مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء : السادس، الصفحة : 50
مذكرة المشروع التمهيدي :
1- هذه النصوص (م 1178 - 1180) تقرر حق المرور للغير على أرض المالك، وأهمها المادة 1178 وهي التي تقرر حق المرور للأرض المحبوسة عن الطريق العام، وتقابل المادة 65/43 من التقنين الحالى . ويلاحظ في المقارنة بينهما ما يأتي :
(1) المشروع أوسع من التقنين الحالي في تقرير حق المرور من ناحيتين :
الناحية الأولى أنه لا يكتفي بإعطاء حق المرور للأرض المحبوسة عن الطريق العام حبساً تاماً، بل يعطيه أيضاً للأرض المتصلة بالطريق العام ولكنها لا تتصل به إلا بممر غير كاف لايتيسر الوصول منه إلى الطريق العام إلا بنفقة باهظة أو مشقة كبيرة والناحية الثانية أنه متى ثبت الأرض حق المرور، فإن المشروع يقضي بأن يعطي لها هذا الحق بالقدر اللازم لاستغلالها واستعمالها على الوجه المناسب، سواء كان الإستغلال زراعية أو صناعية، أو كان المرور لمجرد الاستعمال كما تقدم وينتهي حق المرور إذا اتصلت الأرض بالطريق العام من ناحية أخرى فلم يعد حق المرور ضرورياً، ويسترد صاحب الأرض من التعويض الذي كان قد دفعه في حق المرور القدر المناسب .
(ب) قرر المشروع أن حق المرور يختار له عقار مجاور يكون المرور فيه أخف ضرراً من المرور في العقارات المجاورة الأخرى، وفي موضع من هذا العقار يتحقق فيه هذا الاعتبار كذلك وفي هذا تقييد عادل لحق المرور يقابل التوسع السابق.
(ج) قرر المشروع أيضاً تقييداً عادلاً لحق المرور يقضي بأنه إذا كان الحبس عن الطريق العام ناشئاً عن تجزئة عقار تمت بناءً على تصرف قانوني، وكان من المستطاع إيجاد مركاف في أجزاء هذا العقار، فلا تجوز المطالبة بحق المرور إلا في هذه الأجزاء .
وهذا حكم معقول، فإن العقار الذي يكون متصلاً إتصالاً كافياً بالطريق العام، ثم يجزئه مالكه بتصرف يرضاه ويكون من شأنه أن يحبس جزءاً منه عن الطريق العام، في المرور لهذا الجزء يجب أن يتقرر على الأجزاء الأخرى، كما كان الأمر قبل تجزئة العقار وفي هذه القاعدة توسع في مبدأ تخصيص المالك الأصلي الذي سيأتي ذكره فيما يلى، وقد جاء التوسع من أنه لا يشترط في الحالة التي نحن بصددها أن يكون المالك الأصلي قد وضع علامات ظاهرة لحق المرور لمصلحة جزء على الأجزاء الأخرى على أنه لو وضع هذه العلامات الظاهرة لتقرر حق المرور بتخصيص المالك الأصلي، حتى لو كان الجزء المرتفق لا تحبسه التجزئة عن الطريق العام، بل كان له ممر كاف من ناحية أخرى .
2- وقرر المشروع ( مادة 1179 ) إلى جانب حق المرور، حق دخول الغير في أرض المال أو المرور فيها كلما تبينت ضرورة ذلك وقد تأتي الضرورة من وجوب قيام الجار بأعمال ترميمية أو إنشائية تقتضيه أن يستعمل أرض المالك، أو من وجوب دخول الجار أرض لمالك لإستعادة أشياء ضائعة، أو لتحقيق أية مصلحة مشروعة أخرى، كتوقي خطر يهدده لا يستطيع توقيه إلا من أرض المالك.
ويلاحظ أن تدخل الجار هنا في انتفاع المالك بملكه لم يشرع ليتوقی به الجار خطراً داهماً فحسب، بل شرع أيضاً لإلتماس منفعة كبيرة تعود على الجار، هي أعظم بكثير من الضرر الذي يصيب المالك من التدخل ويجب في كل الأحوال تعویض المالك عما أصابه من الضرر تعويضاً عادلاً.
3- ويقرر المشروع (مادة 1180) أخيراً أنه يجوز للجمهور أن يمر من أرض المالاي، إذا أصبح المرور من الطريق العام متعذراً، على أن يكون المرور بالقدر المعقول، وعلى أن تعوض الجهة الإدارية المالك عن الضرر الذي يصيبه من مرور الجمهور.
وواضح أن هذا الفرض تقرر فيه حق المرور على أرض المالك لا لمصلحة عقار آخر بل لمصلحة الجمهور، فهو يختلف عن الفرضين السابقين، ولكنه لا يزال تطبيقاً للقاعدة الجوهرية التي تجيز التدخل في انتفاع المالك ملكه، إذا حقق هذا التدخل مصلحة أكبر بكثير من الضرر الذي أحدثه فهو وإن كان لا يمكن أن يوصف بأنه حق ارتفاق، يعتبر على كل حال قيداً من القيود التي ترد على حق الملكية.
المشروع في لجنة المراجعة تليت المادة 1178 من المشروع، فأقرتها اللجنة مع تعديل لفظي وأصبح نصها :
1- مالك الأرض المحبوسة عن الطريق العام أو التي لا يصلها بهذا الطريق ممر كاف إذا كان لا يتيسر له الوصول إلى ذلك الطريق إلا بنفقة باهظة أو مشقة كبيرة له حق المرور في الأراضي المجاورة بالقدر اللازم لاستغلال أرضه واستعمالها على الوجه المألوف ما دامت هذه الأرض محبوسة عن الطريق العام، وذلك في نظير تعويض كامل يدفعه مقدماً ولا يستعمل هذا الحق إلا في العقار الذي يكون المرور فيه أخف ضرراً، وفي موضع منه يتحقق فيه ذلك .
2- على أنه إذا كان الحبس عن الطريق العام ناشئة عن تجزئة عقار تمت بناءً على تصرف قانوني وكان من المستطاع إيجاد ممر كاف في أجزاء هذا العقار فلا تجوز المطالبة بحق المرور إلا في هذه الأجزاء .
وأصبح رقم المادة 882 في المشروع النهائي .
1 ـإن النص فى الفقرة الثانية من المادة 812 من القانون المدني على أن: "إذا كان الحبس عن الطريق العام ناشئا عن تجزئة عقار تمت بناء على تصرف قانوني وكان من المستطاع إيجاد ممر كاف فى أجزاء هذا العقار فلا تجوز المطالبة بحق المرور إلا فى هذه الأجزاء" يدل على أنه إذا تصرف مالك الأرض التي لها منفذ إلى الطريق العام فى جزء منها تصرفا قانونيا أدى إلى حبس الجزء الآخر عن هذا الطريق فإن حق المرور لا يكون إلا فى الجزء المبيع طالما كان ذلك مستطاعا ولو لم يكن المرور فيه أخف ضررا من المرور فى العقارات المجاورة لأن الحبس كان بفعل البائع.
(الطعن رقم 929 لسنة 63 جلسة 2000/11/07 س 51 ع 2 ص 970 ق 185)
2 ـ إذا كان البين من وقائع الدعوى ..... رقم ...... أن المطعون ضده كان قد أقامها على الطاعنين بطلب منع تعرضهم فى إقامة القنطرة محل النزاع والانتفاع بها وقضي فيها بعدم قبولها لرفعها بعد أكثر من سنة وهى المدة المقررة فى المادة 958 من القانون المدني لرفع دعوى استرداد الحيازة خلالها باعتبار أن الدعوى بذلك فى حين أن النزاع فى الدعوى الثانية (المقامة بأحقية المطعون ضده فى إقامة القنطرة للمرور إلى أرضه) الصادر فيها الحكم المطعون فيه إنما ثار حول حق المرور المقرر فى المادة 812 من القانون المدني باعتباره من القيود التي فرضها القانون على حق الملكية والتي ترجع إلى التلاصق فى الجوار وقد فصل الحكم المطعون فيه فى هذا النزاع فقضى للمطعون ضده على سند من ثبوت حق المرور له وفق أحكام المادة 812 المشار إليها, فإن السبب فى كل من الدعويين يختلف بذلك عنه فى الدعوى الأخرى ويكون الحكم المطعون فيه الصادر فى الدعوى رقم...........من محكمة ابتدائية بهيئة استئنافية إذ قضى للمطعون ضده بطلباته المشار إليها لا يكون قد ناقض الحكم السابق صدوره فى الدعوى رقم.......
(الطعن رقم 3817 لسنة 62 جلسة 1999/02/18 س 50 ع 1 ص 269 ق 50)
3 ـ النص فى المادة 235 من القانون المدنى على أن " لكل دائن و لو لم يكن حقه مستحق الأداء أن يستعمل بأسم مدينة جميع حقوق هذا المدين إلا ما كان منها متصلاً بشخصه خاصة أو غير قابل للحجز ...... " يدل على أن نطاق الدعوى غير المباشرة لا يشمل الحقوق و الرخص التى تؤدى إستعمال الدائن لها إلى المساس بما يجب أن يبقى للمدين من حرية فى تصريف شئونه ، و كان إكتساب حق المرور فى أرض الجار نظير تعويض عادل بالشروط و الضوابط المحددة بنص المادة812 من القانون المدنى هو من الرخص التى قصر الشارع سلطة الإفادة منها على مالك الأرض المحبوسة عن الطريق العام فإن إستعمال هذه الرخصة يكون خارج النطاق الذى يجوز فيه إستعمال الدعوى غير المباشرة .
(الطعن رقم 411 لسنة 56 جلسة 1988/11/29 س 39 ع 2 ص 1248 ق 211)
4 ـ المقصود بالمناور - وفقاً لما نصت عليه المادة 812 من القانون المدنى - تلك التى تعلو قاعدتها عن قامة الإنسان المعتادة ، و إذ كان الثابت من تقرير الخبير المنتدب من محكمة الإستئناف و المقدمة صورته الرسمية رفق أوراق الطعن و الذى أخذ به الحكم المطعون فيه ، إن العرف قد جرى على إحتساب القامة المعتادة للإنسان ب 180 سم و أن قاعدة إحدى الفتحات التى أنشأتها الطاعنتان ترتفع بمقدار 150 سم و من ثم فإن هذه الفتحة لا تعتبر منوراً ، و إذا كان الحكم المطعون فيه قد خالف هذا النظر و إلتفت عن بحث منوراً ، و إذا كان الحكم المطعون فيه قد خالف هذا النظر و إلتفت عن بحث دفاع الطاعنين آنف الذكر و هو دفاع جوهرى قد يتغير به وجه الرأى فى الدعوى ، فحجب نفسه بذلك عن بحث مدى أحقية الطاعنين فى كسب المطل المذكور بالتقادم و ما قد يترتب لهما على ذلك فيكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ فى تطبيق القانون و شابه القصور فى التسبيب .
(الطعن رقم 1489 لسنة 50 جلسة 1984/04/30 س 35 ع 1 ص 1503 ق 287)
5 ـ إذ كان مبنى دعوى المطعون عليه هو حيازة حق إرتفاق بالمرور على الطريق المبين بصحيفة الدعوى و تعرض الطاعن له فى تلك الحيازة ، فلا على الحكم المطعون فيه إن هو لم يرد على دفاع للطاعن يقوم على أن أرض الجمعية المطعون عليها غير محبوسة ، متى كان الأمر لا يتعلق بتقرير حق مرور لأرض محبوسة على ما تقضى به المادة 812 من القانون المدنى ، و يكون النعى بهذا السبب على غير أساس .
(الطعن رقم 665 لسنة 47 جلسة 1981/01/27 س 32 ع 1 ص 360 ق 71)
6 ـ مفاد نص الفقرة الثانية من المادة 812 من القانون المدنى أنه إذا كان للأرض منفذ إلى الطريق العام ، ثم تصرف فيها صاحبها تصرفاً قانونياً أدى إلى جعل جزء منها محبوساً عن هذا الطريق فيجب أن يتقرر حق المرور فى الأجزاء الأخرى دون العقارات المجاورة كما كان الأمر قبل تجزئة العقار وبشرط أن يكون هذا مستطاعاً ، فإذا لم يكن مستطاعاً أما لأن العقار كله كان من مبدأ الأمر محبوساً عن الطريق العام أو لأنه لم يتيسر الحصول على ممر كاف فى أجزاء العقار الأخرى ، فإنه يكون لمالك العقار عندئذ الحق فى الحصول على الممر الكافى فى أحد العقارات المجاورة وفقاً لحكم الفقرة الأولى من المادة 812 سالفة الذكر .
(الطعن رقم 401 لسنة 39 جلسة 1974/12/31 س 25 ع 1 ص 1547 ق 262)
7 ـ لا يشترط حتى تعتبر الأرض محبوسة عن الطريق العام ألا يكون لها أى منفذ يؤدى إلى هذا الطريق ، بل يكفى لتحقق هذه الحالة وفقاً لنص المادة 1/812 من القانون المدنى أن يكون للأرض ممر إلى الطريق العام ولكنه غير كاف بحيث لا يتيسر لمالكها الوصول إلى ذلك الطريق إلا بنفقة باهظة أو مشقة كبيرة ، وهو أمر يستقل قاضى الموضوع بتقديره متى أقام قضاءه على أسباب سائغة .
(الطعن رقم 401 لسنة 39 جلسة 1974/12/31 س 25 ع 1 ص 1547 ق 262)
8 ـ تقضى المادة 1/812 من القانون المدنى بأن يكون المرور فى الأراضى المجاورة التى تفصل العقار المحبوس عن الطريق العام عل ألا يستعمل هذا الحق إلا فى العقار الذى يكون فيه المرور أخف ضرراً و فى موضع منه يتحقق فيه هذا الإعتبار ، ولما كان يبين من الحكم المطعون فيه أنه قضى بإنشاء الممر فى أرض الطاعنة وفي المكان الذى حدده الخبير لأنه لا يترتب على ذلك إلا إزالة حجرتين منفصلتين عن باقى الحجرات وحوائطها مشيدة بطريقة إندثرت من عشرات السنين ولا تتبع حتى فى بناء العزب ، وأن هذه هى أخف أضرار ممكنة تترتب على إنشاء الممر وهى تقريرات موضوعية سائغة ، وكانت المحكمة قد إقتنعت بكفاية الأبحاث التى أجراها الخبير وسلامة الأسس التى بنى عليها رأيه فإن ما تثيره الطاعنة بشأن طريقة بناء الغرفتين المطلوب هدمهما يكون جدلاً موضوعياً فى كفاية الدليل الذى إقتنعت به محكمة الموضوع مما لا تجوز إثارته أمام محكمة النقض .
(الطعن رقم 401 لسنة 39 جلسة 1974/12/31 س 25 ع 1 ص 1547 ق 262)
تنص المادة 812 مدني على ما يأتي :
1- مالك الأرض المحبوسة عن الطريق العام، أو التي لا يصلها بهذا الطريق ممر كاف إذا كان لا يتيسر له الوصول إلى ذلك الطريق إلا بنفقة باهظة أو مشقة كبيرة، له حق المرور في الأراضي المجاورة بالقدر اللازم لاستغلال أرضه واستعمالها على الوجه المألوف، ما دامت هذه الأرض محبوسة عن الطريق العام، وذلك في نظير تعويض عادل ولا يستعمل هذا الحق إلا في العقار الذي يكون المرور فيه أخف ضرراً، وفي موضع منه يتحقق فيه ذلك " .
2- على أنه إذا كان الحبس عن الطريق العام ناشئاً عن تجزئة عقار تمت بناء على تصرف قانوني، وكان من المستطاع إيجاد ممر كاف في أجزاء هذا العقار، فلا تجوز المطالبة بحق المرور إلا في هذه الأجزاء ".
ويتبين من النص المتقدم أن هناك أمراً أساسياً لا بد من قيامه للحصول على حق المرور الذي يقرره القانون قيداً على الملكية، وذلك هو أن تكون هناك أرض محبوسة عن الطريق العام والحبس عن الطريق العام يقتضي أن يعطي للأرض المحبوسة ممر إلى هذا الطريق، لاستغلال الأرض واستعمالها على الوجه المألوف وضرورة إيجاد ممر للأرض المحبوسة يقتضي البحث أين يكون موضع هذا الممر، فقد وضع القانون لذلك ضوابط معينة، ومتى أعطى لصاحب الأرض المحبوسة ممر يؤدي إلى الطريق العام، فقد وجب عليه أن يدفع تعويضاًِ.
الحبس عن الطريق العام ناشئ عن تجزئة العقار بناء على تصرف قانوني : وهناك حالة خاصة نص فيها القانون على أن يكون الممر في موضع معين دون غيره، فقد نصت الفقرة الثانية من المادة 812 مدني كما رأينا على ما يأتي : " على أنه إذا كان الحبس عن الطريق العام ناشئاً عن تجزئة عقار تمت بناءً على تصرف قانوني وكان من المستطاع إيجاد ممر كاف في أجزاء هذا العقار، فلا تجوز المطالبة بحق المرور إلا في هذه الأجزاء " وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الخصوص : " وهذا حكم معقول، فإن العقار الذي يكون متصلاً إتصالاً كافياً بالطريق العام، ثم يجزئه مالكه تصرف يرضاه ويكون من شأنه أن يحبس جزءاً منه عن الطريق العام، فحق المرور لهذا الجزء يجب أن يتقرر على الأجزاء الأخرى، كما كان الأمر قبل تجزئة العقار وفي هذه القاعدة توسع في مبدأ تخصيص المالك الأصلي الذي سيأتي ذكره فيما يلي، وقد جاء التوسع من أنه لا يشترط في الحالة التي نحن بصدده أن يكون المالك الأصلي قد وضع علامات ظاهرة لتقرر حق المرور بتخصيص المالك الأصلي حتى لو كان الجزء المرتفق لا تحبسه التجزئة عن الطريق العام، بل كان له ممر كاف من ناحية أخرى ".
