loading
المذكرة الإيضاحية

مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء : السادس، الصفحة : 43

مذكرة المشروع التمهيدي :

1- هذه طائفة من النصوص ( م 1171 - 1177) تعرض لقيود الملكية المقررة لمصلحة الري الزراعي، ولا تخفى أهميتها في بلد زراعي کمصر، وتتلخص في حقوق ثلاثة : حق الشرب وحق المجرى وحق المسيل .

2- وقد قسم المشروع في حق الشرب الترع إلى قسمين :

(أ) ترع عامة مملوكة للدولة، وهذه يكون الحق في استعمالها بنسبة مساحة الأراضي التي تروى منها مع مراعاة ما تقتضيه القوانين والمراسيم واللوائح المتعلقة بذلك (م 1171 من المشروع، وهي توافق م 52/31 من التقنين الحالي ) وأهم هذه اللوائح هي لائحة الترع والجسور التي يتضمنها الأمر العالى الصادر في 22 فبراير سنة 1894 وهذه يبقى معمولاً بها منفصلة عن التقنين المدني، ويقتصر هذا التقنين على المبادئ الأساسية في الرى التي يندر أن تتغير.

(ب) ترع خاصة مملوكة للأفراد، والقاعدة أن من أنشأ مسقاة على نفقته الخاصة طبقاً للوائح المتعلقة بذلك كان مالكاً لها، وكان له وحده حق استعمالها، على أنه إذا استوفى حاجته منها و بقي بعد ذلك من الماء ما تحتاج إليه أراضي الملاك المجاورين، فلهؤلاء أن يأخذوا ما هم في حاجة إليه، على أن يشتركوا في نفقات إنشاء المسقاة وصيانتها بنسبة مساحة أراضيهم التي تنتفع منها (م 1172 من المشروع وهی توافق 33/32 من التقنين الحالى و م 8 و 9 من لائحة الترع والجسور ) ويبين من ذلك أن ملكية المياه الفائضة عن الحاجة تنزع من مالكها لا لمصلحة عامة بل لمصلحة خاصة، ويدفع للمالك التعويض المناسب عن ذلك، وهذا قيد على حق الملكية خطير بقدر ما هو عادل ويلاحظ أن مالك المسقاة مفضل على الجيران، فهو الذي يستوفي حاجته من المياه أولاً، ويأتي الجيران بعد ذلك، فإذا تزاحموا قدم من كانت حاجته أشد ويترك تقدير ذلك للجهة الإدارية المختصة .

3- أما حق المجرى فقد أعطاه المشروع لمالك الأرض البعيدة عن مأخذ المياه، فتمر من أرض الجار المياه الكافية لرى أرضه، وهي مياه يأخذها من ترعة عامة أو من ترعة خاصة مملوكة له، أو من ترعة خاصة مملوكة للغير، ولكن تقرر له عليها حق الشرب، وذلك في نظير تعويض عادل يعطى للجار مقدماً ( أنظر م 54/33 من التقنين الحالى، وهي تقتصر على إعطاء حق المجرى للمياه اللازمة للري، أما م 9 من لائحة الجسور فتتوسع في حق المجرى وتجعله للمياه الكافية للري، وبذلك أخذ المشروع) .

4- بقي حق المسيل، وقد أعطاه المشروع لمالك الأرض البعيدة عن المصرف العام فيكون له الحق في أن يستعمل المصرف الخاص المملوك لجاره بعد أن يستوفي الجار حاجته، أو في أن ينشىء مصرفاً خاصاً على نفقته في أرض الجار ليصل إلى المصرف العام وفي الحالة الأولى يشترك مالك الأرض في نفقة المصرف الخاص الذي أنشأه الجار وفي صيانته، بنسبة مساحة أرضه التي تنتفع من المصرف (م 1172 فقرة 2 من المشروع وفي الحالة الثانية يعطى الجار مقدماً التعويض العادل عما إقتطعه من أرضه لإنشاء المصرف (م 1173 من المشروع، وانظر أيضاً م 54 من التقنين المختلط، وم 15 من لائحة الترع والجسور أما المادة 33 من التقنين الأهلى فلم تقرر حق المسيل ) وهناك حق مسيل للمياه الطبيعية عرض له المشروع في المادة 1177، فأوجب على مالك الأرض المنخفضة أن تنزل في أرضه المياه التي تنحدر بفعل الطبيعة من الأراضى المرتفعة عنها، کمياه الأمطار، وليس لمالك الأرض المنخفضة أن يقيم جسراً يسد الماء، كما أنه ليس لمالك الأرض المرتفعة أن يأتي ما من شأنه الزيادة فيما يجب أن تتحمله الأرض من ذلك ( أنظر م 42 / 64 من التقنين الحالى ).

5- وهناك أحكام عامة تنظم حقوق الشرب والمجرى والمسيل جميعاً، نقلها المشروع عن لائحة الترع والجسور فالمادة 1174 تعطى للجار الذي ترتب على أرضه حق مجرى أو مسيل، فأصابه ضرر من المسقاة أو المصرف الذي يمر بأرضه، الحق في أن يطلب تعويضاً كاملاً ممن ينتفع بهذه المسقاة أو المصرف، سواء نشأ الضرر عن عدم التطهير أو عن سوء حالة الجسور أو عن أي سبب آخر ينسب إلى خطأ المالك المنتفع ( أنظر م 16 من لائحة الترع والجسور ) وإذا انتفع بالمسقاة أو المصرف أشخاص متعددون، سواء لأنهم إشتركوا جميعاً في الإنشاء، أو لأن واحدة منهم هو المنشيء وثبت للباقي حق الإنتفاع وفقاً لما تقدم من الأحكام، فإنهم يشتركون جميعاً في الإصلاحات الضرورية، ويجبرون على ذلك بناءً على طلب أي واحد منهم (م 1175 من المشروع، وهي توافق م 18 من لائحة الترع والجسور) وقد أبقي المشروع على إختصاص الجهات الإدارية (وهي رجال الإدارة ورجال الری) المنصوص عليها في لائحة الترع والجسور بالفصل في المنازعات المتعلقة بكل هذه الحقوق، فحسم بذلك خلافاً قائماً في ظل التقنين الحالي، إذ يتنازع الإختصاص القضاء العادي والجهات الإدارية المذكورة، فجعل المشروع الجهات الإدارية وحدها هي المختصة إذ هي أصلح للنظر في مثل هذه المنازعات على أنها تخضع لرقابة المحاكم إذا هي خرجت عن إختصاصها أو خالفت الإجراءات المبينة في اللوائح.

الأحكام

1 ـ إن المادة 809 سمحت بأن من حق صاحب الأرض الذى يتعذر ريها رياً كافياً وأخفق فى التراضى مع جاره أن يلجأ إلى المحكمة أو إلى الجهة الإدارية التى حددها المشرع لتقرير حقه فى إنشاء المجرى وسعته ومكانه وتحديد التعويض العادل الذى يتعين عليه دفعه فليس له من حق سوى الذى حسبما يبين من نص هذه المادة والتى كان نصها فى المشروع التمهيدى يشترط دفع التعويض مقدماً ثم عدل فى مجلس النواب بالاكتفاء بالنص على التعويض العادل ولقد بين القانون 12 لسنة 1984 بشأن الرى والصرف الإجراءات التى ينبغى اتباعها فاشترطت المادة 24 منه أن يتقدم المستفيد بطلب لمدير عام الرى المختص ترفق به الخرائط والمستندات اللازمة وينتقل مفتش الرى المختص إلى موقع المجرى المقترح بعد إخطار أصحاب الشأن بالموعد المحدد لانتقاله على أن يمهلهم مدة لا تقل عن أربعة عشر يوماً ثم يعرض مفتش الرى ما يراه على مدير الرى ليصدر قراراً مسبباً يعلن لأصحاب الشأن بكتاب موصى عليه بعلم الوصول ، وتنص المادة 29 على حق ذوى الشأن فى التظلم من هذا القرار خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ إعلانهم ، كما تنص المادة 26 على أنه لا يجوز تنفيذ القرار بإنشاء المسقاة قبل أداء التعويض فإذا رفض المضرور قبوله أو تعذر أداؤه إليه فيجب إيداعه خزانة تفتيش الرى لحساب المستفيد مع إخطاره بكتاب موصى عليه بعلم الوصول ليعتبر الإيداع بمثابة أداء . فإذا اتبعت هذه الإجراءات جميعاً كان لصاحب الشأن أن ينازع فى التعويض أمام اللجنة المنصوص عليها فى المادة 102 من هذا القانون وأن يطعنوا بعد ذلك على قراراتها أمام المحكمة الابتدائية.

(الطعن رقم 3121 لسنة 67 جلسة 2010/05/24 س 61 ص 719 ق 119)

2 ـ النص فى المادة 16 من القانون رقم 68 لسنة 1953 - الذى صدر إستناداً إليه قرار وزارة الرى بإنشاء المسقاة محل النزاع بأنه " إذا رأى أحد ملاك الأطيان أنه يستحيل أو يتعذر عليه رى أرضه رياً كافياً أو صرفها صرفاً كافياً إلا بإنشاء مسقاه أو مصرف فى أرض ليست ملكه أو بإستعماله مسقاة أو مصرف موجود فى أرض الغير و تعذر عليه التراضى مع أصحاب ذوى الشأن فيرفع شكواه لمفتش الرى ليأمر بإجراء تحقيق فيها . . . و ترفع نتيجة هذا التحقيق إلى المفتش الذى يصدر قراراً مسبباً بإجابة الطلب أو رفضه ... " ، مفاده أن الحق الذى يتولد من ترخيص جهة الإدارة بإنشاء مسقاة فى أرض الغير ليجرى بها المياه توصلاً لإستعمالها فى رى أرض الجار هو حق المجرى و الشرب و هو الحق المقرر بالمادتين 808 ، 809 من القانون المدنى ، و تقرير هذا الحق يختلف عن حق الملكية فالحيازة بإستعمال المسقاة فى الرى ركوناً إلى ذلك الحق تعتبر حيازة بسبب معلوم أسباب الملكية مما تنتفى معه نية تملك أرض المسقاة ، و تبقى هذه الحيازة المتجردة من هذه النية غير صالحة للتمسك بالتملك مهما طال إمدها إلا إذا حصل تغييرفى سببها .

(الطعن رقم 455 لسنة 49 جلسة 1980/02/21 س 31 ع 1 ص 573 ق 112)

3 ـ حق المجرى لا يتقرر وفقاً للمادة 33 من القانون المدني الملغى والمادة 809 من القانون المدني القائم والمادة التاسعة من لائحة الترع والجسور لمجرد ما أوجبه القانون فى هذه المواد على مالك الأرض من السماح بأن تمر فى أرضه المياه الكافية لري الأطيان البعيدة عن مورد الماء بل يجب لذلك أن يتقدم صاحب الأرض الذي يرى أنه يستحيل أو يتعذر عليه ري أرضه رياً كافياً والذي تعذر عليه التراضي مع مالك الأرض التي يمر بها المجرى، بطلب إلى المحكمة أو جهة الإدارة المختصة لتقرير هذا الحق له وبيان الكيفية التي يكون بها إنشاء المجرى وتحديد التعويض الذي يدفعه مقابل تقرير هذا الحق له إذ أن تقرير هذا الحق لا يكون إلا مقابل تعويض عادل.

(الطعن رقم 40 لسنة 31 جلسة 1965/11/11 س 16 ع 3 ص 1043 ق 162)

4 ـ إن المادة 33 من القانون المدني خاصة بحق المجرى. أما حق المرور فالمادة المتعلقة به هي المادة 43، وهذه المادة لا تفرق فى حكمها بين الأراضي الزراعية والأراضي غير الزراعية بل تخول بصفة عامة صاحب الأرض التي لا اتصال لها بالطريق العام حق الحصول على مسلك فى أرض الغير للوصول منه إلى تلك الطريق. فمتى كان الثابت أن أرض المدعي لا سبيل للوصول منها إلى الطريق العام إلا بالمرور على أرض المدعى عليه فقضت له المحكمة بالمسلك اللازم لذلك فلا غبار عليها ولو كانت أرضه زراعية لا أرض بناء.

(الطعن رقم 46 لسنة 11 جلسة 1942/01/29 س ع ع 3 ص 411 ق 140)

5 ـ مؤدى نص المادتين 6 ، 77 من القانون رقم 68 لسنة 1953 فى شأن الرى و الصرف أن إختصاص اللجنة المذكورة - بالمادة 77 - بنظر طلبات التعويض لا يقتصر على تعويض الضرر الناشىء عن مجرد إلقاء الأتربة المخلفة عن تطهير الترع و المصارف العمومية و إنما يشمل أيضاً تعويض الضرر الناتج عن تعطيل الإنتفاع بسبب إلقاء الأتربة طالت مدته أو قصرت لأن كل إلقاء للأتربة يتضمن تعطيل الإنتفاع فترة من الوقت لم يحدد القانون مداها فيحمل على إطلاقه و ينطبق على تعطيل الإنتفاع أياً كانت مدته . و إذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر و فصل فى النزاع - حول التعويض عن الحرمان من الإنتفاع بالأطيان نتيجة عدم إزالة الإتربة المخلفة عن تطهير المصرف العمومى الذى يخترقها إحدى عشر سنة تالية لمدة أخرى قضى فيها بالتعويض - على الرغم من خروجه عن ولاية القضاء العادى و إختصاص اللجنة المنصوص عليها فى المادة 77 من القانون المذكور به ، فإنه يكون قد خالف القانون و أخطأ فى تطبيقه .

(الطعن رقم 124 لسنة 39 جلسة 1975/05/12 س 26 ع 1 ص 963 ق 185)

شرح خبراء القانون

1 ـ إن المادة 809 سمحت بأن من حق صاحب الأرض الذى يتعذر ريها رياً كافياً وأخفق فى التراضى مع جاره أن يلجأ إلى المحكمة أو إلى الجهة الإدارية التى حددها المشرع لتقرير حقه فى إنشاء المجرى وسعته ومكانه وتحديد التعويض العادل الذى يتعين عليه دفعه فليس له من حق سوى الذى حسبما يبين من نص هذه المادة والتى كان نصها فى المشروع التمهيدى يشترط دفع التعويض مقدماً ثم عدل فى مجلس النواب بالاكتفاء بالنص على التعويض العادل ولقد بين القانون 12 لسنة 1984 بشأن الرى والصرف الإجراءات التى ينبغى اتباعها فاشترطت المادة 24 منه أن يتقدم المستفيد بطلب لمدير عام الرى المختص ترفق به الخرائط والمستندات اللازمة وينتقل مفتش الرى المختص إلى موقع المجرى المقترح بعد إخطار أصحاب الشأن بالموعد المحدد لانتقاله على أن يمهلهم مدة لا تقل عن أربعة عشر يوماً ثم يعرض مفتش الرى ما يراه على مدير الرى ليصدر قراراً مسبباً يعلن لأصحاب الشأن بكتاب موصى عليه بعلم الوصول ، وتنص المادة 29 على حق ذوى الشأن فى التظلم من هذا القرار خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ إعلانهم ، كما تنص المادة 26 على أنه لا يجوز تنفيذ القرار بإنشاء المسقاة قبل أداء التعويض فإذا رفض المضرور قبوله أو تعذر أداؤه إليه فيجب إيداعه خزانة تفتيش الرى لحساب المستفيد مع إخطاره بكتاب موصى عليه بعلم الوصول ليعتبر الإيداع بمثابة أداء . فإذا اتبعت هذه الإجراءات جميعاً كان لصاحب الشأن أن ينازع فى التعويض أمام اللجنة المنصوص عليها فى المادة 102 من هذا القانون وأن يطعنوا بعد ذلك على قراراتها أمام المحكمة الابتدائية.

(الطعن رقم 3121 لسنة 67 جلسة 2010/05/24 س 61 ص 719 ق 119)

2 ـ النص فى المادة 16 من القانون رقم 68 لسنة 1953 - الذى صدر إستناداً إليه قرار وزارة الرى بإنشاء المسقاة محل النزاع بأنه " إذا رأى أحد ملاك الأطيان أنه يستحيل أو يتعذر عليه رى أرضه رياً كافياً أو صرفها صرفاً كافياً إلا بإنشاء مسقاه أو مصرف فى أرض ليست ملكه أو بإستعماله مسقاة أو مصرف موجود فى أرض الغير و تعذر عليه التراضى مع أصحاب ذوى الشأن فيرفع شكواه لمفتش الرى ليأمر بإجراء تحقيق فيها . . . و ترفع نتيجة هذا التحقيق إلى المفتش الذى يصدر قراراً مسبباً بإجابة الطلب أو رفضه ... " ، مفاده أن الحق الذى يتولد من ترخيص جهة الإدارة بإنشاء مسقاة فى أرض الغير ليجرى بها المياه توصلاً لإستعمالها فى رى أرض الجار هو حق المجرى و الشرب و هو الحق المقرر بالمادتين 808 ، 809 من القانون المدنى ، و تقرير هذا الحق يختلف عن حق الملكية فالحيازة بإستعمال المسقاة فى الرى ركوناً إلى ذلك الحق تعتبر حيازة بسبب معلوم أسباب الملكية مما تنتفى معه نية تملك أرض المسقاة ، و تبقى هذه الحيازة المتجردة من هذه النية غير صالحة للتمسك بالتملك مهما طال إمدها إلا إذا حصل تغييرفى سببها .

(الطعن رقم 455 لسنة 49 جلسة 1980/02/21 س 31 ع 1 ص 573 ق 112)

3 ـ حق المجرى لا يتقرر وفقاً للمادة 33 من القانون المدني الملغى والمادة 809 من القانون المدني القائم والمادة التاسعة من لائحة الترع والجسور لمجرد ما أوجبه القانون فى هذه المواد على مالك الأرض من السماح بأن تمر فى أرضه المياه الكافية لري الأطيان البعيدة عن مورد الماء بل يجب لذلك أن يتقدم صاحب الأرض الذي يرى أنه يستحيل أو يتعذر عليه ري أرضه رياً كافياً والذي تعذر عليه التراضي مع مالك الأرض التي يمر بها المجرى، بطلب إلى المحكمة أو جهة الإدارة المختصة لتقرير هذا الحق له وبيان الكيفية التي يكون بها إنشاء المجرى وتحديد التعويض الذي يدفعه مقابل تقرير هذا الحق له إذ أن تقرير هذا الحق لا يكون إلا مقابل تعويض عادل.

(الطعن رقم 40 لسنة 31 جلسة 1965/11/11 س 16 ع 3 ص 1043 ق 162)

4 ـ إن المادة 33 من القانون المدني خاصة بحق المجرى. أما حق المرور فالمادة المتعلقة به هي المادة 43، وهذه المادة لا تفرق فى حكمها بين الأراضي الزراعية والأراضي غير الزراعية بل تخول بصفة عامة صاحب الأرض التي لا اتصال لها بالطريق العام حق الحصول على مسلك فى أرض الغير للوصول منه إلى تلك الطريق. فمتى كان الثابت أن أرض المدعي لا سبيل للوصول منها إلى الطريق العام إلا بالمرور على أرض المدعى عليه فقضت له المحكمة بالمسلك اللازم لذلك فلا غبار عليها ولو كانت أرضه زراعية لا أرض بناء.

(الطعن رقم 46 لسنة 11 جلسة 1942/01/29 س ع ع 3 ص 411 ق 140)

5 ـ مؤدى نص المادتين 6 ، 77 من القانون رقم 68 لسنة 1953 فى شأن الرى و الصرف أن إختصاص اللجنة المذكورة - بالمادة 77 - بنظر طلبات التعويض لا يقتصر على تعويض الضرر الناشىء عن مجرد إلقاء الأتربة المخلفة عن تطهير الترع و المصارف العمومية و إنما يشمل أيضاً تعويض الضرر الناتج عن تعطيل الإنتفاع بسبب إلقاء الأتربة طالت مدته أو قصرت لأن كل إلقاء للأتربة يتضمن تعطيل الإنتفاع فترة من الوقت لم يحدد القانون مداها فيحمل على إطلاقه و ينطبق على تعطيل الإنتفاع أياً كانت مدته . و إذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر و فصل فى النزاع - حول التعويض عن الحرمان من الإنتفاع بالأطيان نتيجة عدم إزالة الإتربة المخلفة عن تطهير المصرف العمومى الذى يخترقها إحدى عشر سنة تالية لمدة أخرى قضى فيها بالتعويض - على الرغم من خروجه عن ولاية القضاء العادى و إختصاص اللجنة المنصوص عليها فى المادة 77 من القانون المذكور به ، فإنه يكون قد خالف القانون و أخطأ فى تطبيقه .

(الطعن رقم 124 لسنة 39 جلسة 1975/05/12 س 26 ع 1 ص 963 ق 185)

الفقه الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث ، الصفحة / 9

ارْتِفَاقٌ

التَّعْرِيفُ:

1 - مِنْ مَعَانِي الاِرْتِفَاقِ لُغَةً: الاِتِّكَاءُ. وَارْتَفَقَ بِالشَّيْءِ انْتَفَعَ بِهِ. وَمَرَافِقُ الدَّارِ: مَصَابُّ الْمَاءِ وَنَحْوُهَا، كَالْمَطْبَخِ وَالْكَنِيفِ

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ حَقٌّ مُقَرَّرٌ عَلَى عَقَارٍ لِمَنْفَعَةِ عَقَارٍ آخَرَ. وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ تَحْصِيلُ مَنَافِعَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ فَالاِرْتِفَاقُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأِنَّهُ يَشْمَلُ انْتِفَاعَ الشَّخْصِ بِالْعَقَارِ فَضْلاً عَنِ انْتِفَاعِ الْعَقَارِ بِالْعَقَارِ.

وَاَلَّذِي يُسْتَفَادُ مِمَّا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي صُوَرِ الاِرْتِفَاقِ أَنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الاِخْتِصَاصُ:

2 - الاِخْتِصَاصُ: مَصْدَرٌ، اخْتَصَصْتُهُ بِالشَّيْءِ فَاخْتَصَّ هُوَ بِهِ وَمَتَى اخْتَصَّ شَخْصٌ بِشَيْءٍ فَقَدِ امْتَنَعَ عَلَى غَيْرِهِ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنْهُ، فَالْفَرْقُ، عَدَا شَرْطِ الإْذْنِ، هُوَ أَنَّ الاِرْتِفَاقَ تُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ فِي الاِنْتِفَاعِ، خِلاَفًا لِلاِخْتِصَاصِ، كَمَا أَنَّ الاِرْتِفَاقَ تَغْلِبُ عَلَيْهِ الدَّيْمُومَةُ، أَمَّا الاِخْتِصَاصُ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ عَدَمُهَا.

ب - الْحِيَازَةُ أَوِ الْحَوْزُ:

3 - مِنْ مَعَانِي الْحِيَازَةِ أَوِ الْحَوْزِ لُغَةً: الْجَمْعُ وَالضَّمُّ.

وَاصْطِلاَحًا: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَيْهِ.

ج - الْحُقُوقُ:

4 - الْحُقُوقُ جَمْعُ حَقٍّ، وَالْحَقُّ لُغَةً: الأْمْرُ الثَّابِتُ الْمَوْجُودُ. وَاصْطِلاَحًا يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا ثَبَتَ لإِنْسَانٍ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ مِنْ أَجْلِ صَالِحِهِ.

وَمِمَّا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَمَا يُذْكَرُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ مِنْ قَوْلِهِ بِحُقُوقِهِ وَمَرَافِقِهِ: فَحُقُوقُهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَسِيلِ الْمَاءِ وَطَرِيقِ غَيْرِهِ وِفَاقًا، وَمَرَافِقُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَنَافِعُ الدَّارِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمَرَافِقُ: هِيَ الْحُقُوق.

فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرَافِقُ وَالْحُقُوقُ سَوَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَرَافِقُ أَعَمُّ، لأِنَّهَا تَوَابِعُ الدَّارِ مِمَّا يُرْتَفَقُ بِهِ، كَالْمُتَوَضِّئِ، وَالْمَطْبَخِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ، وَحَقُّ الشَّيْءِ تَابِعٌ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، كَالطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ فَهُوَ أَخَصُّ.

صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ):

5 - الْحُكْمُ الأْصْلِيُّ لِلاِرْتِفَاقِ الإْبَاحَةُ، مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُرْتَفِقِ ضَرَرٌ، أَوْ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَمَّا الإْرْفَاقُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ لِحَضِّهِ عَلَيْهِ، حَيْثُ قَالَ: «لاَ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ» وَقَالَ صلي الله عليه وسلم «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ خَافَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».

أَنْوَاعُهُ مِنْ حَيْثُ قَابِلِيَّةُ رُجُوعِ الْمُرْفِقِ:

6 - الإْرْفَاقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا بِزَمَنٍ كَسَنَةٍ، أَوْ عَشْرِ سِنِينَ، أَوْ إِلَى الأْبَدِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ اُتُّبِعَ، وَكَانَ لاَزِمًا لِلْمُرْفِقِ، لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الإْرْفَاقُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِأَجَلٍ، وَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ قَدْرُ مَا يُعَدُّ ارْتِفَاقًا بَيْنَ الْجِيرَانِ، بِأَنْ يَتْرُكَ مُدَّةً يَنْتَفِعُ فِيهَا عَادَةً أَمْثَالُهُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الإْرْفَاقُ بِالْغَرْزِ، أَوْ فَتْحِ بَابٍ، أَوْ سَقْيِ مَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَإِعَادَةِ عَرْصَةٍ لِلْبِنَاءِ.

وَيَأْتِي تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الرُّجُوعِ فِي (ف 24)

أَسْبَابُ الاِرْتِفَاقِ:

7 - يَنْشَأُ الاِرْتِفَاقُ عَنْ إِذْنِ الشَّارِعِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلأْمْوَالِ الْعَامَّةِ، أَوِ الْمُبَاحَاتِ كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَغَيْرِهِ، أَوْ إِذْنِ الْمَالِكِ بِالنِّسْبَةِ لِلأْمْوَالِ الْخَاصَّةِ، أَوْ بِاقْتِضَاءِ التَّصَرُّفِ بِثُبُوتِ الاِرْتِفَاقِ كَمَا فِي الإْجَارَةِ وَالْوَقْفِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ الاِنْتِفَاعَ بِحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ، وَقَدْ يَثْبُتُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ دُونَ مَعْرِفَةِ سَبَبِ نُشُوئِهِ، وَذَلِكَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عَلَيْهِ.

الاِرْتِفَاقُ بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَالأْوْلَوِيَّةُ فِيهِ:

8 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: يَجُوزُ الاِرْتِفَاقُ بِالْقُعُودِ فِي الْوَاسِعِ مِنَ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ وَالرِّحَابِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضِيقُ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، لاِتِّفَاقِ أَهْلِ الأْمْصَارِ فِي جَمِيعِ الأْعْصَارِ عَلَى إِقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلأِنَّهُ ارْتِفَاقٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ كَالاِجْتِيَازِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي السَّابِقِ إِلَى دَكَاكِينِ السُّوقِ (أَيِ الأْمَاكِنِ الْمُعَدَّةِ لِلْبَاعَةِ غَيْرِ الدَّائِمِينَ) غَدْوَةً: فَهُوَ لَهُ إِلَى اللَّيْلِ. وَكَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم «مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» وَلَهُ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ... فَإِنْ قَامَ وَتَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ إِزَالَتُهُ، لأِنَّ يَدَ الأْوَّلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَقَلَ مَتَاعَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْعُدَ فِيهِ، لأِنَّ يَدَهُ قَدْ زَالَتْ، وَإِنْ قَعَدَ وَأَطَالَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، لأِنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ، وَيَخْتَصُّ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لاَ يُزَالُ، لأِنَّهُ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ. وَإِنْ اسْتَبَقَ اثْنَانِ إِلَيْهِ احْتَمَلَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُقَدِّمَ الإْمَامُ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْجَالِسُ يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ، وَلاَ يَحِلُّ لِلإْمَامِ تَمْكِينُهُ بِعِوَضٍ وَلاَ غَيْرِهِ.

وَبِنَحْوِ ذَلِكَ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ قَالَ الرَّمْلِيُّ: (وَمَنْ أَلِفَ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ النَّاسَ، أَوْ يُقْرِئُ فِيهِ قُرْآنًا، أَوْ عِلْمًا شَرْعِيًّا، أَوْ آلَةً لَهُ، أَوْ لِتَعَلُّمِ مَا ذُكِرَ كَسَمَاعِ دَرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ مُدَرِّسٍ فَهُوَ كَالْجَالِسِ فِي الشَّارِعِ لِمُعَامَلَةٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يُفِيدَ أَوْ يَسْتَفِيدَ. بَلْ هُوَ أَوْلَى مِمَّنْ يَجْلِسُ فِي الشَّارِعِ لِمُعَامَلَةٍ، لأِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي مُلاَزَمَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَأْلَفَهُ النَّاسُ. وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَطَنًا... مَخْصُوصٌ بِمَا عَدَا ذَلِكَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ إِذْنُ الإْمَامِ، وَإِذَا غَابَ الْمُدَرِّسُ فَلِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِي مَكَانِهِ، حَتَّى لاَ تَتَعَطَّلَ مَنْفَعَتُهُ).

وَلَوْ سَبَقَ رَجُلٌ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْ رِبَاطٍ مُسَبَّلٍ وَانْطَبَقَ عَلَيْهِ شَرْطُهُ، أَوْ فَقِيهٌ إِلَى مَدْرَسَةٍ، أَوْ مُتَعَلِّمُ قُرْآنٍ إِلَى مَا بُنِيَ لَهُ، أَوْ صُوفِيٌّ إِلَى خَانِقَاهُ لَمْ يُزْعَجْ وَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ مِنْهُ بِخُرُوجِهِ لِشِرَاءِ حَاجَةٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الأْعْذَارِ، وَلَوْ لَمْ يَتْرُكْ مَتَاعًا وَلاَ نَائِبًا. وَمَتَى عَيَّنَ الْوَاقِفُ مُدَّةً لِلإْقَامَةِ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَفِقِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ، لأِنَّ الْعُرْفَ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يُرِدْ خُلُوَّ الْمَدْرَسَةِ، وَكَذَا يُعْمَلُ بِالْعُرْفِ فِي كُلِّ شَرْطٍ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَلاَ يُزَادُ فِي رِبَاطٍ مُدَّةٌ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ.

9 - هَذَا وَقَدْ فَصَّلَ كُلٌّ مِنَ الْمَاوَرْدِيِّ وَأَبِي يَعْلَى بَيَانَ الاِرْتِفَاقِ بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَلاَ سِيَّمَا مِنْ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَى إِذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ عَدَمُهَا فَقَالاَ: وَأَمَّا الإْرْفَاقُ فَهُوَ مِنِ ارْتِفَاقِ النَّاسِ بِمَقَاعِدِ الأْسْوَاقِ، وَأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ، وَحَرِيمِ الأْمْصَارِ، وَمَنَازِلِ الأْسْفَارِ فَتَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَخْتَصُّ الاِرْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِيِ وَالْفَلَوَاتِ، وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ الاِرْتِفَاقُ فِيهِ بِأَفْنِيَةِ الأْمْلاَكِ، وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ بِالشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ.

وَالْقِسْمُ الأْوَّلُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لاِجْتِيَازِ السَّابِلَةِ وَاسْتِرَاحَةِ الْمُسَافِرِينَ فِيهِ فَلاَ نَظَرَ لِلسُّلْطَانِ فِيهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ وَضَرُورَةِ السَّابِلَةِ فِيهِ. وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ السُّلْطَانُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إِصْلاَحُ عَوْرَتِهِ «خَلَلِهِ» وَحِفْظُ مِيَاهِهِ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَنُزُولُهُ، وَيَكُونُ السَّابِقُ إِلَى الْمَنْزِلِ أَحَقَّ بِحُلُولِهِ مِنَ الْمَسْبُوقِ حَتَّى يَرْتَحِلَ. فَإِنْ وَرَدُوهُ عَلَى سَوَاءٍ وَتَنَازَعُوا فِيهِ، نَظَرَ فِي التَّعْدِيلِ بَيْنَهُمْ بِمَا يُزِيلُ تَنَازُعَهُمْ. وَكَذَلِكَ الْبَادِيَةُ إِذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا طَلَبًا لِلْكَلأَ وَارْتِفَاقًا بِالْمَرْعَى وَانْتِقَالاً مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ كَانُوا فِيمَا تَرَكُوهُ وَارْتَحَلُوا عَنْهُ كَالسَّابِلَةِ لاَ اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ فِي تَنَقُّلِهِمْ وَرَعْيِهِمْ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي. أَنْ يَقْصِدُوا بِنُزُولِهِمْ بِهَا الإْقَامَةَ وَالاِسْتِيطَانَ، فَلِلسُّلْطَانِ فِي نُزُولِهِمْ بِهَا نَظَرٌ يُرَاعَى فِيهِ الأْصْلَحُ فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالسَّابِلَةِ مُنِعُوا مِنْهَا قَبْلَ النُّزُولِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالسَّابِلَةِ رَاعَى الأْصْلَحَ فِي نُزُولِهِمْ بِهَا أَوْ مَنَعَهُمْ مِنْهَا وَنَقَلَ غَيْرَهُمْ إِلَيْهَا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ حِينَ مَصَّرَ الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ. نَقَلَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمِصْرَيْنِ مَنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، لِئَلاَّ يَجْتَمِعَ فِيهِ الْمُسَافِرُونَ، فَيَكُونَ سَبَبًا لاِنْتِشَارِ الْفِتْنَةِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، كَمَا يُفْعَلُ فِي إِقْطَاعِ الْمَوَاتِ مَا يُرَى، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنُوهُ حَتَّى نَزَلُوا فِيهِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُ. كَمَا لاَ يَمْنَعُ مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَدَبَّرَهُمْ بِمَا يَرَاهُ صَلاَحًا لَهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ إِحْدَاثِ زِيَادَةٍ مِنْ بَعْدُ، إِلاَّ عَنْ إِذْنِهِ. رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي عُمْرَتِهِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَكَلَّمَهُ أَهْلُ الْمِيَاهِ فِي الطَّرِيقِ أَنْ يَبْنُوا مَنَازِلَ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُمْ، وَاشْتَرَطَ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ وَالظِّلِّ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِأَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالأْمْلاَكِ. يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِأَرْبَابِهَا مُنِعَ الْمُرْتَفِقُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِمْ فَفِي إِبَاحَةِ ارْتِفَاقِهِمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ قَوْلاَنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُمُ الاِرْتِفَاقَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَرْبَابُهَا، لأِنَّ الْحَرِيمَ مِرْفَقٌ إِذَا وَصَلَ أَهْلُهُ إِلَى حَقِّهِمْ مِنْهُ سَاوَاهُمْ النَّاسُ فِيمَا عَدَاهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِرْتِفَاقُ بِحَرِيمِهِمْ إِلاَّ عَنْ إِذْنِهِمْ، لأِنَّهُ تَبَعٌ لأِمْلاَكِهِمْ فَكَانُوا بِهِ أَحَقَّ وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَخَصَّ.

وَأَمَّا حَرِيمُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الاِرْتِفَاقُ بِهَا مُضِرًّا بِأَهْلِ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ مُنِعُوا مِنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ، لأِنَّ الْمُصَلِّينَ بِهَا أَحَقُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُضِرًّا جَازَ ارْتِفَاقُهُمْ بِحَرِيمِهَا.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ فَكِلاَهُمَا فِيهِ لاَ يَخْرُجُ عَمَّا سَبَق.

حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

10 - تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُطْلِقُونَ الاِرْتِفَاقَ عَلَى مَا يَرْتَفِقُ بِهِ، وَيَخْتَصُّ بِمَا هُوَ مِنْ التَّوَابِعِ،كَالشُّرْبِ وَمَسِيلِ الْمَاءِ وَالطَّرِيقِ وَالْمُرُورِ وَالْمَجْرَى وَالْجِوَارِ، وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ خَصَّ الاِرْتِفَاقَ بِمَنَافِعِ الدَّارِ. وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ مُصْطَلَحٌ خَاصٌّ بِهِ، وَلِذَلِكَ فَيَكْفِي هُنَا أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَافِقِ، وَيُبَيِّنَ حُكْمَهُ، عَلَى أَنْ يَتْرُكَ التَّفْصِيلَ لِلْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ.

الشُّرْبُ:

11 - الشُّرْبُ: لُغَةً النَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ النَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ لِلأْرَاضِيِ لاَ لِغَيْرِهَا.

وَرُكْنُهُ الْمَاءُ لأِنَّهُ يَقُومُ بِهِ.

وَشَرْطُ حِلِّهِ أَنْ يَكُونَ ذَا حَظٍّ مِنَ الشُّرْبِ.

وَحُكْمُهُ الإْرْوَاءُ، لأِنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يُفْعَلُ لأِجْلِهِ.

مَسِيلُ الْمَاءِ:

12 - الْمَسِيلُ: الْمَجْرَى وَمَسِيلُ الْمَاءِ مَجْرَاهُ وَإِذَا كَانَ لِشَخْصٍ مَجْرَى مَاءٍ جَارٍ أَوْ سِيَاقِ مَاءٍ بِحَقٍّ قَدِيمٍ فِي مِلْكِ شَخْصٍ آخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ مَنْعُهُ. وَإِذَا كَانَ لِدَارٍ مَسِيلُ مَطَرٍ عَلَى دَارِ جَارٍ مِنْ قَدِيمٍ فَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ، وَصُورَةُ حَقِّ الْمَسِيلِ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ أَرْضٌ لَهَا مَجْرَى مَاءٍ فِي أَرْضٍ أُخْرَى.

حَقُّ التَّسْيِيلِ:

13 - صُورَتُهُ أَنْ تَكُونَ لِشَخْصٍ دَارٌ لَهَا حَقُّ تَسْيِيلِ

الْمَاءِ عَلَى أَسْطُحَةِ دَارٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى أَرْضِ دَارٍ أُخْرَى

الطَّرِيقُ:

14 - فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الطُّرُقَ ثَلاَثَةٌ: طَرِيقٌ إِلَى الطَّرِيقِ الأْعْظَمِ، وَطَرِيقٌ إِلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَطَرِيقٌ خَاصٌّ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ وَسَيَأْتِي أَحْكَامُ التَّصَرُّفِ فِيهَا.

حَقُّ الْمُرُورِ:

15 - هُوَ أَنْ يَكُونَ لِشَخْصٍ حَقُّ الْمُرُورِ فِي أَرْضِ شَخْصٍ آخَرَ.

وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ (1225) مِنْ مَجَلَّةِ الأْحْكَامِ: «إِذَا كَانَ لأِحَدٍ حَقُّ الْمُرُورِ فِي عَرْصَةِ آخَرَ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْمُرُورِ وَالْعُبُورِ».

وَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1224) عَلَى حُكْمٍ عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِ الْحُقُوقِ فِي الْمَرَافِقِ، هُوَ: «يُعْتَبَرُ الْقِدَمُ فِي حَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ الْمَجْرَى وَحَقِّ الْمَسِيلِ. يَعْنِي تُتْرَكُ هَذِهِ الأْشْيَاءُ وَتَبْقَى عَلَى وَجْهِهَا الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ، لأِنَّ الشَّيْءَ الْقَدِيمَ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ بِحُكْمِ الْمَادَّةِ (6) وَلاَ يَتَغَيَّرُ إِلاَّ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلاَفِهِ. أَمَّا الْقَدِيمُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ. يَعْنِي إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَعْمُولُ بِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي الأْصْلِ فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا، وَيُزَالُ إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ. مَثَلاً إِذَا كَانَ لِدَارٍ مَسِيلٌ قَذِرٌ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَلَوْ مِنَ الْقَدِيمِ، وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ لِلْمَارَّةِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ يُرْفَعُ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِقِدَمِهِ».

وَفِي شَرْحِ الْمَادَّةِ قَالَ الأْتَاسِيُّ: (وَكَذَا لاَ اعْتِبَارَ لِقِدَمِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ،) وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُ خَاصًّا. كَمَا إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ كَوَّةٌ تُشْرِفُ عَلَى مَقَرِّ نِسَاءِ جَارِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِزَالَةُ الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا، كَمَا أَفْتَى فِي الْحَامِدِيَّةِ قَائِلاً: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ حَيْثُ كَانَ الضَّرَرُ بَيِّنًا، فَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا كَمَا إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الْجَارَ أَحْدَثَ الْبِنَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْكَوَّةُ تُشْرِفُ عَلَى أَرْضٍ سَبْخَةٍ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِزَالَةُ الضَّرَرِ.

حَقُّ التَّعَلِّي:

16 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1198) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّ (كُلَّ أَحَدٍ لَهُ التَّعَلِّي عَلَى حَائِطِهِ الْمِلْكِ، وَبِنَاءُ مَا يُرِيدُ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ مَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا فَاحِشًا).

وَقَالَ الأْتَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ: (وَلاَ عِبْرَةَ بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ، كَمَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ، لأِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ. وَفِي الأْنْقِرَوِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حَائِطِ نَفْسِهِ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ وَإِنْ بَلَغَ عَنَانَ السَّمَاءِ). أَقُولُ: هَذَا مُسَلَّمٌ إِذَا كَانَ التَّعَلِّي يَسُدُّ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ عَنْ مِثْلِ سَاحَةِ دَارِ الْجَارِ. أَمَّا إِذَا كَانَ يَسُدُّهُمَا عَنْ سَطْحِ بَيْتِهِ الْمُسَقَّفِ بِالْخَشَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ.

حَقُّ الْجِوَارِ:

17 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1201) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّ: (مَنْعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْحَوَائِجِ الأْصْلِيَّةِ، كَسَدِّ

الْهَوَاءِ وَالنَّظَّارَةِ، أَوْ مَنْعِ دُخُولِ الشَّمْسِ لَيْسَ بِضَرَرٍ فَاحِشٍ، لَكِنْ سَدُّ الضِّيَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ. فَإِذَا أَحْدَثَ رَجُلٌ بِنَاءً فَسُدَّ بِسَبَبِهِ شُبَّاكُ بَيْتِ جَارِهِ، وَصَارَ بِحَالٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ مَعَهَا مِنَ الظُّلْمَةِ، فَلَهُ أَنْ يُكَلَّفَ رَفْعُهُ لِلضَّرَرِ الْفَاحِشِ، وَلاَ يُقَالُ: الضِّيَاءُ مِنَ الْبَابِ كَافٍ، لأِنَّ بَابَ الْبَيْتِ يُحْتَاجُ إِلَى غَلْقِهِ لِلْبَرْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأْسْبَابِ. وَإِنْ كَانَ لِهَذَا الْمَحَلِّ شُبَّاكَانِ فَسُدَّ أَحَدُهُمَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ فَلاَ يَضُرُّ ضَرَرًا فَاحِشًا.

وَالْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ هُوَ تَحَقُّقُ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ مُنِعَ الْعَمَلُ، وَإِلاَّ أُبِيحَ.

تِلْكَ هِيَ حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

18 - وَيُمْكِنُ إِنْشَاءُ حُقُوقِ ارْتِفَاقٍ أُخْرَى غَيْرِهَا حَسْبَمَا يَجْرِي الْعُرْفُ وَاسْتِعْمَالُ النَّاسِ، فَإِنْ حَدَثَتْ حُقُوقُ ارْتِفَاقٍ أُخْرَى بِالاِسْتِعْمَالِ تُطَبَّقُ عَلَيْهَا الأْحْكَامُ السَّابِقَةُ، فَفِي وَسَائِلِ الْمُوَاصَلاَتِ الْعَامَّةِ مَثَلاً كَالْقِطَارَاتِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْمَقَاعِدِ فِي الأْمَاكِنِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهَا، إِمَّا أَنْ يُخَصَّصَ مَقْعَدٌ مُعَيَّنٌ لِكُلِّ رَاكِبٍ أَوْ لاَ، فَإِنْ خُصِّصَ لِكُلِّ رَاكِبٍ مَقْعَدٌ مُعَيَّنٌ فَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُعَيَّنْ الْمَقَاعِدُ لِلرَّاكِبِينَ فَلِكُلِّ رَاكِبٍ أَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَقْعَدِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا الأَْمْرُ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

19 - هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَحْكَامَ الْمَرَافِقِ السَّابِقَةِ، لَكِنْ تَحْتَ عَنَاوِينَ أُخْرَى غَيْرِ الاِرْتِفَاقِ، حَيْثُ أَوْرَدَهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي بَابِ (نَفْيُ الضَّرَرِ وَسَدُّ الذَّرَائِعِ)، وَأَوْرَدَهَا الشَّافِعِيَّةُ فِي بَابِ (تَزَاحُمُ الْحُقُوقِ) وَأَوْرَدَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي بَابِ (الصُّلْحُ)

التَّصَرُّفُ فِي حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ:

20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الطَّرِيقَ نَوْعَانِ: نَافِذٌ، وَغَيْرُ نَافِذٍ. فَالطَّرِيقُ النَّافِذُ مُبَاحٌ لاَ يُمْلَكُ لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ فَتْحُ بَابِ مِلْكِهِ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، فَلِلْعَامَّةِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا لاَ يَضُرُّ الْمَارَّةَ.

وَأَمَّا غَيْرُ النَّافِذِ فَهُوَ مِلْكُ مَنْ نَفَذَتْ أَبْوَابُهُمْ إِلَيْهِ، لاَ مَنْ لاَصَقَهُ جُدْرَانُهُمْ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ أَبْوَابِهِمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ نَفَذَتْ أَبْوَابُهُمْ إِلَيْهِ فَهُمُ الْمُلاَّكُ وَهُمْ شُرَكَاءُ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ إِشْرَاعُ جَنَاحٍ فِيهِ، أَوْ بَابٍ لِلاِسْتِطْرَاقِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ. وَهَذَا فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

21 - وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْعَ الشُّرْبِ، أَوْ بَعْضَهُ، وَبَيْعَ حُقُوقِ الأَْمْلاَكِ، كَحَقِّ الْمُرُورِ، وَحَقِّ الْمَجْرَى، وَحَقِّ التَّعَلِّي، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ، وَجَوَّزُوا الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، إِرْفَاقًا بِالنَّاسِ، لَكِنِ اشْتَرَطُوا فِي حَقِّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى السُّطُوحِ وَإِجَارَتِهِ وَإِعَارَتِهِ أَنْ تُعْرَفَ السُّطُوحُ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا وَمِنْهَا، كَمَا أَجَازُوا إِعَارَةَ الْعُلُوِّ مِنْ جِدَارٍ وَنَحْوِهِ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَإِجَارَتَهُ لِذَلِكَ كَسَائِرِ الأَْعْيَانِ الَّتِي تُعَارُ وَتُؤْجَرُ، فَإِنْ بَاعَهُ حَقَّ الْبِنَاءِ أَوِ الْعُلُوِّ الْمَعْلُومِ اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ عَلَيْهِ.

22 - أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الطُّرُقَ ثَلاَثَةٌ:

طَرِيقٌ إِلَى الطَّرِيقِ الأْعْظَمِ، وَطَرِيقٌ إِلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَطَرِيقٌ خَاصٌّ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ، فَالأْخِيرُ لاَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِلاَ ذِكْرِهِ أَوْ ذِكْرِ الْحُقُوقِ أَوِ الْمَرَافِقِ. وَالأْوَّلاَنِ يَدْخُلاَنِ بِلاَ ذِكْرٍ. وَالْمُرَادُ بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ لاَ حَقِّ الْمُرُورِ، فَإِذَا كَانَتْ دَارُهُ دَاخِلَ دَارِ رَجُلٍ، وَكَانَ لَهُ طَرِيقٌ فِي دَارِ ذَلِكَ الرَّجُلِ إِلَى دَارِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْمُرُورِ فَقَطْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ رَقَبَةُ الطَّرِيقِ، فَإِذَا بَاعَ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ صَحَّ، فَإِنْ حَدَّ فَظَاهِرٌ، وَإِلاَّ فَلَهُ بِقَدْرِ عَرْضِ الْبَابِ الْعُظْمَى.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الطَّرِيقِ وَاَلَّذِي يَكُونُ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ أَنَّ الطَّرِيقَ الأْوَّلَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ، وَالثَّانِي مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ السِّكَّةِ، وَفِيهِ أَيْضًا حَقٌّ لِلْعَامَّةِ.

