loading
المذكرة الإيضاحية

مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء السادس ، الصفحة :   572

مذكرة المشروع التمهيدي :

يكون الحكر بورقة رسمية إشعاراً يخطره، والرسمية شرط للانعقاد، فإن كانت العين موقوفة، وهو الغالب، فلا تكفي الرسمية العادية، بل يجب أن يستصدر ناظر الوقف من المحكمة الشرعية التي تقع في دائرتها الأرض الموقوفة حجة شرعية، لأن الحكر ضرب من ضروب التصرف ولا يجوز التصرف في الوقف إلا بإذن من القاضي.

ويجب أن يقدم الناظر مبرراً للتحكير بأن يثبت أن إنشاء الحكر أمر تقتضيه المحافظة على العين الموقوفة، ويكون ذلك عادة بإثبات أن الوقف مخرب ولا يكفي ريعه لإصلاحه، فيحكر حتى يستصلحه المحتكر .

المشروع في لجنة المراجعة

تليت المادة 1257 من المشروع، ورأت اللجنة تعديلها بالصيغة الآتية :

1- يكون إنشاء الحكر بورقة رسمية .

2 - ولا يجوز التحكير إلا لضرورة أو مصلحة و بإذن من المحكمة الابتدائية الشرعية التي تقع في دائرتها تلك الأرض، ويجب أن يصدر به إشهاد على يد رئيس المحكمة أو أحد قضاتها أو مأذون من قبله.

وأصبح رقم المادة 1075 في المشروع النهائي .

المشروع في مجلس النواب

تقرير لجنة الشئون التشريعية :

عدلت اللجنة الفقرة الثانية تعديلاً يتسق مع المادة 2 من مشروع قانون الوقف كما أقرها مجلس النواب أخيراً.

مناقشات المجلس :

وافق المجلس على المادة كما عدلتها اللجنة تحت رقم 1072 .

المشروع في مجلس الشيوخ

مناقشات لجنة القانون المدني :

محضر الجلسة الحادية والأربعين

تليت المادة 1072 فرأى الحاضرون حذف الفقرة الأولى التي تقضي بأن يكون الحكر بورقة رسمية اكتفاء بما ورد في الفقرة الثانية من وجوب صدور إشهاد كما رأوا حذف حرف « الواو » المصدرة به الفقرة الثانية وإضافة كلمة «راجحة » بعد عبارة «لضرورة أو مصلحة» .

محضر الجلسة الحادية والخمسين

أعادت اللجنة نظر المادة 1072 فرأت حذف كلمة «راجحة » من الفقرة الثانية وكانت قد أضافتها في مناقشة سابقة كما رأت أن تستبدل كلمة « عقد » بكلمة « إشهاد » لأن كلمة إشهاد تنصب في العرف الشرعي على التوثيق من طرف واحد والمقصود هنا تقابل إرادتين.

محضر الجلسة الثانية والخمسين

رأت اللجنة أن تعيد النظر مرة أخرى في المادة 1072 وقررت أن تضيف إلى آخرها العبارة الآتية : «ويجب شهره وفقاً لأحكام قانون تنظيم الشهر العقاري» لتبرز أن حق الحكر حق عيني يتبع في شهره القواعد التي تتبع في شهر غيره من الحقوق العينية .

تقرير اللجنة :

حذفت اللجنة الفقرة الأولى لأن في الفقرة الثانية ما يغني عنها واستبدلت في الفقرة الثانية بكلمة و إشهاد ، كلمة و عقد ، لأن العرف جرى بإطلاق الإشهاد على ما يعقد من التصرفات بإرادة واحدة والمسألة تتعلق بعقد يتم بتعبيرين صادرين عن إرادتين ، ثم أضافت اللجنة إلى الفقرة الثانية العبارة الآتية، ويجب شهره وفقاً لأحكام قانون تنظيم الشهر العقاري، لتبرز أن حق الحكر حق عيني تذيع في شهره القواعد التي تتبع في شهر غيره من الحقوق العينية .

وأصبح رقم المادة 1000.

مناقشات المجلس :

وافق المجلس على المادة كما عدلتها اللجنة .