والنص يفرض أن هناك أرضاً لها منفذ إلى الطريق العام، ثم تصرف صاحب الأرض فيها تصرفاً قانونياً أدى إلى جعل جزء منها محبوساً عن هذا الطريق مثل ذلك أن يبيع جزءاً من الأرض لشخص آخر، فيؤدي البيع إلى أحد أمرين : أما أن المشتري يشتري الجزء غير المجاور للطريق العام فيكون هذا الجزء محبوساً، أو يشتري الجزء المجاور للطريق العام فيصير الجزء الآخر الذي استبقاه البائع هو المحبوس وكذلك لو باع المالك الأصلي جزءاً من الأرض إلى مشتر، وجزءاً آخر أصبح محبوساً بالبيع الأول إلى مشتر آخر وكالبيع المقايضة والهبة، فيكون هناك مقايض أو موهوب له بدلاً من المشتري ويصح أن تكون الأرض شائعة بين اثنين فيقتسمانها وبذلك تفرز حصة كل منهما، وقد تصبح إحدى الحصتين بعد إفرازها لا منفذ لها إلى الطريق العام هذه صور عملية للحبس الذي ينشأ عن تجزئة العقار بناءً على تصرف قانون، ومنها نرى أن جزءاً من هذا العقار قد أصبح محبوساً عن الطريق العام بحكم هذه التجزئة، فإذا طالب هذا الجزء بحق المرور فأين يكون موضع الممر الذي يطلبه ؟ لو طبقنا القواعد العامة في هذه الحالة، لوقع الممر في أي عقار مجاور يكون المرور فيه أخف ضرراً ولكن القانون هنا عدل عن هذه القاعدة، وأوجب أن يكون الممر في الجزء الآخر من العقار المجزأ ولو لم يكن المرور فيه هو أخف ضرراً ففي حالة بيع جزء من العقار إذا كان المشتري هو المحبوس كان له حق المرور في الجزء الذي استبقاه البائع وإذا كان البائع هو المحبوس كان له حق المرور في الجزء الذي باع للمشتري وفي حال القسمة، يكون للمتقاسم الذي انحبس بعد إفراز حصته حق المرور في الحصة المفرزة التي وقعت في نصيب المتقاسم الآخر.
ويبرر هذا الحكم أن العقار كان في مبدأ الأمر غير محبوس عن الطريق العام، وقد أصبح جزء منه محبوساً بفعل صاحب العقار، فيكون من العدل أن حق المرور يتقرر للجزء المحبوس على الجزء الآخر ولو تقرر المرور في عقار غير هذا الجزء الآخر، لاستطاع المالك أن يفرض بفعله حق مرور على أرض الجار لأن الحبس نشأ عن تصرف صدر منه هو، وقد قدمنا أنظر آنفاً فقرة 466، أنه لا يعتد بإنحباس الأرض إذا كان المالك هو الذي حبسها عن الطريق العام بفعله.
أثر التقادم في تعيين موضع الممر :
يحسن، في صدد التقادم أن نميز بين صور مختلفة :
1- إذا توافرت شروط حبس الأرض عن الطريق العام، وأصبح للأرض المحبوسة حق المرور في الأراضي المجاورة، فإن هذا الحق لا يتقادم يعدم الإستعمال، مهما طال الأمد على عدم استعماله، ما دامت الأرض المحبوسة، فهو قيد يرد على الملكية، ويبقي ما بقيت شروط هذا القيد قائمة فيستطيع صاحب الأرض المحبوسة أن يطالب بحق المرور في أرض الجار، ولو بعد خمس عشرة سنة من حبس الأرض، ما دام الحبس لا يزال قائماً .
2- إذا كان صاحب الأرض المحبوسة قد إستعمل حق المرور القانوني فعلاً في أرض مجاورة، ولكن دون أن يراعي القواعد الخاصة بموضع الممر التي بسطناها فيما تقدم، فمر في موضع من الأرض المجاورة ليس هو الأخف ضرراً مثلاً، أو إختار الطريق الأطول دون مبرر، فإن لصاحب الأرض المجاورة أن يتعرض على ذلك ولكن إذا بقى صاحب الأرض المحبوسة يمر في الموضع الذي اختاره، دون أن يعترض عليه الجار، وبقى يمر في هذا الموضع مدة خمس عشرة سنة، فإن حقه في المرور في هذا الموضع يتثبت بالتقادم ولكن التقادم هنا لا يكون تقادماً مكسباً، إذا أن صاحب الأرض المحبوسة قد عنى أن يستعمل حق المرور القانوني، لا حق مرور اتفاقي، وإنما إختار موضعاً له لا يتفق مع القواعد المقررة فيكون التقادم في هذه الصورة تقادماً مسقطاً، إذا يتقادم حق الجار في الإعتراض على الموضع الذي اختاره صاحب الأرض المحبوسة، ما دام قد بقى ساكتاً دون أن يعتبر مدة خمس عشرة سنة .
3- إذا كان صاحب الأرض المحبوسة قد إختار ممراً له، لا في العقار المجاور بقصد استعمال حق المرور القانوني، بل في عقار آخر بقصد استعمال حق مرور ليس هو حق المرور القانوني أو كانت الأرض غير محبوسة عن الطريق العام، ولكن صاحبها مر في أرض الجار لأن المسافة إلى الطريق العام أقصر وأيسر فإذا بقى صاحب الأرض في الحالتين يمارس بشكل ظاهر حق المرور خمس عشرة سنة، فإنه يكسب حق ارتفاق بالمرور في الأرض التي بقى يمر فيها طول هذه المدة وذلك بحكم التقادم المكسب وقد قدمنا أن حق المرور يجوز كسبه بالتقادم إذا كان ظاهراً .
4 - إذا كان صاحب الأرض المحبوسة قد حصل على حقه القانوني في المرور في أرض الجار في موضع يتفق مع القواعد المقررة بحيث لا يكون للجار حق في الإعتراض، ولكن صاحب هذه الأرض لم يمارس حقه فعلاً في المرور لهذا الموضع مدة خمس عشرة، فإنه في هذه الصورة يفقد بعدم الإستعمال الحق الذي كان قد كسبه، وإذا أراد المرور بعد ذلك وكانت أرضه لا تزال محبوسة، له ذلك ولكن بموجب حق مرور بعد ذلك وكانت أرضه لا تزال محبوسة، جار له، ولكن بموجب حق مرور جديد وفي مقابل تعويض جديد .
التعويض : وقد رأينا أن المادة 1/812 مدني تقضي بوجوب أن يدفع صاحب الأرض المحبوسة تعويضاً عادلاً للجار في نظير حق المرور في أرضه، فيقول النص : " وذلك في نظير تعويض عادل " فإذا الطرفان على مقدار هذا التعويض، تولي القاضي تحديده ويلجأ في إعادة إلى خبير لتقويم الضرر الذي أصاب الجار بتثقيل أرضه بحق مرور صاحب الأرض المحبوسة، ولا يعتد بالفائدة التي كسبتها الأرض المحبوسة من وراء حق المرور فلو أن هذا الفائدة كانت أكبر قيمة من الضرر، فالعبرة بقيمة الضرر لا بقيمة الفائدة ومتى تحددت قيمة الضرر، حكم القاضي بها تعويضاً للجار ولا يجوز الحكم بتعويض إضافي لو أن الضرر الذي أصاب الجار قد زاد بسبب تعديلات أدخلها الجار في أرضه وإنما يجوز الحكم بتعويض إضافي لو أن صاحب الأرض المحبوسة هو الذي أدخل تعديلات في استغلاله لأرضه وترتيب عليها زيادة في عبء حق المرور وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء : الثامن، الصفحة : 990)
ويشترط لإعمال النص :
1- ألا يكون للعقار إتصال بالطريق العام، بأن يكون محاطاً من جميع الجهات بأراضي الجيران، أو يكون له إتصال بالطريق العام ولكن هذا الإتصال غير كان لإستغلال الأرض بألا يكون في مكنة المالك المرور غير بماشيته وعرباته وآلات زراعته أو كانت الأرض منفصلة عن الطريق العام بمنحدر يمنع المرور، أو كان يمكن الوصول إلى الطريق العام بنفقة باهظة أو مشقة كبيرة، أو كان حق المرور متنازع فيه أو مقرر على سبيل التسامح، ففي هذه الحالات جميعها تعتبر الأرض محبوسة عن الطريق العام ويكون لمالكها المطالبة بحق المرور القانوني على أنه في حالة المرور المتنازع فيه يجب وقف دعوى المطالبة بالمرور القانوني حتى يفصل القضاء في هذا النزاع وعلى مدى الحكم الصادر يقضي في دعوى المطالبة بالمرور القانوني فإن كسب المالك النزاع وتقرر له حق المرور الذي كان متنازعاً فيه فإنه يتعين رفض دعوى المطالبة بالمرور القانوني.
وليس للمالك المطالبة بحق المرور إلا إذا كان لاستغلال أرضه زراعياً أو صناعياً وإذا غير المالك إستغلال أرضه المحبوسة كان له أن يطلب منفذاً يتفق والاستغلال الجديد .
2- ألا يكون المالك هو المتسبب في حبس أرضه، كأن يكون لأرضه كاف لاستغلالها فأقام بناءً منع اتصالها بالطريق العام.
3- أن يطلب المر المالك أو من له حق عيني على الأرض كالت وصاحب حق الإستعمال ونحوهما، ومن ثم فلا يجوز لمن له حق شخ کالمستأجر المطالبة بذلك إنما يلجأ للمؤجر ليطالب بحق المرور، وللمشتري بعقد عرفي المطالبة بالممر باعتباره من الحقوق المتعلقة بالمبيع.
4- أن يدفع الطالب تعويضاً عادلاً للجار، وللطرفين الاتفاق على مقداره وإلا قدرة القاضي وله أن يستعين بأهل الخبرة لبيان الضرر الذي أصاب الجار بتقرير حق المرور على أرضه ولا يعتد بالفائدة التي استفادت منها الأرض المحروسة، ويجوز تقرير تعويض إضافي إذا عدل صاحب الأرض المحبوسة في استغلال أرضه مما تطلب ممراً أكبر من الذي كان قد تقرر، ويجوز للقاضي تقسيط التعويض، فإن لم بدفع التعويض أو القسط الحال فللجار متع صاحب الأرض المحبوسة من المرور عن طريق دعوى منع التعرض، و تتقادم دعوى المطالبة بالتعويض بانقضاء خمس عشرة سنة من وقت الاستحقاق أي من وقت الاتفاق أو حكم القضاء أو المرور الفعلي كما يتقادم التعويض ذاته بنفس المدة على أنه إذا كان أقساطاً سنوية فيتقادم بخمس سنوات كسائر الديون الدورية المتجددة. (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء : الحادي عشر، الصفحة : 264)
هذا النص يعطى لصاحب العقار المحبوس حقاً في المرور في عقار الجار وبالتالي فهو يقرر قيداً مهما على حق الجار الذي يتقيد حقه في استعمال واستغلال أرضه بل وفي التصرف في الجزء من أرضه الذى للجار حق المرور فيه.
هذا الحق يقرره القانون مباشرة ولا يحتاج في وجوده إلى إتفاق بين أصحاب الشأن وأساسه حالة الضرورة التي يوجد بها صاحب العقار المحبوس فهذه الضرورة إقتضت تدخل القانون لكي يفرض على الجار ممراً في أرضه يوصل الأرض المحبوسة إلى الطريق العام ويلاحظ أن الذي يقرره القانون مباشرة هو حق المرور ذاته أما تعيين المرور وموقعه وإتساعه، فذلك يحتاج إلى واقعة تحول الحق النظرى المقرر بنصوص القانون إلى واقع ملموس محدد.
ويلاحظ كذلك أن الضرورة التي تقضي فرض المرور على الجار فى عقاره، تفرض من ناحية أخرى على صاحب الحق في المرور أن يدفع تعويضاً عادلاً نظير مروره في عقار الغير.
الأراضي التي يسمح بالمرور فيها :
رغم أن النص يتحدث عن الأرض المحبوسة مما يوحي بأن الأمر قاصر على الأرض الزراعية إلا أن الحكم الوارد بالنص يشمل جميع أنواع العقارات بغض النظر عن طبيعتها والغرض من استغلالها، فقد يتعلق بأرض زراعية أو أرض فضاء أو مسكن أو مصنع أو متجر أو مخزن أو حظيرة دواجن .
ويجوز ترتيب حق المرور على أي عقار بصرف النظر عن وضعه القانوني وتطبيقاً لذلك يمكن منح الممر في عقار لا يجوز التصرف فيه، كالعقارات الموقوفة إنما يجب أن يتقرر حق المرور في هذه الحالة بحكم قضائى، لأن تقرير حق المرور بالتراضي مع ناظر الوقف فيه خروج على أحكام منع التصرف في هذه العقارات.
ويجوز منح حق المرور في عقار من الدومين العام لأن هذه العقارات تخضع للقيود القانونية شأنها في ذلك شأن الأملاك الخاصة للدولة أو للأفراد، إنما يشترط في مثل هذه الحالة ألا يتعارض ترتیب حق المرور مع الغرض الذي خصصت من أجله الأموال العامة، ولذلك لا يجوز منح ممر في مناطق الاستحكامات الحربية كما ينبغي ألا يمنح حق المرور في عقار من الأموال العامة إذا أمكن المرور في أرض مملوكة ملكية خاصة.
وحق المرور القانوني لا يتقرر إلا للإتصال بالطريق العام، فلا يثبت للمعاونة على إجراء ترميمات في عقار مجاور.
لا يتحتم أن يكون الممر على سطح الأرض :
لم تستعمل المادة 812 عبارة المادة 682 من القانون المدني الفرنسي التي تقرر منح المرور على الأرض وإنما قررت المادة حق المرور في الأراضي المجاورة، وهي عبارة عامة تتضمن المرور على الأرض أو في باطنها، كما إذا لزم الممر لاستغلال المناجم أو المحاجر الموجودة في باطن الأرض، أو في موضع أعلى سطح الأرض كما إذا أقام أحد الأفراد جسراً عالياً فوق سطح الأرض فيتقرر لجاره صاحب الأرض المحبوسة حق المرور في هذا الجسر كما يجوز أن يكون هذا الممر هوائياً .
لمن يثبت حق المرور؟
صریح نص المادة 812 مدني أن حق المرور يثبت المالك الأرض غير أن الفقه يرى أن هذا الحق يثبت لغير المالك من أصحاب الحقوق العينية کالمنتفع وصاحب حق الإستعمال والسكنى والحكر أما المستأجر فإنه صاحب حق شخصي فلا يتقرر له هذا الحق وإنما له أن يلجأ إلى المؤجر للحصول على هذا الحق.
المقصود بالاحتباس :
حتى يتقرر الحق في المرور لأرض معينة، يجب أن تكون هذه الأرض أياً كانت طبيعتها أو الغرض المخصصة له محبوسة عن الطريق العام، أي لا يكون لها منفذ على هذا الطريق ولكن لا يلزم في هذا الانحباس أن يكون تاماً أو كلياً أي تنعدم وسيلة إتصال الأرض بالطريق العام، بل يكفي أن يكون هذا الإحتباس جزئياً كما لو وجد للأرض ممر ولكنه غير كاف لأنه لا يؤدي إلى الطريق العام إلا بنفقات باهظة أو مشقة كبيرة.
والاحتباس المقصود بالنص يشمل حالات ثلاث هي :
الحالة الأولى :
هي حالة الاحتباس التام التي يوجد فيها العقار محاطاً من جميع الجهات بعقارات مملوكة للغير ولا يكون له أي منفذ أو طريق يوصل إلى الطريق العام.
ولا تعتبر الأرض محبوسة إذا كان للمالك حق ارتفاق بالمرور في أرض من الأراضي المجاورة كسبه بتصرف قانونی (عقد أو وصية) أو بالميراث أو بالتقادم أو بتخصيص رب الأسرة.
الحالة الثانية :
إذا كان للعقار ممر غير كاف إلى الطريق العام فالفرض هنا أن العقار ليس محبوساً تماماً عن الطريق العام أي أن له ممراً إلى الطريق العام، ولكن هذا الممر لا يكفي لاستعمال العقار واستغلاله على الوجه المألوف.
ومثال ذلك أن يكون الممر الذي يوصل بين الأراضي الزراعية والطريق العام لا يمكن أن يستعمله المالك للمرور بمشيته وعرباته وآلاته الزراعية.
ويعتبر الممر غير كاف أيضاً - كما صرحت المادة - إذا كان لا يتيسر الجار الوصول إلى الطريق العام إلا بنفقة باهظة أو مشقة كبيرة.
ومثال الممر الذي يكبد المالك نفقات باهظة، الممر الذي لا يمكن المرور فيه إلا بتعبيده وتقويته مما يتكلف نفقات كبيرة لا تتناسب مع المنفعة التي يجنيها المالك من الأرض المحبوسة، كبناء كوبرى من الخرسانة المسلحة على ترعة.
ومثال الممر الذي يكبد المالك مشقة كبيرة، الممر الشديد الانحدار الذي يعرض مرور الإنسان أو الدواب أو المواشي فيه للخطر، أو الممر الذي يقع بين جبلين تحصل فيهما انهيارات بصفة مستمرة.
وإذا تغير إستغلال العقار، فإن الحق يتغير بحسب تغيير الاستغلال إذا أصبح حق المرور غير كاف للاستغلال الجديد، فيثبت لمالك الأرض الحق في تغيير الممر وجعله أوسع نطاقاً ليكون كافياً للإستغلال الجديد كما إذا كان العقار مستغلاً زراعياً فقام المالك ببناء مصنع في الأرض أو ببناء عمارة من عدة طوابق فأصبح الممر غير كاف لإستغلال العقار.
وتقدير ما إذا كان الممر كافياً أو غير كاف لا يتيسر الوصول منه إلى الطريق العام إلا بنفقة باهظة أو مشقة كبيرة مما يخضع لسلطة قاضي الموضوع ولا رقابة لمحكمة النقض عليه، طالما أن النتيجة التي إنتهى إليها لا تصطدم بالوقائع التي عرضت عليه وبشرط أن يراعى ألا يمنح الممر إلا إستجابة لضرورة ملحة، لا لمجرد التيسير بتفادي صعوبات ليس من العسير تذليلها.
والعبرة في تقدير كفاية أو عدم كفاية الممر الذي يصل الأرض بالطريق العام تكون بحسب حاجة الأرض وقت المطالبة بحق المرور وتختلف هذه الحاجة بإختلاف الإستعمال الذي خصصت له الأرض فالممر الذي يصلح المرور المشاة دون الدواب قد يعتبر ممراً كافياً لأرض حديقة ولكنه غير كاف الأرض زراعية، والممر الذي يكون كافياً للأرض الزراعية أو المبنية للسكني قد يكون غير كاف لأرض عليها مصنع يقتضي استغلاله مرور العربات الكبيرة، وهكذا لإستجابة لضرورة ملحة، لا لمجرد التيسير بتفادي صعوبات.
لا يعتد بإحتباس الأرض عن الطريق العام إذا كان الإحتباس ناشئاً عن فعل الجار طالب الحق في المرور، لأنه يكون هو المسئول عن هذا الإحتباس، فلا يجوز تحميل جاره بنتائج أعماله التي لم يكن مضطراً إليها.
لأن فرض القانون مرور صاحب الأرض المحبوسة من أرض جاره إنما يستند إلى الضرورة ومثال ذلك أن يقيم بناء في الجزء المتصل بالطريق العام من أرضه، فيصبح الجزء الباقي محبوساً عن هذا الطريق، فلا يكون له أن يطالب بحق المرور القانوني.
قد يتم تعيين الممر في أرض الجار باتفاق المالكين، وتراعي في هذا التعيين حينئذ مصالح كل من الطرفين.
أما إذا لم يتم هذا الاتفاق فلطالب حق المرور الالتجاء إلى القضاء لتقرير هذا الحق وتعيين الممر لأن القانون رتب الحق في المرور على حالة واقعية هي حالة الاحتباس الفعلي، وعلى ذلك يثبت هذا الحق بقوة القانون مادامت الأرض محبوسة عن الطريق العام.
فليس للمطالبة بتقرير حق المرور القانوني أو السكوت عن المطالبة به أثر في وجوده وإن كانت المطالبة ضرورية لتعيين الممر وكيفية المرور ويترتب على ذلك أن إقدام مالك الأرض المحبوسة على المرور في الأرض المجاورة قبل أن يحدد طريق المرور بالإتفاق أو بحكم القضاء، لا يوقعه تحت طائلة المادة 387/1 من قانون العقوبات.
فهذه المادة تقضى بعقاب من يمر في أرض مهيأة للزرع بمفرده أو ببهائمه أو دوابه المعدة للجر أو الحمل أو الركوب، وكان ذلك بغير حق. ولكن صاحب العقار المحبوس له حق المرور في العقار المجاور بالشروط المقررة في المادة 812 مدنی، فكل ما يترتب على مروره قبل توافر هذه الشروط هو المطالبة بالتعويض إن كان قد تخير للمرور طريقاً غير الذي عينته المحكمة بعد ذلك.
كما يجوز لحائز الأرض التي دخلها مالك الأرض المحبوسة للمرور منها إلى الطريق العام أن يرفع دعوى منع التعرض طالما لم يصدر حكم القاضی بتعيين الممر في أرضه.
ومن المتفق عليه أيضاً أن استعمال الممر على هذا الوضع لمدة سنة فأكثر، يخول صاحب العقار المحبوس الحق في الالتجاء إلى دعاوى وضع اليد لتدعيم حيازته للممر فقد قرر المشرع في المادة 1016 أن حق المرور يكسب بالتقادم، أي أنه يصلح لأن يكون محلاً لحيازة نافعة.
فإذا كانت حيازة مالك العقار المحبوس مستوفية لسائر الشروط القانونية، بأن كانت هادئة وظاهرة وغير غامضة، وإستمرت سنة كاملة على الأقل قبل التعرض، أصبحت حمايتها واجبة، وكان لواضع اليد حق المطالبة بمنع تعرض مالك الأرض التي يمر فيها، باعتباره متعدياً على حيازته، فإذا أثبت المدعي إنحصار عقاره، فلا تجوز مطالبته بتقديم سند مثبت لحقه، لأن حقه في المرور مستمد من القانون .
عدم سقوط حق المرور بعدم الإستعمال :
لا يترتب على عدم المطالبة بالحق في المرور أن يسقط بعدم الإستعمال فهو باق ما دامت حالة الانحباس وتجوز المطالبة به في أي وقت على أنه إذا تعين الممر ودفع التعويض المالك الأرض التي تقرر المرور فيها، ثم ظل مالك الأرض المحبوسة لا يستعمل حقه في المرور مدة خمس عشرة سنة، سقط حقه في الممر المعين ووجب أن يدفع تعويضاً جديداً لمالك الأرض المجاورة إذ أراد العودة إلى المرور ثانية.
تعيين الممر:
مناط الحق في المرور هو توافر حالة الانحباس عن الطريق العام، حيث ينشأ هذا الحق بقوة القانون على أثر توافر هذا الاحتباس، غير أن مباشرة هذا الحق تقتضي تعيين الممر وطريقة المرور وقد يتم هذا التعيين بالاتفاق بين مالك الأرض المحبوسة ومالك الأرض المجاورة، وإلا تولى القاضي هذا التحديد مسترشداً بالقواعد التي قررها القانون في هذا الصدد .
القواعد الواجب مراعاتها في تعيين الممر:
وردت هذه القواعد في المادة 812 مدنی، وتخلص هذه القواعد فيما يلي :
(أ) القاعدة الأولى : الممر يكون في العقار الذي يكون فيه المرور أخف ضرراً.
عبرت الفقرة الأولى من المادة عن ذلك بقولها :
" لا يستعمل هذا الحق إلا في العقار الذي يكون المرور فيه أخف ضرراً وفي موقع منه يتحقق فيه ذلك فقد يفضل القاضي ممراً طويلاً على ممر قصير، إذا كان الأخير يقتضى المرور في فناء منزل أو حديقة أو هدم مبنى أو إتلاف أشجار كبيرة القيمة، في حين أن الممر الأول (الأطول) يشق أرضاً فضاءً أو أرضاً تزرع بالمحاصيل.
ولا يجوز لطالب الممر أن يشكو من أن الممر الطويل يحمله بتعويض أكبر مادام تعيين الممر بهذه الصورة يخفف الأضرار التي تلحق بالجار.
وإذا كان الممر على أرض مسورة، فليس من اللازم هدم السور، إذا كان فتح باب فيه كافياً، كما يمكن أن يكون الممر تحت أرض الجار، إذا كان لا يضر هذه الأرض أو بطريق هوائي، کالأسلاك التي تحمل عربات نقل منتجات المناجم والمحاجر وبعض المصانع.
والمرور في الطريق العام يكون في الأرض المجاورة إذا أدت هذه الأرض إلى الطريق العام مباشرة وإلا فإنه يمر بالأراضي المجاورة الأخرى حتى يصل إلى هذا الطريق ويمكن ممارسة حق المرور في الأراضي المجاورة للأرض المحبوسة سواء أكانت هذه الأراضي من الأملاك العامة أو الخاصة طالما لم يتعارض المرور مع تخصيص الأرض للمنفعة العامة.
القاعدة الثانية :
أن يكون المرور في العقار في الموضع الأخف ضرراً :
عبرت المادة 1/812 مدنی عن ذلك بقولها : "ولا يستعمل هذا الحق إلا في العقار الذي يكون المرور فيه أخف ضرراً وفي موضع منه يتحقق فيه ذلك ".
فبعد إختيار العقار الذي يكون المرور فيه أخف ضرراً يجب أن يتحدد الممر في هذا العقار في الموضع الأخف ضرراً فقد يكون من مصلحة صاحب حق المرور إختيار الطريق الأقصر ولكن مثل هذا الطريق قد يترتب عليه مضار بالغة للعقار المجاور كما لو كان الممر يخترق العقار ويقسمه إلى شطرين يصعب إستغلالهما أو لو كان هذا الممر يخترق مسكناً خاصاً أو ملحقاته.
فقد يكون أقل ضرراً إختيار الممر عند حدود العقار أو بعيداً عن المساكن وملحقاتها أو بعيداً عن أشجار الفاكهة أو أحواض الزهور ...... إلخ.
ولكن هذا التفصيل شرطه وجود عدة بدائل يختار القاضي أحدها أما لو كانت إقامة الممر إلزامية في موضع معين لا بديل له فإن القاضي يأمر بالممر بغض النظر عن الأضرار التي تصيب العقار المحمل بالممر فقد يقتضي إقامة الممر إحداث فتحة في سور مبنی ولكن في هذه الحالة قد يشترط صاحب العقار المحمل بالممر إقامة بوابة على هذا السور ويحتفظ صاحب الحق في المرور بمفتاح هذه البوابة بل أكثر من ذلك قد يقتضى إقامة الممر هدم جزء من بناء لتيسير النفاذ إلى الطريق العام.
ج) القاعدة الثالثة :
أن يكون مرور مالك الأرض المحبوسة بالقدر اللازم لاستغلال أرضه واستعمالها على الوجه المألوف :
وقد عبرت عن ذلك الفقرة الأولى من المادة 812 مدني بقولها :
له حق المرور في الأراضي المجاورة بالقدر اللازم لاستغلال أرضه واستعمالها على الوجه المألوف ذلك أن الشارع لم يقرر حق المرور إلا الضرورة، هي تيسير إستعمال العقار المحبوس واستغلاله، والضرورة تقدر بقدرها فيجب أن يكون إتساع الممر بالقدر الذي يتطلبه استعمال هذا العقار واستغلاله.
ويختلف القدر اللازم لاستغلال الأرض واستعمالها على الوجه المألوف بإختلاف الإستغلال أو الإستعمال الذي خصصت له الأرض فالممر الذي يصلح لمرور المشاة دون الدواب قد يعتبر ممراً كافياً لأرض مبنية فلا يتحقق الانحباس في شأنها ولكنه لا يكون كافياً لأرض زراعية والأرض التي أنشئ عليها مصنع تحتاج إلى ممر كاف لمرور عربات النقل الكبيرة مما لا تحتاج إليه الأرض المبنية منازل للسكني أو الأرض التي تستغل للزراعة.
ويترتب على أن العبرة بطريقة استعمال الأرض أو استغلالها أن تغيير هذا الاستعمال أو الاستغلال قد يؤثر في حق المرور القانوني ليتناسب مع الاحتياجات الجديدة.
وقد يقتضى الأمر إستبدال الممر القديم بممر جديد يتناسب مع إحتياجات الأرض الجديدة، فقد تقام في الأرض الفضاء أبنية أو تعد للاستغلال الصناعي أو الزراعي، فتزيد حاجات الأرض باستحداث أوجه الاستغلال هذه، فيكون صاحب الأرض المحبوسة في حاجة إلى ممر أكبر يتناسب ما استجد من حاجات، ولا يجوز الاعتراض على ذلك بأن صاحب الأرض المحبوسة قد زاد من أعباء حق المرور بإرادته وحده، ذلك أنه يجب أن يكون حراً منطلقاً فى نشاطه وفي تجديده لأنواع النشاط الذي يقوم به كما لو كانت أرضه غيرر محبوسة فهذا ما تقتضيه المصلحة العامة، ولا يجوز تقييده في ذلك مادام في نطاق الوجوه المألوفة لإستغلال أرضه.
وقد يغير مالك الأرض المحبوسة طريقة إستغلال أرضه فلا يصبح في حاجة إلى هذا الممر المتسع، عندئذ يجوز لمالك الأرض المجاورة أن يطلب تضييق الممر بحيث يتناسب مع طريقة الإستغلال الجديدة.
وإذا كان لمالك الأرض المحبوسة أن يغير من نشاطه بشكل قد يؤدي إلى المطالبة بممر أكبر فإن هذا مشروط بألا يكون متعمداً الإضرار بصاحب الأرض المجاورة أو مجاوزاً للنطاق المألوف من النشاط فيزيد من أعباء حق المرور وكان يستطيع ألا يفعل، عندئذ يكون مسئولاً ويحق للجار منعه إما لأنه متعسفاً في إستعمال حقه أو لأنه قد جاوز المألوف من مضار الجوار فألحق بجاره ضرراً فاحشاً.
فهذا النص يفترض أن عقاراً متصلاً إتصالاً كافياً بالطريق العام، ثم تصرف مالكه في العقار بعد تقسيمه إلى عدة أجزاء، وترتب على هذه التجزئة إنحباس جزء أو أكثر من أجزاء هذا العقار عن الطريق العام.
وقد أوجب النص أن يكون ممراً للأجزاء المحبوسة.
فيشترط إذن توافر شروط ثلاثة :
1- أن يكون العقار متصلاً بالطريق العام إتصالاً كافياً.
2- أن يتصرف مالك العقار فيه تصرفاً يؤدي إلى تجزئته.
وكلمة التصرف وردت بالنص عامة فتشمل أي تصرف سواءً كان بيعاً أو مقايضة أو هبة أو قسمة العقار إذا كان مملوكاً على الشيوع لعدة شركاء.
3- أن يترتب على تجزئة العقار حبس إحدى هذه القطع على الأقل عن الطريق العام كأن يبيع المالك جزءاً من الأرض لشخص آخر، فيؤدى البيع إلى أحد أمرين : إما أن يشتري المشتري الجزء غير المجاور للطريق العام فيكون هذا الجزء محبوساً، أو يشتري الجزء المجاور للطريق العام فيصير الجزء الآخر الذي استبقاه البائع هو المحبوس.
وكذلك لو باع المالك الأصلي جزءاً من الأرض إلى مشتر، وجزءاً آخر أصبح محبوساً بالبيع الأول إلى مشتر آخر.
والحكم في هذه الحالة أنه إذا كان في المستطاع إيجاد ممر كاف فی الأجزاء الأخرى يصل الجزء المحبوس إلى الطريق العام، فتقتصر المطالبة بحق المرور على هذه الأجزاء ولا تجوز المطالبة بحق المرور في الأراضي المجاورة الأخرى إلا إذا تعذر إيجاد ممر في أجزاء العقار الأخرى.
فيكون المالك العقار عندئذ الحق في الحصول على الممر الكافي في أحد العقارات المجاورة طبقاً للقاعدة العامة الواردة بالفقرة الأولى من المادة 812 مدنی قد يزول الانحصار على الأرض المحبوسة عن الطريق العام بإتصالها بالطريق العام، ويحدث ذلك إما بإنشاء طريق عام بجوار الأرض المحبوسة أو بتملك صاحب الأرض المحبوسة أرضاً أخرى متصلة بأرضه وكانت الأرض الأخرى متصلة بالطريق العام وفي هذه الحالة يتعين التفرقة بين حالتين :
الحالة الأولى :
أن يكون مالك الأرض المحبوسة عن الطريق العام لم يحصل على حق المرور في أرض مجاورة.
ففي هذه الحالة يزول حقه في طلب حق المرور لأن الانحباس هو المناط في تقرير الحق القانوني للمرور، وقد زالت الضرورة التي فرضت هذا القيد.
الحالة الثانية :
أن تكون حالة الإحتباس قد زالت بعد منح الممر ومباشرة المرور فيه فعلاً الممر حق خاص لصاحب العقار المحبوس، وبالتالي فهو لا يتحول إلى طريق عام يسمح للكافة باستخدامه فليس لأصحاب العقارات المجاورة التي قد يمر الممر بها إستخدامه وليس للكافة أن تستخدمه للنزهة أو لوقوف السيارات فالممر يفرضه القانون على عقار معين كضرورة والضرورة تقاس بقدرها ولا توسع فيما تفرضه من أعباءً والضرورة هنا هي الانحباس ولا يترتب عليها إلا إنهاء هذا الانحباس دون أي تزيد.
وينبني على ذلك أيضاً أنه ليس للمالك أن يستعمل الممر الذي له في أرض الغير لاستغلال أرض أخرى يكون قد امتلكها بعد ذلك، بل يجب عليه في هذه الحالة أن يحصل على ممر للأرض الجديدة، وقد يكون هذا الممر هو نفس الممر الذي لأرضه القديمة.
وحق المرور لا يعطي مالك العقار المستفيد ملكية الأرض المقرر عليها المرور، بل تبقى الملكية لصاحب الأرض، ويكون له أن يتصرف فيها كما يشاءً، بشرط ألا يضر بحق المرور.
فالمشرع وإن كان قد خول مالك الأرض المحبوسة عن الطريق حق المرور في أرض جاره لم يشأ أن يضار المالك الجار من ذلك، ولذلك خوله الحق في تقاضي تعويض عادل نظير تقرير هذا الحق.
فإذا لم يتفق الطرفان على مبلغ التعويض فإنه يقدر بدعوى ترفع أمام المحكمة المختصة.
ويراعى في تحديد التعويض الضرر الذي يتسبب للمالك الجار ولا يعتد في هذا التقدير بمقدار الفائدة التي عادت على مالك الأرض المحبوسة من جراء استفادته من هذا الحق كما لا يدخل في عناصر تقدير التعويض ثمن الأرض التي يمارس فيها المرور حيث تبقى هذه الأرض على ملك صاحبها.
