مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الخامس، الصفحة : 5
المقاولة والتزام المرافق العامة:
(1) عقد المقاولة ( إيجار أهل الصنائع أو عقد الاستصناع ):
إن مجرد التغيير الذي تم في عنوان هذا الفصل، وإبدال اسمه القديم « إيجار أهل الصنائع » باسم جدید هو « عقد المقاولة » لكاف في الدلالة على مدى التطور الذي لحق هذا العقد وتشعب نواحيه وتعدد أشكاله وصوره العملية في الوقت الحاضر فقد كان القصد قديماً من وضع أحكام هذا الفصل هو تنظيم العلاقة القانونية بين مستصنع وصانع يعهد إليه بعمل ما، مع هذه الخاصية، وهي أن مركز الصانع بالنسبة لمن يكلفه بالعمل يقرب كثيراً من مركز العامل بالنسبة للسيد أو لرب العمل، ولذلك سارت المؤلفات القانونية قديما على دراسة هذا العقد ملحقاً بعقد العمل، فنرى بمجموعة دالوز ( بند نمرة 598 ) تبدأ كلامها عن عقد المقاولة - في الجزء الذي خصصته له من باب عقد العمل - وبهذه العبارة يتميز عقد المقاولة عن عقد العمل بأن السيد لا تكون له إدارة العمل، ولا تربطه بالصانع علاقة تبعية، ولهذا أيضاً نجد التقنين المصري، اهلی ومختلط، يتكلم عن عقد الاستصناع وعقد العمل في باب واحد «إيجار الأشخاص وأهل الصنائع».
على أن هذه النظرية أصبحت لا تتمشي مع مقتضيات الحاجات الحاضرة، فقد تعددت أشكال المقاولة وصورها في العمل، ووجب أن يكون التنظيم القانوني لهذا العقد من المرونة بحيث ينسجم مع الحالات المختلفة نعم لقد حاول التقنين الحالي ذلك في المواد 407 - 410 / 497 - 501 ولكن المحاولة لم تكن كافية، وكان من الواجب أن يعرض المشروع علاوة على الأحكام العامة، لبعض الصور الخاصة للمقاولة، إذ كيف يمكن القول مثلاً بأن العلاقة التي تربط الشخص برسام يعهد إليه بعمل لوحة ما، هي بعينها التي تربطه بمقاول يكلفه ببناء منزل.
ويمتاز المشروع في تنظيمه لهذا العقد بأنه يراعي الاعتبارات السابقة، فهو بعد أن يعرف عقد المقاولة ويذكر صوره المختلفة مبيناً أنه قد يرد على مقاولات صغيرة أو على مقاولات كبيرة أو على مقاولات تتعلق بالمرافق العامة، يعرض للقواعد العامة التي تنطبق على كل أنواع المقاولات، ثم يتكلم أخيراً عن بعض القواعد الخاصة بأنواع معينة من المقاولات.
على أنه يجب أن يلاحظ مبدئياً أن هذا التقديم تقربي لا محالة، لأن الانتقال من المقاولة الصغيرة - وهي الصورة التقليدية لعقد الاستصناع - إلى المقاولة الكبيرة إنما يتم بالتدريج.
كذلك يلاحظ أنه لم يكن ممكناً أن يوضع إلى جانب الأحكام العامة تنظيم خاص لكل الأشكال العملية لعقد المقاولة، ولذلك اكتفي المشروع ببعض صوره الجارية، تاركاً للقاضي أمر تطبيقها وضبطها على الحالات الخاصة .
وقد عني المشروع فيما اعتبره من القواعد العامة ببيان التزامات كل من المقاول ورب العمل وأسباب انتهاء المقاولة، فاستبقي فيها معظم أحكام التقنين الحالى وأضاف إليها أحكاماً جديدة، وفي القواعد الخاصة عنى ببعض أنواع المقاولات، ولا سيما مقاولات المباني، فأورد بشأنها ما تتضمنه التقنين الحالى من مسئولية المهندس المعماري والمقاول بالتضامن عن خلل البناء في مدة عشر سنين، ووضع أحكاماً منظمة لهذه المسئولية من حيث شروطها وتوزيعها بين المسئولين، وارتفاعها بالقوة القاهرة، و جواز الاتفاق على الإعفاء منها، وسقوطها بالتقادم.
1 ـ عرفت المادة 646 من القانون المدنى المقاولة بأنها عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يصنع شيئاً أو أن يؤدى عملاً لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر . و كان البين من مدونات الحكم المطعون فيه ، و من سائر أوراق الطعن أن المطعون ضده تعاقد مع الشركة الطاعنة على القيام بأعمال النجارة الخاصة بالتوسع فى مبنى إدارة الشركة بطنطا لقاء مبلغ ... ... و أن الطاعنة إستصدرت ترخيصاً بإسمها لشراء الأخشاب اللازمة لأعمال النجارة المتعاقد عليها ، و سلمت المطعون ضده شيكاً مسحوباً لصالح الشركة التجارية إستلم بمقتضاه أخشاباً قيمتها ... ... وقامت شركة الأخشاب بقيد باقى قيمة الشيك لحساب الشركة الطاعنة ، فإن التكييف القانونى للتعاقد المبرم بين الطرفين أنه عقد مقاولة . و لما كان الثابت أن المطعون ضده لم يقم بتنفيذ الأعمال التى إلتزم بها بموجب عقد المقاولة المشار إليه رغم إستلامه الأخشاب اللازمة لتلك الأعمال ، و أن الطرفين إتفقا على فسخ العقد ، فإنه يترتب على هذا التفاسخ إعادة المتعاقدين إلى الحالة التى كانا عليها ، و حق للشركة الطاعنة أن تسترد الأخشاب التى تسلمها المطعون ضده بسبب عقد المقاولة و نفاذاً له ، لما كان ذلك . و كان الحكم المطعون فيه قد خالف هذا النظر الصحيح فى القانون و كيف العلاقة بين الطرفين بأنها عقد قرض أقرضت الشركة الطاعنة بموجبه المطعون ضده ثمن الأخشاب التى نزلت له عن ملكيتها مقابل قيمة الشيك الذى حرره لصالحها بمبلغ ... ... رغم عدم وجود رصيد له ، فإن الحكم المطعون فيه يكون قد جانبه التوفيق فى إسباغ التكييف القانونى الصحيح على العقد المبرم بين الطرفين ، و خالف المعنى الظاهر للعقد فيما إستخلصه من نية المتعاقدين و ما إنعقد إتفاقهما عليه .
(الطعن رقم 497 لسنة 45 جلسة 1979/12/10 س 30 ع 3 ص 197 ق 375)
2 ـ عرفت المادة 646 من القانون المدنى المقاولة بأنها عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين بأن يصنع شيئاً أو أن يؤدى عملاً لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر . و إذ كان يبين مما تم الإتفاق عليه فى العقدين - موضوع الدعويين الأصلية و الفرعية - أن الطرفين قد أفرغا فيهما جميع عناصر عقد المقاولة ، إذ وقع التراضى بينهما على الشئ المطلوب من المطعون عليه صنعه ، و هو إقامة المبنى و الأجر الذى تعهد به الطاعنان بوصفهما رب عمل ، و لم يرد بأى منهما ما يدل على قيام المطعون عليه بالعمل تحت إشراف الطاعنين ، أو بوصفه تابعاً لهما أو نائباً عنهما و كان ما تعهد المطعون عليه بالقيام به فى كلا العقدين لم يتجاوز العمل المادى . و هو محل المقاولة ، فى حين أن محل الوكالة هو دائماً تصرف قانونى - على ما أفصحت عنه المادة 699 من القانون المدنى - فإنه لا يصح إعتبار العقدين سالفى الذكر عقدى وكالة ، و لا يغير من ذلك كون الطرفين يملكان العقار على الشيوع ، إذ ليس من شأن هذه المشاركة أن تغير من صفة العقدين ، و أن تضفى على المطعون عليه صفة الوكيل مع صراحة نصوصهما فى أن نية الطرفين قد إتجهت إلى إبرام عقدى مقاولة . و إذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر، و كيف العقدين بأنهما عقدا وكالة ، و أقام قضاءه فى الدعويين الأصلية و الفرعية على هذا الأساس ، فإنه يكون قد خالف القانون و أخطأ فى تطبيقه .
(الطعن رقم 143 لسنة 37 جلسة 1972/03/09 س 23 ع 1 ص 376 ق 59)
3 ـ إن المشرع إذ جمع العقود المسماه فى الكتاب الثانى من القانون المدنى ، ونظم أحكام عقد المقاولة فى الفصل الأول من الباب الخاص بالعقود الواردة على العمل منفصلاً عن عقد الإيجار وقد كان واردا فى القانون المدنى القديم فى باب الإيجار تحت عنوان " إيجار الاشخاص وأهل الصنائع " ، وعرف المشرع المقاولة فى نص المادة 646 بأنها " عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يصنع شيئا أو أن يؤدى عملاً لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر " . وأورد بالمواد التالية التزامات المقاول وجعل قواعد المسئولية عن تهدم البناء وسلامته شاملة المهندس المعمارى والمقاول على سواء ما لم يقتصر عمل المهندس على وضع التصميم فلا يكون مسئولاً إلا عن العيوب التى أتت منه ، وبين طريقة تحديد أجر كل منهما بما فى ذلك أجر المهندس إذا لم يتم العمل بمقتضى التصميم الذى وضعه ، فإن المستفاد من ذلك وعلى ما جاء بالمذكرة الإيضاحية للقانون المدنى فى هذا الخصوص - أن المشرع أراد تنظيم عقد المقاولة لتلائم قواعده التطور الذى وصلت إليه أعمال المقاولات فى صورها المختلفة ، وأنه إنما أورد القواعد المتعلقة بالمهندس المعمارى ليعتبر عمله بوضع التصميم والمقايسة ومراقبة التنفيذ من نوع الأعمال المادية للمقاولات يندرج فى صورها ، وأن اختلاط ناحية الفكر بهذه الأعمال لا يمنع من إعتبارها من قبيل الأعمال المادية لا من قبيل التصرفات القانونية فلا يتغير بذلك وصف العقد من المقاولة إلى الوكالة مما يوجب تطبيق أحكام المقاولة عليه .
(الطعن رقم 223 لسنة 33 جلسة 1967/05/16 س 18 ع 2 ص 1005 ق 150)
4 ـ إن مقتضى حكم المادة 174 من القانون المدنى أن علاقة التبعية تقوم على السلطة الفعلية التى تثبت للمتبوع فى رقابة التابع و توجيهه سواء عن طريق العلاقة العقدية أو غيرها ، و سواء إستعمل المتبوع هذه السلطة أو لم يستعملها طالما أنه كان فى إستطاعته إستعمالها . لما كان ذلك و كان يبين من الحكم الإبتدائى المؤيد لأسبابه بالحكم المطعون فيه أنه أقام قضاءه بمسئولية الطاعنة - الهيئة العامة للمجارى و الصرف الصحى - عن خطأ المطعون عليه الثانى - مقاول الحفر على ما خلص إليه إستناداً إلى شروط المقاولة و تقرير الخبير من أن عمل موظفى الطاعنة لم يقتصر على مجرد الإشراف الفنى ، بل تجاوزه إلى التدخل الإيجابى فى تنفيذ العملية و هو ما تتوافر به سلطة التوجيه و الرقابة فى جانب الطاعنة و يؤدى إلى مساءلتها عن الفعل الخاطئ الذى وقع من المطعون عليه الثانى بإعتباره تابعاً لها ، و لا وجه للإحتجاج بأن الحكم لم يعمل شروط عقد المقاولة المبرم بين الطرفين فيما نص عليه من أن المقاول و هو وحده المسئول عن الأضرار التى تصيب الغير من أخطائه و ذلك إزاء ما حصله الحكم من ثبوت السلطة الفعلية للطاعنة على هذا المقاول فى تسيير العمل .
(الطعن رقم 377 لسنة 43 جلسة 1977/01/31 س 28 ع 1 ص 322 ق 66)
5 ـ لئن كان الأصل أن مهمة مقاول التفريغ مقصورة على العمليات المادية الخاصة بتفريغ البضاعة من السفينة إلا أنه متى عهد إليه المرسل إليه بإستلام البضاعة و سلمه سند الشحن فإنه تكون فى هذه الحال إلى جانب صفته كمقاول للتفريغ صفة "أمين الحمولة" و بذلك يصبح وكيلاً عن المرسل إليه فى الإستلام . و هذه الوكالة تفرض عليه واجب التثبيت من حالة البضاعة الخارجية و شكلها الظاهر و التيقن من مطابقتها للأوصاف الواردة فى سند الشحن و القيام بكل ما يلزم لحفظ حقوق موكله المرسل إليه ، فيلتزم فى حالة وجود تلف أو عجز بالرسالة بإتخاذ التحفظات و الإجراءات الكفيلة بإثباتهما بما فى ذلك الإلتجاء إلى القضاء لإثبات حالة البضاعة إذا إقتضى الأمر ذلك كما يلتزم بعمل الإحتجاج اللازم لرفع دعوى المسئولية وعلى العموم فإنه يلتزم بكل ما يلتزم به الوكيل من رعاية حقوق موكله و إتخاذ الإجراءات الكفيلة بتوفير أدلة الإثبات اللازمة للرجوع على الناقل فإذا قصر فى ذلك كان مسئولاً قبل موكله عن كل ما يصيبه من ضرر نتيجة هذا التقصير .
(الطعن رقم 76 لسنة 32 جلسة 1967/01/05 س 18 ع 1 ص 78 ق 13)
أوردت المادة 646 من التقنين المدني تعريفًا لعقد المقاولة على الوجه الآتي :
"المقاولة عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يصنع شيئًا أو أن يؤدي عملاً لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآجر".
ويخلص من هذا التعريف أن لعقد المقاولة خصائص نجمل أهمها فيما يأتي :
1- عقد المقاولة عقد رضائي لا يشترط في انعقاده شكل معين، وهو عقد ملزم للجانبين، ومن عقود المعاوضة.
2- يقع التراضي في عقد المقاولة على عنصرين اثنين : الشيء المطلوب صنعه أو العمل المطلوب تأديته من المقاول وهو أحد المتعاقدين، والأجر الذي يتعهد به العمل وهو المتعاقد الآخر.
3- انفصل عقد المقاولة بهذا التعريف عن عقدين آخرين كانا مختلطين به في التقنين المدني القديم، ولا يزالان مختلطين به في التقنين المدني الفرنسي، به في التقنين المدني القديم، ولا يزالان مختلطين به في التقنين المدني القديم يجمع بين هذه وهما عقد الإيجار وعقد العمل. فقد كان التقنين المدني القديم يجمع بين هذه العقود الثلاثة تحت اسم "الإيجار"، ثم يسمى عقد الإيجار بإجارة الأشياء، وعقد العمل بإجارة الأشخاص، وعقد المقاولة بإجارة أرباب الصنائع .
