في تعيين قاضي الأمور الوقتية لم تقتصر المادة 27 من المشروع على رئيس المحكمة او من يقوم مقامه بل شملت أيضاً من يندب لذلك من قضاتها .
تشكيل محاكم الدرجة الأولى :
۱- تشكل الدائرة في كل من المحكمة الجزئية ، ومحكمة الأمور المستعجلة ، ومحكمة التنفيذ ، من قاض فرد . وقد أراد المشرع هذا بالنسبة للمحاكم الجزئية بسبب كثرتها ولقلة قيمة الدعاوى التي تنظرها، واراده بالنسبة لمحكمة الأمور المستعجلة بسبب ما تقتضيه طبيعة الدعاوى المستعجلة من إجراءات سريعة ومختصرة مما لا يتفق مع الاناة والتروي المحيطين بمحكمة متعددة القضاة . كما أراده بالنسبة لقضاء التنفيذ بسبب ما لقضاء التنفيذ من إشراف إداري على إجراءات التنفيذ مما يقتضي تشكيلها من قاض فرد فيكون هذا الإشراف أكثر فاعلية.
وفضلاً عن ذلك يعرف القانون المصرى نظام القاضي الفرد بالنسبة لقاضي الأمور الوقتية . فهو قاض فرد ، إذ هو «فى المحكمة الإبتدائية رئيسها أو من يقوم مقامه أو من يندب لذلك من قضاتها ، وفي المحكمة الجزئية قاضيها» (27 مرافعات) . وقاضي الأمور الوقتية هو من يتولى إصدار الأوامر على العرائض : وهي أهم صور الأعمال الولائية ، كما أنه يتولى الإشراف الإداري على العاملين بالمحكمة.
2- تشكل الدائرة في المحكمة الابتدائية ، أخذا بمبدأ التعدد ، من ثلاثة قضاة ، رئيس الدائرة وعضوان . وعادة ما تشكل المحكمة الإبتدائية من عدة دوائر ، ويرأس المحكمة بدوائرها المختلفة - إدارياً - قاض يندب من بين قضاة محكمة الاستئناف التي تقع المحكمة الإبتدائية في دائرتها أو أية محكمة إستئناف أخرى تالية لها في الترتيب بموافقة مجلس القضاء الأعلى لمدة سنة قابلة للتجديد (مادة 9 سلطة قضائية) وعلة تشكيل الدائرة بالمحكمة الابتدائية من أكثر من قاض هي أهمية القضايا التي تنظرها هذه المحكمة أو صعوبتها . ( المبسوط في قانون القضاء المدني علماً وعملاً، الدكتور/ فتحي والي، طبعة 2017 دار النهضة العربية، الجزء : الأول ، الصفحة : 524 )
قاضى الأمور الوقتية :
عنى المشرع بتعيين قاضي الأمور الوقتية تحديداً للإختصاص بإصدار الأوامر الولائية أو الإدارية في المحكمة ، فمنح هذا الاختصاص لرئيس المحكمة الابتدائية وغالباً ما يكون بدرجة مستشار على الأقل ليباشر سلطته الإدارية بالمحكمة، فإن قام لديه مانع أو عذر حال بينه وبين الحضور وحتى انقضاء الوقت المحدد لإصدار الأمر كان لمن يقوم مقامه الحق في إصدار الأمر لما يوجبه القانون من ضرورة إصدار الأمر في اليوم التالي على الأكثر، فإذا قدم الطلب في يوم تغيب فيه رئيس المحكمة جاز تأجيل إصدار الأمر لليوم التالي، لكن إذا صدر الأمر في يوم تقديمه بمعرفة من قام مقام رئيس المحكمة، كان الأمر صحيحاً حتى لو حضر رئيس المحكمة في اليوم التالي لأن من أصدر الأمر كان قائماً مقام الأخير يوم إصداره ، فإن لم يكن رئيس المحكمة في إجازة أو مأمورية رسمية وأصدر من قام مقامه الأمر ثم حضر الرئيس في ذات اليوم كان الأمر باطلاً ، إذ يدل النص على أن من يقوم مقام رئيس المحكمة لا ولاية له في إصدار الأمر إلا في حالة تعذر إصداره من الرئيس .