وإذا تحددت قيمة الضرر حكم القاضي بتعويض الجار ولكن لا يجوز له الحكم بتعويض إضافي إذا تحققت أضرار أخرى نتيجة لتعديل في حق المرور إذا كان هذا التعديل قد تم بمعرفة مالك الأرض المجاورة وليس بفعل مالك الأرض المحبوسة وبناءً على ذلك لا يلزم أن يكون التعويض مبلغاً متجمداً يدفع قبل البدء في إستعمال الممر، بل يجوز الحكم بدفع التعويض على دفعات في مواعيد دورية ويجوز أن يجعل التعويض إيراداً مرتباً يدفع في أول كل سنة.
وعلى هذا لا يشترط لقبول دعوى مالك الأرض المحبوسة قبل الجار أن يعرض عليه التعويض الواجب على أنه يجوز للجار أن يمنع صاحب الأرض المحبوسة من المرور قبل أن يدفع التعويض المستحق في ذمته والواجب الأداء طبقاً لقواعد الحق في الحبس ".
ولا يعطى التعويض إلا في حالة عدم الإتصال بالطريق العام الذي يحدث بسبب آخر غير البيع أو المقايضة أو القسمة أو أي عقد آخر أما في هذه الحالات فإن الممر يكون بدون دفع تعويض إلا إذا اتفق على خلاف ذلك، لأنه في حالة القسمة، بسبب مبدأ المساواة الذي يجب أن يسود بين المتقاسمين يفرض أن الجزء المحصور يكون له إتصال بالطريق العام من الأجزاء الأخرى، وفي حالة البيع يجب على البائع أن يسلم الشيء مع توابعه وكل ما هو معد للاستعمال الدائم، وبين هذه التوابع حق المرور، لأنه لازم لإستعمال الشيء.
سقوط الحق في المطالبة بالتعويض بالتقادم :
إذا لم يتم تقدير التعويض بالإتفاق أو بحكم قضائي، وسكت صاحب الحق عن المطالبة به مدة خمس عشرة سنة، سقط الحق في التعويض بالتقادم ويبدأ سريان هذه المدة من وقت أن يباشر مالك الأرض المحبوسة حقه في المرور، لأن هذا الوقت هو الذي ينشأ فيه الحق في التعويض وتجوز فيه المطالبة.
أما إذا تم تقدير التعويض إتفاقاً أو قضاءً، فإن التعويض يصبح مستحقاً، فإذا كان التعويض مبلغاً يدفع جملة واحدة تقادم الحق بمضى خمس عشرة سنة من وقت استحقاقه.
وإن كان مبلغاً يدفع على أقساط معدودة تقادم الحق في كل قسط على حدة، بانقضاء المدة المذكورة وإذا كان التعويض المتفق عليه أو المحكوم به إيراداً يتجدد كل سنة، فإن هذا الإيراد يسقط بخمس سنوات شأنه في ذلك شأن كل دين دوری متجدد.(موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء : الحادي عشر، الصفحة : 290)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس عشر ، الصفحة / 216
جِوَارٌ
التَّعْرِيف:
1 - الْجِوَارُ - بِكَسْرِ الْجِيمِ - مَصْدَرُ جَاوَرَ، يُقَالُ: جَاوَرَ جِوَارًا وَمُجَاوَرَةً أَيْضًا. وَمِنْ مَعَانِي الْجِوَارِ الْمُسَاكَنَةُ وَالْمُلاَصَقَةُ، وَالاِعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْعَهْدُ وَالأْمَانُ.
وَمِنَ الْجِوَارِ الْجَارُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: الْمُجَاوِرُ فِي الْمَسْكَنِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْعَقَارِ أَوِ التِّجَارَةِ، وَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَالْحَلِيفُ، وَالنَّاصِرُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَنْ قَارَبَ بَدَنُهُ بَدَنَ صَاحِبِهِ قِيلَ لَهُ: جَارٌ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْجَارُ: مَنْ يَقْرُبُ مَسْكَنُهُ مِنْكَ، وَهُوَ مِنَ الأْسْمَاءِ الْمُتَضَايِفَةِ؛ فَإِنَّ الْجَارَ لاَ يَكُونُ جَارًا لِغَيْرِهِ إِلاَّ وَذَلِكَ الْغَيْرُ جَارٌ لَهُ، كَالأْخِ وَالصَّدِيقِ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ: وَهُوَ الْمُلاَصَقَةُ فِي السَّكَنِ أَوْ نَحْوِهِ كَالْبُسْتَانِ وَالْحَانُوتِ.
الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجِوَارِ :
أ - حَدُّ الْجِوَارِ :
2 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «حَقُّ الْجَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا»
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَارَ هُوَ الْمُلاَصِقُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ أَوِ الْمُقَابِلُ لَهُ بَيْنَهُمَا شَارِعٌ ضَيِّقٌ لاَ يَفْصِلُهُمَا فَاصِلٌ كَبِيرٌ كَسُوقٍ أَوْ نَهْرٍ مُتَّسِعٍ، أَوْ مَنْ يَجْمَعُهُمَا مَسْجِدٌ أَوْ مَسْجِدَانِ لَطِيفَانِ مُتَقَارِبَانِ، إِلاَّ إِذَا دَلَّ الْعُرْفُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْحَدِّ.
وَحَمَلُوا حَدِيثَ: «أَلاَ إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ» عَلَى التَّكْرِمَةِ وَالاِحْتِرَامِ، كَكَفِّ الأْذَى، وَدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْبِشْرِ فِي الْوَجْهِ وَالإْهْدَاءِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ الْجَارَ هُوَ الْمُلاَصِقُ فَقَطْ؛ لأِنَّ الْجَارَ مِنَ الْمُجَاوَرَةِ، وَهِيَ الْمُلاَصَقَةُ حَقِيقَةً. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ هُوَ الْقِيَاسُ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ (أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) إِلَى أَنَّ الْجَارَ هُوَ الْمُلاَصِقُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَجْمَعُهُمُ الْمَسْجِدُ؛ لأِنَّ هُمْ يُسَمَّوْنَ جِيرَانًا عُرْفًا وَشَرْعًا، وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «لاَ صَلاَةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ» وَجَاءَ تَفْسِيرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مَوْقُوفًا بِمَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِرَّ الْجِيرَانِ فَاسْتِحْبَابُهُ شَامِلٌ لِلْمُلاَصِقِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الاِخْتِلاَطِ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْمُجَاوَرَةِ كَانَ لاَ بُدَّ مِنِ اتِّحَادِ الْمَسْجِدِ لِتَحَقُّقِ الاِخْتِلاَطِ.
ب - حُقُوقُ الْجِوَارِ :
3 - جَاءَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ تَحُضُّ عَلَى احْتِرَامِ الْجِوَارِ، وَرِعَايَةِ حَقِّ الْجَارِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا).
فَالْجَارُ ذُو الْقُرْبَى، هُوَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ. وَالْجَارُ الْجُنُبُ: هُوَ الَّذِي لاَ قَرَابَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. أَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا قَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ».
وَقَوْلُهُ صلوات الله عليه وسلم : «وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ. وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ. وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ. قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَأْكِيدُ حَقِّ الْجَارِ لِقَسَمِهِ صلي الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَتَكْرِيرِهِ الْيَمِينَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَفِيهِ نَفْيُ الإْيمَانِ عَمَّنْ يُؤْذِي جَارَهُ بِالْقَوْلِ، أَوْ بِالْفِعْلِ، وَمُرَادُهُ الإْيمَانُ الْكَامِلُ. وَلاَ شَكَّ أَنَّ الْعَاصِيَ غَيْرُ كَامِلِ الإْيمَانِ.
وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ». وَقَوْلُهُ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» هَذَا وَاسْمُ (الْجَارِ) جَاءَ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ، وَغَيْرَ الْمُسْلِمِ، وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ، وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ، وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَالْقَرِيبَ وَالأْجْنَبِيَّ، وَالأْقْرَبَ دَارًا وَالأْبْعَدَ، وَلَهُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ.
قَالَ أَحْمَدُ: الْجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ الذِّمِّيُّ الأْجْنَبِيُّ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ. وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ: وَهُوَ الْمُسْلِمُ الأْجْنَبِيُّ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الإْسْلاَمِ. وَجَارٌ لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ: وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الإْسْلاَمِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ.
وَأَوْلَى الْجِوَارِ بِالرِّعَايَةِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَهُمْ بَابًا. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ حِينَ قَالَ: بَابٌ: حَقُّ الْجِوَارِ فِي قُرْبِ الأْبْوَابِ. وَأَدْرَجَ تَحْتَهُ حَدِيثَ «عَائِشَةَ رضي الله عنها. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا».
وَمِنْ حُقُوقِ الْجِوَارِ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ حَقُّ الْجِوَارِ كَفَّ الأْذَى فَقَطْ، بَلِ احْتِمَالُ الأْذَى، فَإِنَّ الْجَارَ أَيْضًا قَدْ كَفَّ أَذَاهُ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ قَضَاءُ حَقٍّ وَلاَ يَكْفِي احْتِمَالُ الأْذَى، بَلْ لاَ بُدَّ مِنَ الرِّفْقِ، وَإِسْدَاءِ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ.. وَمِنْهَا: أَنْ يَبْدَأَ جَارَهُ بِالسَّلاَمِ، وَيَعُودَهُ فِي الْمَرَضِ، وَيُعَزِّيَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَيُهَنِّئَهُ عِنْدَ الْفَرَحِ، وَيُشَارِكَهُ السُّرُورَ بِالنِّعْمَةِ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ زَلاَّتِهِ، وَيَغُضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَارِمِهِ، وَيَحْفَظَ عَلَيْهِ دَارَهُ إِنْ غَابَ، وَيَتَلَطَّفَ بِوَلَدِهِ، وَيُرْشِدَهُ إِلَى مَا يَجْهَلُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.. هَذَا إِلَى جُمْلَةِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْمُجَاوَرَةَ تُوجِبُ لِكُلٍّ مِنَ الْحَقِّ مَا لاَ يَجِبُ لأِجْنَبِيٍّ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا لاَ يَحْرُمُ عَلَى الأْجْنَبِيِّ. فَيُبِيحُ الْجِوَارُ الاِنْتِفَاعَ بِمِلْكِ الْجَارِ الْخَالِي مِنْ ضَرَرِ الْجَارِ، وَيَحْرُمُ الاِنْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْجَارِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ.
حَقُّ الْجِوَارِ فِي الطَّرِيقِ :
10 - الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَقِّ مَعْرِفَةُ مَا لِجِوَارِ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ، وَيُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الطَّرِيقَ إِلَى نَوْعَيْنِ: طَرِيقٍ نَافِذَةٍ وَطَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَحَقُّ الْجِوَارِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُغَايِرٌ لِلآْخَرِ. وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَرِيقٌ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن والعشرون ، الصفحة / 345
طَرِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّرِيقُ فِي اللُّغَةِ: السَّبِيلُ - يُذَكَّرُ، وَيُؤَنَّثُ. بِالتَّذْكِيرِ جَاءَ الْقُرْآنُ: ) فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) وَيُقَالُ: الطَّرِيقُ الأْعْظَمُ كَمَا يُقَالُ: كَمَا يُقَالُ الطَّرِيقُ الْعُظْمَى .
وَفِي الإْصْلاَحِ: لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّافِذِ، وَغَيْرِ النَّافِذِ، وَالْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ، وَالْعَامِّ، وَالْخَاصِّ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّارِعُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الشَّارِعِ: الطَّرِيقُ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بَيْنَ الطَّرِيقِ وَالشَّارِعِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالطَّرِيقُ عَامٌّ فِي الصَّحَارِيِ، وَالْبُنْيَانِ، وَالنَّافِذِ وَغَيْرِ النَّافِذِ، أَمَّا الشَّارِعُ فَهُوَ خَاصٌّ فِي الْبُنْيَانِ النَّافِذِ .
ب - السِّكَّةُ:
3 - السِّكَّةُ هِيَ الطَّرِيقُ الْمُصْطَفَّةُ مِنَ النَّخِيلِ . وَالطَّرِيقُ أَعَمُّ مِنَ السِّكَّةِ.
ج - الزُّقَاقُ:
4 - الزُّقَاقُ طَرِيقٌ ضَيِّقٌ دُونَ السِّكَّةِ، وَيَكُونُ نَافِذًا وَغَيْرَ نَافِذٍ وَالطَّرِيقُ أَعَمُّ مِنَ الزُّقَاقِ.
د - الدَّرْبُ:
5 - الدَّرْبُ: بَابُ السِّكَّةِ الْوَاسِعُ، وَأَصْلُ الدَّرْبِ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ فِي الْجَبَلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَلِ الضَّيِّقِ .
هـ - الْفِنَاءُ:
6 - الْفِنَاءُ فِي اللُّغَةِ: سِعَةٌ أَمَامَ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَيُطْلِقُهُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا فَضَلَ مِنْ حَاجَةِ الْمَارَّةِ مِنْ طَرِيقٍ نَافِذٍ .
الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّرِيقِ:
7 - الطَّرِيقُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا: فَالطَّرِيقُ الْعَامُّ: مَا يَسْلُكُهُ قَوْمٌ غَيْرُ مَحْصُورِينَ، أَوْ مَا جُعِلَ طَرِيقًا عِنْدَ إِحْيَاءِ الْبَلَدِ، أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ وَقَفَهُ مَالِكُ الأْرْضِ لِيَكُونَ طَرِيقًا، وَلَوْ بِغَيْرِ إِحْيَاءٍ.
وَإِنْ وُجِدَ سَبِيلٌ يَسْلُكُهُ النَّاسُ عَامَّةً، اعْتُمِدَ فِيهِ الظَّاهِرُ وَاعْتُبِرَ طَرِيقًا عَامًّا، وَلاَ يَبْحَثُ عَنْ أَصْلِهِ.
أَمَّا بِنْيَاتُ الطَّرِيقِ - وَهِيَ الْمَمَرَّاتُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْخَوَاصُّ - فَلاَ تَكُونُ بِذَلِكَ طَرِيقًا .
قَدْرُ مِسَاحَةِ الطَّرِيقِ:
8 - إِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ مِنْ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يُسَبِّلُهَا مَالِكُهَا فَتَقْدِيرُ مِسَاحَةِ الطَّرِيقِ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَالأْفْضَلُ تَوْسِيعُهُ، وَعِنْدَ الإْحْيَاءِ: إِلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُحْيُونَ، فَإِنْ تَنَازَعُوا جُعِلَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَضَى النَّبِيُّ إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ» ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ» .
وَنَازَعَ فِي هَذَا التَّحْدِيدِ جَمْعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَبَعًا لِلأْذْرَعِيِّ: تَابَعَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا التَّحْدِيدِ إِفْتَاءَ ابْنِ الصَّلاَحِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: اعْتِبَارُ قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي قَدْرِ الطَّرِيقِ، زَادَ عَنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ أَوْ نَقَصَ عَنْهَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، لأِنَّ ذَلِكَ كَانَ عُرْفَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ .
وَإِنْ زَادَ عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، أَوْ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ يُغَيَّرْ، لأِنَّ الطُّرُقَ وَالأْفْنِيَةَ كَالإْحْبَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلاَ يَجُوزُ لأِحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، أَوْ يَقْتَطِعَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، لاَ يَتَضَرَّرُ الْمَارَّةُ بِالْجُزْءِ الْمُقْتَطَعِ مِنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، شِبْرًا طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» ، وَيُهْدَمُ إِنِ اسْتَوْلَى شَخْصٌ أَوِ اقْتَطَعَ مِنَ الطَّرِيقِ وَأَدْخَلَهُ فِي بِنَائِهِ وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُهْدَمُ عَلَيْهِ مَا اقْتَطَعَ مِنْهَا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارَّةُ، وَلاَ يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ لِسِعَتِهِ .
الاِنْتِفَاعُ بِالطَّرِيقِ النَّافِذَةِ:
9 - الطَّرِيقُ النَّافِذَةُ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِـ «الشَّارِعِ» مِنَ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، لِلْجَمِيعِ الاِنْتِفَاعُ بِهَا بِمَا لاَ يَضُرُّ الآْخَرِينَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمَنْفَعَتُهَا الأْصْلِيَّةُ: الْمُرُورُ فِيهَا، لأِنَّ هَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، فَيُبَاحُ لَهُمُ الاِنْتِفَاعُ بِمَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ الْمُرُورُ بِلاَ خِلاَفٍ وَكَذَلِكَ يُبَاحُ لِلْجَمِيعِ الاِنْتِفَاعُ بِغَيْرِ الْمُرُورِ مِمَّا لاَ يَضُرُّ الْمَارَّةَ، كَالْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعَةِ لاِنْتِظَارِ رَفِيقٍ أَوْ سُؤَالٍ إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الإْمَامُ بِذَلِكَ لاِتِّفَاقِ النَّاسِ فِي سَائِرِ الأْزْمَانِ وَالأْعْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فَإِنْ ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ لِخَبَرِ: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» .
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْجُلُوسُ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ لِلْمُعَامَلَةِ كَالْبَيْعِ وَالصِّنَاعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ طَالَ عَهْدُهُ وَلَمْ يَأْذَنِ الإْمَامُ، كَمَا لاَ يَحْتَاجُ فِي الإْحْيَاءِ إِلَى إِذْنِهِ، لاِتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الأْعْصَارِ .
وَلاَ يُزْعَجُ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ لِلْمُعَامَلَةِ، وَإِنْ طَالَ مُقَامُهُ فِيهِ، لِخَبَرِ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» ، وَلأِنَّهُ أَحَدُ الْمُرْتَفِقِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ بِالْيَدِ فَصَارَ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَطُولَ الْجُلُوسُ أَوِ الْبَيْعُ، فَإِنْ طَالَ أُخْرِجَ عَنْهُ. لأِنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ إِنْ طَالَ الْجُلُوسُ لِلْمُعَامَلَةِ، وَيَنْفَرِدُ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ .
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجُلُوسُ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لاِسْتِرَاحَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْحَدِيثِ، وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلاِسْتِرَاحَةِ، لِحَدِيثِ الأْمْرِ بِإِعْطَاءِ الطَّرِيقِ حَقَّهُ: مِنْ: غَضٍّ لِلْبَصَرِ، وَكَفٍّ لِلأْذَى، وَرَدٍّ لِلسَّلاَمِ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، مَا لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَلَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِمْ، وَإِلاَّ كُرِهَ .
إِذْنُ الإْمَامِ فِي الاِرْتِفَاقِ بِالطَّرِيقِ:
10 - لاَ يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْجُلُوسِ لِلْمُعَامَلَةِ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ إِذْنُ الإْمَامِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ وَلاَ لأِحَدٍ مِنَ الْوُلاَةِ أَخْذُ عِوَضٍ مِمَّنْ يَرْتَفِقُ بِالْجُلُوسِ فِيهِ لِلْمُعَامَلَةِ، وَلاَ أَنْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنَ الطَّرِيقِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ فَضَلَ الْجُزْءُ الْمُبَاعُ عَنْ حَاجَةِ الطَّرِيقِ، لأِنَّ الْبَيْعَ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْمِلْكِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بَيْعُ الْمَوَاتِ وَلاَ قَائِلَ بِهِ، وَلأِنَّ الطُّرُقَ كَالأْحْبَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لأِحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفًا يُغَيِّرُ وَضْعَهَا .
وَلِلإْمَامِ أَنْ يَقْطَعَ بُقْعَةً مِنَ الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِمَنْ يَجْلِسُ فِيهَا لِلْمُعَامَلَةِ ارْتِفَاقًا، لاَ تَمْلِيكًا، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمُسْلِمِينَ، لأِنَّ لَهُ نَظَرًا وَاجْتِهَادًا فِي الضَّرَرِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ يَمْلِكُ الْمَقْطُوعُ لَهُ الْبُقْعَةَ، إِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالْجُلُوسِ فِيهَا كَالسَّابِقِ إِلَيْهَا .
التَّزَاحُمُ فِي الاِرْتِفَاقِ:
11 - لِلْجَالِسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلْمُعَامَلَةِ تَظْلِيلُ مَوْضِعِ جُلُوسِهِ بِمَا لاَ ثَبَاتَ لَهُ مِنْ حَصِيرٍ، أَوْ عَبَاءَةٍ، أَوْ ثَوْبٍ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَحَلِّ جُلُوسِهِ بِحَيْثُ يَضُرُّهُ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالأْخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَلاَ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَوْضِعِ أَمْتِعَتِهِ وَمَوْقِفِ مُعَامِلِيهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْوُقُوفَ بِقُرْبِهِ إِنْ كَانَ الْوُقُوفُ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ بِضَاعَتِهِ، أَوْ وُصُولَ الْقَاصِدِينَ إِلَيْهِ، لأِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ تَمَامِ الاِنْتِفَاعِ بِمَوْضِعِ اخْتِصَاصِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ مِنَ الْجُلُوسِ بِقُرْبِهِ لِبَيْعِ مِثْلِ بِضَاعَتِهِ، إِنْ لَمْ يُزَاحِمْهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ .
وَمَنْ سَبَقَ إِلَى الْجُلُوسِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لِلْمُعَامَلَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ، وَتَنَازَعَا فِيهِ وَلَمْ يَسَعْهُمَا مَعًا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، لاِنْتِفَاءِ الْمُرَجِّحِ .
تَرْكُ صَاحِبِ الاِخْتِصَاصِ مَوْضِعًا اخْتَصَّ بِهِ:
12 - إِنْ تَرَكَ الْجَالِسُ مَوْضِعَ اخْتِصَاصِهِ، وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ أَوْ تَرَكَ الْحِرْفَةَ الَّتِي كَانَ يُزَاوِلُهَا فِيهِ بَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ، سَوَاءٌ أَأَقْطَعُهُ الإْمَامُ لَهُ، أَمْ سَبَقَ إِلَيْهِ بِلاَ إِقْطَاعٍ مِنَ الإْمَامِ. وَإِنْ فَارَقَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ إِلاَّ أَنْ يَطُولَ غِيَابُهُ عَنْهُ، لِحَدِيثِ: «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» فَإِنْ طَالَ غِيَابُهُ عَنْهُ بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ مُعَامِلُوهُ عَنْهُ وَيَأْلَفُونَ غَيْرَهُ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ فَارَقَهُ لِعُذْرٍ أَوْ تَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ أَوْ كَانَ بِإِقْطَاعِ الإْمَامِ لَهُ إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نَقَلَ مَتَاعَهُ عَنْ مَوْضِعِ اخْتِصَاصِهِ، بَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ، وَإِنْ تَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ، أَوْ أَجْلَسَ شَخْصًا فِيهِ لِيَحْفَظَ لَهُ الْمَكَانَ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ إِزَالَةُ مَتَاعِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَامَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ وُضُوءٍ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ.
وَكِلاَ الْمَذْهَبَيْنِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لاَ يُجِيزُ إِطَالَةَ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلْمُعَامَلَةِ، فَإِنْ أَطَالَ أُزِيلَ عَنْهُ، لأِنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ، يَخْتَصُّ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ، وَحَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ طُولَ الْمُقَامِ بِيَوْمٍ كَامِلٍ .
وَإِنْ جَلَسَ لاِسْتِرَاحَةٍ، أَوْ حَدِيثٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ بِمُفَارَقَتِهِ، بِلاَ خِلاَفٍ .
الاِنْتِفَاعُ فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ الْمُرُورِ، وَالْجُلُوسِ لِلْمُعَامَلَةِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى حُرْمَةِ التَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِـ (الشَّارِعِ) بِمَا يَضُرُّ الْمَارَّةَ فِي مُرُورِهِمْ، لأِنَّ الْحَقَّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لأِحَدٍ أَنْ يُضَارَّهُمْ فِي حَقِّهِمْ، وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِنَاءُ دِكَّةٍ - وَهِيَ الَّتِي تُبْنَى لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَنَحْوِهَا - فِي الطَّرِيقِ النَّافِدَةِ وَغَرْسُ شَجَرَةٍ فِيهَا وَإِنِ اتَّسَعَ الطَّرِيقُ، وَأَذِنَ الإْمَامُ، وَانْتَفَى الضَّرَرُ، وَبُنِيَتْ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِمَنْعِهِمَا الطُّرُوقَ فِي مَحَلِّهِمَا، وَلأِنَّهُ بِنَاءٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَدْ يُؤْذِي الْمَارَّةَ فِيمَا بَعْدُ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ، وَيَعْثِرُ بِهِ الْعَاثِرُ، فَلَمْ يَجُزْ، وَلأِنَّهُ إِذَا طَالَ الزَّمَنُ أَشْبَهَ مَوْضِعُهُمَا الأمْلاَكَ الْخَاصَّةَ، وَانْقَطَعَ اسْتِحْقَاقُ الطُّرُوقِ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ بِنَاءُ دِكَّةٍ، وَغَرْسُ أَشْجَارٍ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ كَإِخْرَاجِ الْمَيَازِيبِ، وَالأْجْنِحَةِ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْمُرُورِ فِيهَا، فَإِنْ ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ مَنَعَ لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الْعَامَّةِ مِنْ أَهْلِ الْخُصُومَةِ مَنْعُهُ مِنْ إِحْدَاثِهَا ابْتِدَاءً، وَمُطَالَبَتُهُ بِنَقْضِهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ، سَوَاءٌ أَضَرَّ أَمْ لَمْ يَضُرَّ، لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ حَقٍّ بِالْمُرُورِ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ.
هَذَا إِذَا بَنَاهَا لِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِ الإْمَامِ، فَإِنْ بَنَاهَا لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِإِذْنِ الإْمَامِ، وَإِنْ بَنَاهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يُنْقَضْ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ .
وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ الْعَامَّةَ لاَ يَجُوزُ إِحْدَاثُهُ، أَذِنَ الإْمَامُ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» .
الاِرْتِفَاقُ فِي هَوَاءِ الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامَّةِ الاِنْتِفَاعُ فِي هَوَاءِ الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ بِإِخْرَاجِ جَنَاحٍ إِلَيْهَا أَوْ رَوْشَنٍ أَوْ سَابَاطٍ، وَهُوَ سَقِيفَةٌ عَلَى حَائِطَيْنِ وَيَمُرُّ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَالْمِيزَابِ، إِنْ رَفَعَهَا بِحَيْثُ يَمُرُّ تَحْتَهُ الْمَاشِي مُنْتَصِبًا، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى طَأْطَأَةِ رَأْسِهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْحُمُولَةُ الْمُعْتَادَةُ، وَلَمْ يَسُدَّ الضَّوْءَ عَنِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَمَرًّا لِلْقَوَافِلِ يُرْفَعُ الْمِيزَابُ وَالْجَنَاحُ وَنَحْوُهَا بِحَيْثُ يَمُرُّ تَحْتَهَا الْمَحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَالْمِظَلَّةُ فَوْقَ الْمَحْمَلِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدَمَهُ الْحَاكِمُ، وَلِكُلٍّ الْمُطَالَبَةُ بِإِزَالَتِهِ، لأِنَّهُ إِزَالَةٌ لِلْمُنْكَرِ .
وَالأْصْلُ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ مَا صَحَّ مِنْ «أَنَّهُ صلي الله عليه وسلم : نَصَبَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ مِيزَابًا فِي دَارِ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَكَانَ شَارِعًا إِلَى مَسْجِدِهِ» وَقِيسَ عَلَيْهِ الْجَنَاحُ وَنَحْوُهُ، وَلإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْخُصُومَةِ مِنَ الْعَامَّةِ مَنْعُهُ مِنْ إِحْدَاثِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَمُطَالَبَتُهُ بِنَقْضِهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ ضَرَّ أَمْ لَمْ يَضُرَّ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذَةٍ أَذِنَ الإْمَامُ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ لَمْ يَضُرَّ وَقَالُوا: لأِنَّهُ بِنَاءٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ الدِّكَّةِ، أَوْ بِنَائِهِ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهِ، وَيُفَارِقُ الْمُرُورَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّهَا جُعِلَتْ لِذَلِكَ وَلاَ مَضَرَّةَ فِيهِ، وَالْجُلُوسُ لأِنَّهُ لاَ يَدُومُ وَلاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلاَ يَخْلُو الإْخْرَاجُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ عَنْ مَضَرَّةٍ، فَإِنَّهُ يَظْلِمُ الطَّرِيقَ بِسَدِّ الضَّوْءِ عَنْهُ، وَرُبَّمَا سَقَطَ عَلَى الْمَارَّةِ، أَوْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ تَعْلُو الأْرْضُ بِمُرُورِ الزَّمَنِ فَيَصْدِمُ رُءُوسَ النَّاسِ، وَيَمْنَعُ مُرُورَ الدَّوَابِّ بِالأْحْمَالِ، وَمَا يُفْضِي إِلَى الضَّرَرِ فِي ثَانِي الْحَالِ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ بِنَاءَ حَائِطٍ مَائِلٍ إِلَى الطَّرِيقِ يَخْشَى وُقُوعَهُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ بِإِذْنِ الإْمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، لأِنَّ الإْمَامَ، نَائِبٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ - وَفِي حُكْمِهِ نُوَّابُهُ - وَإِذْنُهُ كَإِذْنِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلِمَا وَرَدَ «أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه: اجْتَازَ عَلَى دَارِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنهما وَقَدْ نَصَبَ مِيْزَابًا إِلَى الطَّرِيقِ فَقَلَعَهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: تَقْلَعُهُ وَقَدْ نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِيَدِهِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ تَنْصِبُهُ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِي، فَانْحَنَى حَتَّى صَعِدَ عَلَى ظَهْرِهِ فَنَصَبَهُ» ، وَلأِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ .
حكم مَا تَوَلَّدَ مِنْ إِخْرَاجِ الْمِيزَابِ وَنَحْوِهِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ:
15 - قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ إِخْرَاجِ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ: كَالْجَنَاحِ وَالسَّابَاطِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ مِنْ تَلَفِ مَالٍ، أَوْ مَوْتِ نَفْسٍ فَمَضْمُونٌ وَإِنْ جَازَ إِخْرَاجُهُ، وَأَذِنَ الإْمَامُ وَلَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَتَنَاهَى فِي الاِحْتِيَاطِ، وَحَدَثَ مَا لَمْ يُتَوَقَّعْ، كَصَاعِقَةٍ، أَوْ رِيحٍ شَدِيدَةٍ، لأِنَّ الاِرْتِفَاقَ بِالطَّرِيقِ الْعَامِّ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، وَمَا لَمْ تَسْلَمْ عَاقِبَتُهُ فَلَيْسَ بِمَأْذُونٍ فِيهِ، وَيَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ، وَكَذَا إِنْ وَضَعَ تُرَابًا فِي الطَّرِيقِ لِتَطْيِينِ سَطْحِ مَنْزِلِهِ، فَزَلَّ بِهِ إِنْسَانٌ فَمَاتَ، أَوْ بَهِيمَةٌ فَتَلِفَتْ يَضْمَنُ، لأِنَّهُ تَسَبَّبَ فِي تَلَفِهِ، فَتَجِبُ دِيَةُ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقِيمَةُ الدَّابَّةِ فِي مَالِهِ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هَذَا إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الإْمَامُ، فَإِنْ أَذِنَ الإْمَامُ بِإِخْرَاجِ الْمِيزَابِ وَنَحْوِهِ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَلاَ ضَمَانَ، لأِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ حِينَئِذٍ، لأِنَّ لِلإْمَامِ وِلاَيَةً عَلَى الطَّرِيقِ لأِنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْعَامَّةِ، فَكَانَ الْمُخْرِجُ كَمَنْ فَعَلَهُ فِي مِلْكِهِ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَضْمَنُ شَيْئًا أَذِنَ الإْمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: قَالَ مَالِكٌ فِي جَنَاحٍ خَارِجٍ إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ. قَالَ مَالِكٌ: لاَ شَيْءَ عَلَى مَنْ بَنَاهُ .
مَا يَجِبُ فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ:
16 - إِنْ كَانَ بَعْضُ الْجَنَاحِ فِي الْجِدَارِ، وَبَعْضُهُ خَارِجًا إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ الْخَارِجُ وَحْدَهُ - كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ - فَأَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَى الْمُخْرِجِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ، أَوْ مَالٍ، لأِنَّهُ تَلِفَ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْرِجُ مَالِكَهُ أَوْ مُسْتَعِيرًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ غَاصِبًا، وَإِنْ سَقَطَ مَا فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، وَتَلِفَ بِهِ إِنْسَانٌ، أَوْ مَالٌ فَعَلَى صَاحِبِ الْجِدَارِ، نِصْفُ الدِّيَةِ، إِنْ كَانَ التَّالِفُ إِنْسَانًا، وَنِصْفُ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ إِنْ كَانَ مَالاً، لأِنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِسُقُوطِ مَا فِي دَاخِلِ الْجِدَارِ مِنَ الْجَنَاحِ، وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ لأِنَّهُ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَشْرُوعُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَهُوَ مَضْمُونٌ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَضْمَنُ كُلَّ الدِّيَةِ أَوِ الْقِيمَةَ فِي الْحَالَيْنِ، لأِنَّهُ تَلِفَ بِمَا أَخْرَجَهُ إِلَى الطَّرِيقِ فَضَمِنَ، كَمَا لَوْ بَنَى حَائِطًا مَائِلاً إِلَى الطَّرِيقِ فَأَتْلَفَ شَيْئًا، وَلأِنَّهُ إِخْرَاجٌ يَضْمَنُ بِهِ بَعْضَهُ فَيَضْمَنُ كُلَّهُ .
سُقُوطُ جِدَارٍ مَائِلٍ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ جِدَارًا مَائِلاً إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ فَسَقَطَ فِيهِ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ، لأِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ مُسْتَوِيًا فَسَقَطَ بِغَيْرِ اسْتِهْدَامٍ وَلاَ مَيْلٍ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَفٍ، لأِنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي بِنَائِهِ، وَلاَ حَصَلَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ بِإِبْقَائِهِ، وَإِنْ مَالَ قَبْلَ وُقُوعِهِ إِلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ وَإِصْلاَحُهُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِبِنَائِهِ، وَلاَ فَرَّطَ فِي تَرْكِهِ وَإِصْلاَحِهِ، لِعَجْزِهِ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ كَمَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ.
وَإِنْ أَمْكَنَهُ نَقْضُهُ وَإِصْلاَحُهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ إِلَى الضَّمَانِ بِشَرْطِ أَنْ يُطَالِبَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْخُصُومَةِ بِالنَّقْضِ، وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ حَاكِمٍ أَوْ جَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَضْمَنُ لِتَقْصِيرِهِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ وَلَمْ يَشْهَدْ .