فالعقد مع الطبيب هو عقد مقاولة في الغالب إذ هو اتفاق بين الطبيب والمريض على أن يقوم الأول بعلاج الثاني في مقابل أجر معلوم، والعلاج عمل مادى ولا ينفى ماديته أن يكون عملاً عقليًا، فهو إذن ليس بتصرف قانوني، ومن ثم تتوافر مقومات عقد المقاولة في هذا الاتفاق، وغنما يتميز العقد مع الطبيب عن عقود المقاولة الأخرى بخصائص أهمها : ( 1 ) الالتزام الذي يعقده الطبيب هو التزام ببذل عناية لا التزام بتحقيق غاية، لأنه إنما يتعهد ببذل العناية الواجبة في علاج المريض ولا يتعهد بتحقيق الغاية من العلاج وهو شفاء المريض، وأغلب عقود المقاولة يلتزم فيها المقاول بتحقيق غاية لا يبذل عناية، كتشييد البناء ووضع التصميم وعمل المقايسة ونحو ذلك. ( 2 ) التعاقد مع الطبيب لوحظت فيه شخصيته، ومن ثم إذا مات انتهى العقد، بخلاف موت المقاول في كثير من عقود المقاولة الأخرى فإنه لا ينهى المقاولة. وتنص المادة 666 مدني في هذا الصدد على أن "ينقضى عقد المقاولة بموت المقاول إذا كانت مؤهلاته الشخصية محل اعتبار في التعاقد، فإن لم تكن محل اعتبار فلا ينتهي العقد من تلقاء نفسه" . ويترتب كذلك على اعتبار شخصية الطبيب أنه لا يجوز له أن يكل علاج المريض لطبيب آخر، في حين يستطيع المقاول أن مقاول من الباطن. ( 3 ) العقد مع الطبيب غير لازم لا من جهة المريض ولا من جهة الطبيب، فيستطع المريض أن يرجع فيه ولا يرغم على أن يبقى تحت علاج طبيب لا يريده أو أصبح لا يثق فيه، وكذلك يستطيع الطبيب أن يرجع في العقد ولا يمكن إكراهه على المضي في علاج لم يعد يرضى الاستمرار فيه. وهذه الخصائص التي تميز العقد مع الطبيب حملت بعض الفقهاء على أن تنكر على هذا العقد أنه عقد مقاولة وتعتبره عقدًا غير مسمى، وأخذت بهذا الرأي محكمة النقض الفرنسية . على أن ليس في هذه الخصائص شيء يتعارض مع طبيعة عقد المقاولة حتى يخرج العقد مع الطبيب عن هذا النطاق . فعقد المقاولة كما يكوى محله التزامًا بتحقيق غاية، كذلك يجوز أن يكون محله التزامًا ببذل عناية، فالأستاذ إذا تعهد بتحضير تلميذه لامتحان معين لقاء أجر معلوم يكون قد أبرم عقد مقاولة ومع ذلك لم يلتزم إلا ببذل عناية، إذ هلو يم يلتزم بتحقيق غاية هي أن ينجح التلميذ في الامتحان، ويستحق الأستاذ الأجر نجح التلميذ أو لم ينجح، والمحامي الذي يترافع عن الخصم إنما يلتزم ببذل عناية، ويستحق أجره سواء كسب الدعوى أو خسرها . وكذلك الطبيب يستحق أجر شفى المريض أو لم يشف، لأن الطبيب لم يلتزم بتحقيق غاية بل التزام ببذل عناية، ولا يمنع ذلك من أن يكون العقد مقاولة، كذلك لا يكون اعتبار شخصية الطبيب مانعاً من أن يكون التعاقد معه مقاولة، فكثيرًا ما تعتبر شخصية المقاول في عقود المقاولة حتى أن المادة 666 مدنى واجهت هذا الفرض كما رأياً كذلك نصت المادة 661 /1 مدنى على أنه "يجوز للمقاول أن يكل تنفيذ العمل في جملته أو في جزء منه إلى مقاول من الباطن إذا لم يمنعه من ذلك شرط في العقد أولم تكن طبيعة العمل تفترض الاعتماد على كفايته الشخصية" بقى أن العقد مع الطبيب غير لازم، وهذا أيضًا لا يمنع العقد من أن يكون مقاولة . فالمريض في عقدة مع الطبيب، كرب العمل في المقاولة، يستطيع أن يتحلل من العقد ويقف التنفيذ في أي وقت قبل إتمامه، على أن يعوض الطبيب عن جميع ما أنفقه من المصروفات وما قام به من علاج . ويختلف عن رب العمل في المقاولة العادية بأنه لا يعوض الطبيب يقوم على الثقة الشخصية، وفي إجبار المريض على تعويض الطبيب ما كان يستطيع كبه لو أنه أتم العمل تقييد خطير لحريته في الرجوع عن العقد إذا قامت به أسباب جدية تحمله على ذلك، فوجب أن تكون حريته في الرجوع عن العقد أوسع من حرية رب العمل في التحليل من عقد المقاولة العادي، والطبيب كذلك في عقده مع المريض، كالمقاول في عقد المقاولة، له أن يرجع في العقد على أن يكون مسئولاً عن تعويض الضرر الذي يصيب المريض من جراء ذلك وإذا كان رب العمل في عقد المقاولة العادي يستطيع أن يطلب إنجاز العمل على نفقة المقاول، فذلك مالا يستطيعه المريض، وهو حر في أن يذهب إلى طبيب آخر يختاره، وكل ما يستطيع هو أن يرجع على طبيبه الأول بالتعويض، إذ لا يستطيع إكراهه على المضى في العلاج إذا لم يرد الطبيب ذلك، ويخلص مما تقدم أن العقد مع الطبيب هو عقد مقاولة، وهذا هو الرأي الغالب في الفقه.
أما العقد مع المحامي فيقع على خليط من الأعمال المادية والتصرفات القانونية فالمحامي يقوم بعمل مادي عندما يقدم المشورة القانونية لعملية خارج مجلس القضاء، أو عندما يدافع عن مصالحه في مجلس القضاء بالمرافعة الشفوية والمذكرات المكتوبة، وعندما يحرر له العقود والمستندات، وهو في هذه الأعمال يعتبر مقاولا وترى عليه أحكام المقاولة، ما لم يكن خاضعاً لأطراف عملية وإدارته التنظيمية كما لو كان محاميًا لدى شركة أو مؤسسة فيكون العقد الذي ينظم علاقته بالشركة أو المؤسسة هو عقد عمل، والمحامي يقوم بتصرفات قانونية نيابة عن عملية عندما يرفع الدعوى بإسم هذا العميل، وعندما يقدم طلبات العميل ودفوعه في الدعوى، وعندما يطعن بإسم العميل، وعندما يقدم طلبات العميل ودفوعه في الدعوى، وعندما يطعن بإسم العميل في الأحكام التي تصدر، وعندما يبرم اتفاقًا مع خصم عملية كا إذا عقد معه صلحًا، وعندما يصدر منه نيابة عن عميلة إقرار أو تنازل أو يوجه يمينًا حاسمة أو يرد هذه اليمين، وهو في هذه التصرفات القانونية يعتبر وكيلًا عن عملية، وتسرى عليه أحكام الوكالة، فإذا تعارضت أحكام الوكالة مع أحكام المقاولة ولم يكن التوفيق بينهما، وجب ترجيح العصر الغالب في أعمال المحامي وهو عند الوكالة وإعمال أحكام الوكالة دون أحكام المقاولة. فأجر المحامي عن أعماله المادية والقانونية مثلاً يكون خاضعاً لتقدير القاضي كما تقضى أحكام الوكالة ( م 709/2 مدنى ).
وعلى العكس من ذلك العقد مع المهندس المعماري، فإن هذا العقد يقع هو أيضًا على خليط من الأعمال المادية والتصرفات القانونية فيجمع بين أحكام المقاولة وأحكام الوكالة، ولكن عنصر المقاولة هو الغالب، فإذا تعارضت الأحكام وجب تطبيق أحكام المقاولة ومن ثم لا يكون أجر المهندس المعماري خاضعًا لتقدير القاضي . وأهم الأعمال المادية التي يقوم بها المهندس المعماري هي وضع التصميم والرسوم، وعمل المقايسات، والإشراف على التنفيذ وقد يقوم ببعض التصرفات القانونية، كمحابة المقاول وإقرار الحساب، ودفع ما يستحقه المقاول في ذمة رب العمل، وتسلم العمل من المقاول على أجزاء أو جملة واحدة بعد إنجازه . ويكون في هذه التصرفات القانونية نائبًا عن رب العمل، ومن ثم تسرى أحكام الوكالة كما سبق القول.
تمييز المقاولة عن الشركة : الشركة عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكبر بأن يساهم كل منهم في مشروع من ربح أو خسارة ( م 505 مدني ) . ونرى من ذلك أن الشريك قد تكون حصته في رأس المال هي التزامه بالقيام بأعمال تعود على الشركة بالفائدة، وقد يكون العمل مثلاً هو الحصول على ترخيص أو على "تصاريح" للاستيراد أو نحو ذلك، فيدخل الشريك بهذا العمل حصة له في الشركة على أن يتقىض من أرباحها نسبة معينة، وهنا قد تلتبس المقاولة بالشركة، فإذا كان الشريك الذي دخل بالعمل حصة له يساهم في أرباح الشركة وفي خسائرها، فالعقد شركة . أما إذا اشترط من يقدم العمل أن يأخذ من الشركة أجرًا مقابل "تصاريح الاستيراد" التي حصل لها عليها مبلغًا معينًا، أو حتى نسبة في أرباح الشركة دون أن يشارك في الخسارة، فالعقد في هذه الحالة لا يكون شركة بل يكون مقاولة، التزم فيها المقاول بالحصول على تصاريح الاستيراد لمصلحة الشركة، والتزمت الشركة أن تعطى المقاول أجرًا على ذلك.
والذي يميز الشركة عن المقاولة هو أن الشريك في الشركة تكون عنده نية الاشتراك في نشاط ذي تبعة، وهذه النية هي نية تكوين الشركة ( affection societatis ) أو إرادة كل شريك في أن يتعاون مع الشركاء الآخرين في نشاط ينطوي على قدر من المخاطرة . أما المقاول فليست عنده هذه النية ولا يريد أن يتحمل مع الشركاء تبعة المخاطرة بحيث يساهم في الأرباح وفي الخسارة، بل هو يقدم عملاً معينًا ويتقاضى أجره على هذا العمل . ووجود نية تكوين الشركة فيكون العقد شركة، أو انعدام هذه النية فيكون العقد مقاولة، مسألة واقع يستقبل بتقديرها قاضي الموضوع .
أركان عقد المقاولة، كالأركان في سائر العقود، ثلاثة : التراضي والمحل والسبب ولا شيء يقال في السبب في خصوص عقد المقاولة، ونحيل في ذلك إلى النظرية العامة في السبب في الجزء الأول من الوسيط . فيبقى التراضي والمحل، والمحل في عقد المقاولة مزدوج، فهو بالنسبة إلى التزامات المقاول العمل الذي تعهد بتأديته بموجب عبد المقاولة، وهو بالنسبة إلى التزامات رب العمل الأجر الذي يدفعه للمقاول في مقابل هذا العمل.
وعقد المقاولة يخضع للقواعد العامة المقررة في الإثبات فيجوز إثباته بجميع الطرق، ومنها البينة والقرائن، إذا لم تزد قيمة الأجر على عشرة جنيهات، وإلا وجب إثباته بالكتابة أو بما يقوم مقامها.
وقد يجرى العرف بعدم الإثبات بالكتابة، كما هي الحال في العقد ما بين الطبيب والمريض.
وقد يثبت العقد بالإقرار، والإقرار لا يتجزأ طبقًا للقواعد العامة، فإذا أقر رب العمل بعقد المقاولة، وذكر في إقراره أنه دفع الأجر، فإنه لا يصح أن يجزأ إقراره عليه وعلى المقاول أن يثبت أن الأجر لم يدفع.
أما إثبات أن المقاول قد قام بأعمال لمصلحة شخص دون أن يكون هناك عقد مقاولة، فهذا أمر يتعلق بواقعة مادية يجوز إثباتها بجميع الطرق، ومنها البينة والقرائن، مهما بلغت قيمة هذه الأعمال.
كما ان عدم قيام المقاول بتنفيذ الأعمال المتعاقد طبقاً لما التزم به في عقد المقاولة تعتبر واقعة مادية يجوز إثباتها بجميع طرق الإثبات القانونية بما فيها البينة والقرائن ولو كان عقد المقاولة ثابتاً بالكتابة وهناك حالة لا يجوز فيها الإثبات إلا بالكتابة، وهي حالة ما إذا أبرم العقد بأجر إجمالي على أساس تصميم اتفق عليه مع رب العمل، فليس للمقاول أن يطالب بأية زيادة في الأجر ولو حدث في هذا التصميم تعديل أو إضافة، إلا أن يكون ذلك راجعًا إلى خطأ من رب العمل أو يكون مأذونًا به منه واتفق مع المقاول على أجره، ولا يجوز أن يثبت هذا الاتفاق إلا بالكتابة مالم يكن العقد الأصلي ذاته قد اتفق عليه مشافهة ( م 658 مدني ) . وسيأتي بيان ذلك فيما يلي.
وإذا كان عقد المقاولة تجاريًا، فإنه يجوز طبقًا للقواعد العامة المقررة في هذا الشأن إثباته بجميع الطرق ومنها البينة والقرائن، ولو زادت قيمة الأجر على عشرة جنيهات . وننتقل إلى بيان متى يكون عقد المقاولة مدنيًا ومتى يكون تجارياً.(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء/السابع، المجلد/ الأول الصفحة/ 7)
لم يأت القانون بأحكام خاصة بشكل عقد المقاولة ومن ثم فيجوز إبرامه بالكتابة أو مشافهة، بل أن الكتابة لا ضرورة لها إلا في الإثبات وفقاً للقواعد العامة ويقضي العرف بجواز إثبات المقاولة مع الطبيب بكافة الطرق مهما بلغت قيمتها، وأهم المقاولات هي مقاولات البناء، وليست أحكام المقاولة قاصرة على المقاولين، بل تسرى على العمال والصناع إذا كانوا يؤدون أعمالهم بالمقاولة كالنجارين والبنائين والخياطين، ويسمى الطرف الآخر رب عمل، على أن رب العمل في عقد المقاولة يختلف عن رب العمل في عقد العمل من حيث الأحكام التي فرضتها قوانين العمل والتأمينات على الأخير وبناء على التعريف الذي أورده النص، يجوز أن يبرم العقد مقاول يستعين بعمال أو مقاول يعمل بيديه. ويتم العقد بمجرد التراضي على الشئ المطلوب صنعه أو العمل المطلوب من المقاول والاجر الذي يتعهد به رب العمل.
عقد المقاولة، هو من عقود الاستصناع، والأصل فيه أن يكون مدنياً، فإن كانت المادة مقدمة من رب العمل، فإنه يصبح من عقود الأمانة، ويترتب على ذلك أن المقاول إذا اختلس المادة قبل إتمام العمل، فإنه يعاقب بجريمة تبديدها وإذا أتم العمل ولكنه تصرف فيه للغير، يكون قد تصرف فيما لا يملك، وتتوافر جريمة التبديد، كالنجار الذي يتصرف في الأثاث.
أما إن كان المقاول هو الذي قدم المادة، فانه يظل مالكاً لها حتى يتم العمل، كما لو صنع أثاثاً، ومتى أتم العمل، فإن الملكية تنتقل لرب العمل على الفور ويصبح هو دون المقاول المالك، بموجب عقد إستصناع وهو عقد مدني وليس من عقود الأمانة، ويترتب على ذلك أن المقاول إذا تصرف في العمل، لا يكون مبدداً وإنما مسئولاً مدنياً وفقاً لقواعد التصرف في ملك الغير، وإذا أوقع دائن المقاول حجز على العمل بعد إتمامه، يكون الحجز باطلاً لوقوعه على شئ لا يملكه المدين.(المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ التاسع، الصفحة/ 426)
ومثال ذلك أن يتعهد شخص ببناء منزل أو إنشاء مصرف أو مسقي، أو صنع أثاث، أو حياكة ثوب، أو إحضار فرقة مسرحية. وأهم أنواع المقاولات هي مقاولات البناء.
على أن أحكام المقاولات ليست مقصورة على المقاولين، بل تسری علی العمال والصناع، إذا كانوا يؤدون أعمالهم بالمقاولة، كالنجارين والبنائين والخياطين.
كما أن هناك التزام المرافق العامة وعقود الأشغال العامة، وعقد النقل، وعقد الإعلان، وعقد النشر، وعقود المهن الحرة وعقد النظارة.
ويعرف بعض الفقهاء عقد المقاولة بأنه: عقد يقصد به أن يقوم شخص بعمل معين لحساب شخص آخر في مقابل أجر، دون أن يخضع لإشرافه أو إدارته.
ويقترب هذا التعريف من التعريف الذي أتت به المادة 646 وهو أن المقاولة عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر. ولكن هذه التعريف أكثر دقة من التعريف الذي جاءت به المادة 646 مدنی، وذلك لإبرازه الخاصية الأساسية لعقد المقاولة، تلك الخاصية التى تميزه عن عقد العمل.
-كما سيأتي بيانه فيما بعد - وهي خاصية استقلال المقاول عن رب العمل في تنفيذه العقد المقاولة دون الخضوع لإشراف أو إدارة رب العمل.
لعقد المقاولة عدة خصائص وتخلص هذه الخصائص في أنه:
1- عقد رضائی :
فالمشرع لا يشترط لانعقاد المقاولة شكلاً خاصاً، بل يكفي لانعقادها مجرد تراضى الطرفين، وقد يتم ذلك كتابة أو شفاهة أو حتى بالإشارة الدالة وتبدو هذه الخصيصة واضحة من نص المادة 658 مدني الذي لا يجيز للمقاول أن يطالب بأية زيادة في الأجر ولو حدث في التصميم المتفق عليه تعديل أو إضافة، إلا إذا اتفق على هذا الأجر، فقد اشترطت هذه المادة أن يحصل هذا الاتفاق كتابة، إلا إذا كان العقد الأصلي قد اتفق عليه مشافهة.
ولا تفقد المقاولة هذه الصفة الرضائية ولو كان العمل المطلوب هو بناء سفينة، إذ لا تشترط الرسمية، إلا إذا كان العقد الواقع على السفينة بيعاً.
(2) عقد معاوضة :
ذلك أن كلا من طرفيه يقتضي مقابلاً لما يعطي، فالمقاول لا يصنع الشيء ولا يؤدي ما نيط به من عمل بنية التبرع، بل اقتضاء لأجر من رب العمل. كذلك فإن هذا الأخير إذ يدفع الأجر، إنما يقتضى به العمل وهكذا تتوافر لدى الطرفين نية أخذ المقابل لما يعطی.
(3) عقد وارد على العمل :
الأداء الرئيسي في العقد مطلوب من المقاول وهو القيام بعمل معين، ورغم أن هذا العمل يتم في مقابل أجر، وهذا الأجر قد يكون عبارة عن نقل ملكية شيء مثلي أو قيمي إلى المقاول، فإن الاعتداد في وصف العقد إنما يكون بالأداء الرئيسي لا المقابل.
والمقاول إذ يقوم بالعمل المكلف به، فإنما يفعل ذلك باسمه الخاص، مستقلا عن أي إدارة أو إشراف من جانب رب العمل. فالعقد يحدد العمل أو النتيجة التي أرادها المتعاقدان، والمقاول يختار الوسائل والأدوات التي يراها مؤدية إلى إنجاز هذا العمل أو تحقيق هذه النتيجة، دون أن يكون لرب العمل أن يتدخل لتوجيه هذا الاختيار أو رقابته .
ويرد عقد المقاولة على عمل مادي وهو صنع شيء أو أداء عمل، وهذا هو الأمر الغالب في عقد المقاولة، ولا يقلل من هذا الرأي أن يؤدي المقاول أو المهندس المعماري أحياناً أعمالاً ذهنية لازمة لأداء عمله، كإجراء الحسابات التي يقتضيها إبرام العملية أو تنفيذها، كذلك فقد يتضمن أداء كل منهما تصرفاً قانونياً، كنقل ملكية المواد أو الأشياء التي يقدمها - واللازمة لتنفيذ العمل - إلى رب العمل.