ويقوم مقام رئيس المحكمة أقدم قضاتها الذي كان موجوداً بالمحكمة وقت إصدار الأمر حتى لو وجد في اليوم التالي قاض أقدم من مصدر الأمر أو حتى لو حضر رئيس المحكمة.
وإلى جانب رئيس المحكمة والقائم مقامه ، يختص بإصدار الأمر القاضي الذي تختاره الجمعية العمومية للقيام بأعمال قاضي الأمور الوقتية بالمحكمة الابتدائية، أما في المحكمة الجزئية فإن قاضيها - وإن تعدد قضاتها - هو قاضي الأمور الوقتية سواء كان مختصاً بالقضايا المدنية أو الجنائية أو الأحوال الشخصية أو التنفيذ، وتنص المادة 194 علي أن رئيس الهيئة - الدائرة - التي تنظر الدعوى هو قاضي الأمور الوقتية فيما يتعلق بالأوامر التي تختص بها دون أن تسلب قاضي الأمور الوقتية كما عرفته المادة 27 من الإختصاص العام بإصدار الأمر.
وللطالب الخيار في استصدار الأمر من أي من هؤلاء ولا يقيده إلا نص المادة 194 بحيث لا يستصدر أمراً من رئيس الهيئة إلا فيما يتعلق بالأوامر التي تختص بها دون غيرها، فإن استصدر أمراً منه ولم يكن مختصاً بإصداره كان الأمر باطلاً. أما من عددتهم المادة 27 فلكل منهم إختصاص عام . .)المطول في شرح قانون المرافعات، المستشار/ أنور طلبة، الناشر/ المكتب الجامعي الحديث، الجزء الأول ، الصفحة : 442 )
وتنقسم أعمال القضاة إلى أنواع ثلاثة أعمال قضائية والإطار الخارجي لها هو الحكم القضائي، وأعمال ولائية والإطار الخارجي لها الأمر كالأوامر على العرائض، وأعمال إدارية تتعلق بإدارة المحاكم والإطار الخارجي لها هو القرار الإدارى كالقرارات الصادرة بتحديد مواعيد الجلسات وتوزيع القضايا على الدوائر وإدارة الجلسة وضبطها وغير ذلك .
قاضي الأمور الوقتية يمارس أعمالاً ولائية وفقاً للمادة 27 مرافعات، فإن قاضي الأمور الوقتية في المحكمة الإبتدائية هو رئيسها أو من يقوم مقامه ، كما يجوز ندب أحد قضاة المحكمة الابتدائية ليكون قاضياً للأمور الوقتية، أما في المحكمة الجزئية فإن قاضيها وهو قاضی فرد هو قاضي الأمور الوقتية، ويمارس قاضي الأمور الوقتية وظيفة ولائية، فهو يصدر أوامر، وقد نظم المشرع الأوامر على العرائض في المواد من 194 إلى 200 من قانون المرافعات التي سوف نعلق عليها في موضعها، ورغم هذا التنظيم إلا أنه كثيراً ما يحدث في الحياة العملية، أن يصعب تكييف العمل الصادر من القاضي وهل هو حكم أم أمر أم قرار إداری؟، ولذلك اجتهد الفقه والقضاء في تمييز كل نوع من أعمال القضاة راجع ذلك بالتفصيل في مؤلفنا أعمال القضاة - المشار إليه آنفاً .
ووفقاً للمادة 275 مرافعات، فإن قاضي التنفيذ هو المختص وحده بإصدار الأوامر على العرائض بصدد التنفيذ، ويلاحظ أنه إذا صدر الأمر على عريضة من قاض غير مختص، فإن هذا الأمر يكون باطلاً .( الموسوعة الشاملة في التعليق على قانون المرافعات، الدكتور/ أحمد مليجي، الطبعة الثالثة عشر 2016 طبعة نادي القضاة ، الجزء / الأول ، الصفحة : 752 )
يقوم القاضي بأعمال قضائية وأخرى ولائية وتباشر الوظيفة القضائية للمحاكم عادة في صورة أحكام وتباشر الوظيفة الولائية للمحاكم عادة في صورة أوامر على عرائض وهي التي يصدرها قاضي الأمور الوقتية وقد ثار الخلاف بين الفقهاء للتفرقة بين العمل القضائي والتصرف الولائي إلا أن هذا خلاف لا أهمية له في مصر لأن أعمال المحاكم الولائية التي يدور الجدل حولها هي الأوامر علي العرائض وقد أفرد لها قانون المرافعات باباً خاصاً يتضمن كافة الإجراءات المتعلقة بإصدارها والتظلم منها وحجيتها وتنفيذها وسقوطها فيراجع التعليق عليها في المواد من 194 إلى 200.
ويتعين ملاحظة أن قاضي التنفيذ هو المختص وحده بإصدار الأوامر علي العرائض بصدد التنفيذ وفقاً لما تقرره المادة 275 مرافعات. ( التعليق على قانون المرافعات، المستشار/ عز الدين الديناصوري والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات وتحديث أحكام النقض للأستاذ/ خيرت راضي المحامي بالنقض، الطبعة 2017 دار المطبوعات الجامعية، الجزء : الأول ، الصفحة : 406 )
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث والثلاثون ، الصفحة / 282
قَضَاء
التَّعْرِيفُ:
- مِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ، قَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْقَاضِي مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ:
الْقَاطِعُ لِلأْمُورِ الْمُحَكَّمِ لَهَا. وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالْفَصْلُ، يُقَالُ: قَضَى يَقْضِي قَضَاءً فَهُوَ قَاضٍ إِذَا حَكَمَ وَفَصَلَ.
وَيَأْتِي فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِضَاءِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ: يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَالصُّنْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أَيْ خَلَقَهُنَّ وَصَنَعَهُنَّ، وَعَلَى الْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) مَعْنَاهُ فَاعْمَلْ مَا أَنْتَ عَامِلٌ.
وَعَلَى الْحَتْمِ وَالأْمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أَيْ أَمَرَ رَبُّكَ وَحَتَّمَ.
وَعَلَى الأْدَاءِ تَقُولُ: قَضَيْتُ دَيْنِي أَيْ أَدَّيْتُهُ وَمِنْهُ قوله تعالى : (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ) أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا.
وَعَلَى الإْبْلاَغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأْمْرَ) أَيْ أَبْلَغْنَاهُ ذَلِكَ.
وَعَلَى الْعَهْدِ وَالْوَصِيَّةِ وَمِنْهُ قوله تعالى : (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ عَهِدْنَا وَأَوْصَيْنَا.
وَعَلَى الإْتْمَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أَيْ أَتْمَمْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ.
وَعَلَى بُلُوغِ الشَّيْءِ وَنَوَالِهِ تَقُولُ: قَضَيْتُ وَطَرِي أَيْ بَلَغْتُهُ وَنِلْتُهُ، وَقَضَيْتُ حَاجَتِي كَذَلِكَ.
وَالْقَضَاءُ الْمُقْتَرِنُ بِالْقَدَرِ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الإْلَهِيِّ فِي أَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الأْحْوَالِ الْجَارِيَةِ فِي الأْزَلِ إِلَى الأْبَدِ.
وَالْقَضَاءُ فِي الإْصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ، وَزَادَ ابْنُ عَابِدِينَ: عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ، حَتَّى لاَ يَدْخُلَ فِيهِ نَحْوُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ.
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: الإْخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الإْلْزَامِ.
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: إِلْزَامُ مَنْ لَهُ إِلْزَامٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالإْلْزَامُ بِهِ وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ.
- وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ (الْقَضَاءِ) فِي غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِبَادَاتِ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى فِعْلِهَا خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا وَيُنْظَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ، (صَوْم ف 86 - 89، وَحَجّ ف 123، وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ).
كَمَا اسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ (قَضَاءُ الدَّيْنِ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى سَدَادِ الدَّيْنِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (دَيْن ف 70، وَأَدَاء ف 29).
وَاسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى آدَابِ التَّخَلِّي. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اسْتِتَار ف 7، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ).
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَتْوَى:
- الْفَتْوَى وَالْفُتْوَى وَالْفُتْيَا فِي اللُّغَةِ: مَا أَفْتَى بِهِ الْفَقِيهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِلسَّائِلِ عَنْهُ.
فَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الإْلْزَامِ، وَالْفَتْوَى مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ، فَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي إِظْهَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْوَاقِعَةِ، وَيَمْتَازُ الْقَضَاءُ عَنِ الْفَتْوَى بِالإْلْزَامِ.
ب - التَّحْكِيمُ:
- التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الأْمْرِ وَالشَّيْءِ أَيْ: جَعَلَهُ حَكَمًا، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِلَيْهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ: أَنَّ الْقَضَاءَ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَالتَّحْكِيمُ تَوْلِيَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، فَهُوَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْهُ.
ج - الْحِسْبَةُ:
- الْحِسْبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِحْتِسَابِ وَمِنْ مَعَانِيهَا: الأْجْرُ، وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلاَنٌ حَسَنُ الْحِسْبَةِ فِي الأْمْرِ إِذَا كَانَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ لَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا الأْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْقَضَاءِ: أَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ فِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُحْتَسِبِ وَالْقَاضِي نَظَرُ أَنْوَاعٍ مَخْصُوصَةٍ مِنَ الدَّعَاوَى وَهِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمُنْكَرٍ ظَاهِرٍ مِنْ بَخْسِ أَوْ تَطْفِيفِ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ، وَغِشِّ الْبَيْعِ أَوْ تَدْلِيسٍ فِيهِ أَوْ فِي ثَمَنِهِ، وَالْمَطْلُ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مُكْنَةِ الْوَفَاءِ.
وَتَقْصُرُ الْحِسْبَةُ عَنِ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِسَمَاعِ عُمُومِ الدَّعَاوَى الْخَارِجَةِ عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُنْكَرَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُهُ التَّجَاحُدُ وَالتَّنَاكُرُ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ النَّظَرُ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةً عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقِّ أَوْ يَحْلِفَ يَمِينًا عَلَى نَفْيِهِ.
وَتَزِيدُ الْحِسْبَةُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي أَنَّ الْمُحْتَسِبَ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الأْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ يَسْتَعْدِيهِ بِخِلاَفِ الْقَاضِي، كَمَا أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ بِمَا لَهُ مِنْ قُوَّةِ السُّلْطَةِ وَالرَّهْبَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُنْكَرَاتِ أَنْ يُظْهِرَ الْغِلْظَةَ وَالْقُوَّةَ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْهُ تَجَوُّزًا وَلاَ خَرْقًا لِوِلاَيَتِهِ، أَمَّا الْقَضَاءُ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِلْمُنَاصَفَةِ، فَهُوَ بِالْوَقَارِ وَالأْنَاةِ أَخَصُّ.
د - وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ:
- الْمَظَالِمُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَظْلَمَةٍ، يُقَالُ: ظَلَمَهُ يَظْلِمُهُ ظُلْمًا وَظَلْمًا وَمَظْلِمَةً، وَيُقَالُ: تَظَلَّمَ فُلاَنٌ إِلَى الْحَاكِمِ مِنْ فُلاَنٍ فَظَلَّمَهُ تَظْلِيمًا أَيْ أَنْصَفَهُ مِنْ ظَالِمِهِ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَوَدُ الْمُتَظَالِمِينَ إِلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ وَزَجْرِ الْمُتَنَازِعِينَ عَنِ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ، وَوَالِي الْمَظَالِمِ لَهُ مِنَ النَّظَرِ مَا لِلْقُضَاةِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُمْ مَجَالاً، وَأَعْلَى رُتْبَةً، إِذِ النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، وَهِيَ وِلاَيَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ السُّلْطَةِ، وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
- الْقَضَاءُ مَشْرُوعٌ وَثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وَقَوْلُهُ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، وَقَدْ «تَوَلاَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَبَعَثَ عَلِيًّا إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَبَعَثَ مُعَاذًا قَاضِيًا» كَمَا تَوَلاَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ وَبَعَثُوا الْقُضَاةَ إِلَى الأْمْصَارِ.
وَأَمَّا الإْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَصْبِ الْقُضَاةِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ.
- وَالأْصْلُ فِي الْقَضَاءِ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الصَّالِحُ لَهُ سَقَطَ الْفَرْضُ فِيهِ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنِ امْتَنَعَ كُلُّ الصَّالِحِينَ لَهُ أَثِمُوا.
أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، وَلأِنَّ طِبَاعَ الْبَشَرِ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّظَالُمِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ وَقَلَّ مَنْ يُنْصِفُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلاَ يَقْدِرُ الإْمَامُ عَلَى فَصْلِ الْخُصُومَاتِ بِنَفْسِهِ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَوْلِيَةِ الْقُضَاةِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلأِنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَهُمَا عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَالْقَضَاءُ مِنَ الْقُرَبِ الْعَظِيمَةِ، فَفِيهِ نُصْرَةُ الْمَظْلُومِ وَأَدَاءُ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَرَدُّ الظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَالإْصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَخْلِيصُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْفَسَادِ.
- وَالْقَضَاءُ تَعْتَرِيهِ الأْحْكَامُ الْخَمْسَةُ:
فَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ إِذَا طُلِبَ لَهُ، لَكِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ سِوَاهُ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ عَنِ الْقَبُولِ يَأْثَمُ كَمَا فِي سَائِرِ فُرُوضِ الأْعْيَانِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ قَبُولُ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ يَخَافُ فِتْنَةً عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ إِنْ لَمْ يَتَوَلَّ، أَوْ مَنْ يَخَافُ ضَيَاعَ الْحَقِّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ إِنِ امْتَنَعَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَإِنْ عُرِضَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَالأْفْضَلُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اقْتِدَاءً بِالأْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صلوات الله عليهم وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم، وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأْفْضَلُ تَرْكُهُ.
وَيُنْدَبُ لَهُ الْقَبُولُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَصْلُحُ وَلَكِنَّهُ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْقَبُولُ إِذَا كَانَ عَالِمًا فَقِيرًا لِيَسُدَّ خُلَّتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ كَانَ عَالِمًا خَامِلَ الذِّكْرِ لِيَنْتَشِرَ عِلْمُهُ وَيُنْتَفَعَ بِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقَضَاءِ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا كَانَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، وَالاِجْتِهَادِ، وَيُوجَدُ غَيْرُهُ مِثْلُهُ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَسُئِلَ بِلاَ طَلَبٍ، فَلَهُ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ بِحُكْمِ حَالِهِ وَصَلاَحِيَّتِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ؛ لأِنَّهُ قَدْ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْقَضَاءِ مُخْتَارًا رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ لاَ يُوَفَّقُ لَهُ.
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ تَحْصِيلَ الْجَاهِ وَالاِسْتِعْلاَءَ عَلَى النَّاسِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنْ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَكَانَ مَشْهُورًا لاَ يَحْتَاجُ أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ وَعِلْمَهُ بِالْقَضَاءِ، أَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ مِنْهُ لِلْقَضَاءِ.
وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ تَوَلِّي الْقَضَاءِ إِذَا كَانَ جَاهِلاً لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، أَوْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ وَظَائِفِهِ، أَوْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ، أَوْ كَانَ قَصْدُهُ الاِنْتِقَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ، أَوْ أَخْذَ الرِّشْوَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَخَافُ الْحَيْفَ فِيهِ، بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ قَدْ يَجُورُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ يَرَى فِي نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ سَمَاعِ دَعَاوَى كُلِّ الْخُصُومِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ أَمِنَ الْخَوْفَ فَلاَ يُكْرَهُ.
- وَيَجِبُ عَلَى الإْمَامِ أَنْ يَنْصِبَ الْقُضَاةَ فِي الْبُلْدَانِ؛ لأِنَّ الإْمَامَ هُوَ الْمُسْتَخْلَفُ عَلَى الأْمَّةِ وَالْقَائِمُ بِأَمْرِهَا، وَالْمُتَكَلِّمُ بِمَصْلَحَتِهَا، وَالْمَسْئُولُ عَنْهَا، فَتَقْلِيدُ الْقُضَاةِ مِنْ جِهَتِهِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ وِلاَيَتِهِ؛ وَلأِنَّ التَّقْلِيدَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِ.
حِكْمَةُ الْقَضَاءِ:
- الْحِكْمَةُ مِنَ الْقَضَاءِ: رَفْعُ التَّهَارُجِ وَرَدُّ النَّوَائِبِ، وَقَمْعُ الظَّالِمِ وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ، وَقَطْعُ الْخُصُومَاتِ، وَالأْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِيهِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَحَلِّهِ، لِيَكُفَّ الظَّالِمُ عَنْ ظُلْمِهِ.
الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ:
- إِذَا كَانَتْ وِلاَيَةُ الْقَاضِي خَاصَّةً فَهِيَ مَقْصُورَةُ النَّظَرِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ، كَمَنْ جُعِلَ لَهُ الْقَضَاءُ فِي بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأْحْكَامِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ بِالإْقْرَارِ دُونَ الْبَيِّنَةِ، أَوْ فِي الدُّيُونِ دُونَ قَضَايَا النِّكَاحِ، أَوْ فِي مِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ، فَيَصِحُّ التَّقْلِيدُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لأِنَّهَا وِلاَيَةٌ، فَصَحَّتْ عُمُومًا وَخُصُوصًا كَالْوَكَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ يَقْبَلُ التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ وَيَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْخُصُومَةِ، فَلَوْ أَمَرَ وَلِيُّ الأْمْرِ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى عِنْدَ الإْنْكَارِ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ تُسْمَعْ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْقَاضِي لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَلَوْ جَعَلَ وِلاَيَةَ الْقَاضِي مَقْصُورَةً عَلَى الْحُكْمِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ اسْتَمَرَّتْ وِلاَيَتُهُ عَلَيْهِمَا بَاقِيَةً مَا كَانَ التَّشَاجُرُ بَيْنَهُمَا بَاقِيًا، فَإِذَا بَتَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا زَالَتْ وِلاَيَتُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُحَدِّدَ عَمَلَ الْقَاضِي بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الأْسْبُوعِ، كَأَنْ يُقَلَّدَ النَّظَرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ خَاصَّةً فَيَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْخُصُومِ، فَإِذَا خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ تَزُلْ وِلاَيَتُهُ لِبَقَائِهَا عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الأْيَّامِ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ النَّظَرِ فِيمَا عَدَاهُ.
تَعَدُّدُ الْقُضَاةِ:
- يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ الإْمَامُ قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَيَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعٍ، بِأَنْ يُوَلِّيَ أَحَدَهُمْ عُقُودَ الأْنْكِحَةِ، وَالآْخَرَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ، وَآخَرَ النَّظَرَ فِي الْعَقَارِ، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا وَلَّى قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَمَلاً وَاحِدًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ الْقَاضِيَانِ فِي قَضِيَّةٍ، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ قَالُوا: لاَ يَجُوزُ، لأِنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فَلاَ تَنْفَصِلُ الْحُكُومَةُ، وَقَدْ نَصَّتْ مَجَلَّةُ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لأِحَدِ الْقَاضِيَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ لاِسْتِمَاعِ الدَّعْوَى أَنْ يَسْتَمِعَ تِلْكَ الدَّعْوَى وَحْدَهُ وَيَحْكُمَ بِهَا، وَإِذَا فَعَلَ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلإْمَامِ نَصْبُ قُضَاةٍ مُتَعَدِّدِينَ يَسْتَقِلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَاحِيَةٍ يَحْكُمُ فِيهَا بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْفِقْهِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حُكْمِ الآْخَرِ، أَوْ قُضَاةٍ مُتَعَدِّدِينَ يَسْتَقِلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبَلَدٍ أَوْ خَاصٍّ بِنَاحِيَةٍ أَوْ نَوْعٍ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الاِسْتِقْلاَلِ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّشْرِيكُ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ، بَلْ وَلَوْ كَانَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حُكْمِ صَاحِبِهِ؛ لأِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يَكُونُ نِصْفَ حَاكِمٍ، وَصَرَّحَ ابْنُ فَرْحُونَ بِعَدَمِ صِحَّةِ عَقْدِ الْوِلاَيَةِ لِحَاكِمَيْنِ مَعًا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا وَيَتَّفِقَا عَلَى الْحُكْمِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَدْ شُرِطَ فِي عَقْدِ وِلاَيَتِهِمَا.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الأْصَحُّ - جَوَازُ وِلاَيَةِ الْقَاضِيَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُخَصِّصِ الإْمَامُ كُلًّا مِنَ الْقَاضِيَيْنِ بِمَكَانٍ أَوْ نَوْعٍ أَوْ زَمَانٍ، وَصَحَّحَهُ الإْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ إِلاَّ أَنْ يُشْتَرَطَ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْحُكْمِ فَلاَ يَجُوزُ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْخِلاَفِ فِي مَحَلِّ الاِجْتِهَادِ، فَلاَ تَنْفَصِلُ الْخُصُومَاتُ وَقَالُوا: لَوْ وَلَّى الإْمَامُ مُقَلِّدَيْنِ لإِمَامٍ وَاحِدٍ - عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَوْلِيَةِ الْمُقَلِّدِ - فَيَجُوزُ وَإِنْ شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلاَفٍ؛ لأِنَّ إِمَامَهُمَا وَاحِدٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ لإِمَامِهِمَا قَوْلاَنِ؛ لأِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيَحْكُمُ بِأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْجَوَازِ؛ لأِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِيقَافِ الْحُكْمِ وَالْخُصُومَاتِ، لأِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الاِجْتِهَادِ، وَيَرَى أَحَدُهُمَا مَا لاَ يَرَى الآْخَرُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ جَوَازُ التَّوْلِيَةِ إِذَا كَانَ الْقَاضِيَانِ لاَ يَشْتَرِكَانِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا خَلِيفَتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالإْمَامُ أَوْلَى لأَنْ يُوَلِّيَ قَاضِيَيْنِ لأِنَّ تَوْلِيَتَهُ أَقْوَى؛ وَلأِنَّ كُلَّ حَاكِمٍ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلآْخَرِ الاِعْتِرَاضُ عَلَيْهِ، وَلاَ نَقْضُ حُكْمِهِ فِيمَا خَالَفَ اجْتِهَادَهُ.
وَإِذَا تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي الرَّفْعِ لأِحَدِ الْقُضَاةِ - فِي حَالِ تَعَدُّدِهِمْ - فَهَلِ الْقَوْلُ لِلْمُدَّعِي أَوْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَى ف 15 - 16).