إِلْقَاءُ شَيْءٍ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ:
18 - لَوْ أَلْقَى قُمَامَاتٍ، أَوْ قُشُورَ بِطِّيخٍ وَرُمَّانٍ وَمَوْزٍ بِطَرِيقٍ نَافِذٍ فَمَضْمُونٌ، مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ الْمَارُّ الْمَشْيَ عَلَيْهَا قَصْدًا، وَكَذَا إِنْ رَشَّ فِي الطَّرِيقِ مَاءً فَزَلَقَ بِهِ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، فَتَلِفَ يَضْمَنُ . (ر: مُصْطَلَح: ضَمَان)
إِحْدَاثُ بِئْرٍ فِي طَرِيقٍ نَافِذٍ:
19 - لاَ يَجُوزُ لأِحَدٍ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ لِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ جَعَلَهَا لِمَاءِ الْمَطَرِ، أَوِ اسْتِخْرَاجِ مَاءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، لأِنَّ الطَّرِيقَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْدَثَ فِيهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، وَإِذْنُ كُلِّهِمْ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَإِنْ حَفَرَهَا وَتَرَتَّبَ عَلَى حَفْرِهَا ضَرَرٌ فَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الإْمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْحَفْرُ لِمَصْلَحَةِ الْحَافِرِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ.
(ر: مُصْطَلَح: ضَمَان).
ضَمَانُ الضَّرَرِ الْحَادِثِ مِنْ مُرُورِ الْبَهَائِمِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ:
20 - الْمُرُورُ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ حَقٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، لأِنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ، وَمُبَاحٌ لَهُمْ بِدَوَابِّهِمْ، بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، فَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ ضَرَرٌ فَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ (يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: ضَمَان)
الطَّرِيقُ غَيْرُ النَّافِذِ:
21 - الطَّرِيقُ غَيْرُ النَّافِذِ مِلْكٌ لأِهْلِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، لأِنَّهُ مِلْكُهُمْ، فَأَشْبَهَ الدُّورَ.
وَأَهْلُهُ مَنْ لَهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ فِيهِ إِلَى مِلْكِهِمْ مِنْ دَارٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَوْ فُرْنٍ، أَوْ حَانُوتٍ، لاَ مَنْ لاَصَقَ جِدَارُهُ الدَّرْبَ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ بَابٍ فِيهِ، لأِنَّ هَؤُلاَءِ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ الاِرْتِفَاقَ فِيهِ .
وَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ غَيْرِ النَّافِذِ الاِرْتِفَاقَ بِمَا بَيْنَ رَأْسِ الدَّرْبِ وَبَابِ دَارِهِ، لأِنَّ ذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ تَرَدُّدِهِ، وَمُرُورِهِ، وَمَا عَدَاهُ هُوَ فِيهِ كَالأْجْنَبِيِّ مِنَ الطَّرِيقِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ غَيْرِ النَّافِذِ الاِرْتِفَاقُ بِكُلِّ الطَّرِيقِ، لأِنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّرَدُّدِ وَالاِنْتِفَاعِ بِهِ كُلِّهِ، لإِلْقَاءِ الْقُمَامَاتِ فِيهِ عِنْدَ الإْدْخَالِ وَالإْخْرَاجِ.
أَمَّا الْبِنَاءُ فِيهِ وَإِخْرَاجُ رَوْشَنٍ، أَوْ جَنَاحٍ، أَوْ سَابَاطٍ ، فَلاَ يَجُوزُ لأِحَدٍ مِنْهُمْ، إِلاَّ بِرِضَا الْبَاقِينَ، كَسَائِرِ الأْمْلاَكِ الْمُشْتَرَكَةِ، لأِنَّهُ بِنَاءٌ فِي هَوَاءِ قَوْمِ مُعَيَّنِينَ فَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِبَعْضِ أَهْلِ الدَّرْبِ إِخْرَاجُ مَا ذُكِرَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمَسْدُودِ بِغَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ إِنْ لَمْ يَضُرَّ، لأِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الاِنْتِفَاعَ بِقَرَارِهِ فَيَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهَوَائِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالأْوَّلُ ضَعِيفٌ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع والثلاثون ، الصفحة / 41
حَقُّ الْمُرُورِ:
16 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ حَقِّ الْمُرُورِ تَبَعًا لِلأْرْضِ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، وَمَقْصُودًا وَحْدَهُ فِي رِوَايَةٍ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْمُضْمَرَاتِ: هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لاَ يَصِحُّ وَصَحَّحَهَا أَبُو اللَّيْثِ .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَسْكَنٍ بِلاَ مَمَرٍّ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَمَرٌّ، أَوْ كَانَ وَنَفَاهُ فِي بَيْعِهِ لِتَعَذُّرِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنِ اتِّخَاذِ مَمَرٍّ لَهُ مِنْ شَارِعٍ سَوَاءٌ مَلَكَهُ أَمْ لاَ، كَمَا قَالَهُ الأْكْثَرُونَ، وَشَرَطَ الْبَغَوِيُّ عَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِذَا بِيعَ عَقَارٌ وَخُصِّصَ الْمُرُورُ إِلَيْهِ بِجَانِبٍ اشْتَرَطَ تَعْيِينُهُ، فَلَوِ احْتَفَّ بِمِلْكِهِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، وَشَرَطَ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الْمُرُورِ إِلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ لَمْ يُعَيِّنْهُ بَطَلَ لاِخْتِلاَفِ الْغَرَضِ بِاخْتِلاَفِ الْجَوَانِبِ، فَإِنْ لَمْ يُخَصَّصْ بِأَنْ شَرَطَهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، أَوْ قَالَ: بِحُقُوقِهَا، أَوْ أَطْلَقَ صَحَّ وَمَرَّ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يُلاَصِقِ الشَّارِعَ أَوْ مَلَكَهُ وَإِلاَّ مَرَّ مِنْهُ فَقَطْ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الحادي والأربعون ، الصفحة / 387
النَّهْرُ الصَّغِيرُ وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّهْرُ غَيْرُ الْمَمْلُوكِ صَغِيرًا يَتَزَاحَمُ النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَتَشَاحُّونَ فِي مَائِهِ فَلِمَنْ فِي أَوَّلِ النَّهْرِ (أَيْ أَعْلاَهُ) أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَيَحْبِسَ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبِ، ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ مِنَ الثَّانِي إِلَى الثَّالِثِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ سَقْيُ الأْرَاضِي كُلِّهَا .
وَالأْصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ «أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأْنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلي الله عليه وسلم - فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأْنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلي الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلي الله عليه وسلم - لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأْنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلي الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ).
وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صلي الله عليه وسلم - الزُّبَيْرَ - رضي الله عنه - أَنْ يَسْقِيَ ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ تَسْهِيلاً عَلَى غَيْرِهِ، فَلَمَّا قَالَ الأْنْصَارِيُّ مَا قَالَ اسْتَوْعَى النَّبِيُّ - صلي الله عليه وسلم - لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ .
وَقَدْ رَوَى عُبَادَةُ - رضي الله عنه - «أَنَّ النَّبِيَّ - صلي الله عليه وسلم - قَضَى فِي شُرْبِ النَّخْلِ مِنَ السَّيْلِ أَنَّ الأْعْلَى فَالأْعْلَى يَشْرَبُ قَبْلَ الأْسْفَلِ ، وَيُتْرَكُ الْمَاءُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَاءُ إِلَى الأْسْفَلِ الَّذِي يَلِيهِ، حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَوَائِطُ أَوْ يَفْنَى الْمَاءُ» .
وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلي الله عليه وسلم - قَضَى فِي سَيْلٍ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِبٍ، أَنَّ الأْعْلَى يُرْسَلُ إِلَى الأْسْفَلِ وَيُحْبَسُ قَدْرَ كَعْبَيْنِ» .
وَإِذَا سَقَى الأْوَّلُ وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ، أَوْ سَقَى الثَّانِي وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ، فَلاَ شَيْءَ لِمَنْ بَعْدَهُ، لأِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَا فَضَلَ، فَهُوَ كَالْعُصْبَةِ مَعَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ فِي الْمِيرَاثِ .
وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ أَحَدِهِمَا انْخِفَاضٌ وَارْتِفَاعٌ، أَيْ كَانَ بَعْضُهَا مُرْتَفِعًا وَبَعْضُهَا مُنْخَفِضًا فَإِنَّهُ يَسْقِي كُلَّ نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ لأِنَّ هُمَا لَوْ سَقَيَا مَعًا لَزَادَ الْمَاءُ فِي الأْرْضِ الْمُنْخَفِضَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ يَسْقِيَ الْمُنْخَفِضُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَسُدَّهُ ثُمَّ يَسْقِيَ الْمُرْتَفِعُ .
وَإِذَا سَقَى الأْعْلَى ، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى سَقْيِ أَرْضِهِ مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ انْتِهَاءِ سَقْيِ الأْرَاضِي كُلِّهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ سَقْيُ الأْرَاضِي لِيَحْصُلَ التَّعَادُلُ .
هَذَا هُوَ الأْصْلُ فِي هَذَا وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ مَنْ فِي أَعْلاَ النَّهْرِ بِالسَّقْيِ فَيَسْقِيَ أَرْضَهُ وَيَحْبِسَ الْمَاءَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى كَعْبِهِ ثُمَّ يُرْسِلَهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ، وَهَكَذَا كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، إِذَا كَانَ إِحْيَاؤُهُمْ مَعًا، أَوْ أَحْيَا الأْعْلَى قَبْلَ غَيْرِهِ، أَوْ جَهِلَ الْحَالَ .
8 - أَمَّا لَوْ كَانَ مَنْ فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ هُوَ الَّذِي سَبَقَ بِالإْحْيَاءِ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي السَّقْيِ، ثُمَّ مَنْ أَحْيَا بَعْدَهُ، وَهَكَذَا لأِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السَّقْيِ هُوَ السَّبْقُ إِلَى الإْحْيَاءِ لاَ إِلَى أَوَّلِ النَّهْرِ .
بَلْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الأْسْفَلُ أَسْبَقَ إِحْيَاءً فَهُوَ الْمُقَدَّمُ، بَلْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَرَادَ إِحْيَاءَ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى النَّهْرِ وَسَقْيَهُ مِنْهُ عِنْدَ الضِّيقِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الرَّوْضَةِ وَصَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ، لِئَلاَّ يُسْتَدَلَّ بِقُرْبِهِ بَعْدُ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ مَنْ وَلِيَهُ فِي الإْحْيَاءِ وَهَكَذَا، وَلاَ عِبْرَةَ حِينَئِذٍ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّهْرِ، وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالأْعْلَى : الْمُحْيِي قَبْلَ الثَّانِي وَهَكَذَا، لاَ الأْقْرَبُ إِلَى النَّهْرِ .
وَقَيَّدَ سَحْنُونُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَحَلَّ تَقْدِيمِ الأْسْفَلِ السَّابِقِ فِي الإْحْيَاءِ عَلَى الأْعْلَى الْمُتَأَخِّرِ فِي الإْحْيَاءِ إِذَا خِيفَ عَلَى زَرْعِ الأْسْفَلِ الْهَلاَكُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ فِي السَّقْيِ، وَإِلاَّ قُدِّمَ الأْعْلَى الْمُتَأَخِّرُ فِي الإْحْيَاءِ عَلَى الأْسْفَلِ ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيِّ أَنَّ الأْسْفَلَ يُقَدَّمُ إِذَا تَقَدَّمَ فِي الإْحْيَاءِ وَلَوْ لَمْ يُخَفْ عَلَى زَرْعِهِ بِتَقْدِيمِ الأْعْلَى .
قَدْرُ مَا يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ قَبْلَ إِرْسَالِهِ إِلَى الآْخَرِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَظَرْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صلي الله عليه وسلم -: «ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ» فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ .
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِيمَا يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ وَجْهَيْنِ:
قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي قَدْرِ السَّقْيِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْحَاجَةِ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ التَّقْدِيرُ بِالْكَعْبَيْنِ فِي كُلِّ الأْزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ، لأِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأْرْضِ وَبِاخْتِلاَفِ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ وَشَجَرٍ، وَبِوَقْتِ الزِّرَاعَةِ وَبِوَقْتِ السَّقْيِ .
وَفِي حَاشِيَةِ الرَّمْلِيِّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِبِ ذَكَرَ أَنَّ كَلاَمَ الْجُمْهُورِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ (وَهُوَ أَنْ يُحْبَسَ الْمَاءُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ) مَحْمُولٌ عَلَى أَرْضٍ يَكْفِيهَا ذَلِكَ، أَمَّا الأْرْضُ الَّتِي لاَ تَكْفِيهَا إِلاَّ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ كَغَالِبِ مَزَارِعِ الْيَمَنِ فَتُسْقَى إِلَى حَدِّ كِفَايَتِهَا عَادَةً مَكَانًا وَزَمَانًا، وَقَدِ اخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ، قَالَ الأْذْرُعِيُّ: وَهُوَ قَوِيٌّ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّيُّ.
10 - وَهَلِ الْمُرَادُ بِالْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ يُحْبَسُ الْمَاءُ إِلَيْهِمَا الأْسْفَلُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ أَوِ الأْعْلَى كَمَا قَالُوا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ؟ الظَّاهِرُ الأْوَّلُ، وَالْمَرْجِعُ إِلَى الْقَدْرِ الْمُعْتَدِلِ أَوِ الْغَالِبِ، لأِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْتَفِعُ كَعْبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْخَفِضُ وَيَدْنُو مِنْ أَسْفَلِ الرِّجْلِ وَالأْقْرَبُ الأْوَّلُ .
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْبِسُ الأْعْلَى مِنَ الْمَاءِ مَا بَلَغَ الْكَعْبَ وَيُرْسِلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِلَّذِي يَلِيهِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ الأْظْهَرُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُرْسِلُ جَمِيعَ الْمَاءِ وَلاَ يَحْبِسُ شَيْئًا مِنْهُ (أَيْ بَعْدَ سَقْيِ أَرْضِهِ ).
ثَانِيًا: النَّهْرُ الْخَاصُّ (الْمَمْلُوكُ) وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ
11 - إِذَا كَانَ النَّهْرُ مَمْلُوكًا لِشَخْصٍ، كَأَنْ شَقَّ شَخْصٌ لِنَفْسِهِ نَهْرًا مِنَ الأْنْهَارِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ أَصْبَحَ مَالِكًا لَهُ وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ لِسَقْيِ أَرْضِهِ وَدَوَابِّهِ، وَلَيْسَ لأِحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ أَوْ سَقْيُ أَرْضٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ زَرْعٍ مِنْهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، لأِنَّ الْحَقَّ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ .
فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ سَقَى أَرْضَهُ أَوْ زَرَعَهُ مِنْ نَهْرِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ - سَوَاءٌ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ أَوْ لاَ- لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ يُؤَدِّبْهُ السُّلْطَانُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ .
وَلَكِنْ لِلْغَيْرِ حَقُّ الشُّرْبِ لِنَفْسِهِ وَدَوَابِّهِ إِلاَّ إِذَا خِيفَ تَخْرِيبُ النَّهْرِ بِكَثْرَةِ الدَّوَابِّ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَالشَّفَةُ إِذَا كَانَتْ تَأْتِي عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلاً صَغِيرًا وَفِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاشِي كَثْرَةٌ تَقْطَعُ الْمَاءَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ يَمْنَعُ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يَمْنَعُ لِلضَّرَرِ وَجُزِمَ بِالثَّانِي فِي الْمُلْتَقَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِمَالِكِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعَ مَا لِلشُّرْبِ وَالاِسْتِعْمَالِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَلَوْ بِدَلْوٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ لاَ يُدْلِي أَحَدٌ فِيهِ دَلْوًا .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ مِنَ الْجَدَاوِلِ وَالأْنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ إِذَا كَانَ السَّقْيُ لاَ يَضُرُّ بِمَالِكِهَا جَائِزٌ، إِقَامَةً لِلإْذْنِ الْعُرْفِيِّ مَقَامَ اللَّفْظِيِّ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ النَّهْرُ لِمَنْ لاَ يُعْتَبَرُ إِذْنُهُ كَالْيَتِيمِ وَالأْوْقَافِ الْعَامَّةِ فَعِنْدِي فِيهِ وَقْفَةٌ، وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي لِشُرْبِهِ وَغَسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ إِلَيْهِ فِي مَكَانٍ مَحُوطٍ عَلَيْهِ، وَلاَ يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ الْمَنْعُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلي الله عليه وسلم -: «ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ».. .. «وَعَنْ بُهَيْسَةَ عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمَاءُ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمِلْحُ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ» . فَأَمَّا مَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ كَسَقْيِ الْمَاشِيَةِ الْكَثِيرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَإِنْ فَضَلَ الْمَاءُ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ حَاجَتِهِ لَمْ يَلْزَمْ بَذْلُهُ .
ثَالِثًا: النَّهْرُ دَاخِلُ الْمِلْكِ:
12 - إِذَا كَانَ النَّهْرُ دَاخِلَ مِلْكِ رَجُلٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ بَيَانُهُ كَالآْتِي:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالآْبَارِ وَالْعُيُونِ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِصَاحِبِهِ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ، لَكِنْ لَهُ حَقٌّ خَاصٌّ فِيهِ، لأِنَّ الْمَاءَ فِي الأْصْلِ خُلِقَ مُبَاحًا لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ» وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ تَقْتَضِي الإْبَاحَةَ، فَلَوْ كَانَ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ مِنَ الشُّرْبِ لِنَفْسِهِ أَوْ مَاشِيَتِهِ مِنَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ، لأِنَّ الدُّخُولَ إِلَى أَرْضِهِ إِضْرَارٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ يَجِدُ مَاءً بِقُرْبِهِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً بِقُرْبِهِ وَاضْطُرَّ لِلدُّخُولِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ الْهَلاَكَ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ: إِمَّا أَنْ تَأْذَنَ بِالدُّخُولِ لِيَأْخُذَ الْمَاءَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكْسِرَ ضَفَّةَ النَّهْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَ الْمَاءَ إِلَيْهِ وَتُعْطِيَهُ بِنَفْسِكَ. فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ وَمَنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذَ قَدْرَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلاَكُ، وَالأْصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - فَقَالَ: هَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَا كَانَ مِنَ الْمَاءِ فِي أَرْضٍ مُتَمَلَّكَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِثْلَ بِئْرٍ يَحْفِرُهَا أَوْ عَيْنٍ يَسْتَخْرِجُهَا، أَوْ غَيْرَ مُسْتَنْبَطٍ غَدِيرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَيَحِلُّ لَهُ بِيعُهُ وَمَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ إِلاَّ بِثَمَنٍ، إِلاَّ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ لاَ ثَمَنَ مَعَهُمْ وَيَخَافُ عَلَيْهِمُ الْهَلاَكَ إِنْ مَنَعَهُمْ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَمْنَعَهُمْ.
