مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء : الخامس ، الصفحة : 426
مذكرة المشروع التمهيدي :
لم يعرض التقنين المصري ، جرياً على منوال التقنين الفرنسي، لإثبات الكفالة بل تركه للقواعد العامة . أما التقنينات الحديثة ( كالتقنين الألماني م 677 والتقنين السويسري م 493 والتقنين البولوني م 631 ) فإنها تتطلب في باب الكفالة الدليل الكتابي والواقع أنه يجب فيما يتعلق بالكفالة الخروج على القواعد العامة في الإثبات لأن التزام الكفيل هو أساساً من الالتزامات التبرعية ، فيجب أن يستند إلى رضاء صریح قاطع وقد يكون من العسير بل قد يستحيل أحياناً تعرف طبيعة تدخل الكفيل ، وتحديد مدى التزامه و نوع كفالته عن طريق شهادة الشهود وحدها ولذلك قلما تتم الكفالة عملاً بغير كتابة ، كما يندر أن يلجأ الدائن في دعواه ضد الكفيل إلى الإثبات بالبينة فلهذه الأسباب قرر المشروع حماية للكفيل عدم جواز إثبات الكفالة إلا بالكتابة .
ويلزم الإثبات الكتابي حتى لو كان من الجائز إثبات الالتزام الأصلى بالبينة وربما يعترض البعض على ذلك بأن الكفيل ، والتزامه ثابت بالكتابة ، سيضطر دائماً إلى الوفاء للدائن في حين أنه في رجوعه على المدين قد لا يستوفي منه شيئاً لعجزه عن إثبات الإلتزام الأصلي بشهادة الشهود على أن هذا الاعتراض غير جدي في الواقع لأن الكفيل يستطيع تفادي ذلك إما عن طريق التوقيع بالضمان على سند الإلتزام ذاته، أو اشتراط وجود كتابة مثبتة للإلتزام ، أو تعليق الكفالة على وجود هذه الكتابة وفي جميع هذه الحالات تكون الكتابة مثبتة للدين الأصلي ، ومثبتة أيضاً للكفالة.
الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفي الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : العاشر
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي : " لم يعرض التقنين المصري ( السابق ) ، جرياً على منوال التقنين الفرنسي ، لإثبات الكفالة ، بل تركه للقواعد العامة أما التقنينات الحديثة ( كالتقنين الألماني م 667 والتقنين السويسري م 493 والتقنين البولوني م 631 ) ، فإنها تتطلب في باب الكفالة الدليل الكتابي والواقع أنه يجب فيما يتعلق بالكفالة الخروج على القواعد العامة في الإثبات لأن التزام الكفيل هو أساساً من الالتزامات التبرعية ، فيجب أن يستند إلى رضاء صريح قاطع، وقد يكون من العسير بل قد يستحيل أحياناً تعرف طبيعة تدخل الكفيل ، وتحديد مدى التزامه ، ونوع كفالته ، عن طريق شهادة الشهود وحدها ولذلك قلما تتم الكفالة عملاً بغير كتابة ، كما يندر أن يلجأ الدائن في دعواه ضد الكفيل إلى الإثبات بالبينة، فلهذه الأسباب قرر المشرع ، حماية للكفيل ، عدم جواز إثبات الكفالة إلا بالكتابة ويلزم الإثبات الكتابي ، حتى لو كان من الجائز إثبات الالتزام الأصلي بالبينة وربما يعترض البعض على ذلك بأن الكفيل ، والتزامه ثابت بالكتابة ، سيضطر دائماً إلى الوفاء للدائن ، في حين أنه في رجوعه على المدين قد لا يستوفي منه شيئاً لعجزه عن إثبات التزام الأصلي بشهادة الشهود على أن هذا الإعتراض غير جد في الواقع ، لأن الكفيل يستطيع تفادي ذلك إما عن طريق التوقيع بالضمان على سند الإلتزام ذاته ، أو اشترط وجود كتابة مثبتة للإلتزام ، أو تعليق الكفالة على وجود هذه الكتابة وفي جميع هذه الحالات تكون الكتابة مثبتة للدين الأصلي ، ومثبتة أيضاً للكفالة (مجموعة الأعمال التحضيرية 5 ص 429 – ص 427).
موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء : العاشر
ويلزم الإثبات الكتابي حتى لو كان من الجائز إثبات الإلتزام الأصلي بالبينة وربما يعترض البعض على ذلك بأن الكفيل والتزامه ثابت بالكتابة، سيضطر دائماً إلى الوفاء اللدائن في حين أنه في رجوعه على المدين قد لا يستوفي منه شيئاً لعجزه عن إثبات الإلتزام الأصلي بشهادة الشهود على أن هذا الإعتراض غير جدى فى الواقع لأن الكفيل يستطيع تفادي ذلك إما عن طريق التوقيع بالضمان على سند الإلتزام ذاته، أو اشتراط وجود كتابة مثبتة للإلتزام، أو تعليق الكفالة على وجود هذه الكتابة وفي جميع هذه الحالات تكون الكتابة مثبتة للدين الأصلي، ومثبتة أيضاً للكفالة ".
تنص المادة 773 مدني على ما يأتي :
"لا تثبت الكفالة إلا بالكتابة ، ولو كان من الجائز إثبات الإلتزام الأصلي بالبينة" .
ويخلص من هذا النص أن الكتابة ضرورية لإثبات التزام الكفيل ولكنها غير ضرورية لإنعقاد الكفالة لذلك ليست الكفالة بعقد شكلي بل هي عقد رضائي كما قدمنا ، والكتابة ليست ضرورية إلا لإثبات التزام الكفيل والكتابة ضرورية لإثبات التزام الكفيل ، حتى لو كان الإلتزام المكفول يثبت بالبينة بأن كان مثلاً عشرين جنيهاً فأقل كذلك الكتابة لازمة لإثبات التزام الكفيل ولو كان هذا الإلتزام عشرين جنيهاً فأقل ، حتى لو كان الإلتزام الأصلي أكثر من عشرين جنيهاً ولكن الكفيل لم يكفل منه إلا عشرة جنيهات فأقل ويقوم مقام الكتابة مبدأ الثبوت بالكتابة ، كما يجوز الإثبات بالبينة إذا وجد مانع يحول دون الحصول على دليل كتابي أو إذا فقد الدائن سنده الكتابي بسبب أجنبي لا يد له فيه كذلك يجوز إثبات الكفالة بالإقرار واليمين ، وهذان طريقان للإثبات جائزان حيث يجب الإثبات بالكتابة.
والسبب الذي دعا المشرع المصري إلى التشدد في إثبات رضاء الكفيل بالكتابة هو نفس السبب الذي دعا المشرع الفرنسي إلى اشتراط أن يكون رضاء الكفيل صريحاً : خطورة الكتابة وضرورة التروي قبل الإقدام عليها .
والإثبات بالكتابة ضروري فيما بين الكفيل والدائن أما فيما بين الكفيل والمدين ، عندما يريد الأول الرجوع على الثاني بعد أن يفي بالإلتزام ، فلا تشترط الكتابة ، ويخضع الإثبات هنا للقواعد العامة فيجوز الإثبات بالبينة والقرائن إذا كان رجوع الكفيل على المدين بعشرين جنيهاً فأقل كذلك الإثبات بالكتابة ليس ضرورياً حتى فيما الكفيل والدائن ، ويجوز الإثبات بالبينة والقرائن ، إذا كان التزام الكفيل تجارياً، وقد رأينا متى يكون التزام الكفيل تجارياً.
ويجب أن تكون الكتابة ثابتة التاريخ حتى يجوز الإحتجاج بها على الغير ، كما إذا وفى الكفيل الدين وحل محل الدائن في رهن رسمي مثلاً وكان هناك دائن مرتهن تال في المرتبة. (الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفي الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : العاشر ، الصفحة : 98)
لا يجوز إثبات عقد الكفالة أو الوعد به إلا بالكتابة ولو كان العقد الأصلي يجوز إثباته بالبينة، والكتابة هنا دليل للإثبات وليست شرطاً للانعقاد فإن لم توجد كتابة، جاز الإثبات بما يقوم مقامها كالأقرار وقد تستجوب المحكمة الكفيل عساه أن يقر بالكفالة، كما تثبت باليمين أو بمبدأ ثبوت بالكتابة أو بالبينة أذا وجد مانع في أو فقد عقد الكفالة بسبب أجنبي كسرقة أو حريق، ولا تلزم الكتابة إلا فيما من الدائن والكفيل، أما فيما بين الدائن والكفيل فيخضع الإثبات للقواعد العامة فلا تلزم الكتابة في رجوع الكفيل على المدين إلا إذا كان ما وفاه يجاوز نصاب البينة.
وقد يستند الكفيل في رجوعه على المدين إلى المستندات التي تسلمها من الدائن والمتضمنة الحق الثابت للأخير في ذمة الدين مرفقاً بها حوالة هذا الحق للكفيل فإن كان الإلتزام الأصلي تجارياً مما يجوز إثباته بين الدائن والمدين بالبينة، فإن كفالة هذا الإلتزام تكون مدنية حتى لو كان الكفيل بدوره تاجراً وبالتالي لا تثبت إلا بالكتابة أو ما يقوم مقامها.
فإن كانت الكفالة ناشئة عن ضمان الأوراق التجارية ضماناً اختياطياً أو عن تظهير هذه الأوراق، فأنها تعتبر دائماً عملاً تجارياً، وتكون الكفالة حينئذ تجارية فيجوز اثباتها بكافة الطرق القانونية بما فيها البينة والقرائن. (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء : العاشر ، الصفحة : 650)
والكتابة كما هو واضح من المادة إنما تكون للإثبات لا للإنعقاد فقد رأينا أن عقد الكفالة عقد رضائي .
والتزام الكفيل يجب أن يثبت دائماً بالكتابة حتى ولو كان إلتزام المدين المكفول أقل من النصاب المقرر وجائز إثباته بالبينة.
وأي كتابة تكفي، فلا يشترط أن تكون رسمية بل يكفي أن تكون عرفية، سواء كانت في محرر مستقل أو مع العقد الذي يبرمه الدائن مع المدين، كما يصح أن تكون في رسالة.
إثبات الكفالة بالكتابة لا يسرى إلا على إثبات رضا الكفيل و عندما يراد الإحتجاج بالكفالة عليه، لأن اشتراط الكتابة لم يشرع إلا لحمايته.
أما إثبات رضا الدائن فيكون وفقاً للقواعد العامة وكذلك إذا أراد الكفيل إثبات الكفالة للرجوع بها على المدين.
ويجب أن تكون الكتابة ثابتة التاريخ حتى يجوز الإحتجاج بها على الغير، كما إذا وفى الكفيل الدين وحل محل الدائن في رهن رسمی مثلاً وكان هناك دائن مرتهن تال في المرتبة.
واستخلاص ثبوت الكفالة من عدمه مما يدخل في السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع .(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء : العاشر ، الصفحة : 440)
إثبات الكفالة - لم يكن في التقنين التي نص خاص على إثبات الكفالة ، فكانت تسري في إثباتها القواعد العامة ، أي أنه كان يجوز إثباتها بالبينة إذا لم تجاوز قيمة الالتزام المكفول عشرة جنيهات، في ظل القانون القديم ويجب إثباتها بالكتابة إذا جاوزت ذلك.
أما القانون الحالي : فقد نص في المادة 773 منه على أن (لا تثبت الكفالة إلا بالكتابة ولو كان من الجائز إثبات الإلتزام الأصلي بالبينة أي أنه أوجب إثبات الكفالة بالكتابة ولو كانت قيمة الإلتزام الأعلى لا تجاوز مائة جنيه ( بعد تعديل القانون ) ما لم يكن التزام الكفيل تجارياً ، كما في ضمان الأوراق التجارية وتظهيرها ، فيجوز، إثبات الكفالة بالبيئة والقرائن .
على أن ذلك لا يسرى إلا على إثبات رضا الكفيل وعندما يراد الإحتجاج بالكفالة عليه لأن اشتراط الكتابة لم يشرع إلا لحمايتها أما إثبات رضا الدائن فيكون وفقاً للقواعد العامة ، وكذلك اذا أراد الكفيل إثبات الكفالة للرجوع بها على المدين .