وأيضاً فإن المهندس المعماري الذي قد يقتصر عمله على وضع التصميم، وإجراء المقايسات اللازمة للمشروع، فإن أعماله هذه - رغم بروز الجانب الذهني فيها – تعتبر أعمالاً مادية - كما سنرى- وذلك بالتبعية للأداء الرئيسي في عقد المقاولة وهو ما يكون في الغالب الأعم عملاً مادياً، والأحكام إنما تبنى على الغالب .
تمييز عقد المقاولة عن غيره من العقود :
إذا توافرت الخصائص السابقة للعقد، ولا سيما خصيصة القيام بالعمل استقلالاً وخصيصة كون العمل يتم في مقابل أجر، أمكن تكييف العقد بأنه مقاولة. ومع ذلك فقد يلتبس عقد المقاولة ببعض العقود الأخرى.
ونعرض لذلك تفصيلاً فيما يلي:
أولاً : المقاولة والبيع:
ترد المقاولة على العمل أما البيع فيرد على الملكية، فالمقاول الذي يتعهد ببناء منزل يبرم عقد مقاولة. أما إذا بنى المنزل لحسابه ثم باعه بعد ذلك، فالعقد بيع.
وإذا قدم رب العمل المادة واقتصر المقاول على تقديم عمله، فلا شبهة في أن العقد مقاولة. إذ نصت الفقرة الأولى من المادة 647 مدني على أنه: "يجوز أن يقتصر المقاول على التعهد بتقديم عمله على أن يقدم رب العمل المادة التي يستخدمها أو يستعين بها في عمله".
إنما تقوم الشبهة في الحالة التي نصت عليها الفقرة الثانية من المادة من أنه: "كما يجوز أن يتعهد المقاول بتقديم العمل والمادة معاً"، وهو ما يسمى بعقد الاستصناع، كأن يتعاقد شخص مع حائك على أن يصنع له حلة ويقدم الحائك القماش من عنده، أو يتعاقد مع نجار على صنع مكتب ويقدم النجار الخشب من عنده، فهل يكون العقد في الصورتين سالفتي الذكر عقد مقاولة أم يكون عقد بیع واقع على شيء مستقبل هو القماش بالنسبة للحائك والخشب بالنسبة للنجار.
ثانياً : المقاولة والايجار
عقد المقاولة يرد على العمل، أما الإيجار فيرد على المنفعة فقد نصت المادة 558 مدني على أن الإيجار عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم.
غير أن المقاولة قد تلتبس بالإيجار في عقد المستهلك مع ملتزم المرافق العامة من ماء ونور وغاز ونقل وما إلى ذلك. فيمكن القول أن العقد مقاولة لأنه يرد على ما تقوم به الشركة من عمل في توصيل المياه أو الكهرباء أو الغاز إلى المستهلك وقد يقال إنه عقد إيجار المعدات الشركة التي تقوم بذلك.
ويذهب فقهاء القانون المدني إلى أن العقد مقاولة لا إيجار. أما فقهاء القانون الإداري فيذهبون إلى أن مركز المستهلك من ملتزم المرفق العام ليست له صفة تعاقدية بل هو مركز قانوني منظم، وصفه العقد الإداري الذي أبرم بين السلطة الإدارية والملتزم.
كما تخضع اللائحة الإدارية للتشريع، وكما يخضع التشريع للدستور، وليس ذلك وقت إبرام العقد بين العميل والملتزم فحسب، بل يخضع عقد العميل أيضاً لجميع ما يلحق ذلك العقد التنظيمي الإداري من تعديلات تدخلها السلطة مستقبلاً بما لها من سلطان في تنظيم المرافق العامة.
ولما كان العقد بين العميل والملتزم يخضع للنظام المقرر في عقد الالتزام فإنه يخضع تبعاً لذلك لمبادئ عامة يقوم عليها عقد الالتزام نفسه. وهذه المبادئ فرضتها نصوص التقنين المدني، وأوجبت العمل بها. سواء تضمنها عقد الالتزام أو لم يتضمنها، بل حتى لو نص عقد الالتزام على خلافها. فهي مبادئ تعتبر من النظام العام. وتفرض نفسها على كل من عقد الملتزم وعقد العميل.
ولكن الراجح فقها وقضاء أنه عقد مدني، ويخضع لاختصاص المحاكم المدنية إلا أن هذا العقد - مع ذلك - وثيق الصلة بعقد الالتزام الإداري.
ثالثاً : المقاولة والعمل :
تنص المادة 674 مدني على أن عقد العمل هو الذي يتعهد فيه أحد المتعاقدين بأن يعمل في خدمة المتعاقد الآخر وتحت إدارته وإشرافه مقابل أجر يتعهد به المتعاقد الآخر. ومن ثم فإن عقد المقاولة يتحد مع عقد العمل في أن الأداء الرئيسي لكل منهما هو القيام بعمل. غير أنهما يختلفان في وجود علاقة تبعية بين رب العمل والعامل في عقد العمل، فعلاقة التبعية هي التي تميز عقد العمل عن عقد المقاولة .فإذا كان العامل خاضعاً لرقابة رب العمل وسلطته وإشرافه فإن العقد يكون عقد عمل، وأما إذا كان العامل لا يخضع لرقابة رب العمل ولا لسلطته وإشرافه وإنما يتمتع بقدر من الاستغلال في مباشرته لعمله فإن العقد في هذه الحالة يكون عقد مقاولة.
ومعيار للتبعية يستخلص من مقارنة تعريف عقد العمل الوارد في المادة 674 من التقنين المدني بتعريف عقد المقاولة المذكور في المادة 646، إذ يمثل عنصر التبعية في الأول مكاناً بارزاً، بينما يختفي في الثاني اختفاء تاماً، ولكن العقدان يتحدان فيما عداه .
ويكفي لتمييز عقد العمل عن عقد المقاولة أن تتوافر في عقد العمل التبعية التنظيمية أو الإدارية حتى ولو لم تتوافر التبعية الفنية، والمقصود بالتبعية التنظيمية هي خضوع العامل لصاحب العمل في شأن الظروف الخارجية التي يتم في ظلها تنفيذ العمل كتحديد أوقاته ومكانه، وتقسيم العمل على العمال إذا تعددوا والتفتيش عليهم للتأكد من مراعاتهم للتعليمات الصادرة إليهم وتوقيع الجزاء على المخالف منهم.
أما التبعية الفنية والتي لا يلزم توافرها فيقصد بها خضوع العامل لتوجيه وإشراف کامل أو شبه كامل من قبل صاحب العمل في جوهر العمل بدقائقه وجزيئاته.
فيفترض في صاحب العمل - في هذه الصورة أن يكون عالماً بفن حرفته أو على الأقل ملماً به إلماماً يجعل في قدرته توجيه العامل وإدارته.
رابعاً: المقاولة والوكالة :
وقد خلصنا عند تناول عقد الوكالة إلى أن الوكالة والمقاولة يتفقان في أن كلا منهما عقد يرد على العمل. وأن هذا العمل يؤديه كل من المقاول والوكيل لمصلحة الغير، ولكنهما يختلفان في أن العمل في عقد الوكالة هو تصرف قانوني في حين أنه في عقد المقاولة عمل مادی .
والوكيل وهو يقوم بالتصرف القانوني لمصلحة موكله يكون نائبا عنه ويمثله في التصرف الذي يقوم به فينصرف أثر هذا التصرف إلى الموكل. أما المقاول وهو يؤدي العمل المادي لمصلحة رب العمل لا ينوب عنه وإنما يعمل استقلالاً.
وقد تلتبس المقاولة بالوكالة وبخاصة في العقود التي تبرم مع أصحاب المهن الحرة كالطبيب والمهندس والمحامي والمحاسب. وقد جرى القضاء الفرنسي منذ عهد بعيد على اعتبار هذه العقود عقود وكالة، لا عقود مقاولة أو عمل، ذلك أن المقاولة والعمل يوصفان في القانون الفرنسي بأنهما عقدا إيجار للعمل، فأراد القضاء الفرنسي أن يرتفع بأصحاب هذه المهن الحرة عن أن يكونوا أجراء لأصحاب العمل، وآثر أن يجعلهم وكلاء عنهم فيكون العقد الذي يربط صاحب المهنة الحرة برب العمل عقد وكالة لا عقد عمل أو مقاولة. ولكن هذه النظرة خاطئة، فالأعمال التي يقوم بها أصحاب هذه المهن الحرة هي أعمال مادية في مجموعها لا تصرفات قانونية، وإن كانت ناحية الفكر فيها متغلبة ولكن هذا لا يمنع من أن تكون أعمالاً مادية لا تصرفات قانونية، ويكون العقد الذي يربطهم بالغير عقد مقاولة أو عقد عمل. وإن كان يدخل في عمل صاحب المهنة الحرة بعض التصرفات القانونية فإن هذه التصرفات الأخيرة هي التي تخضع وحدها لأحكام الوكالة ونعرض فيما يلي لبعض التطبيقات.
(أ)- عقد العلاج الطبي :
ينعقد بين الطبيب والمريض الذي يلجأ إليه طالباً العلاج عقد، جرى الاصطلاح حديثاً على تسميته بالعقد الطبي contratmédical، وعلى تعريفه بأنه اتفاق يقصد به أن يقوم طبيب بالعناية بصحة شخص وعلاجه في مقابل أجر (أو أتعاب)
فالعقد مع الطبيب هو عقد مقاولة تأسيساً على كونه اتفاق بين المريض والطبيب على قيام الأخير بعلاج الأول مقابل أجر متفق عليه، ولا مراء أن العلاج عمل مادی ولا ينفي ماديته أن يكون عملاً عقلياً، وهكذا تتوافر في عناصر اتفاق الطبيب مع المريض مقومات عقد المقاولة غير أن العقد مع الطبيب قد يكون عقد عمل إذا كان الطبيب خاضعاً لإشراف عميله من الناحية الإدارية وإن كان مستقلاً من الناحية الفنية، كما إذا كان الطبيب يعمل في مؤسسة أو في مستشفى، فالاستقلال الفني لا يمنع الخضوع الإداري أو التنظيمي.
ومع ذلك يختلف العقد مع الطبيب عن عقد المقاولة في بعض الأمور، ويرجع ذلك إلى أنه عقد يقوم على الاعتبار الشخصي وأساسه الثقة التي يشعر بها المريض نحو الطبيب الذي يتعاقد، لأنه يلجأ إليه بقصد العلاج وهو أمر يمس شخص المريض نفسه.
(ب) - العقد المبرم بين المهندس المعماري وصاحب البناء:
المهندس المعماري هو الشخص الذي يضع الرسومات والمقايسات اللازمة الإقامة بناء، ويشرف على تنفيذها.
خامساً : المقاولة والشركة:
تنص المادة 505 مدني على أن: "الشركة عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي، بتقديم حصة من مال أو من عمل، لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو من خسارة".
ويبين من هذا التعريف أن حصة الشريك في الشركة هى التزامه القيام بأعمال تعود على الشركة بالفائدة، وقد يكون العمل مثلاً هو الحصول على ترخيص أو على تصاريح" للاستيراد أو نحو ذلك. فيدخل الشريك بهذا العمل حصة له في الشركة على أن يتقاضى من أرباحها نسبة معينة. وهنا قد تلتبس المقاولة بالشركة، فإذا كان الشريك الذي دخل بالعمل حصة له يساهم في أرباح الشركة وفي خسائرها، فالعقد شركة. أما إذا اشترط من يقدم العمل أن يأخذ من الشركة أجراً مقابل التصاريح الاستيراد" التي حصل لها عليها مبلغاً معيناً، أو حتى نسبة في أرباح الشركة دون أن يشارك في الخسارة، فالعقد في هذه الحالة لا يكون شركة بل يكون مقاولة، التزم فيها المقاول بالحصول على تصاريح الاستيراد لمصلحة الشركة، والتزمت الشريك أن تعطي المقاول أجرا على ذلك وعلى ذلك فإن ما يميز الشريك عن المقاول كون الشريك في الشركة تتوافر لديه نية الاشتراك في نشاط ينطوي على قدر من المخاطرة، أما المقاول فليس لديه هذه النية، إذ لا يريد أن يتحمل تبعة المخاطرة وهي الخسارة، بل هو يقدم عملاً معيناً ويتقاضى أجره على هذا العمل دون أن يساهم في الأرباح أو الخسائر.
ووجود نية تكوين الشركة - وكون العقد شركة أو انعدام هذه النية وكون العقد مقاولة مسألة واقع يستقل بتقديرها قاضي الموضوع.
سادساً : المقاولة والوديعة:
تنوع الأعمال التي تكون محلاً للمقاولة:
رأينا أن المقاولة عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يصنع شيئاً أو أن يؤدي عملاً.
فالمقاول إذن يتعهد بصنع شيء أو بأداء عمل، ولما كان صنع الشيء هو أيضاً عمل يؤديه الصانع. فالمقاول يتعهد دائما بتأدية عمل.
والعمل الذي يؤديه المقاول يختلف من مقاولة إلى أخرى اختلافاً بيناً. ويتنوع تنوعاً كبيراً. ويمكن تقسيم الأعمال التي يؤديها المقاول من نواح مختلفة: من ناحية طبيعة العمل. ومن ناحية حجمه ومن ناحية نوعه فمن ناحية طبيعة العمل، قد يكون العمل غير متصل بشيء معين بل هو مجرد عمل، كنقل الأشخاص والطبع والنشر والإعلان والعلاج والمرافعة والتدريس والمحاسبة ونحو ذلك.
وقد يكون العمل مادياً كنقل الأشخاص والطبع والنشر. أو فنياً كالرسم والنحت والنقش والتصوير والتمثيل، أو علمياً كالمرافعة والعلاج والمحاسبة، أو أدبياً كالتأليف والمحاضرة والتدريس.
وقد يكون العمل متصلاً بشيء معين. وهذا الشيء إما أن يكون غير موجود وقت العقد فيصنعه المقاول بمادة من عنده أو من عند رب العمل. فالنجار يصنع الأثاث بخشب من عنده أو من عند رب العمل والحائك يخيط الثوب بقماش من عنده أو من عند العميل، والبناء يقيم البناء بمواد من عنده أو من عند رب العمل. وإما أن يكون الشيء موجوداً وقت العقد ويرد العقد عليه ليقوم المقاول بعمل، كبناء يرممه أو يدخل فيه تعديلاً أو يهدمه، وكحائط يدهنه، وكأثاث يجدده، وكسيارة يصلحها.
ومن ناحية حجم العمل، تتدرج المقاولات من صغيرة إلى كبيرة ومثل المقاولات الصغيرة في الأمثلة السابقة عمل النجار والحائك والسباك والحداد يضاف إليها أعمال المهن الحرة أيضاً، التي تكون غالباً من المقاولات الصغيرة و تندرج مع ذلك في أهميتها. ومثال المقاولات الكبيرة تشييد المباني والمنشآت الثابتة الأخرى والمشروعات الكبيرة كالجسور والسدود والخزانات والترع والمصارف والطيارات والسفن والأسلحة المدنية والذخائر، وقد كان المشروع التمهيدي يتضمن نصاً في هذا المعنى فكانت المادة 865 من هذا المشروع تجري على أن: "1- يرد العقد إما على مقاولات صغيرة أو على مقاولات كبيرة، أو على مقاولات تتعلق بالمرافق العامة."
ويقصد بالمقاولات الكبيرة مقاولات يكون محلها تشييد مبان أو منشآت تابنة أخرى أو ما شابه ذلك من مشروعات ضخمة تقوم على الأرض"، وقد حذف هذا النص في لجنة المراجعة لأنه مجرد تعداد".
ومن ناحية نوع العمل، هناك من المقاولات ما أصبح معروفاً باسم خاص الانتشار، مثل مقاولات البناء وهي من الانتشار بحيث إذا أطلقت كلمة "المقاولة" انصرفت إليها. وقد وضعت القواعد العامة لعقد المقاولة منظوراً فيها بوجه خاص إلى مقاولات البناء. وإن كانت تنطبق على سائر المقاولات بالتفصيلي الذي ستراه. وهناك التزام المرافق العامة، وعقود النشر وعقد الإعلان، وعقود المهن الحرة، وعقد النظارة. وهذه المقاولات ينفرد كل منها بخصائص معينة تميزها عن غيره.
التنظيم التشريعي لعقد المقاولة في التقنين المدني الجديد :
كان التقنين المدني القديم يطلق على عقد المقاولة (إجارة أرباب الصنائع)، وينظمها هي وعقد العمل مع عقد الإيجار الذي أطلق عليه (إيجار الأشياء).
أما التقنين المدني الجديد فقد أطلق على "إجارة أرباب الصنائع" عقد المقاولة، وينظمها في الفصل الأول من الباب الثالث في العقود الواردة على العمل بالكتاب الثاني من التقنين في العقود المسماة). وذلك في المواد (646 - 667) ثم أعقبها با التزام المرافق العامة) حيث نظمه في المواد (668-673) .
توافق الإيجاب والقبول:
عقد المقاولة من العقود الرضائية، فيكفي لانعقاده التراضي بين الطرفين، فلا يشترط لانعقاده شكلاً معيناً.
ويكون التراضي بتطابق الإيجاب والقبول على عناصر العقد بين المقاول ورب العمل.