فَإِنْ مَنَعَهُمْ فَعَلَيْهِمْ مُجَاهَدَتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ خَافَ عَلَى مُسْلِمٍ الْمَوْتَ أَنْ يُحْيِيَهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ عَلَى أَصْحَابِ الْمِيَاهِ بَيْعُهَا مِنَ الْمُسَافِرِينَ بِمَا تُسَاوِي، وَلاَ يَشْتَطُّوا عَلَيْهِمْ فِي ثَمَنِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُونَ لاَ ثَمَنَ مَعَهُمْ وَجَبَتْ مُوَاسَاتُهُمْ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِمْ وَلاَ يُتْبِعُوا بِالثَّمَنِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ بِبَلَدِهِمْ، لأِنَّ هُمُ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ سَبِيلٍ يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ الزَّكَاةِ لِوُجُوبِ مُوَاسَاتِهِمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمِيَاهُ الْمُخْتَصَّةُ بِبَعْضِ النَّاسِ وَهِيَ مِيَاهُ الآْبَارِ وَالْقَنَوَاتِ، كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوِ انْفَجَرَ فِيهِ عَيْنٌ مَلَكَهَا وَمَلَكَ مَاءَهَا فِي الأْصَحِّ، إِذِ الْمَاءُ يُمْلَكُ، وَهُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنْهُ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ وَعَنْ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ .
وَفِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ: أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْمَاءَ، لِخَبَرِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ» وَسَوَاءٌ مَلَكَ الْمَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ أَوْ لاَ، لاَ يَلْزَمُهُ بَذْلُ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ لِزَرْعٍ وَشَجَرٍ، وَيَجِبُ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنْهُ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ وَالْفَاضِلِ عَنْ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بَذْلُهُ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ الزَّرْعِ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ، وَقِيلَ: يَجِبُ بَذْلُهُ لِلزَّرْعِ كَالْمَاشِيَةِ، وَقِيلَ: لاَ يَجِبُ لِلْمَاشِيَةِ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْبَذْلُ لِلْمَاشِيَةِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ كَلأَ مُبَاحٌ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً مَبْذُولاً لَهُ وَلَمْ يُحْرِزْهُ فِي إِنَاءٍ وَنَحْوِهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ بَذْلُهُ. وَحَيْثُ وَجَبَ الْبَذْلُ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَيْهِ فَإِنْ صَحَّ بَيْعُ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ، لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْمَاءِ التَّقْدِيرُ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ لاَ بِرَيِّ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْمَاءَ لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ»، وَمَا فَضَلَ مِنْ مَائِهِ الَّذِي لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ عِيَالِهِ وَحَاشِيَتِهِ وَدِرْعِهِ يَجِبُ بَذْلُهُ لِبَهَائِمِ غَيْرِهِ وَزَرْعِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلإَ» .
وَهَذَا مَا لَمْ يَجِدْ رَبُّ الْبَهَائِمِ أَوِ الزَّرْعِ مَاءً مُبَاحًا فَيَسْتَغْنِي بِهِ فَلاَ يَجِبُ الْبَذْلُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْبَاذِلُ لِلْمَاءِ يَتَضَرَّرُ فَلاَ يَلْزَمُهُ الْبَذْلُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ طَالِبُ الْمَاءِ يُؤْذِي صَاحِبَهُ بِدُخُولِهِ فِي أَرْضِهِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَمْنَعَهُ دَفْعًا لِلأْذَى .
رَابِعًا: النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ:
13 - إِذَا كَانَ النَّهْرُ مَمْلُوكًا لأِكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَلَيْسَ لأِحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَشُقَّ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى أَوْ دَالِيَةً أَوْ جِسْرًا أَوْ قَنْطَرَةً أَوْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ أَوْ يَسُوقَ نَصِيبَهُ إِلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى إِلاَّ بِرِضَا شُرَكَائِهِ لأِنَّ هُمْ قَدْ يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ .
وَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَانِيَّةِ أَنَّ النَّهْرَ إِذَا كَانَ خَاصًّا بِقَوْمٍ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَسْقِيَ بُسْتَانَهُ أَوْ أَرْضَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، فَإِنْ أَذِنُوا إِلاَّ وَاحِدًا أَوْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ غَائِبٌ لاَ يَسَعُ الرَّجُلَ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهُ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ .
وَفِي الأْمِّ: لَوْ أَنَّ جَمَاعَةً كَانَ لَهُمْ مِيَاهٌ بِبَادِيَةٍ فَسَقَوْا مِنْهَا وَاسْتَقَوْا وَفَضَلَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَجَاءَ مَنْ لاَ مَاءَ لَهُ يَطْلُبُ أَنْ يَشْرَبَ أَوْ يَسْقِيَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ مَعَهُ فَضْلٌ مِنَ الْمَاءِ- وَإِنْ قَلَّ- مَنْعُهُ إِيَّاهُ إِنْ كَانَ فِي عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ، لأِنَّهُ فَضْلُ مَاءٍ يَزِيدُ وَيُسْتَخْلَفُ .
كَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ مَاءِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ:
14 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي حَفْرِ النَّهْرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَاءِ هَذَا النَّهْرِ فِي شُرْبِهِ وَسَقْيِ أَرْضِهِ، فَإِنْ تَرَاضَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ فِي الاِنْتِفَاعِ جَازَ ذَلِكَ لأِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَسِمَ الشُّرَكَاءُ مَاءَ النَّهْرِ بِالْمُهَايَأَةِ إِذَا تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْلُومًا، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ حِصَّةً يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَوْ أَنْ يَجْعَلُوا لِوَاحِدٍ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ، وَلِلآْخَرِ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوِ اقْتَسَمُوهُ بِالسَّاعَاتِ وَأَمْكَنَ ضَبْطُ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ جَازَ إِذَا تَرَاضَوْا بِهِ، لأِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ لاَ يَتَجَاوَزُهُمْ، أَوْ أَنْ يَسْقِيَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَوْمًا، أَوْ بَعْضُهُمْ يَسْقِي يَوْمًا وَبَعْضُهُمْ يَسْقِي أَكْثَرَ بِحَسَبِ حِصَّتِهِ وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) .
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَإِذَا اقْتَسَمُوا بِالْمُهَايَأَةِ جَازَ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ رَجَعَ وَقَدْ أَخَذَ نَوْبَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الآْخَرُ نَوْبَتَهُ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ نَوْبَتِهِ مِنَ النَّهْرِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي أَخَذَ نَوْبَتَهُ فِيهَا .
وَقِيلَ: تَلْزَمُ الْمُهَايَأَةُ لِيَثِقَ كُلُّ وَاحِدٍ بِالاِنْتِفَاعِ، وَقِيلَ: لاَ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ بِالْمُهَايَأَةِ، لأِنَّ الْمَاءَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، وَتَخْتَلِفُ فَائِدَةُ السَّقْيِ بِالأْيَّامِ .
15 - وَإِنْ تَشَاحَّ الشُّرَكَاءُ فِي قِسْمَةِ الْمَاءِ أَوْ ضَاقَ عَنْهُمْ قَسَمَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ.
وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ- كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ -بِنَصْبِ نَحْوِ خَشَبَةٍ أَوْ حَجَرٍ فِي عُرْضِ النَّهْرِ مُسْتَوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ، مَوْضُوعَةٍ بِمُسْتَوٍ مِنَ الأْرْضِ ، وَفِيهَا ثُقُبٌ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ مِنَ النَّهْرِ، لأِنَّهُ طَرِيقٌ فِي اسْتِيفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ.
فَإِنْ كَانَتْ أَمْلاَكُهُمْ مُسْتَوِيَةً فَوَاضِحٌ.
وَإِنْ كَانَتْ أَمْلاَكُهُمْ مُخْتَلِفَةً قَسَّمَ الْمَاءَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ النِّصْفُ وَلآِخَرَ الثُّلْثُ وَلآِخَرَ السُّدْسُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْخَشَبَةِ سِتَّ ثُقُبٍ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلاَثَةُ ثُقُوبٍ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِصَاحِبِ الثُّلْثِ اثْنَانِ يَصُبَّانِ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِصَاحِبِ السُّدْسِ وَاحِدٌ يَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ .
وَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ الْخُمُسَانِ، وَالْبَاقِي لاِثْنَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ، جَعَلَ فِي الْخَشَبَةِ عَشَرَةَ ثُقُوبٍ، لِصَاحِبِ الْخَمْسِينَ أَرْبَعَةٌ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الآْخَرِينَ ثَلاَثَةٌ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ.
وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لِعَشَرَةٍ، لِخَمْسَةٍ مِنْهُمْ أَرَاضٍ قَرِيبَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ، وَلِخَمْسَةٍ أَرَاضٍ بَعِيدَةٌ جَعَلَ لأِصْحَابِ الأْرْضِ الْقَرِيبَةِ خَمْسَةَ ثُقُوبٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُقْبٌ، وَجَعَلَ لِلْبَاقِينَ خَمْسَةً تَجْرِي فِي النَّهْرِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى أَرْضِهِمْ، ثُمَّ تُقَسَّمَ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً أُخْرَى .
وَمَا حَصَلَ لأِحَدِهِمْ فِي سَاقِيَتِهِ تَصَرَّفَ فِيهِ بِمَا أَحَبَّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ يَصْنَعُ بِنَصِيبِهِ مَا شَاءَ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ وَاخْتَصَمُوا فِي الشُّرْبِ كَانَ الشُّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ، لأِنَّ الْمَقْصُودَ الاِنْتِفَاعُ بِسَقْيِ الأْرَاضِي فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الأْعْلَى مِنْهُمْ لاَ يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكَرَ النَّهْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ .
فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ الأْعْلَى النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ أَوِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ لأِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِلَوْحٍ فَلاَ يَسْكُرُ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ كَالطِّينِ وَغَيْرِهِ، لِكَوْنِهِ إِضْرَارًا بِهِمْ بِمَنْعِ مَا فَضَلَ مِنَ السَّكْرِ عَنْهُمْ، إِلاَّ إِذَا رَضُوا بِذَلِكَ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ الشُّرْبُ إِلاَّ بِالسَّكْرِ وَلَمْ يَصْطَلِحُوا عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَهْلِ الأْسْفَلِ حَتَّى يَرْوُوا، ثُمَّ بَعْدَهُ لأِهْلِ الأْعْلَى أَنْ يَسْكُرُوا.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «أَهْلُ أَسْفَلِ النَّهْرِ أُمَرَاءٌ عَلَى أَهْلِ أَعْلاَهُ حَتَّى يَرْوُوا». لأِنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الأْعْلَى مِنَ السَّكْرِ، وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ لَزِمَكَ طَاعَتُهُ فَهُوَ أَمِيرُكَ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى: قَالَ شَيْخُ الإْسْلاَمِ: وَاسْتَحْسَنَ مَشَايِخُ الأْنَامِ قَسْمَ الإْمَامِ بِالأَْيَّامِ، أَيْ إِذَا لَمْ يَصْطَلِحُوا وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِلاَ سَكْرٍ يَقْسِمُ الإْمَامُ بَيْنَهُمْ بِالأْيَّامِ فَيَسْكُرُ كُلٌّ فِي نَوْبَتِهِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَقَطْعُ التَّنَازُعِ وَالْخِصَامِ، إِذْ لاَ شَكَّ أَنَّ لِكُلِّ شَرِيكٍ فِي هَذَا الْمَاءِ حَقًّا، فَتَخْصِيصُ أَهْلِ الأْسْفَلِ بِهِ حِينَ قِلَّةِ الْمَاءِ فِيهِ ضَرَرٌ لأِهْلِ الأْعْلَى ، كَذَا تَخْصِيصُ أَهْلِ الأْعْلَى بِهِ فِيهِ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ، فَلِذَا اسْتَحْسَنُوا مَا ذَكَرُوا وَارْتَضَوْهُ .
وَلَوْ كَانَتْ قِسْمَةُ الْمَاءِ وَقَعَتْ بِالْكِوَى -بِكَسْرِ الْكَافِ جَمْعُ كَوَّةٍ بِفَتْحِهَا: الثُّقْبُ- فَأَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَقْسِمَ بِالأْيَّامِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلأِنَّ الْقَدِيمَ يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِيهِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ بِأَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ أَرْضِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ أَوْ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ قُسِّمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ بِقِلْدٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى إِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَإِذَا قُسِّمَ الْمَاءُ بِالْقِلْدِ فَإِنَّهُ يُرَاعَى اخْتِلاَفُ كَثْرَةِ الْجَرْيِ وَقِلَّتِهِ، فَإِنَّ جَرْيَهُ عِنْدَ كَثْرَتِهِ أَقْوَى مِنْ جَرْيِهِ عِنْدَ قِلَّتِهِ، فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لأِهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ تَشَاحُّوا فِي التَّبْدِئَةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ بِالتَّقْدِيمِ قُدِّمَ .
مُؤْنَةُ كِرَى الأْنْهَارِ (عِمَارَتُهَا وَإِصْلاَحُهَا):
16 - الأْنْهَارُ إِمَّا عَامَّةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لأِحَدٍ أَوْ خَاصَّةٌ مَمْلُوكَةٌ لِشَخْصٍ أَوْ أَكْثَرَ.
وَيَخْتَلِفُ مَنْ يَتَحَمَّلُ كِرَى الأْنْهَارِ وَإِصْلاَحَهَا بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ النَّهْرِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: الأْنْهَارُ الْعَامَّةُ:
17 - كَرْيُ الأْنْهَارِ الْعَامَّةِ كَالنِّيلِ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ يَكُونُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، لأِنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلي الله عليه وسلم -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» .
وَتَكُونُ الْمُؤْنَةُ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ، لأِنَّ الْعُشُورَ وَالصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ لِلنَّوَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ يَكُونُ كَرْيُهُ عَلَى النَّاسِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا أَجْبَرَ الإْمَامُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إِحْيَاءً لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، إِذْ هُمْ لاَ يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، قَالَ عُمَرُ - رضي الله تعالي عنه -: لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلاَدَكُمْ .
إِلاَّ أَنَّ الإْمَامَ يُخْرِجُ لِلْكَرْيِ مَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ وَيُطِيقُهُ، وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لاَ يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يَفْعَلُ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ، لأِنَّهُ يُخْرِجُ مَنْ كَانَ يُطِيقُ الْقِتَالَ، وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الأْغْنِيَاءِ، كَذَا هَاهُنَا.
وَلَوْ خِيفَ مِنْ هَذِهِ الأْنْهَارِ الْغَرَقُ فَعَلَى السُّلْطَانِ إِصْلاَحُ مَسَنَاتِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
ثَانِيًا: الأْنْهَارُ الْمَمْلُوكَةُ:
18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأْنْهَارَ الْمَمْلُوكَةَ يَكُونُ كَرْيُهَا وَإِصْلاَحُهَا وَعِمَارَتُهَا عَلَى مَنْ يَمْلِكُونَهَا، لأِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ عَلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ .
كَيْفِيَّةُ الْكَرْيِ وَالإْصْلاَحِ:
19 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِصْلاَحِهِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَكُونُ كَرْيُ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِصْلاَحُهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِحَسَبِ مِلْكِهِمْ فِيهِ.
وَيُوَضِّحُ الْحَنَابِلَةُ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الإْصْلاَحُ فَيَقُولُونَ: إِذَا كَانَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَقْرَبَ إِلَى أَوَّلِهِ مِنْ بَعْضٍ اشْتَرَكَ الْكُلُّ فِي كَرْيِهِ وَإِصْلاَحِهِ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الأْوَّلِ ، ثُمَّ إِذَا وَصَلُوا فَلاَ شَيْءَ عَلَى الأْوَّلِ بَعْدَ ذَلِكَ لاِنْتِهَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ، لأِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَيَشْتَرِكُ الْبَاقُونَ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الثَّانِي ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يَشْتَرِكُ مِنْ بَعْدِ الثَّانِي حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الثَّالِثِ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا كُلَّمَا انْتَهَى الْعَمَلُ إِلَى مَوْضِعِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدَهُ شَيْءٌ لأِنَّهُ لاَ مِلْكَ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِهِ.
فَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَنْ جَمِيعِهِمْ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى مَصْرَفٍ فَمُؤْنَتُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، لاِشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُمْ عَلَيْهِ كَأَوَّلِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلاَهُ فَإِذَا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَرِئَ مِنْ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ، وَيُوَضِّحُ ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: بَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ عَشَرَةً فَعَلَى كُلٍّ عُشْرُ الْمُؤْنَةِ فَإِذَا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَهِيَ عَلَى التِّسْعَةِ الْبَاقِينَ أَتْسَاعًا لِعَدَمِ نَفْعِ الأْوَّلِ فِيمَا بَعْدَ أَرْضِهِ، وَهَكَذَا فَمَنْ فِي الآْخِرِ أَكْثَرُهُمْ غَرَامَةً لأِنَّهُ لاَ يَنْتَفِعُ إِلاَّ إِذَا وَصَلَ الْكَرْيُ إِلَى أَرْضِهِ وَدُونَهُ فِي الْغَرَامَةِ مَنْ قَبْلَهُ إِلَى الأْوَّلِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْكَرْيَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ فِي الأْعْلَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ مِنْ فُوَّهَةِ النَّهْرِ إِلَى مَشْرَبِ أَوَّلِهِمْ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْكُلِّ، فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلاَ مِلْكَ لِصَاحِبِ الأْعْلَى فِيهِ إِنَّمَا لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ لاَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ عَلَى أَصْحَابِ النَّهْرِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ: الْكَرْيُ عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ لاِشْتِرَاكِهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهِ، وَقَالَ الصَّاحِبَانِ بِحِصَصِ الشُّرْبِ وَالأْرَضِينَ كَمَا يَسْتَوُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لأِنَّ لِصَاحِبِ الأْعْلَى حَقًّا فِي الأْسْفَلِ لاِحْتِيَاجِهِ إِلَى تَسْيِيلِ مَا فَضَلَ مِنَ الْمَاءِ فِيهِ .
20 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ مِنَ الْكَرْيِ شَيْءٌ، لأِنَّ الْكَرْيَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَلاَ مِلْكَ لأِهْلِ الشَّفَةِ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ، بَلْ لَهُمْ حَقُّ شُرْبِ الْمَاءِ وَالسَّقْيِ لِلدَّوَابِّ فَقَطْ، وَلأِنَّ هُمْ لاَ يُحْصُونَ، لأِنَّ هُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا جَمِيعًا .
امْتِنَاعُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْكَرْيِ وَالإْصْلاَحِ:
21 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يَحْتَاجُهُ النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ كَرْيٍ وَإِصْلاَحٍ وَعِمَارَةٍ يَكُونُ عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ. لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ مَا إِذَا امْتَنَعَ حَدُّ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْكَرْيِ وَالإْصْلاَحِ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الآْبِيَ يُجْبَرُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لاَ يُجْبَرُ الآْبِي وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ يَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
22 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ النَّهْرَ الْمَمْلُوكَ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَامٍّ، وَخَاصٍّ.
وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ خَاصٌّ، وَمَا لاَ تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ عَامٌّ. وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا كَانَ لِعَشَرَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَرْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ النَّهْرُ لِمَا دُونَ الأْرْبَعِينَ فَهُوَ خَاصٌّ، وَإِنْ كَانَ لأِرْبَعِينَ فَهُوَ نَهْرٌ عَامٌّ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْحَدَّ الْفَاصِلَ فِي الْمِائَةِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الأْلْفِ وَغَيْرُ ذَلِكَ عَامٌّ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ فَيَخْتَارُ مِنَ الأْقَاوِيلِ أَيَّ قَوْلٍ شَاءَ، وَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا لاَ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَمَا تَجْرِي فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ.
قَالَ الإْتْقَانِيُّ: وَلَكِنَّ أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنْ كَانَ النَّهْرُ لِدُونِ مِائَةٍ فَالشَّرِكَةُ خَاصَّةٌ وَإِلاَّ فَعَامَّةٌ .
23 - وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ عَامًّا وَأَبَى بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْكَرْيِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكَرْيِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ، وَضَرَرُ الآْبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلاَ يُعَارَضُ بِهِ.
وَإِذَا أَرَادَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ الْعَامِّ أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الاِنْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الأْرَاضِي وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الآْبِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ فَلاَ يُجْبَرُ الآْبِي لأِنَّهُ مَوْهُومٌ، بِخِلاَفِ الْكَرْيِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ.
24 - أَمَّا النَّهْرُ الْخَاصُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي إِجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ الْكِرَى.
فَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ بَعْضَ الشُّرَكَاءِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْكِفَايَةِ: قِيلَ: يُجْبَرُ الآْبِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الإْسْكَافِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أُجْبِرَ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الْخِزَانَةِ، وَقِيلَ: لاَ يُجْبَرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَلْخِيِّ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ كُلَّ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْكَرْيِ فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لاَ يُجْبِرُهُمُ الإْمَامُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوِ امْتَنَعُوا عَنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهِمْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يُجْبِرُهُمُ الإْمَامُ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّ أَصْحَابِ الشَّفَةِ فِي النَّهْرِ
25 - وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَبْرِ الآْبِي إِذَا أَبَى بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْكَرْيِ وَقَامَ الْبَاقُونَ بِالْكَرْيِ، فَهَلْ يَرْجِعُونَ عَلَى الآْبِي بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ مُؤْنَةِ مَا أَنْفَقُوا؟ قَالُوا: إِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي رَجَعُوا عَلَى الآْبِي.
نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الذَّخِيرَةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أَمَرَ الْبَاقِينَ بِكَرْيِ نَصِيبِ الآْبِي عَلَى أَنْ يَسْتَوْفُوا مُؤْنَةَ الْكَرْيِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الشُّرْبِ مِقْدَارَ مَا يَبْلُغُ قِيْمَةَ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الآْبِي بِذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَرْفَعُوا الأْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، هَلْ يَرْجِعُونَ عَلَى الآْبِي بِقِسْطِهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَيُمْنَعُ الآْبِي مِنْ شُرْبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، وَقِيلَ: لاَ.
وَذُكِرَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الأْوَّلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمَثَلُهُ فِي التَّتَارَخَانِيَّةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لاَ تَرْجِيحَ لأِحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَكِنَّ مَفْهُومَ كَلاَمِ الدُّرِّ كَالْهِدَايَةِ وَالتَّبْيِينِ وَغَيْرِهِمَا تَرْجِيحُ عَدَمِ الرُّجُوعِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي .
26 - وَالأْصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى شَرِيكٍ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ أَنْ يُعَمِّرَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ جَمِيعَ حِصَّتِهِ إِنْ أَبَى التَّعْمِيرَ.
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الشُّرَكَاءَ فِي الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ فَإِنَّ مَنْ أَبَى الْعِمَارَةَ مِنَ الشُّرَكَاءِ لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ أَمْ لاَ، وَيُقَالُ لِلشَّرِيكِ: عَمِّرْ إِنْ شِئْتَ وَلَكَ مَا حَصَلَ مِنَ الْمَاءِ بِعِمَارَتِكَ، وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: هُوَ إِمَّا كُلُّ الْمَاءِ إِنْ كَانَ التَّخْرِيبُ أَذْهَبَ كُلَّ الْمَاءِ وَحَصَلَ الْمَاءُ بِالتَّعْمِيرِ، أَوْ مَا زَادَ مِنْهُ بِالْعِمَارَةِ، وَذَلِكَ إِلَى أَنْ تَسْتَوْفِيَ قَدْرَ مَا أَنْفَقْتَ، أَوْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَكَ صَاحِبُكَ الآْبِي بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ: يُجْبَرُ الشَّرِيكُ عَلَى الْبَيْعِ إِنْ أَبَى الْعِمَارَةَ إِنْ كَانَ عَلَى الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَرَجَّحَ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ .
وَجَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: إِذَا احْتَاجَتْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ بَيْنَ شُرَكَاءَ لِسَقْيِ أَرْضِهِمْ إِلَى الْكَنْسِ لِقِلَّةِ مَائِهَا فَأَرَادَ أَحَدُهُمُ الْكَنْسَ وَأَبَى الآْخَرُونَ. - وَفِي تَرْكِ الْكَنْسِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَاءِ وَانْتِقَاصٌ، وَالْمَاءُ يَكْفِي أَوْ لاَ يَكْفِي إِلاَّ الَّذِينَ أَرَادُوا الْكَنْسَ خَاصَّةً- فَلِلَّذِينِ أَرَادُوا الْكَنْسَ أَنْ يَكْنِسُوا ثُمَّ يَكُونُوا أَوْلَى بِالَّذِي زَادَ فِي الْمَاءِ لِكَنْسِهِمْ دُونَ مَنْ لَمْ يَكْنِسْ حَتَّى يُؤَدُّوا حِصَّتَهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ فَيَرْجِعُوا إِلَى أَخْذِ حِصَّتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَاءِ
27 - وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ فِي النَّهْرِ وَالْقَنَاةِ وَالْبِئْرِ فَفِي الْجَدِيدِ لاَ إِجْبَارَ عَلَيْهِ كَمَا لاَ يُجْبَرُ عَلَى زَرْعِ الأْرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلأِنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ أَيْضًا بِتَكْلِيفِهِ الْعِمَارَةَ وَالضَّرَرُ لاَ يُزَالُ بِالضَّرَرِ.
وَفِي الْقَدِيمِ يُجْبَرُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَصِيَانَةً لِلأْمْلاَكِ الْمُشْتَرَكَةِ عَنِ التَّعْطِيلِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَالأْظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الأْصْحَابِ هُوَ الْجَدِيدُ.
وَصَحَّحَ صَاحِبُ الشَّامِلِ الْقَدِيمَ وَأَفْتَى بِهِ الشَّاشِيُّ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: الأْقْيَسُ أَنْ يُجْبَرَ الْمُمْتَنِعُ، وَقَالَ: وَالاِخْتِيَارُ إِنْ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّ امْتِنَاعَهُ مَضَارَّةٌ أَجْبَرَهُ، وَإِنْ كَانَ لإِعْسَارٍ أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ يُجْبَرْ.
وَلَوْ أَنْفَقَ الشَّرِيكُ عَلَى تَعْمِيرِ النَّهْرِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالدُّولاَبِ وَالْبَكَرَةِ وَالآْلاَتِ الَّتِي أَحْدَثَهَا .
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ- وَهُوَ إِجْبَارُ الْمُمْتَنِعِ- فَأَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ، أَوْ أُذِنَ لِلشَّرِيكِ فِي الإْنْفَاقِ عَلَيْهِ لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، فَلَوِ اسْتَقَلَّ بِهِ الشَّرِيكُ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلاَنِ: الْقَدِيمُ: نَعَمْ، وَالْجَدِيدُ: لاَ، وَقِيلَ: يَرْجِعُ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي الْجَدِيدِ قَوْلاَنِ .
28 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ لِحَقِّ شُرَكَائِهِ أَيْ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ وَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْمُمْتَنِعِ النَّقْدَ وَيُنْفِقُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُمْتَنِعِ نَقْدٌ بَاعَ الْحَاكِمُ عَرْضَهُ وَأَنْفَقَ مِنْ ثَمَنِهِ مَعَ شَرِيكِهِ بِالْمُحَاصَّةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ لِنَحْوِ تَغْيِيبِ مَالِهِ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ كَنَفَقَةٍ نَحْوَ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ عَمَّرَ الشَّرِيكُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ لِوُجُوبِهِ عَلَى الْمُنْفَقِ عَنْهُ .
وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُعَمِّرَ فَلَيْسَ لِلشُّرَكَاءِ مَنْعُهُ وَالْمَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُعَمِّرُ لأِنَّ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ مِلْكِهِمَا وَإِنَّمَا أَثَّرَ أَحَدُهُمَا فِي نَقْلِ الطِّينِ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ، وَرُجُوعُ الْمُعَمِّرِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَا سَبَقَ .
حُكْمُ مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ:
29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الأْرْضِ الَّتِي يَنْكَشِفُ عَنْهَا مَاءُ النَّهْرِ هَلْ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ تَكُونُ لِمَنْ يَلِي هَذِهِ الأْرْضَ ؟ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ تَكُونُ لِمَنْ يَلِي الأْرْضَ الَّتِي انْكَشَفَ عَنْهَا النَّهْرُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ جَزَرَ مَاءُ الأْنْهَارِ الْعِظَامِ كَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ عَنْ أَرْضٍ فَلَيْسَ لِمَنْ يَلِيهَا أَنْ يَضُمَّهَا إِلَى أَرْضِ نَفْسِهِ، لأِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ مَاؤُهَا إِلَى مَكَانِهِ وَلاَ يَجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فَيُحْمَلُ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَيَضُرُّ، حَتَّى لَوْ أَمِنَ الْعَوْدَ، أَوْ كَانَ بِإِزَائِهَا مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ أَرْضٌ مَوَاتٌ لاَ يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِحَمْلِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيُمَلَّكُهُ إِذَا أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الإْمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الإْمَامِ فِي الإْحْيَاءِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ .
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحُكْمِ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَرْضٍ انْكَشَفَ عَنْهَا الْبَحْرُ هَلْ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِمَنْ تَلِيهِ أَوْ لِمَنْ دَخَلَ الْبَحْرُ أَرْضَهُ؟ أَنَّهَا تَكُونُ لِمَنْ تَلِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَعَلَيْهِ حَمْدِيسُ، وَبِهِ الْفَتْوَى وَالْقَضَاءُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ وَمُطَرِّفٌ: تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ الْبَحْرُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوِ انْحَسَرَ مَاءُ النَّهْرِ عَنْ جَانِبٍ مِنْهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إِقْطَاعُهُ لأِحَدٍ كَالنَّهْرِ وَحَرِيمِهِ.
وَلَوْ زَرَعَهُ أَحَدٌ لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ إِنْ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ.
نَعَمْ، لِلإْمَامِ دَفْعُهُ لِمَنْ يَرْتَفِقُ بِهِ بِمَا لاَ يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِثْلُهُ مَا يَنْحَسِرُ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ فِي الْبَحْرِ، وَيَجُوزُ زَرْعُهُ وَنَحْوَهُ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ إِحْيَاءَهُ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَلاَ الْغِرَاسُ وَلاَ مَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ .
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ ثُمَّ نَضَبَ عَنْهَا وَبَيْنَ أَرْضٍ نَضَبَ عَنْهَا الْمَاءُ وَلَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لأِحَدٍ.
جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَلاَ يُمْلَكُ بِإِحْيَاءِ مَا نَضَبَ أَيْ غَارَ عَنْهُ الْمَاءُ مِمَّا كَانَ مَمْلُوكًا وَغَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهِ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُلاَّكِهِ قَبْلَ غَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُمْ أَخْذُهُ؛ لأِنَّ هَا لاَ تُزِيلُ مِلْكَهُمْ عَنْهُ.
أَمَّا مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ وَالرَّقَاقِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فَلِكُلِّ أَحَدٍ إِحْيَاؤُهُ بَعُدَتْ أَوْ قَرُبَتْ كَمَوَاتٍ، قَالَ الْحَارِثِيُّ: مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ وَنَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي التَّنْقِيحِ: لاَ يُمْلَكُ بِالإْحْيَاءِ، وَتَبِعَهُ فِي الْمُنْتَهَى، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى: إِذَا نَضَبَ الْمَاءُ مِنْ جَزِيرَةٍ إِلَى فِنَاءِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا، لأِنَّ فِيهَا ضَرَرًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا رَجَعَ إِلَى الْجَانِبِ الآْخَرِ فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ، وَلأِنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبَتُ الْكَلأَ وَالْحَطَبِ فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رضي الله تعالي عنه - أَنَّهُ أَبَاحَ الْجَزَائِرَ يَعْنِي أَبَاحَ مَا يَنْبُتُ فِي الْجَزَائِرِ مِنَ النَّبَاتِ، قَالَ: إِذَا نَضَبَ الْفُرَاتُ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ نَبَتَ فِيهِ نَبَاتٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ، فَعَمَرَهُ رَجُلٌ عِمَارَةً لاَ تَرُدُّ الْمَاءَ، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأِنَّهُ مُتَحَجِّرٌ لِمَا لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ حَقٌّ .
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ (إِحْيَاء ف 11).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة الأحكام العدلية
مادة (1165) حق الطريق والمسيل
حق الطريق والمسيل في الأراضي المجاورة للمقسوم داخل في القسمة على كل حال يعني في أيّ حصة وقع يكون من حقوق صاحبها سواء قيل بجميع حقوقها حين القسمة أو لم يقل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان فى المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمؤلفه المغفور له (محمد قدرى باشا) (الطبعة الثانية) بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصرالمحمية سنة1308هجرية 1891 افرنجيه
(مادة 4)
الحقوق التي بها يكون التصرف والانتفاع بالأعيان على ثلاثة أنواع
الأول- حق ملك رقبة العين ومنفعتها
الثاني- حق ملك الانتفاع بالعين دون الرقبة
الثالث- حق الشرب والمسيل والمرور والتعلى ونحو ذلك من الحقوق
(مادة 48)
القديم يبقى على قدمه في حق المرور والمجرى والمسيل ما لم يكن غير مشروع من أصله فإن كان كذلك فلا اعتبار له ويزال إن كان فيه ضرر بين.
فإن كان لدار مسيل قذر في الطريق العام وكان مضراً بالعامة يرفع ضرره ولو كان قديماً ولا يعتبر قدمه.
(مادة 49)
إذا كان لأحد حق المرور في أرض شخص آخر فليس لصاحبها أن يمنعه من المرور منها وله أن يقود دوابه وعربته إذا كان له هذا الحق.
(مادة 50)
للمبيح أن يرجع عن إباحته ولا يلزم بالإذن والرضا فإن لم يكن لأحد حق المرور في عرصة آخر ومر فيها مدة بإذن صاحبها فلا يترتب على مروره حق له بل لصاحب العرصة أن يمنعه من المرور متى شاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشروع تقنين الشريعة الإسلامية على مذهب الإمام الأعظم ابى حنيفة (رضى الله عنه ) إعداد اللجنة التحضيرية لتقنين الشريعة الإسلامية بإشراف مجمع البحوث الإسلامية الطبعة التمهيدية (1392هـ ـ 1972م )
مادة ۳۲ - حق المرور هو: حق المشي في ملك آخر .