَازِي وَقَوْلُهُمْ يُثْمِرُ أَوْ ذِي ثَمَرٍ - أَخْرَجَ بِهِ الشَّجَرَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الإْطْعَامِ كَالْوَدِيِّ فَإِنَّ مُسَاقَاتَهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ، صَرَّحَ بِهِ اللَّخْمِيُّ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُخَلِّفُ وَهُوَ الَّذِي إِذَا قُطِفَ مِنْهُ ثَمَرَةٌ لاَ يُثْمِرُ فِي الْعَامِ نَفْسِهِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مُعْظَمُ أَشْجَارِ الْفَاكِهَةِ بِخِلاَفِ الْمَوْزِ فَإِنَّهُ مِمَّا يُخَلِّفُ إِذَا نَبَتَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ بِجَانِبِ الأْولَى مِنْ قَبْلِ أَنْ تُقْطَعَ هَذِهِ الثَّمَرَةُ، فَالثَّمَرَةُ الثَّانِيَةُ يَنَالُهَا شَيْءٌ مِنْ عَمَلِ الْعَامِلِ، وَلاَ تَتَّضِحُ فِي الْعَامِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْعَمَلِ، فَلاَ تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّجَرِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَيْسَتْ لَهُ أُصُولٌ ثَابِتَةٌ كَالْمَقَاثِيِّ وَالزَّرْعِ، وَهَذَا تَصِحُّ مُسَاقَاتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالشُّرُوطِ التَّالِيَةِ:
- أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَعْدَ ظُهُورِهَا.
- وَأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِ ثَمَرِهَا.
- وَأَنْ يَعْجَزَ رَبُّ الأْرْضِ عَنْ تَعَهُّدِهَا.
- وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُخَلِّفُ بَعْدَ قَطْفِهِ.
-وَأَنْ يُخَافَ مَوْتُهَا لَوْ تُرِكَ الْعَمَلُ فِيهَا .
14 - قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ دُونَ غَيْرِهِمَا، لأِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ (أَخَذَ صَدَقَةَ ثَمَرَتِهَا بِالْخَرْصِ، وَثَمَرُهَا مُجْتَمِعٌ بَائِنٌ مِنْ شَجَرِهِ لاَ حَائِلَ دُونَهُ يَمْنَعُ إِحَاطَةَ النَّاظِرِ إِلَيْهِ، وَثَمَرُ غَيْرِهَا مُتَفَرِّقٌ بَيْنَ أَضْعَافِ وَرَقٍ لاَ يُحَاطُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ إِلاَّ عَلَى النَّخْلِ وَالْكَرْمِ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الشَّجَرِ مِنَ النَّبَاتِ مُثْمِرًا عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الْقَسْمُ الأْوَّلُ: لاَ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ: النَّخْلُ وَالْكَرْمُ.
وَالْقَسْمُ الثَّانِي: مَا لاَ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي بُطْلاَنِ الْمُسَاقَاةِ فِيهِ، وَهُوَ مَا لاَ سَاقَ لَهُ، كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبَاذِنْجَانِ، وَالْبُقُولِ الَّتِي لاَ تَثْبُتُ فِي الأْرْضِ وَلاَ تُجَزُّ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلاَ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهَا، كَمَا لاَ يَجُوزُ عَلَى الزَّرْعِ.
فَإِنْ كَانَتْ تَثْبُتُ فِي الأْرْضِ وَتُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَالْمَذْهَبُ الْمَنْعُ وَهُوَ الأْصَحُّ .
وَالْقَسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ شَجَرًا، فَفِي جِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: الْجِوَازُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِي الأْشْجَارِ مَعْنَى النَّخْلِ مِنْ بَقَاءِ أَصْلِهَا وَالْمَنْعِ مِنْ إِجَارَتِهَا كَانَتْ كَالنَّخْلِ فِي جِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِأَرْضِ خَيْبَرَ شَجَرٌ لَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم إِفْرَادُهَا عَنْ حُكْمِ النَّخْلِ، وَلأِنَّ الْمُسَاقَاةَ مُشْتَقَّةُ الاِسْمِ مِمَّا يَشْرَبُ بِسَاقٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الشَّجَرِ بَاطِلَةٌ، اخْتِصَاصًا بِالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْفَرَقِ بَيْنَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَبَيْنَ الشَّجَرِ:
وَأَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ: اخْتِصَاصُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا دُونَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ جَمِيعِ الأْشْجَارِ .
وَالثَّانِي: بُرُوزُ ثَمَرِهِمَا وَإِمْكَانُ خَرْصِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الأْشْجَارِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ النَّخْلِ شَجَرٌ قَلِيلٌ فَسَاقَاهُ عَلَيْهِمَا صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ فِيهِمَا، وَكَانَ الشَّجَرُ تَبَعًا، كَمَا تَصِحُّ الْمُخَابَرَةُ فِي الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ النَّخْلِ وَيَكُونُ تَبَعًا.
15 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، وَفِي الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَلْتَقُونَ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ بِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ فِي سَائِرِ الأْشْجَارِ ، دُونَ غَيْرِهَا، وَاشْتَرَطُوا أَنْ تَكُونَ الأْشْجَارُ مُثْمِرَةً وَثَمَرُهَا مَقْصُودٌ كَالْجَوْزِ وَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالتَّصْرِيحِ بِذِكْرِ الثَّمَرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي» مُعَامَلَةِ الرَّسُول صلي الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ .
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَأَمَّا مَا لاَ ثَمَرَ لَهُ مِنَ الشَّجَرِ كَالصَّفْصَافِ وَالْحَوَرِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لَهُ ثَمَرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ كَالصَّنَوْبَرِ وَالأْرْزِ فَلاَ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ لأِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَلأِنَّ الْمُسَاقَاةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ، وَهَذَا لاَ ثَمَرَةَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقْصَدُ وَرَقُهُ كَالتُّوتِ وَالْوَرْدِ، فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ فِي مَعْنَى الثَّمَرِ وَ لأِنَّهُ نَمَاءٌ يَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ وَالْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ بِجُزْءٍ مِنْهُ فَيَثْبُتُ لَهُ مِثْلُ حُكْمِهِ .
16 - وَمُسَاقَاةُ الْوَدِيِّ وَصِغَارِ الشَّجَرِ تَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الاِتِّفَاقِ بِالْجُمْلَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الْوَدِيُّ مَغْرُوسًا وَسَاقَاهُ عَلَيْهِ وَشَرَطَ لَهُ جُزْءًا عَلَى الْعَمَلِ فَإِنْ قَدَّرَ فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ مُدَّةً يُثْمِرُ الْوَدِيُّ فِيهَا غَالِبًا صَحَّ الْعَقْدُ وَإِلاَّ بِأَنْ قَدَّرَ مُدَّةً لاَ يُثْمِرُ فِيهَا غَالِبًا فَلاَ تَصِحُّ لِخُلُوِّهَا عَنِ الْعِوَضِ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى شَجَرَةٍ لاَ تُثْمِرُ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَعَمِلَ الْعَامِلُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً إِنْ عَلِمَ أَنَّهَا لاَ تُثْمِرُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِلاَّ اسْتَحَقَّ.
وَيُرْجَعُ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لأِهْلِ الْخَبِرَةِ بِالشَّجَرِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا سَاقَاهُ عَلَى وَدِيِّ النَّخْلِ أَوْ صِغَارِ الشَّجَرِ إِلَى مُدَّةٍ يَحْمِلُ فِيهَا غَالِبًا وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ صَحَّ، لأِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ عَمَلَ الْعَامِلِ يَكْثُرُ وَنَصِيبُهُ يَقِلُّ وَهَذَا لاَ يَمْنَعُ صِحَّتَهَا كَمَا لَوْ جَعَلَ لَهُ سَهْمًا مِنْ أَلْفِ سَهْمٍ.
فَإِنْ قُلْنَا: الْمُسَاقَاةُ عَقْدٌ جَائِزٌ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لاَزِمٌ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَ الْمُدَّةَ زَمَنًا يَحْمِلُ فِيهِ غَالِبًا فَيَصِحُّ .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ صَحَّتْ وَحَمَلَ فِيهَا فَلَهُ مَا شَرَطَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ فِيهَا فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهَا إِلَى زَمَنٍ لاَ يَحْمِلُ فِيهِ غَالِبًا فَلاَ يَصِحُّ، وَإِنْ عَمِلَ فِيهَا فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الأْجْرَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ حَمَلَ فِي الْمُدَّةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَا جَعَلَ لَهُ لأِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مَا شُرِطَ فِيهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَ الْمُدَّةَ زَمَنًا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لاَ يَحْمِلَ فَهَلْ يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَصِحُّ اسْتَحَقَّ الأْجْرَ .
وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ فَحَمَلَ فِي الْمُدَّةِ اسْتَحَقَّ مَا شُرِطَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ فِيهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا .
وَقَالَ: وَإِنْ شَرَطَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ وَنِصْفَ الأْصْلِ لَمْ يَصِحَّ، لأِنَّ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي النَّمَاءِ وَالْفَائِدَةِ، فَإِذَا شَرَطَ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الأْصْلِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ اشْتِرَاكَهُمَا فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ لَهُ جُزْءًا مِنْ ثَمَرَتِهَا مُدَّةَ بَقَائِهَا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ جَعَلَ لَهُ ثَمَرَةَ عَامٍ بَعْدَ مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ لَمْ يَجُزْ، لأِنَّهُ خَالَفَ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ .
ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْمُسَاقَاةِ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا:
17 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْمُسَاقَاةِ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا لأِنَّ الْمُسَاقَاةَ إِجَارَةٌ ابْتِدَاءً وَشَرِكَةٌ انْتِهَاءً، فَكَمَا تُشْتَرَطُ مَعْلُومِيَّةُ مَحَلِّ الإْجَارَةِ تُشْتَرَطُ مَعْلُومِيَّةُ مَحَلِّ الْمُسَاقَاةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالإْشَارَةِ أَوِ الْوَصْفِ أَوِ التَّحْدِيدِ، أَوِ الرُّؤْيَةِ .
ثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ بِحَيْثُ يَزِيدُ ثَمَرُهُ بِالسَّقْيِ وَالتَّعَهُّدِ:
18 - أَوْرَدَ هَذَا الشَّرْطَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ سَحْنُونَ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ، كَمَا فِي الرَّوْضَةِ .
رَابِعًا: التَّخْلِيَةُ:
19 - التَّخْلِيَةُ بِمَعْنَى تَسْلِيمِ الشَّجَرِ إِلَى الْعَامِلِ وَانْفِرَادِ الْعَامِلِ بِوَضْعِ الْيَدِ فِي الْحَدِيقَةِ، وَذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ مَتَى شَاءَ .
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الثِّمَارُ:
20 - وَيُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنْهُ ب (الْخَارِجِ) وَلَهُ شُرُوطُهُ الْخَاصَّةُ بِهِ.
1 - أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِلِ، لاَ أَنْ يَكُونَ لأِحَدِ هِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا .
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لاَزِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ وَكُلُّ شَرْطٍ يَكُونُ قَاطِعًا لِلشَّرِكَةِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ .
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْعَامِلِ أَوِ الْمَالِكِ .
وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْحَةٌ لاَ مُسَاقَاةٌ .
ب - أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَارِجِ جُزْءًا مَعْلُومَ الْقَدْرِ كَالثُّلُثِ وَالنِّصْفِ وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ كَوْنَ التَّعْيِينِ بِالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْبَلَدِ .
ج - أَنْ يَكُونَ الاِشْتِرَاكُ فِي الْخَارِجِ عَلَى وَجْهِ الشُّيُوعِ لاَ عَلَى التَّعْيِينِ أَوِ الْعَدَدِ .
وَمُحَصَّلُ هَذَا اشْتِرَاطُ كَوْنِ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الثَّمَرَةِ جُزْءًا شَائِعًا مَعْلُومًا، وَذَلِكَ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْمُسَاقَاةِ، وَهُوَ الْعَمَلُ فِي الشَّجَرِ لِقَاءَ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الثَّمَرِ.
الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الْعَمَلُ:
يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ هِيَ:
أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَامِلِ وَحْدَهُ بِدُونِ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْمَالِكِ.
21 - هَذَا الشَّرْطُ - فِي الْجُمْلَةِ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأْرْبَعَةِ حَتَّى يَفْسُدَ الْعَقْدُ بِوَجْهٍ عَامٍّ بِاشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنَ الْعَمَلِ وَمُؤْنَتِهِ وَلَوَازِمِهِ عَلَى الْمَالِكِ، لأِنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهُوَ: أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الْعَامِلِ، كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ إِذَا شَرَطَ فِيهَا الْعَمَلَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ.
ثَانِيًا: أَنْ لاَ يُشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ مَا لاَ يَدْخُلُ فِي جِنْسِ عَمَلِهِ.
22 - قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ بِالْجُمْلَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ هُوَ السَّقْيُ وَالإْبَارُ وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِيهَا اشْتِرَاطُ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ زِيَادَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَلاَ شَيْئًا مِنَ الأْشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُسَاقَاةِ .
ثَالِثًا: أَنْ يَنْفَرِدَ الْعَامِلُ بِالْحَدِيقَةِ:
23 - مِنْ شُرُوطِ الْعَمَلِ: أَنْ يَسْتَبِدَّ الْعَامِلُ بِالْيَدِ فِي الْحَدِيقَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ مَتَى شَاءَ فَلَوْ شَرَطَا كَوْنَهُ فِي يَدِ الْمَالِكِ، أَوْ مُشَارَكَتَهُ فِي الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إِلَيْهِ، وَشَرَطَ الْمَالِكُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ، كَانَتِ الْحَدِيقَةُ فِي يَدِهِ، يَتَعَوَّقُ بِحُضُورِهِ عَنِ الْعَمَلِ .
مَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالاِشْتِرَاطُ عَلَيْهِ
فِي ضَبْطِ مَا عَلَى الْعَامِلِ بِالْعِقْدِ عِنْدَ إِطْلاَقِهِ وَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ، وَمَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ التَّفْصِيلُ التَّالِي:
24 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ ضَابِطَيْنِ:
الضَّابِطُ الأْوَّلُ: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ قَبْلَ إِدْرَاكِ الثَّمَرِ مِنَ السَّقْيِ وَالتَّلْقِيحِ وَالْحِفْظِ، فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، وَمَا بَعْدَ الإْدْرَاكِ كَالْجُذَاذِ وَهُوَ الْقَطْفُ، وَحِفْظُهُ فَهُوَ عَلَيْهِمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ قَطْفَ الثَّمَرِ عَلَى الْعَامِلِ لَمْ يَجُزْ لأِنَّهُ لاَ عُرْفَ فِيهِ .
الضَّابِطُ الثَّانِي: أَنَّ مَا لاَ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَ مُدَّةِ الْعَقْدِ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، فَاشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَمَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَهَا كَغَرْسِ الأْشْجَارِ وَنَصْبِ الْعَرَائِشِ، وَإِلْقَاءِ السِّرْقِينِ، فَاشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ .
25 - وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَأَرْجَعُوا الأْمْرَ إِلَى الْعُرْفِ، فَقَرَّرُوا: أَنَّ كُلَّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الثَّمَرُ عُرْفًا يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ الْمُسَاقَاةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَفْصِيلُ الْعَمَلِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ إِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا، وَإِلاَّ فَلاَ بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ .
وَلَهُمْ ضَابِطٌ تَفْصِيلِيٌّ قَرِيبٌ مِنْ ضَابِطِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - أَنَّ مَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَرَةِ وَلاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِصْلاَحِهَا لاَ يَلْزَمُ الْعَامِلَ بِالْعِقْدِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ كَسَدِّ الْحِيطَانِ وَإِصْلاَحِ مَجَارِي الْمِيَاهِ .
ب - مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَرَةِ وَيَبْقَى بَعْدَهَا أَوْ يَتَأَبَّدُ، كَحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ سَاقِيَةٍ أَوْ بِنَاءِ بَيْتٍ يُخَزِّنُ فِيهِ الثَّمَرَ، أَوْ غَرْسِ فَسِيلٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهَدِ وَأَمَّا مَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِصْلاَحِ الثَّمَرِ وَيَبْقَى بَعْدَ الثَّمَرِ فَيَدْخُلُ عِنْدَهُ بِالشَّرْطِ فِي الْمُسَاقَاةِ لاَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ.
ج - مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَرَةِ وَلاَ يَبْقَى أَوْ لاَ يَتَأَبَّدُ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ بِالْعِقْدِ، كَالسَّقْيِ وَالْحَفْرِ، وَالتَّنْقِيَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَالْجُذَاذِ وَشِبْهِ ذَلِكَ .
26 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ أَوَسْعُ - وَيَلْتَقُونَ بِالْجُمْلَةِ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - وَفْقَ الْبَيَانِ التَّالِي:
قَالَ فِي الْحَاوِي قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ مُسْتَزَادٌ فِي الثَّمَرِ مِنْ إِصْلاَحِ الْمَاءِ وَطَرِيقِهِ وَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَإِبَارِ النَّخْلِ، وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ بِالنَّخْلِ وَنَحْوِهِ جَازَ شَرْطُهُ عَلَى الْعَامِلِ، فَأَمَّا شَدُّ الْحَظَائِرِ فَلَيْسَ فِيهِ مُسْتَزَادٌ وَلاَ صَلاَحَ فِي الثَّمَرَةِ فَلاَ يَجُوزُ شَرْطُهُ عَلَى الْعَامِلِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ فِي الْمُسَاقَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ
أَحَدُهَا: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ.
وَالثَّانِي: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ.
وَالثَّالِثُ: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ.
وَالرَّابِعُ: مَا لاَ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ وَلاَ النَّخْلِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الأْوَّلُ: وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْلِ، فَمِثْلُ إِبَارِ النَّخْلِ وَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَتَلْقِيحِ الثَّمَرَةِ وَلِقَاطِهَا رُطَبًا وَجُذَاذُهَا ثَمَرًا، فَهَذَا الضَّرْبُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ، وَيَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:
أ - قِسْمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا لاَ تَحْصُلُ الثَّمَرَةُ إِلاَّ بِهِ كَالتَّلْقِيحِ وَالإْبَارِ.
ب - وَقِسْمٌ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ كُلُّ مَا فِيهِ مُسْتَزَادٌ لِلثَّمَرَةِ وَقَدْ تَصْلُحُ بِعَدَمِهِ، كَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَتَدَلِّيهِ الثَّمَرَةَ.
ج - قِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ كُلُّ مَا تَكَامَلَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَهُ كَاللِّقَاطِ وَالْجُذَاذِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ إِلاَّ بِشَرْطٍ لِتَكَامُلِ الثَّمَرَةِ بِعَدِمِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، لأِنَّ الثَّمَرَةَ لاَ تَسْتَغْنِي عَنْهُ وَإِنْ تَكَامَلَتْ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ، فَمِثْلُ شَدِّ الْحَظَائِرِ وَحَفْرِ الآْبَارِ وَشَقِّ السَّوَّاقِي وَكَرْيِ الأْنْهَارِ ، فَكُلُّ هَذَا مِمَّا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ، فَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ، وَكَذَا مَا شَاكَلَهُ مِنْ عَمَلِ الدَّوَالِيبِ وَنَحْوِهَا.
فَإِنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلاً وَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ، حَمْلاً عَلَى الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي الرَّهْنِ تَبْطُلُ وَلاَ يَبْطُلُ مَعَهَا الرَّهْنُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ، فَكَالسَّقْيِ وَالإِْثَارَةِ وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ بِالنَّخْلِ. إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا فِيهِ صَلاَحُ النَّخْلِ وَمُسْتَزَادٌ فِي الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا لاَ تَصْلُحُ الثَّمَرَةُ إِلاَّ بِهِ، كَالسَّقْيِ فِيمَا لاَ يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنَ النَّخْلِ حَتَّى يُسْقَى سَيْحًا فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، كَنَخْلِ الْبَصْرَةِ فَهُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ شُرُوطِ هَذَا الْفَصْلِ سَوَاءٌ، وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ، وَفِيهِ لأِصْحَابِنَا ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ تَأْكِيدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلاَحِ النَّخْلِ وَزِيَادَةِ الثَّمَرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ لأِنَّهُ بِصَلاَحِ النَّخْلِ أَخَصُّ مِنْهُ بِصَلاَحِ الثَّمَرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّمَرَةِ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلاَحِ النَّخْلِ فَلَمْ يَتَنَافَ الشَّرْطَانِ فِيهِ فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْعَامِلِ لَزِمَهُ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لَزِمَهُ، وَإِنْ أَغْفَلَ لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْعَامِلُ فَ لأِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ أَوْ مِنْ شُرُوطِهِ، وَأَمَّا رَبُّ النَّخْلِ فَ لأِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى تَثْمِيرِ مَالِهِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا لاَ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْلِ وَلاَ عَلَى الثَّمَرَةِ فَهُوَ كَاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ قَصْرًا أَوْ يَخْدِمَهُ شَهْرًا أَوْ يَسْقِيَ لَهُ زَرْعًا، فَهَذِهِ شُرُوطٌ تُنَافِي الْعَقْدَ، وَتَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ لأِنَّهُ لاَ تَعَلُّقَ لَهَا بِهِ، وَلاَ تَخْتَصُّ بِشَيْءٍ فِي مَصْلَحَتِهِ .
27 - وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَلْزَمُ الْعَامِلَ بِإِطْلاَقِ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ مَا فِيهِ صَلاَحُ الثَّمَرَةِ وَزِيَادَتُهَا مِثْلُ حَرْثِ الأْرْضِ تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْبَقَرِ الَّتِي تَحْرُثُ وَآلَةُ الْحَرْثِ وَسَقْيِ الشَّجَرِ وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ وَإِصْلاَحِ طُرُقِ الْمَاءِ وَتَنْقِيَتِهَا وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ وَالشَّوْكِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ الْيَابِسِ وَزِبَارِ الْكَرْمِ وَقَطْعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى قَطْعِهِ وَتَسْوِيَةِ الثَّمَرِ وَإِصْلاَحِ الأْجَاجِينِ وَهِيَ الْحُفَرُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَاءُ عَلَى أُصُولِ النَّخْلِ وَإِدَارَةِ الدُّولاَبِ، وَالْحِفْظِ لِلثَّمَرِ فِي الشَّجَرِ وَبَعْدَهُ حَتَّى يُقْسَمَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُشَمَّسُ فَعَلَيْهِ تَشْمِيسُهُ.
وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ مَا فِيهِ حِفْظُ الأْصْلِ كَسَدِّ الْحِيطَانِ وَإِنْشَاءِ الأْنْهَارِ وَعَمَلِ الدُّولاَبِ وَحَفْرِ بِئْرِهِ وَشِرَاءِ مَا يُلَقَّحُ بِهِ.
وَعَبَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ هَذَا بِعَبَّارَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: كُلُّ مَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ وَمَا لاَ يَتَكَرَّرُ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْعَمَلِ، فَأَمَّا شِرَاءُ مَا يُلَقِّحُ بِهِ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ تَكَرَّرَ، لأِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْعَمَلِ.
وَإِنْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ وَلَمْ يُبَيِّنَا مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِنْ شَرَطَا عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا مِمَّا يَلْزَمُ الآْخِرَ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ لأِنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَفْسَدَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْجُذَاذَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْعَامِلِ جَازَ، لأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يُخِلُّ بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ وَلاَ مَفْسَدَةَ فِيهِ فَصَحَّ كَتَأْجِيلِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَمَلِ مَعْلُومًا لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّوَاكُلِ فَيَخْتَلَّ الْعَمَلُ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَكْثَرَ الْعَمَلِ، لأِنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ أَكْثَرَ الْعَمَلِ كَانَ وُجُودُ عَمَلِهِ كَعَدِمِهِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.
فَأَمَّا الْجُذَاذُ وَالْحَصَادُ وَاللِّقَاطُ فَهُوَ عَلَى الْعَامِلِ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي الْحَصَادِ، لأِنَّهُ مِنَ الْعَمَلِ فَكَانَ عَلَى الْعَامِلِ كَالتَّشْمِيسِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْجُذَاذِ أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ عَلَى الْعَامِلِ فَجَائِزٌ لأِنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْهُ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ .
مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَهُمْ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَوْقِيتُ الْمُسَاقَاةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ، وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ وَقْتَ إِدْرَاكِ الثَّمَرِ مَعْلُومٌ وَقَلَّمَا يُتَفَاوَتُ فِيهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ، وَلأِنَّ رَسُولَ اللَّه صلي الله عليه وسلم وَخُلَفَاءَهُ لَمْ يَضْرِبُوا مُدَّةً لأِهْلِ خَيْبَرَ.
وَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تُذْكَرَ الْمُدَّةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الإْجَارَةِ .
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِي تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ فَصَحَّ تَوْقِيتُهَا وَلأِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ كَالْوَكَالَةِ فَلَمْ يُشْتَرَطِ التَّوْقِيتُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ مُعْرِفَةُ الْعَمَلِ جُمْلَةً لاَ تَفْصِيلاً بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ كَسَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَلاَ تَصِحُّ مُطْلَقَةً وَلاَ مُؤَبَّدَةً لأِنَّهَا عَقْدٌ لاَزِمٌ فَأَشْبَهَتِ الإْجَارَةَ .
بَيَانُ الْمُدَّةِ:
29 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ الْمُسَاقَاةُ كَالْمُزَارَعَةِ فِي الْخِلاَفِ وَالْحُكْمِ وَفِي الشُّرُوطِ إِلاَّ الْمُدَّةَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُذْكَرَ الْمُدَّةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الإْجَارَةِ ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا، وَتَقَعُ عَلَى أَوَّلِ ثَمَرَةٍ تَخْرَجُ، لأِنَّ وَقْتَ إِدْرَاكِ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ قَلِيلٌ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُتَيَقَّنُ، بِخِلاَفِ الزَّرْعِ فِيهِ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً رَبِيعًا وَخَرِيفًا وَغَيْرَ ذَلِكَ.
أ - فَفِي حَالِ ذِكْرِ الْمُدَّةِ: إِنْ ذَكَرَ مُدَّةً يُثْمِرُ الشَّجَرُ خِلاَلَهَا صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ، وَإِنْ ذَكَرَ مُدَّةً لاَ يُثْمِرُ خِلاَلَهَا فَسَدَتْ، وَإِنْ ذَكَرَ مُدَّةً يُحْتَمَلُ أَنْ يُثْمِرَ الشَّجَرُ خِلاَلَهَا وَأَنْ لاَ يُثْمِرَ تَصِحُّ أَيْضًا لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ، ثُمَّ إِنْ خَرَجَ الثَّمَرُ خِلاَلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمُحْتَمَلَةِ صَحَّتْ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا فَسَدَتْ لأِنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فِي الْمُدَّةِ الْمُسَمَّاةِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجِ الثَّمَرُ أَصْلاً صَحَّ الْعَقْدُ لأِنَّ الذَّهَابَ كَانَ بِآفَةٍ لاَ بِسَبَبِ فَسَادِ تَسْمِيَةِ الْمُدَّةِ، فَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا فَلاَ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ الْمُدَّةِ.
ب - وَفِي حَالِ عَدَمِ ذِكْرِ الْمُدَّةِ يَقَعُ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَيَنْصَرِفُ إِلَى أَوَّلِ ثَمَرَةٍ تَخْرَجُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ لاَ إِلَى مَا بَعْدَهُ لأِنَّهُ مَشْكُوكٌ، وَمِثْلُ الشَّجَرِ فِي ذَلِكَ الرِّطَابُ، إِذَا دَفَعَهَا مُسَاقَاةً حَتَّى يُدْرِكَ بَذْرُهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ لأِنَّ لإِدْرَاكِ الْبَذْرَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً.
أَمَّا لَوْ دَفَعَهَا رَيْثَمَا يَذْهَبُ أُصُولُهَا وَيَنْقَطِعُ نَبْتُهَا فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْمُسَاقَاةَ، إِذْ لَيْسَ لِذَلِكَ أَمَدٌ مَعْلُومٌ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَهَابِ الأْصُولِ وَأَطْلَقَ جَازَ الْعَقْدُ وَانْصَرَفَ إِلَى أَوَّلِ جَزَّةٍ.
30 - وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَمَذْهَبُهُمْ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَجَائِزٌ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ عَامًا وَاحِدًا وَعَامَيْنِ وَأَعْوَامًا مِنَ الْجُذَاذِ إِلَى الْجُذَاذِ عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِمَّا يُخْرِجُ اللَّهُ مِنَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فِيهَا.
وَلَوْ سَاقَاهُ إِلَى أَجَلٍ فَانْقَضَى الأْجَلُ وَفِي النَّخْلِ ثَمَرٌ لَمْ يَجُزْ جُذَاذُهُ، وَلَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ فَهُوَ عَلَى مُسَاقَاتِهِ حَتَّى يُجَزَّ، لأِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لَهُ.
وَإِنَّمَا الْمُسَاقَاةُ إِلَى الْجُذَاذِ وَإِلَى الْقِطَافِ، لاَ إِلَى الأْجَلِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَكَرِهَ مَالِكٌ الْمُسَاقَاةَ فِيمَا طَالَ مِنَ السِّنِينَ وَانْقِضَاءُ السِّنِينَ فِيهَا هُوَ بِالْجُذَاذِ لاَ بِالأْهِلَّةِ .
31 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ بِسَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمُ الإْطْلاَقُ فِيهَا وَلاَ التَّأْبِيدُ، وَرَتَّبُوا عَلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَحْكَامًا مِنْ حَيْثُ إِدْرَاكُ الثَّمَرِ وَعَدَمُ إِدْرَاكِهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً، فَإِنْ وَقَّتَ بِالشُّهُورِ أَوِ السِّنِينَ الْعَرَبِيَّةِ فَذَاكَ، وَلَوْ وَقَّتَ بِالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهَا جَازَ إِذَا عَلِمَاهَا.
فَإِنْ أَطْلَقَا لَفْظَ السَّنَةِ انْصَرَفَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ.
وَإِنْ وَقَّتَ بِإِدْرَاكِ الثَّمَرَةِ فَهَلْ يَبْطُلُ كَالإْجَارَةِ أَمْ يَصِحُّ لأِنَّهُ الْمَقْصُودُ؟
وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَوَّلُهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَصَحَّحَ الْغَزَالِيُّ الثَّانِيَ حَيْثُ قَالَ: وَلْيُعْرَفِ الْعَمَلُ جُمْلَةً، فَإِنْ عُرِفَ بِإِدْرَاكِ الثِّمَارِ جَازَ عَلَى الأْصَحِّ .
وَلَوْ قَالَ: سَاقَيْتُكَ سَنَةً وَأَطْلَقَ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَمْ سَنَةِ الإْدْرَاكِ وَجْهَانِ: زَعَمَ أَبُو الْفَرْجِ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ أَصَحَّهُمَا: الثَّانِي، فَإِنْ قُلْنَا بِالأْوَّلِ أَوْ وَقَّتَ بِالزَّمَانِ، فَأَدْرَكَتِ الثِّمَارُ وَالْمُدَّةُ بَاقِيَةٌ لَزِمَ الْعَامِلَ أَنْ يَعْمَلَ فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ.
وَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَعَلَى الشَّجَرِ طَلْعٌ أَوْ بَلَحٌ فَلِلْعَامِلِ نَصِيبُهُ مِنْهَا وَعَلَى الْمَالِكِ التَّعَهُّدُ إِلَى الإْدْرَاكِ.
وَإِنْ حَدَثَ الطَّلْعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ فَلاَ حَقَّ لِلْعَامِلِ فِيهِ .
وَلَوْ سَاقَاهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَفِي صِحَّتِهِ أَقْوَالٌ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْجِوَازِ هَلْ يَجِبُ بَيَانُ حِصَّةِ كُلِّ سَنَةٍ، أَمْ يَكْفِي قَوْلُهُ سَاقَيْتُكَ عَلَى النِّصْفِ لاِسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ كُلَّ سَنَةٍ؟ قَوْلاَنِ أَوْ وَجْهَانِ كَالإْجَارَةِ .
وَقِيلَ: يَجِبُ هُنَا قَطْعًا لِكَثْرَةِ الاِخْتِلاَفِ فِي الثَّمَرِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى نَخْلِهِ عَشْرَ سِنِينَ عَلَى أَنَّ لَهُ ثَمَرَةَ سَنَةٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ عَيَّنَ السَّنَةَ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهَا لأِنَّهُ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا كَانَتْ مَجْهُولَةً، وَإِنْ عَيَّنَهَا فَقَدْ شَرَطَ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ فِيهَا.
وَلَوْ جَعَلَ لَهُ نِصْفَ الثَّمَرَةِ فِي سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الْعَشَرَةِ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ لِلْجَهْلِ بِهَا، وَإِنْ عَيَّنَهَا نَظَرَ: فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ السَّنَةِ الأَْخِيرَةِ بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ، لأِنَّهُ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ بَعْدَ حَقِّهِ مِنَ الثَّمَرَةِ عَمَلاً لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِوَضًا، وَإِنْ كَانَتِ السَّنَةَ الأْخِيرَةَ فَفِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صَحِيحَةٌ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي بَعْضِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لأِنَّهُ يَعْمَلُ فِيهَا مُدَّةً تُثْمِرُ فِيهَا وَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ثَمَرِهَا وَبِهَذَا الْمَعْنَى خَالَفَ السَّنَةَ الْوَاحِدَةَ .
وَإِذَا سَاقَاهُ عَشْرَ سِنِينَ، فَأَطْلَعَتْ ثَمَرَةُ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ بَعْدَ تَقَضِّيهَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ فِي ثَمَرَةِ تِلْكَ السَّنَةِ حَقٌّ، لِتَقَضِّي مُدَّتِهِ وَزَوَالِ عَقْدِهِ، وَلَوْ أَطْلَعَتْ قَبْلَ تَقَضِّي تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ تَقَضَّتْ وَالثَّمَرَةُ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا - وَهِيَ بَعْدُ طَلْعٌ أَوْ بَلَحٌ - كَانَ لَهُ حَقُّهُ مِنْهَا لِحُدُوثِهَا فِي مُدَّتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ أَجِيرٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْهَا طَلْعًا أَوْ بَلَحًا، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ إِلَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ شَرِيكٌ، كَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهَا إِلَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَتَنَاهِي الثَّمَرَةِ .
32 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدْ قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَيَصِحُّ تَوْقِيتُ مُسَاقَاةٍ كَوَكَالَةٍ وَشَرِكَةٍ وَمُضَارَبَةٍ لأِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِيهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَوْقِيتُ الْمُسَاقَاةِ لأِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إِبْقَاؤُهُ وَفَسْخُهُ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّوْقِيتِ كَالْمُضَارَبَةِ.
وَيَصِحُّ تَوْقِيتُهَا إِلَى جُذَاذٍ وَإِلَى إِدْرَاكٍ وَإِلَى مُدَّةٍ تَحْتَمِلُهُ لاَ إِلَى مُدَّةٍ لاَ تَحْتَمِلُهُ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا .
وَإِنْ سَاقَاهُ إِلَى مُدَّةٍ تَكْمُلُ فِيهَا الثَّمَرَةُ غَالِبًا فَلَمْ تَحْمِلِ الثَّمَرَةُ تِلْكَ السَّنَةَ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِلِ لأِنَّهُ دَخَلَ عَلَى ذَلِكَ .
الأْحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ ابْتِدَاءً:
33 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ الْعَدِيدُ مِنَ الأْحْكَامِ مِنْهَا:
أ - أَنَّهُ يَجِبُ قِيَامُ الْعَامِلِ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الشَّجَرُ مِنَ السَّقْيِ وَالتَّلْقِيحِ وَالْحِفْظِ، لأِنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَمَلُ، وَسَبَقَ ذِكْرُ الضَّابِطِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يَجِبُ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الشَّجَرِ مِنَ السَّمَادِ وَاللِّقَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ب - لاَ يَمْلِكُ الْعَامِلُ أَنْ يَدْفَعَ الشَّجَرَ مُعَامَلَةً إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ إِذَا قَالَ لَهُ الْمَالِكُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، وَذَلِكَ لأِنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ الشَّرِكَةِ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَالثَّمَرُ عِنْدَئِذٍ لِلْمَالِكِ. وَلِلْعَامِلِ الثَّانِي أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْعَامِلِ الأْوَّلِ ، وَلاَ أَجْرَ لِلأْوَّلِ لأِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ تَفْوِيضٍ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ .
وَهَذَا مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا الْحَنَابِلَةُ قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ: بِأَنَّهُ عَامِلٌ فِي الْمَالِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَامِلَ غَيْرَهُ فِيهِ كَالْمُضَارِبِ، وَ لأِنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ.
وَقَالَ: وَلِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُزَارِعَ فِي الْوَقْفِ وَيُسَاقِيَ عَلَى شَجَرِهِ لأِنَّهُ إِمَّا مَالِكٌ لِرَقَبَةِ ذَلِكَ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا عِنْدَ مَنْ أَجَازَ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِقَيْدٍ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ وَجَازَ مُسَاقَاةُ الْعَامِلِ عَامِلاً آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْحَائِطِ، وَمَحَلُّ الْجَوَازِ إِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ رَبُّ الْحَائِطِ عَمَلَ الْعَامِلِ بِعَيْنِهِ وَإِلاَّ مُنِعَ مِنْ مُسَاقَاتِهِ لآِخَرَ، مَا لَمْ يَكُنْ أَمِينًا - أَيْضًا - وَلَوْ أَقَلَّ أَمَانَةً لاَ غَيْرَ أَمِينٍ، - وَفَرَّقُوا فِي هَذَا الصَّدَدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ - قَالَ الدُّسُوقِيُّ: بِخِلاَفِ عَامِلِ الْقِرَاضِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَامِلَ عَامِلاً آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَالِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ أَمِينًا، لأِنَّ مَالَ الْقِرَاضِ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ بِخِلاَفِ الْحَائِطِ.
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ (لاَ غَيْرَ أَمِينٍ) أَيْ إِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ لاَ تَجُوزُ مُسَاقَاتُهُ وَإِنْ كَانَ الأْوَّلُ مِثْلَهُ فِي عَدَمِ الأْمَانَةِ؛ لأِنَّ رَبَّ الْحَائِطِ رُبَّمَا رَغِبَ فِي الأْوَّلِ لأِمْرٍ لَيْسَ فِي الثَّانِي، وَيَضْمَنُ الْعَامِلُ الأْوَّلُ مُوجِبَ فِعْلِ الثَّانِي، إِذَا كَانَ هَذَا غَيْرَ أَمِينٍ أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ الاِتِّفَاقُ بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا جُعِلَ لِلأْوَّلِ فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ فَالزَّائِدُ عَلَى الْعَامِلِ الأْوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَالزَّائِدُ لِلْعَامِلِ الأْوَّلِ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَالُوا بِالْجِوَازِ بِقَيْدِ التَّوَافُقِ فِي الْمُدَّةِ وَالنَّصِيبِ، قَالَ فِي الْحَاوِي فَإِنْ أَرَادَ الْعَامِلُ أَنْ يُسَاقِيَ غَيْرَهُ عَلَيْهَا مُدَّةَ مُسَاقَاتِهِ جَازَ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ فَمَا دُونَ، كَالإْجَارَةِ ، وَلاَ يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ لأِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ حَيْثُ كَانَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُسَاقِيَ عَلَيْهَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ لِلْعَامِلِ أَنْ يُضَارِبَ بِهَا، أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ لأِنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِلاَزِمٍ فَلَمْ يَمْلِكْ مَا بَاتَ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفِهِ، وَتَصَرُّفَ الْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِلُزُومِ الْعَقْدِ فَيَمْلِكُ الاِسْتِنَابَةَ فِي تَصَرُّفِهِ.
ج - إِذَا قَصَّرَ الْعَامِلُ فِي سَقْيِ الشَّجَرِ حَتَّى يَبِسَ ضَمِنَ، لأِنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَالشَّجَرَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، فَيَضْمَنُ بِالتَّقْصِيرِ وَلَوْ أَخَّرَ السَّقْيَ تَأْخِيرًا مُعْتَادًا لاَ يَضْمَنُ لِعَدَمِ التَّقْصِيرِ، وَإِلاَّ ضَمِنَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِالضَّمَانِ إِنْ قَصَّرَ عَمَّا شُرِطَ عَلَيْهِ أَوْ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ.
قَالَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ : وإِنْ قَصَّرَ عَامِلٌ عَمَّا شُرِطَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ أَوْ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، كَالْحَرْثِ أَوِ السَّقْيِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَحَرَثَ أَوْ سَقَى مَرَّتَيْنِ حُطَّ مِنْ نَصِيبِهِ بِنِسْبَتِهِ، فَيُنْظَرُ قِيمَةُ مَا عَمِلَ مَعَ قِيمَةِ مَا تَرَكَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ مَا تَرَكَ الثُّلُثَ مَثَلاً حُطَّ مِنْ جُزْئِهِ الْمُشْتَرَطِ لَهُ ثُلُثُهُ.
وَقَوْلُهُ: قَصَّرَ، يُشْعِرُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَصِّرْ، بِأَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ السَّقْيَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَسَقَى مَرَّتَيْنِ، وَأَغْنَاهُ الْمَطَرُ عَنِ الثَّالِثَةِ، لَمْ يُحَطَّ مِنْ حِصَّتِهِ شَيْءٌ وَكَانَ لَهُ جُزْؤُهُ بِالتَّمَامِ وَهُوَ كَذَلِكَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ بِلاَ خِلاَفٍ، بِخِلاَفِ الإْجَارَةِ بِالدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ عَلَى سِقَايَةِ حَائِطٍ زَمَنَ السَّقْيِ وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ وَجَاءَ مَاءُ السَّمَاءِ فَأَقَامَ بِهِ حَيْنًا فَإِنَّهُ يُحَطُّ مِنَ الأْجْرَةِ بِقَدْرِ إِقَامَةِ الْمَاءِ فِيهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الإْجَارَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، وَالْمُسَاقَاةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ لأِنَّهَا رُخْصَةٌ وَالرُّخْصَةُ تَسْهِيلٌ.
د - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ جَائِزَةٌ بِوَجْهٍ عَامٍّ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ مِنْهُ، وَذَلِكَ فِي حَالَتَيْنِ:
الأْولَى: إِنْ لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُ الثَّمَرِ كَانَتْ جَائِزَةً مِنْهُمَا - الْعَامِلِ وَرَبِّ الأْرْضِ - لأِنَّ إِنْشَاءَ الْعَقْدِ جَائِزٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ مِنْهُمَا أَيَّهُمَا كَانَ.
الثَّانِيَةُ: وَإِنْ تَنَاهَى عِظَمُ الثَّمَرِ وَتَمَّ نُضْجُهُ جَازَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ لِرَبِّ الأْرْضِ ، لأِنَّ الزِّيَادَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَثَابَةِ حَطٍّ، وَلاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَالِكِ لأِنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي مُقَابِلِ الْعَمَلِ، وَالْمَحَلُّ لاَ يَحْتَمِلُهُ، إِذْ قَدْ نَضِجَ الثَّمَرُ، وَلِهَذَا لاَ يَحْتَمِلُ إِنْشَاءُ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَالأْصْلُ فِي هَذَا - كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ - أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ احْتَمَلَ إِنْشَاءَ الْعَقْدِ احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ وَإِلاَّ فَلاَ، وَالْحَطُّ جَائِزٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ .
أَحْكَامُ الْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ فِي الاِنْتِهَاءِ:
34 - الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ انْتِهَائِهَا دُونَ فَسْخٍ أَوِ انْحِلاَلٍ تَبْرُزُ فِي الأْحْكَامِ الآْتِيَةِ:
أَوَّلاً: اقْتِسَامُ الْخَارِجِ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ، لأِنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهَذَا حُكْمٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ تُثْمِرِ الأْشْجَارُ شَيْئًا فَلاَ أَجْرَ لِلْعَامِلِ وَلاَ لِلْمَالِكِ لأِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ بَعْضُ الْخَارِجِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلاَ يُخَالِفُ أَحَدٌ فِي هَذَا .
ثَانِيًا: الْعَمَلُ فِي الثِّمَارِ بَعْدَ إِدْرَاكِهَا قَبْلَ قِسْمَتِهَا مِنَ الْجُذَاذِ وَالْقَطْفِ وَالْحَصَادِ وَالتَّجْفِيفِ وَاللِّقَاطِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا عَلَيْهِمَا مَعًا عَلَى قَدْرِ - حِصَصِهِمَا، وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسَاقَاةِ لاِنْتِهَائِهَا بِالإْدْرَاكِ، حَتَّى لاَ يَجُوزَ اشْتِرَاطُهَا عَلَى الْعَامِلِ، لأِنَّهُ لاَ عُرْفَ فِي ذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْجُذَاذَ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ حِصَّتِهِمَا إِلاَّ أَنْ يَشْرِطَهُ عَلَى الْعَامِلِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا عَلَى الْعَامِلِ، وَأَنَّهَا لاَزِمَةٌ بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ .
أَمَّا الأْعْمَالُ الَّتِي تَلِي الْقِسْمَةَ فَتَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً لِتَمْيِيزِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الآْخَرِ .
ثَالِثًا: إِنِ اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالْعَامِلُ فِي الْمِقْدَارِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ لِلْعَامِلِ.
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ لأِنَّ الْعَامِلَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ، وَالْمَالِكَ يُنْكِرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْعَامِلِ، وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ رَجَحَتْ بَيِّنَةُ الْعَامِلِ، لأِنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَلاَ يَتَحَالَفَانِ هُنَا أَيْ بَعْدَ نُضْجِ الثَّمَرِ وَاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْفَائِدَةِ وَإِنَّمَا يَتَحَالَفَانِ قَبْلَ بَدْءِ الْعَمَلِ وَحَالَ قِيَامِهِ، وَيَتَرَادَّانِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَكَذَلِكَ إِنِ اخْتَلَفَا فِيمَا تَنَاوَلَتْهُ الْمُسَاقَاةُ فِي الشَّجَرِ، لأِنَّ رَبَّ الْمَالِ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا الْعَامِلُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» ،، فَإِنْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ حُكِمَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَفِي أَيِّهِمَا تُقَدَّمُ بَيِّنَتُهُ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، فَإِنْ كَانَ الشَّجَرُ لاِثْنَيْنِ فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا الْعَامِلَ وَكَذَّبَهُ الآْخَرُ أُخِذَ نَصِيبُهُ مِنْ مَالِ الْمُصَدِّقِ فَإِنْ شَهِدَ عَلَى الْمُنْكَرِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَدْلاً، لأِنَّهُ لاَ يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا وَلاَ يَدْفَعُ ضَرَرًا وَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً كَانَتْ شَهَادَتُهُ كَعَدَمِهَا، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ اثْنَيْنِ وَرَبُّ الْمَالِ وَاحِدًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ أَيْضًا .
وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ الاِخْتِلاَفُ قَبْلَ الْعَمَلِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ
وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَمَلِ وَيَنْعِ الثَّمَرِ: فَإِنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا مَا يُشْبِهُ مُسَاقَاةَ الْمِثْلِ فَالْقَوْلُ لَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُسَاقَاةَ الْمِثْلِ وَجَبَ تَحْلِيفُهُمَا فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلاَ وَجَبَتْ مُسَاقَاةُ الْمِثْلِ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الآْخَرُ قُضِيَ لِلْحَالِفِ عَلَى النَّاكِلِ.
فَإِنْ كَانَتْ مُسَاقَاةُ الْمِثْلِ مُخْتَلِفَةً كَأَنْ كَانَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْمِنْطَقَةِ الْمُسَاقَاةَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ قُضِيَ بِالأْكْثَرِ .
وَإِنْ أَشْبَهَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي دَعْوَاهُ مُسَاقَاةَ الْمِثْلِ فَالْقَوْلُ لِلْعَامِلِ بِيَمِينِهِ، لأِنَّهُ مُؤْتَمَنٌ، وَالأْصْلُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى أَقْوَى الْمُتَدَاعَيَيْنِ شُبْهَةً .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِلِ، وَلاَ بَيِّنَةَ تَحَالَفَا كَمَا فِي الْقِرَاضِ، وَإِذَا تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا قَبْلَ الْعَمَلِ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ لأِحَدِ هِمَا بَيِّنَةٌ قُضِيَ بِهَا.
وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَالأْظْهَرُ أَنَّهُمَا تَتَسَاقَطَانِ فَيَتَحَالَفَانِ، وَمُقَابِلُ الأْظْهَرِ أَنَّهُمَا تُسْتَعْمَلاَنِ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ سَاقَاهُ شَرِيكَانِ فِي الْحَدِيقَةِ، فَقَالَ الْعَامِلُ: شَرَطْتُمَا لِي نِصْفَ الثَّمَرِ وَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَقَالَ الآْخَرُ: بَلْ شَرَطْنَا الثُّلُثَ، فَنَصِيبُ الْمُصَدِّقِ مَقْسُومٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ.
وَأَمَّا نَصِيبُ الْمُكَذِّبِ فَيَتَحَالَفَانِ فِيهِ وَلَوْ شَهِدَ الْمُصَدِّقُ لِلْعَامِلِ أَوِ الْمُكَذِّبِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ .
مَا يُفْسِدُ الْمُسَاقَاةَ
تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ بِمَا يَلِي:
35 - أَوَّلاً: اشْتِرَاطُ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الثَّمَرَةِ بِالْكَيْلِ أَوْ بِالْوَزْنِ أَوْ: بِغَيْرِهِمَا لأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ تَخْصِيصُ جَانِبٍ مِنَ الْكَرْمِ أَوِ الْبُسْتَانِ لأِحَدِ هِمَا، أَوِ اشْتِرَاطُ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ غَيْرِ الثَّمَرِ يُفْسِدُهَا لأِنَّهُ مِنْ مَوْرِدِ النَّهْيِ الثَّابِتِ فِي السُّنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه .
وَ لأِنَّهُ قَدْ لاَ يُثْمِرُ الشَّجَرُ إِلاَّ الْقَدْرَ الْمُسَمَّى، وَلأِنَّ الْمُسَاقَاةَ شَرِكَةٌ فِي الثَّمَرَةِ فَقَطْ، وَلِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ .
غَيْرَ أَنَّ ابْنَ سِرَاجٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ: كَأَنْ لاَ يَجِدَ رَبُّ الْحَائِطِ عَامِلاً إِلاَّ مَعَ دَفْعِهِ لَهُ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى الْجُزْءِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ فَيَجُوزُ .
36 - ثَانِيًا: اشْتِرَاطُ مُشَارَكَةِ الْمَالِكِ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ إِذْ لاَ بُدَّ مِنَ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالشَّجَرِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهِيَ تَفُوتُ بِذَلِكَ، كَمَا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا عَلَى الْعَامِلِ كَمَا هُوَ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَالْمُسَاقَاةُ مِثْلُهَا وَكَذَا النَّوَوِيُّ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاشْتِرَاطِ إِخْرَاجِ مَا كَانَ مِنَ الرَّقِيقِ أَوِ الدَّوَابِّ فِي الْبُسْتَانِ الْكَبِيرِ إِذْ لِلْعَامِلِ انْتِفَاعُهُ بِالْمَوْجُودِ مِنْهَا فِيهِ، وَإِنَّ الْمُفْسِدَ أَيْضًا: اشْتِرَاطُ تَجْدِيدِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْهَا وَقْتَ الْعَقْدِ، عَلَى الْمَالِكِ أَوِ الْعَامِلِ .
بَلِ اسْتَثْنَى فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ - كَمَا سَبَقَ - جَوَازُ اشْتِرَاطِ الْعَامِلِ مُعَاوَنَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَالِكُ مَنْفَعَتَهُ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا بِالرُّؤْيَةِ أَوِ الْوَصْفِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْمُفْسِدَ اشْتِرَاطُ أَكْثَرِ الْعَمَلِ عَلَى الْمَالِكِ .
37 - ثَالِثًا: أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ عَمَلاً يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ بَعْدَ أَنْ يُونِعَ الثَّمَرُ، وَتَنْتَهِيَ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ، كَنَصْبِ الْعَرَائِشِ، وَغَرْسِ الأْشْجَارِ ، وَبِنَاءِ الْجُدْرَانِ، وَتَشْيِيدِ الْبُيُوتِ لِحِفْظِ الثِّمَارِ، وَتَسْوِيرِ الْحَدَائِقِ، وَاسْتِحْدَاثِ حَفْرِيَّاتٍ مَائِيَّةٍ، فَهَذَا مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ: لأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ: لأِنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ، وَأَنَّهُ اشْتِرَاطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، وَ لأِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَمَلِ فِي الشَّجَرِ فِي شَيْءٍ وَقَالُوا: لأِنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَاسْتَثْنَوُا اشْتِرَاطَ الْيَسِيرِ الْقَلِيلِ عَلَى الْعَامِلِ مِمَّا لاَ يَبْقَى غَالِبًا بَعْدَ الْمُسَاقَاةِ كَإِصْلاَحِ الْحِيَاضِ وَتَحْصِينِ الْجُدُرِ .
38 - رَابِعًا: اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنَ الأْعْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ بَعْدَ أَنْ تَنْتَهِيَ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ وَيَحِينَ الأَْكْلُ، كَالْقِطَافِ وَالْحِفْظِ وَالتَّجْفِيفِ، لأِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لأِحَدِ هِمَا وَلَمْ يَجْرِ بِهِ التَّعَامُلُ، فَكَانَ مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ جَرَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْعُرْفُ صَحَّ الْعَقْدُ وَجَازَ اشْتِرَاطُهُ، وَهُوَ الَّذِي رِوَاهُ بِشْرٌ وَابْنُ سَمَاحَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ - كَمَا سَبَقَ - عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى الْعَامِلِ، فَلاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاشْتِرَاطِهَا عَلَى الْعَامِلِ، لأِنَّهَا مِنَ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُفْسِدَ اشْتِرَاطُهَا عَلَى الْعَامِلِ.
فَقَدْ قَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا فِي الْمُحَلَّى عَلَى الْمِنْهَاجِ أَنَّ مَا عَلَى الْمَالِكِ إِذَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْعَامِلِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَكَذَا مَا عَلَى الْعَامِلِ إِذَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَالِكِ بَطَلَ الْعَقْدُ.
وَكَذَا قَرَّرَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْءٌ مِمَّا يَلْزَمُ الآْخَرَ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ لأِنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَفْسَدَهُ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَمَعَ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا مَذْهَبَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ الْجُذَاذَ وَنَحْوَهُ عَلَى الْعَامِلِ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَطَهُ الْعَامِلُ عَلَى الْمَالِكِ جَازَ، بَلْ قَرَّرُوا هَذَا الْمَبْدَأَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: وَهُوَ: أَنَّهُ إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِشَيْءٍ وَاشْتَرَطَ خِلاَفَهُ عَمِلَ بِالشَّرْطِ؛ لأِنَّهُ كَالنَّاسِخِ لِلْعَادَةِ .
39 - خَامِسًا: اشْتِرَاطُ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لأِحَدِ هِمَا لاِنْقِطَاعِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ بِهِ، وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْخَارِجِ لِغَيْرِهِمَا
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْعَامِلِ أَوِ الْمَالِكِ وَإِنْ نَفَاهُ بَعْضُهُمْ.
(ر: ف 20).
40 - سَادِسًا: اشْتِرَاطُ الْحَمْلِ وَالْحِفْظِ بَعْدَ قِسْمَةِ الْمَحْصُولِ عَلَى الْعَامِلِ، لأِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُسَاقَاةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْفَسَادَ بِهَا إِذَا كَانَتْ فِيهِ كُلْفَةٌ أَوْ مَشَقَّةٌ قَالَ الدَّرْدِيرُ: أَوِ اشْتَرَطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ حَمْلَ نَصِيبِ الْعَامِلِ لِمَنْزِلِ الْعَامِلِ إِذَا كَانَ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَإِلاَّ جَازَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ لَهُ أُجْرَةَ الْحَمْلِ فِي الْمَمْنُوعَةِ مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَكَذَا عَكْسُهُ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ رَبِّ الْحَائِطِ عَلَى الْعَامِلِ ذَلِكَ .
41 - سَابِعًا: تَحْدِيدُ مُدَّةٍ لاَ يُثْمِرُ الشَّجَرُ خِلاَلَهَا، وَهَذَا يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، وَمَنْ يَشْتَرِطُ التَّوْقِيتَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يُجِيزُهُ بِمَا زَادَ عَلَى الْجُذَاذِ فِي الْعَادَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ فِيهَا الإْطْلاَقُ وَلاَ التَّأْبِيدُ وَلاَ التَّوْقِيتُ بِإِدْرَاكِ الثَّمَرِ فِي الأْصَحِّ، لأِنَّهُ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ كَمَا سَبَقَ عِنْدَ شَرْطِ الْمُدَّةِ وَأَحْكَامِهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ سَاقَاهُ عَلَى مُدَّةٍ لاَ تَكْمُلُ فِيهَا الثَّمَرَةُ فَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةٌ .
42 - ثَامِنًا: شَرِكَةُ الْعَامِلِ فِيمَا يَعْمَلُ فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ بُسْتَانًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَدَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ مُسَاقَاةً مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ بَيْنَهُمَا مُثَالَثَةً، ثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ وَثُلُثُهُ لِلْمَالِكِ، فَإِنَّهُ تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِلِ، وَهَذَا لأِنَّ الْمُسَاقَاةَ إِجَارَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الإْنْسَانِ لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكٌ، وَلأِنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الإْجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَتَسْلِيمُهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، لأِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبُسْتَانِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، فَيَكُونُ عَامِلاً فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلاَ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ .
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ: فَأَجَازُوا مُسَاقَاةَ الشَّرِيكِ بِشَرْطَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَشْرِطَ لَهُ زِيَادَةً عَلَى حِصَّتِهِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَشْرِطْ لَهُ زِيَادَةً عَلَيْهَا لَمْ تَصِحَّ، لِخُلُوِّهَا عَنِ الْعِوَضِ وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ بِالْعَمَلِ لأِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، وَالآْخَرُ: أَنْ يَسْتَبِدَّ الْعَامِلُ بِالْعَمَلِ وَيَسْتَقِلَّ بِهِ حَتَّى لَوْ شَارَكَهُ الْمَالِكُ بِالْعَمَلِ لَمْ تَصِحَّ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ سَاقَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَرِيكَهُ وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الثَّمَرِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الأْصْلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَجَعَلَ لَهُ ثُلُثَيِ الثَّمَرَةِ صَحَّ، وَكَانَ السُّدُسُ حِصَّتَهُ مِنَ الْمُسَاقَاةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: سَاقَيْتُكَ عَلَى نَصِيبِي بِالثُّلُثِ وَإِنْ جَعَلَ الثَّمَرَةَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ جَعَلَ لِلْعَامِلِ الثُّلُثَ فَهِيَ مُسَاقَاةٌ فَاسِدَةٌ؛ لأِنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ نِصْفَهَا بِمِلْكِهِ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ شَيْئًا، وَإِذَا شَرَطَ لَهُ الثُّلُثَ فَقَدْ شَرَطَ أَنَّ غَيْرَ الْعَامِلِ يَأْخُذُ مِنْ نَصِيبِ الْعَامِلِ ثُلُثَهُ، وَيَسْتَعْمِلُهُ بِلاَ عِوَضٍ فَلاَ يَصِحُّ، فَإِذَا عَمِلَ فِي الشَّجَرِ بِنَاءً عَلَى هَذَا كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَلاَ يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ شَيْئًا، لأِنَّهُ تَبَرَّعَ بِهِ لِرِضَاهُ بِالْعَمَلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَنَا أَعْمَلُ فِيهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، لأِنَّهُ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ مُتَبَرِّعًا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضًا كَمَا لَوْ لَمْ يَعْقِدِ الْمُسَاقَاةَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ، لأِنَّ الْمُسَاقَاةَ تَقْتَضِي عِوَضًا فَلَمْ تَسْقُطْ بِرِضَاهُ بِإِسْقَاطِهِ كَالنِّكَاحِ إِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمُسَمَّى يَجِبُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ .
أَحْكَامُ الْمُسَاقَاةِ الْفَاسِدَةِ
43 - إِذَا وَقَعَتِ الْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً، وَاطَّلَعَ عَلَى الْفَسَادِ وَقَبِلَ الشُّرُوعَ فِي الْعَمَلِ وَجَبَ فَسْخُهَا هَدَرًا بِلاَ شَيْءٍ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ أَوِ الْعَامِلِ، لأِنَّ الْوُجُوبَ أَثَرٌ لِلْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يُوجَدْ .
أَمَّا إِذَا اطَّلَعَ عَلَى الْفَسَادِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاتِجِ وَنَصِيبِ الْعَامِلِ وَالْمَالِكِ، أَوْ مَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ وَلِلْمَالِكِ وَفْقَ الْبَيَانِ التَّالِي:
1 - أَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الأْجْرَةِ لِلْعَامِلِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَالِكِ لِلثَّمَرِ فِي الْمُسَاقَاةِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ قِيَاسُ رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ .
ب - أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ الْعَامِلُ عَلَى الْعَمَلِ لأِنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْعَمَلِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَصِحَّ.
ج - أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ لاَ يَجِبُ فِي الْمُعَامَلَةِ الْفَاسِدَةِ مَا لَمْ يُوجَدِ الْعَمَلُ.
5 - أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِيهَا يَجِبُ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى لاَ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يَجِبُ تَامًّا.
وَهَذَا الاِخْتِلاَفُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ تَامًّا بِلاَ خِلاَفٍ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الأْصْلَ فِي الإْجَارَةِ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ لأِنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَذَلِكَ فِي وُجُوبِ أَجْرِ الْمِثْلِ، لأِنَّهُ الْمِثْلُ الْمُمْكِنُ فِي الْبَابِ إِذْ هُوَ قَدْرُ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ إِلاَّ أَنَّ فِيهِ ضَرْبَ جَهَالَةٍ وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، فَوَجَبَ الْمُسَمَّى عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ أَيْضًا، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى الْبَدَلِ الأْصْلِيِّ لِلْمَنَافِعِ وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلِهَذَا إِذَا لَمْ يُسَمَّ الْبَدَلُ أَصْلاً فِي الْعَقْدِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الأْصْلَ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ بَدَلاً عَنِ الْمَنَافِعِ قِيمَةً لَهَا لأِنَّهُ هُوَ الْمِثْلُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ لَكِنْ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى، لأِنَّهُ كَمَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْبَدَلِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ يَجِبُ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، لأِنَّ اعْتِبَارَ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ أَجْرِ الْمِثْلِ بِالْمُسَمَّى، لأِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَا رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى وَالآْجِرَ مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ عَنْهُ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمُسَمَّى فِي تَقْدِيرِ أَجْرِ الْمِثْلِ بِهِ عَمَلاً بِالدَّلِيلَيْنِ وَرِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَكَانَ أَوْلَى، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَدَلُ سُمِّيَ فِي الْعَقْدِ لأِنَّ الْبَدَلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى أَصْلاً لاَ حَاجَةَ إِلَى اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ أَجْرِ الْمِثْلِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَفَصَّلُوا فِي الاِطِّلاَعِ عَلَى الْفَسَادِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي بَيَانِ الْمَذْهَبِ، بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَالْمَذْكُورَةُ عِنْدَ بَيَانِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى مُسَاقَاةِ الْمِثْلِ بِإِطْلاَقٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ فِي بَعْضِهَا: تُرَدُّ إِلَى مُسَاقَاةٍ مِثْلِهَا، وَفِي بَعْضِهَا: إِلَى إِجَارَةِ الْمِثْلِ.
انْفِسَاخُ الْمُسَاقَاةِ
تَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةِ بِالْمَوْتِ، وَمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَالاِسْتِحْقَاقِ، وَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ، وَالْفَسْخِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْمَوْتُ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَسْخِ الْمُسَاقَاةِ بِالْمَوْتِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَبْطُلُ الْمُسَاقَاةُ بِالْمَوْتِ لأِنَّهَا فِي مَعْنَى الإْجَارَةِ ، فَلَوْ طَرَأَ الْمَوْتُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَلاَ يُلْزَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ لِلآْخَرِ.
وَلَوْ طَرَأَ الْمَوْتُ بَعْدَ نُضْجِ الثَّمَرِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَقُسِمَ الثَّمَرُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ.
وَلَوْ طَرَأَ الْمَوْتُ وَالثَّمَرُ فِجٌّ فَقَالُوا بِبَقَاءِ الْعَقْدِ حُكْمًا وَإِنْ بَطَلَ قِيَاسًا، وَفَرَّقُوا بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
الْحَالُ الأْوَّلُ: أَنْ يَمُوتَ رَبُّ الأْرْضِ وَلَمَّا يَنْضَجِ الثَّمَرُ، بِأَنْ كَانَ بُسْرًا أَوْ فِجًّا، فَيَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ بِهِ حَتَّى يَنْضَجَ وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ وَرَثَتُهُ لأِنَّ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ إِضْرَارًا بِهِ وَإِبْطَالاً لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ فِي الأْشْجَارِ إِلَى وَقْتِ الإْدْرَاكِ، فَإِذَا انْتَقَضَ الْعَقْدُ، تَكَلَّفَ الْجُذَاذَ قَبْلَ الإْدْرَاكِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَإِذَا جَازَ نَقْضُ الإْجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلأِنْ يَجُوزَ بَقَاؤُهَا لِدَفْعِهِ أَوْلَى، وَلاَ ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوَرَثَةِ فَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَحَمُّلَ الضَّرَرَ وَرَضِيَ بِقَطْعِ الثَّمَرِ فِجًّا أَوْ بُسْرًا، تَخَيَّرَ وَرَثَةُ الْمَالِكِ بَيْنَ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:
الأْوَّلُ: أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ.
الثَّانِي: أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ يَوْمَئِذٍ فِجًّا، وَيَبْقَى الثَّمَرُ لَهُمْ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ثُمَّ يَرْجِعُوا عَلَى الْعَامِلِ بِجَمِيعِ مَا أَنْفَقُوا، لأِنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ، وَ لأِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِمْ وَهَذَا لأِنَّ الْعَامِلَ لَمَّا امْتَنَعَ عَنِ الْعَمَلِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ إِبْقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْبُطْلاَنِ وَهُوَ الْمَوْتُ اسْتِحْسَانًا لِلنَّظَرِ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ هُوَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ، فَيُخَيَّرُ الْوَرَثَةُ بَيْنَ الأْمُورِ الثَّلاَثَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ بِقَدْرِ الإْمْكَانِ .
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ الْعَامِلُ وَالثَّمَرُ كَذَلِكَ بُسْرٌ، فَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ، إِنْ شَاءَ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْعَمَلِ حَتَّى نُضُوجِ الثَّمَرِ وَلاَ يَحِقُّ لِصَاحِبِ الأْشْجَارِ مَنْعُهُ؛ لأِنَّهُ نَظَرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْجَانِبَيْنِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْوَارِثُ عَنِ الاِسْتِمْرَارِ عَلَى الْعَمَلِ فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَكِنْ يَكُونُ صَاحِبُ الشَّجَرِ مُخَيَّرًا بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلاَثَةِ التَّالِيَةِ:
الْوَجْهُ الأْوَّلُ: إِنْ شَاءَ اقْتَسَمَ الثَّمَرَ الْغَيْرَ النَّاضِجِ مَعَ الْوَارِثِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوطِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَإِنْ شَاءَ أَدَّى لِلْوَارِثِ حِصَّتَهُ مِنْ قِيمَةِ الثَّمَرِ الْغَيْرِ النَّاضِجِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَإِنْ شَاءَ يَصْرِفْ قَدْرًا مَعْرُوفًا بِإِذْنِ الْقَاضِي وَيَسْتَمِرُّ عَلَى الْعَمَلِ، وَيَأْخُذُ الْمَبْلَغَ الْمَصْرُوفَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَارِثِ، وَلَكِنْ لاَ يَتَجَاوَزُ هَذَا الْمَبْلَغُ الْمَصْرُوفُ فِي أَيِّ حَالٍ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرِ .
الْحَالُ الثَّالِثُ: إِذَا تُوُفِّيَ كِلاَهُمَا فَيَكُونُ وَرَثَةُ الْعَامِلِ مُخَيَّرِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا لأِنَّهُ مْ يَقُومُونَ مَقَامَ الْعَامِلِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ هَذَا الْخِيَارُ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الأْرْضِ ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَإِذَا لَمْ تَنْفَسِخْ - أَيِ الْمُسَاقَاةُ - بِالْفَلَسِ الطَّارِئِ فَكَذَا بِالْمَوْتِ؛ لأِنَّ الْمَوْتَ كَالْفَلَسِ، وَالْمُسَاقَاةَ كَالْكِرَاءِ لاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُتَكَارِيَيْنِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَوْتِ الْمَالِكِ وَمَوْتِ الْعَامِلِ:
فَإِنْ مَاتَ مَالِكُ الشَّجَرِ فِي أَثَنَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ تَنْفَسِخِ الْمُسَاقَاةُ بَلْ يَسْتَمِرُّ الْعَامِلُ وَيَأْخُذُ نَصِيبَهُ .
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْوَارِثُ، أَيْ إِذَا سَاقَى الْمُوَرِّثُ مَنْ يَرِثُهُ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ وَكَذَا لَوْ سَاقَى الْبَطْنُ الأْوَّلُ الْبَطْنَ الثَّانِيَ ثُمَّ مَاتَ الأْوَّلُ فِي أَثَنَاءِ الْمُدَّةِ وَكَانَ الْوَقْفُ وَقْفَ تَرْتِيبٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْفَسِخَ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ، لأِنَّهُ لاَ يَكُونُ عَامِلاً لِنَفْسِهِ .
وَإِنْ مَاتَ الْعَامِلُ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ أَوْ عَلَى ذِمَّتِهِ: فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِهِ كَمَا تَنْفَسِخُ الإْجَارَةُ بِمَوْتِ الأْجِيرِ الْمُعَيَّنِ، وَقَيَّدَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا إِذَا مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ وَإِلاَّ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ نَحْوُ التَّجْفِيفِ فَلاَ تَنْفَسِخُ .
وَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَوَجْهَانِ:
الأْوَّلُ: تَنْفَسِخُ، لأِنَّهُ لاَ يَرْضَى بِيَدِ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ: لاَ تَنْفَسِخُ كَالإْجَارَةِ بَلْ يُنْظَرُ:
أ - إِنْ خَلَّفَ تَرِكَةً تَمَّمَ وَارِثُهُ الْعَمَلَ، بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ وَإِلاَّ، فَإِنْ أَتَمَّ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ أَوِ اسْتَأْجَرَ مِنْ مَالِهِ مَنْ يُتَمِّمُ، فَعَلَى الْمَالِكِ تَمْكِينُهُ إِنْ كَانَ مُهْتَدِيًا إِلَى أَعْمَالِ الْمُسَاقَاةِ وَيُسَلِّمُ لَهُ الْمَشْرُوطَ، وَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ.
ب - وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً لَمْ يَقْتَرِضْ عَلَى الْمَيِّتِ وَلِلْوَارِثِ أَنْ يُتِمَّ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَالِهِ وَيُسَلِّمَ لَهُ الْمَشْرُوطَ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ فَإِنْ أَبَى لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أُجْرَةَ الْعَمَلِ الْمَاضِي وَفُسِخَ الْعَقْدُ لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَالْمُسَاقَاةُ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لاَزِمٍ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ فَسَخَهَا أَحَدُهُمَا.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِهَا - وَهُوَ غَيْرُ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - فَلاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَيَجْرِي الْحُكْمُ عَلَى نَحْوِ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ فِي مَوْتِ الْعَامِلِ وَلَمْ يَتْرُكْ تَرِكَةً، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرِكَةٌ أَوْ تَعَذَّرَ الاِسْتِئْجَارُ مِنْهَا بِيعَ مِنْ نَصِيبِ الْعَامِلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَكْمِيلِ الْعَمَلِ وَاسْتُؤْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ أَيْ نَصِيبَ الْعَامِلِ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بِالْعَمَلِ جَازَ لأِنَّهُ مِلْكُهُ .
ب - مُضِيُّ الْمُدَّةِ:
45 - الْغَالِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ وَقَدْ نَضِجَ الثَّمَرُ فَيَنْتَهِي الْعَقْدُ وَيُقْسَمُ الثَّمَرُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ يَحْدُثُ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ وَالثَّمَرُ فِجٌّ، وَالْقِيَاسُ يَقْضِي بِبُطْلاَنِ الْعَقْدِ كَمَا يَقْضِي بِبُطْلاَنِهِ لِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، لَكِنَّ الاِسْتِحْسَانَ يَقْضِي بِبَقَائِهِ حُكْمًا هُنَا كَمَا قَضَى بِبَقَائِهِ هُنَاكَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَفْقَ الأْحْكَامِ التَّالِيَةِ:
أ - يَتَخَيَّرُ الْعَامِلُ بَيْنَ الْمُضِيِّ فِي الْعَمَلِ عَلَى الشَّرْطِ حَتَّى يُدْرِكَ وَبَيْنَ تَرْكِهِ.
ب - إِذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ فِي الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَجْرُ حِصَّتِهِ حَتَّى يُدْرِكَ الثَّمَرُ، لأِنَّ الشَّجَرَ لاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ، وَهُوَ بِخِلاَفِ الْمُزَارَعَةِ حَيْثُ يَجِبُ الأْجْرُ عَلَيْهِ لِجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الأْرْضِ .
ج - الْعَمَلُ كُلُّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِلِ وَحْدَهُ هُنَا، لِعَدَمِ وُجُوبِ الأْجْرِ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الشَّجَرِ بِخِلاَفِ الْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ فِيهَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِنِسْبَةِ - حِصَصِهِمَا، لأِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ أَجْرِ الأْرْضِ بِنِسْبَةِ نَصِيبِهِ مِنَ الْخَارِجِ وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ عَمَلُ مِثْلِ نِسْبَةِ نَصِيبِهِ مِنَ الْخَارِجِ، لأِنَّ بِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ أَصْبَحَ الزَّرْعُ مَالاً مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا .
وَإِنِ اخْتَارَ الْعَامِلُ التَّرْكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْعَمَلِ، لَكِنَّهُ لاَ يُمَكَّنُ مِنْ قَطْفِ الثَّمَرِ فِجًّا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمَالِكِ وَيَتَخَيَّرُ هَذَا عِنْدَئِذٍ بَيْنَ الأْمُورِ الثَّلاَثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ سَابِقًا عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى أَحْكَامِ انْفِسَاخِ الْمُسَاقَاةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي هَذَا الأْمْرِ :
فَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَحْصُلِ الطَّلْعُ، فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِيمَا عَمِلَ وَيَضِيعُ تَعَبُهُ فِي الْمُدَّةِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَمَرَةٌ، لأِنَّهُ دَخَلَ عَلَى ذَلِكَ.
وَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَعَلَى الشَّجَرِ الطَّلْعُ فَعِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَالرَّافِعِيِّ يَكُونُ التَّعَهُّدُ إِلَى الإْدْرَاكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ عَلَيْهِمَا، وَلاَ يَلْزَمُ الْعَامِلَ لِتَبْقِيَتِهَا أُجْرَةً.
وَ لأِنَّهُ مْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرِ بِظُهُورِهِ وَانْعِقَادِهِ بَعْدَ الظُّهُورِ .
وَإِنْ أَدْرَكَتِ الثِّمَارُ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ بَقِيَّتَهَا بِغَيْرِ أُجْرَةٍ .
ج - الاِسْتِحْقَاقُ:
46 - إِذَا اسْتُحِقَّ الشَّجَرُ الْمُسَاقَى عَلَيْهِ وَفَسَخَ الْمُسْتَحِقُّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُنْظَرُ: فَإِذَا كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ حَصَلَ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرِ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ مِنْ صَاحِبِ الشَّجَرِ، وَإِذَا كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرِ فَلاَ يَأْخُذُ الْعَامِلُ شَيْئًا.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ الأْخْرَى .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا اسْتَحَقَّ الْحَائِطَ بَعْدَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ فِيهِ خُيِّرَ الْمُسْتَحِقُّ بَيْنَ إِبْقَاءِ الْعَمَلِ وَفَسْخِ عَقْدِهِ، لِكَشْفِ الْغَيْبِ أَنَّ الْعَاقِدَ لَهُ غَيْرُ مَالِكٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَدْفَعُ لَهُ أُجْرَةَ عَمَلِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ خَرَجَ الثَّمَرُ بَعْدَ الْعَمَلِ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِ الْمُسَاقِي كَأَنْ أَوْصَى بِثَمَنِ الشَّجَرِ الْمُسَاقَى عَلَيْهِ أَوْ خَرَجَ الشَّجَرُ مُسْتَحَقًّا فَلِلْعَامِلِ عَلَى الْمُسَاقِي أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِعَمَلِهِ، لأِنَّهُ فَوَّتَ مَنَافِعَهُ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ فَيَرْجِعُ بِبَدَلِهَا، هَذَا إِذَا عَمِلَ جَاهِلاً بِالْحَالِ، فَإِنْ عَلِمَ الْحَالَ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْخُرُوجُ قَبْلَ الْعَمَلِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ ظَهَرَ الشَّجَرُ مُسْتَحَقًّا بَعْدَ الْعَمَلِ أَخَذَ الشَّجَرَ رَبُّهُ وَأَخَذَ ثَمَرَتَهُ لأِنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ وَلاَ حَقَّ لِلْعَامِلِ فِي ثَمَرَتِهِ وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ عَلَى رَبِّ الشَّجَرِ، لأِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْعَمَلِ وَلِلْعَامِلِ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لأِنَّهُ غَرَّهُ وَاسْتَعْمَلَهُ.
وَقَالُوا أَيْضًا: وَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الثَّمَرَةُ بَعْدَ أَنِ اقْتَسَمَهَا الْغَاصِبُ وَالْعَامِلُ وَأَكَلاَهَا فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَلَهُ تَضْمِينُهُ الْكُلَّ وَلَهُ تَضْمِينُهُ قَدْرَ نَصِيبِهِ لأِنَّ الْغَاصِبَ سَبَبُ يَدِ الْعَامِلِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُ الْجَمِيعِ، وَلَهُ تَضْمِينُ الْعَامِلِ قَدْرَ نَصِيبِهِ لِتَلَفِهِ تَحْتَ يَدِهِ فَإِنْ ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ الْكُلَّ رَجَعَ عَلَى الْعَامِلِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ، وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى الْغَاصِبِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ لأِنَّهُ غَرَّهُ .
د - تَصَرُّفُ الْمَالِكِ:
47 - الْمُرَادُ بِتَصَرُّفِ الْمَالِكِ: بَيْعُ الْمَالِكِ الْحَدِيقَةَ الَّتِي سَاقَى عَلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ أَوْ هِبَتُهَا؛ أَوْ رَهْنُهَا، أَوْ وَقْفُهَا.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بَيْعُ الْحَدِيقَةِ الَّتِي سَاقَى عَلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ يُشْبِهُ بَيْعَ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيُّ: أَنَّ الْمَالِكَ إِنْ بَاعَهَا قَبْلَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ لَمْ يَصِحَّ، لأِنَّ لِلْعَامِلِ حَقًّا فِي ثِمَارِهَا، فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى بَعْضَ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الأْشْجَارِ وَنَصِيبُ الْمَالِكِ مِنَ الثِّمَارِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ لأِنَّهَا مَبِيعَةٌ مَعَ الأْصُولِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ مَعَ الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ مَعَ الْبَائِعِ.
وَإِنْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَحْدَهَا، لَمْ يَصِحَّ لِلْحَاجَةِ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ وَتَعَذُّرِهِ فِي الشَّائِعِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ حَسَنٌ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَبْتَاعُ الأْرْضَ وَقَدْ سَاقَاهَا صَاحِبُهَا رَجُلاً قَبْلَ ذَلِكَ سِنِينَ، فَقَالَ الْمُسَاقِي: أَنَا أَحَقُّ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَنِي (فَقَالَ) لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ سِقَائِهِ إِلاَّ أَنْ يَتَرَاضَيَا .
هـ - الْفَسْخُ بِالإْقَالَةِ وَالْعُذْرِ
48 - لَمَّا كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَقْدًا لاَزِمًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَقَ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِفَسْخِهَا، وَإِنَّمَا تُفْسَخُ بِمَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الأْمْرُ الأْوَّلُ: الاِتِّفَاقُ الصَّرِيحُ عَلَى الْفَسْخِ وَالإْقَالَةِ، وَلاَ يُخَالِفُ فِي هَذَا أَحَدٌ.
وَالَّذِينَ يَرَوْنَ مِنَ الْفُقَهَاءِ - كَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ - أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، يَسْتَجِيزُونَ لِكِلاَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْفَسْخَ، فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَالثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ وَعَلَى الْعَامِلِ إِتْمَامُ الْعَمَلِ، وَإِنْ وَقَعَ الْفَسْخُ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي فَسَخَ هُوَ الْعَامِلَ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، لأِنَّهُ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالِكَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِلْعَامِلِ لأِنَّهُ مَنَعَهُ إِتْمَامَ عَمَلِهِ .
الأْمْرُ الثَّانِي: الْفَسْخُ بِالْعُذْرِ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأْوَّلُ: جَوَازُ الْفَسْخِ لِحُدُوثِ عُذْرٍ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، لأِنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ حِينَ الْعُذْرِ لَلَزِمَ صَاحِبَ الْعُذْرِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَصْلِ جَوَازِ الْفَسْخِ بِالْعُذْرِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: عَدَمُ جَوَازِ الْفَسْخِ بِالأْعْذَارِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ لاَزِمٌ وَهُوَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلاَ يَنْفَسِخُ إِلاَّ بِاتِّفَاقِهِمَا .
(ر: إِجَارَةٌ ف 64 – 65).
نَوْعَا الْفَسْخِ بِالْعُذْرِ
الْعُذْرُ لِجِهَةِ الْعَاقِدَيْنِ نَوْعَانِ: عُذْرُ الْمَالِكِ، وَأَعْذَارُ الْعَامِلِ.
الأْوَّلُ: عُذْرُ الْمَالِكِ:
49 - فَمِنْ عُذْرِ الْمَالِكِ أَنْ يَفْدَحَهُ دَيْنٌ لاَ يَجِدُ لَهُ قَضَاءً إِلاَّ بِبَيْعِ الشَّجَرِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَمْكَنَ الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْعَامِلِ، كَأَنْ يَفْسَخَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَامِلُ أَوْ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ وَقَدْ أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ الأْرْضَ بِدَيْنِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يَفْسَخُ الْعَقْدَ وَلاَ تَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةُ بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ الْعُذْرِ.
وَتَجْوِيزُ الْفَسْخِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَالِكِ إِذَا كَانَ لاَ يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَقْدِ إِلاَّ بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى فَسْخِ الإْجَارَةِ بِهِ.
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْفَسْخُ إِلاَّ بِضَرَرٍ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ الْعَامِلُ وَقَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الثَّمَرُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلاَ أَنْ يَبِيعَ الشَّجَرَ، بَلْ يَبْقَى حُكْمُ الْعَقْدِ حَتَّى يَبْلُغَ الثَّمَرُ، فَعِنْدَئِذٍ يَبِيعُ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرِ، وَيَبِيعُ الشَّجَرَ فِي دَيْنِهِ، وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ، لأِنَّ الشَّرِكَةَ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا فِي الثَّمَرِ، وَلإِدْرَاكِهِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَفِي الاِنْتِظَارِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي نَقْضِ الْمُعَامَلَةِ إِضْرَارٌ بِالْعَامِلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ إِبْطَالَ حَقِّهِ مِنْ نَصِيبِ الثَّمَرِ، فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ قُلْنَا: يُمْنَعُ الْمَالِكُ مِنْ بَيْعِ الشَّجَرِ، وَيَبْقَى الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ يُدْرِكَ مَا خَرَجَ مِنَ الثَّمَرِ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لاَ تَنْفَسِخُ بِإِفْلاَسِ الْمَالِكِ إِذَا طَرَأَ الْفَلَسُ عَلَى الْعَقْدِ قَبْلَ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ، بَلْ يُبَاعُ الشَّجَرُ عَلَى أَنَّهُ مُسَاقًى وَلَوْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ سِنِينَ، كَمَا تُبَاعُ الدَّارُ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ .
الثَّانِي: أَعْذَارُ الْعَامِلِ:
50 - مِنْ أَهَمِّ أَعْذَارِ الْعَامِلِ:
أ - عَجْزُ الْعَامِلِ عَنِ الْعَمَلِ.
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا عَجَزَ الْعَامِلُ عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ أَوِ الشَّيْخُوخَةِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا عَجَزَ الْعَامِلُ عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ الَّذِي يُضْعِفُهُ عَنِ الْعَمَلِ، أَوِ الشَّيْخُوخَةِ، جَازَ فَسْخُ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لأِنَّ إِلْزَامَهُ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْعَقْدِ، كَمَا لاَ يُؤْمَرُ بِاسْتِئْجَارِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُ لأِنَّ فِيهِ أَيْضًا إِلْحَاقَ ضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فِي الْعَقْدِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا عَجَزَ الْعَامِلُ وَقَدْ حَلَّ بَيْعُ الثَّمَرِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُسَاقِيَ غَيْرَهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ وَإِنْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ اسْتُؤْجِرَ مِنْ حَظِّهِ مِنَ الثَّمَرِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا ضَعُفَ الْعَامِلُ وَهُوَ أَمِينٌ، ضُمَّ إِلَيْهِ عَامِلٌ قَوِيٌّ أَمِينٌ وَلاَ تُنْزَعُ يَدُهُ، لأِنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَلاَ ضَرَرَ فِي بَقَاءِ يَدِهِ.
أَمَّا إِنْ عَجَزَ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ يُقَامُ مَقَامَهُ مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِ وَلاَ يُفْسَخُ الْعَقْدُ، لأِنَّ عَلَيْهِ تَوْفِيَةَ الْعَمَلِ وَهَذَا مِنْ تَوْفِيَتِهِ .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ لِطُرُوءِ الْمَرَضِ عَلَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ وَكَذَا الْهَرَبُ أَوِ الْحَبْسُ أَوِ الاِمْتِنَاعُ عَنِ الْعَمَلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ أَوْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ.
قَالُوا: إِنْ تَبَرَّعَ غَيْرُهُ بِعَمَلِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَبَرِّعُ الْمَالِكَ، بَقِيَ حَقُّ الْعَامِلِ، لأِنَّ مَا يُنْفِقُهُ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ.
لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُتَبَرِّعُ أَجْنَبِيًّا فَلِلْمَالِكِ فَسْخُ الْعَقْدِ، إِذْ قَدْ لاَ يَرْضَى بِدُخُولِهِ مِلْكَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ غَيْرُهُ رُفِعَ الأْمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ لِلْعَامِلِ مَالٌ وَالْمُسَاقَاةُ عَلَى ذِمَّتِهِ: اسْتَأْجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَنْ يُتِمُّ الْعَمَلَ، وَإِلاَّ بِأَنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِ الْعَامِلِ لاَ يَسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ، لأِنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الإْبْقَاءِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ مَالٌ فَإِنْ ظَهَرَتِ الثَّمَرَةُ اسْتَأْجَرَ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِئْجَارُ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِمُؤَجَّلٍ إِلَى ظُهُورِ الثَّمَرَةِ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اقْتَرَضَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ وَيُوَفَّى نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، أَوْ أَذِنَ الْمَالِكُ فِي الإْنْفَاقِ، لَكِنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَنْفَقَ.
أَمَّا إِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْمَالِكُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْحَاكِمِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَاكِمٌ، أَوْ رَفَضَ الْحَاكِمُ إِجَابَتَهُ، أَوْ عَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ مَرَضُ الْعَامِلِ أَوْ هَرَبُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ الإْشْهَادُ عَلَى مَا يُنْفِقُهُ أَوْ يَعْمَلُهُ إِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ أَوْ بِأُجْرَةِ مَا عَمِلَ، وَوَجَبَ أَيْضًا التَّصْرِيحُ بِالرُّجُوعِ فِي إِشْهَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِشْهَادُهُ كَذَلِكَ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الإْشْهَادُ أَيْضًا لاَ رُجُوعَ لَهُ فِي الأْصَحِّ لأِنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ، وَلَكِنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْفَسْخِ إِنْ شَاءَ .
ب - سَفَرُ الْعَامِلِ، لأِنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِمُطَالَبَةِ غَرِيمٍ لَهُ أَوِ الْحَجِّ.
ج - تَرْكُ حِرْفَتِهِ، لأِنَّ مِنَ الْحِرَفِ مَا لاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى الاِنْتِقَالِ إِلَى غَيْرِهِ، وَلاَ مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْعَمَلِ.
وَمَعَ ذَلِكَ ذُكِرَتْ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - رِوَايَتَانِ فِي الْفَسْخِ بِسَبَبِ هَذِهِ الأْمُورِ الثَّلاَثَةِ - الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَتَرْكِ الْحِرْفَةِ - وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْعِنَايَةِ عَلَيْهَا أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ صَحَّحُوا التَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهَا عُذْرٌ يُبِيحُ الْفَسْخَ إِذَا شَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعُذْرٍ مُبِيحٍ لِلْفَسْخِ إِذَا أَطْلَقَ، لأِنَّ لَهُ أَنْ يَنِيبَ غَيْرَهُ فِي الْعَمَلِ مَنَابَهُ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ الْفَسْخِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ: فَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْفَسْخُ بِالْقَضَاءِ.
فَيَنْفَرِدُ ذُو الْعُذْرِ بِالْفَسْخِ، وَفِي رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ أَوِ التَّرَاضِي .
د - إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَامِلَ لِصٌّ، يُخَافُ مِنْهُ عَلَى الشَّجَرِ أَوِ الثَّمَرِ فَلِلْمَالِكِ فَسْخُ الْعَقْدِ . وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَتْ خِيَانَةُ الْعَامِلِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ يَمِينٍ مَرْدُودَةٍ مِنَ الْعَامِلِ عَلَى الْمَالِكِ ضُمَّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الْعَمَلُ، وَعَلَى الْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمُشْرِفِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهُ بِالْمُشْرِفِ اسْتُؤْجِرَ مِنْ مَالِ الْعَامِلِ عَامِلٌ يُتِمُّ الْعَمَلَ، وَعَلَى الْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمُشْرَفِ أَيْضًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ ثَبَتَتْ خِيَانَةُ عَامِلٍ فِي الْمُسَاقَاةِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ يَمِينٍ مَرْدُودَةٍ ضُمَّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ إِلَى أَنْ يُتِمَّ الْعَمَلَ وَلاَ تُزَالُ يَدُهُ، لأِنَّ الْعَمَلَ حَقٌّ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَتَعَيَّنَ سُلُوكُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَأُجْرَةُ الْمُشْرِفِ عَلَيْهِ، نَعَمْ لَوْ لَمْ تَثْبُتِ الْخِيَانَةُ وَلَكِنِ ارْتَابَ الْمَالِكُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُضَمُّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ وَأُجْرَتُهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَفَّظْ بِالْمُشْرِفِ أُزِيلَتْ يَدُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْعَامِلِ مَنْ يُتِمُّ الْعَمَلَ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْهُ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، نَعَمْ إِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ فَظَاهِرٌ كَمَا قَالَ الأْذْرَعِيُّ: أَنَّهُ لاَ يَسْتَأْجِرُ عَنْهُ بَلْ يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَلاَ يُفْسَخُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُتَحَفَّظَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ التَّحَفُّظُ سَاقَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِ عَامِلاً آخَرَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُتَّفَقُ عَلَى الْعَامِلِ الثَّانِي أَقَلَّ مِنَ الأْوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ لَهُ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ .
أَحْكَامُ الْفَسْخِ فِي هَذِهِ الأْحْوَالِ :
51 - إِذَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ قَبْلَ أَنْ يُثْمِرَ الشَّجَرُ انْتَقَضَ الْعَقْدُ وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَقَى الشَّجَرَ وَقَامَ عَلَيْهِ وَحَفِظَهُ، لأِنَّ الْمُسَاقَاةَ شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ بِهِ تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَقِيلَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ اسْتِرْضَاءُ الْعَامِلِ فِي الدِّيَانَةِ.
وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ أَزْهَرَ الشَّجَرُ أَوْ أَثْمَرَ وَلَمَّا يَنْضَجْ بَعْدُ فَالْحُكْمُ مَا يَأْتِي:
أ - يَبْقَى الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا فِي الْعَقْدِ حَتَّى يَكْتَمِلَ نُضْجُهُ.
ب - الْعَمَلُ فِي الشَّجَرِ فِيمَا بَقِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا، لأِنَّهُ عَمَلٌ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَمَلُ فِيهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا.
ج - عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَدْفَعَ أَجْرَ مِثْلِ نِصْفِ الشَّجَرِ إِلَى الْمَالِكِ، لاِنْتِهَاءِ الْعَقْدِ بِالْفَسْخِ، وَفِي قَطْفِ الثَّمَرِ فِي حَالِهِ الرَّاهِنَةِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَفِي تَرْكِهِ بِلاَ أَجْرٍ إِضْرَارٌ بِصَاحِبِ الأْرْضِ فَكَانَ فِي التَّرْكِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ نَظَرٌ لِلطَّرَفَيْنِ.
د - وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الشَّجَرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، رِعَايَةً لِحَقِّ الْعَامِلِ إِلاَّ أَنْ يُجِيزَهُ وَيُسْقِطَ حَقَّهُ .
وَالْمَالِكِيَّةُ يُجِيزُونَ بَيْعَ الشَّجَرِ وَهُوَ مُسَاقًى وَلَوْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ إِلَى سِنِينَ كَمَا تُبَاعُ الدَّارُ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ .
هـ - إِنِ اسْتُحِقَّتِ الأْرْضُ أَوِ الشَّجَرُ كَانَ الثَّمَرُ لِلْمُسْتَحِقِّ لِتَبَعِيَّتِهِ لِلشَّجَرِ وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ الشَّجَرَ مُسَاقَاةً بِأَجْرِ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، لِفَسَادِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الثَّمَرِ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ مُسْتَوْفًى بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ.
وَإِنْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ بَعْدَ نُضْجِ الثَّمَرِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ .
حُكْمُ الْجَائِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي الْمُسَاقَاةِ
52 - إِذَا أُجِيحَ الْحَائِطُ كُلُّهُ انْفَسَخَتْ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، وَهَذَا مُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْبَغَوِيَّ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِالْجَائِحَةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: نَقَلَ الْمُتَوَلِّي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ تُثْمِرِ الأْشْجَارُ أَصْلاً أَوْ تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِجَائِحَةٍ أَوْ غَصْبٍ، فَعَلَى الْعَامِلِ إِتْمَامُ الْعَمَلِ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ، كَمَا أَنَّ عَامِلَ الْقِرَاضِ يُكَلَّفُ التَّنْضِيضَ وَإِنْ ظَهَرَ خُسْرَانٌ وَلَمْ يَنَلْ إِلاَّ التَّعَبَ، وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ إِذَا تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِالْجَائِحَةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ وَتَكَامُلِ الثِّمَارِ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا هَلَكَ بَعْضُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَإِذَا أُجِيحَ بَعْضُ الْحَائِطِ سَقَطَ عَنْهُ بَعْضُ مَا أُجِيحَ مِنْهُ، إِذَا كَانَ لاَ يُرْجَى مِنْهُ ثَمَرَةٌ، وَمَا جُذَّ مِنَ النَّخْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ سَقْيُهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَ مَا لَمْ يَجُذَّ حَتَّى يَجُذَّ وَإِنْ جَذَّ غَيْرُهُ قَبْلَهُ.
وَإِنْ أُجِيحَ ثُلُثُهُ فَصَاعِدًا فَعَنْ مَالِكٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعَامِلَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْمُسَاقَاةِ وَالإِْقَامَةِ عَلَيْهَا، وَالأْخْرَى: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لاَزِمَةٌ لَهُمَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْجَائِحَةُ أَتَتْ عَلَى قِطْعَةٍ مِنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ بِعَيْنِهَا، فَتَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةُ فِيهَا وَحْدَهَا دُونَ مَا سِوَاهَا.
وَإِنْ أَتْلَفَتِ الْجَائِحَةُ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الْحَائِطِ، فَالْمُسَاقَاةُ صَحِيحَةٌ لاَزِمَةٌ.
وَلَوِ انْهَارَتِ الْبِئْرُ انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ الْعَامِلُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ فِي صَلاَحِ الْبِئْرِ، وَيَكُونُ عَلَى مُسَاقَاتِهِ، وَيَرْتَهِنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ مِنَ الثَّمَرَةِ بِمَا أَنْفَقَ، فَذَلِكَ لَهُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهَا فَلِلْعَامِلِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يُجِيزَ وَيُتِمَّ الْعَمَلَ وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / التاسع والثلاوثون ، الصفحة / 292
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الاِلْتِزَامَاتِ الثَّابِتَةِ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ:
الاِلْتِزَامُ الاِخْتِيَارِيُّ لِلْمُكَلَّفِ هُوَ مَا يَثْبُتُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا الاِلْتِزَامُ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا لِتَعَاقُدٍ وَارْتِبَاطٍ تَمَّ بَيْنَ إِرَادَةِ شَخْصَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ أَثَرًا لِعَهْدٍ قَطَعَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ.
أَوَّلاً - الاِلْتِزَامَاتُ الْعَقَدِيَّةُ الَّتِي تَنْشَأُ بِإِرَادَةِ طَرَفَيْنِ:
65 - وَمَنْشَأُ هَذِهِ الاِلْتِزَامَاتِ الْعَقْدُ، الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِبَاطِ الإْيجَابِ الصَّادِرِ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بِقَبُولِ الآْخَرِ عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
وَالاِلْتِزَامَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْعُقُودِ عَلَى ثَلاَثِ أَقْسَامٍ، الْتِزَامَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ عُقُودٍ لاَزِمَةٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْتِزَامَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ عُقُودٍ جَائِزَةٍ (غَيْرِ لاَزِمَةٍ) مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْتِزَامَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ عُقُودٍ لاَزِمَةٍ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الْقِسْمُ الأْوَّلُ: الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ:
أ - الْبَيْعُ:
66 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْبَيْعَ مَتَى لَزِمَ، فَإِنَّ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنِ الْتِزَامٍ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ تُجَاهَ الآْخَرِ لاَ يَسْقُطُ وَلاَ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْبَائِعُ قَامَ وَرَثَتُهُ بِإِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنِ الْتِزَامَاتٍ تُجَاهَ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي قَامَ وَرَثَتُهُ بِتَنْفِيذِ مَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ وَالْتِزَامَاتٍ تُجَاهَ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ فِي حُدُودِ مَا تَرَكَ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ مَاتَ الْمُتَبَايِعَانِ، فَوَرَثَتُهُمَا بِمَنْزِلَتِهِمَا، لأِنَّهُمْ يَقُومُونَ فِي أَخْذِ مَالِهِمَا وَإِرْثِ حُقُوقِهِمَا، فَكَذَلِكَ مَا يَلْزَمُهُمَا أَوْ يَصِيرُ لَهُمَا .
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عَقْدٌ ف 61).
67 - وَقَدِ اسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ مُفْلِسًا، وَأَوْرَدُوا تَفْصِيلاً فِي أَثَرِ ذَلِكَ عَلَى الاِلْتِزَامَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ عَقْدِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ ثَمَّةَ اخْتِلاَفٌ فِي الْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ شَيْئًا، ثُمَّ مَاتَ مُفْلِسًا بَعْدَ أَدَاءِ ثَمَنِهِ لِلْبَائِعِ، فَالْمَبِيعُ مِلْكُهُ خَاصَّةً، سَوَاءٌ قَبَضَهُ مِنَ الْبَائِعِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
ب - أَمَّا إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا قَبْلَ تَأْدِيَةِ الثَّمَنِ، فَيُنْظَرُ:
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُشْتَرِي أَوْ يَبِيعَهُ الْقَاضِي وَيُؤَدِّيَ لِلْبَائِعِ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ عَنْ حَقِّ الْبَائِعِ يُدْفَعُ الزَّائِدُ لِبَاقِي الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ حَقِّ الْبَائِعِ أَخَذَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ الَّذِي بِيعَ بِهِ، وَيَكُونُ فِي الْبَاقِي أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهِ أَيْ أَنَّ لَهُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَاسْتِيفَاءَ الْمَبِيعِ لِنَفْسِهِ .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ، فَهَلْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَيَحْبِسَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْحُقُوقِ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ، أَمْ يَصِيرُ الْبَائِعُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ مِثْلَ بَاقِي الْغُرَمَاءِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الأْوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ اسْتِرْدَادُهُ، بَلْ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ، فَيَقْسِمُونَهُ، جَمِيعًا وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ».
الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمَبِيعَ وَضَارَبَ الْغُرَمَاءَ بِثَمَنِهِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهُ، وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَضَى: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ».
ج - أَمَّا إِذَا مَاتَ الْبَائِعُ مُفْلِسًا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَقَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي يَكُونُ أَحَقَّ بِالْمَبِيعِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، لأِنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِهِ فِي حَيَاتِهِ، بَلْ لِلْمُشْتَرِي جَبْرُهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ مَا دَامَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً، فَيَكُونُ لَهُ أَخْذُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْبَائِعِ أَيْضًا، إِذْ لاَ حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ بِوَجْهٍ، لأِنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْبَائِعِ - وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ لَوْ هَلَكَ عِنْدَهُ - وَعَلَى هَذَا كَانَ لَهُ أَخْذُهُ إِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ بَاقِيَةً أَوِ اسْتِرْدَادُ ثَمَنِهِ إِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ عِنْدَ وَرَثَتِهِ . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِفْلاَسٌ ف 37).
ب - السَّلَمُ:
68 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ تَأْدِيَةِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَكُونُ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ مِنْهُ كَسَائِرِ دُيُونِهِ الْمُؤَجَّلَةِ.
وَلَكِنْ إِذَا مَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ زَمَنِ الْوَفَاءِ، فَهَلْ يَبْطُلُ الأْجَلُ بِمَوْتِهِ، وَيَحِلُّ دَيْنُ السَّلَمِ، أَمْ أَنَّهُ يَبْقَى كَمَا هُوَ إِلَى وَقْتِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الأْوَّلُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الأْجَلَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَيَحِلُّ دَيْنُ السَّلَمِ، وَيَلْزَمُ تَسْلِيمُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ حَالًّا إِلَى رَبِّ السَّلَمِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَفِّرًا فِي وَقْتِ الْحُلُولِ الطَّارِئِ بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلْ يُفْسَخُ عَقْدُ السَّلَمِ لِذَلِك أَمْ لاَ؟ وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْفَسْخِ، هَلْ تُوقَفُ قِيمَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنَ التَّرِكَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ عَادَةً أَمْ لاَ؟
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُؤْخَذُ مِنَ التَّرِكَةِ حَالًّا لأِنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ السَّلَمِ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الأْسْوَاقِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى مَحِلِّ الأْجَلِ عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ لِتَدُومَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ، وَمَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الأْجَلُ ، فَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَيَؤُولُ ذَلِكَ إِلَى الْغَرَرِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي حُلُولِ سَائِرِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ بِمَوْتِ الْمَدِينِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ مِنَ التَّرِكَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْتُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ قَبْلَ مَحَلِّ أَجَلِهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا فِي الأْسْوَاقِ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ تَقْسِيمُ التَّرِكَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَغْلِبُ وُجُودُهُ فِيهِ.
قَالَ الْحَطَّابُ: إِذَا مَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْلَ وَقْتِ الإْبَّانِ، أَيْ وَقْتِ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَادَةً، فَإِنَّهُ يَجِبُ وَقْفُ قَسْمِ التَّرِكَةِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّمَا يُوقَفُ إِنْ خِيفَ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْمُسْلَمُ فِيهِ كُلَّ التَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنَ التَّرِكَةِ وَقَفَ قَدْرَ مَا يَرَى أَنْ يَفِيَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَسَمَ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا خِلاَفًا لِمَا يَرَاهُ أَشْهَبُ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْقَسْمَ لاَ يَجُوزُ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: إِنْ كَانَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ دُيُونٌ أُخْرَى قُسِمَتِ التَّرِكَةُ عَلَيْهِ، وَيَضْرِبُ لِلْمُسْلَمِ قِيمَةَ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي وَقْتِهِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي أَغْلَبِ الأْحْوَالِ مِنْ غَلاَءٍ وَرُخْصٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ تَتْمِيمًا لِقَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلاَم بِأَنَّهُ يُوقَفُ لِلْمُسْلَمِ مَا صَارَ لَهُ فِي الْمُحَاصَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتُ الإْبَّانِ، فَيُشْتَرَى لَهُ مَا أَسْلَمَ فِيهِ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ أُتْبِعَ بِالْقِيمَةِ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ إِنْ طَرَأَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ زَادَ لَمْ يَشْتَرِ لَهُ إِلاَّ قَدْرَ حَقِّهِ، وَتُتْرَكُ الْبَقِيَّةُ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ وَارِثٍ أَوْ مِدْيَانٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ : إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا فِي الأْسْوَاقِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ وَتَسْلِيمُهُ لِرَبِّ السَّلَمِ وَإِنْ غَلاَ وَزَادَ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيهَا، فَيَثْبُتُ لِلْمُسْلَمِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالصَّبْرِ حَتَّى يُوجَدَ الْمُسْلَمُ فِيهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ - كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ - لأِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَالْوَفَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُمْكِنٌ، وَالْقَوْلُ الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ الأْجَلَ لاَ يَحِلُّ بِمَوْتِ الْمَدِينِ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ عَلَى أَقَلِّ الأْمْرَ يْنِ مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ، وَلاَ يُوقَفُ شَيْءٌ مِنْ تَرِكَةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ لأِجَلِ دَيْنِ السَّلَمِ.
فَإِنْ لَمْ يُوَثَّقْ بِذَلِكَ حَلَّ، لأِنَّ الْوَرَثَةَ قَدْ لاَ يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ .
ج - الإْجَارَةُ:
69 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمُؤَجِّر فِي إِجَارَةِ الأْعْيَانِ وَالأْجِيرِ فِي إِجَارَةِ الأْعْمَالِ عَلَى مَا الْتَزَمَ بِهْ فِي عَقْدِ الإْجَارَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الأْوَّلُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا الْتَزَمَ بِهِ الْمُؤَجِّرُ لاَ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، لأِنَّ الإْجَارَةَ لاَ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، بَلْ تَبْقَى عَلَى حَالِهَا، لأِنَّ هَا عَقْدٌ لاَزِمٌ فَلاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ مَعَ سَلاَمَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِك تَبْقَى الْعَيْنُ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا مَا تَبَقَّى لَهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْمُؤَجِّرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالْبَتِّيِّ وَأبِي ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَأَمَّا مَا الْتَزَمَ بِهِ الأْجِيرُ مِنَ الْعَمَلِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرْتَبَطًا بِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ لَهُ: اسْتَأْجَرْتُكَ أَوِ اكْتَرَيْتُكَ لِتَعْمَلَ كَذَا أَوْ لِكَذَا أَوْ لِعَمَلِ كَذَا، أَوْ يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِذِمَّةِ الأْجِيرِ ، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لأِدَاءِ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ يَلْزَمُ ذِمَّتَهُ، مِثْلِ أَنْ يُلْزِمَهُ حَمْلِ كَذَا إِلَى مَكَانِ كَذَا أَوْ خِيَاطَةِ كَذَا دُونَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَا يُسَمَّى فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ بِإِجَارَةِ الذِّمَّةِ.
فَإِنْ كَانَ الاِلْتِزَامُ مُرْتَبِطًا بِعَيْنِ الأْجِيرِ وَذَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِمَوْتِ الأْجِيرِ لاِنْفِسَاخِ عَقْدِ الإْجَارَةِ بِمَوْتِهِ نَظَرًا لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَاسْتِحَالَةِ إِكْمَالِ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ، أَمَّا فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَنِ فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الأْجِيرِ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ أَجْرٍ، وَذَلِكَ لاِسْتِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الاِلْتِزَامُ مَوْصُوفًا فِي ذِمَّةِ الأْجِيرِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ اسْتُؤْجِرَ مِنْهَا مَنْ يَقُومُ بِإِكْمَالِ وَتَوْفِيَةِ الْتِزَامِهِ، لأِنَّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ، وَلَمْ يَرْغَبْ وَرَثَتُهُ فِي إِتْمَامِ ذَلِكَ الْعَمَلِ الْمَوْصُوفِ فِي ذِمَّتِهِ لِيَسْتَحِقُّوا الأْجْرَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَا لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَوْتِ الْمُلْتَزِمِ مُفْلِسًا .
الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَهُوَ أَنَّ الإْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ لأِعْيَانِهِ وَالأْجِيرِ عَلَى عَمَلِهِ، سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لأِنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ يُتَعَذَّرُ بِالْمَوْتِ، فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً، وَيَنْتَهِي الْتِزَامُ كُلٍّ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَالأْجِيرِ .
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا بَعْضَ الْحَالاَتِ الْخَاصَّةِ، وَقَالُوا إِنَّ الإْجَارَةَ فِيهَا لاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ ضَرُورَةً، وَهِيَ:
أ - إِذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَفِي الأْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ زَرْعُ بَقْلٍ، أَيْ لَمْ يَنْضَجْ بَعْدُ، فَيَبْقَى الْعَقْدُ وَلاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ حَتَّى يُدْرِكَ الزَّرْعُ، وَيَكُونُ الْوَاجِبُ عِنْدَئِذٍ الأْجْرُ الْمُسَمَّى إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ الْعَقْدِ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَجْرُ الْمِثْلِ حَتَّى يُدْرِكَ.
ب - إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَسَطَ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ إِلَى الْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِالأْجْرِ إِذَا لَمْ يَجِدْ دَابَّةً أُخْرَى يَصِلُ بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ثَمَّةَ قَاضٍ يَرْفَعُ الأْمْرَ إِلَيْهِ، وَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ .
وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي (إِجَارَةٌ ف 59 - 72).
د - الْمُسَاقَاةُ:
70 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الاِلْتِزَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا الْتَزَمَ بِهْ صَاحِبُ الشَّجَرِ أَوِ النَّخْلِ بِتَمْكِينِ الْعَامِلِ مِنَ الْقِيَامِ بِسَقْيِهِ وَإِصْلاَحِهِ، أَوْ مَا الْتَزَمَ بِهِ الْعَامِلُ مِنْ تَعَهُّدِ الشَّجَرِ وَعَمَلِ سَائِرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الأْوَّلُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ لاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ بَدْءِ الْعَمَلِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لأِنَّهُ عَقْدٌ لاَزِمٌ، فَأَشْبَهَ الإْجَارَةَ، وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا.
وَعَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ عَامِلَ الْمُسَاقَاةِ، كَانَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي إِتْمَامِ الْعَمَلِ إِذَا كَانُوا عَارِفِينَ بِالْعَمَلِ أُمَنَاءَ، وَيَلْزَمُ الْمَالِكَ أَوْ وَرَثَتَهُ تَمْكِينُهُمْ مِنَ الْعَمَلِ إِنْ كَانُوا كَذَلِكَ.
فَإِنْ أَبَى الْوَرَثَةُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ، لأِنَّ الْوَارِثَ لاَ يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَى مُوَرِّثِهِ إِلاَّ مَا أَمْكَنَ أَدَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَالْعَمَلُ هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَسْتَأْجِرُ الْحَاكِمُ مِنَ التَّرِكَةِ مَنْ يَقُومُ بِالْعَمَلِ، لأِنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَرِكَةٌ، وَلَمْ يَتَبَرَّعِ الْوَرَثَةُ بِالْوَفَاءِ، فَلِرَبِّ الْمَالِ الْفَسْخُ، لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَبَّ الشَّجَرِ، لَمْ تُفْسَخِ الْمُسَاقَاةُ، وَيَسْتَمِرُّ الْعَامِلُ فِي عَمَلِهِ، وَيَجِبُ عَلَى وَرَثَةِ رَبِّ الْمَالِ تَمْكِينُهُ مِنَ الْعَمَلِ وَالاِسْتِمْرَارِ فِيهِ وَعَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُ، وَبَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ يَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرِ بِحَسَبِ مَا اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، أَيْ بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ أَوِ الْعَامِلِ، قَبْلَ بَدْءِ الْعَمَلِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لأِنَّ هَا فِي مَعْنَى الإْجَارَةِ، وَهَذَا هُوَ الأْصْلُ عِنْدَهُمْ.
ثُمَّ فَصَلُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: إِذَا قَامَ الْعَامِلُ بِرِعَايَةِ وَسِقَايَةِ الشَّجَرِ، وَلَقَّحَهُ حَتَّى صَارَ بُسْرًا أَخْضَرَ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، فَإِنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْتَقِضُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ لِلْعَامِلِ - اسْتِحْسَانًا - أَنْ يَقُومَ بِرِعَايَةِ الشَّجَرِ حَتَّى يُدْرِكَ الثَّمَرُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَرَثَةُ رَبِّ الشَّجَرِ، لأِنَّ فِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ إِضْرَارًا بِالْعَامِلِ وَإِبْطَالاً لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ عَلَى الأْشْجَارِ إِلَى وَقْتِ الإْدْرَاكِ، وَإِذَا انْتَقَضَ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الْجِذَاذَ قَبْلَ الإْدْرَاكِ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بَالِغٌ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لاَ تَبْطُلُ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ فِي الاِسْتِحْسَانِ، فَإِنْ أَبَى الْعَامِلُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي عَمَلِ الشَّجَرِ وَأَصَرَّ عَلَى قَطْعِهِ وَأَخْذِهِ بُسْرًا انْتَقَضَ الْعَقْدُ، لأِنَّ إِبْقَاءَ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا إِنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَإِذَا رَضِيَ الْتِزَامَ الضَّرَرِ كَانَ لَهُ مَا اخْتَارَ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِوَرَثَةِ رَبِّ الشَّجَرِ، فَيَثْبُتُ لَهُمُ الْخِيَارُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ مُوَرِّثِهِمْ وَالْعَامِلِ.
ب - أَنْ يُعْطُوا الْعَامِلَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنَ الْبُسْرِ.
ج - أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنَ الثَّمَرِ.
وَأَمَّا إِذَا مَاتَ عَامِلُ الْمُسَاقَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ اسْتِحْسَانًا وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي تَعَهُّدِ الشَّجَرِ وَرِعَايَتِهِ، وَإِنْ كَرِهَ رَبُّ الشَّجَرِ، لأِنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الْوَرَثَةُ: نَحْنُ نَأْخُذُهُ بُسْرًا، وَطَلَبُوا نَصِيبَ مُوَرِّثِهِمْ مِنَ الْبُسْرِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الشَّجَرِ مِنَ الْخِيَارِ مِثْلُ مَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ مَا يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ إِذَا أَبَى الْعَامِلُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي الْقِيَامِ عَلَى الشَّجَرِ.
وَأَمَّا إِذَا مَاتَا جَمِيعًا، كَانَ الْخِيَارُ فِي الْقِيَامِ عَلَيْهِ لِوَرَثَةِ الْعَامِلِ، لأِنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ هَذَا الْخِيَارُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ كَانَ الْخِيَارُ لِوَرَثَةِ رَبِّ الشَّجَرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْوَجْهِ الأْوَّلِ .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، فَإِذَا مَاتَ الْعَامِلُ أَوْ رَبُّ الشَّجَرِ انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ، كَمَا لَوْ فَسَخَهَا أَحَدُهُمَا، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَمَتَى انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَيَلْزَمُ الْعَامِلَ أَوْ وَارِثَهُ إِتْمَامُ الْعَمَلِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ، ثَمَرَةٌ أُخْرَى بَعْدَ الْفَسْخِ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِيهَا، وَإِذَا انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِلِ فِي الْعَمَلِ وَقَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْعَامِلِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَقَامَهُ فِي الْمِلْكِ وَالْعَمَلِ، فَإِنْ أَبَى الْوَارِثُ أَنْ يَأْخُذَ وَيَعْمَلَ، لَمْ يُجْبَرْ، وَيَسْتَأْجِرُ الْحَاكِمُ مِنَ التَّرِكَةِ مَنْ يَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرِكَةٌ، أَوْ تَعَذَّرَ الاِسْتِئْجَارُ مِنْهَا بِيعَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الثَّمَرِ الظَّاهِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَكْمِيلِ الْعَمَلِ، وَاسْتُؤْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ .
هـ - الْمُزَارَعَةُ:
71 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَامِلَ أَمْ رَبَّ الأْرْضِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ .
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الزِّرَاعَةِ، فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْفَسِخُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِبْطَالُ مَالٍ عَلَى الْمُزَارِعِ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا عَمِلَ.
أَمَّا إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الزِّرَاعَةِ فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَبْقَى اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ لِدَفْعِ مَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا مِنْ ضَرَرٍ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا تَبْطُلُ، وَلَكِنْ تَبْقَى حُكْمًا إِلَى حَصْدِ الزَّرْعِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ: أَنَّ صَاحِبَ الأْرْضِ إِذَا مَاتَ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، فَإِنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً، لأِنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ قَدِ انْفَسَخَ حَقِيقَةً لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، إِلاَّ أَنَّنَا أَبْقَيْنَاهُ تَقْدِيرًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُزَارِعِ، لأِنَّهُ لَوِ انْفَسَخَ لَثَبَتَ لِصَاحِبِ الأْرْضِ حَقُّ الْقَلْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا، فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً كَمَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَأَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُزَارِعُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ صَاحِبُ الأْرْضِ ، لأِنَّ فِي الْقَطْعِ ضَرَرًا بِهِمْ وَلاَ ضَرَرَ بِصَاحِبِ الأْرْضِ فِي التَّرْكِ إِلَى وَقْتِ الإْدْرَاكِ، وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ قَلْعَ الزَّرْعِ وَتَرْكَ الْعَمَلِ، لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ، لأِنَّ الْعَقْدَ قَدِ انْفَسَخَ حَقِيقَةً، إِلاَّ أَنَّا أَبْقَيْنَاهُ بِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرًا لَهُمْ، فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنِ الْعَمَلِ بَقِيَ الزَّرْعُ مُشْتَرَكًا، وَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الأْرْضِ : إِمَّا أَنْ يَقْسِمَهُ بِالْحِصَصِ، أَوْ يُعْطِيَهُمْ قِيمَةَ حِصَصِهِمْ مِنَ الزَّرْعِ الْبَقْلِ، أَوْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِحِصَصِهِمْ، لأِنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ .
و - الْحَوَالَةُ:
72 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوِ الْمُحِيلِ فِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ عَلَى الاِلْتِزَامَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ تِلْكَ الْمُعَاقَدَةِ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ دَيْنِ الْحَوَالَةِ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يُلْزَمُ بِالدَّيْنِ الْمَحَالِ بِهِ، وَلاَ يُطَالَبُ بِهِ الْمُحِيلُ أَبَدًا، لأِنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ بَرِئَتْ بِمُقْتَضَى الْحَوَالَةِ، فَلاَ يَكُونُ لِلْمُحَالِ الْحَقُّ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ بِحَالٍ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا مَاتَ الْمَحَالُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَا الْتَزَمَ بِهِ لاَ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِذَا مَاتَ مُفْلِسًا لاَ تَرِكَةَ لَهُ فَإِنَّ الْتِزَامَهُ لاَ يَبْطُلُ، وَلاَ يَكُونُ لِلْمُحَالِ حَقٌّ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ، لأِنَّ الْحَوَالَةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ لاَ يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ فَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ لِبَقَاءِ الدَّيْنِ الْمُحَالِ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
أَمَّا مَوْتُ الْمُحِيلِ فَلاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الْحَوَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأِنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ بَرِئَتْ وَانْتَقَلَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَأَصْبَحَ هُوَ الْمُطَالَبَ بِهِ وَحْدَهُ، إِذِ الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الإْيفَاءِ .
ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَلَى مَا الْتَزَمَ بِهِ مِنْ مَالٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَيُعْطَى لِلْمُحَالِ.
وَإِذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَدِينًا قُسِمَ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ الْمُحَالِ بِالْحِصَصِ، فَإِنْ بَقِيَ لِلْمُحَالِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ رَجِعَ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ.
وَإِذَا كَانَ دَيْنُ الْحَوَالَةِ مُؤَجَّلاً فَإِنَّهُ يَحِلُّ بِوَفَاةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنِ الأْجَلِ بِمَوْتِهِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ حِينَئِذٍ تَنْتَهِي فِي الدَّيْنِ كُلِّهِ - إِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِشَيْءٍ مِنْهُ - أَوْ تَنْتَهِي فِي بَاقِيهِ إِنْ تَرَكَ وَفَاءً بِبَعْضِهِ .
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُحِيلُ فَإِنَّ لِوَفَاتِهِ تَأْثِيرًا عَلَى الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَإِنْ كَانَ الأْصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ ذِمَّةَ الْمُحِيلِ قَدْ بَرِئَتْ لاِنْتِقَالِ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِسَلاَمَةِ حَقِّ الْمُحَالِ، فَخَوْفًا أَنْ يَضِيعَ حَقُّهُ وَيَتْوَى، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ رَغْمَ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، إِذِ الْبَرَاءَةُ هَهُنَا مُؤَقَّتَةٌ وَمَرْهُونَةٌ بِسَلاَمَةِ حَقِّ الْمُحَالِ، وَلِهَذَا فَإِنْ مَاتَ الْمُحِيلُ بَعْدَ الْحَوَالَةِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمُحَالِ الْمَالَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُحِيلِ دُيُونٌ أُخْرَى، فَالْمُحَالُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً، فَإِنَّهُ لاَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُحِيلِ، وَلاَ تَأْثِيرَ لِمَوْتِهِ عَلَى الْحَوَالَةِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ: أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ تَبَرُّعٌ، وَإِذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مَدِينًا لِلْمُحِيلِ لاَ تَتَقَيَّدُ بِدَيْنِهِ، وَلِذَا كَانَ لِلْمُحِيلِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ قَبْلَ الأْدَاءِ، فَلاَ تَبْطُلُ بِقِسْمَةِ دَيْنِ الْمُحِيلِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، لأِنَّ الْمُحَالَ لَمْ يَبْقَ مِنْ غُرَمَائِهِ، بَلْ صَارَ مِنْ غُرَمَاءِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ لاَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُحِيلِ، بَلْ تَبْقَى مُطَالَبَةُ الْمُحَالِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُخِذَ مِنْهُ دَيْنُ الْمُحِيلِ وَقُسِمَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ .
ثَالِثًا: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ مَتَى تَمَّتْ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَنْتَقِلُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَيُصْبِحُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُلْتَزِمًا بِأَدَائِهِ لِلْمُحَالِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الأْدَاءِ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلاَ رُجُوعَ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمُحِيلِ بِحَالِ، حَتَّى وَإِنْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُحَالُ عَلَى الْمُحِيلِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَوْ أَفْلَسَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، فَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ شَرْطُهُ إِذَا مَاتَ الْمُحَالُ أَوْ فَلَّسَ .
__________________________________________________________________
كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفورله )محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية(بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه
( مادة 602)
المزارعة هي معاقدة على الزرع بين صاحب الأرض وبين المزارع فيقسم الحاصل بينهما بالحصص التي يتفقان عليها وقت العقد.
( مادة 603)
يشترط لصحة المزارعة أن يكون العاقدان عاقلين وأن تكون الأرض صالحة للزراعة لا سيخة ولاتزة وأن يذکر رب البذر ولو دلالة سواء كان هو صاحب الأرض أو العامل وأن تسلم الأرض للزراع فارغة من الزرع ولو كان البذر من رب الارض.
(مادة 604)
يشترط أيضا لصحة المزارعة أن تعين لها مدة متعارفة لا مدة قصيرة، بحيث لا يمكن فيها من الزراعة ولا طويله بحيث لا يعيش أحد إليها غالباً فان سكتا عن المدة صحت المزارعة ووقعت على زرع واحد.
( مادة 618)
إذا دفع صاحب الأرض للعامل زرعاً بقلا فقام عليه عاملاً حتی عقد الزرع ثم استحقت الارض يُخیر المزارع بين أخذ نصف المقلوع أو رده ويرجع على صاحب الأرض بأجر مثله.
( مادة 619)
اذا دفع صاحب الأرض الأرض للعامل ودفع إليه البذر فزرعها ونبت الزرع ثم استحقت الارض وقلعا الزرع قبل إدراك أوان حصاده فاختار المزارع رد المقلوع فله الرجوع بأجر مثل عمله على صاحب الأرض وله أخذ نصف المقلوع ولاشي له غيره.
( مادة 620)
اذا دفع صاحب الأرض أرضه مزارعة والبذر من العامل ثم استحقت الأرض يأخذها المستحق بدون الزرع وله أن يأمر العامل بالقلع ولو كان الزرع بقلاً ويكون مؤنة نصف القلع على صاحب الأرض ونصفها على المزارع والمزارع بالخيار ان شاء رضي بنصف المقلوع ولا يرجع على صاحب الأرض بشیئ ما وان شاء رد عليه المقلوع وضمنه قيمة حصته من الزرع مستحقا للقرار لا مقلوعاً.
مجلة الأحكام العدلية
مادة (1431) المزارعة
المزارعة نوع شركة على كون الأراضي من طرف والعمل من طرف آخر يعني أن الأراضي تزرع والحاصلات تقسم بينهما.
مادة (1435) تعيين حصة الفلاح
يشترط حين العقد تعيين حصة الفلاح جزءاً شائعاً من الحاصلات كالنصف والثلث وإن لم تتعين حصة أو تعينت على إعطاء شيء من غير الحاصلات أو على مقدار كذا مداً من الحاصلات فالمزارعة غير صحيحة.