فيجب أن يتفق الإيجاب والقبول على ماهية العقد، فإذا تعهد شخص بأن يقوم بعمل لأخر ولم يعرض للأجر ولكنه أراد بتعهده أن يبرم عقد مقاولة فيتقاضى أجراً، وكان الآخر يعتقد أن الأول يقوم بالعمل دون الأجر، لم يكن هناك عقد بين الطرفين، لا عقد غير مسمى كما كان يعتقد المتعاقد الآخر، ولا عقد مقاولة كما كان يعتقد المتعاقد الأول.
كذلك إذ قصد أحد المتعاقدين أن يقوم بالعمل مستقلاً عن أي إشراف أو توجيه، في حين قصد المتعاقد الآخر أن يكون له الإشراف والتوجيه على عمل الأول، فإن المقاولة لا تنعقد، ويجب التراضي على العمل المطلوب القيام به، فإذا أراد شخص بناء منزل، وأراد الآخر القيام بعمل آخر كإصلاح منزل قائم فعلاً، فلا تتعقد المقاولة لعدم التراضي على العمل المقصود منها.
ويجب أن يكون العمل المكلف به المقاول معيناً في العقد تعييناً كافياً، أو على الأقل قابلاً للتعيين. وتعيين العمل يكون بتعيين طبيعته. إقامة بناء أو إصلاح شیء، أو مراجعة حسابات.
فإذا كان العمل إقامة بناء فإنه تبين أوصاف هذا البناء، بأنه مثلاً منزل مكون من طابقين ومساحته كذا متراً مربعاً، وأن المواد الواجب استخدامها في بنائه هي كذا وكذا وإذا كان العمل المطلوب إصلاحاً فيجب بيان الشيء الواجب إصلاحه هل هو سيارة أم آلة حرث أم مذياع. كذلك يجب بيان وجه الإصلاح المطلوب، فإن لم يتحدد ذلك، كان على المقاول أن يقوم بكل الإصلاحات اللازمة وإذا كان العمل المطلوب هو مراجعة حسابات، فيجب بيان المنشأة المطلوب مراجعة حساباتها، والمدة التي تتم المراجعة عنها ويجب التراضي على الأجر الذي يدفعه رب العمل إلى المقاول، وهذا يلزمه من ناحية أن تتجه إرادة المقاول إلى تقاضى أجراً في مقابل العمل الذي يقوم به، وأن تتجه إرادة رب العمل إلى دفع ذلك الأجر. فإذا اتجهت إرادة الطرفين إلى أن يتم العمل مجاناً بلا مقابل، فإن العقد لا يكون مقاولة، بل عقداً مجانياً غير مسمى ولكن لا يبطل عقد المقاولة إذا لم تعين فيه أجر المقاول، كما هو الشأن في الأجرة في عقد الإيجار، ومن ثم إذا سكت المتعاقدان عن تحديد الأجر وجب الرجوع في تحديده إلى قيمة العمل ونفقات المقاول وذلك عملاً بالمادة 659 مدني التي تجري على أن: "إذا لم يحدد الأجر سلفاً وجب الرجوع في تحديده إلى قيمة العمل ونفقات المقاول".
فالتراضي على الأجر إذن لا يتطلب تعيينه في العقد، بل يكتفي بألا يختلف الطرفان وقت إبرام العقد بشأن تحديده، فهذا الاختلاف هو الذي يمنع من وجود التراضي عليه. أما إغفال الاتفاق على الأجر كلية، فلا يمنع من انعقاد المقاولة.
والتعبير عن التراضي، كما يكون صريحاً يصح أن يكون ضمنياً، ولكن ليس معنى ذلك أنه يفترض بل يجب أن يكون موجوداً، وعلى من يدعيه عبء إثباته.
فإذا وضع مهندس تصميماً لفيلا معتقداً أن صديقاً له سيروقه التصميم وسيؤدي إليه أتعابه، فرفض صديقه أداء أتعاب إلى المهندس، فإنه لا يجوز إجباره على ذلك لعدم وجود تعاقد سابق بينه وبين المهندس.
فإذا حدث وقام الصديق بتنفيذ هذا التصميم، لم يكن أمام المهندس سوي الرجوع عليه بدعوى الإثراء بلا سبب.
وإن كان الأصل أن يتم الاتفاق على شروط عقد المقاولة بالعقد الذي يبرم بين المقاول ورب العمل، إلا أن العمل قد جرى في مقاولات المباني على وجود عدة وثائق يكمل بعضها البعض، ويرجع إليها في بيان شروط المقاولة .
وهذه الوثائق هي:
(1) العقد (LeMarché):
وهو يتضمن الاتفاق الذي تم بين المقاول ورب العمل، والمفروض في كل عقد أن يحدد التزامات كل من الطرفين، العمل الذي يلتزم به المقاول والأجر الذي يلتزم به رب العمل. كما يمكن أن يحيل العقد في بعض شروطه إلى الوثائق الأخرى.
كما يحتوي العقد على تعليمات عامة بالنسبة لطريقة وشروط التنفيذ: المدة - الجزاءات - الأقساط المؤقتة – التفتيش – التسوية النهائية - الاختصاص في حالة النزاع أو قبول الالتجاء إلى التحكيم.
2- دفتر الشروط (cahierdes charges):
ويشتمل على شروط المقاولة بالتفصيل، وكيفية التنفيذ، والمواعيد التي تتم فيها الأعمال المختلفة، وغير ذلك من الشروط التي وضعها رب العمل في الدفتر ويوافق عليها المقاول بإبرامه عقد المقاولة.
(3) المقايسة (devis)
وتتضمن بیان مقاسات البناء المراد إقامته، وبيان مقدار المواد وصفاتها، وهذه هي المقايسة الوصفية (descriptif)، كما تتضمن في العادة بيان ثمن هذه المواد كل نوع على حدة وهذه هي المقايسة التقديرية (estimatif)، ولكن قد يلحق بها أحيانا قائمة بالأثمان (Borde redu des prix) لتبين تطبيق الأثمان بالتفصيل، وفي هذه الحالة لاتتضمن المقايسة سوى بيان شروط تنفيذ الأعمال ومقاساتها، في حين تحدد القائمة الأثمان الواجبة عن كل عملية أو عن كل توريد.
التصميمات (Lesplans) :
ويقصد بها الرسوم التي يضعها المعمارى، سواء في ذلك الرسوم المعمارية والرسوم الإنشائية، ويدخل في ذلك رسوم المشروع الابتدائي (avant projet) والرسوم النهائية التفصيلية.
وتستفاد موافقة رب العمل على هذه التصميمات من توقيعه عليها.
ودفتر الشروط والمقايسة والتصميمات تكون سابقة على التعاقد، بل إنه علی أساسها يقبل رب العمل التعاقد.
ورب العمل غير ملزم بقبول المقايسة والتصميم اللذين يقدمهما المهندس المعماري، كما أن تكليف رب العمل للمعماري بإجرائهما لا يعد قبولاً منه بإبرام عقد بينهما.
غير أن رب العمل يلتزم بأتعاب المعماري عن التصميم الذي قام به، لأن اتفاقه معه على وضع هذا التصميم هو ذاته عقد مقاولة يرد على التصميم ويمهد لعقد المقاولة الأصلي، فإذا كان هناك اتفاق على أتعاب المعمارى عن التصميم التزم بها رب العمل، وإلا وجب تقدير الأجر وفقاً للعرف الجاري.
إذ تنص المادة 2،1/660 مدني على أن:
1- يستحق المهندس المعماري أجراً مستقلاً عن وضع التصميم وعمل المقايسة وآخر عن إدارة الأعمال.
2- فإن لم يحدد العقد هذه الأجور، وجب تقديرها وفقا للعرف الجاري .
غير أنه ليس من الضروري أن توجد كل هذه الوثائق منفصلة بعضها عن البعض الآخر، فقد يتضمن عقد المقاولة كافة شروط العقد تفصيلاً مما يغني عن إعداد باقي الوثائق.
وجميع الوثائق السابقة متممة لبعضها البعض، وتشكل في مجموعها ما تراضى عليه الطرفان، بشأن البناء المطلوب، ويلجأ إليها إذا تطلب الأمر تفسير العقد، ويجب التوفيق بين ما يبدو منها متعارضاً، فإذا تعذر ذلك تعين ترجيح ما ورد بدفتر الشروط إذا اختلف عما جاء بالمقايسة. وإذا وجد خلاف يتعلق بالثمن بين المقايسة وقائمة الأثمان وجب تغليب حكم القائمة. وإذا وجد خلاف بين الشروط المطبوعة والشروط المكتوبة بخط اليد وجب تفضين الأخيرة. وإذا وجد خلاف بين الرسومات، وجب تفضيل الرسومات ذات المقياس الكبير على الرسومات الأصغر مقاساً. وتفضيل الرسومات على المواصفات. وتفضل الأرقام المكتوبة على الرسومات.
التعاقد بطريق المسابقة (concours):
في كل ما تقدم من صور عقد المقاولة كنا نفترض أن رب العمل قد تعاقد مع مقاول عن طريق "المساومة" أي "الأختيار الشخصي"، بمعنى أنه اختار مقاولاً يثق في كفائته، وأمانته، فعهد إليه في تنفيذ العمل المطلوب.
ولكن كثيراً ما يعمد رب العمل إلى إبرام عقد المقاولة عن طريق إجراء مسابقة، سواء كان العمل المطلوب عملاً أدبياً أو فنياً أو عمل تمثال أو القيام ببحث علمی، وكثيراً ما يلجأ إلى المسابقة في المقاولات والمشروعات الكبرى.
وهذه المسابقة تعلن للكافة ولها إجراءات وشروط وأحكام خاصة، والذي يوضع في المسابقة كالآتي:
1- إذا كان المطلوب هو وضع تصميم، يدعو رب العمل عن طريق من طرق الإعلان كالصحف والإذاعة والتليفزيون... إلخ كل من يريد الاشتراك في المسابقة لوضع التصميم المطلوب.
2- تعيين العمل موضوع المسابقة تعييناً كافياً، وقد يحتاج الأمر إلى تفاصيل فنية أو حسابية عديدة فيضع كراسة أو دفتراً بشروط المسابقة وتفاصيل العمل وكل ما يتعلق بذلك من بيانات.
وتعتبر هذه البيانات جزءاً من المسابقة .
3- غالباً ما تقترن هذه الدعوة بتأليف لجنة تحكيم تفحص المشروعات أو التصميمات المقدمة في المسابقة لاختيار أفضلها.
4- قد ينص في الإعلان عن المسابقة أن رب العمل لا يلتزم بالتعاقد مع الفائز في المسابقة، إلا أنه قد يعين جائزة للفائز في المسابقة لمكافأته على جهوده في وضع التصميم.
وقد يتحفظ رب العمل فيذكر في إعلان المسابقة أنه غير ملزم بإبرام عقد مقاولة مع الفائز، فإذا لم يتحفظ رب العمل في الإعلان بعدم التزامه بالتعاقد مع الفائز، كان ملزماً بالتعاقد معه.
وتستفاد حرية رب العمل في التعاقد أو عدم التعاقد بصفة خاصة من تخصيص جائزة للفائز، فذلك يفيد أنه ليس للفائز حق إلا في هذه الجائزة .
5- يعتبر إعلان المسابقة دعوة إلى التعاقد ولا يعتبر إيجاباً من رب العمل، والإيجاب هو تقدم المتسابق إلى المسابقة، وهو إيجاب معلق على شرط فوزه فيها. فإذا فاز كان هذا إيجاباً باتاً، ووجب أن يتصل به قبول رب العمل، فلا تتم المقاولة إلا بهذا القبول.
ورب العمل ملزم بالقبول، ولا يجوز له أن يرفضه إلا إذا استند إلى أسباب مشروعة، وكان المشروع التمهيدي للقانون المدني يتضمن نصا يقضي بهذا الحكم صراحة، إذ نصت المادة 136منه على أن: "يجوز لمن وجه إليه الإيجاب أن يرفضه، ما لم يكن قد دعاً إليه، فلا يجوز له في هذه الحالة أن يرفض التعاقد إلا إذا استند إلى أسباب مشروعة"، إلا أن المادة حذفت في لجنة المراجعة لعدم ضرورتها".
فرب العمل هو الذي دعى الموجب إلى الاشتراك في المسابقة، فإن رفض أن يعهد بالعمل إلى الفائز التزم بتعويضه تعويضاً کاملاً عما أصابه من ضرر عن عدم التعاقد مع رب العمل، فيتقاضى تعويضاً عن الخسارة التي تحملها وعن الكسب الذي فاته.
ويجوز أن يكون التعويض عينياً، فيعتبر القاضي أن العقد قد تم على سبيل التعويض إذا كان في الظروف ما يوجب ذلك، كأن كان في عدم تنفيذ العمل إضرار بسمعة الفائز الأدبية أو الفنية أو العلمية .
يلجأ من يريد إنجاز عمل عظيم القيمة بواسطة أحد المقاولين، إلى طلب تقديم عطاءات إليه soumission، تحدد الأجر الذي يطلبه المقاول في مقابل القيام بهذا العمل. ويتم تقديم هذه العطاءات إما في مناقصة علنية ( adjudication auxencheres publiques) يتقدم فيها المتسابقون وترسو المناقصة على من يقدم علنا أقل عطاء مع إعطاء التأمينات الكافية. ويعتبر التقدم إلى المناقصة بعطاء إيجاباً. وإرساء المناقصة على من قدم أقل عطاء يعتبر هو القبول، فيتم عقد المقاولة برسو المناقصة (م 99 مدنی).
ومن وقت تقديم العطاء لا يستطيع رب العمل أن يغير من شروط المناقصة، كأن يعين مثلاً حداً أقصى للأجر.
وقد يجد رب العمل من مصلحته أن يعين حداً أدنى للأجرحتى يضمن جدية العطاءات، ولا يستطيع أن يذيع هذا الحد الأدني قبل تقديم العطاءات إذ لو أذاعه لفقد مفعوله وإما أن تكون المناقصة عن طريق خطابات مغلقة (( enveLoppes cachetés)، ويحدد رب العمل يوماً معيناً تفتح فيه هذه المظاريف وترسو المناقصة على من قدم أقل عطاء، مع تقديمه التأمينات الكافية طبقاً لدفتر الشروط.
وقد تتضمن الشروط عدم التزام رب العمل بالتعاقد مع صاحب أقل عطاء أو مع صاحب أي عطاء يقدم للمسابقة، وحينئذ لا يكون رب العمل ملزماً بالتعاقد مع من رست عليه المناقصة أو مع غيره من المتسابقين. أما إذا لم يورد هذا التحفظ فإنه يضحي ملزماً بإرساء المناقصة على من تقدم بأقل عطاء، وهذا هو القبول. فإن لم يفعل التزم بتعويض الفائز تعويضاً كاملاً، كما جاز الحكم بإرساء المناقصة على هذا الفائز على سبيل التعويض العيني .
إلزام وحدات الجهاز الإداري للدولة ووحدات الإدارة المحلية والهيئات العامة بالتعاقد على المقاولات بطريق المناقصة والممارسة :
تنص المادة الأولى من قانون إصدار القانون رقم 89 لسنة 1998 بإصدار قانون تنظيم المناقصات والمزايدات على أن: "يعمل بأحكام القانون المرافق في شأن تنظيم المناقصات والمزايدات، وتسري أحكامه على وحدات الجهاز الإداري للدولة وزارات ومصالح وأجهزة لها موازنات خاصة وعلى وحدات الإدارة المحلية، وعلى الهيئات العامة خدمية كانت أو اقتصادية".
وقد وضع هذا القانون القيود الآتية على الجهات المذكورة عند التعاقد على المقاولات:
1- يكون التعاقد على مقاولات الأعمال أو النقل أو على تلقي الخدمات والدراسات الاستشارية والأعمال الفنية، عن طريق مناقصات عامة أو ممارسات عامة. ويصدر باتباع أي من الطريقين قرار من السلطة المختصة وفقاً للظروف وطبيعة التعاقد (م 1).
والمقصود بالسلطة المختصة الوزير ومن له سلطاته أو المحافظ أو رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة كل في نطاق اختصاصه. وفيما عدا ما أجازت هذه الأحكام التفويض فيه، لا يجوز للسلطة المختصة التفويض في أي من اختصاصاتها الواردة بتلك الأحكام إلا لشاغل الوظيفة الأدنى مباشرة دون سواه (م 2 من قانون الإصدار).
2- يجوز استثناء و بقرار مسبب من السلطة المختصة، التعاقد بإحدى الطرق الآتية:
(أ) المناقصة المحدودة.
(ب) المناقصة المحلية.
(ج) الممارسة المحدودة
(د) الاتفاق المباشر.
ولا يجوز في أية حال تحويل المناقصة إلى ممارسة عامة أو ممارسة محدودة.
وفي جميع الحالات يتم التعاقد فى الحدود ووفقاً للشروط والقواعد والإجراءات الواردة بالقانون ولائحته التنفيذية (م1).
3- يكون التعاقد بطريق المناقصة المحدودة في الحالات التي تتطلب طبيعتها قصر الاشتراك في المناقصة على موردين أو مقاولين أو استشاريين أو فنيين أو خبراء بذواتهم سواء في مصر أو في الخارج على أن تتوافر في شأنهم شروط الكفاية الفنية والمالية وحسن السمعة (م3).
4- يكون التعاقد بطريق المناقصة المحلية فيما لا تزيد قيمته على مائتي ألف جنيه. ويقصر الاشتراك فيها على الموردين والمقاولين المحليين الذي يقع نشاطهم في نطاق المحافظة التي يتم بدائرتها تنفيذ العقد (م4).