وَلاَ يُبَاعُ الشُّرْبُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُؤْجَرُ وَلاَ يُتَصَدَّقُ بِهِ إِلاَّ تَبَعًا لِلأْرْضِ، لأِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَنُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَيَنْفُذُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ.

23 - أَمَّا حَقُّ الْمَسِيلِ فَإِذَا كَانَ مُحَدَّدًا بِبَيَانِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُبَيَّنٍ فَلاَ يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ. أَمَّا بَيْعُ الرَّقَبَةِ فَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيْعِ حَقِّ الْمَسِيلِ مَعَهُ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ تَحْدِيدُهُ، وَيَصِحُّ بَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ تَبَعًا لِلأْرْضِ بِلاَ خَوْفٍ، وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَحْدَهُ فِي رِوَايَةٍ، وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، قَالَ السَّائِحَانِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ حَقِّ التَّعَلِّي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّ الْمُرُورِ، أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الأْرْضِ وَهِيَ مَالٌ هُوَ عَيْنٌ، أَمَّا حَقُّ التَّعَلِّي فَمُتَعَلِّقٌ بِالْهَوَاءِ، وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْنٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ

وَحْدَهُ وَصَحَّحَهُ أَبُو اللَّيْثِ.

وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ حَقِّ الشُّرْبِ إِلاَّ تَبَعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي الْفَتْحِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ، قَالَ فِي الْخَانِيَّةِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا لاَ بَاطِلاً، لأِنَّ بَيْعَهُ يَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ.

أَحْكَامُ رُجُوعِ الْمُرْفِقِ وَأَثَرِهِ عَلَى الاِرْتِفَاقِ:

24 - الْمُعْتَمَدُ فِي الإْرْفَاقِ بِالْغَرْزِ أَنَّهُ لاَ رُجُوعَ فِيهِ بَعْدَ الإْذْنِ، طَالَ الزَّمَانُ أَوْ قَصُرَ، عَاشَ أَوْ مَاتَ (الْمُرْتَفِقُ)، إِلاَّ أَنْ يَنْهَدِمَ الْجِدَارُ فَلاَ يُعِيدُ الْغَرْزَ إِلاَّ بِإِرْفَاقٍ جَدِيدٍ، وَأَمَّا إِعَادَةُ الْعَرْصَةِ لِلْبِنَاءِ فَالرَّاجِحُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ بِأَجَلٍ، وَلَوْ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ مَا يُرْفَقُ وَيُعَارُ لِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ، وَلَكِنْ عَلَى الْمُرْفِقِ دَفْعُ مَا أَنْفَقَ الْمُرْتَفِقُ أَوْ قِيمَتِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرْصَةِ وَالْجِدَارِ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى الْقَضَاءَ بِإِعَارَةِ الْجِدَارِ إِذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الإْعَارَةِ ضَرَرٌ، وَهُوَ قَوْلُ الإْمَامِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ كِنَانَةَ وَابْنِ حَنْبَلٍ.

وَمَا ذُكِرَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَرْصَةِ مِنْ جَوَازِ الرُّجُوعِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ.

وَجَعَلَ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ زَرْقُونٍ حُكْمَ الْعَرْصَةِ جَارِيًا فِي الْجِدَارِ أَيْضًا، لأِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ رِجَالٍ فَقَالَ: قَدْ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَذْهَبَ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْجِدَارِ وَالْعَرْصَةِ فِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ صَاحِبَيْهِمَا الرُّجُوعَ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ بِأَجَلٍ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُرْفِقُ كُلًّا مِنْهُمَا مَا أَنْفَقَهُ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يَرْتَفِقُ فِيهَا الْمُعَارُ، فَهُنَاكَ إِذَنْ رَأْيَانِ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْعَرْصَةِ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس عشر ، الصفحة / 216

جِوَارٌ

التَّعْرِيف:

1 - الْجِوَارُ - بِكَسْرِ الْجِيمِ - مَصْدَرُ جَاوَرَ، يُقَالُ: جَاوَرَ جِوَارًا وَمُجَاوَرَةً أَيْضًا. وَمِنْ مَعَانِي الْجِوَارِ الْمُسَاكَنَةُ وَالْمُلاَصَقَةُ، وَالاِعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْعَهْدُ وَالأْمَانُ.

وَمِنَ الْجِوَارِ الْجَارُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: الْمُجَاوِرُ فِي الْمَسْكَنِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْعَقَارِ أَوِ التِّجَارَةِ، وَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَالْحَلِيفُ، وَالنَّاصِرُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَنْ قَارَبَ بَدَنُهُ بَدَنَ صَاحِبِهِ قِيلَ لَهُ: جَارٌ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْجَارُ: مَنْ يَقْرُبُ مَسْكَنُهُ مِنْكَ، وَهُوَ مِنَ الأْسْمَاءِ الْمُتَضَايِفَةِ؛ فَإِنَّ الْجَارَ لاَ يَكُونُ جَارًا لِغَيْرِهِ إِلاَّ وَذَلِكَ الْغَيْرُ جَارٌ لَهُ، كَالأْخِ وَالصَّدِيقِ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ: وَهُوَ الْمُلاَصَقَةُ فِي السَّكَنِ أَوْ نَحْوِهِ كَالْبُسْتَانِ وَالْحَانُوتِ.

الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجِوَارِ :

أ - حَدُّ الْجِوَارِ :

2 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «حَقُّ الْجَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا»

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَارَ هُوَ الْمُلاَصِقُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ أَوِ الْمُقَابِلُ لَهُ بَيْنَهُمَا شَارِعٌ ضَيِّقٌ لاَ يَفْصِلُهُمَا فَاصِلٌ كَبِيرٌ كَسُوقٍ أَوْ نَهْرٍ مُتَّسِعٍ، أَوْ مَنْ يَجْمَعُهُمَا مَسْجِدٌ أَوْ مَسْجِدَانِ لَطِيفَانِ مُتَقَارِبَانِ، إِلاَّ إِذَا دَلَّ الْعُرْفُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْحَدِّ.

وَحَمَلُوا حَدِيثَ: «أَلاَ إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ» عَلَى التَّكْرِمَةِ وَالاِحْتِرَامِ، كَكَفِّ الأْذَى، وَدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْبِشْرِ فِي الْوَجْهِ وَالإْهْدَاءِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ الْجَارَ هُوَ الْمُلاَصِقُ فَقَطْ؛ لأِنَّ الْجَارَ مِنَ الْمُجَاوَرَةِ، وَهِيَ الْمُلاَصَقَةُ حَقِيقَةً. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ هُوَ الْقِيَاسُ.

وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ (أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) إِلَى أَنَّ الْجَارَ هُوَ الْمُلاَصِقُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَجْمَعُهُمُ الْمَسْجِدُ؛ لأِنَّ هُمْ يُسَمَّوْنَ جِيرَانًا عُرْفًا وَشَرْعًا، وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «لاَ صَلاَةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ» وَجَاءَ تَفْسِيرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مَوْقُوفًا بِمَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِرَّ الْجِيرَانِ فَاسْتِحْبَابُهُ شَامِلٌ لِلْمُلاَصِقِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الاِخْتِلاَطِ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْمُجَاوَرَةِ كَانَ لاَ بُدَّ مِنِ اتِّحَادِ الْمَسْجِدِ لِتَحَقُّقِ الاِخْتِلاَطِ.

ب - حُقُوقُ الْجِوَارِ :

3 - جَاءَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ تَحُضُّ عَلَى احْتِرَامِ الْجِوَارِ، وَرِعَايَةِ حَقِّ الْجَارِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا).

فَالْجَارُ ذُو الْقُرْبَى، هُوَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ. وَالْجَارُ الْجُنُبُ: هُوَ الَّذِي لاَ قَرَابَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. أَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا قَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ».

وَقَوْلُهُ صلوات الله عليه وسلم : «وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ. وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ. وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ. قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَأْكِيدُ حَقِّ الْجَارِ لِقَسَمِهِ صلي الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَتَكْرِيرِهِ الْيَمِينَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَفِيهِ نَفْيُ الإْيمَانِ عَمَّنْ يُؤْذِي جَارَهُ بِالْقَوْلِ، أَوْ بِالْفِعْلِ، وَمُرَادُهُ الإْيمَانُ الْكَامِلُ. وَلاَ شَكَّ أَنَّ الْعَاصِيَ غَيْرُ كَامِلِ الإْيمَانِ.

وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ». وَقَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» هَذَا وَاسْمُ (الْجَارِ) جَاءَ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ، وَغَيْرَ الْمُسْلِمِ، وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ، وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ، وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَالْقَرِيبَ وَالأْجْنَبِيَّ، وَالأْقْرَبَ دَارًا وَالأْبْعَدَ، وَلَهُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ.

قَالَ أَحْمَدُ: الْجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ الذِّمِّيُّ الأْجْنَبِيُّ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ. وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ: وَهُوَ الْمُسْلِمُ الأْجْنَبِيُّ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الإْسْلاَمِ. وَجَارٌ لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ: وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الإْسْلاَمِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ.

وَأَوْلَى الْجِوَارِ بِالرِّعَايَةِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَهُمْ بَابًا. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ حِينَ قَالَ: بَابٌ: حَقُّ الْجِوَارِ فِي قُرْبِ الأْبْوَابِ. وَأَدْرَجَ تَحْتَهُ حَدِيثَ «عَائِشَةَ رضي الله عنها. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا».

وَمِنْ حُقُوقِ الْجِوَارِ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ حَقُّ الْجِوَارِ كَفَّ الأْذَى فَقَطْ، بَلِ احْتِمَالُ الأْذَى، فَإِنَّ الْجَارَ أَيْضًا قَدْ كَفَّ أَذَاهُ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ قَضَاءُ حَقٍّ وَلاَ يَكْفِي احْتِمَالُ الأْذَى، بَلْ لاَ بُدَّ مِنَ الرِّفْقِ، وَإِسْدَاءِ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ.. وَمِنْهَا: أَنْ يَبْدَأَ جَارَهُ بِالسَّلاَمِ، وَيَعُودَهُ فِي الْمَرَضِ، وَيُعَزِّيَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَيُهَنِّئَهُ عِنْدَ الْفَرَحِ، وَيُشَارِكَهُ السُّرُورَ بِالنِّعْمَةِ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ زَلاَّتِهِ، وَيَغُضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَارِمِهِ، وَيَحْفَظَ عَلَيْهِ دَارَهُ إِنْ غَابَ، وَيَتَلَطَّفَ بِوَلَدِهِ، وَيُرْشِدَهُ إِلَى مَا يَجْهَلُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.. هَذَا إِلَى جُمْلَةِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْمُجَاوَرَةَ تُوجِبُ لِكُلٍّ مِنَ الْحَقِّ مَا لاَ يَجِبُ لأِجْنَبِيٍّ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا لاَ يَحْرُمُ عَلَى الأْجْنَبِيِّ. فَيُبِيحُ الْجِوَارُ الاِنْتِفَاعَ بِمِلْكِ الْجَارِ الْخَالِي مِنْ ضَرَرِ الْجَارِ، وَيَحْرُمُ الاِنْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْجَارِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ.

حَقُّ الْجِوَارِ فِي الْمَسِيلِ :

9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِجَارٍ حَقُّ الْمَسِيلِ عَلَى مِلْكِ جَارِهِ فَلَيْسَ لِمَنْ عَلَيْهِ حَقُّ الْمَسِيلِ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ مِنْ هَذَا الْحَقِّ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (ارْتِفَاقٌ) (وَمَسِيلٌ).

حَقُّ الْجِوَارِ فِي النَّهْرِ :

11 - الْمُرَادُ بِهِ مَا يَنْشَأُ لِلْجِوَارِ عَلَى النَّهْرِ، وَمَا لِلنَّهْرِ عَلَى الْجِوَارِ، بِسَبَبِ الْجِوَارِ. وَإِنَّ مَدَارَ هَذَا الْحَقِّ مَبْنِيٌّ عَلَى نَوْعَيِ الأْنْهَارِ الْعَامَّةِ وَالْمَمْلُوكَةِ.

وَلِجَارِ النَّهْرِ الْعَظِيمِ، كَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتِ، أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ، وَدَوَابَّهُ، وَيَنْصِبَ عَلَى النَّهْرِ دُولاَبًا وَيَشُقَّ نَهْرًا إِلَى أَرْضِهِ لِسِقَايَتِهَا؛ لأِنَّ هَذِهِ الأْنْهَارَ لَيْسَتْ مِلْكًا لأِحَدٍ.

وَيَجُوزُ لَهُ غَرْسُ شَطِّهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ وَلِمَنْ شَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَطْلُبَ رَفْعَ ذَلِكَ.

وَعَلَى الْجَارِ أَنْ يُمَكِّنَ النَّاسَ مِنْ حَقِّ الْمُرُورِ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ الْعَامِّ لِلسَّقْيِ، وَإِصْلاَحِ النَّهْرِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَرِيقٌ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الأْرْضِ.

أَمَّا النَّهْرُ الْمَمْلُوكُ، وَكَذَلِكَ الآْبَارُ وَالْحِيَاضُ الْمَمْلُوكَةُ، فَإِنَّ لِلْجَارِ أَنْ يَشْرَبَ مِنَ الْمَاءِ، وَيَسْقِيَ دَوَابَّهُ وَهُوَ مَا يُسَمَّى حَقَّ الشَّفَةِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ، وَيَغْتَسِلَ، وَيَغْسِلَ ثِيَابَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ، وَشَجَرَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَيُجْبَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْبَذْلِ إِنْ كَانَ لِجَارِهِ زَرْعٌ أَنْشَأَهُ عَلَى أَصْلِ الْمَاءِ، وَانْهَدَمَتْ بِئْرُ زَرْعِهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ الْهَلاَكُ مِنَ الْعَطَشِ، وَشَرَعَ فِي إِصْلاَحِ بِئْرِهِ، فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَمْ يُجْبَرْ، وَفِي قَبْضِ ثَمَنِ الْمَاءِ قَوْلاَنِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِ الْمَاءِ مَجَّانًا، وَلَوْ وَجَدَ مَعَ الْجَارِ الثَّمَنَ. وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَهْرٌ).

الْحَائِطُ (الْبُسْتَانُ) :

مَعْلُومِيَّةُ الْحَائِطِ فِي الْمُسَاقَاةِ :

15 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْحَائِطِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهَا - أَنْ يَكُونَ شَجَرُ الْحَائِطِ مَعْلُومًا إِمَّا بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْوَصْفِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى بُسْتَانٍ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ، أَوْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ؛ لأِنَّ هَا مُعَاوَضَةٌ يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِيهَا بِاخْتِلاَفِ الأْعْيَانِ فَلَمْ تَجُزْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ.

بِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وُرُودُهَا عَلَى مُعَيَّنٍ مَرْئِيٍّ لِلْمَالِكِ وَالْعَامِلِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى مُبْهَمٍ لَمْ يَصِحَّ أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمَرْئِيِّ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَالْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: مُسَاقَاةٌ).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس والعشرون ، الصفحة / 370

شِرْب

التَّعْرِيفُ:

1 - الشِّرْبُ فِي اللُّغَةِ: الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ.

قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ صَالِحٍ عليه الصلاة والسلام: ) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) .

وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ عَيْنِهِ، وَعَلَى النَّوْبَةِ. وَهِيَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لاِسْتِحْقَاقِ الشُّرْبِ، وَعَلَى الْمَوْرِدِ، وَالْجَمْعُ أَشْرَابٌ .

وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: نَوْبَةُ الاِنْتِفَاعِ، أَوْ زَمَنُ الاِنْتِفَاعِ بِالشِّرْبِ لِسَقْيِ الشَّجَرِ أَوِ الزَّرْعِ.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الشَّفَةُ:

2 - وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُهُ الإْنْسَانُ مِنَ الْمَاءِ لِدَفْعِ عَطَشٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ لِلطَّبْخِ أَوِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِسَقْيِ الْمَوَاشِي وَالدَّوَابِّ لِدَفْعِ الْعَطَشِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُنَاسِبُهَا .

الْحُكْمُ الإْجْمَالِيُّ:

أَنْوَاعُ الْمِيَاهِ بِالنِّسْبَةِ لِحَقَّيِ الشِّرْبِ وَالشَّفَةِ:

تَنْقَسِمُ الْمِيَاهُ بِالنَّظَرِ إِلَى تَمَلُّكِهَا وَالاِنْتِفَاعِ بِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الأْوَّلُ: الْمَاءُ الْعَامُّ:

3 - وَهُوَ النَّابِعُ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ وَلاَ صُنْعَ لِلآْدَمِيِّينَ فِي إِنْبَاطِهِ وَإِجْرَائِهِ كَالأْنْهَارِ الْكَبِيرَةِ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَسَائِرِ أَوْدِيَةِ الْعَالَمِ وَالْعُيُونِ فِي الْجِبَالِ، فَهَذَا النَّوْعُ حَقٌّ لِلنَّاسِ جَمِيعًا وَلَيْسَ لأِحَد مِلْكٌ فِي الْمَاءِ وَلاَ فِي الْمَجْرَى.

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ بِالشَّفَةِ وَالشِّرْبِ، وَلَهُ شَقُّ الْجَدَاوِلِ مِنَ الأْنْهَارِ وَنَحْوِهَا، وَنَصْبُ آلاَتِ السَّقْيِ عَلَيْهَا لإِجْرَاءِ الْمِيَاهِ لأِرْضِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وَسَائِلِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَاءِ.

وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ وَلاَ لِغَيْرِهِ مَنْعُ أَحَدٍ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ بِكُلِّ الْوُجُوهِ، إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى فِعْلِهِ ضَرَرٌ عَلَى النَّهْرِ أَوِ الْجَمَاعَةِ .

لِخَبَرِ «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ فِي الْكَلأَ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ» . فَإِنْ أَضَرَّ فِعْلُهُ بِالْعَامَّةِ فَلِلْحَاكِمِ إِزَالَةُ الْقَدْرِ الضَّارِّ مِنْ فِعْلِهِ؛ لأِنَّهُ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِمْ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ لِحَدِيثِ «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» وَلِلْعَامَّةِ أَيْضًا مَنْعُهُ مِنَ الإْضْرَارِ بِحَقِّهِمْ .

وَإِنْ حَضَرَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا شَاءَ.

وَإِنْ قَلَّ الْمَاءُ أَوْ ضَاقَ الْمَشْرَعُ قُدِّمَ السَّابِقُ، فَإِنْ جَاءَا مَعًا أَقُرِعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنِ احْتَاجَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَاءِ لِسَقْيِ الأْرْضِ، وَالْبَعْضُ الآْخَرُ لِلشُّرْبِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ دَوَابِّهِ قُدِّمَ الْمُحْتَاجُ لِلشُّرْبِ.

قِسْمَةُ الْمِيَاهِ الْعَامَّةِ:

4 - إِذَا أَرَادَ قَوْمٌ سَقْيَ أَرَاضِيهِمْ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمِيَاهِ، فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ عَظِيمًا وَالْمَشْرَعُ وَاسِعًا يَفِي بِالْجَمِيعِ سَقَى مَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ.

وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلاً أَوْ ضَاقَ الْمَشْرَعُ، سَقَى الأْوَّلُ أَرْضَهُ ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِلَى الثَّانِي، ثُمَّ الثَّانِي إِلَى الثَّالِثِ، وَهَكَذَا.

هَذَا إِذَا كَانَ الأْوَّلُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الإْحْيَاءِ عَلَى الأْسْفَلِ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي الإْحْيَاءِ، أَمَّا إِنْ تَقَدَّمَ الأْسْفَلُ فَيُقَدَّمُ هُوَ .

فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنِ الأْوَّلِ شَيْءٌ أَوْ عَنِ الثَّانِي أَوْ عَنْ مَنْ يَلِيهِمْ فَلاَ شَيْءَ لِلْبَاقِينَ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ مَا فَضَلَ فَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ كَالْعَصَبَةِ فِي الْمِيرَاثِ . وَالأْصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رضي الله عنهما - قَالَ: «إِنَّ رَجُلاً مِنَ الأْنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ صلي الله عليه وسلم : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الأْنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجُدُرِ وَقَالَ الزُّبَيْرُ فَوَاَللَّهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَظَرْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْجُدُرِ فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ».

5 - وَإِنِ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ اقْتَسَمَا الْمَاءَ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَدَّمُ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَفْضُلُ عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ تَرَكَهُ لِلآْخَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ جَمِيعَ الْمَاءِ؛ لأِنَّ الآْخَرَ يُسَاوِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي الاِسْتِيفَاءِ أَوَّلاً. لاَ فِي أَصْلِ الْحَقِّ بِخِلاَفِ الأْعْلَى مَعَ الأْسْفَلِ.

فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْضِ الآْخَرِ قُسِمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الأَْرْضِ، لأِنَّ الزَّائِدَ مِنْ أَرْضِ أَحَدِهِمَا مُسَاوٍ فِي الْقُرْبِ، فَاسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنَ الْمَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ .

6 - وَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ حَقُّ الشُّرْبِ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ أَوْ سَيْلٍ وَأَحْيَا غَيْرُهُمْ أَرْضًا مَوَاتًا أَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ النَّهْرِ مِنْ أَرْضِهِمْ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَهُمْ لأِنَّهُمْ أَسْبَقُ مِنْهُ إِلَى النَّهْرِ، وَ لأِنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَهَا بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا، وَالْمَاءُ أَهَمُّ الْمَرَافِقِ، فَلاَ يَمْلِكُ إِبْطَالَ حُقُوقِهَا، وَالشُّرْبُ مِنْ حُقُوقِهَا .

كَرْيُ الأَنْهَارِ الْعَامَّةِ:

7 - الْكَرْيُ: إِخْرَاجُ الطِّينِ مِنْ أَرْضِ النَّهْرِ وَحَفْرُهُ وَإِصْلاَحُ ضِفَّتَيْهِ، وَمُؤْنَةُ الْكَرْيِ وَجَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الإْصْلاَحِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، لأِنَّهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، أَجْبَرَ الْحَاكِمُ النَّاسَ عَلَى إِصْلاَحِ النَّهْرِ إِنِ امْتَنَعُوا عَنْهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَتَحْقِيقًا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ .

الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ فِي أَنْهَارٍ وَسَوَاقِي مَمْلُوكَةٍ:

8 - مَنْ يَحْفِرُ نَهْرًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ مِنَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ أَوْ مِنْ نَهْرٍ مُتَفَرِّعٍ مِنْهُ، فَالْمَاءُ فِي هَذَا بَاقٍ عَلَى إِبَاحَتِهِ، وَلَكِنْ مَالِكُ النَّهْرِ أَحَقُّ بِهِ كَالسَّيْلِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ، وَلِغَيْرِهِ حَقُّ الشِّرْبِ مِنْهُ وَالاِسْتِعْمَالِ، وَسَقْيِ الدَّوَابِّ لاَ سَقْيِ أَرْضِهِ وَشَجَرِهِ، فَإِنْ أَبَى صَاحِبُهُ كَانَ لِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ جَبْرًا، وَلَهُ إِنْ مَنَعَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ وَلَوْ بِالسِّلاَحِ لأِنَّ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بِشَرْطِ أَلاَّ يَجِدَ الْمُضْطَرُّ مَاءً مُبَاحًا . لأِثَرِ عُمَرَ - رضي الله عنه - رَوَى أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ، فَلَمْ يَدُلُّوهُمْ عَلَيْهَا فَقَالُوا: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ تَتَقَطَّعُ مِنَ الْعَطَشِ، فَدُلُّونَا عَلَى الْبِئْرِ، وَأَعْطُونَا دَلْوًا نَسْتَقِي، فَلَمْ يَفْعَلُوا فَذُكِرَ ذَلِكَ - لِعُمَرِ رضي الله عنه - فَقَالَ: هَلاَّ وَضَعْتُمِ السِّلاَحَ فِيهِمْ».

وَيَجُوزُ لِغَيْرِ مَالِكِ النَّهْرِ أَنْ يَحْفِرَ فَوْقَ نَهْرِهِ نَهْرًا إِنْ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِ، فَإِنْ ضَيَّقَ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

فَإِنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الْحَفْرِ اشْتَرَكُوا فِي الْمِلْكِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ، فَإِنِ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ النَّهْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمْ مِنَ الأْرْضِ يَكُونُ عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ أَرْضِهِ، فَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرْضِهِ مُتَطَوِّعًا فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الْبَاقِينَ. فَإِنْ أُكْرِهَ أَوْ شَرَطُوا لَهُ عِوَضًا رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِأُجْرَةِ مَا زَادَ، وَلَيْسَ لِلأْعْلَى حَبْسُ الْمَاءِ عَنِ الأْسْفَلِ.

وَإِذَا اقْتَسَمُوا الْمَاءَ بِالأْيَّامِ وَالسَّاعَاتِ جَازَ؛ لأِنَّهُ حَقَّهُمْ لاَ يَخْرُجُ عَنْهُمْ، وَإِنْ تَشَاحُّوا فِي قِسْمَتِهِ قَسَمَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْلاَكِهِمْ لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمْلِكُ مِنَ النَّهْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْصِبَ خَشَبَةً فِي عَرْضِ النَّهْرِ فِيهَا ثُقُوبٌ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ. وَلَيْسَ لأِحَدهِمُ التَّصَرُّفُ فِي النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمْ بِتَوْسِيعِ فَمِ النَّهْرِ أَوْ تَضْيِيقِهِ وَلاَ بِنَاءِ قَنْطَرَةٍ عَلَيْهِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ. وَعِمَارَتُهُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْمِلْكِ لاِشْتِرَاكِهِمْ فِي الْمِلْكِ وَالاِنْتِفَاعِ، وَلَهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوا مُهَايَأَةً بِأَنْ يَسْقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ يَوْمًا أَوْ بَعْضُهُمْ يَوْمًا فَأَكْثَرَ بِحَسَبِ حِصَّتِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ عَنِ الْمُهَايَأَةِ مَتَى شَاءَ، وَلَهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوا بِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ لإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الْمَاءِ .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَنْبَعُ مَمْلُوكًا:

9 - كَأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ، أَوِ انْفَجَرَتْ فِي مِلْكِهِ عَيْنٌ. فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْمَاءَ لأِنَّهُ نَمَاءٌ مَلَكَهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنَ الْمَاءِ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ، وَبَذْلُ مَا فَضَلَ عَنْ مَاشِيَتِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الْكَلأَ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ» بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كَلأَ تَرْعَى الْمَاشِيَةُ مِنْهُ، وَلاَ يَجِدُ مَاءً مُبَاحًا أَوْ مَمْلُوكًا يَبْذُلُهُ صَاحِبُهُ لَهُ مَجَّانًا.

وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ، وَلاَ يَجِبُ بَذْلُ فَضْلِ الْمَاءِ لِزَرْعِهِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَهُ مَنْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَبَيْعُهُ، وَهِبَتُهُ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ، إِلاَّ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ هَلاَكٌ أَوْ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَلاَ ثَمَنَ مَعَهُ حِينَ الْخَوْفِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ، فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَنْعُهُ وَلاَ بَيْعُهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ لَهُ مَجَّانًا، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ فَلاَ يَبْذُلُ لَهُ إِلاَّ بِالثَّمَنِ. وَكَذَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْمَاءِ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنَ الْمَاءِ لِزَرْعِ جَارِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَظُنَّ هَلاَكَ الزَّرْعِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فَاضِلاً عَنْ زَرْعِ مَالِكِ الْمَاءِ، وَأَنْ يَزْرَعَ الْجَارُ زَرْعَهُ عَلَى مَاءٍ لَهُ، وَأَنْ يَشْرَعَ فِي إِصْلاَحِ بِئْرِهِ.

فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ زَرْعِهِ شَيْءٌ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَاءِ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَزْرَعِ الْجَارُ زَرْعَهُ عَلَى مَاءِ لِمُخَاطَرَتِهِ وَتَعْرِيضِهِ زَرْعَهُ لِلْهَلاَكِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ عَلَى مَاءٍ فَعَطِبَ وَلَمْ يَشْرَعْ فِي إِصْلاَحِهِ .

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَاءَ الآْبَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْعُيُونِ لاَ يُمْلَكُ، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، سَوَاءٌ حُفِرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ أَرْضٍ مُبَاحَةٍ، وَلَكِنْ لِحَافِرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ، وَلِمَنْ نَبَعَتِ الْعَيْنُ فِي أَرْضٍ يَمْلِكُهَا حَقُّ الاِخْتِصَاصِ؛ لأِنَّ الْمَاءَ فِي الأْصْلِ خُلِقَ مُبَاحًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: الْكَلأَ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ» وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي الإْبَاحَةَ لِجَمِيعِ الشُّرَكَاءِ إِلاَّ إِذَا حَصَلَ فِي إِنَاءٍ وَأَحْرَزَهُ بِهِ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا، لأِنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لأِحَد كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الإْبَاحَةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لأِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ فِي مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنَ الشُّرْبِ بِأَنْفُسِهِمْ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ مِنْهُ لأِنَّهُ مُبَاحٌ .

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَمْنَعَ نَقْعَ الْبِئْرِ» وَهُوَ فَضْلُ مَائِهَا الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلِلنَّاسِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا وَيَسْقُوا مِنْهَا دَوَابَّهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ؛ لأِنَّ فِي الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ إِضْرَارًا بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ. وَإِنِ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَجِدُوا مَاءً غَيْرَهُ وَخَافُوا الْهَلاَكَ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ أَوْ يُخْرِجَ الْمَاءَ لَهُمْ، وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ عَلَى ذَلِكَ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذُوهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ .

حَفْرُ بِئْرٍ لِلاِرْتِفَاقِ لاَ لِلتَّمَلُّكِ:

10 - إِنْ حَفَرَ بِئْرًا لِلاِرْتِفَاقِ فِي مَوَاتٍ اخْتَصَّ بِهِ وَبِمَائِهِ كَالْمَالِكِ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَيْهِ، لِخَبَرِ «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» وَلَكِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَنْعَ مَا فَضَلَ مِنْهُ عَنِ الْمُحْتَاجِ لِشُرْبٍ وَسَقْيِ دَوَابَّ وَمَوَاشِي، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. فَإِنِ ارْتَحَلَ عَنْهَا بَطَلَ اخْتِصَاصُهُ. فَإِنْ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَعُودُ لَهُ الاِخْتِصَاصُ.

وَإِنْ حَفَرَهَا لِلْمَارَّةِ فَهُوَ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ.

وَإِنْ حَفَرَهَا بِلاَ قَصْدِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَكَذَلِكَ.

وَالْقَنَاةُ الْمَمْلُوكَةُ كَالْبِئْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامٍ .

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْمَاءُ الْمُحْرَزُ بِالأْوَانِي وَالظُّرُوفِ:

11 - وَهَذَا مَمْلُوكٌ لِمُحْرِزِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَلاَ حَقَّ لأِحَد فِيهِ؛ لأِنَّ الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الأْصْلِ فَإِنَّ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالاِسْتِيلاَءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ. وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي سَائِرِ الأْعْصَارِ عَلَى بَيْعِ السَّقَّائِينَ الْمِيَاهَ الْمُحْرَزَةَ فِي الظُّرُوفِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَلاَ يَحِلُّ لأِحَد أَخْذُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ مُحْرِزِهِ، إِلاَّ أَنْ يَخَافَ الْهَلاَكَ، وَعِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ حَاجَتِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يُقَدِّمَهُ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ .

شَرْطُ وُجُوبِ الاِنْتِفَاعِ بِالأْنْهَارِ الْخَاصَّةِ وَنَحْوِهَا:

12 - يَجِبُ عَلَى الْمُنْتَفِعِ بِالأْنْهَارِ وَالسَّوَّاقِي وَالآْبَارِ الْخَاصَّةِ أَلاَّ يَضُرَّ الْمَالِكَ فِي مِلْكِهِ، بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَى حَافَّةِ النَّهْرِ وَالسَّاقِيَّةِ، وَالْبِئْرِ مِنَ التَّخْرِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْمَجْرَى الْمَنْعُ مِنْهُ؛ إِذْ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ .

رَفْعُ الدَّعْوَى لِلشِّرْبِ:

13 - مَنْ كَانَ لَهُ شِرْبٌ فِي مَاءٍ فَلَهُ رَفْعُ الدَّعْوَى عَلَى مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ؛ لأِنَّ الشِّرْبَ مَرْغُوبٌ فِيهِ مُنْتَفَعٌ بِهِ وَيُمْكِنُ اسْتِحْقَاقُهُ بِغَيْرِ أَرْضٍ بِالإْرْثِ وَالْوَصِيَّةِ؛ وَ لأِنَّهُ قَدِ ابْتَاعَ الأْرْضَ دُونَ حَقِّ الشِّرْبِ، فَيَبْقَى الشِّرْبُ وَحْدَهُ، فَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ، صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَهُمْ لاَ يُجِيزُونَ التَّصَرُّفَ فِي الشِّرْبِ بِالْبَيْعِ وَالإْجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُقُودِ وَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ أَوْلَى بِإِجَازَةِ رَفْعِ الدَّعْوَى لِكَوْنِهِمْ يُجِيزُونَ بَيْعَ حَقِّ الشِّرْبِ. كَمَا سَيَأْتِي.

التَّصَرُّفُ فِي الشِّرْبِ:

14 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الشِّرْبِ بِالْبَيْعِ وَالإْجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.

فَإِنْ صَالَحَ رَجُلاً عَلَى مَوْضِعِ قَنَاةٍ فِي أَرْضِهِ يَجْرِي فِيهَا مَاءٌ وَبَيَّنَا مَوْضِعَهَا وَعَرْضَهَا وَطُولَهَا جَازَ؛ لأِنَّ ذَلِكَ بَيْعُ مَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِهِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ عُمْقِهِ لأِنَّهُ إِذَا مَلَكَ الْمَوْضِعَ كَانَ لَهُ إِلَى تُخُومِهِ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مِنْ أَرْضِ رَبِّ الأْرْضِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا، جَازَ، وَهُوَ إجَارَةٌ لِلأْرْضِ فَيُشْتَرَطُ تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ؛ لأِنَّ هَذَا شَأْنُ الإْجَارَةِ .

أَمَّا الشِّرْبُ بِمَعْنَى الْمَاءِ فَقَدْ جَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَهُ مُطْلَقًا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ أَصْلِ الْمَاءِ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اشْتَرَى شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ نَهْرِ رَجُلٍ أَوْ صَالَحَ عَلَيْهِ وَقُدِّرَ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ بِهِ. قَالَ الْقَاضِي: لاَ يَجُوزُ لأِنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ لأِنَّهُ مَجْهُولٌ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ كَالرُّبُعِ وَالثُّلُثِ جَازَ، وَكَانَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ وَالْمَاءُ تَابِعٌ لَهُ. قَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عَلَى الشِّرْبِ مِنْ نَهْرِهِ أَوْ قَنَاتِهِ، لأِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ. وَالْمَاءُ مِمَّا يَجُوزُ الْعِوَضُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَخَذَهُ فِي إِنَاءٍ أَوْ قِرْبَةٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْقِصَاصِ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَاءِ إِنْ وَجَبَ بَذْلُهُ. وَإِنْ لَمْ يَجِبْ بَذْلُهُ بِأَنْ وَجَدَ مُحْتَاجُ الشُّرْبِ مَاءً آخَرَ فَلَهُ بَيْعُ الْمَاءِ، مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، وَلاَ يَجُوزُ مُقَدَّرًا بِرَيِّ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الشِّرْبِ مُنْفَرِدًا بِأَنْ بَاعَ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ لأِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ الشِّرْبِ وَالسَّقْيِ، وَالْحُقُوقُ لاَ تَحْتَمِلُ الإِفْرَادَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَوْ اشْتَرَى الشِّرْبَ بِدَارٍ وَقَبَضَهَا لَزِمَهُ رَدُّ الدَّارِ لأِنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا انْتَفَعَ بِهِ مِنَ الشِّرْبِ، وَإِنْ بَاعَ الشِّرْبَ مَعَ الأْرْضِ جَازَ تَبَعًا لِلأْرْضِ؛ لِجَوَازِ كَوْنِ الشَّيْءِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ تَجْعَلْهُ التَّبَعِيَّةُ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ، وَلاَ يَجُوزُ جَعْلُهُ أُجْرَةً لِدَارٍ، وَلاَ إجَارَتُهُ مُنْفَرِدًا لأِنَّ الْحُقُوقَ لاَ تَحْتَمِلُ الإْجَارَةَ كَمَا لاَ تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ .

وَإِنْ بَاعَ الأْرْضَ وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّرْبَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ أَجَّرَهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّرْبَ لَمْ يَدْخُلْ قِيَاسًا وَيَدْخُلُ اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ الذِّكْرِ دَلاَلَةً؛ لأِنَّ الإْجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَلاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِالأْرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَكُونُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الأْرْضِ دَلاَلَةً بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، لأِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ بِدُونِ الْمَنْفَعَةِ، وَلاَ تَجُوزُ هِبَةُ الشِّرْبِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ؛ لأِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَمْلِيكٌ وَالْحُقُوقُ الْمُفْرَدَةُ لاَ تَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، وَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ لأِنَّ الصُّلْحَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ وَلاَ يَصْلُحُ مَهْرًا وَلاَ بَدَلَ خُلْعٍ .

النِّزَاعُ فِي اسْتِحْقَاقِ الشِّرْبِ:

15 - قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وُجِدَتْ أَرْضٌ لَمْ يَكُنْ سَقْيُهَا مِنَ النَّهْرِ الْعَامِّ، وَوُجِدَتْ سَاقِيَةٌ لَهَا مِنَ النَّهْرِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهَا شِرْبٌ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، حَكَمْنَا عِنْدَ التَّنَازُعِ بِأَنَّ لَهَا شِرْبًا مِنْهُ. وَلَوْ تَنَازَعَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ فِي قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ يُجْعَلُ عَلَى قَدْرِ الأْرْضِينَ لأِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّرِكَةَ بِحَسَبِ الْمِلْكِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس والثلاثون ، الصفحة / 129

مَجْرَى الْمَاءِ

التَّعْرِيفُ :

1 - الْمَجْرَى فِي اللُّغَةِ بِوَزْنِ مَفْعَلٍ: ظَرْفُ مَكَانٍ مِنْ فَعَلَ جَرَى يَجْرِي: بِمَعْنَى سَالَ، خِلاَفُ وَقَفَ وَسَكَنَ، وَالْمَاءُ الْجَارِي هُوَ: الْمُتَدَافِعُ فِي انْحِدَارٍ أَوْ فِي اسْتِوَاءٍ.

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .

الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَجْرَى الْمَاءِ :

أَقْسَامُ مَجْرَى الْمَاءِ

2 - يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ مَجْرَى الْمَاءِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الْمَجْرَى الْعَامُّ وَالْمَجْرَى الْخَاصُّ.

وَأَمَّا الْمَجْرَى الْعَامُّ: وَهُوَ مَا لاَ يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ: بِأَنْ يَكُونَ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ وَلاَ صَنِيعَ لِلآْدَمِيِّينَ فِي حَفْرِهِ وَلاَ فِي إِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ كَالأْنْهَارِ الْكَبِيرَةِ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِمَا الَّتِي لاَ تَزَاحُمَ فِيهَا لِسِعَتِهَا وَكَثْرَةِ الْمَاءِ فِيهَا وَلاَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَحَدٌ فَهَذَا لاَ مِلْكَ لأِحَدٍ عَلَى رَقَبَةِ الْمَجْرَى وَلاَ حَقَّ خَاصًّا فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَائِهِ بَلِ الْحَقُّ فِيهِ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَلِكُلٍّ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَذِهِ الأْنْهَارِ بِمُخْتَلِفِ أَوْجُهِ الاِنْتِفَاعِ إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِتَصَرُّفِهِ مَصْلَحَةً عَامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِلإْمَامِ وَلاَ لِغَيْرِهِ مَنْعُهُ إِنْ لَمْ يَضُرَّ أَحَدًا.

وَلَهُ نَصْبُ رَحًى عَلَيْهِ أَوْ دَالِيَةً أَوْ سَاقِيَةً: بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَضُرَّ النَّهَرَ وَأَنْ يَكُونَ مَكَانُ الْبِنَاءِ مِلْكًا لَهُ أَوْ مَوَاتًا مَحْضًا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ .

وَأَمَّا الْمَجْرَى الْخَاصُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرَى مَمْلُوكًا بِأَنْ يَحْفِرَ نَهَرًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ مِنَ الْوَادِي الْعَظِيمِ أَوْ مِنَ النَّهَرِ الْمُنْخَرِقِ مِنْهُ فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى إِبَاحَتِهِ لَكِنَّ مَالِكَ النَّهَرِ أَحَقُّ بِهِ كَالسَّيْلِ يَدْخُلُ مِلْكَهُ فَلَيْسَ لأِحَدِ مُزَاحَمَتُهُ لِسَقْيِ الأْرَضِينَ وَأَمَّا لِلشُّرْبِ وَالاِسْتِعْمَالِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي (شُرْبٌ ف 3 - 9 وَمِيَاهٌ وَنَهَرٌ).

إِجْرَاءُ مَاءٍ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ

3 - لاَ يَجُوزُ إِجْرَاءُ مَاءٍ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ بِلاَ ضَرُورَةٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ بِالاِتِّفَاقِ لأِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِلاَ إِذْنٍ وَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ كَأَنْ تَكُونَ لَهُ أَرْضٌ لِلزِّرَاعَةِ لَهَا مَاءٌ لاَ طَرِيقَ لَهُ إِلَيْهَا إِلاَّ أَرْضُ جَارِهِ فَهَلْ لَهُ إِجْرَاءُ الْمَاءِ فِي أَرْضِ جَارِهِ لِتَوْصِيلِ الْمَاءِ إِلَى أَرْضِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْجَارِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لَهُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهَا عِيسَى بْنُ دِينَارٍ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لأِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَاجَةِ لاَ تُبِيحُ لَهُ مَالَ غَيْرِهِ وَهِيَ كَمَا لَوْ لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ لَهُ الزَّرْعُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ وَالْبِنَاءُ فِيهَا وَلاَ الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءِ مِنْ مَنَافِعِهَا الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ الْحَاجَةِ فَإِنْ أُذِنَ لَهُ جَازَ .

وَالرِّوَايَةُ الأْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ سَاقَ خَلِيجًا لَهُ مِنَ الْعَرِيضِ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فِي أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَأَبَى مُحَمَّدٌ فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: لِمَ تَمْنَعُنِي وَهُوَ لَكَ مَنْفَعَةٌ تَشْرَبُ بِهِ أَوَّلاً وَآخِرًا وَلاَ يَضُرُّكَ فَأَبَى مُحَمَّدٌ فَكَلَّمَ فِيهِ الضَّحَّاكُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَدَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لاَ فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ: تَسْقِي بِهِ أَوَّلاً وَآخِرًا وَهُوَ لاَ يَضُرُّكَ. فَقَالَ: مُحَمَّدٌ: لاَ وَاللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَيَمُرَّنَّ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ .

وَلِمَالِكٍ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الزَّمَنِ كَأَهْلِ زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه يَعُمُّهُمْ أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الصَّلاَحُ وَالدِّينُ وَالتَّحَرُّجُ عَمَّا لاَ يَحِلُّ يُقْضَى بِإِمْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ يَعُمُّ أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ اسْتِحْلاَلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِالْمَنْعِ فِي ذَلِكَ لأِنَّهُ قَدْ يَطُولُ الأْمْرُ فَيَدَّعِي صَاحِبُ الْمَاءِ الْمَمَرَّ فِي أَرْضِ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِإِمْرَارِهِ فِي أَرْضِهِ فَيَدَّعِي مِلْكَ رَقَبَةِ الْمَمَرِّ أَوْ يَدَّعِي حُقُوقًا فِيهِ فَيَشْهَدُ لَهُ مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ فَيُمْنَعُ الإْمْرَارُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْهُ .

الصُّلْحُ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ أَوْ عَلَى سَطْحِ الْجَارِ

4 - قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ صَالَحَ رَجُلاً عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ سَطْحِهِ مِنَ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِهِ أَوْ فِي أَرْضِهِ عَنْ سَطْحِهِ أَوْ فِي أَرْضِهِ عَنْ أَرْضِهِ جَازَ إِذَا كَانَ مَا يَجْرِي مَاءً مَعْلُومًا إِمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِمَّا بِمَعْرِفَةِ الْمِسَاحَةِ لأِنَّ الْمَاءَ يَخْتَلِفُ بِصِغَرِ السَّطْحِ وَكِبَرِهِ وَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْرِي مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى السَّطْحِ لأِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرِ مُدَّةٍ لأِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى هَذَا وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ كَمَا كَانَ فِي النِّكَاحِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَمَّا غَسَّالَةُ الثِّيَابِ وَالأْوَانِي فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى إِجْرَائِهَا عَلَى مَالٍ لأِنَّهُ مَجْهُولٌ لاَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ وَشَرَطَ الْمُصَالَحَةَ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ: أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَصْرِفٌ إِلَى الطَّرِيقِ إِلاَّ بِمُرُورِهِ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ قَالَهُ الإِسْنَوِيُّ وَمَحِلُّ الْجَوَازِ فِي الثَّلْجِ إِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ لاَ فِي سَطْحِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَلَيْسَ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فِي إِجْرَاءِ الْمَطَرِ عَلَى السَّطْحِ أَنْ يَطْرَحَ الثَّلْجَ عَلَيْهِ وَلاَ أَنْ يَتْرُكَ الثَّلْجَ حَتَّى يَذُوبَ وَيَسِيلَ إِلَيْهِ وَمَنْ أَذِنَ لَهُ فِي إِلْقَاءِ الثَّلْجِ لاَ يَجْرِي الْمَطَرُ وَلاَ غَيْرُهُ.

وَالْمِلْكُ لَيْسَ قَيْدًا بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الأْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ لَكِنْ يُعْتَبَرُ هُنَا التَّأْقِيتُ لأِنَّ الأْرْضَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ فَلاَ يُمْكِنُهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مُطْلَقًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ السَّطْحُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمَاءُ مُسْتَأْجَرًا أَوْ عَارِيَّةً مَعَ إِنْسَانٍ

لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ لأِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ. وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ .

تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِطَاهِرٍ فِي مَجْرَاهُ

5 - إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِطَاهِرٍ فِي مَجْرَاهُ تَغَيُّرًا لاَ يَمْنَعُ إِطْلاَقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلاَ يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ فِي الْمَاءِ فَيَصِحُّ التَّطَهُّرُ بِهِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عَمَّا ذُكِرَ.

ر: مُصْطَلَحَ (تَغْيِيرٌ ف 3).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع والثلاثون ، الصفحة / 300

مَسِيلٌ

التَّعْرِيفُ:

1 - السَّيْلُ لُغَةً: مَعْرُوفٌ، جَمْعُهُ سُيُولٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي الأْصْلِ، مِنْ سَالَ الْمَاءُ يَسِيلُ سَيْلاً مِنْ بَابِ بَاعَ، وَسَيَلاَنًا إِذَا طَغَى وَجَرَى، ثُمَّ غَلَبَ الْمَسِيلُ فِي الْمُجْتَمِعِ مِنَ الْمَطَرِ الْجَارِي فِي الأْوْدِيَةِ، وَالْمَسِيلُ مَجْرَى السَّيْلِ، وَالْجَمْعُ مَسَايِلُ وَمُسُلٌ بِضَمَّتَيْنِ. وَرُبَّمَا قِيلَ مُسْلاَنٌ مِثْلُ رَغِيفٍ وَرُغْفَانٍ .

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .

وَمِنْ صُوَرِ الْمَسِيلِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: أَنْ تَكُونَ لِشَخْصٍ دَارٌ لَهَا حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ عَلَى أَسْطِحَةِ دَارٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى أَرْضِ دَارٍ أُخْرَى .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسِيلِ مِنْ أَحْكَامٍ:

يَتَعَلَّقُ بِالْمَسِيلِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

مَسِيلُ الْمَاءِ مِنْ حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ:

2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَرَافِقَ وَحُقُوقَ الْعَقَارِ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ، تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا وَأَنَّهَا حُقُوقٌ مُقَرَّرَةٌ عَلَى مَحَالِّهَا وَمِنْهَا الْمَسِيلُ وَمَا يُمَاثِلُهُ وَلَهُ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُ يَأْتِي بَيَانُهَا.

أ - التَّصَرُّفُ فِي الْمَسِيلِ:

3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَسِيلِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَسِيلِ وَهِبَتُهُ لِجَهَالَتِهِ، إِذْ لاَ يَدْرِي قَدْرَ مَا يَشْغَلُهُ مِنَ الْمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: هَذَا إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْمَسِيلِ، أَمَّا لَوْ بَيَّنَ حَدَّ مَا يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ، أَوْ بَاعَ أَرْضَ الْمَسِيلِ مِنْ نَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَقِّ التَّسْيِيلِ فَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ حُدُودَهُ .

وَأَمَّا بَيْعُ حَقِّ التَّسْيِيلِ وَهِبَتُهُ دُونَ رَقَبَةِ الْمَسِيلِ فَلاَ يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الْمَشَائِخِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الأْرْضِ ، أَوْ عَلَى السَّطْحِ، لأِنَّهُ نَظِيرُ حَقِّ التَّعَلِّي، وَبَيْعُ حَقِّ التَّعَلِّي لاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، لأِنَّهُ لَيْسَ حَقًّا مُتَعَلِّقًا بِمَا هُوَ مَالٌ بَلْ بِالْهَوَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الأْرْضِ ، وَهُوَ أَنْ يَسِيلَ الْمَاءُ عَنْ أَرْضِهِ كَيْلاَ يُفْسِدَهُ فَيُمِرَّهُ عَلَى أَرْضٍ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ الَّذِي يَأْخُذُهُ .

وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مَسِيلَ مَاءٍ فِي دَارِ رَجُلٍ فَلاَ بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ مَسِيلَ مَاءِ الْمَطَرِ أَوْ مَاءِ الْوُضُوءِ، وَكَذَا يَنْبَغِي بَيَانُ مَوْضِعِ مَسِيلِ الْمَاءِ أَنَّهُ فِي مُقَدَّمِ الْبَيْتِ أَوْ فِي مُؤَخَّرِهِ .

وَإِذَا اشْتَرَى بَيْتًا فِي دَارٍ لاَ يَدْخُلُ مَسِيلُ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَوْ ذُكِرَ بِحُقُوقِهِ وَمَرَافِقِهِ يَدْخُلُ وَهُوَ الأْصَحُّ ، وَمَنِ اشْتَرَى مَنْزِلاً فِي دَارٍ أَوْ مَسْكَنًا فِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمَسِيلُ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى ذَلِكَ الْمُشْتَرِي، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِكُلِّ حَقٍّ أَوْ بِمَرَافِقِهِ أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ.

وَلَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ مَسِيلٌ لِدَارٍ لَهُ أُخْرَى بِجَنْبِهَا وَقَالَ بِكُلِّ حَقٍّ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُشْتَرِي وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَلَوْ بَاعَ رَجُلٌ دَارًا وَلآِخَرَ فِيهَا مَسِيلُ مَاءٍ، فَرَضِيَ صَاحِبُ الْمَسِيلِ بِبَيْعِ الدَّارِ، قَالُوا: إِنْ كَانَ لَهُ رَقَبَةُ الْمَسِيلِ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ جَرْيِ الْمَاءِ فَقَطْ فَلاَ قِسْطَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ وَبَطَلَ حَقُّهُ إِذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ .

وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا مَسِيلَ مَاءٍ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَهُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ، فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي أَمْسَكَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ بِنَاءَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ بِنَائِهِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ يَسِيلُ وَيَنْبُعُ فِي مِلْكٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الأْرْضِ الَّتِي يَنْبُعُ فِيهَا يُرْسِلُهُ مَتَى شَاءَ وَيَحْبِسُهُ مَتَى شَاءَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءٍ فِي سَانِيَةٍ إِلَى أَرْضِهِمْ لَمْ يُقَدَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الآْخَرِ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ بِالْقُلَلِ أَوِ الْخَشَبِ أَوْ كَيْفَمَا اتَّفَقُوا عَلَى سَبِيلِ اشْتَرَاكِهِمْ أَوَّلَ إِجْرَائِهِمْ لَهُ .

وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنِ اشْتَرَيْتَ شِرْبَ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ مِنْ قَنَاةٍ أَوْ مِنْ بِئْرٍ أَوْ مِنْ عَيْنٍ أَوْ مِنْ نَهْرٍ، أَيَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لاَ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَ مَالِكٌ لاَ شُفْعَةَ فِيهِ، لأِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ أَرْضٌ. قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قُسِمَتِ الأْرْضُ وَتُرِكَ الْمَاءُ فَبَاعَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ الَّذِي صَارَ لَهُ مِنْ أَرْضِهِ بِغَيْرِ مَاءٍ، ثُمَّ بَاعَ نَصِيبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ لِي: هَذَا الْمَاءُ لاَ شُفْعَةَ فِيهِ وَالأْرْضُ أَيْضًا لاَ شُفْعَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِي الْمَاءِ إِذَا كَانَتِ الأْرْضُ بَيْنَ النَّفَرِ لَمْ يَقْتَسِمُوهَا فَبَاعَ أَحَدُهُمْ مَاءَهُ بِغَيْرِ أَرْضِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: فَفِي هَذَا الشُّفْعَةُ إِذَا كَانَتِ الأْرْضُ لَمْ تُقْسَمْ.

قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ بَاعَ آخَرُ بَعْدَهُ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ أَيَضْرِبُ الْبَائِعُ الأْوَّلُ مَعَهُمْ فِي الْمَاءِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الأْرْضِ ؟ قَالَ: لاَ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ حِصَّتَهُ مِنَ الأْرْضِ وَتَرَكَ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ بَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ شُرَكَائِهِ حِصَّتَهُ مِنَ الأْرْضِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا شُفْعَةٌ لِمَكَانِ مَا بَقِيَ لَهُ فِي الْمَاءِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا اقْتَسَمُوا أَرْضًا وَكَانَ بَيْنَهُمْ مَاءٌ يَسْقُونَ بِهِ وَكَانَ لَهُمْ شُرَكَاءُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، فَبَاعَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمُ الْمَاءُ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ أَيَضْرِبُ مَعَ شُرَكَائِهِ فِي الشُّفْعَةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الأْرْضِ ؟ قَالَ: لاَ

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ أَوِ الصُّلْحِ عَلَى إِخْرَاجِ مِيزَابٍ وَعَلَى إِلْقَاءِ الثَّلْجِ فِي مِلْكِهِ - أَيِ الْمُصَالَحِ مَعَهُ - عَلَى مَالٍ، لأِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، لَكِنْ مَحَلُّهُ فِي الْمَاءِ الْمَجْلُوبِ مِنْ نَهْرٍ وَنَحْوِهِ إِلَى أَرْضِهِ، وَالْحَاصِلُ إِلَى سَطْحِهِ مِنَ الْمَطَرِ.

وَأَمَّا مَسِيلُ غُسَالَةِ الثِّيَابِ وَالأْوَانِي فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى إِجْرَائِهَا عَلَى مَالٍ، لأِنَّهُ مَجْهُولٌ لاَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ، وَقَالَ: إِنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ الْبِنَاءِ فَلاَ مَانِعَ مِنْهُ إِذَا بَيَّنَ قَدْرَ الْجَارِي إِذَا كَانَ عَلَى السَّطْحِ، وَبَيَّنَ مَوْضِعَ الْجَرَيَانِ إِذَا كَانَ عَلَى الأْرْضِ وَالْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْبِنَاءِ فَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَبْنِي، وَغَسْلُ الثِّيَابِ وَالأْوَانِي لاَ بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ النَّاسِ أَوِ الْغَالِبِ وَهُوَ بِلاَ شَكٍّ يَزِيدُ عَلَى حَاجَةِ الْبِنَاءِ، فَمَنْ بَنَى حَمَّامًا وَبِجَانِبِهِ أَرْضٌ لِغَيْرِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ حَقَّ مَمَرِّ الْمَاءِ فَلاَ تَوَقُّفَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ، بَلِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الأْرْضِ .

قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَلَعَلَّ مُرَادَ الْمُتَوَلِّي مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ عَلَى السَّطْحِ وَلَمْ يَحْصُلِ الْبَيَانُ فِي قَدْرِ مَا يَصُبُّ وَقَالَ الإْسْنَوِيُّ: وَشَرْطُ الْمُصَالَحَةِ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَصْرِفٌ إِلَى الطَّرِيقِ إِلاَّ بِمُرُورِهِ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ .

وَمَحَلُّ الْجَوَازِ فِي الثَّلْجِ إِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ لاَ فِي سَطْحِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ السَّطْحِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ أَوْ مِنْهُ الْمَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ بِبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ، لأِنَّ الْمَطَرَ يَقِلُّ بِصِغَرِهِ وَيَكْثُرُ بِكِبَرِهِ، وَمَعْرِفَةُ قَدْرِ السَّطْحِ الَّذِي يَجْرِي إِلَيْهِ وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَحَمَّلُ قَلِيلَ الْمَاءِ دُونَ كَثِيرِهِ، وَلاَ يَضُرُّ الْجَهْلُ بِقَدْرِ مَاءِ الْمَطَرِ، لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ لأِنَّهُ عَقْدٌ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ.

ثُمَّ إِنْ عُقِدَ عَلَى الأْوَّلِ بِصِيغَةِ الإْجَارَةِ فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَوْضِعِ الإِْجْرَاءِ وَبَيَانِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ وَعُمْقِهِ وَقَدْرِ الْمُدَّةِ إِنْ كَانَتِ الإْجَارَةُ مُقَدَّرَةً بِهَا، وَإِلاَّ فَلاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِهَا، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مَحْفُورًا وَإِلاَّ فَلاَ يَصِحُّ لأِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لاَ يَمْلِكُ الْحَفْرَ .

وَأَمَّا بَيْعُ مَسِيلِ الْمَاءِ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَإِنْ عَقَدَ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُكَ مَسِيلَ الْمَاءِ وَجَبَ بَيَانُ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَفِي الْعُمْقِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هَلْ يَمْلِكُ مَوْضِعَ الْجَرَيَانِ أَمْ لاَ؟ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَإِيرَادُ النَّاقِلِينَ يَمِيلُ إِلَى تَرْجِيحِ الْمِلْكِ، وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ: لاَ يَجِبُ بَيَانُ الْعُمْقِ لأِنَّهُ مَلَكَ الْقَرَارَ، قَالَ الإِْسْنَوِيُّ: وَإِنْ عَقَدَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فَهَلْ يَنْعَقِدُ بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً؟ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الشَّيْخَانِ، وَصَرَّحَ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعًا سَوَاءٌ وَجَّهَ الْعَقْدَ إِلَى الْحَقِّ أَوِ الْعَيْنِ، قَالَ عَمِيرَةُ: قَدْ قَالُوا فِي مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ لاَ يُمْلَكُ عَيْنًا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَظْهَرُ وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ لَفْظَ مَسْأَلَةِ الْمَاءِ مَثَلاً يَنْصَرِفُ إِلَى الْعَيْنِ بِخِلاَفِ قَوْلِهِ: بِعْتُكَ رَأْسَ الْجِدَارِ لِلْبِنَاءِ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ صَالَحَ رَجُلٌ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ سَطْحِهِ مِنَ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحٍ آخَرَ، أَوْ صَالَحَهُ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ فِي أَرْضِهِ حَالَ كَوْنِ الْمَاءِ مِنْ سَطْحِهِ، أَوْ صَالَحَهُ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ فِي أَرْضِهِ حَالَ كَوْنِهِ عَنْ أَرْضِهِ، جَازَ الصُّلْحُ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَا يَجْرِي مَاؤُهُ مِنْ أَرْضٍ أَوْ سَطْحٍ مَعْلُومًا لَهُمَا إِمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِمَّا بِمَعْرِفَةِ مِسَاحَةِ السَّطْحِ أَوِ الأْرْضِ الَّتِي يَنْفَصِلُ مَاؤُهَا، لأِنَّ الْمَاءَ يَخْتَلِفُ بِصِغَرِ السَّطْحِ وَالأْرْضِ وَكِبَرِهِمَا، فَاشْتُرِطَ مَعْرِفَتُهُمَا.

وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا مَعْرِفَةُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى السَّطْحِ أَوْ إِلَى الأْرْضِ ، دَفْعًا لِلْجَهَالَةِ، وَلاَ تَفْتَقِرُ صِحَّةُ الإْجَارَةِ إِلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ لِدَعْوَى الْحَاجَةِ إِلَى تَأْبِيدِ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ غَيْرَ مُقَدَّرٍ مُدَّةً كَنِكَاحٍ. لَكِنْ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي الْقَوَاعِدِ فِي السَّابِعَةِ وَالثَّمَانِينَ: لَيْسَ بِإِجَارَةٍ مَحْضَةٍ؛ لِعَدَمِ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ، بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بِالْبَيْعِ، بِخِلاَفِ السَّاقِيَةِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا غَيْرُ مَاءِ الْمَطَرِ فَكَانَتْ بَيْعًا تَارَةً وَإِجَارَةً تَارَةً أُخْرَى، فَاعْتُبِرَ فِيهَا تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَتِ الأْرْضُ أَوِ السَّطْحُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمَاءُ مُسْتَأْجَرًا أَوْ عَارِيَةً، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ الْمُسْتَأْجِرَ أَوِ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ أَمَّا فِي السَّطْحِ فَلِتَضَرُّرِهِ بِذَلِكَ، وَأَمَّا فِي الأْرْضِ فَ لأِنَّهُ يَجْعَلُ لِغَيْرِ صَاحِبِ الأْرْضِ رَسْمًا، فَرُبَّمَا ادَّعَى مِلْكَهَا بَعْدُ. وَيَحْرُمُ إِجْرَاءُ مَاءٍ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ بِلاَ إِذْنِهِ. وَلَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِهِ، أَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِ أَرْضِهِ بِذَلِكَ؛ لأِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَاءِ مَضْرُورًا إِلَى إِجْرَائِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ. فَلاَ يَجُوزُ لَهُ.

وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِهِ، أَوْ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ بِئْرِهِ مُدَّةً - وَلَوْ مُعَيَّنَةً - لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ الْمَاءَ، لأِنَّ الْمَاءَ الْعِدَّ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الأْرْضِ ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنَ النَّهْرِ أَوِ الْعَيْنِ أَوِ الْبِئْرِ كَثُلُثٍ وَنَحْوِهِ مِنْ رُبُعٍ أَوْ خُمُسٍ جَازَ الصُّلْحُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ أَيْ لِلْجُزْءِ الْمُسَمَّى مِنَ الْقَرَارِ وَالْمَاءُ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا لِكُلِّ مِنْهُمَا فِيهِ .

ب - إِرْثُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ

4 - الْمَسِيلُ مِنَ الْحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِيَّةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى قَبُولِهِ التَّوَارُثَ لأِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلاَفَةٌ قَهْرِيَّةٌ بِحُكْمِ الشَّارِعِ وَلَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ التَّمَلُّكِ الاِخْتِيَارِيِّ فَلَمْ تُشْتَرَطْ فِيهَا الْمَالِيَّةُ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا، لأِنَّهَا تُشْبِهُ الْمِيرَاثَ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ التَّمَلُّكَ فِيهَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِذَا قَالُوا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، فَمَا يَجُوزُ التَّوَارُثُ فِيهِ يَجُوزُ الإْيصَاءُ بِهِ، فَمَثَلاً إِذَا أَوْصَى صَاحِبُ شِرْبٍ لآِخَرَ بِأَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ شِرْبِهِ جَازَ ذَلِكَ وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ سَقْيُ أَرْضِهِ، وَيَنْتَهِي حَقُّهُ فِي ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ، لأِنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَنَافِعَ وَهِيَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُنْتَفِعِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ .

اعْتِبَارُ الْقِدَمِ فِي حَقِّ الْمَسِيلِ

5 - يُعْتَبَرُ الْقِدَمُ فِي حَقِّ الْمَسِيلِ - لَكِنِ الْقِدَمُ غَيْرُ مُنْشِئٍ لِلْحَقِّ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعَ تَفْصِيلٍ أَوْرَدَهُ بَعْضُ الْمَذَاهِبِ وَمَعْنَى اعْتِبَارِهِ:

أَنْ يَتْرُكَ الْمَسِيلَ وَمَا يُمَاثِلَهُ كَالْمِيزَابِ عَلَى وَجْهِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، لأِنَّ الشَّيْءَ الْقَدِيمَ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ وَلاَ يَتَغَيَّرُ إِلاَّ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلاَفِهِ.

أَمَّا الْقَدِيمُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ، يَعْنِي إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَعْمُولُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي الأْصْلِ فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا، وَيُزَالُ إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ، لأِنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَامَّةَ لِبَقَاءِ حَقِّ الْمَسِيلِ وَمَا يُمَاثِلُهُ مِنْ حُقُوقٍ: أَلاَّ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا ضَرَرٌ، وَإِلاَّ وَجَبَ إِزَالَةُ مَنْشَأِ هَذَا الضَّرَرِ، فَمَثَلاً إِذَا كَانَ لِدَارٍ مَسِيلُ مَاءٍ قَذِرٍ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ وَلَوْ مِنَ الْقَدِيمِ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ لِلْمَارَّةِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ يُرْفَعُ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِقِدَمِهِ، لأِنَّ الضَّرَرَ لاَ يَكُونُ قَدِيمًا لِوُجُوبِ إِزَالَتِهِ .

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَمَتَى وَجَدَ سَيْلَ مَائِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، أَوْ وَجَدَ مَجْرَى مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ سَبَبَهُ فَهُوَ حَقٌّ لَهُ، لأِنَّ الظَّاهِرَ وَضْعُهُ بِحَقِّ مِنْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ خُصُوصًا مَعَ تَطَاوُلِ الأْزْمِنَةِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْقِدَمُ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ عَشْرِ سَنَوَاتٍ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبِمُضِيِّ عِشْرِينَ سَنَةٍ عِنْدَ أَصْبَغٍ، وَعَنْ سَحْنُونٍ فِي مَصَبِّ مَاءٍ أَوْ مَسِيلٍ يَكْفِي مُضِيُّ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ عَلَيْهِ، قَالَ الْوَنْشَرِيسِيُّ: وَبِالأْوَّلِ مَضَى الْعَمَلُ .

وَقَدْ فَرَّعَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا:

فَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: لِدَارٍ مَسِيلُ مَطَرٍ عَلَى دَارِ الْجَارِ مِنَ الْقَدِيمِ وَإِلَى الآْنِ، فَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ قَائِلاً: لاَ أَدَعُهُ يَسِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ .

قَالَ فِي الْخَانِيَةِ: وَهَذَا جَوَابُ الاِسْتِحْسَانِ فِي الْمِيزَابِ وَمَسِيلِ مَاءِ السَّطْحِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَسِيلَ مَاءٍ فِي دَارِهِ، وَالْفَتْوَى عَلَى جَوَابِ الاِسْتِحْسَانِ .

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ نَحْوَهُ قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَنَّهُ وُضِعَ بِحَقِّ أَوَّلاً، فَقَوْلُ صَاحِبِ الْمَسِيلِ وَنَحْوِهِ إِنَّهُ وُضِعَ بِحَقِّ مَعَ يَمِينِهِ عَمَلاً بِظَاهِرِ الْحَالِ، فَإِنْ زَالَ فَلِرَبِّهِ إِعَادَتُهُ لأِنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ حَقِّهِ فِيهِ فَلاَ يَزُولُ حَتَّى يُوجَدَ مَا يُخَالِفُهُ .

وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ الْمَادَّةِ (1230): (دُورٌ فِي طَرِيقٍ لَهَا مَيَازِيبٌ مِنْ القَدِيمٍ مُنَصَّبَةٌ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ تَمْتَدُّ إِلَى عَرْصَةٍ وَاقِعَةٍ فِي أَسْفَلِهِ جَارِيَةٍ مِنَ الْقَدِيمِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ سَدُّ ذَلِكَ الْمَسِيلِ الْقَدِيمِ، فَإِنْ سَدَّهُ يُرْفَعُ السَّدُّ مِنْ طَرَفِ الْحَاكِمِ وَيُعَادُ إِلَى وَضْعِهِ الْقَدِيمِ) لأِنَّهُ يُرِيدُ بِالسَّدِّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ عَرْصَتِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِالطَّرِيقِ الَّذِي تُنْصَبُ إِلَيْهِ الْمَيَازِيبُ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ، لأِنَّ ذَلِكَ الطَّرِيقَ إِنْ كَانَ خَاصًّا فَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بِمِثْلِهِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَادَّةِ (25) أَنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَالُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بِالضَّرَرِ الْعَامِّ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَادَّةِ (26) أَنَّهُ يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَلاَ سَبِيلَ إِلَى رَفْعِ الْمَيَازِيبِ عَنِ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ لأِنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلاَ عَنِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ لأِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الضَّرَرُ حَيْثُ كَانَ مَسِيلُ الْمَاءِ إِلَى الْعَرْصَةِ الْمَذْكُورَةِ قَدِيمًا فَاتَّضَحَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّرِيقِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ مَا يَعُمُّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الإْطْلاَقِ .

وَقَالَ فِي الْمَادَّةِ (1232) مِنَ الْمَجَلَّةِ (حَقُّ مَسِيلٍ لِسِيَاقٍ مَالِحٍ فِي دَارٍ لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَوْ لِمُشْتَرِيهَا إِذَا بَاعَهَا مَنْعُ جَرْيِهِ بَلْ يَبْقَى كَمَا فِي السَّابِقِ) قَالَ شَارِحُهَا: نَعَمْ لِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ وَقْتَ الْبَيْعِ خِيَارُ الْفَسْخِ لأِنَّهُ عَيْبٌ وَهُوَ ثَابِتٌ بِحَقٍّ لاَزِمٍ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي مَنْعُهُ كَمَا فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ .

نَفَقَةُ إِصْلاَحِ الْمَسِيلِ

6 - قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي إِجْرَاءِ مَاءٍ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ أَنَّ نَفَقَةَ السَّطْحِ عَلَى صَاحِبِهِ .

قِسْمَةُ الْمَسِيلِ وَدُخُولُهُ فِي الْمَقْسُومِ

7 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ مَسِيلُ مَاءٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ ذَلِكَ وَأَبَى الآْخَرُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَوْضِعٌ يَسِيلُ مِنْهُ مَاؤُهُ سِوَى هَذَا قُسِمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ إِلاَّ بِضَرَرٍ لَمْ يُقْسَمْ .

وَأَمَّا دُخُولُ الْمَسِيلِ فِي الْعَقَارِ الْمَقْسُومِ فَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1165) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ حَقَّ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ فِي الأْرَاضِيِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَقْسُومِ دَاخِلٌ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي أَيِّ حِصَّةٍ وَقَعَ يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ صَاحِبِهَا، سَوَاءٌ قِيلَ: بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا أَوْ لَمْ يُقَلْ.

قَالَ شَارِحُهَا الأْتَاسِيُّ: احْتُرِزَ بِقَوْلِهِ فِي الأْرَاضِيِ الْمُجَاوِرَةِ عَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ أَوِ الْمَسِيلُ فِي الْحِصَّةِ الأْخْرَى فَحُكْمُهُ كَمَا فِي الْمَادَّةِ الآْتِيَةِ (1166) ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: (سَوَاءٌ قِيلَ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا) هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِهِ (كَمَا فِي الْهِنْدِيَّةِ).

وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الأْصْلِ: إِذَا كَانَتِ الأْرْضُ بَيْنَ قَوْمٍ مِيرَاثًا اقْتَسَمُوهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَأَصَابَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ قَرَاحٌ عَلَى حِدَةٍ، فَلَهُ مَسِيلُ مَائِهِ وَكُلُّ حَقٍّ لَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لاَ يَدْخُلاَنِ (كَذَا فِي الْمُحِيطِ).

وَنَقَلَ شَارِحُ الْمَجَلَّةِ عَنِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَازِيًا لِلذَّخِيرَةِ مَا نَصُّهُ: وَذَكَرَ شَيْخُ الإْسْلاَمِ فِي قِسْمَةِ الأْرَاضِيِ وَالْقُرَى: أَنَّ الطَّرِيقَ وَمَسِيلَ الْمَاءِ يَدْخُلاَنِ فِي الْقِسْمَةِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَمَسِيلُ الْمَاءِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، وَلَمْ يَكُونَا فِي أَنْصِبَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ إِحْدَاثُ هَذِهِ الْحُقُوقِ فِي أَنْصِبَائِهِ حَتَّى لاَ تَفْسُدَ الْقِسْمَةُ.

وَعَلَيْهِ مَحْمَلُ كَوْنِ الصَّحِيحِ أَنَّ الطَّرِيقَ وَالْمَسِيلَ لاَ يَدْخُلاَنِ، عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُونَا فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَادَّةِ (فِي الأْرَاضِي الْمُجَاوِرَةِ) .

وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ (1166) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ حِينَ الْقِسْمَةِ كَوْنَ طَرِيقِ الْحِصَّةِ أَوْ مَسِيلِهَا فِي الْحِصَّةِ الأْخْرَى فَالشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَمِثْلُهُ - بَلْ أَوْلَى - مَا إِذَا كَانَا مَوْجُودَيْنِ قَبْلَهَا فَاشْتَرَطَا تَرْكَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا.

وَقَوْلُهُ: (إِذَا شُرِطَ) احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ شَيْءٌ وَحُكْمُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَادَّةِ وَهُوَ (إِذَا كَانَ طَرِيقُ حِصَّتِهِ فِي حِصَّةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاؤُهُ حِينَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ قَابِلَ التَّحْوِيلِ إِلَى طَرَفٍ آخَرَ يُحَوَّلْ سَوَاءٌ قِيلَ حِينَ الْقِسْمَةِ: بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا أَوْ لَمْ يُقَلْ، أَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ قَابِلٍ التَّحْوِيلَ إِلَى طَرَفٍ آخَرَ فَيُنْظَرُ إِنْ قِيلَ حِينَ الْقِسْمَةِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا فَالطَّرِيقُ دَاخِلٌ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكُرِ التَّعْبِيرُ الْعَامُّ كَقَوْلِهِمْ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا تَنْفَسِخِ الْقِسْمَةُ وَالْمَسِيلُ فِي هَذَا الْخُصُوصِ كَالطَّرِيقِ بِعَيْنِهِ.

الْمَسِيلُ الْوَاقِعُ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ

8 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1168) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّهُ: (إِذَا كَانَ لِوَاحِدٍ حَقُّ مَسِيلٍ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ فَفِي قِسْمَةِ الدَّارِ بَيْنَهُمَا يُتْرَكُ الْمَسِيلُ عَلَى حَالِهِ) .

إِحْدَاثُ الْمَسِيلِ فِي مِلْكٍ عَامٍّ أَوْ مِلْكٍ خَاصٍّ

9 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1231) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لأِحَدٍ أَنْ يُجْرِيَ مَسِيلَ مَحَلِّهِ الْمُحْدَثِ إِلَى دَارِ آخَرَ، الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ لأِحَدٍ إِحْدَاثُ مَسِيلِ مَحَلِّهِ إِلَى دَارِ آخَرَ حَتَّى لَوْ كَانَ مَحَلُّهُ قَدِيمًا.

فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ مَسِيلَهُ إِلَى دَارِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُضِرًّا أَوْ لاَ، لأِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِلاَ إِذْنِهِ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (96) أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ (1226) (لِلْمُبِيحِ صَلاَحِيَةُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِبَاحَتِهِ وَالضَّرَرُ لاَ يَكُونُ لاَزِمًا بِالإْذْنِ وَالرِّضَا..) .

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: (وَيَحْرُمُ إِجْرَاءُ مَاءٍ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ بِلاَ إِذْنِهِ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِهِ أَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِ أَرْضِهِ بِذَلِكَ، لأِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَاءِ مَضْرُورًا إِلَى إِجْرَائِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ .

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

قَالَ الْوَنْشَرِيسِيُّ: الْمَرَافِقُ الَّتِي لاَ ضَرَرَ فِيهَا لاَ يُمْنَعُ مِنْهَا مَنْ أَرَادَ إِحْدَاثَهَا لأِنَّهُ يَنْتَفِعُ هُوَ وَغَيْرُهُ لاَ يَسْتَضِرُّ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَرَافِقِ الَّتِي فِيهَا يَسِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الْجَارِ هَلْ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ أَوْ يُنْدَبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ عَلَى قَوْلَيْنِ كَغَرْزِ الرَّجُلِ خَشَبَةَ حَائِطِهِ فِي جِدَارِ جَارِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَالِ الْجَارِ مَعَ شَيْءٍ مِنْ ضَرَرٍ فَكَيْفَ مَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ بِوَجْهٍ.

أَمَّا إِنْ أَحْدَثَ الرَّجُلُ فِي طَرِيقٍ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى مَنْ يَمُرُّ فِيهِ فَلاَ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فِي الطَّرِيقِ الْمُتَمَلَّكَةِ كَمَا فِي النَّازِلَةِ، وَلاَ يَسُوغُ ذَلِكَ فِي الْمَحَجَّاتِ وَلاَ فِي الطَّرِيقِ غَيْرِ الْمُتَمَلَّكَةِ بِإِذْنٍ وَلاَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، لأِنَّ الْمَنْفَعَةَ غَيْرُ خَاصَّةٍ بِالإْذْنِ فَلاَ إِذْنَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ.

ثُمَّ قَالَ: رَجُلٌ لَهُ مَسْكَنٌ نَازَعَهُ جَارُهُ فِي مِرْحَاضٍ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ.

وَسَاقَ تَفْصِيلَ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَجْرَى مُضِرَّةٌ بِالطَّرِيقِ بِسَبَبِ الْمِرْحَاضِ فَالْحُكْمُ الْمَنْعُ مِنْ كُلِّ مَا يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ وَلاَ تُسْتَحَقُّ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهَا لأِنَّ الطَّرِيقَ قَدِيمَةٌ وَمَصَالِحَهَا عَامَّةٌ وَالإْحْدَاثَاتُ الْمُضِرَّةُ بِهَا تُرْفَعُ عَنْهَا وَإِنْ قَدُمَتْ، فَيُتْرَكُ الْكُرْسِيُّ فِي دَارِ صَاحِبِه وَالْمَجْرَى إِذَا لَمْ يَثْبُتْ حُدُوثُ مَضَرَّةٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ، وَيُمْنَعُ مَالِكُ الْمَجْرَى مِنْ إِجْرَاءِ مِرْحَاضِهِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ تُفْضِي إِلَى طَرِيقِ النَّاسِ .

وَقَالَ فِي الْبَهْجَةِ: إِذَا تَنَازَعَا فِي قِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُدُوثِ حَتَّى يُثْبِتَا خِلاَفَهُ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / التاسع والثلاوثون ، الصفحة / 39

الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْمِلْكِ:

تَرِدُ عَلَى الْمِلْكِ قُيُودٌ تَتَعَلَّقُ إِمَّا بِالأْسْبَابِ أَوْ بِالاِسْتِعْمَالِ أَوْ بِالاِنْتِقَالِ، وَكَذَلِكَ الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأْمْرِ وَلِلْمُتَعَاقِدِ.

أَوَّلاً - الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى أَسْبَابِ الْمِلْكِ

10 - تَظْهَرُ هَذِهِ الْقُيُودُ مِنْ خِلاَلِ كَوْنِ أَسْبَابِ كَسْبِ الْمِلْكِ فِي الشَّرِيعَةِ مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَلَيْسَتْ مُطْلَقَةً، وَلِذَلِكَ فَالْوَسَائِلُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْ سَرِقَةٍ، وَغَصْبٍ، أَوِ اسْتِغْلاَلٍ، أَوْ قِمَارٍ، أَوْ رِبًا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ، حَيْثُ قَطَعَتِ الشَّرِيعَةُ الطَّرِيقَ بَيْنَ الأْسْبَابِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمِلْكِ، وَمَنَعَتْهَا مَنْعًا بَاتًّا، وَطَالَبَتِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُهُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا، وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الآْيَاتُ وَالأْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ، مِنْهَا قوله تعالي : (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) . حَيْثُ مَنَعَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ الرِّضَا وَالإْرَادَةِ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ فَقَالَ تَعَالَى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) .

وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».

ثَانِيًا - الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمِلْكِ

11 - وَضَعَتِ الشَّرِيعَةُ قُيُودًا عَلَى الْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ الاِسْتِعْمَالِ فَأَوْجَبَتْ عَلَى الْمَالِكِ:

أ - أَنْ لاَ يَكُونَ مُبَذِّرًا مُسْرِفًا، وَلاَ مُقَتِّرًا بَخِيلاً، قَالَ تَعَالَى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) وَقَالَ سُبْحَانَهُ (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) .

وَالآْيَاتُ وَالأْحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَجَالِ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الإْسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَتَضْيِيعِ الْمَالِ بِدُونِ فَائِدَةٍ حَتَّى فِي مَجَالِ الأْكْلِ، يَقُولُ مُحَمَّدٌ بْنِ حَسَنٍ الشَّيْبَانِيُّ: ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْءِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ مِنَ الْحَلاَلِ الإْفْسَادُ، وَالسَّرَفُ، وَالتَّقْتِيرُ... ثُمَّ السَّرَفُ فِي الطَّعَامِ أَنْوَاعٌ: وَمِنْهُ الاِسْتِكْثَارُ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالأْلْوَانِ .

ب - أَلاَّ يَسْتَعْمِلَ الْمَالِكُ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، وَمِنْ ذَلِكَ حُرْمَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ وَاسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ لَهُمْ وَاسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

ج - وُجُوبُ الاْسْتِنْمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَعَدَمِ تَعْطِيلِ الأْمْوَالِ حَتَّى تُؤَدِّيَ دَوْرَهَا فِي التَّدَاوُلِ وَالتَّعْمِيرِ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الآْيَاتُ وَالأْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي تُطَالِبُ بِالْعَمَلِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ بِصِيَغِ الأْوَامِرِ، وَمِنْهَاقوله تعالي : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأْرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) وَمِنَ الأْحَادِيثِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلاَ يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» . كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَا لاَ تَتِمُّ مَصَالِحُ الأْمَّةِ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْحِرَفَ وَالصَّنَائِعَ وَالتِّجَارَةَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لأِنَّ قِيَامَ الدُّنْيَا بِهَا، وَقِيَامَ الدِّينِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ الْخَلْقُ مِنْهُ أَثِمُوا، وَكَانُوا سَاعِينَ فِي إِهْلاَكِ أَنْفُسِهِمْ، لَكِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، فَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى حَثٍّ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبٍ فِيهَا .

وَقَالَ مُحَمَّدٌ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكَسْبَ بِقَدْرِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ فَرِيضَةٌ .

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِنْمَاءٌ ف 10 - 17).

د - عَدَمُ الإْضْرَارِ بِالْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ فِي اسْتِعْمَالِهِ مِلْكَهُ أَنْ يَقْصِدَ الإْضْرَارَ بِالْغَيْرِ، لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الإْضْرَارِ بِأَحَدٍ لاَ فِي مَالِهِ، وَلاَ فِي نَفْسِهِ وَلاَ فِي عِرْضِهِ.

وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ مُقَابَلَةُ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ وَالإْتْلاَفِ بِالإْتْلاَفِ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ - وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ - يُمْنَعُ إِذَا أَدَّى إِلَى الإْضْرَارِ بِالآْخَرِينَ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْفُقَهَاءُ الْمَالِكَ مِنْ إِشْعَالِ النَّارِ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، مَا دَامَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِحْرَاقُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ الْجِيرَانِ، حَيْثُ يُعْتَبَرُ مُتَعَدِّيًا، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ .

12 - وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَنْعِ الْجَارِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الإْضْرَارُ بِالْجَارِ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:

فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ مَا دَامَ فِيهِ قَصْدُ الإْضْرَارِ، أَوْ كَانَ الضَّرَرُ فَاحِشًا، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ فَيُمْنَعُ، وَغَيْرُ الْفَاحِشِ الَّذِي لاَ يُمْنَعُ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ، وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ .

وَكَمَا مَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ الإْضْرَارَ بِالأْفْرَادِ مَنَعَتِ الإْضْرَارَ بِالْمُجْتَمَعِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَتِ الاِحْتِكَارَ وَالرِّبَا، وَالْمُتَاجَرَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى الْفَسَادِ.

ثَالِثًا - الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عِنْدَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ

13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لاِنْتِقَالِ الْمِلْكِ شُرُوطًا وَضَوَابِطَ، وَجَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ وَسَائِلَ الاِنْتِقَالِ - كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ - فِي الرِّضَا وَالإْرَادَة، بَلِ اشْتَرَطَتْ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا غَيْرَ مَشُوبٍ بِعُيُوبِ الرِّضَا وَعُيُوبِ الإْرَادَة، مِنَ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ وَالاِسْتِغْلاَلِ وَالإْكْرَاهِ وَالْغَلَطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) وَلِقَوْلِ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ» وَقَوْلِهِ: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ».

وَلِلتَّفْصِيلِ ر: مُصْطَلَحَ (رِضًا ف 13 وَمَا بَعْدَهَا).

كَذَلِكَ حَدَّدَ الْفُقَهَاءُ إِرَادَةَ الْمَالِكِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ بِالثُّلُثِ إِذَا كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ عَطَاءً وَهِبَةً، أَوْ مُحَابَاةً، أَوْ وَصِيَّةً .

ر: مُصْطَلَحَ (مَرَضُ الْمَوْتِ).

وَقَدْ قَيَّدَتِ الشَّرِيعَةُ إِرَادَةَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي فِيهَا ضَرَرٌ، أَوْ مِنْ شَأْنُهَا الضَّرَرُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُرَاجَعُ فِيهِ مُصْطَلَحُ: (حَجْرٌ، سَفَهٌ ف 26 وَمَا بَعْدَهَا).

وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْمَوْتِ فَإِنَّ جَمِيعَ أَمْوَالِ الْمَيِّتِ تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ حَسَبَ قَوَاعِدِ الْفَرَائِضِ، كَمَا أَنَّ وَصِيَّتَهُ تُنَفَّذُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَتَنْتَقِلُ إِلَى الْمُوصَى إِلَيْهِمْ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (إِرْثٌ ف 14، وَصِيَّةٌ).

رَابِعًا - الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأْمْرِ:

أَعْطَتِ الشَّرِيعَةُ الإْسْلاَمِ يَّةُ وَلِيَّ الأْمْرِ حَقَّ وَضْعِ قُيُودٍ عَلَى الْمِلْكِ وَمِنْ ذَلِكَ:

الأْوَّلُ - تَقْيِيدُ الْمِلْكِ الْخَاصِّ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ

14 - تُقِرُّ الشَّرِيعَةُ الْمِلْكَ لِلأْفْرَادِ وَتَحْمِيهِ وَتَصُونَهُ، وَمِعْيَارُ تَقْيِيدِهِ فِيهَا يَقُومُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لاَ تَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنَّمَا تَعُمُّ الْمُجْتَمَعَ، يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: لأِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ .

فَحَقُّ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِصَاحِبِهِ، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ، إِلاَّ أَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَصُونٌ وَمُحَافَظٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، فَمُرَاعَاةُ مَصَالِحِ الآْخَرِينَ قَيْدٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُقُوقِ وَمِنْهَا الْمِلْكُ، يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: لأِنَّ طَلَبَ الإْنْسَانِ لِحَظِّهِ حَيْثُ أُذِنَ لَهُ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ .

وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْعِ الْعَامِّ.

الثَّانِي - الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأْمْرِ عَلَى حَقِّ التَّمَلُّكِ:

وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مَا يَلِي:

أ - إِحْيَاءُ الأْرْضِ الْمَوَاتِ:

15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ الأْرْضِ الْمَوَاتِ بِالإْحْيَاءِ دُونَ إِذْنِ الإْمَامِ ، أَوْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إِذْنُ الإْمَامِ لِتَمَلُّكِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الإْحْيَاءِ إِذْنُ الإْمَامِ .

وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 14).

ب - تَمَلُّكُ الْمَعَادِنِ

16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ جَامِدَةً أَمْ سَائِلَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ ظَاهِرَةً أَمْ فِي بَاطِنِ الأْرْضِ ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ مِلْكًا خَاصًّا أَمْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَهِيَ مِلْكٌ لِلدَّوْلَةِ (جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ) تَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ بِتَأْجِيرِهَا لِمُدَّةِ مَعْلُومَةٍ، أَوْ إِقْطَاعِهَا لاَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ .

وَكَذَلِكَ الأْمْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ، حَيْثُ لاَ تُمْلَكُ عِنْدَهُمْ بِالإْحْيَاءِ، لأِنَّ فِي ذَلِكَ إِضْرَارًا بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، فَلاَ تُمْلَكُ بِالإْحْيَاءِ عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 29)

ج - الْحِمَى:

17 - الْحِمَى حَيْثُ هُوَ قَيْدٌ عَلَى الإْحْيَاءِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْمُوا لأِنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا مَوَاضِعَ لِتَرْعَى فِيهَا خَيْلُ الْمُجَاهِدِينَ، وَنَعَمُ الْجِزْيَةِ وَإِبِلُ الصَّدَقَةِ وَضَوَالُّ النَّاسِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَتَضَرَّرُ بِهِ مَنْ سِوَاهُمْ.

ثُمَّ إِنَّ الْحِمَى نَفْسَهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ فَلاَ يَجُوزُ التَّوَسُّعُ فِيهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 21، وَحِمًى ف 6).

الثَّالِثُ - الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأْمْرِ عَلَى حَقِّ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ:

لِوَلِيِّ الأْمْرِ الْحَقُّ فِي تَقْيِيدِ تَصَرُّفَاتِ الْمَالِكِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ دُونَ ضَرَرٍ وَلاَ ضِرَارٍ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ - التَّسْعِيرُ:

18 - التَّسْعِيرُ هُوَ تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ لِلنَّاسِ سِعْرًا وَإِجْبَارُهُمْ عَلَى التَّبَايُعِ بِمَا قَدَّرَهُ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأْصْلَ فِي التَّسْعِيرِ هُوَ الْحُرْمَةُ، أَمَّا جَوَازُ التَّسْعِيرِ فَمُقَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِشُرُوطِ مُعَيَّنَةٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْعِيرٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).

ب - الاِحْتِكَارُ:

19 - الاِحْتِكَارُ هُوَ شِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، وَحَبْسُهُ إِلَى الْغَلاَءِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِحْتِكَارَ بِالْقُيُودِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَحْظُورٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإْضْرَارِ بِالنَّاسِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الْمُحْتَكِرَ بِإِخْرَاجِ مَا احْتَكَرَ إِلَى السُّوقِ وَبَيْعِهِ لِلنَّاسِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ ف 12).

مَدَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ فِي نَزْعِ الْمِلْكِ

20 - لِلدَّوْلَةِ الْحَقُّ فِي نَزْعِ الْمِلْكِ اسْتِثْنَاءً لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ وَاضْطُرَّ النَّاسُ إِلَيْهِ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ .

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً - اسْتِمْلاَكُ الأْرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا خَاصًّا لأِجْلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ:

21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِالنَّاسِ فَيَجُوزُ تَوْسِعَتُهُ عَلَى حِسَابِ الأْرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا خَاصًّا وَكَذَلِكَ الأْمْرُ إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى شَقِّ طُرُقٍ عَامَّةٍ أَوْ تَوْسِعَتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْ تَعْوِيضٍ عَادِلٍ يَقُومُ بِتَقْدِيرِهِ ذَوُو الْخِبْرَةِ.

وَقَدْ نَصَّتْ مَجَلَّةُ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ: لَدَى الْحَاجَةِ يُؤْخَذُ مِلْكُ كَائِنٍ مَنْ كَانَ بِالْقِيمَةِ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ وَيُلْحَقُ بِالطَّرِيقِ، لَكِنْ لاَ يُؤْخَذُ مِنْ يَدِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ لَهُ الثَّمَنَ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالي عنهم لَمَّا ضَاقَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَخَذُوا أَرَضِينَ بِكُرْهٍ مِنْ أَصْحَابِهَا بِالْقِيمَةِ وَزَادُوا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَبِفِعْلِ عُثْمَانَ رضي الله تعالي عنه فِي تَوْسِيعِهِ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم .

ثَانِيًا - نَزْعُ الْمِلْكِيَّةِ لأِجْلِ مَصْلَحَةِ الأْفْرَادِ:

22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ مَصْلَحَةٌ فَرْدِيَّةٌ مَعَ مَصْلَحَةٍ فَرْدِيَّةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تُقَدِّمُ أَقْوَاهُمَا وَأَوْلاَهُمَا بِالاِعْتِبَارِ وَأَكْثَرِهِمَا دَرْءًا لِلْمَفْسَدَةِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَجَازَتِ الشَّرِيعَةُ نَزْعَ الْمِلْكِ الْخَاصِّ، أَوِ التَّمَلُّكَ الْقَهْرِيَّ لأِجْلِ مَصْلَحَةٍ فَرْدِيَّةٍ فِي عِدَّةِ صُوَرٍ، مِنْهَا:

أ - الشُّفْعَةُ:

23 - الشُّفْعَةُ لُغَةً: الضَّمُّ، وَشَرْعًا: تَمْلِيكُ الْبُقْعَةِ جَبْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلاَّ فَبِقِيمَتِهِ .

وَالشُّفْعَةُ ثَابِتَةٌ لِلشَّرِيكِ بِالاِتِّفَاقِ، وَلِلْجَارِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، حَيْثُ ذَهَبَ جُمْهُورُهُمُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِهَا لِلْجَارِ، فِي حِينِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِهَا لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ .

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَةٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

ب - بَيْعُ أَمْوَالِ الْمَدِينِ لِصَالِحِ الدَّائِنِ جَبْرًا عَلَيْهِ

24 - أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مَا عَدَا أَبَا حَنِيفَةَ - بَيْعَ أَمْوَالِ الْمَدِينِ لأِدَاءِ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ مَا دَامَ لَهُ مَالٌ، حَيْثُ يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ إِذَا طَلَبُوا ذَلِكَ، ثُمَّ يَبِيعُ الْقَاضِي مَالَهُ وَيُوَزِّعُهُ عَلَيْهِمْ حَسَبَ حِصَصِ دُيُونِهِمْ إِذَا امْتَنَعَ الْمَدِينُ عَنْ بَيْعِهِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الدُّيُونِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ دُيُونَ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ تَعْوِيضٍ .

ج - بَيْعُ الْمَرْهُونِ لأِدَاءِ الدَّيْنِ

25 - لِلْحَاكِمِ أَنْ يُجْبِرَ الرَّاهِنَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، أَوْ بَيْعِ الْمَرْهُونِ، فَإِنْ أَبَى يَقُومُ الْحَاكِمُ بِبَيْعِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ ف 24).

د - الأْشْيَاءُ الَّتِي لاَ تَنْقَسِمُ أَوْ فِي قِسْمَتِهَا ضَرَرٌ:

26 - يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُجْبِرَ عَلَى الْبَيْعِ مَنْ أَبَاهُ إِذَا طَلَبَ الْبَيْعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الأْشْيَاءِ الَّتِي لاَ تَنْقَسِمُ أَوْ فِي قِسْمَتِهَا ضَرَرٌ فَإِذَا امْتَنَعَ بَاعَ عَنْهُ الْحَاكِمُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِالطَّالِبِ، لأِنَّهُ إِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ مُفْرَدًا نَقَصَ ثَمَنُهُ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَةٌ ف 12 وَمَا بَعْدَهَا).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الحادي والأربعون ، الصفحة / 387

النَّهْرُ الصَّغِيرُ وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ:

7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّهْرُ غَيْرُ الْمَمْلُوكِ صَغِيرًا يَتَزَاحَمُ النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَتَشَاحُّونَ فِي مَائِهِ فَلِمَنْ فِي أَوَّلِ النَّهْرِ (أَيْ أَعْلاَهُ) أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَيَحْبِسَ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبِ، ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ مِنَ الثَّانِي إِلَى الثَّالِثِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ سَقْيُ الأْرَاضِي كُلِّهَا .

وَالأْصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ «أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأْنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلي الله عليه وسلم - فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأْنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلي الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلي الله عليه وسلم - لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأْنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلي الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ).

وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صلي الله عليه وسلم - الزُّبَيْرَ - رضي الله عنه - أَنْ يَسْقِيَ ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ تَسْهِيلاً عَلَى غَيْرِهِ، فَلَمَّا قَالَ الأْنْصَارِيُّ مَا قَالَ اسْتَوْعَى النَّبِيُّ - صلي الله عليه وسلم - لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ .

وَقَدْ رَوَى عُبَادَةُ - رضي الله عنه - «أَنَّ النَّبِيَّ - صلي الله عليه وسلم - قَضَى فِي شُرْبِ النَّخْلِ مِنَ السَّيْلِ أَنَّ الأْعْلَى فَالأْعْلَى يَشْرَبُ قَبْلَ الأْسْفَلِ ، وَيُتْرَكُ الْمَاءُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَاءُ إِلَى الأْسْفَلِ الَّذِي يَلِيهِ، حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَوَائِطُ أَوْ يَفْنَى الْمَاءُ» .

وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلي الله عليه وسلم - قَضَى فِي سَيْلٍ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِبٍ، أَنَّ الأْعْلَى يُرْسَلُ إِلَى الأْسْفَلِ وَيُحْبَسُ قَدْرَ كَعْبَيْنِ» .

وَإِذَا سَقَى الأْوَّلُ وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ، أَوْ سَقَى الثَّانِي وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ، فَلاَ شَيْءَ لِمَنْ بَعْدَهُ، لأِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَا فَضَلَ، فَهُوَ كَالْعُصْبَةِ مَعَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ فِي الْمِيرَاثِ .

وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ أَحَدِهِمَا انْخِفَاضٌ وَارْتِفَاعٌ، أَيْ كَانَ بَعْضُهَا مُرْتَفِعًا وَبَعْضُهَا مُنْخَفِضًا فَإِنَّهُ يَسْقِي كُلَّ نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ لأِنَّ هُمَا لَوْ سَقَيَا مَعًا لَزَادَ الْمَاءُ فِي الأْرْضِ الْمُنْخَفِضَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ يَسْقِيَ الْمُنْخَفِضُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَسُدَّهُ ثُمَّ يَسْقِيَ الْمُرْتَفِعُ .

وَإِذَا سَقَى الأْعْلَى ، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى سَقْيِ أَرْضِهِ مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ انْتِهَاءِ سَقْيِ الأْرَاضِي كُلِّهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ سَقْيُ الأْرَاضِي لِيَحْصُلَ التَّعَادُلُ .

هَذَا هُوَ الأْصْلُ فِي هَذَا وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ مَنْ فِي أَعْلاَ النَّهْرِ بِالسَّقْيِ فَيَسْقِيَ أَرْضَهُ وَيَحْبِسَ الْمَاءَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى كَعْبِهِ ثُمَّ يُرْسِلَهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ، وَهَكَذَا كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، إِذَا كَانَ إِحْيَاؤُهُمْ مَعًا، أَوْ أَحْيَا الأْعْلَى قَبْلَ غَيْرِهِ، أَوْ جَهِلَ الْحَالَ .

8 - أَمَّا لَوْ كَانَ مَنْ فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ هُوَ الَّذِي سَبَقَ بِالإْحْيَاءِ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي السَّقْيِ، ثُمَّ مَنْ أَحْيَا بَعْدَهُ، وَهَكَذَا لأِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السَّقْيِ هُوَ السَّبْقُ إِلَى الإْحْيَاءِ لاَ إِلَى أَوَّلِ النَّهْرِ .

بَلْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الأْسْفَلُ أَسْبَقَ إِحْيَاءً فَهُوَ الْمُقَدَّمُ، بَلْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَرَادَ إِحْيَاءَ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى النَّهْرِ وَسَقْيَهُ مِنْهُ عِنْدَ الضِّيقِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الرَّوْضَةِ وَصَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ، لِئَلاَّ يُسْتَدَلَّ بِقُرْبِهِ بَعْدُ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ مَنْ وَلِيَهُ فِي الإْحْيَاءِ وَهَكَذَا، وَلاَ عِبْرَةَ حِينَئِذٍ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّهْرِ، وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالأْعْلَى : الْمُحْيِي قَبْلَ الثَّانِي وَهَكَذَا، لاَ الأْقْرَبُ إِلَى النَّهْرِ .

وَقَيَّدَ سَحْنُونُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَحَلَّ تَقْدِيمِ الأْسْفَلِ السَّابِقِ فِي الإْحْيَاءِ عَلَى الأْعْلَى الْمُتَأَخِّرِ فِي الإْحْيَاءِ إِذَا خِيفَ عَلَى زَرْعِ الأْسْفَلِ الْهَلاَكُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ فِي السَّقْيِ، وَإِلاَّ قُدِّمَ الأْعْلَى الْمُتَأَخِّرُ فِي الإْحْيَاءِ عَلَى الأْسْفَلِ ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيِّ أَنَّ الأْسْفَلَ يُقَدَّمُ إِذَا تَقَدَّمَ فِي الإْحْيَاءِ وَلَوْ لَمْ يُخَفْ عَلَى زَرْعِهِ بِتَقْدِيمِ الأْعْلَى .

قَدْرُ مَا يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ:

9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ قَبْلَ إِرْسَالِهِ إِلَى الآْخَرِ.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَظَرْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صلي الله عليه وسلم -: «ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ» فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ .

وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِيمَا يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ وَجْهَيْنِ:

قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي قَدْرِ السَّقْيِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْحَاجَةِ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ التَّقْدِيرُ بِالْكَعْبَيْنِ فِي كُلِّ الأْزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ، لأِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأْرْضِ وَبِاخْتِلاَفِ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ وَشَجَرٍ، وَبِوَقْتِ الزِّرَاعَةِ وَبِوَقْتِ السَّقْيِ .

وَفِي حَاشِيَةِ الرَّمْلِيِّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِبِ ذَكَرَ أَنَّ كَلاَمَ الْجُمْهُورِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ (وَهُوَ أَنْ يُحْبَسَ الْمَاءُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ) مَحْمُولٌ عَلَى أَرْضٍ يَكْفِيهَا ذَلِكَ، أَمَّا الأْرْضُ الَّتِي لاَ تَكْفِيهَا إِلاَّ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ كَغَالِبِ مَزَارِعِ الْيَمَنِ فَتُسْقَى إِلَى حَدِّ كِفَايَتِهَا عَادَةً مَكَانًا وَزَمَانًا، وَقَدِ اخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ، قَالَ الأْذْرُعِيُّ: وَهُوَ قَوِيٌّ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّيُّ.

10 - وَهَلِ الْمُرَادُ بِالْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ يُحْبَسُ الْمَاءُ إِلَيْهِمَا الأْسْفَلُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ أَوِ الأْعْلَى كَمَا قَالُوا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ؟ الظَّاهِرُ الأْوَّلُ، وَالْمَرْجِعُ إِلَى الْقَدْرِ الْمُعْتَدِلِ أَوِ الْغَالِبِ، لأِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْتَفِعُ كَعْبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْخَفِضُ وَيَدْنُو مِنْ أَسْفَلِ الرِّجْلِ وَالأْقْرَبُ الأْوَّلُ .

وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْبِسُ الأْعْلَى مِنَ الْمَاءِ مَا بَلَغَ الْكَعْبَ وَيُرْسِلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِلَّذِي يَلِيهِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ الأْظْهَرُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُرْسِلُ جَمِيعَ الْمَاءِ وَلاَ يَحْبِسُ شَيْئًا مِنْهُ (أَيْ بَعْدَ سَقْيِ أَرْضِهِ ).

ثَانِيًا: النَّهْرُ الْخَاصُّ (الْمَمْلُوكُ) وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ

11 - إِذَا كَانَ النَّهْرُ مَمْلُوكًا لِشَخْصٍ، كَأَنْ شَقَّ شَخْصٌ لِنَفْسِهِ نَهْرًا مِنَ الأْنْهَارِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ أَصْبَحَ مَالِكًا لَهُ وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ لِسَقْيِ أَرْضِهِ وَدَوَابِّهِ، وَلَيْسَ لأِحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ أَوْ سَقْيُ أَرْضٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ زَرْعٍ مِنْهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، لأِنَّ الْحَقَّ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ .

فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ سَقَى أَرْضَهُ أَوْ زَرَعَهُ مِنْ نَهْرِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ - سَوَاءٌ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ أَوْ لاَ- لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ يُؤَدِّبْهُ السُّلْطَانُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ .

وَلَكِنْ لِلْغَيْرِ حَقُّ الشُّرْبِ لِنَفْسِهِ وَدَوَابِّهِ إِلاَّ إِذَا خِيفَ تَخْرِيبُ النَّهْرِ بِكَثْرَةِ الدَّوَابِّ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَالشَّفَةُ إِذَا كَانَتْ تَأْتِي عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلاً صَغِيرًا وَفِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاشِي كَثْرَةٌ تَقْطَعُ الْمَاءَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ يَمْنَعُ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يَمْنَعُ لِلضَّرَرِ وَجُزِمَ بِالثَّانِي فِي الْمُلْتَقَى .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِمَالِكِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعَ مَا لِلشُّرْبِ وَالاِسْتِعْمَالِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَلَوْ بِدَلْوٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ لاَ يُدْلِي أَحَدٌ فِيهِ دَلْوًا .

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ مِنَ الْجَدَاوِلِ وَالأْنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ إِذَا كَانَ السَّقْيُ لاَ يَضُرُّ بِمَالِكِهَا جَائِزٌ، إِقَامَةً لِلإْذْنِ الْعُرْفِيِّ مَقَامَ اللَّفْظِيِّ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ النَّهْرُ لِمَنْ لاَ يُعْتَبَرُ إِذْنُهُ كَالْيَتِيمِ وَالأْوْقَافِ الْعَامَّةِ فَعِنْدِي فِيهِ وَقْفَةٌ، وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي لِشُرْبِهِ وَغَسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ إِلَيْهِ فِي مَكَانٍ مَحُوطٍ عَلَيْهِ، وَلاَ يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ الْمَنْعُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلي الله عليه وسلم -: «ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ».. .. «وَعَنْ بُهَيْسَةَ عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمَاءُ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمِلْحُ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ» . فَأَمَّا مَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ كَسَقْيِ الْمَاشِيَةِ الْكَثِيرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَإِنْ فَضَلَ الْمَاءُ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ حَاجَتِهِ لَمْ يَلْزَمْ بَذْلُهُ .

ثَالِثًا: النَّهْرُ دَاخِلُ الْمِلْكِ:

12 - إِذَا كَانَ النَّهْرُ دَاخِلَ مِلْكِ رَجُلٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ .

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ بَيَانُهُ كَالآْتِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالآْبَارِ وَالْعُيُونِ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِصَاحِبِهِ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ، لَكِنْ لَهُ حَقٌّ خَاصٌّ فِيهِ، لأِنَّ الْمَاءَ فِي الأْصْلِ خُلِقَ مُبَاحًا لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ» وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ تَقْتَضِي الإْبَاحَةَ، فَلَوْ كَانَ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ مِنَ الشُّرْبِ لِنَفْسِهِ أَوْ مَاشِيَتِهِ مِنَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ، لأِنَّ الدُّخُولَ إِلَى أَرْضِهِ إِضْرَارٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ يَجِدُ مَاءً بِقُرْبِهِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً بِقُرْبِهِ وَاضْطُرَّ لِلدُّخُولِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ الْهَلاَكَ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ: إِمَّا أَنْ تَأْذَنَ بِالدُّخُولِ لِيَأْخُذَ الْمَاءَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكْسِرَ ضَفَّةَ النَّهْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَ الْمَاءَ إِلَيْهِ وَتُعْطِيَهُ بِنَفْسِكَ. فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ وَمَنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذَ قَدْرَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلاَكُ، وَالأْصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - فَقَالَ: هَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَا كَانَ مِنَ الْمَاءِ فِي أَرْضٍ مُتَمَلَّكَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِثْلَ بِئْرٍ يَحْفِرُهَا أَوْ عَيْنٍ يَسْتَخْرِجُهَا، أَوْ غَيْرَ مُسْتَنْبَطٍ غَدِيرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَيَحِلُّ لَهُ بِيعُهُ وَمَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ إِلاَّ بِثَمَنٍ، إِلاَّ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ لاَ ثَمَنَ مَعَهُمْ وَيَخَافُ عَلَيْهِمُ الْهَلاَكَ إِنْ مَنَعَهُمْ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَمْنَعَهُمْ.

فَإِنْ مَنَعَهُمْ فَعَلَيْهِمْ مُجَاهَدَتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.

وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ خَافَ عَلَى مُسْلِمٍ الْمَوْتَ أَنْ يُحْيِيَهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ عَلَى أَصْحَابِ الْمِيَاهِ بَيْعُهَا مِنَ الْمُسَافِرِينَ بِمَا تُسَاوِي، وَلاَ يَشْتَطُّوا عَلَيْهِمْ فِي ثَمَنِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُونَ لاَ ثَمَنَ مَعَهُمْ وَجَبَتْ مُوَاسَاتُهُمْ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِمْ وَلاَ يُتْبِعُوا بِالثَّمَنِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ بِبَلَدِهِمْ، لأِنَّ هُمُ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ سَبِيلٍ يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ الزَّكَاةِ لِوُجُوبِ مُوَاسَاتِهِمْ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمِيَاهُ الْمُخْتَصَّةُ بِبَعْضِ النَّاسِ وَهِيَ مِيَاهُ الآْبَارِ وَالْقَنَوَاتِ، كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوِ انْفَجَرَ فِيهِ عَيْنٌ مَلَكَهَا وَمَلَكَ مَاءَهَا فِي الأْصَحِّ، إِذِ الْمَاءُ يُمْلَكُ، وَهُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنْهُ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ وَعَنْ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ .

وَفِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ: أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْمَاءَ، لِخَبَرِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ» وَسَوَاءٌ مَلَكَ الْمَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ أَوْ لاَ، لاَ يَلْزَمُهُ بَذْلُ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ لِزَرْعٍ وَشَجَرٍ، وَيَجِبُ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنْهُ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ وَالْفَاضِلِ عَنْ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بَذْلُهُ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ الزَّرْعِ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ، وَقِيلَ: يَجِبُ بَذْلُهُ لِلزَّرْعِ كَالْمَاشِيَةِ، وَقِيلَ: لاَ يَجِبُ لِلْمَاشِيَةِ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْبَذْلُ لِلْمَاشِيَةِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ كَلأَ مُبَاحٌ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً مَبْذُولاً لَهُ وَلَمْ يُحْرِزْهُ فِي إِنَاءٍ وَنَحْوِهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ بَذْلُهُ. وَحَيْثُ وَجَبَ الْبَذْلُ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَيْهِ فَإِنْ صَحَّ بَيْعُ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ، لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ.

وَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْمَاءِ التَّقْدِيرُ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ لاَ بِرَيِّ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْمَاءَ لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ»، وَمَا فَضَلَ مِنْ مَائِهِ الَّذِي لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ عِيَالِهِ وَحَاشِيَتِهِ وَدِرْعِهِ يَجِبُ بَذْلُهُ لِبَهَائِمِ غَيْرِهِ وَزَرْعِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلإَ» .

وَهَذَا مَا لَمْ يَجِدْ رَبُّ الْبَهَائِمِ أَوِ الزَّرْعِ مَاءً مُبَاحًا فَيَسْتَغْنِي بِهِ فَلاَ يَجِبُ الْبَذْلُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْبَاذِلُ لِلْمَاءِ يَتَضَرَّرُ فَلاَ يَلْزَمُهُ الْبَذْلُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ طَالِبُ الْمَاءِ يُؤْذِي صَاحِبَهُ بِدُخُولِهِ فِي أَرْضِهِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَمْنَعَهُ دَفْعًا لِلأْذَى .

رَابِعًا: النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ:

13 - إِذَا كَانَ النَّهْرُ مَمْلُوكًا لأِكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَلَيْسَ لأِحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَشُقَّ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى أَوْ دَالِيَةً أَوْ جِسْرًا أَوْ قَنْطَرَةً أَوْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ أَوْ يَسُوقَ نَصِيبَهُ إِلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى إِلاَّ بِرِضَا شُرَكَائِهِ لأِنَّ هُمْ قَدْ يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ .

وَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَانِيَّةِ أَنَّ النَّهْرَ إِذَا كَانَ خَاصًّا بِقَوْمٍ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَسْقِيَ بُسْتَانَهُ أَوْ أَرْضَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، فَإِنْ أَذِنُوا إِلاَّ وَاحِدًا أَوْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ غَائِبٌ لاَ يَسَعُ الرَّجُلَ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهُ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ .

وَفِي الأْمِّ: لَوْ أَنَّ جَمَاعَةً كَانَ لَهُمْ مِيَاهٌ بِبَادِيَةٍ فَسَقَوْا مِنْهَا وَاسْتَقَوْا وَفَضَلَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَجَاءَ مَنْ لاَ مَاءَ لَهُ يَطْلُبُ أَنْ يَشْرَبَ أَوْ يَسْقِيَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ مَعَهُ فَضْلٌ مِنَ الْمَاءِ- وَإِنْ قَلَّ- مَنْعُهُ إِيَّاهُ إِنْ كَانَ فِي عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ، لأِنَّهُ فَضْلُ مَاءٍ يَزِيدُ وَيُسْتَخْلَفُ .

كَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ مَاءِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ:

14 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي حَفْرِ النَّهْرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَاءِ هَذَا النَّهْرِ فِي شُرْبِهِ وَسَقْيِ أَرْضِهِ، فَإِنْ تَرَاضَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ فِي الاِنْتِفَاعِ جَازَ ذَلِكَ لأِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ .

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَسِمَ الشُّرَكَاءُ مَاءَ النَّهْرِ بِالْمُهَايَأَةِ إِذَا تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْلُومًا، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ حِصَّةً يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَوْ أَنْ يَجْعَلُوا لِوَاحِدٍ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ، وَلِلآْخَرِ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوِ اقْتَسَمُوهُ بِالسَّاعَاتِ وَأَمْكَنَ ضَبْطُ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ جَازَ إِذَا تَرَاضَوْا بِهِ، لأِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ لاَ يَتَجَاوَزُهُمْ، أَوْ أَنْ يَسْقِيَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَوْمًا، أَوْ بَعْضُهُمْ يَسْقِي يَوْمًا وَبَعْضُهُمْ يَسْقِي أَكْثَرَ بِحَسَبِ حِصَّتِهِ وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) .

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَإِذَا اقْتَسَمُوا بِالْمُهَايَأَةِ جَازَ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ رَجَعَ وَقَدْ أَخَذَ نَوْبَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الآْخَرُ نَوْبَتَهُ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ نَوْبَتِهِ مِنَ النَّهْرِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي أَخَذَ نَوْبَتَهُ فِيهَا .

وَقِيلَ: تَلْزَمُ الْمُهَايَأَةُ لِيَثِقَ كُلُّ وَاحِدٍ بِالاِنْتِفَاعِ، وَقِيلَ: لاَ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ بِالْمُهَايَأَةِ، لأِنَّ الْمَاءَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، وَتَخْتَلِفُ فَائِدَةُ السَّقْيِ بِالأْيَّامِ .

15 - وَإِنْ تَشَاحَّ الشُّرَكَاءُ فِي قِسْمَةِ الْمَاءِ أَوْ ضَاقَ عَنْهُمْ قَسَمَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ.

وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ- كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ -بِنَصْبِ نَحْوِ خَشَبَةٍ أَوْ حَجَرٍ فِي عُرْضِ النَّهْرِ مُسْتَوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ، مَوْضُوعَةٍ بِمُسْتَوٍ مِنَ الأْرْضِ ، وَفِيهَا ثُقُبٌ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ مِنَ النَّهْرِ، لأِنَّهُ طَرِيقٌ فِي اسْتِيفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ.

فَإِنْ كَانَتْ أَمْلاَكُهُمْ مُسْتَوِيَةً فَوَاضِحٌ.

وَإِنْ كَانَتْ أَمْلاَكُهُمْ مُخْتَلِفَةً قَسَّمَ الْمَاءَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ النِّصْفُ وَلآِخَرَ الثُّلْثُ وَلآِخَرَ السُّدْسُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْخَشَبَةِ سِتَّ ثُقُبٍ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلاَثَةُ ثُقُوبٍ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِصَاحِبِ الثُّلْثِ اثْنَانِ يَصُبَّانِ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِصَاحِبِ السُّدْسِ وَاحِدٌ يَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ .

وَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ الْخُمُسَانِ، وَالْبَاقِي لاِثْنَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ، جَعَلَ فِي الْخَشَبَةِ عَشَرَةَ ثُقُوبٍ، لِصَاحِبِ الْخَمْسِينَ أَرْبَعَةٌ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الآْخَرِينَ ثَلاَثَةٌ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ.

وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لِعَشَرَةٍ، لِخَمْسَةٍ مِنْهُمْ أَرَاضٍ قَرِيبَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ، وَلِخَمْسَةٍ أَرَاضٍ بَعِيدَةٌ جَعَلَ لأِصْحَابِ الأْرْضِ الْقَرِيبَةِ خَمْسَةَ ثُقُوبٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُقْبٌ، وَجَعَلَ لِلْبَاقِينَ خَمْسَةً تَجْرِي فِي النَّهْرِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى أَرْضِهِمْ، ثُمَّ تُقَسَّمَ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً أُخْرَى .

وَمَا حَصَلَ لأِحَدِهِمْ فِي سَاقِيَتِهِ تَصَرَّفَ فِيهِ بِمَا أَحَبَّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ يَصْنَعُ بِنَصِيبِهِ مَا شَاءَ .

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ وَاخْتَصَمُوا فِي الشُّرْبِ كَانَ الشُّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ، لأِنَّ الْمَقْصُودَ الاِنْتِفَاعُ بِسَقْيِ الأْرَاضِي فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الأْعْلَى مِنْهُمْ لاَ يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكَرَ النَّهْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ .

فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ الأْعْلَى النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ أَوِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ لأِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِلَوْحٍ فَلاَ يَسْكُرُ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ كَالطِّينِ وَغَيْرِهِ، لِكَوْنِهِ إِضْرَارًا بِهِمْ بِمَنْعِ مَا فَضَلَ مِنَ السَّكْرِ عَنْهُمْ، إِلاَّ إِذَا رَضُوا بِذَلِكَ.

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ الشُّرْبُ إِلاَّ بِالسَّكْرِ وَلَمْ يَصْطَلِحُوا عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَهْلِ الأْسْفَلِ حَتَّى يَرْوُوا، ثُمَّ بَعْدَهُ لأِهْلِ الأْعْلَى أَنْ يَسْكُرُوا.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «أَهْلُ أَسْفَلِ النَّهْرِ أُمَرَاءٌ عَلَى أَهْلِ أَعْلاَهُ حَتَّى يَرْوُوا». لأِنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الأْعْلَى مِنَ السَّكْرِ، وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ لَزِمَكَ طَاعَتُهُ فَهُوَ أَمِيرُكَ.

وَفِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى: قَالَ شَيْخُ الإْسْلاَمِ: وَاسْتَحْسَنَ مَشَايِخُ الأْنَامِ قَسْمَ الإْمَامِ بِالأَْيَّامِ، أَيْ إِذَا لَمْ يَصْطَلِحُوا وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِلاَ سَكْرٍ يَقْسِمُ الإْمَامُ بَيْنَهُمْ بِالأْيَّامِ فَيَسْكُرُ كُلٌّ فِي نَوْبَتِهِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَقَطْعُ التَّنَازُعِ وَالْخِصَامِ، إِذْ لاَ شَكَّ أَنَّ لِكُلِّ شَرِيكٍ فِي هَذَا الْمَاءِ حَقًّا، فَتَخْصِيصُ أَهْلِ الأْسْفَلِ بِهِ حِينَ قِلَّةِ الْمَاءِ فِيهِ ضَرَرٌ لأِهْلِ الأْعْلَى ، كَذَا تَخْصِيصُ أَهْلِ الأْعْلَى بِهِ فِيهِ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ، فَلِذَا اسْتَحْسَنُوا مَا ذَكَرُوا وَارْتَضَوْهُ .

وَلَوْ كَانَتْ قِسْمَةُ الْمَاءِ وَقَعَتْ بِالْكِوَى -بِكَسْرِ الْكَافِ جَمْعُ كَوَّةٍ بِفَتْحِهَا: الثُّقْبُ- فَأَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَقْسِمَ بِالأْيَّامِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلأِنَّ الْقَدِيمَ يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِيهِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ بِأَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ أَرْضِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ أَوْ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ قُسِّمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ بِقِلْدٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى إِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَإِذَا قُسِّمَ الْمَاءُ بِالْقِلْدِ فَإِنَّهُ يُرَاعَى اخْتِلاَفُ كَثْرَةِ الْجَرْيِ وَقِلَّتِهِ، فَإِنَّ جَرْيَهُ عِنْدَ كَثْرَتِهِ أَقْوَى مِنْ جَرْيِهِ عِنْدَ قِلَّتِهِ، فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لأِهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ تَشَاحُّوا فِي التَّبْدِئَةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ بِالتَّقْدِيمِ قُدِّمَ .

مُؤْنَةُ كِرَى الأْنْهَارِ (عِمَارَتُهَا وَإِصْلاَحُهَا):

16 - الأْنْهَارُ إِمَّا عَامَّةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لأِحَدٍ أَوْ خَاصَّةٌ مَمْلُوكَةٌ لِشَخْصٍ أَوْ أَكْثَرَ.

وَيَخْتَلِفُ مَنْ يَتَحَمَّلُ كِرَى الأْنْهَارِ وَإِصْلاَحَهَا بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ النَّهْرِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلاً: الأْنْهَارُ الْعَامَّةُ:

17 - كَرْيُ الأْنْهَارِ الْعَامَّةِ كَالنِّيلِ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ يَكُونُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، لأِنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلي الله عليه وسلم -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» .

وَتَكُونُ الْمُؤْنَةُ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ، لأِنَّ الْعُشُورَ وَالصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ لِلنَّوَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ يَكُونُ كَرْيُهُ عَلَى النَّاسِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا أَجْبَرَ الإْمَامُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إِحْيَاءً لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، إِذْ هُمْ لاَ يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، قَالَ عُمَرُ - رضي الله تعالي عنه -: لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلاَدَكُمْ .

إِلاَّ أَنَّ الإْمَامَ يُخْرِجُ لِلْكَرْيِ مَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ وَيُطِيقُهُ، وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لاَ يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يَفْعَلُ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ، لأِنَّهُ يُخْرِجُ مَنْ كَانَ يُطِيقُ الْقِتَالَ، وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الأْغْنِيَاءِ، كَذَا هَاهُنَا.

وَلَوْ خِيفَ مِنْ هَذِهِ الأْنْهَارِ الْغَرَقُ فَعَلَى السُّلْطَانِ إِصْلاَحُ مَسَنَاتِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .

ثَانِيًا: الأْنْهَارُ الْمَمْلُوكَةُ:

18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأْنْهَارَ الْمَمْلُوكَةَ يَكُونُ كَرْيُهَا وَإِصْلاَحُهَا وَعِمَارَتُهَا عَلَى مَنْ يَمْلِكُونَهَا، لأِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ عَلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ .

كَيْفِيَّةُ الْكَرْيِ وَالإْصْلاَحِ:

19 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِصْلاَحِهِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:

عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَكُونُ كَرْيُ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِصْلاَحُهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِحَسَبِ مِلْكِهِمْ فِيهِ.

وَيُوَضِّحُ الْحَنَابِلَةُ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الإْصْلاَحُ فَيَقُولُونَ: إِذَا كَانَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَقْرَبَ إِلَى أَوَّلِهِ مِنْ بَعْضٍ اشْتَرَكَ الْكُلُّ فِي كَرْيِهِ وَإِصْلاَحِهِ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الأْوَّلِ ، ثُمَّ إِذَا وَصَلُوا فَلاَ شَيْءَ عَلَى الأْوَّلِ بَعْدَ ذَلِكَ لاِنْتِهَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ، لأِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَيَشْتَرِكُ الْبَاقُونَ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الثَّانِي ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يَشْتَرِكُ مِنْ بَعْدِ الثَّانِي حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الثَّالِثِ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا كُلَّمَا انْتَهَى الْعَمَلُ إِلَى مَوْضِعِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدَهُ شَيْءٌ لأِنَّهُ لاَ مِلْكَ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِهِ.

فَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَنْ جَمِيعِهِمْ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى مَصْرَفٍ فَمُؤْنَتُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، لاِشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُمْ عَلَيْهِ كَأَوَّلِهِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلاَهُ فَإِذَا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَرِئَ مِنْ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ، وَيُوَضِّحُ ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: بَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ عَشَرَةً فَعَلَى كُلٍّ عُشْرُ الْمُؤْنَةِ فَإِذَا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَهِيَ عَلَى التِّسْعَةِ الْبَاقِينَ أَتْسَاعًا لِعَدَمِ نَفْعِ الأْوَّلِ فِيمَا بَعْدَ أَرْضِهِ، وَهَكَذَا فَمَنْ فِي الآْخِرِ أَكْثَرُهُمْ غَرَامَةً لأِنَّهُ لاَ يَنْتَفِعُ إِلاَّ إِذَا وَصَلَ الْكَرْيُ إِلَى أَرْضِهِ وَدُونَهُ فِي الْغَرَامَةِ مَنْ قَبْلَهُ إِلَى الأْوَّلِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْكَرْيَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ فِي الأْعْلَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ مِنْ فُوَّهَةِ النَّهْرِ إِلَى مَشْرَبِ أَوَّلِهِمْ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْكُلِّ، فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلاَ مِلْكَ لِصَاحِبِ الأْعْلَى فِيهِ إِنَّمَا لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ لاَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ عَلَى أَصْحَابِ النَّهْرِ .

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ: الْكَرْيُ عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ لاِشْتِرَاكِهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهِ، وَقَالَ الصَّاحِبَانِ بِحِصَصِ الشُّرْبِ وَالأْرَضِينَ كَمَا يَسْتَوُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لأِنَّ لِصَاحِبِ الأْعْلَى حَقًّا فِي الأْسْفَلِ لاِحْتِيَاجِهِ إِلَى تَسْيِيلِ مَا فَضَلَ مِنَ الْمَاءِ فِيهِ .

20 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ مِنَ الْكَرْيِ شَيْءٌ، لأِنَّ الْكَرْيَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَلاَ مِلْكَ لأِهْلِ الشَّفَةِ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ، بَلْ لَهُمْ حَقُّ شُرْبِ الْمَاءِ وَالسَّقْيِ لِلدَّوَابِّ فَقَطْ، وَلأِنَّ هُمْ لاَ يُحْصُونَ، لأِنَّ هُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا جَمِيعًا .

امْتِنَاعُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْكَرْيِ وَالإْصْلاَحِ:

21 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يَحْتَاجُهُ النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ كَرْيٍ وَإِصْلاَحٍ وَعِمَارَةٍ يَكُونُ عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ. لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ مَا إِذَا امْتَنَعَ حَدُّ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْكَرْيِ وَالإْصْلاَحِ.

وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الآْبِيَ يُجْبَرُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لاَ يُجْبَرُ الآْبِي وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ يَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

22 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ النَّهْرَ الْمَمْلُوكَ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَامٍّ، وَخَاصٍّ.

وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ خَاصٌّ، وَمَا لاَ تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ عَامٌّ. وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا كَانَ لِعَشَرَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَرْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ النَّهْرُ لِمَا دُونَ الأْرْبَعِينَ فَهُوَ خَاصٌّ، وَإِنْ كَانَ لأِرْبَعِينَ فَهُوَ نَهْرٌ عَامٌّ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْحَدَّ الْفَاصِلَ فِي الْمِائَةِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الأْلْفِ وَغَيْرُ ذَلِكَ عَامٌّ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ فَيَخْتَارُ مِنَ الأْقَاوِيلِ أَيَّ قَوْلٍ شَاءَ، وَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا لاَ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَمَا تَجْرِي فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ.

قَالَ الإْتْقَانِيُّ: وَلَكِنَّ أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنْ كَانَ النَّهْرُ لِدُونِ مِائَةٍ فَالشَّرِكَةُ خَاصَّةٌ وَإِلاَّ فَعَامَّةٌ .

23 - وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ عَامًّا وَأَبَى بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْكَرْيِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكَرْيِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ، وَضَرَرُ الآْبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلاَ يُعَارَضُ بِهِ.

وَإِذَا أَرَادَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ الْعَامِّ أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الاِنْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الأْرَاضِي وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الآْبِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ فَلاَ يُجْبَرُ الآْبِي لأِنَّهُ مَوْهُومٌ، بِخِلاَفِ الْكَرْيِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ.

24 - أَمَّا النَّهْرُ الْخَاصُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي إِجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ الْكِرَى.

فَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ بَعْضَ الشُّرَكَاءِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْكِفَايَةِ: قِيلَ: يُجْبَرُ الآْبِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الإْسْكَافِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أُجْبِرَ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الْخِزَانَةِ، وَقِيلَ: لاَ يُجْبَرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَلْخِيِّ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.

وَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ كُلَّ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْكَرْيِ فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لاَ يُجْبِرُهُمُ الإْمَامُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوِ امْتَنَعُوا عَنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهِمْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يُجْبِرُهُمُ الإْمَامُ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّ أَصْحَابِ الشَّفَةِ فِي النَّهْرِ

25 - وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَبْرِ الآْبِي إِذَا أَبَى بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْكَرْيِ وَقَامَ الْبَاقُونَ بِالْكَرْيِ، فَهَلْ يَرْجِعُونَ عَلَى الآْبِي بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ مُؤْنَةِ مَا أَنْفَقُوا؟ قَالُوا: إِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي رَجَعُوا عَلَى الآْبِي.

نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الذَّخِيرَةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أَمَرَ الْبَاقِينَ بِكَرْيِ نَصِيبِ الآْبِي عَلَى أَنْ يَسْتَوْفُوا مُؤْنَةَ الْكَرْيِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الشُّرْبِ مِقْدَارَ مَا يَبْلُغُ قِيْمَةَ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الآْبِي بِذَلِكَ.

وَإِنْ لَمْ يَرْفَعُوا الأْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، هَلْ يَرْجِعُونَ عَلَى الآْبِي بِقِسْطِهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَيُمْنَعُ الآْبِي مِنْ شُرْبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، وَقِيلَ: لاَ.

وَذُكِرَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الأْوَّلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمَثَلُهُ فِي التَّتَارَخَانِيَّةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لاَ تَرْجِيحَ لأِحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَكِنَّ مَفْهُومَ كَلاَمِ الدُّرِّ كَالْهِدَايَةِ وَالتَّبْيِينِ وَغَيْرِهِمَا تَرْجِيحُ عَدَمِ الرُّجُوعِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي .

26 - وَالأْصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى شَرِيكٍ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ أَنْ يُعَمِّرَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ جَمِيعَ حِصَّتِهِ إِنْ أَبَى التَّعْمِيرَ.

لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الشُّرَكَاءَ فِي الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ فَإِنَّ مَنْ أَبَى الْعِمَارَةَ مِنَ الشُّرَكَاءِ لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ أَمْ لاَ، وَيُقَالُ لِلشَّرِيكِ: عَمِّرْ إِنْ شِئْتَ وَلَكَ مَا حَصَلَ مِنَ الْمَاءِ بِعِمَارَتِكَ، وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: هُوَ إِمَّا كُلُّ الْمَاءِ إِنْ كَانَ التَّخْرِيبُ أَذْهَبَ كُلَّ الْمَاءِ وَحَصَلَ الْمَاءُ بِالتَّعْمِيرِ، أَوْ مَا زَادَ مِنْهُ بِالْعِمَارَةِ، وَذَلِكَ إِلَى أَنْ تَسْتَوْفِيَ قَدْرَ مَا أَنْفَقْتَ، أَوْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَكَ صَاحِبُكَ الآْبِي بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.

وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ: يُجْبَرُ الشَّرِيكُ عَلَى الْبَيْعِ إِنْ أَبَى الْعِمَارَةَ إِنْ كَانَ عَلَى الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَرَجَّحَ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ .

وَجَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: إِذَا احْتَاجَتْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ بَيْنَ شُرَكَاءَ لِسَقْيِ أَرْضِهِمْ إِلَى الْكَنْسِ لِقِلَّةِ مَائِهَا فَأَرَادَ أَحَدُهُمُ الْكَنْسَ وَأَبَى الآْخَرُونَ. - وَفِي تَرْكِ الْكَنْسِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَاءِ وَانْتِقَاصٌ، وَالْمَاءُ يَكْفِي أَوْ لاَ يَكْفِي إِلاَّ الَّذِينَ أَرَادُوا الْكَنْسَ خَاصَّةً- فَلِلَّذِينِ أَرَادُوا الْكَنْسَ أَنْ يَكْنِسُوا ثُمَّ يَكُونُوا أَوْلَى بِالَّذِي زَادَ فِي الْمَاءِ لِكَنْسِهِمْ دُونَ مَنْ لَمْ يَكْنِسْ حَتَّى يُؤَدُّوا حِصَّتَهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ فَيَرْجِعُوا إِلَى أَخْذِ حِصَّتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَاءِ

27 - وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ فِي النَّهْرِ وَالْقَنَاةِ وَالْبِئْرِ فَفِي الْجَدِيدِ لاَ إِجْبَارَ عَلَيْهِ كَمَا لاَ يُجْبَرُ عَلَى زَرْعِ الأْرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلأِنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ أَيْضًا بِتَكْلِيفِهِ الْعِمَارَةَ وَالضَّرَرُ لاَ يُزَالُ بِالضَّرَرِ.

وَفِي الْقَدِيمِ يُجْبَرُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَصِيَانَةً لِلأْمْلاَكِ الْمُشْتَرَكَةِ عَنِ التَّعْطِيلِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَالأْظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الأْصْحَابِ هُوَ الْجَدِيدُ.

وَصَحَّحَ صَاحِبُ الشَّامِلِ الْقَدِيمَ وَأَفْتَى بِهِ الشَّاشِيُّ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: الأْقْيَسُ أَنْ يُجْبَرَ الْمُمْتَنِعُ، وَقَالَ: وَالاِخْتِيَارُ إِنْ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّ امْتِنَاعَهُ مَضَارَّةٌ أَجْبَرَهُ، وَإِنْ كَانَ لإِعْسَارٍ أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ يُجْبَرْ.

 

وَلَوْ أَنْفَقَ الشَّرِيكُ عَلَى تَعْمِيرِ النَّهْرِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالدُّولاَبِ وَالْبَكَرَةِ وَالآْلاَتِ الَّتِي أَحْدَثَهَا .

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ- وَهُوَ إِجْبَارُ الْمُمْتَنِعِ- فَأَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ، أَوْ أُذِنَ لِلشَّرِيكِ فِي الإْنْفَاقِ عَلَيْهِ لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، فَلَوِ اسْتَقَلَّ بِهِ الشَّرِيكُ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلاَنِ: الْقَدِيمُ: نَعَمْ، وَالْجَدِيدُ: لاَ، وَقِيلَ: يَرْجِعُ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي الْجَدِيدِ قَوْلاَنِ .

28 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ لِحَقِّ شُرَكَائِهِ أَيْ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ وَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْمُمْتَنِعِ النَّقْدَ وَيُنْفِقُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُمْتَنِعِ نَقْدٌ بَاعَ الْحَاكِمُ عَرْضَهُ وَأَنْفَقَ مِنْ ثَمَنِهِ مَعَ شَرِيكِهِ بِالْمُحَاصَّةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ لِنَحْوِ تَغْيِيبِ مَالِهِ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ كَنَفَقَةٍ نَحْوَ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ عَمَّرَ الشَّرِيكُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ لِوُجُوبِهِ عَلَى الْمُنْفَقِ عَنْهُ .

وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُعَمِّرَ فَلَيْسَ لِلشُّرَكَاءِ مَنْعُهُ وَالْمَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُعَمِّرُ لأِنَّ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ مِلْكِهِمَا وَإِنَّمَا أَثَّرَ أَحَدُهُمَا فِي نَقْلِ الطِّينِ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ، وَرُجُوعُ الْمُعَمِّرِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَا سَبَقَ .

حُكْمُ مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ:

29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الأْرْضِ الَّتِي يَنْكَشِفُ عَنْهَا مَاءُ النَّهْرِ هَلْ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ تَكُونُ لِمَنْ يَلِي هَذِهِ الأْرْضَ ؟ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ تَكُونُ لِمَنْ يَلِي الأْرْضَ الَّتِي انْكَشَفَ عَنْهَا النَّهْرُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ جَزَرَ مَاءُ الأْنْهَارِ الْعِظَامِ كَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ عَنْ أَرْضٍ فَلَيْسَ لِمَنْ يَلِيهَا أَنْ يَضُمَّهَا إِلَى أَرْضِ نَفْسِهِ، لأِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ مَاؤُهَا إِلَى مَكَانِهِ وَلاَ يَجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فَيُحْمَلُ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَيَضُرُّ، حَتَّى لَوْ أَمِنَ الْعَوْدَ، أَوْ كَانَ بِإِزَائِهَا مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ أَرْضٌ مَوَاتٌ لاَ يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِحَمْلِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيُمَلَّكُهُ إِذَا أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الإْمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الإْمَامِ فِي الإْحْيَاءِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ .

وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحُكْمِ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَرْضٍ انْكَشَفَ عَنْهَا الْبَحْرُ هَلْ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِمَنْ تَلِيهِ أَوْ لِمَنْ دَخَلَ الْبَحْرُ أَرْضَهُ؟ أَنَّهَا تَكُونُ لِمَنْ تَلِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَعَلَيْهِ حَمْدِيسُ، وَبِهِ الْفَتْوَى وَالْقَضَاءُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ وَمُطَرِّفٌ: تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ الْبَحْرُ .

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوِ انْحَسَرَ مَاءُ النَّهْرِ عَنْ جَانِبٍ مِنْهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إِقْطَاعُهُ لأِحَدٍ كَالنَّهْرِ وَحَرِيمِهِ.

وَلَوْ زَرَعَهُ أَحَدٌ لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ إِنْ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ.

نَعَمْ، لِلإْمَامِ دَفْعُهُ لِمَنْ يَرْتَفِقُ بِهِ بِمَا لاَ يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِثْلُهُ مَا يَنْحَسِرُ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ فِي الْبَحْرِ، وَيَجُوزُ زَرْعُهُ وَنَحْوَهُ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ إِحْيَاءَهُ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَلاَ الْغِرَاسُ وَلاَ مَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ .

وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ ثُمَّ نَضَبَ عَنْهَا وَبَيْنَ أَرْضٍ نَضَبَ عَنْهَا الْمَاءُ وَلَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لأِحَدٍ.

جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَلاَ يُمْلَكُ بِإِحْيَاءِ مَا نَضَبَ أَيْ غَارَ عَنْهُ الْمَاءُ مِمَّا كَانَ مَمْلُوكًا وَغَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهِ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُلاَّكِهِ قَبْلَ غَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُمْ أَخْذُهُ؛ لأِنَّ هَا لاَ تُزِيلُ مِلْكَهُمْ عَنْهُ.

أَمَّا مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ وَالرَّقَاقِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فَلِكُلِّ أَحَدٍ إِحْيَاؤُهُ بَعُدَتْ أَوْ قَرُبَتْ كَمَوَاتٍ، قَالَ الْحَارِثِيُّ: مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ وَنَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي التَّنْقِيحِ: لاَ يُمْلَكُ بِالإْحْيَاءِ، وَتَبِعَهُ فِي الْمُنْتَهَى، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى: إِذَا نَضَبَ الْمَاءُ مِنْ جَزِيرَةٍ إِلَى فِنَاءِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا، لأِنَّ فِيهَا ضَرَرًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا رَجَعَ إِلَى الْجَانِبِ الآْخَرِ فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ، وَلأِنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبَتُ الْكَلأَ وَالْحَطَبِ فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ .

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رضي الله تعالي عنه - أَنَّهُ أَبَاحَ الْجَزَائِرَ يَعْنِي أَبَاحَ مَا يَنْبُتُ فِي الْجَزَائِرِ مِنَ النَّبَاتِ، قَالَ: إِذَا نَضَبَ الْفُرَاتُ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ نَبَتَ فِيهِ نَبَاتٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ، فَعَمَرَهُ رَجُلٌ عِمَارَةً لاَ تَرُدُّ الْمَاءَ، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأِنَّهُ مُتَحَجِّرٌ لِمَا لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ حَقٌّ .

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ (إِحْيَاء ف 11).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفور له (محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية) بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه

(مادة 4)
الحقوق التي بها يكون التصرف والانتفاع بالأعيان على ثلاثة أنواع
الأول- حق ملك رقبة العين ومنفعتها
الثاني- حق ملك الانتفاع بالعين دون الرقبة
الثالث- حق الشرب والمسيل والمرور والتعلى ونحو ذلك من الحقوق

(مادة 45)
إذا كان لأحد مسقى جار بحق في أرض آخر فليس لرب الأرض أن يمنعه عن إجرائه في أرضه.

(مادة 50)
للمبيح أن يرجع عن إباحته ولا يلزم بالإذن والرضا فإن لم يكن لأحد حق المرور في عرصة آخر ومر فيها مدة بإذن صاحبها فلا يترتب على مروره حق له بل لصاحب العرصة أن يمنعه من المرور متى شاء.

(مادة 51)
من كان له مجرى أو سياق ماء جار بحق قديم في ملك شخص آخر فليس لصاحبه منعه.
(مادة 52)
إذا كان لدار مسيل مطر على دار الجار من القديم فليس للجار منعه.
(مادة 53)
إذا كان لأحد مجرى أو سياق ماء في دار آخر فحصل به خلل تسبب عنه للجار ضرر فللجار أن يجبر صاحبه على دفع الضرر عنه بتعميره وإصلاحه أو عدم الإجراء فيه وإذا أراد صاحبه إصلاحه فمنعه الجار من الدخول في داره يخير صاحبه الدار بين أن يتركه يدخل ويصلح وبين أن يفعل صاحب الدار ذلك بماله.
(مادة 54)
إذا كان لدار مسيل قذر في الطريق الخاص وكان مضراً بأهله يرفع ضرره ولو كان قديماً ولا يعتبر قدمه.
(مادة 55)
لا يجوز لأحد أن يجرى مسيل محله المحدث إلى دار آخر بدون إذنه إن لم يكن له حق في ذلك.
(مادة 56)
لا يجوز لأحد إحداث شيء من الميازيب ولا حفر بالوعة في طريق العامة إذا كان يضر بالعامة وأن أحدث ذلك في زقاق غير نافذ لا يجوز إلا بإذن أهله سواء أضربهم أم لا.