ويدخل إستخلاص الكفالة من وقائع الدعوى في السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع وقد تقدم في نبذة 7 أن إيجاب الإثبات بالكتابة في الكفالة لا يجعلها عقداً شكلياً ، ولا يمس إعتبارها عقداً رضائياً ، فيجوز إثبات الكفالة بما يقوم مقام الكتابة أي بإلاقرار أو اليمين كما يجوز إثباتها بالبينة إذا وجد أحد المسوغات التي تجيز الإثبات بالبينة إستثناء في الحالات التي تكون فيها الكتابة واجبة. (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء : التاسع ، الصفحة : 37)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الرابع والثلاثون ، الصفحة / 287
أَرْكَانُ الْكَفَالَةِ وَشُرُوطُهَا:
أَرْكَانُ الْكَفَالَةِ: الصِّيغَةُ، وَالْكَفِيلُ، وَالْمَكْفُولُ لَهُ، وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ، وَالْمَكْفُولُ بِهِ
الرُّكْنُ الأْوَّلُ - صِيغَةُ الْكَفَالَةِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْكَفَالَةِ تَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ وَحْدَهُ، وَلاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ مِنَ الْكَفِيلِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ لاَ مُعَاوَضَةَ فِيهِ، بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ يَنْشَأُ بِعِبَارَتِهِ وَحْدَهُ، فَيَكْفِي فِيهِ إِيجَابُ الْكَفِيلِ .
وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُشْتَرَطُ الرِّضَا ثُمَّ الْقَبُولُ، وَالثَّالِثُ يُشْتَرَطُ الرِّضَا دُونَ الْقَبُولِ لَفْظًا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْكَفَالَةِ تَتَرَكَّبُ مِنْ إِيجَابٍ يَصْدُرُ مِنَ الْكَفِيلِ، وَقَبُولٍ يَصْدُرُ عَنِ الْمَكْفُولِ لَهُ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمَكْفُولُ لَهُ حَقَّ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ أَوْ حَقًّا ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَتِمُّ بِعِبَارَةِ الْكَفِيلِ وَحْدَهُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَالِ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ.
وَإِيجَابُ الْكَفِيلِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعَهُّدُ وَالاْلْتِزَامُ وَالضَّمَانِ، صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ تَعْبِيرٍ عَنِ الإْرَادَةِ يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى .
8 - قَدْ تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنَجَّزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ وَقَدْ تُوصَفُ بِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ أَوْ مُؤَقَّتَةٌ أَوْ مُقْتَرِنَةٌ بِشَرْطٍ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْكَفَالَةُ الْمُنَجَّزَةُ:
9 - وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ صِيغَتُهَا خَالِيَةً مِنَ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ أَوِ الإْضَافَةِ لأِجَلٍ، فَمَعْنَى التَّنْجِيزِ: أَنْ تَتَرَتَّبَ آثَارُ الْكَفَالَةِ فِي الْحَالِ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الصِّيغَةِ مُسْتَوْفِيَةٍ شُرُوطَهَا، فَإِذَا قَالَ شَخْصٌ لآِخَرَ: أَنَا كَفِيلٌ بِدَيْنِكَ عَلَى فُلاَنٍ وَقَبِلَ الدَّائِنُ الْكَفَالَةَ - عَلَى رَأْيِ مَنْ يُوجِبُ لِتَمَامِ الصِّيغَةِ قَبُولَ الدَّائِنِ - فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَصِيرُ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ الدَّيْنِ فِي الْحَالِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ أَوِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِصِفَتِهِ مِنَ الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ مَتَى كَانَتْ صِيغَةُ الْكَفَالَةِ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقْتَرِنَةٍ بِشَرْطٍ يُغَيِّرُ مِنْ وَصْفِ الدَّيْنِ .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكَفَالَةَ إِذَا أُطْلِقَتِ انْعَقَدَتْ حَالَّةً؛ لأِنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَدْخُلُهُ الْحُلُولُ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ إِطْلاَقِهِ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ .
ب - الْكَفَالَةُ الْمُعَلَّقَةُ:
10 - وَهِيَ الَّتِي يُعَلَّقُ وُجُودُهَا عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ، كَمَا إِذَا قَالَ شَخْصٌ لِلْمُشْتَرِي: أَنَا كَفِيلٌ لَكَ بِالثَّمَنِ إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ الْكَفَالَةُ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْعَقِدُ مُنَجَّزَةً، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْكَفِيلُ لِلدَّائِنِ: إِذَا أَفْلَسَ فُلاَنٌ فَأَنَا كَفِيلٌ لَكَ بِهَذَا الدَّيْنِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ فُلاَنًا هَذَا كَانَ قَدْ أَفْلَسَ فِعْلاً وَقْتَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ.
11 - وَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ خِلاَفٌ يُمْكِنُ إِيجَازُهُ فِيمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى شَرْطٍ مُلاَئِمٍ، وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ، كَقَوْلِ الْكَفِيلِ لِلْمُشْتَرِي: إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فَأَنَا ضَامِنُ الثَّمَنِ، أَوِ الشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لإِمْكَانِ الاِسْتِيفَاءِ، كَقَوْلِ الْكَفِيلِ لِلدَّائِنِ: إِذَا قَدِمَ فُلاَنٌ - أَيِ الْمَكْفُولُ عَنْهُ - فَأَنَا كَفِيلٌ بِدَيْنِكَ عَلَيْهِ، أَوِ الشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِتَعَذُّرِ الاِسْتِيفَاءِ، كَقَوْلِ الْكَفِيلِ لِلدَّائِنِ: إِذَا غَابَ فُلاَنٌ - الْمَدِينُ - عَنِ الْبَلَدِ فَأَنَا كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ .
وَذَهَبُوا كَذَلِكَ إِلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِشَرْطٍ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، كَمَا لَوْ قَالَ الْكَفِيلُ: إِنْ لَمْ يُؤَدِّ فُلاَنٌ مَا لَكَ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ، لأِنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ فَصَحَّ .
فَأَمَّا إِذَا عُلِّقَتِ الْكَفَالَةُ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلاَئِمٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ إِنْ نَزَلَ الْمَطَرُ أَوْ إِنْ دَخَلَتُ الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ، فَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ ؛ لأِنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلاَئِمٍ لاَ يَظْهَرُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ إِذَا مَا عُلِّقَتْ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلاَئِمٍ، وَيَلْغُو التَّعْلِيقُ .
وَيَبْدُو مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ فُرُوعٍ: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً إِذَا عُلِّقَتْ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُلاَئِمَةِ، وَلاَ تَكُونُ صَحِيحَةً إِذَا عُلِّقَتْ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلاَئِمٍ .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالأْصَحُّ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ تَعْلِيقِ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ لأِنَّ كُلًّا مِنَ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ عَقْدٌ كَالْبَيْعِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ.
وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ: جَوَازُ تَعْلِيقِ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ؛ لأِنَّ الْقَبُولَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا، فَجَازَ تَعْلِيقُهُمَا كَالطَّلاَقِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَمْتَنِعُ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ دُونَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَاجَةِ .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ تَذْهَبُ أُولاَهُمَا إِلَى بُطْلاَنِ الْكَفَالَةِ مَعَ التَّعْلِيقِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لأِنَّ فِي التَّعْلِيقِ خَطَرًا فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَالْكَفَالَةُ تُثْبِتُ حَقًّا لآِدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ ثُبُوتِهِ عَلَى شَرْطٍ.
وَتَذْهَبُ الرِّوَايَةُ الأْخْرَى إِلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْكَفَالَةِ مُطْلَقًا، لأِنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ عَلَى شَرْطٍ صَحِيحٍ كَضَمَانِ الْعُهْدَةِ وَقَدْ مَالَ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ: الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ؛ لأِنَّهُ أَضَافَ الضَّمَانَ إِلَى سَبَبِ الْوُجُودِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ كَضَمَانِ الدَّرَكِ .
ج - الْكَفَالَةُ الْمُضَافَةُ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ إِلَى أَجَلٍ مُسْتَقْبَلٍ كَأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ: أَنَا ضَامِنٌ لَكَ هَذَا الْمَالَ أَوْ هَذَا الدَّيْنَ ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الْقَادِمِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَكُونُ كَفِيلاً إِلاَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَمَّا قَبْلَهُ فَلاَ يُعَدُّ كَفِيلاً وَلاَ يُطَالَبُ بِالْمَالِ، وَإِذَا تُوُفِّيَ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لاَ يُؤْخَذُ الدَّيْنُ مِنْ تَرِكَتِهِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ وَتَأْجِيلِ الدَّيْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ، فَالْكَفَالَةُ الْمُضَافَةُ هِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِدَيْنٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ عِنْدَ إِنْشَائِهَا، وَلَكِنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِهِ بِسَبَبِ إِضَافَتِهَا إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْكَفِيلُ لِلدَّائِنِ: أَنَا كَفِيلٌ بِمَا سَتُقْرِضُهُ لِفُلاَنٍ مِنَ الْمَالِ، أَوْ بِسَبَبِ تَعْلِيقِهَا بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ أَقْرَضْتُ فُلاَنًا مَبْلَغَ كَذَا فَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَفَالَةِ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بَعْدَ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ بِهِ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ إِلاَّ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ مَوْجُودًا عِنْدَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ، فَقَدْ يَكُونُ حَالًّا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلاً، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ حَالًّا، وَأُضِيفَتْ كَفَالَتُهُ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلدَّائِنِ: كَفَلْتُ لَكَ دَيْنَكَ الَّذِي عَلَى فُلاَنٍ ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الآْتِي، فَلاَ يَكُونُ لِلْكَفَالَةِ أَثَرٌ إِلاَّ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الآْتِي، وَيَتَأَجَّلُ الدَّيْنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَفِيلِ وَحْدَهُ بِسَبَبِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينِ فَلاَ يَتَغَيَّرُ وَصْفُ الدَّيْنِ بَلْ يَظَلُّ حَالًّا؛ إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنْ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ عَلَى الْكَفِيلِ بِسَبَبِ كَفَالَتِهِ الْمُضَافَةِ تَأْجِيلُهُ عَلَى الْمَدِينِ الأْصِيلِ ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنْعَقِدَةً فِي الْحَالِ، وَلَكِنَّ آثَارَهَا لاَ تَظْهَرُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُولِ الأْجَلِ.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ مُؤَجَّلاً عِنْدَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ، وَكَانَتِ الْكَفَالَةُ مُطْلَقَةً بِأَنْ قَالَ الْكَفِيلُ: كَفَلْتُ لَكَ دَيْنَكَ الَّذِي عَلَى فُلاَنٍ، فَإِنَّ مُطَالَبَةَ الْكَفِيلِ تُرْجَأُ إِلَى وَقْتِ حُلُولِ الدَّيْنِ عَلَى الأْصِيلِ ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ الْمُطْلَقَةَ بِدَيْنٍ تَلْزَمُ بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ مِنَ الْحُلُولِ أَوِ التَّأْجِيلِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنْعَقِدَةً فِي الْحَالِ، وَلَكِنَّ آثَارَهَا لاَ تَظْهَرُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُولِ الأْجَلِ.
وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ جُمْهُورَ الْحَنَفِيَّةِ يُجِيزُ إِضَافَةَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ. أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ لاَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا إِلَى الأْجَلِ الَّذِي ذُكِرَ، وَذَلِكَ كَإِضَافَتِهَا إِلَى الْحَصَادِ أَوْ إِلَى الْمِهْرَجَانِ أَوْ إِلَى النَّيْرُوزِ، أَمَّا إِضَافَةُ الْكَفَالَةِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً فَاحِشَةً - كَنُزُولِ الْمَطَرِ - فَلاَ تَصِحُّ؛ لأِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الآْجَالِ الْمُتَعَارَفَةِ أَوِ الْمُنْضَبِطَةِ، وَإِذَا بَطَلَ الأْجَلُ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ فِيهِ وَعَدَمِ تَعَارُفِهِ، صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، وَكَانَتْ مُنَجَّزَةً .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ مَعْلُومٍ، وَحِينَئِذٍ لاَ يُطَالَبُ الْكَفِيلُ إِلاَّ إِذَا حَلَّ الأْجَلُ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ، كَخُرُوجِ الْعَطَاءِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلاً بِقَدْرِ مَا يَرَى، وَعِنْدَئِذٍ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْكَفَالَةِ أَثَرُهَا إِلاَّ بِحُلُولِ الأْجَلِ الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَفَلَ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لأِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ فِيهِ وَهَكَذَا الضَّمَانُ، وَإِنْ جَعَلَهُ إِلَى الْحَصَادِ وَالْجُزَازِ وَالْعَطَاءِ خَرَجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، كَالأْجَلِ فِي الْبَيْعِ، وَالأْوْلَى صِحَّتُهَا هُنَا، لأِنَّهُ تَبَرُّعٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ جَعَلَ لَهُ عِوَضًا لاَ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فَصَحَّ، كَالنَّذْرِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَجْهُولٍ لاَ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْكَفَالَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَجَّزَ الْكَفَالَةَ وَشَرَطَ تَأْخِيرَ الْمَكْفُولِ بِهِ شَهْرًا كَضَمِنْتُ إِحْضَارَهُ، وَأَحْضَرَهُ بَعْدَ شَهْرٍ جَازَ، لأِنَّهُ الْتِزَامٌ بِعَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، فَكَانَ كَعَمَلِ الإْجَارَةِ يَجُوزُ حَالًّا وَمُؤَجَّلاً.