الأحكام

1 ـ إذا كانت علاقة الحكر التى إستخلصها الحكم من أقوال شاهد المطعون ضدها و إستدل بها على أن وضع يد مورث الطاعنين الأولى و الثانية قد تجرد من نية التملك نشأت قبل العمل بالقانون المدنى القائم و من ثم يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات ، فالحكر لم يكن من المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية و الوقف ، التى تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية ، كما أن المقصود بمسائل الوقف فى هذا الخصوص هو ما تعلق بإنشاء الوقف أو بصحته أو بالإستحقاق فيه أو بتفسير شروطه . أو بالولاية عليه أو بحصوله فى مرض الموت ، لما كان ذلك ، و كان مدار البحث فى الحكم المطعون فيه مجرد إستظهار نية مورثى الطاعنتين عند بداية الحيازة لتبين قيام سبب آخر لها يمنع من قيام نية التملك ، فلا تثريب على المحكمة إن هى إستدلت على قيام رابطة تحكير تحول دون قيام هذه النية حتى و لو لم يستوف عقد الحكر شروطه الشكلية أو الموضوعية أو شروط صحته و نفاذه .

(الطعن رقم 89 لسنة 41 جلسة 1976/06/09 س 27 ع 1 ص 1307 ق 249)

2 ـ إبرام العقد محل النزاع فى سنة 1928 فى ظل العمل بالتقنين المدنى القديم الذى خلت أحكامه من تنظيم خاص لحق الحكر ، فإنه يتعين الرجوع إلى القواعد التى إستقرت عليها الشريعة الإسلامية فى شأن الحكر بإعتبارها هى منشأ هذا النظام ، و التى كانت تجيز تحكير الوقف و غير الوقف على خلاف ما يقضى به التقنين المدنى الحالى الذى قصر الحكر على الأراضى الموقوفة و قد عرف الفقهاء الحكر بأنه عقد إيجار يبيح للمحتكر الإنتفاع بالأرض المحكرة إلى أجل غير محدد ، أو إلى أجل طويل معين مقابل دفع أجر المثل المقرر على الأرض خالية ، و حق الحكر يخول للمحتكر الحق فى الإنتفاع بالأرض بكافة أوجه الإنتفاع و له حق القرار فيها بالبناء أو الغراس ، و للمحتكر أن يتصرف فى حق الحكر بجميع أنواع التصرفات فله أن يبعه أو يهبه ، أو يرتب عليه حق إنتفاع ، و له أن يؤجره للغير ، و ينتقل عنه بالميراث ، و من المقرر فى قضاء هذه المحكمة - أن للمحتكر حق عينى تتحمله العين المحكره فى يد كل حائز لها ، و لذلك فلا محل لقياس حالته على حالة المستأجر صاحب الحق الشخصى الذى يقيم بناء على الأرض التى إستأجرها . و مفاد ما تقدم أن عقد الحكر يختلف عن عقد الإيجار فى أمور جوهرية فهو ينشأ مؤيداً أو لمدة طويلة ، بينما الإيجار حق شخصى ينشأ لمدة مؤقتة ، و الأجرة فى الحكر هى أجرة المثل تزيد و تنقص تبعاً لزيادة أو نقص أجره المثل ، أما فى عقد الإيجار فالأجرة ثابتة .

(الطعن رقم 1090 لسنة 55 جلسة 1990/02/28 س 41 ع 1 ص 673 ق 112)

3 ـ إذ كان ما أورده الحكم من تسلسل وضع اليد على أطيان النزاع بوصف الحائزين لها ممثلين للوقف المذكور صاحب حق الحكر عليها ، إنما كان فى مقام إستظهار نية البائعين لمورث الطاعنين فى حيازتهم و بيان قيام سبب آخر لها يمنع من توافر نية الملك ، فلا تثريب عليه إن هو إستدل على قيام رابطة تحكير تحول دون قيام هذه النية حتى و لو لم يستوف عقد الحكر - و على ما هو مقرر فى قضاء هذه المحكمة - شروطه الشكلية أو الموضوعية أو شروط صحته و نفاذه .