5- يكون التعاقد بطريق الممارسة المحدودة في الحالات الآتية:
(أ) الأشياء التي لا تصنع أو تستورد أو توجد إلا لدى جهات أو أشخاص بذواتهم.
(ب) الأشياء التي تقتضي طبيعتها أو الغرض من الحصول عليها أن يكون اختيارها أو شراؤها من أماكن إنتاجها.
(ج) الأعمال الفنية التي تتطلب بحسب طبيعتها أن يقوم بها فنيون أو أخصائيون أو الخبراء بذواتهم.
(د) التعاقدات التي تقتضي اعتبارات الأمن القومي أن تتم بطريق سرية (م5).
6- يجوز في الحالات العاجلة التي لا تحتمل اتباع إجراءات المناقصة أو الممارسة بجميع أنواعها، أن يتم التعاقد بطريق الاتفاق المباشر بناء على ترخيص من:
(أ) رئيس الهيئة، أو رئيس المصلحة ومن له سلطاته في الجهات الأخرى، وذلك فيما لا تجاوز قيمته خمسين ألف جنيه بالنسبة لتلقي الخدمات أو الدراسات الاستشارية أو الأعمال الفنية أو مقاولات النقل ومائة ألف جنيه بالنسبة لمقاولات الأعمال (م 7/أ).
(ب) الوزير المختص ومن له سلطاته، أو المحافظ فيما لا تجاوز قيمته مائة ألف جنيه بالنسبة لتلقي الخدمات والدراسات الاستشارية أو الأعمال الفنية أو مقاولات النقل وثلاثمائة ألف جنيه بالنسبة لمقاولات الأعمال (م 7 / 1 ب).
ولرئيس مجلس الوزراء في حالة الضرورة القصوى، أن يأذن بالتعاقد بالطريق المباشر فيما يجاوز الحدود سالفة الذكر (م 2/7).
7- يجوز لوزارتي الدفاع والإنتاج الحربي وأجهزتهما، في حالات الضرورة، التعاقد بطريق المناقصة المحدودة أو المناقصة المحلية أو الممارسة المحدودة أو الاتفاق المباشر مع إعمال أحكام القانون رقم 204 لسنة 1957 بشأن إعفاء العقود الخاصة بالتسليح من الضرائب والرسوم والقواعد المالية والقوانين المعدلة له، وللسلطة المختصة التفويض في أي من اختصاصاتها. كما يجوز لرئيس مجلس الوزراء، في حالات الضرورة أن يصرح لجهة بعينها لاعتبارات يقدرها ترتبط بطبيعة عمل ونشاط تلك الجهة - بالتعاقد بطريق المناقصة المحدودة أو المناقصة المحلية أو الممارسة المحدودة أو الاتفاق المباشر وفقاً للشروط والقواعد التي يحددها (م 8).
(ثانياً)
(المحل في عقد المقاولة)
المحل في عقد المقاولة مزدوج:
محل عقد المقاولة - كأي عقد آخر- هو الشيء الذي يقع عليه التعاقد وتظهر فيه أحكام العقد وآثاره، أو هو الشيء الذي يلتزم المدين القيام به وهو يختلف باختلاف العقود.
والمحل في عقد المقاولة مزدوج، فالمحل بالنسبة لالتزامات المقاول العمل المتعاقد على تأديته. وبالنسبة لالتزامات رب العمل، الأجر الذي اتفق على دفعه للمقاول.
ونعرض لعنصرى المحل تباعاً فيما يلي:
(أ) العمل المتفق عليه في المقاولة :
تطبيق القواعد العامة :
لم يرد بالتقنين المدني قواعد خاصة بالنسبة للعمل كركن في عقد المقاولة ومن ثم فإنه يسري عليه حكم القواعد العامة.
ويشترط طبقاً للقواعد العامة أن يتوافر في المحل شروط ثلاثة هي:
الشرط الأول : أن يكون ممكناً :
يشترط أن يكون محل عقد المقاولة أي العمل الذي يقوم به المقاول ممكناً لأنه لا التزام بمستحيل وعلى هذا نصت المادة 132 مدني بقولها: "إذا كان محل الالتزام مستحيلاً في ذاته كان العقد باطلاً". والمقصود بالاستحالة هي الاستحالة المطلقة، وهي أن يكون العمل مستحيلاً في ذاته، لا أن يكون مستحيلاً بالنسبة إلى المقاول فحسب فقد يلتزم المقاول بعمل فني يكون مستحيلاً عليه هو أو يلتزم بأمر يحتاج إلى قدرة فوق طاقته، ولكن هذا العمل لا يستحيل القيام به على رجل من أصحاب الفن أو ممن يطبقونه ففي هذه الحالة تكون الاستحالة نسبية ولا تمنع من انعقاد المقاولة، ويكون المقاول مسئولاً عن التعويض أما إذا كانت الاستحالة مطلقة، كأن يتعهد المقاول بعمل يكون قد تم قبل التعهد أو كما إذا تعهد كيماوي أن يستخلص من معادن خسيسة معادن ثمينة وهذا أمر مستحيل حتى اليوم من الناحية العلمية، فقد شرط الإمكان في العمل، وكانت المقاولة باطلة.
ولا يشترط لنشوء الالتزام أن يكون محل المقاولة موجوداً وقت إبرام العقد، بل يكفي أن يكون من الممكن وجوده في المستقبل أي في الوقت المحدد لنشوء الحق عليه. وقد نصت المادة 1/131 من التقنين المدني على أنه: "يجوز أن يكون محل الالتزام شيئاً مستقبلاً.
الشرط الثاني : أن يكون معيناً أو قابلاً للتعيين:
الالتزام يوجب على المدين القيام بأداء عمل معين لمصلحة الدائن بحيث يجبره على ذلك إذا امتنع عن القيام به اختياراً، ومن ثم يجب أن يكون العمل المطلوب من المدين معيناً أو قابلاً للتعيين، حتى يمكن إجباره عليه عند الامتناع عن الأداء اختياراً.
ويكون العمل معيناً بذكر طبيعته وأوصافه وأن يبين ذلك بصورة كافية. فإذا كان التعاقد على بناء، كان تعيينه عادة بوضع تصميمات له وهي الرسوم التي يضعها المهندس المعماري من مشروع ابتدائى ورسوم نهائية تفصيلية. ويقترن بالتصميمات دفتر الشروط لبيان الأعمال المطلوبة وشروط تنفيذها. ويقترن بالتصميمات ودفتر الشروط المقايسة، وتبين مقاسات البناء ومقدار المواد وصفاتها وهذا ما يسمى بالمقايسة الوصفية، وتبين كذلك ثمن المواد من كل نوع على حدة وهذه هي المقايسة التقديرية. ويغني عن المقايسة التقديرية قائمة بالأثمان تبين الأثمان بالتفصيل.
وإذا كان محل العقد مع جراح إجراء عملية تعين ذكر نوع العملية، إذ تتكفل الأصول العلمية ببيان تفصيلاتها.
وإذا كان محل العقد إجراء ترميمات في مبنى وجب تحديد هذه الترميمات تفصيلاً، فإذا لم يذكر في العقد تحديداً لها، التزام المقاول بإجراء كافة الترميمات اللازمة للمبنى.
وإذا لم يكن العمل معيناً، فإنه يجب أن يكون قابلاً للتعيين، ومثال ذلك أن يكون محل المقاولة إقامة مدرسة، فإنه يكفي الاتفاق على مكان البناء وعدد الفصول وسعة كل فصل وتحديد المرافق المطلوبة للمدرسة.
أما إذا لم يكن العمل معيناً أو قابلاً للتعيين، كانت المقاولة باطلة.
الشرط الثالث : أن يكون مشروعاً:
يشترط أن يكون العمل المعهود به إلى المقاول مشروعاً، أي لا يكون مخالفاً للقانون أو النظام العام أو الآداب، وإلا كان العقد باطلاً ومثل ذلك أن يكون محل العقد تشييد منزل للدعارة أو ألعاب القمار أو إدارته أو تهريب البضائع من الجمرك.
(ب) - الأجر في المقاولة
الأجر هو المال الذي يلتزم رب العمل بإعطائه المقاول في مقابل قيام هذا الأخير بالعمل المعهود به إليه. فالأجر إذن هو محل التزام رب العمل. فيجب أن تتجه إرادة رب العمل إلى دفع هذا الأجر، فإذا اتجهت إرادة الطرفين إلى أن يتم العمل مجاناً فإن العقد لا يكون مقاولة بل عقداً مجانياً غير مسمی.
ويجب أن يكون الأجر مشروعاً، كالشأن في محل التزام المقاول وهو العمل المتفق عليه.
كما يجب أن يكون معيناً أو قابلاً للتعيين، وتعرض للأجر بالتفصيل الآتي.
جنس الأجر :
الأصل أن يكون الأجر نقوداً يدفعها رب العمل إلى المقاول. وقد يكون مقسطاً أو يدفع جملة واحدة عند تمام العمل أو عند البدء فيه أو فيما بين ذلك.
ولكن يجوز أن يكون الأجر تقدمة أخرى غير النقود. فيجوز أن يكون نقل ملكية أشياء مثلية أخرى كحبوب أو أقطان أو نقل ملكية شيء قيمي كمنزل أو سيارة. وغير ذلك من المال المنقول أو العقار. ذلك من المال المنقول أو العقار .
بل يصح أن يكون الأجر عبارة عن عمل يقوم به رب العمل لحساب المقاول، كما لو التزم مقاول بترميم مبنى مقابل إجراء طبيب عملية جراحية له.
تحديد الأجرة :
الأصل أن المتعاقدين يتفقان على الأجر المستحق للمقاول، وعندئذ يكون هذا الاتفاق ملزماً لهما. فإذا لم يتفق الطرفان على الأجر، وجب أن يكون الأجر قابلاً للتعيين بأن يتضمن العقد الأسس التي يقوم عليها تقرير الأجر في المستقبل.
غير أن عدم تحديد الأجر أو عدم وجود الأسس التي تكفل تحديده بالعقد، لا يبطل عقد المقاولة. وإنما يكفي بألا يختلف الطرفان وقت إبرام العقد بشأن تحديده، فهذا الاختلاف هو الذي يمنع من وجود التراضي عليه، أما إغفال الاتفاق على الأجر كلية فلا يمنع من انعقاد المقاولة وإذا أغفل المتعاقدان تحديد الأجر فإن القانون تكفل بتحديده إذ نصت المادة 659 مدني على أنه:
"إذا لم يحدد الأجر سلفاً وجب الرجوع في تحديده إلى قيمة العمل ونفقات المقاول".
ونعرض فيما يلى لكيفية تحديد الأجر باتفاق المتعاقدين، وسنعرض للتحديد القانوني للأجر في آثار عقد المقاولة وبالتحديد في التزامات رب العمل.
كيفية تحديد المتعاقدين للأجر:
يحدد المتعاقدان أجر المقاول إما صراحة أو ضمناً. فيحدد الأجر صراحة بتحديد مقداره إن كان من النقود أو كميته وأوصافه إذا كان شيئاً آخر.
ويكون الاتفاق ضمناً، كما في المهن التي جرى العرف فيها على أن يترك لمن يؤدي العمل تعیین مقدار الأجر، كمهنة الطبيب، وكما في المهن التي لا يكون تنفيذ الأعمال فيها جسيماً، فيترك رب العمل للمقاول تحديد أجره بحسب أهمية العمل الذي قام به والزمن الذي قضاه. ويخضع الطرفان لما يقضي به العرف أو لمعاملتهما السابقة معا ويأخذ تحديد الأجر صورتين:
الصورة الأولى
التحديد الجزافي Marché aforfait :
وذلك بتعيين الأجر إجمالاً بحسب تقدير الطرفين للعمل دون تحديد أجر مستقل لكل عمل من الأعمال الواجبة، دون نقص أو زيادة، بصرف النظر عن الوقت والجهد اللذين ينفقهما المقاول في القيام بالعمل، ودون اعتداد بما يطرأ من حوادث تجعل التنفيذ صعباً أو مرهقاً أو أكثر كلفة.
وهذه الطريقة مفيدة لرب العمل، إذ يتقي بها كل مفاجأة. وقد يلجأ المقاول إلى هذه الطريقة ليشجع صاحب العمل على تنفيذ العمل، ويتحمل المقاول مسئولية الغلط في التقدير. وخطر هذه الطريقة هي أن المقاول قد يستعمل مواد من صنف أقل أولاً يتقن العمل. ويخشى هذا على الخصوص عند تحديد الثمن عقب مناقصة بين عدد من المقاولين.
الصورة الثانية:
تحديد الثمن بناء على مقایسة Machesurdevis:
فبدلاً من تحديد ثمن إجمالي مقدماً قد يقنع الطرفان بتقديرات المختلف أجزاء العمل، فيتقدم المقاول بهذه التقديرات مكتوبة، ويسمى ذلك بالمقايسة. وتسمى الصفقة صفقة بالمقايسة. والثمن الإجمالي يتوقف تحديده على مجموع الأعمال التي تؤدي وفقاً للمقايسة. وقد يتفق في أثناء العمل على إجراء أعمال تكميلية، فالأجر لا يمكن أن يعرف تماماً إلا بعد التنفيذ .
ويجري العمل على ذلك في مقاولات المباني فيتفق المتعاقدان على سعر معين لمتر البناء وسعر للنجارة وسعر للحدادة... إلخ، وعند تمام البناء تحسب الكميات التي نفذت بالبناء وتقدر قيمتها.
وعيب هذه الطريقة أنه لا يمكن التثبت من مقدار الأجرة إلا بعد الانتهاء من العمل الذي تعهد به المقاول.
(ثالثاً) السبب في عقد المقاولة
- تطبيق القواعد العامة :
نحيل في ذلك إلى القواعد العامة.
شروط صحة عقد المقاولة الأهلية وعيوب الرضا
أولاً : الأهلية في عقد المقاولة
أهلية رب العمل:
رب العمل يلتزم في عقد المقاولة بدفع الأجر إلى المقاول، فتكون المقاولة بالنسبة له من أعمال التصرف، ومن ثم يجب أن يتوافر في رب العمل أهلية التصرف، أي يجب أن يكون قد بلغ سن الرشد القانوني وهو 21 سنة ميلادية كاملة، بشرط ألا يكون قد حكم باستمرار الولاية عليه.
فالقاصر أو المحجور عليه لسفه أو غفلة، ولو كان مأذوناً له في الإدارة ليس أهلاً لإبرام عقد المقاولة وإذ أبرم العقد كانت المقاولة قابلة للإبطال لمصلحته.
وللأب أن يبرم عقد الوكالة باسم القاصر بغير إذن المحكمة لأن المشرع أجاز له التصرف في مال القاصر دون أن يحتم عليه الحصول على إذن من المحكمة إلا ما ورد بشأنه نص (م 4 من المرسوم بقانون رقم 119 لسنة 1952).
أما الجد فلا يجوز له إبرام عقد المقاولة باسم القاصر إلا بإذن المحكمة (م15 من المرسوم بقانون المشار إليه).
وللوصي والقيم أن يبرما عقد المقاولة باسم القاصر أو المحجور عليه بإذن المحكمة (م 39، 78 من المرسوم بقانون المشار إليه).
ولكن إذا كان يقصد بالمقاولة حفظ أو ترمیم شیء يملكه رب العمل، فإن المقاولة تعتبر من أعمال الإدارة بالنسبة له. ويكون من سلطة رب العمل إبرامها ولو لم تكن له سوى أهلية الإدارة، وبذلك يجوز للقاصر الذي بلغ الثمانية عشرة وللمحجور عليه لسفه أو غفلة وأذن له في تسلم أمواله لإدارتها أهلية إبرام عقد المقاولة (المواد 15، 56، 57 من المرسوم بقانون سالف الذكر)، ومثل ذلك العقد الذي يبرمه رب العمل مع المقاول لترميم منزله، والعقد الذي يبرمه مع نجار أو حائك لصنع الأثاث الضروري لسكنه أو لصنع ثوبه، ولا يمنع من ذلك أن تكون الترميمات كبيرة مادامت لازمة لحفظ الشيء.
ويكون أيضاً لنائب القاصر أو المحجور عليه إبرام هذا العقد دون إذن من المحكمة.
أما إذا كان العمل لا يعد من أعمال الإدارة، وإنما من أعمال التصرف فلا تثبت للقاصر المأذون بالإدارة ومن في حكمه أهلية إبرام العقد، كصنع شيء جديد أو إقامة بناء جديد، أو إدخال تحسينات على شيء موجود من قبل.
أهلية المقاول :
المقاول ولو اقتصر على تقديم عمله دون تقديم المواد المستخدمة في هذا العمل لا يقوم بعمل نافع نفعاً محضاً، بل بعمل دائر بين النفع والضرر، حقيقة إنه لا يقوم بعمل من أعمال التصرف، ولكن الأعمال الدائرة بين النفع والضرر ليست قاصرة على أعمال التصرف، بل تشمل كل عمل يقوم به الشخص من شأنه أن يعرضه إلى الكسب أو الخسارة، وإلى المساءلة في حالة الإضرار بالمتعاقد معه، وهذا هو حكم عمل المقاول ولو لم يقدم المواد الأولية.
ومن ثم يجب في الأصل أن تتوافر في المقاول أهلية التصرف بأن يكون بالغاً رشيداً. فإذا كان قاصراً أو محجوراً عليه لسفه أو غفلة، ولو كان مأذوناً له فی الإدارة، لم يجز له أن يبرم عقد مقاولة، وإذا فعل كان العقد قابلاً للإبطال لمصلحته.
أما إذا كان المقاول عديم الأهلية، لم تكن له إرادة، ويقع تعاقده باطلاً بطلاناً مطلقاً.
على أنه إذا كان المقاول صانعاً صغيراً، نجاراً أو حداداً أو سباكاً أو نحو ذلك، فيمكن القول أنه يستطيع أن يكسب عيشه من صنعته حتى لو كان قاصراً، فيكون أهلاً الإبرام عقود المقاولة المألوفة الداخلة في صنعته.
ويقاس عقد المقاولة في هذا على عقد العمل الذي ورد بشأنه نص صريح إذ تقضي المادة 62 من المرسوم بقانون رقم 119 لسنة 1952 بأن: "للقاصر أن يبرم عقد العمل الفردي وفقاً لأحكام القانون، وللمحكمة بناء على طلب الوصي أو ذى شأن إنهاء العقد رعاية المصلحة القاصر أو مستقبله أو لمصلحة أخرى ظاهرة".
والأجر الذي يتقاضاه القاصر، يكون هو أهلاً للتصرف فيه إذا بلغ السادسة عشرة تطبيقاً للمادة 63 من المرسوم بقانون سالف الذكر التي تنص على أن: "يكون القاصر الذي بلغ السادسة عشرة أهلاً للتصرف فيما يكسبه من عمله من أجر أو غيره، ولا يجوز أن يتعدى أثر التزام القاصر حدود المال الذي يكسبه من مهنته أو صناعته. ومع ذلك فللمحكمة إذا اقتضت المصلحة أن تقيد حق القاصر في التصرف في ماله المذكور، وعندئذ تجري أحكام الولاية والوصاية". وحتى لو لم يبلغ القاصر السادسة عشرة، فإنه يخصص له من أجره ما يلزم لأغراض نفقته ولو كان الأجر كله، فيكون له أهلية التصرف فيه تطبيقا لأحكام المادة 61 من المرسوم بقانون المشار إليه، والتي تنص على أن: "القاصر أهلية التصرف فيما يسلم له أو يوضع تحت تصرفه عادة من مال لأغراض نفقته، ويصح التزامه المتعلق بهذه الأغراض في حدود هذا المال فقط".
منع الحكومة والمؤسسات العامة والشركات التي تساهم فيها الحكومة أو المؤسسات العامة بنسبة 25% من رأس المال من التعاقد على المقاولات مع مقاولي القطاع الخاص:
النص القانوني:
المادة الأولى من قرار رئيس الجمهورية رقم 1203 لسنة 1961 المعدل بالقرار رقم 1049 لسنة 1962:
لا يجوز إلا بقرار من رئيس الجمهورية للحكومة والمؤسسات العامة والشركات التي تساهم فيها الحكومة أو المؤسسات العامة بنسبة 25% من رأس المال، أن تعهد بأعمال المقاولات والأشغال العامة إلا إلى الشركات التي تساهم فيها الحكومة أو المؤسسات العامة بنسبة لا تقل عن 50% من رأس مالها.
ولا يسرى هذا الحظر بالنسبة للأعمال التي لا تزيد قيمتها على 100000 جنيه بشرط عدم تجزئة العمليات، وعلى أن لا يزيد مجموع ما يعهد به من هذه العمليات إلى مقاول واحد في السنة على ما قيمته 100000 جنيه سواء عهد إليه بها من جهة واحدة أو أكثر من الجهات المذكورة في الفقرة الأولى.
مضمون الحظر
حظرت المادة على الحكومة والمؤسسات العامة والشركات التي تساهم فيها الحكومة أو المؤسسات العامة بنسبة 25% من رأس المال، أن تعهد بأعمال المقاولات والأشغال العامة إلا إلى الشركات التي تساهم فيها الحكومة أو المؤسسات العامة بنسبة لا تقل عن 50 % من رأسمالها.
غير أنه يجوز رفع هذا الحظر بقرار من رئيس الجمهورية.
فالمقصود بالحظر هم مقاولو القطاع الخاص أفراداً أو شركات.
المقاولات التي تخضع للحظر:
يخضع للحظر الوارد بالمادة أعمال المقاولات والأشغال العامة التي تزيد قيمتها على مائة ألف جنيه بشرط عدم تجزئة العمليات، وعلى ألا يزيد مجموع ما يعهد به عن هذه العمليات إلى مقاول واحد في السنة على ما قيمته مائة ألف جنيه، سواء عهد بها من جهة واحد أو أكثر من الجهات المذكورة في الفقرة الأولى من المادة.
فيشترط لسريان الحظر أن تزيد قيمة الأعمال على مائة ألف جنيه.
جزاء مخالفة الحظر:
الحظر الوارد بالمادة الأولى من قرار رئيس الجمهورية سالفة الذكر لا يتعلق بأهلية مقاولى القطاع الخاص، بل هو منع من التعامل بموجب نص تشريعي کمنع عمال القضاء من شراء الحقوق المتنازع عليها ومنع مريض مرض الموت من بيع ماله إلا في حدود معينة، وهذا المنع دعت إليه اعتبارات المصلحة العامة لما في قصر المقاولات الكبيرة على شركات القطاع العام والحكومة من دعم لها وضمان الحسن تنفيذ تلك الأعمال التي تتعلق بمصالح الدولة، ومن ثم يترتب على مخالفته بطلان عقد المقاولة بطلاناً مطلقاً وينصرف البطلان إلى المقاولة كلها إذا لم يمكن تجزئتها ويقتصر على العملية التي تجاوز النصاب المحدد في حالة إمكان التجزئة. فإذا عهد إلى مقاول القطاع الخاص بمقاولة قيمتها سبعون ألف جنيه، ثم عهد في السنة نفسها بمقاولة قيمتها خمسون ألف جنيه، وكانت المقاولة الأخيرة غير قابلة للتجزئة، فإنها تقع - دون المقاولة الأول- باطلة.
ثانياً : عيوب الإرادة في عقد المقاولة
تطبيق القواعد العامة :
عيوب الإرادة في عقد المقاولة، هي ذات عيوب الإرادة في العقود الأخرى والمقررة في القواعد العامة وهي الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال.
غير أن أهم تطبيقات عيوب الإرادة في عقد المقاولة الغلط في عقد المقاولة، لا سيما الغلط في شخص المقاول أو الغلط في الحساب، ونعرض لهاتين الصورتين فيما يلي:
الغلط في شخص المقاول :
الغلط في شخص المقاول- كأصل عام - لا تأثير له في صحة العقد.
غير أنه قد يكون له تأثير في صحة العقد، إذا كان شخص المقاول ملحوظاً ومحل اعتبار لدى رب العمل. ويكون ذلك عادة في عقود المهن الحرة كالتعاقد مع طبيب أو مهندس معماري أو رسام، إذ يكون الشخصية المتعاقد معه اعتبار في التعاقد لدى رب العمل، وقد يكون الشخص المقاول اعتبار في غير هذه العقود كما في الإنشاءات الكبرى، مثل التعاقد مع مهندس معماري على إقامة قرية سياحية كاملة المرافق إذ يطمئن رب العمل إلى كفاءة وأمانة المهندس المتعاقد معه.
وقد أوردت بعض نصوص التقنين المدني حالات تكون فيها شخصية المقاول محل اعتبار ومن أمثلة ذلك:
أ- ما ورد في نص المادة 1/661 مدني من أنه: "يجوز للمقاول أن يكل تنفيذ العمل في جملته أو في جزء منه إلى مقاول من الباطن إذا لم يمنعه من ذلك شرط في العقد أو لم تكن طبيعة العمل تفترض الاعتماد على كفايته الشخصية".
(ب)- ما تنص عليه المادة 666 مدني من أن: "ينقضي عقد المقاولة بموت المقاول إذا كانت مؤهلاته الشخصية محل اعتبار في التعاقد. فإن لم تكن محل اعتبار فلا ينتهي العقد من تلقاء نفسه ولا يجوز لرب العمل فسخه في غير الحالات التي تطبق فيها المادة 663 إلا إذا لم تتوافر في ورثة المقاول الضمانات الكافية لحسن تنفيذ العمل".
الغلط في الحساب و غلطات القلم:
الغلط في الحساب و غلطات القلم لا يؤثر في صحة العقد، ولكن يجب تصحيح الغلط.
وفي هذا تنص المادة 123 مدني على أنه: "لا يؤثر في صحة العقد مجرد الغلط فى الحساب ولا غلطات القلم، لكن يجب تصحيح الخطأ".
والمقصود بالغلط في الحساب الغلط في عمليات الجمع والطرح والقسمة سواء كان الغلط لمصلحة المقاول أو لمصلحة رب العمل.
أما غلطات القلم فيقصد بها الغلط في نقل رقم من جدول إلى آخر أو من صفحة إلى أخرى أما طلب إعادة عمل حساب المقاولة من جديد، بعد عمل المقاس والحساب النهائي واعتماد كل ذلك فلا يجوز.
لم يضع الشارع قواعد خاصة لإثبات عقد المقاولة، ومن ثم يسري على إثبات عقد المقاولة القواعد العامة في الإثبات، وقد نصت الفقرة الأولى من المادة 60 من قانون الإثبات على أن: "في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على ألف جنيه أو كان غير محدد القيمة، فلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده أو انقضائه ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك". ويجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بالكتابة إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة (م 1/62 من قانون الإثبات).
وقد قضى بأن الخطاب الموجه إلى المجلس البلدي في إحدى المدن بطلب إعطائه قطعة أرض لأزمة لإعادة بناء عمارة مملوكة له، يعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة إذا أشار إلى أنه كلف معماريا معينا بوضع التصميم اللازم للبناء، ويجيز لهذا المعماري أن يثبت التعاقد معه بالشهادة والقرائن . وكذلك توقيع رب العمل على الرسومات التي أعدها المعماري يعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة يبيح للمهندس الالتجاء إلى الشهادة الإثبات أن رب العمل كلفه بعمل هذه الرسومات بناء على تعاقد بينهما.
ويجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بالكتابة في الحالتين الآتيتين:
1- إذا وجد مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي. ويعتبر مانعاً أدبياً ما جرى به عرف بعض المهن، مثل مهنة الطب من عدم إثبات العقد بين المريض والطبيب بالكتابة، ومثل ذلك بعض المقاولات كحياكة الملابس والنجارة وكي الملابس والمفروشات، فقد جرى العرف بعدم إثبات العلاقة بين رب العمل والمقاول بالكتابة، فيجوز إثبات المقاولة في هذه الصور وما شابهها بكافة طرق الإثبات ومنها البينة والقرائن فيجوز للطبيب مثلاً أن يثبت العقد بينه وبين المريض بالبينة والقرائن وسجلات الطبيب ولو كانت غير منتظمة.
وتقوم القرابة مانعاً أدبياً كالمهندس الذي يتعاقد مع أقربائه أو زوجته. أما قیام علاقة الصداقة بين أسرة المهندس والطرف الآخر فلا تعتبر مانعاً أدبياً.
وتقدير قيام المانع الأدبي من عدمه مما يخضع لتقدير قاضي الموضوع مستهدياً بظروف الدعوى.
2- إذا فقد الدائن سنده الكتابي بسبب أجنبي لا يد له فيه (م63 من قانون الإثبات).
ويثبت عقد المقاولة بما يقوم مقام الكتابة من إقرار ويمين، والإقرار لا يتجزأ طبقاً القواعد العامة، فإذا أقر رب العمل بعقد المقاولة، وذكر في إقراره أنه دفع الأجر، فإنه لا يصح أن يجزأ إقراره عليه، وعلى المقاول أن يثبت أن الأجر لم يدفع.
غير أنه يلاحظ أن عدم قيام المقاول بتنفيذ الأعمال محل عقد الوكالة يجوز إثباته بكافة طرق الإثبات القانونية، ولو جاوزت قيمة هذه الأعمال ألف جنيه، لأن محل الإثبات هنا واقعة مادية وليس تصرفاً قانونياً.
(أ) بالنسبة لرب العمل :
عقد المقاولة بالنسبة لرب العمل يكون عادة مدنياً. إذ أن صاحب العمل يكون في الغالب غير تاجر.
ومثال ذلك: أن يتعاقد شخص مع نجار لصنع أثاث لمنزله أو مع مقاول لبناء منزل أو مع حائك لصنع ثوب، سواء كانت المواد مقدمة من رب العمل أو قام المقاول بتوريدها.
وكذلك إذا تعاقد مريض مع طبيب على علاجه.
إذا كان رب العمل تاجراً ولكن المقاولة لا تتعلق بتجارته، فإن العقد يكون مدنياً بالنسبة له، كما لو تعاقد التاجر مع مقاول على بناء فيلا لسكناه، أو مع نجار علی صناعة أثاث لمسكنه، أو تعاقد مع طبيب لعلاجه.
أما إذا كان تعاقد التاجر مع المقاول على عمل يتعلق بشئون تجارته، فإن المقاولة تكون عملاً تجارياً بالتبعية، كما إذا تعاقد التاجر مع نجار لصنع أثاث لاستعماله في محله التجاري أو في مصنعه أو تعاقد مع مقاول لإصلاح ماكينة بمصنعه أو على ترميم متجره أو مصنعه.
وعندئذ يكون الإثبات في مواجهة التاجر بكافة طرق الإثبات القانونية، ولو جاوزت قيمة المقاولة ألف جنيه.
(ب) - بالنسبة للمقاول:
عقد المقاولة بالنسبة للمقاول عقد مدني طالما لم يكن عملاً من أعمال التجارة.
وأعمال المهن الحرة تعتبر أعمالاً مدنية لأنها تعتمد على الفكر وتقوم على الثقة الشخصية، كعمل الطبيب والمهندس والرسام والنحات.
فإذا تعاقد المريض مع الطبيب على إجراء عملية جراحية له أو تعاقد رب العمل مع مهندس على وضع تصميم معين أو تعاقد مع رسام أو نحات على لوحة معينة أو تمثال معين، كان العقد بالنسبة للمقاول مدنياً.
غير أن صاحب المهنة الحرة قد يقوم بأعمال تجارية كالمهندس الذي يضع التصميم والرسومات والمقايسة ويشرف على العمل ويقوم بأعمال البناء فيورد المواد اللازمة للبناء والآلات ويقدم العمال، ففي مثل هذه الحالة لا يتجزأ العقد، ويعتبر تجارياً بالنسبة إلى المهندس.
وأيضاً يكون عقد المقاولة تجاريا بالنسبة إلى المقاول إذا اعتبر عملاً من أعمال التجارة، كالنجار أو الحائك اللذين يعهد إليهما بصنع أثاث أو حياكة ملابس، وصاحب المطحن الذي يطحن الحبوب وصاحب المحلج الذي يحلج القطن أو صاحب مصنع السكر الذي يصنع السكر من القصب أو البنجر، وأصحاب دور السينما والمسارح وقاعات الموسيقى والرقص. فالعقود التي يبرمها هؤلاء تعتبر بالنسبة لهم تجارية. ويجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات بما فيها البينة والقرائن، ولو جاوزت قيمة العقد ألف جنيه .
تحدد المادة 56 مرافعات الاختصاص المحلي في المنازعات المتعلقة بالمقاولات بمحكمة موطن المدعى عليه أو للمحكمة التي تم الاتفاق أو نفذ في دائرتها متى كان فيها موطن المدعى عليه إذ تجري على أن: "في المنازعات المتعلقة بالتوريدات والمقاولات وأجرة المساكن وأجور العمال والصناع والإجراء يكون الاختصاص لمحكمة موطن المدعى عليه أو للمحكمة التي تم الاتفاق أو نفذ في دائرتها متى كان فيها موطن المدعى عليه". ويستوي أن يكون عقد المقاولة محل المنازعة مدنياً أو تجارياً.
أما بالنسبة للاختصاص النوعي، فإذا كان النزاع يدخل في الاختصاص النوعي أو القيمي للمحكمة الابتدائية، فطبقاً للمادة 47 من قانون المرافعات تختص المحكمة الابتدائية بالدعاوى المدنية والتجارية، فليس في نظام القضاء المصري محكمة ابتدائية تختص بالفصل في الدعاوى المدنية وأخرى تختص بالفصل في الدعاوى التجارية، ومن ثم فإن المحكمة الابتدائية تكون هي المختصة بالدعاوى التجارية ولكنها تطبق القانون المدني في المسائل المدنية والقانون التجاري في المسائل المتعلقة بالعمل التجاري. ولا يقدح في ذلك تخصيص دائرة أو أكثر بالمحكمة الابتدائية النظر الدعاوى التجارية، لأن ذلك مما يدخل في نطاق التنظيم الداخلي للمحكمة مما تختص به الجمعية العمومية بها، ولا يتعلق بالاختصاص النوعي الذي تتولى قواعده توزيع العمل فيما بين طبقات المحاكم.
وإذا كان النزاع يدخل في الاختصاص القيمي للمحكمة الجزئية - عندما يثبت الاختصاص المحلى لغير محاكم القاهرة والإسكندرية- فإنه تختص بنظره المحكمة الجزئية عملاً بالمادة 42 مرافعات التي تنص على اختصاص المحاكم الجزئية بالدعاوى المدنية والتجارية التي لا تجاوز قيمتها أربعين ألف جنيه.
أما إذا كان النزاع يدخل في نطاق الاختصاص المحلي لمحاكم القاهرة أو الإسكندرية، فالأمر يحتاج إلى تفصيل. ذلك أنه صدر قرار وزير العدل بتاريخ 10 يناير سنة 1940 بإنشاء محكمة تجارية جزئية بالقاهرة وأخرى بالاسكندرية. وقد جرى الفقه والقضاء على أنه إذا كان العمل بالنسبة للمدعي مدنياً وبالنسبة للمدعى عليه تجارياً، جاز للمدعي أن يقيم دعواه أمام المحكمة التجارية وهي مختصة باعتبارها محكمة المدعى عليه، أو رفعها أمام المحكمة المدنية لأنه يكون في الغالب غريباً عن البيئة التجارية ومحاكمها.
أما إذا كان العمل بالنسبة للمدعي تجارياً فليس له أن يرفع الدعوى على خصمه الذي يكون العمل بالنظر إليه مدنياً، إلا أمام المحكمة المدنية .(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الثامن، الصفحة/ 46)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الأول ، الصفحة / 295
الأْجير الْمشْترك
122 - الأْجير الْمشْترك هو الّذي يعْمل للْمؤجّر ولغيْره، كالْبنّاء الّذي يبْني لكلّ أحدٍ، والْملاّح الّذي يحْمل لكلّ أحدٍ. وهذا ما يؤْخذ منْ تعْريفات الْفقهاء جميعًا.
123 - ولا خلاف في أنّ الأْجير الْمشْترك عقْده يقع على الْعمل، ولا تصحّ إجارته إلاّ ببيان نوْع الْعمل أوّلاً. ولا يمْنع هذا منْ ذكْر الْمدّة أيْضًا. فإنْ قال للرّاعي: ترْعى غنمي مدّة شهْرٍ، كان أجيرًا مشْتركًا، إلاّ إذا شرط عليْه عدم الرّعْي لغيْره على ما سيأْتي.
124 - ولا مانع منْ أنْ يؤجّر الْمسْلم نفْسه منْ ذمّيٍّ إجارةً مشْتركةً، كأنْ يكون طبيبًا أوْ خيّاطًا أوْ معلّمًا. فيقدّم عمله لمنْ يطْلبه منْه؛ لأنّ ذلك لا يخْرجه إلى حدّ التّبعيّة والْخضوع له، وليْس فيه اسْتذْلالٌ.
125 - والأْصْل أنْ يكون الْعمل من الصّانع - الأْجير - والْعيْن منْ صاحب الْعمل. غيْر أنّ الْعرْف جرى على أنْ يقدّم الأْجير الْمشْترك الْخيْط منْ عنْده في الْخياطة، والصّبْغ منْ عنْده في الصّباغة، ممّا يعْتبر تابعًا للصّنْعة، ولا يخْرجه ذلك منْ كوْنه عقْد إجارةٍ إلى عقْد اسْتصْناعٍ.
126 - وقدْ يتمّ الْعقْد مع الأْجير الْمشْترك بالتّعاطي - مع مراعاة خلاف الشّافعيّة السّابق في عقود الْمعاطاة - كما في الرّكوب في سيّارات النّقْل الْعامّ، كما يصحّ أنْ يكون الْعاقد واحدًا، أوْ جماعةً كالْحكومة والْمؤسّسات والشّركات.
127 - ويجب أنْ تكون الْمنْفعة الّتي يسْتأْجر عليْها محدّدةً معْلومة الْقدْر. وقدْ تحدّد بتحْديد محلّها، ويكون للأْجير الْمشْترك خيار الرّؤْية في كلّ عملٍ يخْتلف باخْتلاف الْمحلّ كما يرى الْحنفيّة والْحنابلة، ويكون له خيار الرّؤْية في إجارة الأْعْيان عمومًا عنْد الشّافعيّة.
وقدْ تحدّد الْمنْفعة بتحْديد الْمدّة وحْدها، كما تحدّد بتحْديد الْعمل، كإجارة خياطة الثّوْب وقدْ تتحدّد بالْعمل والْمدّة معًا عنْد الصّاحبيْن وهو مذْهب الْمالكيّة إذا تساوى الزّمن والْعمل، وروايةٌ عنْد الْحنابلة، وقالوا: إنّ الْمعْقود عليْه أوّلاً هو الْعمل وهو الْمقْصود من الْعقْد، وذكْر الْمدّة لمجرّد التّعْجيل. وإنْ أوْفى الشّرْط اسْتحقّ الأْجْر الْمسمّى وإلاّ اسْتحقّ أجْر الْمثْل بشرْط ألاّ يتجاوز الأْجْر الْمسمّى.
وذهب أبو حنيفة والشّافعيّ - وهو روايةٌ أخْرى عنْد الْحنابلة - إلى فساد هذا الْعقْد لأنّه يفْضي إلى الْجهالة والتّعارض؛ لأنّ ذكْر الْمدّة يجْعله أجيرًا خاصًّا، والْعقْد على الْعمل يجْعله أجيرًا مشْتركًا وهما متعارضان، ويؤدّي ذلك للْجهالة.
128 - والإْجارة على الْمعاصي باطلةٌ اتّفاقًا مع الأْجير الْمشْترك أيْضًا كما سبق بالنّسْبة للأْجير الْخاصّ. وكذلك يسْري ما سبق هناك بالنّسْبة للإْجارة على بعْض الطّاعات. وقدْ صرّح الْمالكيّة والشّافعيّة بجواز الإْجارة على غسْل الْميّت وحمْله. وصرّح الْحنابلة بجواز الإْجارة على ذبْح الأْضْحيّة والْهدْي وتفْريق الصّدقات وإعْطاء الشّاهد ما يسْتعين به على الْوصول إلى مجْلس الْقضاء.
ومنع الْمالكيّة اسْتئْجار الْجنب والْحائض والْكافر لكنْس الْمسْجد واعْتبروه من الإْجارة على الْمعاصي. وفي كتب الْمذاهب الْعديد من الصّور. وهي في جمْلتها ترْجع إلى حرْمة الاسْتئْجار على الْمعْصية مطْلقًا، سواءٌ أكانتْ محرّمةً لذاتها أمْ لغيْرها. أمّا منْ أجاز الاسْتئْجار على الطّاعات فيرى أنّ إباحة مثْل هذه الْعقود للْحاجة إليْها.
129 - وممّا يتّصل بذلك اسْتئْجار الْمصْحف للتّلاوة. فذهب الْحنفيّة وهو الْمذْهب عنْد الْحنابلة إلى عدم جواز إجارته إجْلالاً لكلام اللّه عن الْمعاوضة، وأجاز الشّافعيّة والْمالكيّة ذلك وهو وجْهٌ عنْد الْحنابلة، ذلك لأنّه انْتفاعٌ مباحٌ تجوز الإْجارة منْ أجْله فجازتْ فيه الإْجارة كسائر الْكتب. غيْر أنّ الْمالكيّة قالوا: إنّه لا يتّفق مع مكارم الأْخْلاق.
الْتزامات الأْجير الْمشْترك:
130 - يلْتزم الأْجير الْمشْترك بإنْجاز الْعمل الْمتعاقد عليْه، وكلّ ما كان منْ توابع ذلك الْعمل لزم الأْجير حسب الْعرْف ما لمْ يشْترطْ غيْر ذلك. فمنْ تعاقد مع خيّاطٍ ليخيط له ثوْبًا فالْخيْط والإْبْرة على الْخيّاط، كما هو الْعرْف إلاّ إذا كان هناك شرْطٌ أوْ تغيّر الْعرْف.
131 - وإذا شرط الْمكْتري على الأْجير أنْ يعْمل بنفْسه لزمه ذلك لأنّ الْعامل تعيّن بالشّرْط، فإنْ لمْ يشْترطْ ذلك فله أنْ يسْتأْجر منْ يعْمله لأنّ الْمسْتحقّ عملٌ في الذّمّة إلاّ إنْ كان الْعمل لا يقوم فيه غيْره مقامه كالنّسْخ لأنّ الْغرض لا يحْصل منْ غيْره كحصوله منْه. وكذا كلّ ما يخْتلف باخْتلاف الْعامل، مع ملاحظة أنّ الصّانع إذا ما اسْتعان بتلْميذه كان عمل التّلْميذ - الْمساعد - مضافًا إلى أسْتاذه الأْجير الّذي تمّ معه التّعاقد.
132 - ولا خلاف في أنّ الأْجير يلْتزم بتسْليم الْعمل، فإذا كان الْعمل في يد الْمسْتأْجر كأنْ يسْتأْجر رجلاً ليبْني له جدارًا أوْ دارًا أوْ يحْفر له قناةً أوْ بئْرًا، فكلّما أتمّ منْه قدْرًا حقّ له أنْ يطالب بما يقابله منْ أجْرٍ لأنّ التّسْليم قدْ تحقّق. أمّا إذا كان الْعمل ليْس في حوْزة ربّ الْعمل فليْس منْ حقّ الأْجير الْمطالبة
بالأْجْرة قبْل الْفراغ من الْعمل وتسْليمه للْمكْتري، لتوقّف وجوب الأْجْر على ذلك. فالْقصّار والصّبّاغ والنّسّاج ونحْوهمْ ممّنْ يعْملون في حوانيتهمْ أوْ دورهم الْخاصّة لا يسْتحقّون الأْجْر إلاّ بردّ الْعمل إلاّ إذا اشْترط التّعْجيل أوْ عجّل بالْفعْل.
تضْمين الأْجير الْمشْترك:
133 - اتّفق الْفقهاء على أنّ الأْجير الْمشْترك إذا تلف عنْده الْمتاع بتعدٍّ أوْ تفْريطٍ جسيمٍ: يضْمن. أمّا إذا تلف بغيْر هذيْن ففيه تفْصيلٌ في الْمذاهب: فالصّاحبان (أبو يوسف ومحمّدٌ) والْحنابلة
اعْتبروا التّلف بفعْله سواءٌ كان عنْ قصْدٍ أوْ غيْر قصْدٍ، أوْ بتقْصيرٍ أوْ دونه، موجبًا للضّمان، تابعوا في ذلك عمر وعليًّا، حفْظًا لأمْوال النّاس. ومثْل ذلك إذا كان التّلف بغيْر فعْله. وكان من الْممْكن دفْعه كالسّرقة الْعاديّة والْحريق الْعاديّ. وإلى هذا ذهب بعْض متأخّري الْمالكيّة. وهو قوْلٌ للشّافعيّة. ومتقدّمو الْمالكيّة وزفر ذهبوا إلى عدم التّضْمين. وهو قوْلٌ للشّافعيّة أيْضًا.
وذهب أبو حنيفة إلى الضّمان إذا كان التّلف بفعْله، أوْ بفعْل تلْميذه، سواءٌ قصد أوْ لا؛ لأنّه مضافٌ إلى فعْله، وهو لمْ يؤْمرْ إلاّ بعملٍ فيه صلاحٌ، وعمل التّلْميذ منْسوبٌ إليْه، وإلى عدم الضّمان، إذا كان بفعْل غيْره، وهو الْقياس.
وذهب ابْن أبي ليْلى إلى تضْمين الأْجير الْمشْترك مطْلقًا في جميع الأْحْوال.
134 - وإذا وجب الضّمان على الأْجير الْمشْترك، فإنْ كانت الْعيْن هلكتْ بعْد الْعمل فالْمكْتري بالْخيار: إنْ شاء ضمّنه قيمته معْمولاً، ويحطّ الأْجْرة من الضّمان، وإنْ شاء ضمّنه قيمته غيْر معْمولٍ ولمْ يكنْ عليْه أجْرةٌ. وإنْ كان الْهلاك الْموجب للضّمان حصل قبْل الْعمل ضمن قيمته غيْر معْمولٍ. وهو لمْ يعْملْ شيْئًا يسْتحقّ أجْرًا عليْه. وهذا ما اتّجه إليْه الْجمْهور.
وكذلك إذا هلكت الْعيْن هلاكًا لا يوجب الضّمان فإنّ الأْجير الْمشْترك لا يسْتحقّ أجْرًا لأنّ الأْجْر يسْتحقّ بالتّسْليم بعْد الْفراغ.
الْوقْت الْمعْتبر لتقْدير الضّمان:
135 - ذهب الْحنفيّة والشّافعيّة في قوْلٍ عنْدهمْ وهو الْمسْتفاد منْ مذْهب الْحنابلة إلى أنّ الْعبْرة في تقْدير الضّمان هو يوْم حصول سبب الضّمان، وهو التّلف أو التّعدّي.
أمّا الْمالكيّة فقالوا: تقدّر قيمتها بيوْم تسْليمها إلى الأْجير الْمشْترك، لا يوْم التّلف ولا يوْم الْحكْم. والْقوْل الآْخر للشّافعيّة: أنّ الْقيمة تعْتبر أكْثر ما كانتْ منْ حين الْقبْض إلى حين التّلف، كالْغاصب. وأمّا إنْ قيل بعدم الضّمان إلاّ بالتّعدّي فتقدّر الْقيمة ما كانتْ منْ حين التّعدّي إلى حين التّلف لأنّ الضّمان بالتّعدّي.
136 - ولا يجوز لربّ الْعمل أنْ يشْترط الضّمان على الأْجير فيما لا يجب عليْه ضمانه؛ لأنّ شرْط الضّمان في الأْمانة باطلٌ، لمنافاته لمقْتضى الْعقْد. وكذا لا يجوز اشْتراط نفْي الضّمان عن الأْجير فيما يجب فيه عليْه الضّمان. ويفْسد الْعقْد بهذا الاشْتراط لمنافاته لمقْتضى الْعقْد. وللصّانع أجْر الْمثْل، لا الْمسمّى؛ لأنّه إنّما رضي به لإسْقاط الضّمان عنْه. هذا ما نصّ عليْه الْحنفيّة والْمالكيّة، وهو أحد وجْهيْن عنْد الْحنابلة.
وعنْد الْحنابلة وجْهٌ آخر. فقدْ سئل أحْمد عن اشْتراط الضّمان ونفْيه، فقال: الْمسْلمون على شروطهمْ.
قال ابْن قدامة: وهذا يدلّ على نفْي الضّمان بشرْطه، ووجوبه بشرْطه.
الْتزامات ربّ الْعمل إزاء الأْجير الْمشْترك:
137 - يلْزم الآْجر أنْ يسلّم الْعيْن الْمراد إجْراء الْعمل عليْها للأْجير في الْوقْت الْمشْروط الْملْفوظ أو الْملْحوظ، إذْ لا يتحقّق التّمْكين إلاّ بذلك. وفي تسْليم التّوابع يعْتبر الْعرْف ما لمْ يكنْ هنا شرْطٌ، على ما ذكر عنْد الْكلام عن الْتزامات الأْجير الْمشْترك.
138 - ويلْتزم الْمسْتأْجر بدفْع الأْجْرة للأْجير الْمشْترك بعْد انْقضاء الْعمل وتسلّمه، ما لمْ يكنْ بيْنهما شرْطٌ بالتّعْجيل أوْ بالتّأْجيل، وما لمْ يكن الْعمل الْمأْجور فيه ممّا ليْس له أثرٌ في الْعيْن، كالْحمّال والسّمْسار ونحْوهما؛ إذْ لا يتوقّف الأْجْر فيها على التّسْليم، فلوْ هلك الْمحْمول عنْ رأْس الْحمّال قبْل تسْليمه، أوْ هلك الشّيْء الّذي طلب من السّمْسار بيْعه أوْ شراؤه، اسْتحقّ أجْرةً بما عمل. أمّا ما كان للْعمل أثرٌ فيه، كالثّوْب الْمطْلوب صبْغه، فإنّه لا أجْر له إلاّ بعْد الْفراغ من الْعمل وتسْليمه، ما لمْ يكنْ هناك شرْطٌ مخالفٌ، فلوْ هلك الثّوْب قبْل التّسْليم سقط الأْجْر. هذا بالنّسْبة لما كان يعْمله بعيدًا عن الْمسْتأْجر. أمّا إنْ كان الأْجير يعْمل في بيْت الْمسْتأْجر أوْ تحْت يده، فقيل: إنّه يسْتحقّ الأْجْر بحساب ما عمل. وقيل: لا يسْتحقّه إلاّ بعْد الْفراغ من الْعمل، على ما سبق في بحْث الأْجْرة.
وتنْقضي إجارة الأْجير الْمشْترك بإتْمام الْعمل وتسْليمه، كما تنْقضي بهلاك الْعيْن محلّ الْعمل، إلى غيْر ذلك من الأْسْباب الّتي ذكرْناها قبْل في انْقضاء الإْجارة بوجْهٍ عامٍّ وما فيها منْ تفْصيلٍ.
أنْواعٌ من الأْجير الْمشْترك:
إجارة الْحجّام والطّبيب وتضْمينهما:
139 - الْحجامة جائزةٌ اتّفاقًا. وفي أخْذ الأْجْرة عليْها ثلاثة اتّجاهاتٍ لتعارض الآْثار؛ فقال الْبعْض: إنّه مباحٌ عنْد الْجمْهور، «لأنّ الرّسول صلي الله عليه وسلم احْتجم وأعْطى الْحجّام أجْرًا». فقدْ روى الْبخاريّ بسنده عن ابْن عبّاسٍ قال: «احْتجم النّبيّ صلي الله عليه وسلم وأعْطى الْحجّام أجْره» ولوْ كان ذلك غيْر مشْروعٍ لما أقْدم عليْه الرّسول صلي الله عليه وسلم.
وذهب الْبعْض إلى كراهة ذلك، لما روي مسْندًا إلى رافع بْن خديجٍ منْ «أنّ الرّسول علي الصلاة والسلام قال: كسْب الْحجّام خبيثٌ» ويردّ عليْه بأنّه منْسوخٌ بما روي «أنّه عليه الصلاة والسلام قال له رجلٌ: إنّ لي عيالاً وغلامًا حجّامًا، أفأطْعم عيالي منْ كسْبه؟ قال: نعمْ» وقال الأْتْقانيّ: إنّ حديث النّهْي محْمولٌ على الْكراهة منْ طريق الْمروءة.
الاتّجاه الثّالث: أنّه حرامٌ، لما روي عنْ أبي هريْرة أنّ رسول اللّه قال: «من السّحْت كسْب الْحجّام» وبعْد أنْ عرضتْ كتب الْفقْه أدلّة كلّ اتّجاهٍ، وناقشتْها بما ينْتج عدم التّحْريم، قال ابْن قدامة: ليْس في الْمسْألة قوْلٌ بالتّحْريم، وإنّما يكْره للْحرّ أكْل كسْب الْحجّام. ويكْره تعلّم صناعة الْحجامة، وإجارة نفْسه لها، لما فيها منْ دناءةٍ.
قال ابْن عابدين: وإنْ شرط الْحجّام شيْئًا على الْحجامة كره.
140 - وإذا ما اسْتأْجر شخْصٌ حجّامًا، ثمّ بدا له ألاّ يفْعل، فله حقّ الْفسْخ لأنّ فيه اسْتهْلاك مالٍ أوْ غرْمًا أوْ ضررًا.
ضمان الْحجّام:
141 - لا ضمان على الْحجّام إلاّ إذا جاوز الْمعْتاد. فإنْ لمْ يجاوزْه فلا ضمان عليْه؛ لأنّ ضرر الْحجامة ينْبني على قوّة الطّبْع وضعْفه ولا يعْرف الْحجّام ذلك بنفْسه، وهو ما يتحمّل الْمحْجوم من الْجرْح، فلا يمْكن اعْتبار السّلامة، فيسْقط الضّمان.
وفي الْمغْني: لا ضمان على حجّامٍ ولا ختّانٍ ولا
طبيبٍ إذا توافر أنّهمْ ذوو حذْقٍ في صناعتهمْ وألاّ يتجاوزوا ما ينْبغي عمله. فإنْ تحقّق هذان الشّرْطان فلا ضمان؛ لأنّ فعْلهمْ مأْذونٌ فيه.
أمّا إنْ كان الْحجّام ونحْوه حاذقًا وتجاوز، أوْ لمْ يكنْ حاذقًا، ضمن، لأنّه إتْلافٌ لا يخْتلف ضمانه بالْعمْد والْخطأ، فأشْبه إتْلاف الْمال، ولأنّه فعْلٌ محرّمٌ فيضْمن سرايته. وهذا مذْهب الشّافعيّ وأصْحاب الرّأْي. ولا نعْلم فيه خلافًا.
142 - واسْتئْجار الْحجّام لغيْر الْحجامة كالْفصْد وحلْق الشّعْر وتقْصيره والْختان وقطْع شيْءٍ من الْجسد للْحاجة إليْه، جائزٌ بغيْر خلافٍ؛ لأنّ هذه الأْمور تدْعو الْحاجة إليْها، ولا تحْرم فيها، فجازت الإْجارة فيها وأخْذ الأْجْر عليْها.
143 - واسْتئْجار الطّبيب للْعلاج جائزٌ، وأخْذه أجْرًا على ذلك مباحٌ، بشرْط أنْ يكون خطؤه نادرًا كما يصرّح الشّافعيّة. فإنْ لمْ يكنْ كذلك لمْ يصحّ الْعقْد، ويضْمن. وقالوا: إذا اسْتأْجره للْمداواة في مدّةٍ معيّنةٍ لمْ يجزْ؛ لأنّه جمع بيْن الْعمل والزّمن. وفي قوْلٍ آخر لهمْ، وهو ما أخذ به الْحنابلة: يقدّر الاسْتئْجار للْمداواة بالْمدّة دون الْبرْء، إذ الْبرْء غيْر معْلومٍ. فإنْ داواه الْمدّة ولمْ يبْرأ اسْتحقّ الأْجْر؛ لأنّه وفّى الْعمل. وإنْ برئ في أثْنائها أوْ مات، انْفسخت الإْجارة فيما بقي، ويسْتحقّ من الأْجْر بالْقسْط. وعنْد الإْمام مالكٍ أنّه لا يسْتحقّ أجْرًا حتّى يبْرأ. ولمْ يحْك ذلك أصْحابه.
144 - وإن امْتنع الْمريض من الْعلاج مع بقاء الْمرض اسْتحقّ الطّبيب الأْجْر ما دام قدْ سلّم نفْسه ومضى زمن الْمعالجة؛ لأنّ الإْجارة عقْدٌ لازمٌ، وقدْ بذل الأْجير ما عليْه. ويمْلك الطّبيب الأْجْرة ما دام قدْ قام بالْمعْتاد.
145 - ولا تجوز مشارطة الطّبيب على الْبرْء. ونقل ابْن قدامة عن ابْن أبي موسى الْجواز، وقال: إنّه الصّحيح، لكنْ يكون جعالةً لا إجارةً، إذ الإْجارة لا بدّ فيها منْ مدّةٍ أوْ عملٍ معْلومٍ. وقال: إنّ أبا سعيدٍ حين رقى الرّجل شارطه على الْبرْء. وقدْ أجاز ذلك مالكٌ، ففي الشّرْح الصّغير. لوْ شارطه طبيبٌ على الْبرْء فلا يسْتحقّ الأْجْر إلاّ بحصوله. ولا ضمان على الطّبيب إلاّ بالتّفْريط ما دام منْ أهْل الْمعْرفة ولمْ يخْطئْ، وإلاّ ضمن.
146 - وإذا زال الأْلم، وشفي الْمريض قبْل مباشرة الطّبيب، كان عذْرًا تنْفسخ به الإْجارة. يقول ابْن عابدين: وإذا سكن الضّرْس الّذي اسْتؤْجر الطّبيب لخلْعه فهذا عذْرٌ تنْفسخ به الإْجارة. ولمْ يخالفْ في ذلك أحدٌ حتّى منْ لمْ يعْتبروا الْعذْر موجبًا للْفسْخ، فقدْ نصّ كلٌّ من الشّافعيّة والْحنابلة على أنّ من اسْتأْجر رجلاً ليقْلع له ضرْسًا، فسكن الْوجع، أوْ ليكحّل له عيْنًا، فبرئت انْفسخ الْعقْد لتعذّر اسْتيفاء
الْمعْقود عليْه.
الإْجارة على حفْر الآْبار:
147 - الْمعْقود عليْه هنا فيه نوْع جهالةٍ؛ لأنّ الأْجير لا يعْلم ما يصادفه أثْناء الْحفْر. ولهذا فإنّ جمْهور الْفقهاء الْمالكيّة والشّافعيّة والْحنابلة يشْترطون لصحّة الْعقْد معْرفة الأْرْض الّتي يقع فيها الْحفْر؛ لأنّ الْحفْر
يخْتلف باخْتلافها، ومعْرفة مساحة الْقدْر الْمطْلوب حفْره طولاً وعرْضًا وعمْقًا. وأجازوا تقْدير الإْجارة على الْحفْر بالْمدّة أوْ بالْعمل.
والْحنفيّة يقولون: إنّ الْقياس يقْتضي بيان الْموْضع وطول الْبئْر وعمْقه، إلاّ أنّهمْ قالوا: إنْ لمْ يبيّنْ جاز اسْتحْسانًا؛ لجريان الْعرْف بذلك، ويؤْخذ بوسط ما يعْمل النّاس.
148 - وإنْ بيّن له موْضع الْحفْر، وحدّد له الْمقْدار الْمطْلوب حفْره، فوجد الأْجير بعْد الشّروع في الْعمل أنّ الأْرْض صلْبةٌ وتحْتاج إلى مئونةٍ أشدّ عملاً وآلاتٍ خاصّةٍ، فإنّه لا يجْبر عليْه، ويحقّ له فسْخ الْعقْد ويسْتحقّ أجْرًا بمقْدار ما حفر. وتقْدير ذلك يرْجع فيه إلى أهْل الْخبْرة. ولوْ حفر الْبئْر في ملْكه، فظهر الْماء قبْل أنْ يبْلغ الْمنْتهى الّذي شرط عليْه، فإنْ أمْكنه الْحفْر في الْماء بالآْلة الّتي يحْفر بها الآْبار أجْبر على الْحفْر، وإن احْتيج إلى اتّخاذ آلةٍ أخْرى لا يجْبر.
149 - كما نصّوا على أنّه لوْ حفر بعْض الْبئْر، وأراد أنْ يأْخذ حصّتها من الأْجْر، فإنْ كان في ملْك الْمسْتأْجر فله ذلك. وكلّما حفر شيْئًا صار مسلّمًا إلى الْمسْتأْجر، حتّى إذا انْهارت الْبئْر فأدْخل السّيْل أو الرّيح فيها التّراب حتّى سوّاها مع الأْرْض لا يسْقط شيْءٌ منْ أجْرته. وإنْ كان في ملْك غيْره ليْس للأْجير أنْ يطالبه بالأْجْرة ما لمْ يفْرغْ من الْحفْر ويسلّمْها إليْه، حتّى لو انْهارتْ، فامْتلأتْ قبْل التّسْليم لا يسْتحقّ الأْجْر.
وقالوا: إذا اسْتأْجر حفّارًا ليحْفر له حوْضًا عشرةً في عشرةٍ بعشرة دراهم، فحفر خمْسةً في خمْسةٍ اسْتحقّ من الأْجْر بنسْبة ما حفر، مع ملاحظة أخْذ الْمتوسّط بيْن قيمة الْحفْر في الْجزْء الأْعْلى والْجزْء الأْسْفل. وإنْ شرط عليْه كلّ ذراعٍ في طينٍ أوْ أرْضٍ سهْلةٍ بدرْهمٍ، وكلّ ذراعٍ في حجرٍ بدرْهميْن، وكلّ ذراعٍ في ماءٍ بثلاثةٍ، وبيّن مقْدار طول الْبئْر ومحيطه جاز. وإذا حفر بعْض الْبئْر ومات، قوّم الْحفْر وأخذ ورثته بنسْبته من الأْجْر، على ما سبق.
ويلاحظ أنّ هذه الأْحْكام مبْنيّةٌ على أعْرافٍ كانتْ قائمةً.
إجارة الرّاعي:
150 - الرّاعي إمّا أنْ يكون أجيرًا مشْتركًا أوْ أجيرًا خاصًّا، فتجْرى على كلٍّ منْهما الأْحْكام السّابقة، إلاّ أنّ هنا ما يسْتحقّ الإْفْراد بالذّكْر:
1 - إذا عيّن عدد الْماشية الّتي يرْعاها فليْس الرّاعي ملْزمًا بما يزيده الآْجر عمّا اتّفق عليْه، ولكنْ إذا كانت الزّيادة بطريق الْولادة فالْقياس أنّه غيْر
ملْزمٍ برعْيها أيْضًا، ولكنّ الْحنفيّة قالوا بلزوم رعْيها، اسْتحْسانًا؛ لأنّها تبعٌ، ولجريان الْعرْف بذلك. وإلى هذا ذهب بعْض الشّافعيّة وبعْض الْحنابلة، والظّاهر عنْدهمْ أنّه غيْر ملْزمٍ.
2 - إذا خاف الرّاعي الْموْت على شاةٍ - مثلاً - وغلب على ظنّه أنّها تموت إنْ لمْ يذْبحْها، فذبحها، فلا يضْمن اسْتحْسانًا، وإذا اخْتلفا فالْقوْل قوْل الرّاعي.
تعْليم الْعلوم والْحرف والصّناعات:
151 - نبيّن هنا أنّه لا خلاف في جواز الاسْتئْجار على تعْليم الْعلوم سوى الْعلوم الدّينيّة الْبحْتة، حتّى ولوْ كانتْ وسيلةً ومقدّمةً للْعلوم الشّرْعيّة، كالنّحْو والْبلاغة وأصول الْفقْه. ومثْل ذلك يقال في الْحرف والصّنائع.
وإذا كان الْعقْد على مدّةٍ معْلومةٍ اسْتحقّ الأْجْر عنْ هذه الْمدّة، وصحّت الإْجارة، اتّفاقًا. أمّا إذا اشْترط في عقْد الإْجارة على التّعلّم الْحذْق فالْقياس ألاّ تصحّ الإْجارة؛ لأنّ الْمعْقود عليْه مجْهولٌ، لتفاوت الأْفْراد في الذّكاء والْبلادة.
وذهب جمْهور الْفقهاء إلى جواز ذلك اسْتحْسانًا إذا عاين الْمعلّم الْمتعلّم.
وقال الْحنفيّة: إنّ الإْجارة فاسدةٌ، فإنْ عمل اسْتحقّ أجْر الْمثْل كأيّة إجارةٍ فاسدةٍ.
إجارة وسائل النّقْل الْحديثة:
152 - لمْ يتعرّض الْفقهاء الأْقْدمون لبيان أحْكام اسْتئْجار وسائل النّقْل الْحديثة منْ سيّاراتٍ وطائراتٍ وسفنٍ كبيرةٍ، وإنّما تعرّضوا لاسْتئْجار الدّوابّ والأْشْخاص والسّفن الصّغيرة.
وممّا تقدّم يتبيّن أنّ أحْكام اسْتئْجار الدّوابّ والسّفن الصّغيرة والأْشْخاص ترْجع كلّها إلى الأْحْوال الآْتية: إجارةٍ مشْتركةٍ، أوْ إجارةٍ خاصّةٍ، أوْ إجارةٍ في الذّمّة، أوْ إجارة عيْنٍ موْصوفةٍ، أوْ إجارةٍ على الْعمل، سواءٌ كانتْ مع الْمدّة أوْ بدونها. وقدْ بيّن الْفقهاء كلّ هذه الأْحْكام على ما تقدّم. ويمْكن تطْبيقها على وسائل النّقْل الْحديثة؛ لأنّها لا تخْرج عنْ هذه الأْحْوال الّتي ذكرْناها. وإذا كان هناك اخْتلافٌ في بعْض الأْحْوال، كاخْتلافهمْ في تعيّن الرّاكب، فإنّ هذا يرْجع فيه إلى الْعرْف. فلا فرْق بيْن شخْصٍ وآخر في اسْتئْجار سيّارةٍ أوْ طائرةٍ، بخلاف الدّابّة، فإنّها تتأثّر بالأْشْخاص ضخامةً ونحافةً - وأمّا ما يصْحبه الرّاكب من الْمتاع فمرْجع ذلك إلى الشّرْط. فإنْ لمْ يكنْ فالْحكم الْعرْف.
وأمّا اسْتحْقاق الأْجْرة، سواءٌ على نقْل الأْشْخاص أو الأْمْتعة، فالْمرْجع أيْضًا إلى الشّرْط. وإلاّ فالْعرْف.
وكلّ أحْكام الضّمان سواءٌ بالنّسْبة للأْجير الْمشْترك أو الْخاصّ، أوْ بالنّسْبة لاسْتئْجار عيْنٍ من الأْعْيان كالسّفينة، فإنّ ما سبق ذكْره يطبّق عليْها.
الاسْتحْقاق في الإْجارة:
153 - اخْتلف الْفقهاء في أثر اسْتحْقاق الْعيْن الْمؤجّرة، فمنْهمْ منْ يرى بطْلان الإْجارة ومنْهمْ منْ يرى توقّفها على إجازة الْمسْتحقّ كما اخْتلفوا فيمنْ يسْتحقّ الأْجْرة على خلافٍ وتفْصيلٍ، ينْظر بحْث (اسْتحْقاق).
__________________________________________________________________
كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفورله (محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية) بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه
(مادة 462)
الاستصناع هو طلب عمل شيء خاص على وجه مخصوص مادته من الصانع.
(مادة 463)
ينعقد الاستصناع على العين لا على عمل الصانع.
(مادة 464)
يجوز الاستصناع في كل ما جرى به التعامل.
ويشترط لصحته بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره ووصفه.
(مادة 465)
لا يصح الاستصناع فيما لا تعامل فيه إذا ضرب له شهراً فأكثر فيكون سلماً تعتبر فيه شرائط السلم.
وكذلك ما جرى به التعامل إذا ضرب له أجل وكان شهراً فأكثر يعتبر سلماً.
(مادة 466)
لا يلزم في الاستصناع تعجيل الثمن.
(مادة 467)
لا يتعين المبيع للآمر قبل اختياره له فيجوز للصانع أن يبيع مصنوعة قبل رؤية الآمر كما يجوز للآمر أخذه وتركه بخيار الرؤية.
(مادة 468)
إذا ضرب للاستصناع أجلاً شهراً فأكثر صار سلما سواء جرى فيه تعامل أم لا فتعتبر فيه شرائط السلم ولا خيار لواحد منهما إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي عليه في السلم.
(مادة 469)
إذا ضرب للاستصناع أجلاً أقل من شهر إن جرى فيه تعامل كان استصناعاً صحيحاً وإن لم يجر فيه تعامل إن ذكر الأجل على وجه الاستعجال كان استصناعاً صحيحاً أيضاً وإن ذكره على وجه الاستمهال فهو استصناع فاسد.
( مادة 509) يجوز ايجار الصانع أو المقاول لعل بناء مع تعيين اجرته في كل يوم بدون بيان مقدار العمل أو مع تعيين أجرة كل ذراع أو متر يعمله أو بالمقاولة على العمل كله مع ان مقدار العلم طولا وعرضا وعمقا