وَخَرَجَ بِشَهْرٍ مَثَلاً التَّأْجِيلُ بِمَجْهُولٍ، كَالْحَصَادِ فَلاَ يَصِحُّ التَّأْجِيلُ إِلَيْهِ، وَالأْصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَالِّ مُؤَجَّلاً أَجَلاً مَعْلُومًا؛ إِذْ الضَّمَانُ تَبَرُّعٌ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَيْهِ، فَكَانَ عَلَى حَسَبِ مَا الْتَزَمَهُ وَيَثْبُتُ الأْجَلُ فِي حَقِّ الضَّامِنِ عَلَى الأْصَحِّ ، فَلاَ يُطَالَبُ إِلاَّ كَمَا الْتَزَمَ.
وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ : لاَ يَصِحُّ الضَّمَانُ لِلْمُخَالَفَةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُحَرَّرِ تَصْحِيحُهُ، قَالَ فِي الدَّقَائِقِ: وَالأْصَحُّ مَا فِي بَقِيَّةِ النُّسَخِ وَالْمِنْهَاجِ، وَلَوْ ضَمِنَ الْمُؤَجَّلَ مُؤَجَّلاً بِأَجَلٍ أَطْوَلَ مِنَ الأْوَّلِ فَكَضَمَانِ الْحَالِّ مُؤَجَّلاً .
د - الْكَفَالَةُ الْمُؤَقَّتَةُ:
13 - تَوْقِيتُ الْكَفَالَةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَكْفُلَ الْكَفِيلُ الدَّيْنَ مُدَّةً مَعْلُومَةً مُحَدَّدَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ يَبْرَأُ بَعْدَهَا مِنَ الْتِزَامِهِ وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْكَفِيلِ: أَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ فُلاَنٍ أَوْ بِدِيَتِهِ مِنَ الْيَوْمِ إِلَى نِهَايَةِ هَذَا الشَّهْرِ، فَإِذَا انْقَضَى الشَّهْرُ بَرِئْتُ مِنَ الْكَفَالَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الأَْثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، فَمَنْ رَأَى أَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيلِ لاَ تُشْغَلُ بِالدَّيْنِ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ فَقَطْ بِأَدَائِهِ، أَجَازَ الْكَفَالَةَ الْمُؤَقَّتَةَ، وَقَيَّدَ الْمُطَالَبَةَ بِالْمُدَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيلِ تَصِيرُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ إِلَى جَانِبِ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، فَلَمْ يُجِزْ تَوْقِيتَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ الذِّمَّةَ إِذَا شُغِلَتْ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهَا لاَ تَبْرَأُ مِنْهُ إِلاَّ بِالأْدَاءِ أَوِ الإْبْرَاءِ ، وَقَبُولُ الْكَفَالَةِ لِلتَّوْقِيتِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سُقُوطُ الدَّيْنِ عَنِ الْكَفِيلِ دُونَ أَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَتَطْبِيقًا عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَغْلَبُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ لَوْ قَالَ: كَفَلْتُ فُلاَنًا مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَى شَهْرٍ، تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلَوْ قَالَ: كَفَلْتُ فُلاَنًا شَهْرًا أَوْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.. مِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَفِيلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُطَالَبُ فِي الْمُدَّةِ وَيَبْرَأُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.. وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ كَفِيلاً أَبَدًا وَيَلْغُو التَّوْقِيتُ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُوسِرًا وَلَوْ فِي أَوَّلَ الأْجَلِ فَقَطْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا وَالْعَادَةُ أَنَّهُ لاَ يُوسِرُ فِي الأْجَلِ الَّذِي ضَمِنَ الضَّامِنُ إِلَيْهِ، بَلْ بِمُضِيِّ ذَلِكَ الأْجَلِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنْ لَمْ يُعْسِرْ فِي جَمِيعِهِ، بَلْ أَيْسَرَ فِي أَثْنَائِهِ كَبَعْضِ أَصْحَابِ الْغَلاَّتِ وَالْوَظَائِفِ، كَأَنْ يَضْمَنَهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَادَتُهُ الْيَسَارُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَلاَ يَصِحُّ؛ لأِنَّ الزَّمَنَ الْمُتَأَخِّرَ عَنِ ابْتِدَاءِ يَسَارِهِ يُعَدُّ فِيهِ صَاحِبُ الْحَقِّ مُسَلِّفًا، لِقُدْرَةِ رَبِّ الْحَقِّ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ عِنْدَ الْيَسَارِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ الْمُتَرَقَّبَ كَالْمُحَقَّقِ، وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ لأِنَّ الأْصْلَ اسْتِصْحَابُ عُسْرِهِ .
وَالأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَوْقِيتُ الْكَفَالَةِ، كَأَنَا كَفِيلٌ بِزَيْدٍ إِلَى شَهْرٍ وَأَكُونُ بَعْدَهُ بَرِيئًا، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَجُوزُ، لأِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَسْلِيمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، بِخِلاَفِ الْمَالِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الأْدَاءُ؛ فَلِهَذَا امْتَنَعَ تَأْقِيتُ الضَّمَانِ قَطْعًا .
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الأْوَّلُ: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً، وَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي عَيَّنَهَا وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا وَفَاءٌ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّ الشَّأْنَ فِي الدُّيُونِ أَنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَنِ .
تَقْيِيدُ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ:
14 - إِنْ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِشَرْطٍ، فَقَدْ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَالشَّرْطُ، وَقَدْ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ، وَقَدْ تَلْغُو الْكَفَالَةُ وَالشَّرْطُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ وَأَثَرِ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى الْكَفَالَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ هَذَا الْعَبْدَ رَهْنًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَى الطَّالِبِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلاَ يَتَخَيَّرُ الْكَفِيلُ بَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْكَفَالَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ شَرْطَهُ؛ لأِنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَرَى بَيْنَ الْكَفِيلِ وَبَيْنَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الطَّالِبِ بِأَنْ قَالَ لِلطَّالِبِ: أَكْفُلُ لَكَ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَنِي الْمَطْلُوبُ بِهَذَا الْمَالِ عَبْدَهُ هَذَا رَهْنًا، فَكَفَلَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَأَبَى الْمَطْلُوبُ أَنْ يُعْطِيَهُ الرَّهْنَ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَتَخَيَّرُ.
وَلَوْ ضَمِنَهَا عَلَى أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الدَّارِ، فَبَاعَ الدَّارَ بِعَبْدٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ فِي الضَّمَانِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الأْصَحُّ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّهُ يَغْرَمُ الْمَالَ إِنْ فَاتَ التَّسْلِيمُ، كَقَوْلِهِ: كَفَلْتُ بَدَنَهُ بِشَرْطِ الْغُرْمِ، أَوْ عَلَى أَنِّي أَغْرَمُ، بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ؛ لأِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لاَ يَغْرَمُ عِنْدَ الإْطْلاَقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى مُقَابِلِهِ أَيْ إِنَّهُ يَغْرَمُ الْمَالَ.
وَالأْصَحُّ أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأْصِيلِ لِمُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
الثَّانِي: يَصِحُّ الضَّمَانُ وَالشَّرْطُ، لِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ فِي قِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ لِلْمَيِّتِ، قَالَ: «فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: هُمَا عَلَيْكَ وَفِي مَالِكَ وَالْمَيِّتُ مِنْهُمَا بَرِيءٌ فَقَالَ: نَعَمْ. فَصَلَّى عَلَيْهِ» وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَصِحُّ الضَّمَانُ فَقَطْ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَالَ: كَفَلْتُ بِبَدَنِ فُلاَنٍ عَلَى أَنْ يَبْرَأَ فُلاَنٌ الْكَفِيلُ أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأِنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا، وَتَفْسُدُ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لأِنَّهُ شَرْطُ تَحْوِيلِ الْوَثِيقَةِ الَّتِي عَلَى الْكَفِيلِ إِلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا لاَ تَلْزَمُهُ الْكَفَالَةُ إِلاَّ أَنْ يُبْرِئَ الْمَكْفُولُ لَهُ الْكَفِيلَ الأَْوَّلَ؛ لأِنَّهُ إِنَّمَا كَفَلَ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَلاَ تَثْبُتُ كَفَالَتُهُ بِدُونِ شَرْطِهِ.
وَإِنْ قَالَ: كَفَلْتُ لَكَ بِهَذَا الْغَرِيمِ عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنَ الْكَفَالَةِ بِفُلاَنٍ، أَوْ ضَمِنْتُ لَكَ هَذَا الدَّيْنَ بِشَرْطِ أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ ضَمَانِ الدَّيْنِ الآْخَرِ، أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنَ الْكَفَالَةِ بِفُلاَنٍ، خَرَجَ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَالأْوْلَى : أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ؛ لأِنَّهُ شَرَطَ فَسْخَ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ فَسْخِ بَيْعٍ آخَرَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَوِ الضَّمَانِ أَنْ يَتَكَفَّلَ الْمَكْفُولُ لَهُ، أَوِ الْمَكْفُولُ بِهِ بِآخَرَ، أَوْ يَضْمَنَ دَيْنًا عَلَيْهِ، أَوْ يَبِيعَهُ شَيْئًا عَيْنَهُ أَوْ يُؤَجِّرَهُ دَارَهُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا ذُكِرَ .
الْكَفِيلُ:
15 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَفِيلِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ وَعَلَى ذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ أَوِ الْمَعْتُوهِ أَوِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا مَأْذُونًا أَوْ أَجَازَهَا الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ .
إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ قَالَ: إِلاَّ إِذَا اسْتَدَانَ لَهُ وَلِيُّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ الْمَالَ عَنْهُ فَتَصِحُّ، وَيَكُونُ إِذْنًا فِي الأْدَاءِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ يُطَالَبُ بِهَذَا الْمَالِ بِمُوجِبِ الْكَفَالَةِ، وَلَوْلاَهَا لَطُولِبَ الْوَلِيُّ، وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ مَرِيضٍ إِلاَّ مِنَ الثُّلُثِ .
أَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُهُ وَلاَ كَفَالَتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ .
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ إِلَى أَنَّ كَفَالَةَ السَّفِيهِ تَقَعُ صَحِيحَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ وَيُتْبَعُ بِهَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، كَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ وَكَذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مَعَ الإْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَلْزَمُ الْكَفِيلَ الْمُكْرَهَ .
أَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِلدَّيْنِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ -، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْفُلَ؛ لأِنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَالْحَجْرُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ لاَ بِذِمَّتِهِ، فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ الآْنَ، وَلاَ يُطَالَبُ إِلاَّ إِذَا انْفَكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ وَأَيْسَرَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَرِيضِ مِنْ مَرَضِ الْمَوْتِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَجَاوَزُ - مَعَ سَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ - ثُلُثَ التَّرِكَةِ، فَإِنْ جَاوَزَتْهُ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يَأْخُذُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَرِيضِ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِلاَّ إِذَا ضَمِنَ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَاسْتَمَرَّ إِعْسَارُهُ إِلَى وَقْتِ وَفَاتِهِ، أَوْ ضَمِنَ ضَمَانًا لاَ يَسْتَوْجِبُ رُجُوعَهُ عَلَى الْمَدِينِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَإِذَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مَالَ الْمَرِيضِ - وَقَضَى بِهِ - بَطَلَ الضَّمَانُ إِلاَّ إِذَا أَجَازَهُ الدَّائِنُ؛ لأِنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الضَّمَانِ .
كَفَالَةُ الْمَرْأَةِ:
16 - لاَ يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ ضَمَانَ الْمَرْأَةِ - إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ - يَنْفُذُ فِي حُدُودِ ثُلُثِ مَالِهَا، أَمَّا إِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيَصِحُّ وَلَكِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الزَّوْجِ. أَمَّا الْمَرْأَةُ الأْيِّمُ غَيْرُ ذَاتِ الزَّوْجِ - إِذَا كَانَتْ لاَ يُوَلَّى عَلَيْهَا - فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ فِي الْكَفَالَةِ .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ - الْمَكْفُولُ لَهُ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ بَالِغًا عَاقِلاً، وَفِي اشْتِرَاطِ رِضَاهُ بِالْكَفَالَةِ وَقَبُولِهِ لَهَا، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
1 - كَوْنُ الْمَكْفُولِ لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَكْفُولِ لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ مُنَجَّزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً لَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنَا كَفِيلٌ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ هَذَا الدَّلاَّلِ مِنْ ضَرَرٍ عَلَى النَّاسِ، لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ؛ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ تَشْدِيدًا وَتَسْهِيلاً وَلِيَعْلَمَ الضَّامِنُ هَلْ هُوَ أَهْلٌ لإِسْدَاءِ الْجَمِيلِ إِلَيْهِ أَوْ لاَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا يَشْتَرِطَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ لَهُ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ - بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ - فَلَوْ كَفَلَ الْكَفِيلُ لِشَخْصٍ غَائِبٍ عَنِ الْمَجْلِسِ، وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ، لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عِنْدَهُمَا إِذَا لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ حَاضِرٌ بِالْمَجْلِسِ؛ لأِنَّ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالتَّمْلِيكُ لاَ يَحْصُلُ إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهِ لإِتْمَامِ صِيغَةِ الْعَقْدِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: الرَّاجِحَةُ مِنْهُمَا تُجِيزُ الْكَفَالَةَ لِلْغَائِبِ عَنِ الْمَجْلِسِ وَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدِ اشْتَرَطَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لِتَوْثِيقِ الدَّيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولاً، فَلاَ يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الْكَفَالَةِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَدَا الْقَاضِي مِنْهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ إِلَى أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ لاَ تَضُرُّ، وَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ، فَإِذَا قَالَ الضَّامِنُ: أَنَا ضَامِنُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِلنَّاسِ - وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ عَيْنَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ - صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُتَقَدِّمِ فَقَدْ كَفَلَ أَبُو قَتَادَةَ دَيْنَ الْمَيِّتِ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْفُولَ لَهُ .
اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِي الْمَكْفُولِ لَهُ:
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِي الْمَكْفُولِ لَهُ ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْعَقِدُ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ، فَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلْقَبُولِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ لَهُ بَالِغًا عَاقِلاً؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ تَحْتَاجُ إِلَى إِيجَابٍ مِنَ الْكَفِيلِ وَقَبُولٍ مِنَ الْمَكْفُولِ لَهُ.
وَيَجُوزُ قَبُولُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالسَّفِيهِ، لأِنَّ ضَمَانَ حَقِّهِمَا نَفْعٌ مَحْضٌ، فَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِمَا .
قَبُولُ الْمَكْفُولِ لَهُ:
19 - تَقَدَّمَ فِي صِيغَةِ الْكَفَالَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا يَرَيَانِ أَنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَأَنَّ قَبُولَ الْمَكْفُولِ لَهُ رُكْنٌ فِيهَا؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمَكْفُولُ لَهُ حَقَّ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ أَوْ حَقًّا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَجَبَ قَبُولُ الْمَكْفُولِ لَهُ، إِذْ لاَ يَمْلِكُ إِنْسَانٌ حَقًّا رَغْمَ أَنْفِهِ، فَكَانَتْ كَالْبَيْعِ تُفِيدُ مِلْكًا، فَلاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ.
وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ الْكَفَالَةَ تَتِمُّ وَتَتَحَقَّقُ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ وَحْدَهُ، فَلاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ صَادِرٍ مِنَ الْكَفِيلِ بِأَنْ يُوَفِّيَ مَا وَجَبَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَكْفُولِ لَهُ عَلَى حَقِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينِ، وَذَلِكَ الْتِزَامٌ لاَ مُعَاوَضَةَ فِيهِ، وَلاَ يَضُرُّ بِحَقِّ أَحَدِهِمَا أَوْ يَنْقُصُ مِنْهُ، بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ مِنَ الْكَفِيلِ فَيَتِمُّ بِعِبَارَتِهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ رضي الله عنه كَفَلَ الْمَيِّتَ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ الدَّائِنَ أَوْ أَنْ يَطْلُبَ قَبُولَهُ فَأَقَرَّ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم كَفَالَتَهُ وَصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ بِنَاءً عَلَيْهَا ».
الْمَكْفُولُ عَنْهُ:
اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْمَكْفُولِ بِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الآْتِي:
1 - كَوْنُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ ، وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ الْكَفِيلِ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ، لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم أَقَرَّ الْكَفَالَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَ الضَّامِنَ هَلْ يَعْرِفُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ لاَ وَلأِنَّ الضَّمَانَ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ فَلاَ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ مَنْ يَتَبَرَّعُ عَنْهُ بِهِ كَالنَّذْرِ؛ وَلأِنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ حَقٍّ فَلاَ حَاجَةَ لِمَعْرِفَةِ مَا سِوَاهُ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْكَفِيلِ بِالْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِيَعْلَمَ الضَّامِنُ مَا إِذَا كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ أَهْلاً لاِصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ إِلَيْهِ أَوْ لاَ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ اشْتُرِطَ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ هَلِ الْمَكْفُولُ عَنْهُ مُوسِرٌ وَمِمَّنْ يُبَادِرُ إِلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ أَوْ لاَ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيلِ هُوَ فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً، أَمَّا فِي حَالِ التَّنْجِيزِ فَلاَ تَمْنَعُ جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ: لَوْ قَالَ شَخْصٌ لآِخَرَ: مَا بَايَعْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَوْ مَا أَقْرَضْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لِشَخْصٍ: كَفَلْتُ لَكَ بِمَالِكَ عَلَى فُلاَنٍ أَوْ فُلاَنٍ، صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، وَيَكُونُ لِلْكَفِيلِ حَقُّ تَعْيِينِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِنْهُمَا، لأِنَّهُ الْمُلْتَزِمُ بِالدَّيْنِ .
2 - رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِالْكَفَالَةِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَوْ إِذْنُهُ، بَلْ تَصِحُّ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ فَفِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ «أَقَرَّ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم كَفَالَةَ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه دَيْنَ الْمَيِّتِ»، وَالْمَيِّتُ لاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ رِضَاءٌ وَلاَ إِذْنٌ؛ وَلأِنَّ عَقْدَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا الاِلْتِزَامُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ، وَلاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لأِنَّ ضَرَرَهُ بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ، وَلاَ رُجُوعَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ عِنْدَ أَمْرِهِ، وَعِنْدَ أَمْرِهِ يَكُونُ قَدْ رَضِيَ بِهِ، وَلأِنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَائِزٌ، فَالْتِزَامُهُ أَوْلَى، وَكَمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ عَنِ الْمَيِّتِ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ إِذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَائِبًا؛ لأِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْكَفَالَةِ تَظْهَرُ غَالِبًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الأْحْوَالِ .
3 - قُدْرَةُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى تَنْفِيذِ مَحَلِّ الاِلْتِزَامِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ (مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ، فَيَصِحُّ الضَّمَانُ عَنْ كُلِّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا، مَلِيئًا أَوْ مُفْلِسًا، تَرَكَ كَفِيلاً بِهَذَا الدَّيْنِ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، فَفِي الْحَدِيثِ: «أَقَرَّ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم الْكَفَالَةَ عَنْ مَيِّتٍ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلاَ كَفِيلاً» وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا صِحَّةُ إِبْرَاءِ الْمُتَوَفَّى عَنْ دَيْنٍ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالاً، وَصِحَّةُ التَّبَرُّعِ بِالأْدَاءِ عَنْهُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْمَكْفُولِ بِهِ إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُ ضَمَانُ مَيِّتٍ مَدِينٍ تُوُفِّيَ لاَ عَنْ تَرِكَةٍ وَلاَ عَنْ كَفِيلٍ بِالدَّيْنِ؛ لأِنَّ الْمَيِّتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَاجِزٌ عَنِ الْوَفَاءِ، غَيْرُ أَهْلٍ لِلْمُطَالَبَةِ، وَالضَّمَانُ: ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الدَّيْنِ أَوْ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَلاَ دَيْنَ هُنَا وَلاَ مُطَالَبَةَ لأِنَّهُ بِالْوَفَاةِ عَنْ غَيْرِ مَالٍ وَلاَ كَفِيلٍ تَصِيرُ ذِمَّتُهُ خَرِبَةً وَغَيْرَ صَالِحَةٍ لأََنْ تُشْغَلَ بِدَيْنٍ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ يُحْمَلُ عَلَى الإْقْرَارِ بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ لاَ عَلَى إِنْشَائِهَا، أَوْ أَنَّهُ وَعْدٌ بِالتَّبَرُّعِ وَهُوَ جَائِزٌ عَنِ الْمَيِّتِ .
الركن الخامس : مَحَلُّ الْكَفَالَةِ:
قَدْ تَكُونُ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ، وَيُطْلِقُ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: الضَّمَانَ، وَقَدْ تَكُونُ بِالنَّفْسِ، وَيُطْلِقُ عَلَيْهَا الْبَعْضُ: كَفَالَةَ الْبَدَنِ، وَكَفَالَةَ الْوَجْهِ.
أَوَّلاً - كَفَالَةُ الْمَالِ:
قَدْ يَكُونُ الْمَكْفُولُ بِهِ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ عَيْنًا، وَالْحُكْمُ يَتَغَيَّرُ فِي كُلِّ حَالَةٍ:
أ - كَفَالَةُ الدَّيْنِ:
23 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ كَفَالَةِ الدَّيْنِ: أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا، وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الآْتِي:
1 - أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا:
يُشْتَرَطُ فِي الدَّيْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا، وَهُوَ مَا لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأْدَاءِ أَوِ الإْبْرَاءِ ، وَعَلَى ذَلِكَ تَجُوزُ كَفَالَةُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عِنْدَ وُجُوبِهَا بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَاضِيَةً أَوْ حَاضِرَةً أَوْ مُسْتَقْبَلَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ -: تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ وَحِينَئِذٍ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُ النَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ .
فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ صَحِيحًا، فَلاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَالْعَيْنِ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ قَبِيلِ التَّبَرُّعِ، وَالتَّبَرُّعُ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ كَالنَّذْرِ، وَقَدْ جَرَى بِهَا الْعُرْفُ، وَالْحَاجَةُ إِلَى التَّعَامُلِ بِهَا تُبَرِّرُ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِدَيْنٍ مَجْهُولٍ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِمِقْدَارِهِ، كَأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ: كَفَلْتُ لَكَ بِمَالِكَ قِبَلَ فُلاَنٍ، وَلاَ يَعْلَمُ مِقْدَارَ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ الْمَجْهُولِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، وَالْتِزَامُ الْمَجْهُولِ غَرَرٌ يَنْهَى عَنْهُ الشَّارِعُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَعْلُومًا حَتَّى يَكُونَ الْكَفِيلُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَمِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ .
2 - أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ:
يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْمَكْفُولُ بِهِ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ بِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُ إِلَى الْوُجُوبِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ بِهِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْكَفَالَةِ - لأِنَّ مَآلَهُ إِلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ: أَقْرِضْ فُلاَنًا وَأَنَا كَفِيلٌ بِمَا سَتُقْرِضُهُ إِيَّاهُ .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَصِحُّ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ - بِمَا سَيَكُونُ مِنْ دَيْنٍ مَوْعُودٍ بِهِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ، يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ لاَ تُشْغَلُ بِهِ ذِمَّةٌ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ - رَغْمَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ يَلْزَمْ - لأِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ شَخْصٌ لأِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَا بَذَلَهُ لِلآْخَرِ إِنْ خَرَجَ مُقَابِلُهُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا أَوْ نَاقِصًا وَرُدَّ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ كَانَ بَعْدَهُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لأِنَّهُ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا دَخَلَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلاَ يَدْخُلُ الثَّمَنُ فِي ضَمَانِهِ إِلاَّ بِقَبْضِهِ، وَضَمَانُ الدَّرْكِ أَنْ يَضْمَنَ لِلْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِنْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، أَوْ إِنْ أَخَذَ بِشُفْعَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى الْبَيْعِ بِبَيْعٍ آخَرَ، وَلاَ يَخْتَصُّ ضَمَانُ الدَّرْكِ بِالثَّمَنِ بَلْ يَجْرِي فِي الْمَبِيعِ فَيَضْمَنُهُ لِلْبَائِعِ إِنْ خَرَجَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا أَوْ أَخَذَ بِشُفْعَةٍ سَابِقَةٍ .
أَمَّا الْجُعْلُ فِي الْجَعَالَةِ فَأَجَازَ الْكَفَالَةَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ أَوْ كَانَتْ بَعْدَهُ لأِنَّهُ آيِلٌ إِلَى اللُّزُومِ، وَالأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالْجُعْلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ؛ لأِنَّهُ غَيْرُ آيِلٍ لِلُّزُومِ بِنَفْسِهِ، بَلْ بِالْعَمَلِ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ .
ب - كَفَالَةُ الْعَيْنِ:
24 - الْمَقْصُودُ بِضَمَانِ الْعَيْنِ أَوْ كَفَالَتِهَا: أَنْ يَلْتَزِمَ الْكَفِيلُ بِرَدِّ عَيْنِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَبِرَدِّ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إِذَا تَلِفَتْ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ كَفَالَةِ الأْعْيَانِ تَفْصِيلٌ يَرْجِعُ إِلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ الأْصِيلِ أَوْ عَدَمِ ثُبُوتِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الآْتِي:
قَدْ يَكُونُ الْمَكْفُولُ بِهِ مِنَ الأْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا أَوْ مَضْمُونَةً بِغَيْرِهَا، وَقَدْ يَكُونُ الْمَكْفُولُ بِهِ أَمَانَةً فِي يَدِ حَائِزِهِ، فَهَذِهِ حَالاَتٌ ثَلاَثٌ تَفْصِيلُهَا كَمَا يَلِي:
1 - الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ بِنَفْسِهَا:
25 - هِيَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى حَائِزِهَا أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً أَوْ يَرُدَّ مِثْلَهَا أَوْ قِيمَتَهَا إِنْ تَلِفَتْ، وَذَلِكَ كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ أَوِ الْمَقْبُوضَةِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ كَفَالَةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأْعْيَانِ : فَيَلْتَزِمُ الْكَفِيلُ بِرَدِّ الْعَيْنِ مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَبِرَدِّ الْمِثْلِ إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَبِرَدِّ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالأْعْيَانِ ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَحَقَّ لَزِمَهُ عَيْنُهُ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا ضَمِنَ الْمُعَيَّنَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَلِفَ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ الْتَزَمَ بِدَفْعِ قِيمَتِهِ أَوْ بِرَدِّ مِثْلِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: إِذَا ضَمِنَ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ، وَلَكِنْ إِذَا كَفَلَهُ عَلَى أَنَّهُ مُلْزَمٌ بِضَمَانِهِ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ صَحَّ الضَّمَانُ .
2 - الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا:
26 - وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى حَائِزِهَا أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِذَا هَلَكَتْ لاَ يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهَا أَوْ قِيمَتَهَا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْتِزَامٌ آخَرُ، مِثَالُ ذَلِكَ: الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، فَإِذَا هَلَكَ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ، وَوَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ دَفَعَهُ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ تَزِيدُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ كَانَ مَضْمُونًا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنَ الدَّيْنِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الأْعْيَانِ يَجُوزُ ضَمَانُ تَسْلِيمِهِ فَقَطْ مَا دَامَ قَائِمًا، فَإِذَا هَلَكَ سَقَطَتِ الْكَفَالَةُ، لأِنَّهُ إِذَا هَلَكَ هَلَكَ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ بِهِ، فَالْمَبِيعُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، وَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الأْعْيَانِ ، عَلَى مَعْنَى تَسْلِيمِهَا بِذَاتِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا عَرْضُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، فَيَجْرِيَانِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
3 - الأْمَانَةُ:
27 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الأْعْيَانَ الَّتِي تُعَدُّ أَمَانَةً فِي يَدِ حَائِزِهَا قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ تَسْلِيمُهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ بِأَنْ يَسْعَى إِلَى تَسْلِيمِهِ إِلَى مَالِكِهِ، كَالْعَارِيَّةِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهَذَا الْقِسْمُ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِهِ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، فَإِذَا هَلَكَ لاَ يَلْزَمُ الْكَفِيلَ شَيْءٌ لِكَوْنِهِ أَمَانَةً، وَالأْمَانَةُ إِذَا هَلَكَتْ تَهْلِكُ مَجَّانًا.
وَالْقِسْمُ الآْخَرُ لاَ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ تَسْلِيمُهُ، بَلْ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَسْعَى إِلَى ذَلِكَ، كَالْوَدَائِعِ وَأَمْوَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لاَ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِهِ، كَمَا لاَ تَجُوزُ بِقِيمَتِهِ؛ إِذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا مَضْمُونًا أَوْ وَاجِبًا عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، وَلاَ كَفَالَةَ إِلاَّ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ ضَمَانِ الْوَدَائِعِ وَالْعَارِيَّاتِ وَمَالِ الْقِرَاضِ، عَلَى أَنَّهَا. إِذَا تَلِفَتْ أَتَى بِعَيْنِهَا، وَلَكِنْ إِذَا ضَمِنَهَا عَلَى أَنَّهَا إِذَا تَلِفَتْ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ الْتَزَمَ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ أَوْ رَدِّ الْمِثْلِ، صَحَّ الضَّمَانُ وَلَزِمَ؛ لأِنَّ هَا كَفَالَةٌ مُعَلَّقَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَيْنَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَالِ فِي يَدِ الشَّرِيكِ وَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُهَا؛ لأِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا التَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأْمَانَاتِ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْعَيْنِ الَّتِي يَدْفَعُهَا إِلَى الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُهَا إِنْ ضَمِنَهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ فِيهَا؛ لأِنَّ هَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَكَذَلِكَ عَلَى ضَامِنِهِ، أَمَّا إِنْ ضَمِنَهَا إِنْ تَعَدَّى فِيهَا فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الضَّمَانِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ لَمْ يَلْزَمِ الضَّامِنَ شَيْءٌ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ أَوْ تَعَدٍّ لَزِمَ الْحَائِزَ ضَمَانُهَا، وَلَزِمَ ضَامِنَهُ ذَلِكَ؛ لأِنَّ هَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَلَزِمَ ضَامِنَهُ، كَالْغُصُوبِ وَالْعَوَارِيِّ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ
ثَانِيًا - كَفَالَةُ النَّفْسِ:
28 - هِيَ الْتِزَامُ الْكَفِيلِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ إِلَى الْمَكْفُولِ لَهُ أَوْ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَتَّحِدُ الْمَكْفُولُ بِهِ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَفِي مَضْمُونُهَا وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
أ - حُكْمُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ:
29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ صَحِيحَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ شُرَيْحٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ لقوله تعالي : (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ) وَلِمَا رَوَاهُ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الأْسْلَمِيُّ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُلِ كُفَلاَءَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ، وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْكَفَالَةِ بِالأْبْدَانِ، فَإِنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأْسْلَمِيَّ صَحَابِيٌّ، وَقَدْ فَعَلَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ مَعَ كَثْرَةِ الصَّحَابَةِ حِينَئِذٍ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ كَذَلِكَ قَوْلَ جَرِيرٍ وَالأْشْعَثِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُرْتَدِّينَ: اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ، فَتَابُوا وَكَفَّلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَخَذَ الْبُخَارِيُّ الْكَفَالَةَ بِالأْبْدَانِ فِي الدُّيُونِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالأْبْدَانِ فِي الْحُدُودِ بِطَرِيقِ الأْوْلَى، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ قَالَ بِهَا الْجُمْهُورُ .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صِحَّةُ كَفَالَةِ الْبَدَنِ فِي الْجُمْلَةِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَاسْتُؤْنِسَ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ).
وَفِي قَوْلٍ لاَ تَصِحُّ؛ لأِنَّ الْحُرَّ لاَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَدِ وَلاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِالأْوَّلِ .
ب - مَضْمُونُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ:
30 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي صِحَّةِ كَفَالَةِ النَّفْسِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهَا بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ قِصَاصٌ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الآْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لأِنَّ هَا مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ بِإِحْضَارِ مَنْ يَجِبُ إِحْضَارُهُ إِلَى مَجْلِسٍ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَهُ، وَلاَ تَتَضَمَّنُ الْتِزَامًا بِدَيْنِ الْمَكْفُولِ إِلاَّ بِالشَّرْطِ، كَأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ: إِنْ لَمْ أُحْضِرْهُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ الْفُلاَنِيِّ فِي وَقْتِ كَذَا فَعَلَيَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ. كَمَا ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْكَفَالَةِ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ، كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ لأِنَّ هَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلاَ يَلِيقُ بِهَا الاِسْتِيثَاقُ، سَوَاءٌ طَابَتْ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ بِالْكَفَالَةِ أَوْ لَمْ تَطِبْ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا، أَمَّا الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ فِيهِ حَقٌّ لِلْعَبْدِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، أَوْ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، إِنْ طَابَتْ بِهَا نَفْسُ الْمَطْلُوبِ؛ لأِنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ؛ لأِنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهِمَا وَاجِبٌ، فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيلُ، فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ.
وَإِنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِلاَ جَبْرٍ - فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ - فَلاَ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَيْ لاَ يُجْبَرُ عَلَى إِعْطَاءِ كَفِيلٍ بِنَفْسِهِ يَحْضُرُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لإِثْبَاتِ ادِّعَاءِ خَصْمِهِ عَلَيْهِ، وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْبَدَنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لِوُجُودِ حَقِّ الْعَبْدِ، فَيَلِيقُ الاِسْتِيثَاقُ .
وَيُمَيِّزُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنْ كَفَالَةِ الْوَجْهِ: ضَمَانُ الْوَجْهِ:
31 - وَهُوَ الْتِزَامُ الإْتْيَانِ بِذَاتِ الْمَضْمُونِ وَإِحْضَارِهِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَضْمُونُ مَدِينًا؛ لأِنَّ مُقْتَضَى الضَّمَانِ إِحْضَارُهُ إِلَى الطَّالِبِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْهُ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الْوَجْهِ فِيمَنْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ قِصَاصٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ تَعْزِيرٌ وَلِلزَّوْجِ رَدُّ ضَمَانِ الْوَجْهِ إِذَا صَدَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ضَمَانُهَا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمَضْمُونِ يَبْلُغُ ثُلُثَ مَالِهَا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ؛ لأِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِهَا لِطَلَبِهِ، وَفِي ذَلِكَ مَعَرَّةٌ عَلَيْهِ .
الضَّمَانُ بِالطَّلَبِ:
32 - وَهُوَ الْتِزَامُ طَلَبِ الْغَرِيمِ وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ إِنْ تَغَيَّبَ وَالدَّلاَلَةُ عَلَيْهِ دُونَ الاِلْتِزَامِ بِإِحْضَارِهِ، وَقِيلَ: يَلْتَزِمُ بِإِحْضَارِهِ، وَلِذَا صَحَّ ضَمَانُ الطَّلَبِ فِيمَنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِسَبَبِ حَقٍّ مَالِيٍّ، أَوْ بِسَبَبِ قِصَاصٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ حُدُودٍ وَتَعْزِيرَاتٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِآدَمِيٍّ، كَأَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ: أَنَا حَمِيلٌ بِطَلَبِهِ، أَوْ لاَ أَضْمَنُ إِلاَّ الطَّلَبَ، أَوْ لاَ أَضْمَنُ إِلاَّ وَجْهَهُ، أَوْ أَضْمَنُ وَجْهَهُ بِشَرْطِ عَدَمِ غُرْمِ الْمَالِ إِنْ لَمْ أَجِدْهُ .
وَحَاصِلُ كَفَالَةِ الْبَدَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَالَ الإْمَامُ الْغَزَالِيُّ: الْتِزَامُ إِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِبَدَنِهِ، فَكُلُّ مَنْ يَلْزَمُهُ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ عِنْدَ الاِسْتِعْدَاءِ، أَوْ يَسْتَحِقُّ إِحْضَارُهُ، تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِهِ، فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ مَالِيٌّ لآِدَمِيٍّ كَمَدِينٍ وَأَجِيرٍ وَكَفِيلٍ، وَبِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ آدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ - عَلَى الأْظْهَرِ - وَقِيلَ: لاَ تَصِحُّ قَطْعًا، وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَالْخَمْرِ - عَلَى الْمَذْهَبِ - وَقِيلَ: قَوْلاَنِ.
فَإِنْ كَفَلَ بَدَنَ مَنْ عَلَيْهِ مَالٌ لَمْ يُشْتَرَطَ الْعِلْمُ بِقَدْرِهِ؛ لِعَدَمِ لُزُومِهِ لِلْكَفِيلِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِحُّ ضَمَانُهُ.
وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ بِإِذْنِ وَلِيِّهِمَا؛ لأِنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ إِحْضَارَهُمَا لإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى صُورَتِهِمَا فِي الإْتْلاَفِ وَغَيْرِهِ، وَبِبَدَنِ مَحْبُوسٍ وَغَائِبٍ، وَإِنْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ فِي الْحَالِ، وَبِبَدَنِ مَيِّتٍ قَبْلَ دَفْنِهِ لِيَشْهَدَ عَلَى صُورَتِهِ بِإِذْنِ الْوَارِثِ.
وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ كُلَّ دَيْنٍ، لَوِ ادُّعِيَ بِهِ عَلَى شَخْصٍ عِنْدَ حَاكِمٍ لَزِمَهُ الْحُضُورُ لَهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الاِلْتِزَامِ بِإِحْضَارِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ مَالِيٌّ إِلَى رَبِّهِ، سَوَاءٌ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَلِذَا صَحَّتِ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لاَزِمٌ، مَعْلُومًا كَانَ الدَّيْنُ - لِلْكَفِيلِ - أَوْ مَجْهُولاً، وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْحَاكِمِ، إِذِ الْمَحْبُوسُ عِنْدَهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ.
وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ لِلَّهِ، - كَحَدِّ الزِّنَا، أَوْ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ لآِدَمِيٍّ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «لاَ كَفَالَةَ فِي حَدٍّ» ؛ وَلأِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الإْسْقَاطِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبْهَةِ، فَلاَ يَدْخُلُهُ الاِسْتِيثَاقُ وَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ الْجَانِي، وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ؛ لأِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ، وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَبِبَدَنِ الْمَحْبُوسِ وَالْغَائِبِ.
وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ - عِنْدَهُمْ - مَعَ اشْتِرَاطِ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ إِذَا لَمْ يَحْضُرِ الْمَكْفُولُ، وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً، كَمَا صَحَّ الضَّمَانُ كَذَلِكَ .
آثَارُ الْكَفَالَةِ:
أَوَّلاً: عَلاَقَةُ الْمَكْفُولِ لَهُ بِالْكَفِيلِ:
يَخْتَلِفُ الأْمْرُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ أَوْ بِالنَّفْسِ.
أ - كَفَالَةُ الْمَالِ:
قَدْ يَكُونُ الْمَالُ الْمَكْفُولُ بِهِ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ عَيْنًا.
1 - كَفَالَةُ الدَّيْنِ:
يَتَعَلَّقُ بِكَفَالَةِ الدَّيْنِ أَحْكَامٌ هِيَ:
حَقُّ الْمُطَالَبَةِ:
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الدَّائِنَ الْمَكْفُولَ لَهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ حُلُولِهِ دُونَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِتَعَذُّرِ مُطَالَبَةِ الأْصِيلِ الْمَكْفُولَ عَنْهُ، كَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطَالِبَ الأَْصِيلَ بِهِ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ ذِمَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَشْغُولَةٌ بِالدَّيْنِ جَمِيعِهِ، فَكَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ - جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ - وَهُوَ الأْظْهَرُ، تُقَرِّرُ نَفْسَ الْحُكْمِ.
وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ أُخْرَى لاَ تُجِيزُ لِلدَّائِنِ الْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ بِالدَّيْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَالأْصِيلُ حَاضِرٌ مُوسِرٌ لَيْسَ ذَا لَدَدٍ فِي الْخُصُومَةِ وَلاَ مُمَاطِلاً فِي الْوَفَاءِ، أَوْ كَانَ الأْصِيلُ غَائِبًا وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِسْتِيفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ بُعْدٍ وَمَشَقَّةٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِ اشْتَرَطَ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقِّ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ إِنَّمَا وَجَبَ ابْتِدَاءً عَلَى الأْصِيلِ ، وَالْكَفَالَةُ وَثِيقَةٌ فَلاَ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهَا إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الأْصِيلِ ، كَالرَّهْنِ .
تَعَدُّدُ الْكُفَلاَءِ:
34 - لِلدَّائِنِ الْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكُفَلاَءِ بِكُلِّ الدَّيْنِ إِذَا كَانَتْ كَفَالَتُهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَيَكُونُ الْكَفِيلُ الأْوَّلُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفِيلِ الثَّانِي كَالأْصِيلِ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفِيلِ الْمُنْفَرِدِ؛ لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلٌ بِكُلِّ الدَّيْنِ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِي ضَمَانِهِ أَنْ يَضْمَنَهُ غَيْرُهُ، وَإِذَا تَعَدَّدَ الْكُفَلاَءُ بِالدَّيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ رُءُوسِهِمْ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - لأِنَّ الضَّامِنَ لِلدَّيْنِ مَجْمُوعُهُمْ، فَصَارُوا فِي ضَمَانِهِ شُرَكَاءَ، وَالْمَكْفُولُ بِهِ يَقْبَلُ الاِنْقِسَامَ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ عَلَيْهِمْ.
وَالْقَوْلُ الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ لِلدَّائِنِ قِبَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ مَا لَهُ قِبَلَ الْكَفِيلِ الْمُنْفَرِدِ، إِذْ يُعَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلاً بِكُلِّ الدَّيْنِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الدَّائِنَ لَوِ اشْتَرَطَ حَمَالَةَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، كَانَ لَهُ أَخْذُ جَمِيعِ حُقُوقِهِ مِنْ أَحَدِهِمْ إِنْ غَابَ غَيْرُهُ أَوِ افْتَقَرَ فَصَارَ مُعْدَمًا، أَمَّا إِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا مَلاَءً فَإِنَّهُ يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِصَّتِهِ فَقَطْ حَسَبَ انْقِسَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِمْ .
زَمَانُ وَمَكَانُ وَمَوْضُوعُ الْمُطَالَبَةِ:
35 - يَتَحَدَّدُ الْتِزَامُ الْكَفِيلِ بِمَا كَانَ يَلْتَزِمُ بِهِ الأْصِيلُ مِنْ دَيْنٍ، فَيُؤَدِّيهِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا، وَذَلِكَ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْكَفَالَةِ مِنَ الشُّرُوطِ، وَمَعَ مُرَاعَاةِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي صِيغَةِ الْكَفَالَةِ مِنْ تَنْجِيزٍ أَوْ تَعْلِيقٍ أَوْ إِضَافَةٍ إِلَى أَجَلٍ أَوْ تَأْقِيتٍ أَوِ اقْتِرَانٍ بِشَرْطٍ.
وَإِذَا مَاتَ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ حَلَّ الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا عَدَا زُفَرَ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّ ذِمَّتَهُ خَرِبَتْ، وَثَبَتَ لِلدَّائِنِ حَقُّ مُطَالَبَةِ الْوَرَثَةِ بِالدَّيْنِ مِنْ تَرِكَتِهِ.
وَفِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّ الدَّيْنَ لاَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ إِذَا مَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الضَّامِنُ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِ الدَّيْنِ، انْتَهَى ضَمَانُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَخُيِّرَ الطَّالِبُ بَيْنَ بَقَائِهِ إِلَى حِينِ حُلُولِ الأْجَلِ، وَمِنْ ثَمَّ يُطَالَبُ الأَْصِيلَ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَجَّلَ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ فَيَأْخُذَهُ مِنْ تَرِكَةِ الضَّامِنِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الأْصِيلُ حَاضِرًا مَلِيئًا لِعَدَمِ حُلُولِ أَجَلِهِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ الضَّامِنُ عِنْدَ حُلُولِ الأْجَلِ أَوْ بَعْدَهُ فَلاَ يُؤْخَذُ الدَّيْنُ مِنَ التَّرِكَةِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ حَاضِرًا مَلِيئًا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِذَا كَانَ غَائِبًا مُعْدَمًا، أَوْ لاَ يُسْتَطَاعُ الاِسْتِيفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ .
حُقُوقُ الْكَفِيلِ قَبْلَ الدَّائِنِ:
36 - إِذَا كَانَ الضَّمَانُ بِإِذْنِ الأْصِيلِ كَانَ لِلْكَفِيلِ الْحَقُّ فِي مُطَالَبَةِ الدَّائِنِ - إِذَا مَا تُوُفِّيَ الأْصِيلُ قَبْلَ الْوَفَاءِ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تَرِكَةِ مَدِينِهِ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ، أَوْ مَا يَخُصُّهُ مِنْهَا عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، أَوْ يُبْرِئَهُ، لِيَتَجَنَّبَ بِذَلِكَ احْتِمَالَ تَلَفِهَا وَعَدَمَ الرُّجُوعِ فِيهَا إِذَا مَا وَفَّى الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ، وَيَثْبُتُ هَذَا الْحَقُّ لِلضَّامِنِ عِنْدَمَا يُفَلِسُ الأْصِيلُ ، فَيَطْلُبُ الدَّائِنُ بَيْعَ مَالِ الأْصِيلِ لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ أَوْ مَا يَخُصُّهُ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ - إِذَا مَا طَالَبَهُ الدَّائِنُ بِالدَّيْنِ - أَنْ يَدْفَعَ طَلَبَهُ بِأَنَّ الْمَدِينَ حَاضِرٌ مُوسِرٌ فَيَجِبُ مُطَالَبَتُهُ أَوَّلاً، أَوْ بِأَنَّ لِلْمَدِينِ مَالاً حَاضِرًا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَدِينُ حَاضِرًا، وَلِلضَّامِنِ - عِنْدَهُمْ - حَقُّ الاِعْتِرَاضِ عَلَى تَأْجِيلِ الدَّائِنِ الدَّيْنَ لِلْمَدِينِ عِنْدَ يَسَارِهِ، فَيُخَيَّرُ الدَّائِنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا عُدُولُهُ عَنِ التَّأْجِيلِ، وَإِمَّا إِمْضَاؤُهُ التَّأْجِيلَ وَإِبْرَاؤُهُ مِنَ الْكَفَالَةِ.
كَذَلِكَ لِلضَّامِنِ أَنْ يُلْزِمَ الدَّائِنَ بِمُطَالَبَةِ الْمَدِينِ بِالدَّيْنِ إِذَا مَا حَلَّ أَجَلُهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُفْلِسَ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَإِلاَّ أَسْقَطَ الْكَفَالَةَ .
2 - كَفَالَةُ الْعَيْنِ:
37 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ إِذَا كَفَلَ عَيْنًا مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا - فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ بِتَسْلِيمِهَا مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ أُلْزِمَ بِرَدِّ الْمِثْلِ إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً أَوْ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً.
وَإِذَا كَفَلَ عَيْنًا مَضْمُونَةً بِغَيْرِهَا، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلاَّ تَسْلِيمُهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ سَقَطَتِ الْكَفَالَةُ وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَإِذَا كَفَلَ أَمَانَةً وَاجِبَةَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ
بِتَسْلِيمِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَفَلَ بِأَمَانَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ إِذَا ضَمِنَ الْعَيْنَ عَلَى أَنَّهَا إِذَا تَلِفَتْ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ الْتَزَمَ بِرَدِّ الْمِثْلِ أَوْ دَفْعِ الْقِيمَةِ، يَكُونُ مُلْزَمًا بِهَذَا الضَّمَانِ، أَمَّا إِذَا ضَمِنَ تَسْلِيمَهَا بِذَاتِهَا، فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ كَفَالَةِ الأْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ يَلْتَزِمُ بِتَسْلِيمِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِنْ هَلَكَتْ فَعِنْدَهُمْ وَجْهَانِ: أَوَّلُهُمَا يُوجِبُ ضَمَانَهَا عَلَى الْكَفِيلِ، وَالآْخَرُ لاَ يَضْمَنُهُ وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ .
ب - كَفَالَةُ النَّفْسِ:
38 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا وُجُوبُ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَكْفُولِ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ الطَّالِبُ فِيهِ عَلَى إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، إِذْ يَحْصُلُ بِذَلِكَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِذَا قَامَ بِذَلِكَ انْتَهَتِ الْكَفَالَةُ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَوْ سَلَّمَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ فِي صَحْرَاءَ، فَلاَ يَكُونُ قَدْ أَوْفَى بِالْتِزَامِهِ، وَلَكِنْ لَوْ سَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِهَذَا التَّسْلِيمِ مِنَ الْكَفَالَةِ، حَتَّى لَوْ قُيِّدَتْ بِالتَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، إِذِ الْغَرَضُ مِنَ الْكَفَالَةِ تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ فِي مَكَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ خِلاَفَ مَجْلِسِهِ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنَ التَّقْيِيدِ.
وَلَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مِصْرٍ مُعَيَّنٍ، فَسَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ، خَرَجَ مِنَ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ أَمَامَ قَاضٍ مُخْتَصٍّ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِقَاضٍ دُونَ آخَرَ، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ لاَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ التَّسْلِيمِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّ الطَّالِبَ وَضَعَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا وَهُوَ يَقْصِدُ الإِْلْزَامَ بِهِ، فَقَدْ تَكُونُ حُجَّتُهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَلَوْ تَعَدَّدَ الْكُفَلاَءُ بِالنَّفْسِ فَأَحْضَرَ الْمَطْلُوبَ أَحَدُهُمْ، بَرِئَ الْجَمِيعُ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ؛ لأِنَّ الْمَكْفُولَ فِيهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ - هُوَ إِحْضَارُهُ - فَيَتِمُّ بِأَحَدِهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِعُقُودٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِعَدَدِهِمْ، لَمْ يَبْرَأْ إِلاَّ مَنْ يُحْضِرُ الْمَطْلُوبَ؛ لأِنَّ الْمَكْفُولَ حِينَئِذٍ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِعَدَدِهِمْ، فَفِعْلُ أَحَدِهِمْ لاَ يُعَدُّ فِعْلاً لِغَيْرِهِ.
وَيَلْتَزِمُ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَلاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مُهْلَةً إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْمَطْلُوبِ مَعْلُومًا، فَإِذَا لَمْ يُحْضِرْهُ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لأِنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ لاَزِمٍ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُ دَيْنُ الْمَطْلُوبِ؛ لأِنَّ مُقْتَضَى كَفَالَةِ الْبَدَنِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مُجَرَّدُ الاِلْتِزَامِ بِالإْحْضَارِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ لَمْ أُحْضِرْهُ. فَعَلَيَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ، وَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْضَارِهِ، وَإِذَا رَفَضَ الْمَطْلُوبُ مُطَاوَعَةَ الْكَفِيلِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ، كَانَ لَهُ مُرَاجَعَةُ الْحَاكِمِ لِيُعِينَهُ بِأَعْوَانِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرٍ مِنَ الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِهِ، فَلاَ يَمْلِكُ الْكَفِيلُ إِلاَّ إِرْشَادَ الْمَكْفُولِ لَهُ إِلَى مَكَانِهِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا ارْتَدَّ الْمَكْفُولُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَخْرُجِ الْكَفِيلُ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّ لَحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ إِنَّمَا اعْتُبِرَ كَمَوْتِهِ حُكْمًا فِي حَقِّ أَمْوَالِهِ وَقِسْمَتِهَا بَيْنَ وَرَثَتِهِ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إِلَى خَصْمِهِ، فَيَبْقَى الْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ، وَيُمْهِلُهُ الْقَاضِي مُدَّةً مُنَاسَبَةً.
وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّهُ عَجَزَ عَنْ إِحْضَارِهِ؛ وَلأِنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنِ الأْصِيلِ فَيَسْقُطُ الإْحْضَارُ عَنِ الْكَفِيلِ، وَكَذَا إِذَا مَاتَ الْكَفِيلُ لأِنَّهُ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ، وَمَالُهُ لاَ يَصْلُحُ لإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلاَفِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ، وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ بِضَمَانِ الْوَجْهِ يَلْتَزِمُ بِتَسْلِيمِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ فِي مَكَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ الطَّالِبُ عَلَى خَلاَصِ دَيْنِهِ مِنْهُ أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا سَلَّمَهُ فِي مَكَانٍ بِهِ حَاكِمٌ أَوْ قَاضٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْبَلَدِ الَّذِي حَدَثَ بِهِ الضَّمَانُ، كَمَا يَبْرَأُ إِذَا سَلَّمَ الْمَطْلُوبُ نَفْسَهُ لِلدَّائِنِ بَعْدَ حُلُولِ دَيْنِهِ إِنْ أَمَرَهُ الضَّامِنُ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ التَّسْلِيمُ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ، أَوْ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْكَفِيلِ، لَمْ يَبْرَأَ الضَّامِنُ مِنَ الْكَفَالَةِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُحْضِرَ الضَّامِنُ الْمَضْمُونَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ يُلْزَمُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مِنْ بَعْدِ تَلَوُّمٍ (إِمْهَالٍ) خَفِيفٍ - كَالْيَوْمِ - إِنْ قَرُبَتْ غَيْبَةُ الْغَرِيمِ، وَبِلاَ تَلَوُّمٍ إِنْ بَعُدَتْ غَيْبَتُهُ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، وَأَنَّهُ لاَ يَلْتَزِمُ إِلاَّ بِإِحْضَارِهِ.
وَإِذَا أَثْبَتَ الْكَفِيلُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ حُلُولِ الأْجَلِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ خِلاَفًا لاِبْنِ رُشْدٍ، وَكَذَلِكَ لاَ يَلْتَزِمُ بِالضَّمَانِ إِذَا أَثْبَتَ أَنَّ الْمَكْفُولَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ؛ لأِنَّ النَّفْسَ الْمَضْمُونَةَ قَدْ ذَهَبَتْ، أَمَّا إِنْ ثَبَتَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ فَالْغُرْمُ مَاضٍ.
أَمَّا ضَمَانُ الطَّلَبِ: فَلاَ يَلْتَزِمُ فِيهِ الْكَفِيلُ إِلاَّ بِطَلَبِ الْغَرِيمِ بِمَا يَقْوَى عَلَيْهِ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ صُدِّقَ، وَحَلَفَ أَنَّهُ مَا قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ وَلاَ يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ، فَإِذَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ غَرِمَ.
وَكَذَلِكَ يَغْرَمُ إِذَا فَرَّطَ فِي الإِْتْيَانِ بِهِ، أَوْ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِمَوْضِعِهِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ بِالْبَدَنِ يَلْتَزِمُ بِإِحْضَارِ الْغَرِيمِ وَتَسْلِيمِهِ فِي الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ إِنْ كَانَ صَالِحًا، وَإِلاَّ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْكَفَالَةِ إِنْ صَلَحَ، وَقَيْدُ بَلَدِ التَّسْلِيمِ مُعْتَبَرٌ تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ، وَيَجُوزُ لِلْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يَرْفُضَ التَّسْلِيمَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ عُيِّنَ مَكَانٌ مُحَدَّدٌ فِي الْبَلَدِ فَفِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ أَحْضَرَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ التَّسْلِيمُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِقَبُولِهِ فِيهِ، أَوْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي رَدِّهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ وَجَبَ قَبُولُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَسَلَّمْهُ أَحْضَرَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيَتَسَلَّمَ عَنْهُ وَيَبْرَأَ.
وَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ إِذَا سَلَّمَ الْغَرِيمَ فِي مَكَانِ التَّسْلِيمِ بِلاَ حَائِلٍ يَمْنَعُ الطَّالِبَ مِنْهُ، كَمُتَغَلِّبٍ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَبْرَأُ.
وَكَذَلِكَ يَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا سَلَّمَ الْمَكْفُولُ نَفْسَهُ، مُظْهِرًا أَنَّهُ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ بَرَاءَةً لِلْكَفِيلِ، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ حُضُورِهِ دُونَ إِظْهَارِ ذَلِكَ.
وَإِذَا غَابَ الْمَطْلُوبُ لَمْ يُلْزَمِ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِهِ إِنْ جُهِلَ مَكَانُهُ لِقِيَامِ عُذْرِهِ، فَإِنْ عُلِمَ مَكَانُهُ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَيُمْهَلُ مُدَّةَ الذَّهَابِ وَالإْيَابِ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ حُبِسَ مَا لَمْ يُؤَدِّ الدَّيْنَ لأِنَّهُ مُقَصِّرٌ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مَسَافَةَ قَصْرٍ لَمْ يُلْزَمْ إِحْضَارَهُ، وَالأْصَحُّ : أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ أَوْ هَرَبَ أَوْ تَوَارَى وَلَمْ يُعْرَفْ مَكَانُهُ لَمْ يُطَالَبَ الْكَفِيلُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ : أَنَّهُ يَغْرَمُ، وَالأْصَحُّ : أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ تَغْرِيمَ الْكَفِيلِ الْمَالَ عِنْدَ عَدَمِ إِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بَطَلَتْ؛ لأِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ : أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ إِذَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً عَنِ الْمَكَانِ تَعَيَّنَ إِحْضَارُ الْمَكْفُولِ فِي مَحَلِّ الْكَفَالَةِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ الْمَكَانُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ إِحْضَارُهُ فِيهِ، وَإِذَا سَلَّمَ الْمَكْفُولُ نَفْسَهُ فِي زَمَانِ التَّسْلِيمِ وَمَكَانِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِذَلِكَ كَمَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِمَوْتِ الْمَكْفُولِ.
وَإِذَا غَابَ الْمَكْفُولُ، وَعَلِمَ الْكَفِيلُ بِمَكَانِهِ، أُمْهِلَ بِقَدْرِ مَا يَمْضِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ وَيُحْضِرُهُ، فَإِنْ مَضَى إِلَيْهِ وَلَمْ يُحْضِرْهُ لِتَوَارِيهِ أَوْ هَرَبِهِ أَوِ امْتِنَاعِهِ، لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَكَانَهُ لَزِمَهُ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ مِنَ الدَّيْنِ لِتَقْصِيرِهِ فِي تَقَصِّي حَالِهِ، فَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُتْلِفًا.
وَإِذَا ضَمِنَ شَخْصٌ لآِخَرَ مَعْرِفَةَ إِنْسَانٍ، كَأَنْ جَاءَ إِنْسَانٌ إِلَى آخَرَ يَسْتَدِينُ مِنْهُ - مَثَلاً - فَقَالَ لَهُ: لاَ أَعْرِفُكَ فَلاَ أُعْطِيكَ، فَجَاءَ شَخْصٌ وَضَمِنَ لَهُ مَعْرِفَتَهُ، فَدَايَنَهُ، ثُمَّ غَابَ الْمُسْتَدِينُ أَوْ تَوَارَى، أَخَذَ الضَّامِنَ بِالدَّيْنِ، مَا لَمْ يُعَرِّفِ الدَّائِنَ بِالْمَدِينِ .
عَلاَقَةُ الْكَفِيلِ بِالْمَكْفُولِ عَنْهُ:
39 - إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّاهُ لِلدَّائِنِ عَلَى التَّفْصِيلِ الآْتِي:
أ - مُطَالَبَةُ الْمَدِينِ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ:
40 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، ثَبَتَ لِلْكَفِيلِ الْحَقُّ فِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا طَالَبَهُ الدَّائِنُ بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ، وَيَثْبُتَ لَهُ الْحَقُّ كَذَلِكَ فِي مُلاَزَمَتِهِ إِذَا لاَزَمَهُ الدَّائِنُ، وَالْحَقُّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَبْسِهِ إِذَا مَا طَالَبَ الدَّائِنَ بِحَبْسِ الْكَفِيلِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لأِنَّ الْمَدِينَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيمَا صَارَ إِلَيْهِ، فَحُقَّ لَهُ أَنْ يُعَامِلَهُ بِمِثْلِ مَا يُعَامَلُ بِهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ فَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ الْحَقُّ فِي مُطَالَبَتِهِ بِذَلِكَ، لأِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْكَفَالَةِ وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَلاَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ إِلْزَامِ غَيْرِهِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ الْحَقَّ فِي مُطَالَبَةِ الْمَضْمُونِ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِلَى الدَّائِنِ لِيَخْلَصَ مِنَ الضَّمَانِ، وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الأْجَلِ، سَوَاءٌ طَالَبَهُ الدَّائِنُ أَوْ لاَ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِ الْمَدِينِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَدِينَ بِتَسْلِيمِ مَا بِهِ الْوَفَاءُ إِلَيْهِ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الدَّائِنِ؛ لأِنَّ الْمَدِينَ لاَ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمَضْمُونِ، لاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الضَّمَانِ بِإِذْنِهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ تَخْلِيصُهُ مِنْهُ، وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ طَالَبَهُ الدَّائِنُ، جَازَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِأَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يُغَرِّمَهُ إِذَا غَرِمَ جَازَ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا طُولِبَ، وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَمْ يُطَالِبْهُ الدَّائِنُ، فَالأْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ مُطَالَبَةَ الْمَدِينِ؛ لأِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُغَرِّمَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْرَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ قَبْلَ أَنْ يُطَالَبَ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ لَهُ حَقَّ مُطَالَبَتِهِ بِتَخْلِيصِهِ، لأِنَّهُ شَغَلَ ذِمَّتَهُ بِالدَّيْنِ بِإِذْنِهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، كَمَا إِذَا أَعَارَهُ عَيْنًا لِيَرْهَنَهَا، كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُسْتَعِيرَ بِتَخْلِيصِهَا .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، فَطُولِبَ الضَّامِنُ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِتَخْلِيصِهِ؛ لأِنَّهُ لَزِمَهُ الأْدَاءُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُطَالِبَ الضَّامِنَ لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لأِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ غَرَامَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْلَ طَلَبِهِ مِنْهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ؛ لأِنَّهُ شَغَلَ ذِمَّتَهُ بِإِذْنِهِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَفْرِيغِهَا، كَمَا لَوِ اسْتَعَارَ عَيْنًا فَرَهَنَهَا، كَانَ لِصَاحِبِهَا مُطَالَبَتُهُ بِفِكَاكِهَا وَتَفْرِيغِهَا مِنَ الرَّهْنِ .