(الطعن رقم 1088 لسنة 48 جلسة 1984/05/24 س 35 ع 1 ص 1410 ق 272)

4 ـ عدم قيام الطاعنة - وزارة الأوقاف - بتنفيذ الحكم الصادر بفسخ الحكم ، و قبولها بقاء المستحكر ينتفع بالعين المحكرة مقابل الأجرة المبينة بعقد الحكر المقضى بفسخه حتى تم إستبدالها سنة 1962 ، يتضمن تنازلها عن التمسك بالحكم الصادر بالفسخ ، و بالتالى فإنه لا تكون هناك حاجة لإبرام عقد جديد يجب إفراغه فى الشكل الذى تطلبه القانون المدنى فى المادة 1000 منه .

(الطعن رقم 170 لسنة 37 جلسة 1972/03/23 س 23 ع 1 ص 499 ق 79)

شرح خبراء القانون
الفقه الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثامن عشر ، الصفحة /  53

حِكْرٌ

التَّعْرِيفُ:

1 - الْحِكْرُ لُغَةً: الاِسْمُ مِنَ الْحَكْرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ، وَهُوَ فِي الأْصْلِ الظُّلْمُ وَالتَّنَقُّصُ، وَالْعُسْرُ، وَالاِلْتِوَاءُ. وَمِنْهُ رَجُلٌ حَكْرٌ وَهُوَ مَنْ يُدْخِلُ عَلَى غَيْرِهِ الْمَشَقَّةَ فِي مُعَاشَرَتِهِ وَمُعَايَشَتِهِ، وَالاِحْتِكَارُ: أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ وَيَحْبِسَهُ لِيَقِلَّ فَيَغْلُوَ. وَالاِسْمُ مِنْهُ الْحِكْرُ وَالْحُكْرَةُ.

وَفِي الْقَامُوسِ وَشَرْحِهِ: الْحَكْرُ اللَّجَاجَةُ وَالْعُسْرُ، وَالاِسْتِبْدَادُ بِالشَّيْءِ، أَيْ الاِسْتِقْلاَلُ وَأَصْلُ الْحُكْرَةِ الْجَمْعُ وَالإْمْسَاكُ.

أَمَّا الْحِكْرُ بِالْكَسْرِ فَقَدِ انْفَرَدَ بِذَكَرِهِ الزَّبِيدِيُّ مُسْتَدْرِكًا لَهُ عَلَى الْقَامُوسِ، فَقَالَ: الْحِكْرُ بِالْكَسْرِ مَا يُجْعَلُ عَلَى الْعَقَارَاتِ، وَيُحْبَسُ، مُوَلَّدَةٌ.

وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ عَلَى ثَلاَثَةِ مَعَانٍ:

الأْوَّلُ: الأْجْرَةُ الْمُقَرَّرَةُ عَلَى عَقَارٍ مَحْبُوسٍ فِي الإْجَارَةِ  الطَّوِيلَةِ وَنَحْوِهَا. وَمِنْ هَذَا الاِسْتِعْمَالِ مَا قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: مَنْ بَنَى فِي الأْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مَسْجِدًا وَقَفَهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِذَا جَازَ فَعَلَى مَنْ يَكُونُ حِكْرُهُ؟ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا دَامَتِ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً فَإِذَا انْقَضَتْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.

وَفِي فَتَاوَى عُلَيْشٍ «مَنِ اسْتَوْلَى عَلَى الْخُلُوِّ يَكُونُ عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ أُجْرَةٌ لِلَّذِي يَئُولُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ يُسَمَّى عِنْدَنَا بِمِصْرَ حِكْرًا لِئَلاَّ يَذْهَبَ الْوَقْفُ بَاطِلاً».

الثَّانِي: أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْعَقَارِ الْمُحْتَكَرِ نَفْسِهِ فَيُقَالُ: هَذَا حِكْرُ فُلاَنٍ.

الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الإْجَارَةِ  الطَّوِيلَةِ وَالْغَالِبُ أَنْ يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ الاِحْتِكَارَ.

وَالاِسْتِحْكَارُ بِمَعْنَى الاِسْتِئْجَارِ إِجَارَةً طَوِيلَةً، وَيُسَمَّى (التَّحْكِيرَ) أَوِ (الإْحْكَارَ) بِمَعْنَى الإْيجَارِ أَوِ التَّأْجِيرِ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الاِحْتِكَارُ إِجَارَةٌ يُقْصَدُ بِهَا مَنْعُ الْغَيْرِ وَاسْتِبْقَاءُ الاِنْتِفَاعِ بِالأْرْضِ. وَفِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: 

الاِسْتِحْكَارُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِبْقَاءُ الأْرْضِ لِلْبِنَاءِ، أَوِ الْغَرْسِ، أَوْ لأِحَدِهِمَا. وَيَكُونُ فِي الدَّارِ وَالْحَانُوتِ أَيْضًا.

وَمُرَادُ ابْنِ عَابِدِينَ بِقَوْلِهِ يُقْصَدُ بِهَا مَنْعُ الْغَيْرِ أَيْ مَنْعُ الْغَيْرِ مِنَ الْمُنَافَسَةِ فِيمَا لَوْ أُوجِرَتِ الأْرْضُ  إِجَارَةً قَصِيرَةً وَانْتَهَتِ الْمُدَّةُ. فَمَنْ يَسْتَأْجِرُهَا إِجَارَةً طَوِيلَةً يَأْمَنُ مِنَ الْمُنَافَسَةِ وَيَمْنَعُهَا، وَمِنْ هُنَا أُخِذَ هَذَا الاِصْطِلاَحُ وَهُوَ الاِحْتِكَارُ لأِنَّهُ  يَئُولُ فِي مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ إِلَى الْمَنْعِ.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

2 - أ - الْخُلُوُّ: هُوَ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا الْمُسْتَأْجِرُ لِعَقَارِ الْوَقْفِ مُقَابِلَ مَالٍ يَدْفَعُهُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ لِتَعْمِيرِهِ إِذَا تَخَرَّبَ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَمِّرُهُ بِهِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ عَنْ بَاقِي الْمَنْفَعَةِ تُسَمَّى حِكْرًا.

3 - ب - الأْجْرَةُ: وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْحِكْرِ.

4 - ج - «الإْجَارَةُ  الطَّوِيلَةُ» وَهُوَ اصْطِلاَحٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الاِحْتِكَارِ إِذْ الاِحْتِكَارُ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِئْجَارُ الأْرْضِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لِلْبِنَاءِ، أَوِ الْغَرْسِ، أَوْ أَحَدِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلاَمِ ابْنِ عَابِدِينَ، وَالإْجَارَةُ  الطَّوِيلَةُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ لَهُمَا، بَلْ قَدْ تَكُونُ لِلزَّرْعِ وَلِسَائِرِ أَنْوَاعِ اسْتِعْمَالاَتِ الأْرْضِ. وَتَكُونُ فِي غَيْرِ الأْرْضِ أَيْضًا كَالْمَسَاكِنِ وَالآْلاَتِ وَغَيْرِهَا.

أَقْسَامُ الْحِكْرِ:

5 - الْحِكْرُ يَكُونُ فِي الأْوْقَافِ وَهُوَ الأْغْلَبُ وَفِي غَيْرِهَا وَهِيَ الأْمْلاَكُ الْخَاصَّةُ، وَهُوَ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ كَلاَمُ الرَّمْلِيِّ وَابْنِ عَابِدِينَ، إِذْ أَطْلَقَا تَعْرِيفَ الاِحْتِكَارِ عَنْ قَيْدِ الْوَقْفِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي (مِنْحَةِ الْخَالِقِ) حَيْثُ قَالَ: الأْرْضُ  الْمُقَرَّرَةُ لِلاِحْتِكَارِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا أَوْ وَقْفًا.

إِلاَّ أَنَّ أَكْثَرَ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي شَأْنِ الْحِكْرِ يَنْصَبُّ عَلَى الْحِكْرِ فِي الأْوْقَافِ وَلاَ يَتَعَرَّضُونَ لِلْحِكْرِ فِي الأْمْلاَكِ إِلاَّ نَادِرًا، وَلِذَا عَرَّفَهُ صَاحِبُ قَانُونِ الْعَدْلِ وَالإْنْصَافِ بِأَنَّهُ اسْتِبْقَاءُ الأْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ مُقَرَّرَةً لِلْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ أَوْ أَحَدِهِمَا.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَيَقْتَصِرُ الْكَلاَمُ فِيمَا يَلِي عَلَى الْحِكْرِ فِي الأْوْقَافِ، لأِنَّ الْحِكْرَ فِي الأْمْلاَكِ تَجْرِي أَحْكَامُهُ بِحَسَبِ صِيغَةِ التَّعَاقُدِ مِنْ حَيْثُ مِقْدَارُ الْمُدَّةِ وَالأْجْرَةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَتَرِدُ الإْشَارَةُ إِلَيْهِ.

حُكْمُ الإْجَارَةِ  الطَّوِيلَةِ فِي الأْوْقَافِ:

6 - الأْصْلُ فِي الإْجَارَةِ  الطَّوِيلَةِ فِي الأْمْلاَكِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لأِنَّ الْمَالِكَ يَصْنَعُ فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ. وَنَقَلَ الْحَنَفِيَّةُ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.

أَمَّا فِي الأْوْقَافِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهَا فِيمَا زَادَ عَلَى ثَلاَثٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَرْبَعٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

7 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ أَنْ يُؤَجِّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ يَجُوزُ شَرْطُهُ لاَ مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ أَنْ لاَ يُؤَجِّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ يَجِبُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ لاَ مَحَالَةَ.

وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْمَنْقُولُ عَنْ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: أَنَا أُجَوِّزُ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ وَلاَ أُجَوِّزُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ حُسَامُ الدِّينِ كَانَ يَقُولُ: فِي الضِّيَاعِ (أَيِ الأْرَاضِيِ الزِّرَاعِيَّةِ) نُفْتِي بِالْجَوَازِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ، وَفِي غَيْرِ الضِّيَاعِ نُفْتِي بِعَدَمِ الْجَوَازِ فِيمَا زَادَ عَنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ  إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الْجَوَازِ، وَهَذَا أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ وَالْمَوْضِعِ. قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ: فَلَوْ آجَرَهَا الْمُتَوَلِّي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ الإْجَارَةُ  وَتُفْسَخُ.

وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْمَنْعَ فِيمَا زَادَ عَلَى ثَلاَثِ سِنِينَ فِي الأْرْضِ وَسَنَةٍ فِي غَيْرِهَا كَمَا صَنَعَ صَاحِبُ تَنْوِيرِ الأْبْصَارِ. وَقَالَ الْخَصَّافُ: إِنْ كَانَتِ الأْرْضُ  تُزْرَعُ فِي كُلِّ سَنَةٍ لاَ يُؤَجِّرُهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَإِنْ كَانَتْ تُزْرَعُ فِي كُلِّ سَنَتَيْنِ مُرَّةً لاَ تُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، أَوْ فِي كُلِّ ثَلاَثٍ لاَ تُؤْجَرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ.

وَإِنَّمَا جَرَتِ الْفُتْيَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِذَلِكَ صِيَانَةً لِلأْوْقَافِ عَنْ دَعْوَى الْمِلْكِيَّةِ بِطُولِ الْمُدَّةِ قَالُوا: لأِنَّ الْمُدَّةَ إِذَا طَالَتْ تُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ الْوَقْفِ، فَإِنَّ مَنْ رَآهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مُتَوَالِيًا وَلاَ مَالِكٌ يُعَارِضُ وَيُزَاحِمُ - وَمَالُ الْوَقْفِ مَالٌ ضَائِعٌ لِعَدَمِ الْمُطَالِبِ الْمُهْتَمِّ - يَظُنُّهُ الرَّائِي بِتَصَرُّفِهِ الدَّائِمِ مَالِكًا، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ إِذَا ادَّعَاهُ. وَلاَ مَصْلَحَةَ لِلْوَقْفِ فِي أَمْرٍ يَدْعُو إِلَى هَذَا الضَّرَرِ.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَرَتِ الْفُتْيَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى إِلْحَاقِ أَرْضِ الْيَتِيمِ بِأَرْضِ الْوَقْفِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَلاَ تُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ سِنِينَ. وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا أَرَاضِيَ بَيْتِ الْمَالِ، نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ حَاشِيَةِ الرَّمْلِيِّ وَوَافَقَهُ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ.

وَفِي قَوْلِ مُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ إِجَارَةُ الْوَقْفِ لِلْمُدَدِ الطَّوِيلَةِ. غَيْرَ أَنَّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَذْكُورُ أَوَّلاً وَهُوَ التَّوْقِيتُ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِنَّمَا عَدَلَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْ قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِسَبَبِ الْخَوْفِ عَلَى الْوَقْفِ.

ثُمَّ إِنْ آجَرَ النَّاظِرُ الْوَقْفَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ سِنِينَ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ يَجُوزُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يُبْطِلَهُ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.

وَرَأَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ إِنِ احْتَاجَ الْقَيِّمُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْوَقْفَ إِجَارَةً طَوِيلَةً فَالْحِيلَةُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْقِدَ عُقُودًا، فَيَكْتُبُ: اسْتَأْجَرَ فُلاَنُ ابْنُ فُلاَنٍ ثَلاَثِينَ عَقْدًا مَثَلاً، كُلُّ عَقْدٍ عَلَى سَنَةٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا شَرْطًا فِي بَعْضٍ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ الأْوَّلُ لاَزِمًا لأِنَّهُ  نَاجِزٌ، وَمَا بَعْدَهُ لاَ يَلْزَمُ، لأِنَّهُ  مُضَافٌ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ كُلُّ سَنَةٍ إِذَا دَخَلَتْ.

8 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ كِرَاءُ الْوَقْفِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، قَالَ الْحَطَّابُ: الْحَبْسُ إِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنِينَ كَبَنِي فُلاَنٍ، فَلِلنَّاظِرِ أَنْ يُكْرِيَهُ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَ سِنِينَ، وَلاَ يُكْرِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَ الْكِرَاءُ فِي السِّنِينَ الْكَثِيرَةِ فَعَثَرَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ مَضَى بَعْضُهَا فَإِنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ يَسِيرًا كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ لَمْ يُفْسَخْ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فُسِخَ. وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ الْبُرْزُلِيُّ عَنْ نَوَازِلِ ابْنِ رُشْدٍ فِي وَقْفٍ أُكَرِي خَمْسِينَ عَامًا، إِنْ وَقَعَ الْكِرَاءُ لِهَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى النَّقْدِ (أَيْ تَعْجِيلِ الأْجْرَةِ) فُسِخَ، وَفِي جَوَازِهِ عَلَى غَيْرِ النَّقْدِ قَوْلاَنِ: الصَّحِيحُ مِنْهُمَا عِنْدِي الْمَنْعُ. ا هـ.

ثُمَّ قَالَ الْحَطَّابُ: أَمَّا الْحَبْسُ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْمَسَاكِينِ وَشَبَهِهَا فَلاَ يُكْرِيهَا النَّاظِرُ لأِكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ إِنْ كَانَتْ أَرْضًا، وَلاَ أَكْثَر مِنْ عَامٍ إِنْ كَانَتْ دَارًا، وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ، وَمَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ، فَإِنْ أَكْرَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مَضَى إِنْ كَانَ نَظَرًا (أَيْ مَصْلَحَةً)، وَلاَ يُفْسَخُ.

وَعَلَّلُوا لِمَنْعِ الإْجَارَةِ  الطَّوِيلَةِ فِي الْوَقْفِ بِمِثْلِ مَا عَلَّلَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، قَالُوا: لِخَوْفِ انْدِرَاسِهِ إِذَا طَالَ مُكْثُهُ بِيَدِ مُكْتَرِيهِ.

9 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ تُؤَجَّرَ الْعَيْنُ إِلَى مُدَّةٍ تَبْقَى إِلَيْهَا غَالِبًا - مَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْطَ الْوَاقِفِ - فَتُؤَجَّرُ الأْرْضُ  مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ - قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ:

سَوَاءٌ الْمِلْكُ وَالْوَقْفُ - وَتُؤَجَّرُ الدَّارُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَالثَّوْبُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ. وَفِي قَوْلٍ: لاَ يُزَادُ عَلَى سَنَةٍ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: إِنَّمَا يَجْرِي ذَلِكَ - أَيِ الإْجَارَةُ  الطَّوِيلَةُ - فِي الْوَقْفِ إِنْ وَقَعَ عَلَى وَفْقِ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لِعَيْنِ الْوَقْفِ، وَاصْطِلاَحُ الْحُكَّامِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُؤَجَّرُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثِ سِنِينَ، لِئَلاَّ يَنْدَرِسَ اسْتِحْسَانٌ مِنْهُمْ. قَالَ: وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا ذَلِكَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ بِغَلَبَةِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْوَقْفِ عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَلأِنَّ شَرْطَ إِجَارَةِ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَتَقْوِيمُ الْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْبَعِيدَةِ صَعْبٌ - أَيْ لِتَغَيُّرِ الأْسْعَارِ وَطُرُوءِ الرَّغَبَاتِ غَالِبًا - قَالَ: وَأَيْضًا فَفِيهَا مَنْعُ الاِنْتِقَالِ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَضَيَاعُ الأْجْرَةِ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَتْ مُعَجَّلَةً. وَأَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فِي فَتَاوَاهُ الْكُبْرَى الْفِقْهِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ قُضَاةَ الشَّافِعِيَّةِ مَالُوا فِي ذَلِكَ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لأِنَّهُ  أَحْوَطُ. وَنَقَلَهُ عَنِ السُّبْكِيِّ وَغَيْرِهِ. وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ مُجَرَّدَ زِيَادَةِ الأْجْرَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ لاَ يُسَوِّغُ الإْجَارَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الْوَقْفِ. وَقَالَ: وَأَلْحَقُوا بِأَرْضِ الْوَقْفِ فِي ذَلِكَ أَرْضَ الْيَتِيمِ.

10 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الإْجَارَةَ الطَّوِيلَةَ جَائِزَةٌ، عَلَى الأْصْلِ فِي الإْجَارَةِ  إِذَا كَانَتْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَبْقَى إِلَيْهَا الْعَيْنُ غَالِبًا وَإِنْ كَثُرَتْ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِهَذَا الأْصْلِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيْ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ ) قَالَ: وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى نَسْخِهِ دَلِيلٌ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لأِنَّ مَا جَازَ لِسَنَةٍ جَازَ لأِكْثَرَ مِنْهَا، وَالتَّقْدِيرُ بِسَنَةٍ أَوْ ثَلاَثٍ تَحَكُّمٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ.

وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي فِي الْوَقْفِ، قَالَ: إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ جَازَتْ إِجَارَتُهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَلاَ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ بِعَدَدٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى وَنَسَبَهُ إِلَى الرِّعَايَةِ وَالْمُغْنِي، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: بَلِ الْوَقْفُ أَوْلَى أَيْ بِجَوَازِ الإْجَارَةِ  الطَّوِيلَةِ.

وَابْنُ الْقَيِّمِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بَيَّنَ مَفَاسِدَ الإْجَارَةِ  الطَّوِيلَةِ فِي الْوَقْفِ كَمَا بَيَّنَهَا أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الأْخْرَى، لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِبُطْلاَنِهَا حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ امْتِنَاعَهَا.

حُكْمُ التَّحْكِيرِ فِي الْوَقْفِ وَشُرُوطُ جَوَازِهِ:

12 - يَتَبَيَّنُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّحْكِيرَ فِي الْوَقْفِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الأْوَّلُ وَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُونَ: إِنَّهُ جَائِزٌ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ مَنْعَهُ أَمْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى أَرْضِ الْوَقْفِ لأِنَّهُ  يَغُلُّ يَدَ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الأْرْضِ، وَاسْتِغْلاَلِهَا لَمْ يُجِيزُوهُ إِلاَّ بِشُرُوطٍ:

أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ قَدْ تَخَرَّبَ وَتَعَطَّلَ انْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. ثَانِيًا: أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْوَقْفِ حَاصِلٌ يُعَمَّرُ بِهِ.

ثَالِثًا: أَنْ لاَ يُوجَدَ مَنْ يُقْرِضُ الْوَقْفَ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ بِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ تِلْكَ الْمُدَّةِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا أَنْ لاَ يُمْكِنَ اسْتِبْدَالُ الْوَقْفِ بِعَقَارٍ ذِي رِيعٍ.

فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ جَازَ إِيجَارُ الْوَقْفِ مُدَّةً طَوِيلَةً لِمَنْ يَبْنِيهِ، أَوْ يَغْرِسُ الأْرْضَ، لأِنَّهُ  تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلاِنْتِفَاعِ بِالْوَقْفِ، وَلَمْ يَنْظُرْ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى احْتِمَالِ تَمَلُّكِ الْوَقْفِ لأِنَّهُ  مَوْهُومٌ فَلاَ يُنْظَرُ إِلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ الضَّرَرِ الْمُتَحَقِّقِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَاقِفُ قَدْ مَنَعَ الإْجَارَةَ الطَّوِيلَةَ امْتَنَعَ إِلاَّ إِذَا حَصَلَتِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقَوْلِ الأْوَّلِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، وَمِنْ هَؤُلاَءِ الأْذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ. التّفْصيلُ في مُصْطلح: (خُلُوٌّ).

مَنْ يَجُوزُ مِنْهُ التَّحْكِيرُ:

14 - التَّحْكِيرُ إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ يَجُوزُ مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةُ إِجَارَةِ الْوَقْفِ وَهُوَ النَّاظِرُ فَلاَ يَمْلِكُهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ إِلاَّ إِنْ كَانَ مُوَلًّى عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ، أَوْ مَأْذُونًا مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةُ الإْجَارَةِ  مِنْ نَاظِرٍ أَوْ قَاضٍ، وَكَذَلِكَ وِلاَيَةُ قَبْضِ الأْجْرَةِ لِلنَّاظِرِ لاَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ النَّاظِرُ بِقَبْضِهَا.

الْمُدَّةُ فِي التَّحْكِيرِ:

15 - التَّحْكِيرُ نَوْعٌ مِنَ الإْجَارَةِ ، وَالشَّرْطُ فِي الإْجَارَةِ  مِنْ حَيْثُ الأْصْلُ الْعِلْمُ بِالْمُدَّةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. أَمَّا فِي التَّحْكِيرِ: فَقَدْ قَالَ الْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَنَا بِمِصْرَ أَنَّ الأْحْكَارَ مُسْتَمِرَّةٌ لِلأْبَدِ وَإِنْ عُيِّنَ فِيهَا وَقْتُ الإْجَارَةِ  مُدَّةً، فَهُمْ لاَ يَقْصِدُونَ خُصُوصَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَالْعُرْفُ عِنْدَنَا كَالشَّرْطِ، فَمَنِ احْتَكَرَ أَرْضًا مُدَّةً وَمَضَتْ فَلَهُ أَنْ يَبْقَى وَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَمْرَ الْوَقْفِ إِخْرَاجُهُ. نَعَمْ إِنْ حَصَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الإْخْرَاجِ بَعْدَ الْمُدَّةِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الأْبَدِ فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُحْتَكِرِ حَقُّ الْقَرَارِ إِذَا وَضَعَ بِنَاءَهُ فِي الأْرْضِ وَيَسْتَمِرُّ مَا دَامَ أُسُّ بِنَائِهِ قَائِمًا فِيهَا، فَلاَ يُكَلَّفُ بِرَفْعِ بِنَائِهِ، وَلاَ بِقَلْعِ غِرَاسِهِ مَا دَامَ يَدْفَعُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ الْمُقَرَّرَةَ عَلَى سَاحَةِ الأْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ.

وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا لِبَقَاءِ الْمُحْتَكَرِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْوَقْفِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ بِأَنْ يُخَافَ مِنْهُ عَلَى رَقَبَةِ الأْرْضِ يَفْسَخُ الْقَاضِي الإْجَارَةَ، وَيُخْرِجُهُ مِنْ يَدِهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ مُفْلِسًا، أَوْ سَيِّئَ الْمُعَامَلَةِ، أَوْ مُتَغَلِّبًا يُخْشَى عَلَى الْوَقْفِ مِنْهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ.