مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء : الخامس ، الصفحة : 492
مذكرة المشروع التمهيدي :
يقرر هذا النص واجباً منطقياً على الدائن إزاء الكفيل مبناه حلول الكفيل محل الدائن ، فيجب إذن أن يمكن له من هذا الحلول والنص منقول عن المادة 508 من تقنين الإلتزامات السويسري ، مع شيء من التفصيل قصد به زيادة الإيضاح ومنع اللبس وحكمه غني عن التعليق إذ هو مجرد تطبيق للقواعد العامة .
1- إذا كان أساس دعوى رجوع الكفيل على المدين بما أوفاه عنه هو حلول الكفيل محل الدائن فى الرجوع على المدين - حلولاً مستمداً من عقد الحلول المبرم بين الدائن و الكفيل ومستنداً إلى المادتين 1/326 و 329 من القانون المدنى اللتين تقضيان بأنه إذا قام بالوفاء شخص غير المدين حل الموفى محل الدائن الذى إستوفى حقه إذا كان الموفى ملزماً بالدين مع المدين أو ملزماً بوفائه عنه و أن من حل قانوناً أو إتفاقاً محل الدائن كان له حقه بما لهذا الحق من خصائص وما يلحقه من توابع و ما يكفله من تأمينات وما يرد عليه من دفوع و كان القرض - المكفول - عملاً تجاريا بالنسبة لطرفيه فإن الكفيل الموفى يحل محل الدائن الأصلى فيه بما له من خصائصه ومنها صفته التجارية وبالتالى يكون للكفيل أن يرفع دعواه على المدين أمام المحكمة التجارية المتفق بين الدائن و المدين على إختصاصها .
(الطعن رقم 289 لسنة 31 جلسة 1968/01/25 س 19 ع 1 ص 116 ق 19)
تنص المادة 787 مدني على ما يأتي :
"1- يلتزم الدائن بأن يسلم الكفيل ، وقت وفائه الدين ، المستندات اللازمة لاستعمال حقه في الرجوع" .
"2- فإذا كان الدين مضموناً بمنقول مرهون أو محبوس ، وجب على الدائن أن يتخلى عنه الكفيل" .
"3- أما إذا كان الدين مضموناً بتأمين عقاري ، فإن الدائن يلتزم أن يقوم بالإجراءات اللازمة لنقل هذا التأمين ، ويتحمل الكفيل مصروفات النقل على أن يرجع بها على المدين" .
ويفترض هذا النص أن الكفيل لم ينجح في دفع دعوى الدائن أو لم يدفعها بدفع ما ، فحكم عليه بالدين ، أو أن الكفيل تقدم مختاراً للدائن دون دعوى ووفى الدين ففي هذه الحالة ، يكون للكفيل الذي وفى عن المدين حق الرجوع على هذا الخير إما بالدعوى الشخصية أو بدعوى الحلول ، وسيأتي بيان ذلك وفي جميع الأحوال ، عند وفاء الكفيل بالدين للدائن ، يجب على هذا الأخير أن يمكنه بما يستطيع من الرجوع على المدين ويكون ذلك عقب وفاء الكفيل بالدين ، إذا أظهر الدائن إستعداده للقيام بالتزامه بمجرد إستيفائه فإذا آنس الكفيل من الدائن أنه غير مستعد للوفاء بإلتزامه ، إستطاع الكفيل ، بدلاً من أن يوفي له الدين ، أن يودعه إيداعاً قضائياً طبقاً للقواعد المقررة لذلك ، وعند ذلك يستطيع بعد هذا الإيداع القضائي أن يرجع على المدين وكل ذلك قياساً على ما نصت عليه المادة 349 مدني من أنه :
1 - لمن قام بوفاء جزء من الدين أن يطلب مخالصة بما وفاه مع التأشير على سند الدين بحصول هذا الوفاء، فإذا وفى الدين كله كان له أن يطلب سند الدين أو إلغاءه ، فإن كان السند قد ضاع كان له أن يطلب من الدائن أن يقر كتابة بضياع السند .
2 - فإذا رفض الدائن القيام بما فرته عليه الفقرة السابقة ، جاز للدائن أن يودع الشيء المستحق إيداعاً قضائياً " .
والذي يلتزم به الدائن نحو الكفيل ، إذا وفي هذا الأخير الدين للأول ، هو ما يأتي :
أولاً - أن يسلم الدائن للكفيل المستندات اللازمة لإستعمال حقه في الرجوع ومن أهم هذه المستندات مستندات الدين المكفول وهي في يد الدائن فيجب أن يسلمها للكفيل حتى يرجع هذا بموجبها على المدين ، ومخالصة من الدائن بأنه استوفى الدين من الكفيل وبذلك يثبت هذا الأخير أنه وفي الدين فيستطيع الرجوع على المدين وغني عن البيان أن الكفيل ، إذا اضطر إلى إيداع الدين إيداعاً قضائياً كما قدمنا ، يستطيع أن يحصل على شهادة بذلك فتغنيه عن مستندات الدين ، فيتمكن من الرجوع على المدين .
ثانياً – ولما كان الكفيل يستطيع الرجوع على المدين بدعوى الحلول كما سنرى ، فإن الدائن يلتزم بتمكينه من هذا الحلول في تأمينات الدين ، فإذا كانت هذه التأمينات واقعة على منقول وكان المنقول في يد الدائن ، وذلك كما إذا كان في يد الدائن منقول مرهون رهناً حيازياً ضماناً للدين، أو ما هو في حكم التأمين إذا كان هناك منقول في يد الدائن محبوس في الدين، وجب على الدائن أن يسلم للكفيل هذا المنقول وذلك حتى يحل فيه محل الدائن في حق رهن الحيازة أو في الحق في الحبس، فيحبسه في يده كما كان يحبسه الدائن ، ضماناً لحقه في الرجوع على المدين .
ثالثاً – أما إذا كان التأمين عقارياً ، بأن كان هناك عقار مرهون رهناً رسمياً أو رهناً حيازياً أو مأخوذ عليه حق إختصاص أو واقع عليه حق إمتياز ضماناً للدين ، فإنه يجب على الدائن أن يقوم بالإجراءات اللازمة لنقل هذا التأمين إلى الكفيل ليحل محله فيه ويتحمل الكفيل مصروفات هذا النقل على أن يرجع بها على المدين ضمن ما يرجع به عليه .
ويترتب على ما قدمناه أن الدائن يلتزم بالمحافظة على تأمينات الدين عقاراً كانت أو منقولاً ، سواء قدمت مع الكفالة أو قبلها أو بعدها ، حتى يحل فيها الكفيل محله. (الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : العاشر الصفحة : 167)
يترتب على إبرام عقد الكفالة، أو توقيع الكفيل على العقد الأصلي، أن يضمن تنفيذ إلتزامات المدين، وأن يصبح الكفيل ملتزماً بتنفيذ هذه الإلتزامات إذا امتنع المدين عن تنفيذها، و يترتب هذا الأثر فور حلول أجل تلك الإلتزامات، فإن تمثلت في الوفاء بمبلغ، وامتنع المدين عن الوفاء به، جاز للكفيل القيام بالوفاء للدائن مباشرة، ثم الرجوع بما وفاه على المدين، وهذا يقتضى من الكفيل تقديم الدليل على مديونية المدين للدائن، وقيام الكفيل بالوفاء بتلك المديونية للدائن وبالتالي يجب على الدائن أن يسلم الكفيل المستندات المثبتة لمديونية المدين له، والتي كان يرجع بموجبها على المدين إن لم يوجد كفيل، وهذه المستندات كافية لقبول دعوى الكفيل عند رجوعه على المدين، بإعتبار أن الحائز لسند الدين يكون مفوضاً في قبضه إذ يعتبر وكيلاً في استيفاء الدين، لكن نص الفقرة الأولى من المادة 787 من القانون المدني جعلت الكفيل أصيلاً في استيفاء الدين، كما يجب على الدائن تسليم الكفيل مخالصة، ولكن إن لم يسلمها، جاز للكفيل الإكتفاء بمستندات الدين، وإذا اقترن تسليم المستندات بحوالة الدائن حقه إلى الكفيل، ونفذت الحوالة في حق المدين بقبوله لها أو إعلانه بها، وجب على الكفيل أن يسلك طريق أمر الأداء.
فإن تمثلت الإلتزامات في القيام بعمل مما يجوز للكفيل القيام به، وقام به كفيل وجب على الدائن أن يسلمه ما يدل على ذلك تمكيناً له من الرجوع على المدين.
فإذا رفض الدائن أن يسلم الكفيل وقت وفائه الدين تلك المستندات، جاز للكفيل أن يمتنع عن الوفاء مباشرة للدائن، وأن يقوم بالوفاء بطريق الإيداع دون أن يسبقه عرض إيداعه مشروطاً بتقديم مستندات الدين، وحينئذ تبرأ ذمة الكفيل إعتباراً من تاريخ الإيداع ولا ترى الفوائد القانونية، ويجب لصحة الإيداع وبراءة ذمة الكفيل، أن يكون الإيداع كاملاً ، فإن وردت الكفالة على التزام المشتري بالوفاء باقي الثمن، وكان المشتري قد تسلم المبيع، فإن الفوائد تحتسب على باقي الثمن من وقت تسلم المشتري للمبيع، وبالتالي يجب على الكفيل إيداع باقی الثمن وفوائده المستحقة حتى تاريخ الإيداع، فإن أودع باقي الثمن وحده كان الإيداع باطلاً غير مبرىء للذمة، فتظل الفوائد سارية حتى يتم الوفاء، وذلك عملاً بالمادة 458 من القانون المدنى.
إلتزام الدائن بنقل تأمينات الدين للكفيل :
ومفاد ذلك أنه إذا كان الدین مضموناً برهن حيازي لمنقول، أوكان للدائن دين في ذمة المدين كباقي ثمن منقول، وامتنع المدين عن الوفاء فقام الدائن بحبس المنقول، تمهيداً للرجوع على المدين وكفيله، فإن الكفيل يكون له الحق حينئذ، طالما حل أجل الدين، أن يقوم بالوفاء للدائن، ويحل محل في الرهن الحيازي أو في الحق في الحبس، وذلك باستلام المنقول بعد أن يتخلى عنه الدائن.
فإذا امتنع الدائن عن التخلي عن المنقول، وقت وفاء الكفيل بالدين، جاز للأخير أن يمتنع عن الوفاء بإلتزامه، وحينئذ لا يجوز إجباره عليه إلا إذا قام الدائن بايداع المنقول وفقاً للمادة 336 من القانون المدني.
فإن هلك المنقول المرهون أو المحبوس، زال الضمان بالنسبة للكفيل وبالتالي تنقضي الكفالة عملاً بالمادة 784 من القانون المدني .
أما إذا كان الدين مضموناً بتأمين عقاري، رهن أو اختصاص أو امتياز، فإن الدائن يلتزم بأن يقوم بالإجراءات اللازمة لنقل هذا التأمين والمتعلقة بالحلول العيني تراجع المؤلف في الشهر العقارى والمفاضلة بين التصرفات صفحة 672 وما بعدها، ويتحمل الكفيل مصروفات هذا الحلول على أن يرجع بها على المدين مع أصل الدين .
فإذا امتنع الدائن عن القيام بإجراءات الحلول العيني، جاز للكفيل الإمتناع عن الوفاء حتى يقوم الدائن بتنفيذ التزامه.
وإذا هلك التأمين العقاري، انقضت الكفالة بقدر ما أضاعه الدائن منه ولما كانت التأمينات العقارية، تشهر بطريق القيد، فإن الحلول العيني فيها يتم بالتأشير به في هامش قيدها بناءً على إقرار صادر من الدائن للكفيل مصدق على التوقيعات الواردة به، ويكون هذا الإقرار هو وسيلة الحلول العيني، وأن تعلق برمن رسمی وجب أن يكون إقرار الحلول رسمياً بدوره. (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء : العاشر ، الصفحة : 705)
ومن هذه المستندات مستندات الدين المكفول وكذلك يجب على الدائن أن يسلم الكفيل مخالصة بما وفاه فإذا امتنع الدائن عن تسليم الكفيل هذه المستندات، جاز للكفيل أن يمتنع عن الوفاء ويلجأ عندئذ إلى الإيداع القضائي وبمقتضى هذا الإيداع يستطيع أن يحصل على شهادة بذلك.
وينشأ هذا الإلتزام في ذمة الدائن بقوة القانون وبمجرد استيفاء الدائن حقه من الكفيل، بل بمجرد إبداء الكفيل استعداده للوفاء بإلتزامه.
ولجوء الكفيل إلى الإيداع القضائي في حالة امتناع الدائن عن تسليمه مستندات الدين يعد تطبيقاً أيضاً لأحكام المادة (349) مدني التي تنص على أن : " لمن قام بوفاء جزء من الدين أن يطلب مخالصة بما وفاه مع التأشير على سند الدين بحصول هذا الوفاء فإذا وفى الدين كله، كان له أن يطلب رد سند الدين أو إلغاءه فإن كان السند قد ضاع، كان له أن يطلب من الدائن أن يقر كتابة بضياع السند فإذا رفض الدائن القيام بما فرضته عليه الفقرة السابقة، جاز للمدين أن يودع الشيء المستحق إيداعاً قضائياً .
الإلتزام بالمحافظة على التأمينات الخاصة وإحلال الكفيل فيها عند وفائه بالدين :
إذا كان الدين مضموناً بمنقول مرهون أو محبوس وجب على الدائن أن يتخلى عنه للكفيل.
أما إذا كان الدين مضموناً بتأمين عقاري، فإن الدائن يلتزم أن يقوم بالإجراءات اللازمة لنقل هذا التأمين كالتأشير بذلك على هامش القيد، مع تسليم عقد الرهن أو صورة الحكم الذي قرر حق الإختصاص.
ويتحمل الكفيل هذه المصروفات على أن يرجع بها على المدين، وعلة ذلك أن ، الكفيل يحل محل الدائن إذا وفي الدين وفي الرجوع على المدين بذلك وهو يحل محله في الحق ذاته وما يضمنه من تأمينات ولذلك يجب أن يعمل الدائن على تمكين الكفيل من إستعمال هذا الحق.
وللكفيل أن يمتنع عن الوفاء للدائن إذا لم يقم بهذا الإلتزام، ولا يعتبر الكفيل مخلاً بإلتزامه، وذلك حتى يضغط على الدائن ليحصل منه على هذه الضمانات. (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء : العاشر ، الصفحة : 494)
الإلتزام بتسليم الكفيل مستندات العين عند وفاته - نصت المادة 787 فقرة أولى مدني على أن يلتزم الدائن بأن يسلم الكفيل وقت وفائه الدين المستندات اللازمة لاستعمال حقه في الرجوع .
وهذا الحكم نتيجة طبيعية لاعتبار إلتزام الكفيل التزاماً تابعاً يخوله اذا ما أوفي به أن يرجع على المدين بما وفاه ، فإن حق الكفيل في الرجوع على المدين يوجب على الدائن أن يمكنه من المستندات اللازمة لاستعمال هذا الحق.
وينشأ هذا الإلتزام في ذمة الدائن بقوة القانون وبمجرد استيفاء الدائن حقه من الكفيل ، بل بمجرد إبداء الكفيل استعداده للوفاء بإلتزامه وإذا امتنع الدائن عن تسليم الكفيل مستندات الدين ، جاز الكفيل أن يمتنع عن الوفاء وجاز له أن يلجأ الى الإبداع القضائي ، ويعتبر كل ذلك تطبيقاً لأحكام المادة 34 مدني التي نصت على أن لمن تمام بوفاء جزء من الدين أن يطلب مخالصة بما وفاه مع التأثير على سند الدين بحصول هذا الوفاء فإذا وفى الدين كله ، كان له أن يطلب رد سند الدين أو الغائه فإن كان السند قد ضاع، كان له أن يطلب من الدائن أن يقر كتابة بضياع السند ماذا رفض الدائن القيام بها فرضته عليه الفقرة السابقة ، جاز للمدين أن يودع الشيء المستحق إيداعاً قضائياً .(الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقس، الطبعة الرابعة 1986 الجزء : التاسع ، الصفحة : 81)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الرابع والثلاثون ، الصفحة / 309
آثَارُ الْكَفَالَةِ:
أَوَّلاً: عَلاَقَةُ الْمَكْفُولِ لَهُ بِالْكَفِيلِ:
يَخْتَلِفُ الأْمْرُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ أَوْ بِالنَّفْسِ.
أ - كَفَالَةُ الْمَالِ:
قَدْ يَكُونُ الْمَالُ الْمَكْفُولُ بِهِ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ عَيْنًا.
1 - كَفَالَةُ الدَّيْنِ:
يَتَعَلَّقُ بِكَفَالَةِ الدَّيْنِ أَحْكَامٌ هِيَ:
حَقُّ الْمُطَالَبَةِ:
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الدَّائِنَ الْمَكْفُولَ لَهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ حُلُولِهِ دُونَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِتَعَذُّرِ مُطَالَبَةِ الأْصِيلِ الْمَكْفُولَ عَنْهُ، كَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطَالِبَ الأَْصِيلَ بِهِ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ ذِمَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَشْغُولَةٌ بِالدَّيْنِ جَمِيعِهِ، فَكَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ - جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ - وَهُوَ الأْظْهَرُ، تُقَرِّرُ نَفْسَ الْحُكْمِ.
وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ أُخْرَى لاَ تُجِيزُ لِلدَّائِنِ الْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ بِالدَّيْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَالأْصِيلُ حَاضِرٌ مُوسِرٌ لَيْسَ ذَا لَدَدٍ فِي الْخُصُومَةِ وَلاَ مُمَاطِلاً فِي الْوَفَاءِ، أَوْ كَانَ الأْصِيلُ غَائِبًا وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِسْتِيفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ بُعْدٍ وَمَشَقَّةٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِ اشْتَرَطَ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقِّ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ إِنَّمَا وَجَبَ ابْتِدَاءً عَلَى الأْصِيلِ ، وَالْكَفَالَةُ وَثِيقَةٌ فَلاَ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهَا إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الأْصِيلِ ، كَالرَّهْنِ .
حُقُوقُ الْكَفِيلِ قَبْلَ الدَّائِنِ:
36 - إِذَا كَانَ الضَّمَانُ بِإِذْنِ الأْصِيلِ كَانَ لِلْكَفِيلِ الْحَقُّ فِي مُطَالَبَةِ الدَّائِنِ - إِذَا مَا تُوُفِّيَ الأْصِيلُ قَبْلَ الْوَفَاءِ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تَرِكَةِ مَدِينِهِ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ، أَوْ مَا يَخُصُّهُ مِنْهَا عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، أَوْ يُبْرِئَهُ، لِيَتَجَنَّبَ بِذَلِكَ احْتِمَالَ تَلَفِهَا وَعَدَمَ الرُّجُوعِ فِيهَا إِذَا مَا وَفَّى الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ، وَيَثْبُتُ هَذَا الْحَقُّ لِلضَّامِنِ عِنْدَمَا يُفَلِسُ الأْصِيلُ ، فَيَطْلُبُ الدَّائِنُ بَيْعَ مَالِ الأْصِيلِ لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ أَوْ مَا يَخُصُّهُ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ - إِذَا مَا طَالَبَهُ الدَّائِنُ بِالدَّيْنِ - أَنْ يَدْفَعَ طَلَبَهُ بِأَنَّ الْمَدِينَ حَاضِرٌ مُوسِرٌ فَيَجِبُ مُطَالَبَتُهُ أَوَّلاً، أَوْ بِأَنَّ لِلْمَدِينِ مَالاً حَاضِرًا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَدِينُ حَاضِرًا، وَلِلضَّامِنِ - عِنْدَهُمْ - حَقُّ الاِعْتِرَاضِ عَلَى تَأْجِيلِ الدَّائِنِ الدَّيْنَ لِلْمَدِينِ عِنْدَ يَسَارِهِ، فَيُخَيَّرُ الدَّائِنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا عُدُولُهُ عَنِ التَّأْجِيلِ، وَإِمَّا إِمْضَاؤُهُ التَّأْجِيلَ وَإِبْرَاؤُهُ مِنَ الْكَفَالَةِ.
كَذَلِكَ لِلضَّامِنِ أَنْ يُلْزِمَ الدَّائِنَ بِمُطَالَبَةِ الْمَدِينِ بِالدَّيْنِ إِذَا مَا حَلَّ أَجَلُهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُفْلِسَ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَإِلاَّ أَسْقَطَ الْكَفَالَةَ .
2 - كَفَالَةُ الْعَيْنِ:
37 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ إِذَا كَفَلَ عَيْنًا مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا - فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ بِتَسْلِيمِهَا مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ أُلْزِمَ بِرَدِّ الْمِثْلِ إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً أَوْ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً.
وَإِذَا كَفَلَ عَيْنًا مَضْمُونَةً بِغَيْرِهَا، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلاَّ تَسْلِيمُهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ سَقَطَتِ الْكَفَالَةُ وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَإِذَا كَفَلَ أَمَانَةً وَاجِبَةَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ
بِتَسْلِيمِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَفَلَ بِأَمَانَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ إِذَا ضَمِنَ الْعَيْنَ عَلَى أَنَّهَا إِذَا تَلِفَتْ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ الْتَزَمَ بِرَدِّ الْمِثْلِ أَوْ دَفْعِ الْقِيمَةِ، يَكُونُ مُلْزَمًا بِهَذَا الضَّمَانِ، أَمَّا إِذَا ضَمِنَ تَسْلِيمَهَا بِذَاتِهَا، فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ كَفَالَةِ الأْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ يَلْتَزِمُ بِتَسْلِيمِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِنْ هَلَكَتْ فَعِنْدَهُمْ وَجْهَانِ: أَوَّلُهُمَا يُوجِبُ ضَمَانَهَا عَلَى الْكَفِيلِ، وَالآْخَرُ لاَ يَضْمَنُهُ وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ .
ب - كَفَالَةُ النَّفْسِ:
38 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا وُجُوبُ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَكْفُولِ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ الطَّالِبُ فِيهِ عَلَى إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، إِذْ يَحْصُلُ بِذَلِكَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِذَا قَامَ بِذَلِكَ انْتَهَتِ الْكَفَالَةُ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَوْ سَلَّمَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ فِي صَحْرَاءَ، فَلاَ يَكُونُ قَدْ أَوْفَى بِالْتِزَامِهِ، وَلَكِنْ لَوْ سَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِهَذَا التَّسْلِيمِ مِنَ الْكَفَالَةِ، حَتَّى لَوْ قُيِّدَتْ بِالتَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، إِذِ الْغَرَضُ مِنَ الْكَفَالَةِ تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ فِي مَكَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ خِلاَفَ مَجْلِسِهِ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنَ التَّقْيِيدِ.
وَلَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مِصْرٍ مُعَيَّنٍ، فَسَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ، خَرَجَ مِنَ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ أَمَامَ قَاضٍ مُخْتَصٍّ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِقَاضٍ دُونَ آخَرَ، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ لاَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ التَّسْلِيمِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّ الطَّالِبَ وَضَعَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا وَهُوَ يَقْصِدُ الإِْلْزَامَ بِهِ، فَقَدْ تَكُونُ حُجَّتُهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَلَوْ تَعَدَّدَ الْكُفَلاَءُ بِالنَّفْسِ فَأَحْضَرَ الْمَطْلُوبَ أَحَدُهُمْ، بَرِئَ الْجَمِيعُ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ؛ لأِنَّ الْمَكْفُولَ فِيهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ - هُوَ إِحْضَارُهُ - فَيَتِمُّ بِأَحَدِهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِعُقُودٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِعَدَدِهِمْ، لَمْ يَبْرَأْ إِلاَّ مَنْ يُحْضِرُ الْمَطْلُوبَ؛ لأِنَّ الْمَكْفُولَ حِينَئِذٍ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِعَدَدِهِمْ، فَفِعْلُ أَحَدِهِمْ لاَ يُعَدُّ فِعْلاً لِغَيْرِهِ.
وَيَلْتَزِمُ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَلاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مُهْلَةً إِذَا كَانَ مَحَلُّ الْمَطْلُوبِ مَعْلُومًا، فَإِذَا لَمْ يُحْضِرْهُ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لأِنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ لاَزِمٍ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُ دَيْنُ الْمَطْلُوبِ؛ لأِنَّ مُقْتَضَى كَفَالَةِ الْبَدَنِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مُجَرَّدُ الاِلْتِزَامِ بِالإْحْضَارِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ لَمْ أُحْضِرْهُ. فَعَلَيَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ، وَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْضَارِهِ، وَإِذَا رَفَضَ الْمَطْلُوبُ مُطَاوَعَةَ الْكَفِيلِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ، كَانَ لَهُ مُرَاجَعَةُ الْحَاكِمِ لِيُعِينَهُ بِأَعْوَانِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرٍ مِنَ الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِهِ، فَلاَ يَمْلِكُ الْكَفِيلُ إِلاَّ إِرْشَادَ الْمَكْفُولِ لَهُ إِلَى مَكَانِهِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا ارْتَدَّ الْمَكْفُولُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَخْرُجِ الْكَفِيلُ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّ لَحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ إِنَّمَا اعْتُبِرَ كَمَوْتِهِ حُكْمًا فِي حَقِّ أَمْوَالِهِ وَقِسْمَتِهَا بَيْنَ وَرَثَتِهِ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إِلَى خَصْمِهِ، فَيَبْقَى الْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ، وَيُمْهِلُهُ الْقَاضِي مُدَّةً مُنَاسَبَةً.
وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّهُ عَجَزَ عَنْ إِحْضَارِهِ؛ وَلأِنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنِ الأْصِيلِ فَيَسْقُطُ الإْحْضَارُ عَنِ الْكَفِيلِ، وَكَذَا إِذَا مَاتَ الْكَفِيلُ لأِنَّهُ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ، وَمَالُهُ لاَ يَصْلُحُ لإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلاَفِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ، وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ بِضَمَانِ الْوَجْهِ يَلْتَزِمُ بِتَسْلِيمِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ فِي مَكَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ الطَّالِبُ عَلَى خَلاَصِ دَيْنِهِ مِنْهُ أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا سَلَّمَهُ فِي مَكَانٍ بِهِ حَاكِمٌ أَوْ قَاضٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْبَلَدِ الَّذِي حَدَثَ بِهِ الضَّمَانُ، كَمَا يَبْرَأُ إِذَا سَلَّمَ الْمَطْلُوبُ نَفْسَهُ لِلدَّائِنِ بَعْدَ حُلُولِ دَيْنِهِ إِنْ أَمَرَهُ الضَّامِنُ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ التَّسْلِيمُ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ، أَوْ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْكَفِيلِ، لَمْ يَبْرَأَ الضَّامِنُ مِنَ الْكَفَالَةِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُحْضِرَ الضَّامِنُ الْمَضْمُونَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ يُلْزَمُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مِنْ بَعْدِ تَلَوُّمٍ (إِمْهَالٍ) خَفِيفٍ - كَالْيَوْمِ - إِنْ قَرُبَتْ غَيْبَةُ الْغَرِيمِ، وَبِلاَ تَلَوُّمٍ إِنْ بَعُدَتْ غَيْبَتُهُ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، وَأَنَّهُ لاَ يَلْتَزِمُ إِلاَّ بِإِحْضَارِهِ.
وَإِذَا أَثْبَتَ الْكَفِيلُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ حُلُولِ الأْجَلِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ خِلاَفًا لاِبْنِ رُشْدٍ، وَكَذَلِكَ لاَ يَلْتَزِمُ بِالضَّمَانِ إِذَا أَثْبَتَ أَنَّ الْمَكْفُولَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ؛ لأِنَّ النَّفْسَ الْمَضْمُونَةَ قَدْ ذَهَبَتْ، أَمَّا إِنْ ثَبَتَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ فَالْغُرْمُ مَاضٍ.
أَمَّا ضَمَانُ الطَّلَبِ: فَلاَ يَلْتَزِمُ فِيهِ الْكَفِيلُ إِلاَّ بِطَلَبِ الْغَرِيمِ بِمَا يَقْوَى عَلَيْهِ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ صُدِّقَ، وَحَلَفَ أَنَّهُ مَا قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ وَلاَ يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ، فَإِذَا نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ غَرِمَ.
وَكَذَلِكَ يَغْرَمُ إِذَا فَرَّطَ فِي الإِْتْيَانِ بِهِ، أَوْ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِمَوْضِعِهِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ بِالْبَدَنِ يَلْتَزِمُ بِإِحْضَارِ الْغَرِيمِ وَتَسْلِيمِهِ فِي الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ إِنْ كَانَ صَالِحًا، وَإِلاَّ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْكَفَالَةِ إِنْ صَلَحَ، وَقَيْدُ بَلَدِ التَّسْلِيمِ مُعْتَبَرٌ تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ، وَيَجُوزُ لِلْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يَرْفُضَ التَّسْلِيمَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ عُيِّنَ مَكَانٌ مُحَدَّدٌ فِي الْبَلَدِ فَفِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ أَحْضَرَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ التَّسْلِيمُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِقَبُولِهِ فِيهِ، أَوْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي رَدِّهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ وَجَبَ قَبُولُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَسَلَّمْهُ أَحْضَرَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيَتَسَلَّمَ عَنْهُ وَيَبْرَأَ.
وَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ إِذَا سَلَّمَ الْغَرِيمَ فِي مَكَانِ التَّسْلِيمِ بِلاَ حَائِلٍ يَمْنَعُ الطَّالِبَ مِنْهُ، كَمُتَغَلِّبٍ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَبْرَأُ.
وَكَذَلِكَ يَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا سَلَّمَ الْمَكْفُولُ نَفْسَهُ، مُظْهِرًا أَنَّهُ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ بَرَاءَةً لِلْكَفِيلِ، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ حُضُورِهِ دُونَ إِظْهَارِ ذَلِكَ.
وَإِذَا غَابَ الْمَطْلُوبُ لَمْ يُلْزَمِ الْكَفِيلُ بِإِحْضَارِهِ إِنْ جُهِلَ مَكَانُهُ لِقِيَامِ عُذْرِهِ، فَإِنْ عُلِمَ مَكَانُهُ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَيُمْهَلُ مُدَّةَ الذَّهَابِ وَالإْيَابِ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ حُبِسَ مَا لَمْ يُؤَدِّ الدَّيْنَ لأِنَّهُ مُقَصِّرٌ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مَسَافَةَ قَصْرٍ لَمْ يُلْزَمْ إِحْضَارَهُ، وَالأْصَحُّ : أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ أَوْ هَرَبَ أَوْ تَوَارَى وَلَمْ يُعْرَفْ مَكَانُهُ لَمْ يُطَالَبَ الْكَفِيلُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ : أَنَّهُ يَغْرَمُ، وَالأْصَحُّ : أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ تَغْرِيمَ الْكَفِيلِ الْمَالَ عِنْدَ عَدَمِ إِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بَطَلَتْ؛ لأِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ : أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ إِذَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً عَنِ الْمَكَانِ تَعَيَّنَ إِحْضَارُ الْمَكْفُولِ فِي مَحَلِّ الْكَفَالَةِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ الْمَكَانُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ إِحْضَارُهُ فِيهِ، وَإِذَا سَلَّمَ الْمَكْفُولُ نَفْسَهُ فِي زَمَانِ التَّسْلِيمِ وَمَكَانِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِذَلِكَ كَمَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِمَوْتِ الْمَكْفُولِ.
وَإِذَا غَابَ الْمَكْفُولُ، وَعَلِمَ الْكَفِيلُ بِمَكَانِهِ، أُمْهِلَ بِقَدْرِ مَا يَمْضِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ وَيُحْضِرُهُ، فَإِنْ مَضَى إِلَيْهِ وَلَمْ يُحْضِرْهُ لِتَوَارِيهِ أَوْ هَرَبِهِ أَوِ امْتِنَاعِهِ، لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَكَانَهُ لَزِمَهُ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ مِنَ الدَّيْنِ لِتَقْصِيرِهِ فِي تَقَصِّي حَالِهِ، فَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُتْلِفًا.
وَإِذَا ضَمِنَ شَخْصٌ لآِخَرَ مَعْرِفَةَ إِنْسَانٍ، كَأَنْ جَاءَ إِنْسَانٌ إِلَى آخَرَ يَسْتَدِينُ مِنْهُ - مَثَلاً - فَقَالَ لَهُ: لاَ أَعْرِفُكَ فَلاَ أُعْطِيكَ، فَجَاءَ شَخْصٌ وَضَمِنَ لَهُ مَعْرِفَتَهُ، فَدَايَنَهُ، ثُمَّ غَابَ الْمُسْتَدِينُ أَوْ تَوَارَى، أَخَذَ الضَّامِنَ بِالدَّيْنِ، مَا لَمْ يُعَرِّفِ الدَّائِنَ بِالْمَدِينِ .
عَلاَقَةُ الْكَفِيلِ بِالْمَكْفُولِ عَنْهُ:
39 - إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّاهُ لِلدَّائِنِ عَلَى التَّفْصِيلِ الآْتِي:
أ - مُطَالَبَةُ الْمَدِينِ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ:
40 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، ثَبَتَ لِلْكَفِيلِ الْحَقُّ فِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا طَالَبَهُ الدَّائِنُ بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ، وَيَثْبُتَ لَهُ الْحَقُّ كَذَلِكَ فِي مُلاَزَمَتِهِ إِذَا لاَزَمَهُ الدَّائِنُ، وَالْحَقُّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَبْسِهِ إِذَا مَا طَالَبَ الدَّائِنَ بِحَبْسِ الْكَفِيلِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لأِنَّ الْمَدِينَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيمَا صَارَ إِلَيْهِ، فَحُقَّ لَهُ أَنْ يُعَامِلَهُ بِمِثْلِ مَا يُعَامَلُ بِهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ فَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ الْحَقُّ فِي مُطَالَبَتِهِ بِذَلِكَ، لأِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْكَفَالَةِ وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَلاَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ إِلْزَامِ غَيْرِهِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ الْحَقَّ فِي مُطَالَبَةِ الْمَضْمُونِ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِلَى الدَّائِنِ لِيَخْلَصَ مِنَ الضَّمَانِ، وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الأْجَلِ، سَوَاءٌ طَالَبَهُ الدَّائِنُ أَوْ لاَ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِ الْمَدِينِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَدِينَ بِتَسْلِيمِ مَا بِهِ الْوَفَاءُ إِلَيْهِ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الدَّائِنِ؛ لأِنَّ الْمَدِينَ لاَ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمَضْمُونِ، لاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الضَّمَانِ بِإِذْنِهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ تَخْلِيصُهُ مِنْهُ، وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ طَالَبَهُ الدَّائِنُ، جَازَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِأَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأِنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يُغَرِّمَهُ إِذَا غَرِمَ جَازَ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا طُولِبَ، وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَمْ يُطَالِبْهُ الدَّائِنُ، فَالأْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ مُطَالَبَةَ الْمَدِينِ؛ لأِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُغَرِّمَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْرَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ قَبْلَ أَنْ يُطَالَبَ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ لَهُ حَقَّ مُطَالَبَتِهِ بِتَخْلِيصِهِ، لأِنَّهُ شَغَلَ ذِمَّتَهُ بِالدَّيْنِ بِإِذْنِهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، كَمَا إِذَا أَعَارَهُ عَيْنًا لِيَرْهَنَهَا، كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُسْتَعِيرَ بِتَخْلِيصِهَا .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، فَطُولِبَ الضَّامِنُ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِتَخْلِيصِهِ؛ لأِنَّهُ لَزِمَهُ الأْدَاءُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُطَالِبَ الضَّامِنَ لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لأِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ غَرَامَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْلَ طَلَبِهِ مِنْهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ؛ لأِنَّهُ شَغَلَ ذِمَّتَهُ بِإِذْنِهِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَفْرِيغِهَا، كَمَا لَوِ اسْتَعَارَ عَيْنًا فَرَهَنَهَا، كَانَ لِصَاحِبِهَا مُطَالَبَتُهُ بِفِكَاكِهَا وَتَفْرِيغِهَا مِنَ الرَّهْنِ .
ب - رُجُوعُ الضَّامِنِ عَلَى الْمَدِينِ:
41 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الضَّامِنَ لاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْمَدِينِ أَنْ يُسَلِّمَهُ مَا بِهِ وَفَاءُ الدَّيْنِ قَبْلَ قِيَامِهِ بِأَدَائِهِ لِلدَّائِنِ .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا أَدَّى مَا عَلَى الْمَضْمُونِ بِنِيَّةِ التَّبَرُّعِ عَنِ الْمَدِينِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى الضَّامِنُ حَقَّ الدَّائِنِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، فَفِي حُكْمِ رُجُوعِهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ كَمَا يَلِي:
1 - شُرُوطُ الرُّجُوعِ:
42 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِرُجُوعِ الْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ:
الأْوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمَدِينُ صَبِيًّا مُمَيِّزًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِعَتَهٍ أَوْ سَفَهٍ، فَلاَ يَثْبُتُ لِلْكَفِيلِ حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأِنَّ الْكَفَالَةَ بِالأْمْرِ فِي حَقِّ الْمَكْفُولِ عَنْهُ اسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِقْرَاضُ الصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَضَمَّنَ كَلاَمُ الْمَدِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الضَّامِنِ بِأَنْ يَقُومَ بِالضَّمَانِ عَنْهُ، كَأَنْ يَقُولَ: اضْمَنْ عَنِّي، فَإِذَا قَالَ لَهُ: اضْمَنِ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّتِي لِفُلاَنٍ، دُونَ أَنْ يُضِيفَ الضَّمَانَ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْكَفِيلِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ عِنْدَ الأْدَاءِ؛ لأِنَّ هَذَا الأْمْرَ لاَ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ إِقْرَاضٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرْجِعُ مُطْلَقًا؛ لأِنَّ الأْدَاءَ تَمَّ بِنَاءً عَلَى الأْمْرِ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ فِي الأْدَاءِ مُطْلَقًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى أَدَاءِ الْكَفِيلِ إِبْرَاءُ ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ؛ لأِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ قَدْ ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى نِيَابَةِ الْكَفِيلِ عَنِ الْمَدِينِ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَدَّى الْكَفِيلُ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَدِينَ قَدْ قَامَ بِأَدَائِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ بِمَا أَدَّى، وَإِنَّمَا يَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَهُ مِمَّنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا أَدَّى دَيْنَ الْمَضْمُونِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِ أَمْ كَانَتْ بِدُونِ إِذْنِهِ، حَتَّى لَوْ أَدَّى عَنْ صَغِيرٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَدَّى فِي مَالِ الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ قَامَ بِوَفَاءِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الأْصِيلِ ، فَيَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ الَّذِي أَدَّى الدَّيْنَ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ إِنْ وُجِدَ إِذْنُهُ فِي الضَّمَانِ وَالأْدَاءِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ إِنِ انْتَفَى إِذْنُهُ فِيهِمَا، فَإِنْ أَذِنَ الأْصِيلُ فِي الضَّمَانِ فَقَطْ وَسَكَتَ عَنِ الأْدَاءِ، رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَيْهِ فِي الأْصَحِّ ؛ لأِنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي سَبَبِ الْغُرْمِ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ : لاَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأِنَّ الْغُرْمَ حَصَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَإِنْ أَذِنَ الأْصِيلُ فِي الأْدَاءِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِي الضَّمَانِ لاَ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَيْهِ فِي الأْصَحِّ ؛ لأِنَّ الْغُرْمَ بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ : يَثْبُتُ لِلْكَفِيلِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الأْصِيلِ ؛ لأِنَّهُ أَسْقَطَ الدَّيْنَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ الَّذِي أَدَّى الدَّيْنَ الْمَضْمُونَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى الْمَدِينِ، لَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
الْحَالَةُ الأْولَى: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ أَوْفَاهُ كَذَلِكَ، فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُ: اضْمَنْ عَنِّي وَأَدِّ عَنِّي، أَوْ أَطْلَقَ الإْذْنَ بِالضَّمَانِ وَالأْدَاءِ فَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى نَفْسِهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَكِنَّهُ أَدَّى بِدُونِ إِذْنِهِ، فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ أَيْضًا؛ لأِنَّ الإْذْنَ فِي الضَّمَانِ يَتَضَمَّنُ الإْذْنَ فِي الأْدَاءِ عُرْفًا.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِدُونِ إِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَكِنَّهُ أَدَّى الدَّيْنَ بِإِذْنِهِ، فَلَهُ كَذَلِكَ حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأِنَّ إِذْنَ الْمَدِينِ بِالأْدَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ الْكَفِيلُ عَنْهُ فِيهِ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِدُونِ إِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ أَدَّى بِدُونِ إِذْنٍ مِنْهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لأِنَّهُ أَدَاءٌ مُبْرِئٌ مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ، فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَقِيَامُ الإْنْسَانِ بِقَضَاءِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِهِ يَسْتَلْزِمُ حَقَّ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا، وَالرِّوَايَةُ الأْخْرَى : لاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لأِنَّ صَلاَةَ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم عَلَى الْمَيِّتِ الْمَدِينِ، بَعْدَ ضَمَانِ دَيْنِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ مِنَ الدَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ لِلضَّامِنِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ بِمُجَرَّدِ ضَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ مَا بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ .
2 - كَيْفِيَّةُ الرُّجُوعِ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيلَ الَّذِي لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمَا أَدَّى، إِذَا كَانَ مَا وَفَّاهُ مِثْلَ الدَّيْنِ وَمِنْ جِنْسِهِ؛ لأِنَّ الْكَفِيلَ - وَقَدْ أَمَرَ بِالضَّمَانِ وَقَامَ بِالْوَفَاءِ بِنَاءً عَلَيْهِ - يَتَمَلَّكُ الدَّيْنَ بِذَلِكَ الْوَفَاءِ، فَإِذَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِهِ حَلَّ مَحَلَّ الدَّائِنِ فِيهِ، وَإِذَا أَدَّى أَقَلَّ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، تَجَنُّبًا لِلرِّبَا بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الْقَدْرِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُطْلَقًا، أَوْ تَصَالَحَ مَعَ الدَّائِنِ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَدِينِ بِمَا ضَمِنَ - وَهُوَ الدَّيْنُ - لأِنَّهُ تَمَلَّكَ الدَّيْنَ بِالأْدَاءِ، فَيَرْجِعُ بِمَا تَمَّتِ الْكَفَالَةُ عَلَيْهِ، وَشُبْهَةُ الرِّبَا غَيْرُ وَارِدَةٍ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الضَّامِنَ - الَّذِي لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ - يَرْجِعُ عَلَى الْمَدِينِ بِمِثْلِ مَا أَدَّى إِذَا كَانَ مَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلِيًّا أَوْ قِيَمِيًّا، لأِنَّ الضَّامِنَ كَالْمُسَلِّفِ، وَفِي السَّلَفِ يَرْجِعُ بِالْمِثْلِ حَتَّى فِي الْمُقَوَّمَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ بِالأْقَلِّ مِنَ الدَّيْنِ وَقِيمَةِ مَا أَدَّى، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الضَّامِنُ قَدِ اشْتَرَى مَا أَدَّى بِهِ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي شِرَائِهِ مُحَابَاةٌ، وَإِلاَّ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ، وَإِذَا تَصَالَحَ الْحَمِيلُ وَالدَّائِنُ فَلاَ يَرْجِعُ الضَّامِنُ عَلَى الْمَدِينِ إِلاَّ بِالأْقَلِّ مِنَ الأْمْرَ يْنِ، الدَّيْنِ وَقِيمَةِ مَا صَالَحَ بِهِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ - إِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ - فَالأْصَحُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ، لاَ بِمَا لَمْ يَغْرَمْ، فَيَرْجِعُ بِالدَّيْنِ إِنْ أَدَّاهُ، وَيَرْجِعُ بِمَا أَدَّى إِنْ كَانَ أَقَلَّ، وَيَرْجِعُ بِالأْقَلِّ مِمَّا أَدَّى وَمِنَ الدَّيْنِ إِنْ صَالَحَ عَنِ الدَّيْنِ بِخِلاَفِ جِنْسِهِ، وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ رُجُوعُهُ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ؛ لأِنَّهُ حَصَلَ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ بِمَا فَعَلَ، وَالْمُسَامَحَةُ جَرَتْ مَعَهُ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِأَقَلِّ الأْمْرَ يْنِ مِمَّا قَضَى أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ؛ لأِنَّهُ إِنْ كَانَ الأْقَلُّ الدَّيْنَ فَالزَّائِدُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ أَقَلَّ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ غَرِيمُهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. وَإِنْ دَفَعَ عَنِ الدَّيْنِ عَرَضًا رَجَعَ بِأَقَلِّ الأْمْرَ يْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ، فَإِنْ قَضَى الْمُؤَجَّلَ قَبْلَ أَجَلِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ؛ لأِنَّهُ لاَ يَجِبُ لَهُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ لِلْغَرِيمِ، فَإِنْ أَحَالَهُ كَانَتِ الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ تَقْبِيضِهِ، وَيَرْجِعُ بِالأْقَلِّ مِمَّا أَحَالَ بِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْغَرِيمُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ، أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الاِسْتِيفَاءُ لِفَلَسٍ أَوْ مَطْلٍ، لأِنَّ نَفْسَ الْحَوَالَةِ كَالإْقْبَاضِ .