ب - رُجُوعُ الضَّامِنِ عَلَى الْمَدِينِ:
41 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الضَّامِنَ لاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْمَدِينِ أَنْ يُسَلِّمَهُ مَا بِهِ وَفَاءُ الدَّيْنِ قَبْلَ قِيَامِهِ بِأَدَائِهِ لِلدَّائِنِ .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا أَدَّى مَا عَلَى الْمَضْمُونِ بِنِيَّةِ التَّبَرُّعِ عَنِ الْمَدِينِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى الضَّامِنُ حَقَّ الدَّائِنِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، فَفِي حُكْمِ رُجُوعِهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ كَمَا يَلِي:
1 - شُرُوطُ الرُّجُوعِ:
42 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِرُجُوعِ الْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ:
الأْوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمَدِينُ صَبِيًّا مُمَيِّزًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِعَتَهٍ أَوْ سَفَهٍ، فَلاَ يَثْبُتُ لِلْكَفِيلِ حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ بِالأْمْرِ فِي حَقِّ الْمَكْفُولِ عَنْهُ اسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِقْرَاضُ الصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَضَمَّنَ كَلاَمُ الْمَدِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الضَّامِنِ بِأَنْ يَقُومَ بِالضَّمَانِ عَنْهُ، كَأَنْ يَقُولَ: اضْمَنْ عَنِّي، فَإِذَا قَالَ لَهُ: اضْمَنِ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّتِي لِفُلاَنٍ، دُونَ أَنْ يُضِيفَ الضَّمَانَ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْكَفِيلِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ عِنْدَ الأْدَاءِ؛ لأِنَّ هَذَا الأْمْرَ لاَ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ إِقْرَاضٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرْجِعُ مُطْلَقًا؛ لأِنَّ الأْدَاءَ تَمَّ بِنَاءً عَلَى الأْمْرِ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ فِي الأْدَاءِ مُطْلَقًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى أَدَاءِ الْكَفِيلِ إِبْرَاءُ ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ؛ لأِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ قَدْ ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى نِيَابَةِ الْكَفِيلِ عَنِ الْمَدِينِ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَدَّى الْكَفِيلُ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَدِينَ قَدْ قَامَ بِأَدَائِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ بِمَا أَدَّى، وَإِنَّمَا يَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَهُ مِمَّنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا أَدَّى دَيْنَ الْمَضْمُونِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِ أَمْ كَانَتْ بِدُونِ إِذْنِهِ، حَتَّى لَوْ أَدَّى عَنْ صَغِيرٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَدَّى فِي مَالِ الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ قَامَ بِوَفَاءِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الأْصِيلِ ، فَيَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ الَّذِي أَدَّى الدَّيْنَ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ إِنْ وُجِدَ إِذْنُهُ فِي الضَّمَانِ وَالأْدَاءِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ إِنِ انْتَفَى إِذْنُهُ فِيهِمَا، فَإِنْ أَذِنَ الأْصِيلُ فِي الضَّمَانِ فَقَطْ وَسَكَتَ عَنِ الأْدَاءِ، رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَيْهِ فِي الأْصَحِّ ؛ لأِنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي سَبَبِ الْغُرْمِ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ : لاَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأِنَّ الْغُرْمَ حَصَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَإِنْ أَذِنَ الأْصِيلُ فِي الأْدَاءِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِي الضَّمَانِ لاَ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَيْهِ فِي الأْصَحِّ ؛ لأِنَّ الْغُرْمَ بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ : يَثْبُتُ لِلْكَفِيلِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الأْصِيلِ ؛ لأِنَّهُ أَسْقَطَ الدَّيْنَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ الَّذِي أَدَّى الدَّيْنَ الْمَضْمُونَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى الْمَدِينِ، لَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
الْحَالَةُ الأْولَى: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ أَوْفَاهُ كَذَلِكَ، فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُ: اضْمَنْ عَنِّي وَأَدِّ عَنِّي، أَوْ أَطْلَقَ الإْذْنَ بِالضَّمَانِ وَالأْدَاءِ فَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى نَفْسِهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَكِنَّهُ أَدَّى بِدُونِ إِذْنِهِ، فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ أَيْضًا؛ لأِنَّ الإْذْنَ فِي الضَّمَانِ يَتَضَمَّنُ الإْذْنَ فِي الأْدَاءِ عُرْفًا.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِدُونِ إِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَكِنَّهُ أَدَّى الدَّيْنَ بِإِذْنِهِ، فَلَهُ كَذَلِكَ حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأِنَّ إِذْنَ الْمَدِينِ بِالأْدَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ الْكَفِيلُ عَنْهُ فِيهِ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِدُونِ إِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ أَدَّى بِدُونِ إِذْنٍ مِنْهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لأِنَّهُ أَدَاءٌ مُبْرِئٌ مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ، فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَقِيَامُ الإْنْسَانِ بِقَضَاءِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِهِ يَسْتَلْزِمُ حَقَّ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا، وَالرِّوَايَةُ الأْخْرَى : لاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لأِنَّ صَلاَةَ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم عَلَى الْمَيِّتِ الْمَدِينِ، بَعْدَ ضَمَانِ دَيْنِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ مِنَ الدَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ لِلضَّامِنِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ بِمُجَرَّدِ ضَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ مَا بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ .
2 - كَيْفِيَّةُ الرُّجُوعِ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ الَّذِي لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمَا أَدَّى، إِذَا كَانَ مَا وَفَّاهُ مِثْلَ الدَّيْنِ وَمِنْ جِنْسِهِ؛ لأِنَّ الْكَفِيلَ - وَقَدْ أَمَرَ بِالضَّمَانِ وَقَامَ بِالْوَفَاءِ بِنَاءً عَلَيْهِ - يَتَمَلَّكُ الدَّيْنَ بِذَلِكَ الْوَفَاءِ، فَإِذَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِهِ حَلَّ مَحَلَّ الدَّائِنِ فِيهِ، وَإِذَا أَدَّى أَقَلَّ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، تَجَنُّبًا لِلرِّبَا بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الْقَدْرِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُطْلَقًا، أَوْ تَصَالَحَ مَعَ الدَّائِنِ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَدِينِ بِمَا ضَمِنَ - وَهُوَ الدَّيْنُ - لأِنَّهُ تَمَلَّكَ الدَّيْنَ بِالأْدَاءِ، فَيَرْجِعُ بِمَا تَمَّتِ الْكَفَالَةُ عَلَيْهِ، وَشُبْهَةُ الرِّبَا غَيْرُ وَارِدَةٍ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الضَّامِنَ - الَّذِي لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ - يَرْجِعُ عَلَى الْمَدِينِ بِمِثْلِ مَا أَدَّى إِذَا كَانَ مَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلِيًّا أَوْ قِيَمِيًّا، لأِنَّ الضَّامِنَ كَالْمُسَلِّفِ، وَفِي السَّلَفِ يَرْجِعُ بِالْمِثْلِ حَتَّى فِي الْمُقَوَّمَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ بِالأْقَلِّ مِنَ الدَّيْنِ وَقِيمَةِ مَا أَدَّى، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الضَّامِنُ قَدِ اشْتَرَى مَا أَدَّى بِهِ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي شِرَائِهِ مُحَابَاةٌ، وَإِلاَّ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ، وَإِذَا تَصَالَحَ الْحَمِيلُ وَالدَّائِنُ فَلاَ يَرْجِعُ الضَّامِنُ عَلَى الْمَدِينِ إِلاَّ بِالأْقَلِّ مِنَ الأْمْرَ يْنِ، الدَّيْنِ وَقِيمَةِ مَا صَالَحَ بِهِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ - إِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ - فَالأْصَحُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ، لاَ بِمَا لَمْ يَغْرَمْ، فَيَرْجِعُ بِالدَّيْنِ إِنْ أَدَّاهُ، وَيَرْجِعُ بِمَا أَدَّى إِنْ كَانَ أَقَلَّ، وَيَرْجِعُ بِالأْقَلِّ مِمَّا أَدَّى وَمِنَ الدَّيْنِ إِنْ صَالَحَ عَنِ الدَّيْنِ بِخِلاَفِ جِنْسِهِ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ رُجُوعُهُ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ؛ لأِنَّهُ حَصَلَ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ بِمَا فَعَلَ، وَالْمُسَامَحَةُ جَرَتْ مَعَهُ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِأَقَلِّ الأْمْرَ يْنِ مِمَّا قَضَى أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ؛ لأِنَّهُ إِنْ كَانَ الأْقَلُّ الدَّيْنَ فَالزَّائِدُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ أَقَلَّ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ غَرِيمُهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. وَإِنْ دَفَعَ عَنِ الدَّيْنِ عَرَضًا رَجَعَ بِأَقَلِّ الأْمْرَ يْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ، فَإِنْ قَضَى الْمُؤَجَّلَ قَبْلَ أَجَلِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ؛ لأِنَّهُ لاَ يَجِبُ لَهُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ لِلْغَرِيمِ، فَإِنْ أَحَالَهُ كَانَتِ الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ تَقْبِيضِهِ، وَيَرْجِعُ بِالأْقَلِّ مِمَّا أَحَالَ بِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْغَرِيمُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ، أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الاِسْتِيفَاءُ لِفَلَسٍ أَوْ مَطْلٍ، لأِنَّ نَفْسَ الْحَوَالَةِ كَالإْقْبَاضِ .
انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ:
44 - انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ يَعْنِي بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مِمَّا الْتَزَمَ بِهِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ، وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ تَابِعَةً لاِنْتِهَاءِ الْتِزَامِ الْمَدِينِ؛ لأِنَّ الْتِزَامَ الْكَفِيلِ تَابِعٌ لاِلْتِزَامِ الأْصِيلِ ، وَإِذَا سَقَطَ الأْصْلُ سَقَطَ التَّبَعُ، كَمَا تَكُونُ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ، فَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ وَيَبْقَى الْتِزَامُ الأْصِيلِ ، إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنَ انْتِهَاءِ الاِلْتِزَامِ التَّابِعِ انْتِهَاءُ الاِلْتِزَامِ الأْصْلِيِّ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لاِنْتِهَاءِ الْكَفَالَةِ حَالَتَانِ: انْتِهَاؤُهَا تَبَعًا لاِنْتِهَاءِ الْتِزَامِ الأْصِيلِ ، وَانْتِهَاؤُهَا بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ.
انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ تَبَعًا لاِنْتِهَاءِ الْتِزَامِ الأْصِيلِ :
45 - تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِانْقِضَاءِ الدَّيْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ، كَالأْدَاءِ وَالإْبْرَاءِ وَالْمُقَاصَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَيْنٌ ف 70 - 78).
أَمَّا الْكَفَالَةُ فِي الْعَيْنِ فَتَنْتَهِي بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَكْفُولَةِ.
وَأَمَّا الْكَفَالَةُ فِي الْبَدَنِ فَتَنْتَهِي بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِبَدَنِهِ أَوْ مَوْتِهِ .
ب - انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ:
تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ بِمَا يَأْتِي:
1 - مُصَالَحَةُ الْكَفِيلِ الدَّائِنَ:
46 - إِذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ الدَّائِنَ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يُبْرِئَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ، انْتَهَتِ الْكَفَالَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّيْنِ كُلِّهِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الأْصِيلِ إِزَاءَ دَائِنِهِ مِنَ الْجُزْءِ الَّذِي تَمَّ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَدِينِ وَفْقًا لِلشُّرُوطِ وَلِلأْحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا (ر: ف 39).
2 - الإْبْرَاءُ:
47 - إِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْكَفِيلَ مِنَ الْتِزَامِهِ، فَإِنَّ هَذَا الإِْبْرَاءَ يُعَدُّ مِنْهُ تَنَازُلاً عَنِ الْكَفَالَةِ، وَتَنْتَهِي بِذَلِكَ. (ر: إِبْرَاءٌ ف 14).
3 - إِلْغَاءُ عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
48 - إِذَا بَطَلَ عَقْدُ الْكَفَالَةِ، أَوْ فُسِخَ، أَوِ اسْتَعْمَلَ الْمَكْفُولُ لَهُ حَقَّ الْخِيَارِ، أَوْ تَحَقَّقَ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، أَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْكَفَالَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْتَهِي بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفِيلِ، دُونَ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الأْصِيلِ نَحْوَ دَائِنِهِ (ر: ف 7).
4 - مَوْتُ الْكَفِيلِ بِالْبَدَنِ:
49 - إِذَا مَاتَ الْكَفِيلُ فِي ضَمَانِ الْوَجْهِ أَوْ فِي ضَمَانِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْتَهِي؛ لأِنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى إِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ، وَلاَ التَّفْتِيشِ عَنْهُ أَوِ الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ .
5 - تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمَكْفُولَةِ:
50 - إِذَا سَلَّمَ الْكَفِيلُ الْعَيْنَ الْمَضْمُونَةَ بِنَفْسِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، أَوْ رَدَّ مِثْلَهَا أَوْ دَفَعَ قِيمَتَهَا إِنْ كَانَتْ هَالِكَةً، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنَ الْتِزَامِهِ، وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِذَلِكَ .