تعالج المادة 30 من المشروع حالات ينعقد فيها الاختصاص لمحاكم الجمهورية على الرغم من أن المدعى عليه الاجنبي ليس له موطن أو محل اقامة في الجمهورية وأولى هذه الحالات إختصاص محاكم الجمهورية متى كان للمدعى عليه موطن مختار فيها وبديهي أن يقتصر هذا الإختصاص على المنازعات المتعلقة بما اتخذ هذا الموطن في شأنه من علاقات وحكم هذه الفقرة منقول عن المادة 3 من قانون المرافعات الحالي .
ويعقد البند الثاني من هذه المادة الإختصاص لمحاكم الجمهورية إذا كانت الدعوى متعلقة بمال موجود في الجمهورية أو كانت متعلقة بالتزام نشأ او نفذ أو كان واجباً تنفيذه فيها أو كانت متعلقة بإفلاس شهر فيها وحكمها منقول عن المادة 3 من القانون القائم.
وتقابل البنود 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 6 من المادة 20 من المشروع البنود أ، ب، ج، د، هـ من المادة 861 والمادة 860 فقرة أولى من القانون القائم وقد جاء نص المشروع أكثر بياناً في ضبط الحكم من حيث المقصود بالإقامة فعبر عنها بالموطن حيث يكون المراد هو مجرد الإقامة التي لا تكون موطناً طبقاً للقواعد الواردة في القانون المدني .
ويقرر البند التاسع من تلك المادة قاعدة منح الاختصاص لمحاكم الجمهورية بناء على تعدد المدعى عليهم وهو ضابط مسلم في فقه القانون الدولي الخاص فمتى تعدد المدعى عليهم وكان لأحدهم موطن أو محل إقامة في الجمهورية اختصت محاکمها بالنسبة للباقين ويتحدد معنى التعدد طبقاً للقانون الوطني ويجب أن يكون التعدد حقيقياً .
1- إن الحكم بعدم اختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعوى لا يترتب عليه انقضاء الحق الذي رفعت به وإلا كان إنكارا لحق المدعيين في العدالة والانتصاف ، وترك الضرر يستقر حيثما وقع دون أن تتحمل الدولة المعتدية مسئولية ما ترتب على عدوانها ، وهو ما يشكل ظلما بينا للمدعيين ، فإن هذا الحكم لا يحول بينهم وبين مطالبة الحكومة المصرية بوصفها الهيئة التنفيذية والإدارية العليا والممثل الوحيد للدولة والمعبر عن سيادتها في علاقتها بأشخاص القانون الدولي ، باتخاذ جميع الإجراءات الضرورية اللازمة على الصعيد الدولي وسلوك كافة السبل التي توفرها قواعد القانون الدولي بما يكفل الحصول للمدعيين على حقهم في التعويض عن الأضرار التي حاقت بهم من جراء قتْل القوات الفرنسية لمورثهم بعد أسره بالمخالفة لاتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولات الملحقة بها وقواعد العرف الدولي الآمرة – على ما سلف بيانه – ، ذلك أن السعي الجاد لحماية حقوق المواطنين من عدوان دولة أجنبية لا يدخل في نطاق وظيفتها ومسئوليتها السياسية كسلطة تنفيذية فحسب ، بل يمثل التزاما أخلاقيا وإنسانيا ، فضلا عن أنه التزامٌ دستوريٌ وقانونيٌ على عاتق الدولة ، مما لا سبيل إلى إنكاره أو النكول به ، فهي كما تفرض سيادتها عن طريق أعمال السيادة التي لا تخضع لرقابة القضاء ، يجب أنْ تبْسط حمايتها على مواطنيها من كل عسف أو عدوان على حقوقهم سواء كان المعتدي من داخل الدولة أو خارجها ، وهو ما يأتي في صدارة واجبات الحكومة وأسمى وظائفها .
( الطعن رقم 2703 لسنة 87 ق - جلسة 15 / 6 / 2020 )
2- الاتفاقيات الدولية الجماعية لا تلزم إلا الدول أطرافها في علاقتها المتبادلة ، وهي الدول التي صدقت عليها علي النحو الذي يحدده تشريعها الداخلي وقامت بإيداع هذا التصديق بالطريقة التي توجبها كل اتفاقية ، بما مؤداه ، أن الدول التي لم تنضم إلي اتفاقية جماعية معينة تخضع في علاقاتها المتبادلة وفي علاقاتها مع الدول التي انضمت إليها للقواعد المقررة في القانون الدولي ، دون تلك التي نصت عليها الاتفاقية ، إذ لا يتصور أنْ تنشئ الاتفاقية التزامات أو حقوقا للدول غير الأطراف بدون موافقتها ، احتراما لسيادة تلك الدول ، كما أنه من غير المقبول أن تستفيد دولة من أحكام اتفاقية ليست طرفا فيها .
( الطعن رقم 2703 لسنة 87 ق - جلسة 15 / 6 / 2020 )
3- إذ كان الطاعنون قد أقاموا دعواهم على سفير فرنسا بصفته الممثل القانوني لها ، بطلب التعويض عما لحقهم من أضرار بسبب قتل القوات الفرنسية مورثهم الضابط بالجيش المصري بعد أسره من هذه القوات خلال الحرب العدوانية التي شاركت فيها عام 1956 ، وبرغم أن المستندات المقدمة من الطاعنين وخاصة كتاب مفوض الهيئة الدولية للصليب الأحمر المؤرخ 29 / 4 / 1975 ، وكذلك الصادرة من وزارة الدفاع المصرية والشهادة التي تفيد منْح المورث نجمة الشرف فضلا عما ساقوه من قرائن يقْطع جميعها باستشهاده علي يد القوات الفرنسية بعد أسره ، ... ، وبرغم ثبوت مخالفة القوات الفرنسية لأحكام اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها - على النحو السالف البيان - بما يستوجب مسئولية الدولة الفرنسية عما قارفته قواتها المسلحة في حق مورث الطاعنين ، إلا أن الحصانة القضائية التي تتمتع بها الدولة الفرنسية تعفيها من الخضوع لولاية المحاكم المصرية ، ولا يؤثر في ذلك انضمام الدولة الفرنسية إلى اتفاقية الأمم المتحدة لحصانات الدول وممتلكاتها من الولاية القضائية التي نشرتْ وفتحت للتوقيع بموجب قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 2 / 12 / 2004 التي نصت في المادة 12 منها علي أنه ... ، لكل ما تقدم بيانه آنفا ، فإن هذه المحكمة لا تملك سوى تقرير عدم اختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعوى والوقوف عند هذا الحد ، باعتبار ... ، فإن الحكم المطعون فيه إذ انطوى قضاؤه في موضوع الدعوى على قضاء ضمني باختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعوى ، فإنه يكون معيبا بمخالفة القانون ، بما يوجب نقضَه وإلغاء الحكم المستأنف والقضاء بعدم اختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعوى .
( الطعن رقم 2703 لسنة 87 ق - جلسة 15 / 6 / 2020 )
4- النص فى المادة 30 من قانون المرافعات قد جرى على أنه " تختص محاكم الجمهورية بنظر الدعاوى التى ترفع على الأجنبى الذى ليس له محل إقامة فى الجمهورية وذلك فى الأحوال الآتية (1) …… (2) إذا كانت الدعوى متعلقة بمال موجود فى الجمهورية أو كانت متعلقة بالتزام نشأ أو نفذ أو كان واجباً تنفيذه فيها …. " وكان الثابت بالأوراق ووثيقة التأمين أن عقد التأمين قد حرر فى مصر وأن التأمين على الخيول يبدأ من رحلتها من القاهرة إلى نيويورك ومن ثم فإن التزام الشركة الطاعنة يكون قد نشأ فى مصر ونفذ فى جزء منه فيها ومن ثم فإن القضاء المصرى يكون مختصاً بنظر الدعوى المتعلقة بهذا الالتزام ويكون الحكم المطعون فيه إذ قضى برفض الدفع بعدم اختصاص القضاء المصرى وباختصاصه قد التزم صحيح القانون .
( الطعن رقم 7335 لسنة 65 ق - جلسة 2006/06/08 - س 57 ص 554 ق 107 )
5- المادة 2/30 مرافعات تنص على (تختص محاكم الجمهورية بنظر الدعاوى التي ترفع على الأجنبي الذي ليس له موطن أو محل إقامة فى الجمهورية وذلك فى الأحوال الآتية : 1-...........، 2- إذا كانت الدعاوى متعلقة بمال موجود فى الجمهورية أو............. " ، وكان الحكم المطعون فيه قد أقام فضاءه بقبول الدفع المبدي من المطعون ضده بعدم اختصاص المحاكم المصرية بنظر النزاع مؤيدا ما انتهى إليه الحكم المستأنف فى قضائه بعدم الاختصاص على سند من أن السفينة المطلوب تثبيت الحجز التحفظي عليها غير موجودة فى مصر ، فلا عليه إذ لم يعرض لما أثارته الطاعنة من أن الحكم المطعون فيه اكتفى ببحث مدى سقوط أو عدم سقوط حق المطعون ضده فى التمسك بالدفع بعدم الاختصاص دون أن يعرض لصحة الدفع أو عدم صحته من حيث توافر الاختصاص أو عدم توافره إذ أنه دفاع غير مؤثر فيما انتهى إليه الحكم سديداً وبالتالي فإن النعي غير مقبول .
( الطعن رقم 145 لسنة 62 ق - جلسة 2000/05/15 - س 51 ع 2 ص 678 ق 124 )
6- تمتع الشخص الطبيعى أو الإعتبارى الأجنبى بالحصانة القضائية وعدم الخضوع للقضاء الوطنى يمنع من إختصاص المحاكم المصرية ولائياً بنظر المنازعات الصادر في شأنها هذا الإعفاء ولو كانت لهذا الشخص إقامة في مصر وأن ما ورد في المواد من 29 - 35 من قانون المرافعات الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968من اختصاص محاكم الجمهورية بنظر الدعاوى التى ترفع على الأجنبي المقيم في مصر إنما يمثل الإطار العام الوارد في هذا القانون وبديهى أن يخرج عن هذا النطاق ما استثنى منه بقوانين خاصة تعفى الأجنبى من الخضوع للقضاء الوطنى سواء كانت تلك القوانين سابقة أو لاحقة على صدور قانون المرافعات إذ أن المقرر أن القانون العام لا يلغى قانوناً خاصاً إلا إذا نص على ذلك صراحة ومن أمثلة ذلك القوانين الصادرة بالموافقة على الإتفاقات والمعاهدات الدبلوماسىة من الخضوع للقضاء الإقليمى والقوانين الصادرة بالموافقة على الإتفاقيات والمعاهدات الدولية التى تقضى باختصاص القضاء المصرى بنظر الدعاوى التى ترفع على الأجنبى المقيم في مصر أو له محل إقامة مختار بها لما تتمتع به الهيئة المطعون ضدها من إعفاء من الخضوع للقضاء الإقليمى وارد على سبيل الحصر في الاتفاقية المعقودة بينهما وبين سلطة تشريعية في ذلك الوقت فأصبحت قانون المرافعات طالما لم ينص القانون الأخير على إلغائها .
( الطعن رقم 2248 لسنة 53 ق - جلسة 9 / 12 / 1993 )
7- مؤدى نص المادة 30 من قانون المرافعات وعلى ما أفصحت عنه المذكرة الإيضاحية أن المشرع عقد الاختصاص للمحاكم المصرية فى الدعاوى التى ترفع على الأجنبى الذى ليس له موطن أو محل إقامة فى مصر إذا كان لأحد المدعى عليهم موطن أو محل إقامة فيها، وأن معنى التحدى يتحدد طبقاً للقانون الوطنى أنه يجب أن يكون التعدد حقيقياً وليس صورياً بأن توجه إليهم طلبات فى الدعوى وهو يكون غير حقيقى إذ ما كان إختصام الخاضع لولاية القضاء المصرى حاصلاً لمجرد مد هذه الولاية إلى من لا يخضعون لها بأن يكون إختصامهم ليصدر الحكم فى مواجهتهم أو لمجرد المثول فيها لما كان ذلك وكان المطعون عليهما الأول والثانى إختصما الطاعنين وهما أجنبيان - والمطعون عليهم من الثالث إلى الأخير وهم مصريون للحكم بإلزامهم جميعاً متضامنين بالتعويض المطالب به وذلك على سند من أن الطاعن الأول صاحب إدارة المبانى التجارى والطاعن الثانى والمطعون عليهما الثالث والخامس أعضاء بها والمطعون عليه الرابع موظف لدى المطعون عليهما الأول والثانى وجميعهم ساهم فى الأفعال التى أدت إلى واقعة سحب البيانات أساس دعوى التعويض وتعتبر تعددهم فى الخصومة تعدداً حقيقاً وليس صورياً وإذا وجهت إلى المطعون عليهم من الثالث إلى الأخير طلبات فى الدعوى كمسئولين أصليين وكان لهؤلاء الأخيرين محل إقامة فى مصر فينعقد الإختصاص بنظر الدعوى للمحاكم المصرية .
( الطعن رقم 641 لسنة 60 ق - جلسة 1991/04/28 - س 42 ع 1 ص 939 ق 154 )
8ـ لما كانت المادة 30 من قانون المرافعات تنص بأنه [ تختص محاكم الجمهورية بنظر الدعاوى التى ترفع على الأجنبى الذى ليس له موطن أو محل إقامة فى الجمهورية وذلك فى الأحوال الآتية : 1- ... ... 2- إذا كانت الدعوى متعلقة بمال موجود فى الجمهورية أو كانت متعلقة بإلتزام نشأ أو نفذ أو كان واجباً تنفيذه فيها ... ] وكان لا يجوز الخروج من إختصاص المحاكم المصرية الثابت لها وفقاً للقانون المصرى لأن الدولة هى التى ترسم حدود ولاية القضاء فيها مقدرة فى ذلك أن أداء العدالة مصلحة عامة لا يمكن تحققها إلا بواسطة محاكمها التى ترى أنها دون غيرها جديرة بأن تكفل هذه الغاية و كان الثابت فى الأوراق أن الدعوى متعلقة بإلتزام نفذ فى مصر فإن القضاء المصرى يكون مختصاً بنظرها رغم إتفاق الخصوم فى عقد العمل على إختصاص المحاكم السويسرية بنظر ما قد ينشأ عن العقد من منازعات وإذ كان ذلك ، وكان الحكم الصادر من محكمة أول درجة فى 1979/12/18 المؤيد بالحكم المطعون فيه قد خلص إلى هذه النتيجة الصحيحة . و قضى برفض الدفع بعدم إختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعوى فإن النعى عليه بهذا السبب يكون على غير أساس .
( الطعن رقم 1932 لسنة 51 ق - جلسة 1982/05/03 - س 33 ع 1 ص 470 ق 85 )
حالات الاختصاص بدعاوى الأجانب غير المقيمين :
تختص المحاكم المصرية بنظر الدعاوي التي ترفع علي الأجنبي الذي ليس له موطن أو محل إقامة في مصر وذلك في الأحوال الآتية :
1- وجود موطن مختار :
تختص المحاكم المصرية إذا كان للأجنبي في مصر موطن مختار، ويستوي أن يكون الأجنبي شخصاً طبيعياً أو إعتبارياً طالما أنه اختار له في مصر موطناً، وقد يتعلق هذا الموطن بعمل قانوني كرفع دعوي أمام القضاء المصري وحينئذ تختص المحاكم المصرية بالدعاوي التي تترتب علي هذا العمل، كدعوي التعويض التي قد تترتب على الدعوي الأولي ودعوي المخاصمة وقد يتعلق الموطن بعمل تجاري وحينئذ تختص المحاكم المصرية بالدعاوي التي تترتب علي هذا العمل.
ويقتصر هذا الاختصاص علي الدعاوي التي تنشأ عن العمل الذي اتخذ الموطن المختار لمباشرته ، فإن رفعت دعوي علي الأجنبي لا علاقة لها بالعمل المشار اليه كانت المحاكم المصرية غير مختصة ، فإن لم يحضر قضت المحكمة من تلقاء نفسها بعدم اختصاصها دولياً بنظر الدعوي، أما إن حضر وكيله وقبل اختصاصها صراحة أو ضمناً استمرت في نظرها.
واتخاذ الأجنبي موطناً مختاراً في مصر لا يحول دون رفع الدعوي عليه أمام محاكم موطنه الأصلي في الخارج، إذ يترتب على اتخاذ موطن مختار في مصر أن يصبح الاختصاص مشتركاً بين محاكم دولة الموطن الأصلي ومحاكم دولة الموطن المختار.
ويتحمل المدعي اثبات الموطن المختار للأجنبي في مصر، فإن أعلنه بصحيفة الدعوي في المحل الذي قرر أنه الموطن المختار، ولم يحضر أحد عن المدعي عليه الأجنبي، فلا تقضي المحكمة في هذه الحالة بعدم اختصاصها إنما تستمر في نظر الدعوي وتكلف المدعي اعادة الاعلان ثم تتصدي للموضوع
2 - تعلق الدعوى بمال موجود في مصر تختص المحاكم المصرية اذا كانت الدعوي متعلقة بمال موجود في مصر، أو كانت الدعوي متعلقة بالتزام نشأ أو نفذ أو كان واجباً تنفيذه فيها، أو كانت متعلقة بافلاس أشهر فيها.
ومفاد ذلك، أن الاختصاص ينعقد للمحاكم المصرية وحدها بكل دعوي ترفع علي الأجنبي تتعلق بمال موجود في مصر، والمال الذي يعنيه النص هو كل شئ له قيمة مالية، سواء كان المال مادياً أو معنوياً ، فينصرف الي العقار والمنقول وحق الشفعة وحق النشر عن مؤلف يتم توزيعه في مصر، وتنفيذ الحكم الأجنبي المتعلق بهذا المال في مصر لتعلق ذلك بالأمن المدني.
كما ينعقد الاختصاص لتلك المحاكم اذا تعلقت الدعوي بالتزام نشأ في مصر، سواء كان الالتزام ناشئاً عن تصرف قانوني أو عن فعل غير مشروع، فكل الدعاوي المتعلقة بالتصرف القانوني كطلب تنفيذه أو فسخه أو ابطاله أو صحته أو نفاذه أو التعويض عن التأخر في تنفيذه ترفع أمام المحاكم المصرية، كما ترفع أمامها دعوي التعويض عن الفعل غير المشروع إذ يترتب على هذا الفعل نشوء الالتزام بالتعويض، وللمضرور رفعها تبعاً للدعوى الجنائية أن تضمن الفعل جريمة أو مستقلة أمام المحكمة المدنية التي نشأ الالتزام بدائرتها، فإن كان الالتزام ينفذ في الخارج كان الاختصاص بالمنازعات الناشئة عنه مشتركاً بين المحاكم المصرية ومحاكم محل التنفيذ ويكون الحكم الصادر منها جائزاً تنفيذه في مصر.
فإن كان التصرف القانوني نشأ في الخارج، فلا تختص المحاكم المصرية بالدعوي المتعلقة به الا اذا تم تنفيذه كلياً أو جزئياً في مصر، فإن لم يبدأ التنفيذ فيها فلا تختص هذه المحاكم إلا إذا كان هذا الالتزام واجباً تنفيذه فيها ويمكن التعرف علي ذلك من بنود التعاقد أو من ظروف وقصد المتعاقدين كما اذا تضمن العقد نقل المعدات إلي مصر والتزام أحد المتعاقدين بتوفير الأيدي العاملة بها وهو ما يدل على أن الالتزام واجب تنفيذه بها.
وتختص المحاكم المصرية كذلك بالدعاوي المتعلقة بافلاس أشهر في مصر، كالدعوي التي يرفعها وكيل الدائنين علي الأجنبي لالزامه بسداد ما في ذمته للتفليسة، ودعوي بطلان التصرف الصادر من المفلس للأجنبي لصدوره في فترة الريبة، وكل دعوي أخري يرفعها وكيل الدائنين علي الأجنبي متعلقة بالتفليسة ويظل هذا الاختصاص منعقداً إلي أن تغلق التفليسة. ومتي كان الدين باعتباره منقولاً معنوياً مستحقاً في مصر كان الاختصاص للمحاكم المصرية وحدها .
3 - المعارضة في عقد زواج :
ويجوز لكل ذي مصلحة في عدم اتمام هذا التوثيق أن يرفع دعوى ضد الأجنبي والزوجة المصرية معارضاً في عقد الزواج مع اختصام وزير العدل بصفته الرئيس الأعلي للشهر العقاري والتوثيق، وينعقد الاختصاص بها للمحاكم المصرية ، كما يجوز للزوجة نفسها رفعها لانتفاء الشروط التي تطلبتها المادة الخامسة سالفة البيان أو لتوافر سبب من أسباب الفسخ أو البطلان المتعلقة بعقد الزواج
4 -فسخ الزواج أو التطليق أو الانفصال :
تختص المحاكم المصرية بالدعاوي التي ترفع علي الأجنبي بطلب فسخ الزواج أو بالتطليق أو بالانفصال متي كانت المدعية زوجة فقدت جنسيتها المصرية بسبب زواجها من المدعي عليه بشرط أن يكون لها موطن في مصر، بأن تكون لها اقامة عادية ومستقرة فيها وقت رفع الدعوي وأن يظل هذا الموطن قائماً حتي صدور حكم نهائي في الموضوع باعتبار أن وجود الموطن شرط ابتداء وشرط انتهاء لقبول الدعوي.
كما ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية اذا كانت الدعوي مرفوعة من زوجة أجنبية ضد زوجها الأجنبي وكان لهما موطن في مصر وبعد قيام السبب الذي يخول للزوجة طلب فسخ الزواج أو التطليق أو الانفصال الجسماني هجر الزوج زوجته واتخذ موطناً له في الخارج، أما اذا هجر الزوج الأجنبي زوجته الأجنبية واتخذ له موطناً في الخارج ثم قام سبب الفسخ أو التطليق أو الانفصال بعد هذا الهجر، فإن الاختصاص لا ينعقد للمحاكم المصرية، وتتحمل الزوجة عبء اثبات أن الهجر كان بعد قيام هذا السبب حتي ينعقد هذا الاختصاص للمحاكم المصرية، ويكون ذلك بكافة طرق الاثبات المقررة قانوناً ، فإن عجزت عن ذلك قضت المحكمة بعدم اختصاصها دولياً بنظر الدعوي دون احالة.
كما ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية اذا كان الزوج قد أبعد عن مصر بعد قيام سبب الفسخ أو التطليق أو الانفصال، أما أن قام هذا السبب بعد الابعاد، فلا ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية
5 -دعاوى النفقة :
تختص المحاكم المصرية بالدعاوي المتعلقة بطلب نفقة للأم أو للزوجة متي كان لهما موطن في مصر أو للصغير المقيم فيها، ويقتصر هذا الاختصاص علي دعاوي نفقة الأم أو الزوجة أو الصغير، ويجب لانعقاده للمحاكم المصرية أن يكون لطالب النفقة موطن في مصر، ويعبر المشرع عن الموطن بالمحل الذي يقيم فيه الشخص، أما ان قصد محل الاقامة فإنه ينص على ذلك.
فإن انتفت نية الاستيطان لدي أي من هؤلاء وتخلفت الشروط اللازمة لتوافر الموطن، فلا ينعقد الاختصاص الدولي للمحاكم المصرية بدعوي النفقة ولو ثبت وجود محل اقامة في مصر لطالب النفقة، ويعتد بالنسبة لانعقاد الاختصاص بنفقة الصغير بوجود موطن له في مصر ولو لم يكن لنائبه موطن فيها.
6 -دعاوى النسب وسلب الولاية واستردادها :
تختص المحاكم المصرية اذا كانت الدعوي بشأن نسب صغير يقيم في مصر أو كانت بسلب ولاية على نفسه أو الحد منها أو وقفها أو استردادها، ويشترط لانعقاد هذا الاختصاص أن يكون للصغير موطن في مصر، فلا يكفي أن يكون له محل اقامة فيها، ويعبر المشرع عن الموطن بالمحل الذي يقيم فيه الشخص، أما ان قصد محل الاقامة فإنه ينص على ذلك، فانعقاد الاختصاص للمحاكم المصرية رهن بتوطن الصغير في مصر تيسيرا له ، ويستوي في ذلك أن تتعلق الدعوي بثبوت نسب الصغير أو بسلب الولاية علي نفسه أو الحد منها أو وقتها أو كانت قد سلبت أو أوقفت ورفع الولي دعوي استردادها.
ويكون المطلوب ثبوت نسب الصغير له أو المطلوب سلب ولايته أو الحد منها أو وقفها هو المدعي عليه ، أما دعوي استرداد الولاية التي سبق سلبها أو وقفها فإن نائب الصغير يكون هو المدعي عليه ، وفي جميع هذه الحالات ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية ولو لمن يكن للمدعي عليه موطن أو محل اقامة في مصر.
7 - دعاوى الأحوال الشخصية :
تختص المحاكم المصرية اذا كانت الدعوي متعلقة بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية وكان المدعي وطنياً أو أجنبياً له موطن في مصر، وذلك إذا لم يكن للمدعي عليه موطن معروف في الخارج أو اذا كان القانون المصري واجب التطبيق في الدعوي.
ومفاد ذلك أن جميع الدعاوي المتعلقة بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتطليق وتفریق جسماني ونفقة وما الى ذلك، تختص المحاكم المصرية وحدها بنظرها دولياً بالنسبة للمواطن المصري، إذ تنص المادة 14 من القانون المدني علي سريان القانون المصري وحده علي الشروط الموضوعية للزواج وعلي الآثار المترتبة عليه متي كان أحد الزوجين مصرياً وقت انعقاد الزواج، فإن تعلقت الدعوي بطلاق فلا يعتد بجنسية الزوج وقت الطلاق وانما بوقت انعقاد الزواج فينطبق القانون المصري وحده ، وبالنسبة للتطليق والانفصال ، لا يعتد بجنسية الزوج وقت رفع الدعوي إنما بوقت انعقاد الزواج فينطبق القانون المصري وحده طالما كان أحد الزوجين مصريا وقت انعقاد الزواج، فتختص المحاكم المصرية وحدها بدعوي الطلاق والتفريق.
وتخضع نفقة الزوجية بالنسبة للزوجة المصرية ، كأثر من آثار الزواج ، للقانون المصري وحده عملاً بالمادة 14 من القانون المدني التي توجب تطبيق هذا القانون اذا كان أحد الزوجين مصرياً وقت انعقاد الزواج، ومن ثم ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية وحدها بنظر دعوي نفقة الزوجية ، خلافاً لننقة الأقارب، فإنها تخضع لقانون جنسية المدين بها عملاً بالمادة 15 من القانون المدني ومن ثم لا ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية بالدعاوي التي ترفع بها علي الأجنبي ومنها نفقة الأولاد الا اذا كان المدعي متوطناً في مصر ولم يكن للمدعي عليه موطن معروف في الخارج اذ ينعقد الاختصاص في هذه الحالة للمحاكم المصرية.
وآثار الزواج إما أن تكون شخصية كالعلاقة بين الزوجين من ناحية وبينهم وبين أولادهم من ناحية أخري ، ففيما بين الزوجين يكون هناك صداق ونفقة زوجية وطاعة ومساكنة ، وقد يكون للزوجة حمل اسم زوجها وقد تصبح ناقصة الأهلية بالزواج، وقد تترتب آثار مالية تتضمنها مشارطة الزواج وهذه الآثار غير معروفة في الشريعة الاسلامية ولا في شرائع المصريين غير المسلمين.
فإن كان المدعي أجنبياً ، فيشترط لاختصاص المحاكم المصرية بنظر دعواه أن يكون له موطن في مصر وألا يكون للمدعي عليه موطن معروف في الخارج أن يكون القانون المصري هو الواجب التطبيق في الدعوي، ولا يكفي أن يكون للمدعي الأجنبي محل اقامة في مصر لأن توطنه هو مناط اختصاص هذه المحاكم بنظر دعواه ، بل يجب أيضاً ألا يكون للمدعي عليه موطن معروف في الخارج، فإن كان له موطن معروف في الخارج فلا ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية الا اذا كان القانون المصري هو الواجب التطبيق.
ولا تختص المحاكم المصرية بنظر دعوي نفقة الزوجية المرفوعة من الزوجة الأجنبية التي لها موطن في مصر متي كان لزوجها موطن معروف في الخارج، ولأن القانون الواجب التطبيق علي هذه النفقة هو قانون جنسية الزوج عملاً بالمادة 3 من القانون المدني باعتبار النفقمة أثراً من آثار الزواج، لكن اذا لم يكن للمدعي عليه موطن معروف في الخارج انعقد الاختصاص للمحاكم المصرية
8- دعاوى الولاية على المال :
تختص المحاكم المصرية بالدعاوي المتعلقة بمسائل الولاية علي المال من ولاية ووصاية وقوامة ومساعدة قضائية متي كان للقاصر أو المطلوب الحجر عليه أو مساعدته قضائياً موطن أو محل إقامة في مصر أو اذا كان بها آخر موطن أو محل اقامة للغائب. ومناط هذا الاختصاص وجود موطن أو محل اقامة للصغير في مصر حتي ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية وبالتالي للنيابة العامة المختصة بالولاية علي المال ويكون لها كافة السلطات المقررة في هذا الصدد من تحقيق المواد التي تقدم لها من ذوي الشأن وعرضها علي المحكمة المختصة والطعن في الأحكام التي تصدر بالمخالفة للقانون.
ويمتد اختصاص المحاكم المصرية الي طلب الحد من الولاية أو وقفها أو سلبها واستردادها، وتعيين الأوصياء والقوام وعزلهم والزامهم بتقديم حساب وتعيين المساعدين القضائيين لذوي العاهتين وعزلهم وتعيين وکيل للغائب مني كان آخر موطن أو محل اقامة له في مصر.
9 - تعدد المدعى عليهم متى كان لأحدهم محل إقامة في مصر تختص المحاكم المصرية اذا رفعت الدعوي على أكثر من مدعي عليه متي كان لأحدهم موطن أو محل اقامة في مصر، ويجب أن يكون التعدد حقيقياً وأن يكون المدعي عليه المقيم في مصر خصماً حقيقياً فان كان خصماً غير حقيقي فلا ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية، ويستوي أن يكون المدعي عليه. الذي له موطن أو محل اقامة في مصر شخصاً طبيعياً أو اعتباریاً. ومتي انعقد الاختصاص للمحاكم المصرية على نحو ما تقدم، فيظل منعقداً لها حتي لو ترك المدعي دعواه بالنسبة للمدعي عليه المقيم في مصر وكان الترك جائزاً ما لم يدفع أحد المدعي عليهم بعدم اختصاص المحاكم المصرية أو لم يحضر باقي المدعي عليهم. ويستوي أن يكون المدعي عليه المقيم في مصر قد اختصم منذ رفع الدعوي بايداع صحيفتها قلم الكتاب أو أدخل فيها بعد ذلك طالما كان خصماً حقيقياً حتي لا يؤدي السهو عنه في الصحيفة إلي نفي اختصاص المحاكم المصرية . .)المطول في شرح قانون المرافعات، المستشار/ أنور طلبة، الناشر/ المكتب الجامعي الحديث، الجزء الأول/ الصفحة : 468 )
وفقا للمادة 30 من قانون المرافعات - محل التعليق - ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية بنظر الدعاوى التي ترفع على الأجنبي الذي ليس له موطن أو محل إقامة في مصر، في الأحوال التسعة الآتية :
الحالة الأولى :
إذا كان للأجنبي في الجمهورية موطن مختار :
والموطن المختار هو المكان الذي يختاره الفرد لتنفيذ عمل قانونی معین مادة 43 من القانون المدني، ويقتصر اختصاص المحاكم المصرية على المنازعات المتعلقة بما اتخذ هذا الوطن في شأنه من علاقات ( المذكرة الإيضاحية للقانون ) ، ومرد هذا الاختصاص هو فكرة الخضوع الاختياري ( فؤاد عبد المنعم رياض - وسامية راشد - المرجع السابق ج 2- بند 318 - ص 361 ) ، إذ أن قيام المدعى عليه الأجنبي باعتبار مصر موطناً مختاراً له بالنسبة للعمل القانوني، يفيد اختياره الخضوع لمحاكم الجمهورية بالنسبة لجميع المنازعات التي ترتبط بهذا العمل .
واختصاص محكمة الموطن المختار في هذه الحالة هو استثناء مسلم به من قاعدة أن المدعي يسعى إلى المدعي عليه في محكمته .
إذ هذه القاعدة يقصد بها التيسير بالمدعى عليه، فمن الجائز الاتفاق على عكسها ( أحمد أبو الوفا - المرافعات المدنية والتجارية - سنة 1970 - بند 24 ص 91 ) .
الحالة الثانية :
إذا كانت الدعوى متعلقة بمال موجود في الجمهورية، أو كانت متعلقة بالتزام نشأ ، أو نفذ أو كان واجباً تنفيذه فيها، أو كانت متعلقة بإفلاس أشهر فيها.
فالمنازعات المتعلقة بمال موجود في مصر تختص بنظرها المحاكم المصرية، وقد يكون هذا المال عقاراً أو منقولاً ، ولايتقيد اختصاص محاكم الجمهورية في حالة وجود المال في مصر بنوع الدعوى ( عز الدين عبد الله - ج 2 - بند 186 ص 712 و 713 ) ، فقد تكون الدعوى شخصية كطلب تنفيذ الالتزام بنقل الحق العيني في العقار أو المنقول، أو طلب تنفيذ الالتزام بتسليم المبيع بعقد غير مسجل أو الالتزام بالضمان وقد تكون الدعوى عينية موضوعها حق عيني، كدعوى الملكية في مال واقع في مصر، كالدعوى التي يرفعها الدائن المرتهن لعقار واقع في مضر لحماية حقه، وقد تكون الدعوی مختلطة تستند إلى حق عيني وحق شخصی مثل الدعوى التي يرفعها المشتري على البائع بتسليم المبيع بعقد مسجل.
ولاريب في أن وجود المال بمصر سواء كان منقولاً أم عقارياً يعد كافياً لكي ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية لما لها من سلطة فعلية على هذا المال ( فؤاد عبد المنعم رياض وسامية راشد - المرجع السابق ج 2 بند 320 ص 362 ) ، فهي أقرب إلى المال من غيرها، وقد يستلزم نظر الدعوى المتعلقة بالمال انتقال المحكمة إلى معاينته ( أحمد أبو الوفا - بند 24 ص 92 ) ، ولذلك كان من الأجدى أن ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية بنظر الدعاوى المتعلقة بمال موجود في مصر.
كذلك تختص المحاكم المصرية بنظر جميع الدعاوى التي ترفع على أجنبي حتى ولو لم يكن له موطن أو محل إقامة في مصر، إذا كان موضوع النزاع يتعلق بالتزام نشأ فيها، بصرف النظر عما إذا كان الالتزام تعاقدياً أم تقصيرياً ، فقد ينشىء الالتزام عن عمل مادی وقع في مصر، كأن يسبب سائح أجنبی تصادماً بسيارة ويغادر البلاد، فيجوز مطالبته بالتعويض أمام المحاكم المصرية، ولو كان قد غادر البلاد ( للمؤلف تحديد نطاق الولاية القضائية والاختصاص القضائي ص 218 احمد أبو الوقا بند 24 بند 92 ) ، وذلك على أساس أن الالتزام قد نشأ في مصر.
كما تختص المحاكم المصرية أيضاً بنظر الدعاوى التي ترفع على أجنبي حتى ولو لم يكن له موطن أو محل إقامة في مصر، إذا كانت متعلقة بالتزام نفذ أو كان واجباً تنفيذه فيها.
ولا شك في أن هناك صلة واضحة بين الدعاوى المتعلقة بالتزام نشأ في مصر أو نفذ، أو كان واجباً تنفيذه فيها وبين إقليم الجمهورية، مما يبرر عقد الإختصاص لمحاكم الجمهورية، كما أن هذه المحاكم تستطيع كفالة آثار حكمها .
كذلك تختص المحاكم المصرية بنظر جميع الدعاوى المتعلقة بإفلاس أشهر في مصر، ومن ذلك الدعوى التي يرفعها وكيل الديانة على أجنبي ليس له موطن أو سكن في مصر بإبطال تصرف لحصوله في فترة الريبة.
الحالة الثالثة :
إذا كانت الدعوى معارضة في عقد زواج، وكان العقد يراد إبرامه لدى موثق مصری :
واختصاص المحاكم المصرية بمثل هذه الدعوى يؤدى إلى تحقيق حسن سير العدالة ( فؤاد عبد المنعم رياض وسامية راشد - بند 329 ص 367 ) ، فقد لايوجد سبيل من الناحية القانونية لمنع هذا الزواج إلا عن طريق إصدار حكم قضائی، وفي هذه الحالة تكون المحاكم المصرية أقدر على إصدار مثل هذا الحكم نظراً لأن الزواج سيبرم أمام موثق ينتمي إلى الدولة ويخضع لسلطان محاكمها، كذلك فإن اختصاص المحاكم المصرية بهذه الدعوى يتضمن تيسيراً لصاحب الحق قانوناً في الإعتراض، إذ هذا الاختصاص سيجنبه الالتجاء إلى محاكم دولة موطن المدعى عليه.
أضف إلى ذلك أن إختصاص المحاكم المصرية يؤدي إلى تمكين الموثق المصري من أداء وظيفته ( عز الدين عبد الله - ج 2 - بند 183 ص 690 ) ، إذ الموثق المصري يؤدي وظيفته وفقاً للقانون المصرى، وهذا يقتضي البت في الاعتراض على الزواج بواسطة السلطة المختصة، في مصر وهي المحاكم المصرية، والقول بغير ذلك يؤدي إلى تعطيل الموثق عن أداء وظيفته .
الحالة الرابعة :
إذا كانت الدعوى متعلقة بطلب فسخ الزواج أو بالتطليق أو بالانفصال وكانت مرفوعة من زوجة فقدت جنسية الجمهورية بالزواج متى كان لها موطن في الجمهورية، أو كانت الدعوى مرفوعة من زوجة لها موطن في الجمهورية على زوجها الذي كان له موطن فيها متى كان الزوج قد هجر زوجته، وجعل موطنه في الخارج بعد قيام سبب الفسخ أو التطليق أو الانفصال، أو كان قد أبعد عن الجمهورية .
الحالة الخامسة :
إذا كانت الدعوى متعلقة بطلب نفقة للأم أو للزوجة، متى كان لهما موطن في الجمهورية أو للصغير المقيم فيها :
وقد راعي المشرع في جعل المحاكم المصرية مختصة بمثل هذه الدعوى كون المدعي فيها هو الخصم الضعيف الذي تجب له الرعاية دفعاً للفاقة عنه، وذلك خلافاً للأصل العام وهو توفير الرعاية للمدعى عليه.
الحالة السادسة :
إذا كانت الدعوى بشأن نسب صغير يقيم في الجمهورية أو بسلب الولاية على نفسه أو الحد منها أو وقفها أو استردادها :
ويبرر الفقه اختصاص المحاكم المصرية في هذه الحالة ( عز الدين عبد الله - بند 183 ص 695 ) ، بأن الصغير هو الطرف الضعيف في الدعوى الذي تجب له الرعاية، كما أن حماية الصغير في نفسه واجب على الجماعة، وتتصل بالمصلحة العامة وتقع في نطاق واجب الدولة في أداء العدالة على إقليمها ما دام الصغير مقيماً فيه .
الحالة السابعة :
إذا كانت الدعوى متعلقة بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية، وكان المدعي وطنياً أو كان أجنبيا له موطن في الجمهورية، وذلك إذا لم يكن للمدعى عليه موطن معروف في الخارج، أو إذا كان القانون الوطني واجب التطبيق في الدعوى .
فقد حرص المشرع المصرى على التسهيل على المدعي وتمكينه من الوصول إلى حقه دون أي تأخير، نظراً لكون المنازعات المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية وثيقة الصلة بحياة الإنسان وكيانه .
ولذلك منح المشرع الاختصاص للمحاكم المصرية بنظر الدعاوی المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية، إذا ما كان المدعي وطنياً ، سواء أكان متوطناً في الجمهورية أم في الخارج، أو كان المدعي أجنبياً متوطناً في مصر، فلا يكفي أن يكون المدعي الأجنبي مقيماً في مصر، واشترط المشرع لانعقاد الاختصاص للمحاكم المصرية أن لا يكون للمدعى عليه موطن معروف في الخارج، ويبرر الفقة انعقاد الاختصاص للمحاكم المصرية في هذه الحالة، بفكرة منع انكار العدالة إذ قد لايجد المدعى في هذه الحالة محكمة أجنبية تختص بالدعوى، وذلك فضلاً عن ضرورة رعاية المدعي، نظراً لتعلق الدعوى بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية التي تتعلق بحياة الإنسان وكيانه كما ذكرنا آنفاً.
كذلك منح المشرع الاختصاص للمحاكم المصرية بنظر الدعوى المتعلقة بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية، وكان المدعي وطنياً أو كان أجنبياً له موطن في مصر، وذلك إذا كان القانون الوطني واجب التطبيق في الدعوى، على أساس أن المحاكم المصرية ستكون أقدر على تطبيق القانون المصرى خاصة وأن المدعى مصرى الجنسية أو أجنبي متوطن في مصر ( فؤاد عبد المنعم رياض وسامية راشد - بند 335 ص 373 ) ، وأنه من المرغوب فيه أن تكفل محاكم الدولة تطبيق قانونها بنفسها .
الحالة الثامنة :
اذا كانت الدعوى متعلقة بمسالة من مسائل الولاية على المال، متى كان للقاصر أو المطلوب الحجر عليه أو مساعدته قضائياً موطن أو محل إقامة في الجمهورية، أو إذا كان بها آخر موطن أو محل إقامة للغائب.
الحالة التاسعة :
إذا كان لأحد المدعى عليهم مع الأجنبي موطن أو محل إقامة في مصر : وأساس منح الاختصاص للمحاكم المصرية في هذه الحالة هو تفادي رفع دعاوي متعددة أمام محاكم تتبع دولاً مختلفة، مما يؤدى إلى تضاعف نفقات التقاضي، أضاف إلى ذلك أن رفع دعاوى متعددة أمام محاكم تتبع دولاً مختلفة قد يؤدي إلى تناقض الأحكام ( أحمد أبو الوفا - بند 24 ص 92 وص 93 ) ، ( للمؤلف تحديد نطاق الولاية القضائية والاختصاص القضائی - ص 221 ) ، وفي انعقاد الاختصاص للمحاكم المصرية في هذه الحالة تفادى لحدوث هذه التناقض . ( الموسوعة الشاملة في التعليق على قانون المرافعات، الدكتور/ أحمد مليجي، الطبعة الثالثة عشر 2016 طبعة نادي القضاة ، الجزء / الأول ، الصفحة : 778 )
الحالة الأولى : وجود موطن مختار للأجنبي : وهو الموطن الذي عرفته المادة 43 من التقنين المدني ، ويقتصر اختصاصها على المنازعات المتعلقة بما اتخذ هذا الموطن في شأنه ويجوز الاتفاق على خلاف القاعدة التي يقررها النص.
الحالة الثانية : تعلق الدعوى بمال موجود في مصر أو بالتزام نشأ أو نفذ أو كان واجباً تنفيذه فيها أو بإفلاس أشهر فيها :
ويستوي أن يكون المال عقاراً أو منقولاً وتختص المحاكم بكافة الدعاوى المتعلقة بهذا المال سواء كانت من الدعاوى الشخصية أو الدعاوى العينية أو الدعاوى المختلطة .
ويكفي لاختصاص القضاء المصري بالدعوى أن تتعلق بالتزام نشأ في مصر سواء كان التزاماً عقدياً أو تقصيرياً كارتكاب السائح الأجنبي حادث قتل خطأ أثناء وجوده في مصر وإذا لم ينشأ الالتزام في مصر فيكفي أن يكون قد نفذ أو كان واجباً تنفيذه في مصر. ومتى ثبت الاختصاص للقضاء المصري على النحو المتقدم فلا يعمل بأي اتفاق يعقد الاختصاص لمحكمة أخرى.
الحالة الثالثة : دعوى المعارضة في عقد زواج يراد إبرامه في مصر : ويرجع ذلك إلى أنه في الحالة لا توجد وسيلة تمنع الزواج سوى استصدار حكم وبالتالي لامناص من الرجوع إلي القضاء المصري مادام أن توثيق الزواج المطلوب منعه إنما يتم أمام موثق مصري .
الحالة الرابعة : الدعوى المتعلقة بطلب نفقة للأم أو للزوجة متى كان لهما موطن في الجمهورية أو بطلب نفقة للصغير المقيم في مصر :
وذلك دون نظر لجنسية طالبي النفقة فقد يكونوا مصريين أو من الأجانب ، إلا أنه يشترط في الأم أو الزوجة أن يكون لها موطن في مصر يستوي في ذلك أن يكون موطناً عاماً وفق المادة 40 من التقنين المدني أو موطن خاص وفق المادة 41 منه ، أما الصغير فيكفي بأن يكون له محل إقامة في مصر ولو لم تتوافر نية الاستيطان وواضح أن المشرع لم يعتد بالموطن القانوني أو الإجباري المنصوص عليه في المادة 42 لعديمي وناقصي الأهلية وهو موطن الولي أو الوصي أو القيم بتقدير أن دعوى النفقة غالباً ما توجه إلى المال ، ويلاحظ كذلك أنه يكفي أن يكون الصغير مقيماً في مصر ولو كانت ليس لها موطن أو محل إقامة في مصر.
وواضح من النص أن مناط الاختصاص هو إقامة الصغير في مصر فلا يلزم أن يكون له موطن فيها كما لا يشترط في ذلك أن يكون لأمه موطن أو محل إقامة في مصر .
الحالة السادسة : دعاوى الأحوال الشخصية التي يكون المدعي فيها مصرياً أو أجنبياً له موطن في مصر متى لم يكن للمدعى عليه موطن معروف في الخارج أو كان له موطن معروف ويكون القانون المصري هو الواجب التطبيق في الدعوى . وظاهر من النص أنه متى كان المدعى مصرياً فإنه لا يشترط أن يكون له موطن أو محل إقامة في مصر إذ يكفي أن تثبت له الجنسية المصرية أما إذا كان أجنبياً فإنه يتعين أن يكون له موطن في مصر. ويشترط في الحالتين اختصاص المحاكم المصرية أما ان كان الأجنبي المدعى عليه ليس له موطن معلوم في الخارج وفي هذه الحالة ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية ولو لم يكن القانون المصري هو الواجب التطبيق وذلك إعمالاً لفكرة منع إنكار العدالة إذ قد لا يجد المدعي المصري أو الأجنبي المتوطن في مصر محكمة أجنبية تختص بالدعوى وإما أن يكون القانون المصري هو الواجب التطبيق فتختص المحاكم المصرية بنظر الدعاوى التي ترفع من المصري أو من الأجنبي المتوطن في مصر على الأجنبي ولو كان له موطن معروف في الخارج بتقدير أنها ستكون أقدر من غيرها على تطبيق القانون المصري.
الحالة السابعة : الدعاوى المتعلقة بمسائل الولاية على المال متى كان للقاصر أو المطلوب الحجر عليه أو نشأ عنه قضايا موطن أو محل إقامة في مصر أو كان بها أخر موطن أو محل إقامة الغائب :
ويلاحظ أنه إذا توافر الموطن سواء كان موطناً عاماً أو خاصاً أو محل إقامة أي الإقامة المستقرة دون نية الاستيطان , دون أن يلزم توافر الجنسية , فيعمل بالنص بالنسبة إلي الأجانب الذين لهم موطن أو محل إقامة في مصر.
الحالة الثامنة : إذا كان لأحد المدعى عليهم موطن أو محل إقامة في مصر : ويعمل بذلك بداهة في حالة تعدد المدعى عليهم ويتعين أن يكون التعدد حقيقياً لا صورياً . ( التعليق على قانون المرافعات، المستشار/ عز الدين الديناصوري والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات وتحديث أحكام النقض للأستاذ/ خيرت راضي المحامي بالنقض، الطبعة 2017 دار الطبوعات الجامعية، الجزء : الأول ، الصفحة : 417 )
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع ، الصفحة / 151
أَهْلِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
الأْهْلِيَّةُ مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ لِكَلِمَةِ (أَهْلٍ) وَمَعْنَاهَا لُغَةً - كَمَا فِي أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ -: الصَّلاَحِيَّةُ.
وَيَتَّضِحُ تَعْرِيفُ الأَْهْلِيَّةِ فِي الاِصْطِلاَحِ مِنْ خِلاَلِ تَعْرِيفِ نَوْعَيْهَا: أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَأَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ.
فَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ هِيَ: صَلاَحِيَّةُ الإِْنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
وَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ هِيَ: صَلاَحِيَّةُ الإِْنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّكْلِيفُ:
- التَّكْلِيفُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: إِلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ.
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ كَذَلِكَ، حَيْثُ قَالُوا: التَّكْلِيفُ إِلْزَامُ الْمُخَاطَبِ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ.
فَالأَْهْلِيَّةُ وَصْفٌ لِلْمُكَلَّفِ.
ب - الذِّمَّةُ:
الذِّمَّةُ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: الْعَهْدُ وَالضَّمَانُ وَالأَْمَانُ.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَإِنَّهَا: وَصْفٌ يُصَيِّرُ الشَّخْصَ بِهِ أَهْلاً لِلإِْلْزَامِ وَالاِلْتِزَامِ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الأَْهْلِيَّةِ وَالذِّمَّةِ: أَنَّ الأَْهْلِيَّةَ أَثَرٌ لِوُجُودِ الذِّمَّةِ.
مَنَاطُ الأَْهْلِيَّةِ وَمَحَلُّهَا:
الأَْهْلِيَّةُ بِمَعْنَاهَا الْمُتَقَدِّمِ مَنَاطُهَا، أَيْ مَحَلُّهَا الإِْنْسَانُ، مِنْ حَيْثُ الأَْطْوَارُ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا، فَإِنَّهُ فِي الْبِدَايَةِ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الأَْهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْجَنِينِ، وَبَعْدَ الْوِلاَدَةِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ يَكُونُ طِفْلاً، فَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الأَْهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالطِّفْلِ، وَبَعْدَ التَّمْيِيزِ تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الأَْهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْمُمَيَّزِ إِلَى أَنْ يَصِلَ بِهِ الأَْمْرُ إِلَى سِنِّ الْبُلُوغِ، فَتَثْبُتُ لَهُ الأَْهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، كَطُرُوءِ عَارِضٍ يَمْنَعُ ثُبُوتَ تِلْكَ الأَْهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ لَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى أَقْسَامِ الأَْهْلِيَّةِ وَعَوَارِضِهَا.
أَقْسَامُ الأَْهْلِيَّةِ وَأَنْوَاعُهَا:
الأَْهْلِيَّةُ قِسْمَانِ: أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ، وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً.
وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ قَدْ تَكُونُ كَامِلَةً، وَقَدْ تَكُونُ نَاقِصَةً.
وَكَذَا أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ:
سَبَقَ أَنَّ مَعْنَى أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ: صَلاَحِيَّةُ الشَّخْصِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ مَعًا، أَوْ لَهُ، أَوْ عَلَيْهِ.
وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ تَنْقَسِمُ فُرُوعُهَا وَتَتَعَدَّدُ بِحَسَبِ انْقِسَامِ الأَْحْكَامِ، فَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِبَعْضِ الأَْحْكَامِ، وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِبَعْضِهَا أَصْلاً، وَهُوَ أَهْلٌ لِبَعْضِهَا بِوَاسِطَةِ رَأْيِ الْوَلِيِّ، فَكَانَتْ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةُ مُنْقَسِمَةً نَظَرًا إِلَى أَفْرَادِ الأَْحْكَامِ، وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الصَّلاَحُ لِلْحُكْمِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلاً لِحُكْمِ الْوُجُوبِ بِوَجْهٍ كَانَ هُوَ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ، وَمَنْ لاَ فَلاَ.
وَمَبْنَى أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ هَذِهِ عَلَى الذِّمَّةِ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةَ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ وُجُودِ ذِمَّةٍ صَالِحَةٍ؛ لأِنَّ الذِّمَّةَ هِيَ مَحَلُّ الْوُجُوبِ، وَلِهَذَا يُضَافُ إِلَيْهَا وَلاَ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ، وَلِهَذَا اخْتَصَّ الإِْنْسَانُ بِالْوُجُوبِ دُونَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا ذِمَّةٌ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الذِّمَّةِ لِلإِْنْسَانِ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، حَتَّى يَكُونَ صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ مِلْكُ النِّكَاحِ بِتَزْوِيجِ الْوَلِيِّ إِيَّاهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِعَقْدِ الْوَلِيِّ.
أَنْوَاعُ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ:
أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ نَوْعَانِ:
أ - أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ النَّاقِصَةُ، وَتَتَمَثَّلُ فِي الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، بِاعْتِبَارِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً عَنْ أُمِّهِ ذَا حَيَاةٍ خَاصَّةٍ، فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ كَمَا سَيَأْتِي، لاَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ ذِمَّتَهُ لَمْ تَكْتَمِلْ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
ب - أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ الْكَامِلَةُ، وَهِيَ تَثْبُتُ لِلإِْنْسَانِ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَإِنَّهُ تَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ الْكَامِلَةُ؛ لِكَمَالِ ذِمَّتِهِ حِينَئِذٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَيَكُونُ بِهَذَا صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
ثَانِيًا: أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ:
سَبَقَ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ هِيَ: صَلاَحِيَّةُ الإِْنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدَ بِهِ شَرْعًا.
وَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ هَذِهِ لاَ تُوجَدُ عِنْدَ الشَّخْصِ إِلاَّ إِذَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ؛ لِقُدْرَتِهِ حِينَئِذٍ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الإِْجْمَالِ، وَلِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِبَعْضِ الأَْعْبَاءِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الْقَاصِرَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُهُ مَا دَامَ نُمُوُّهُ لَمْ يَكْتَمِلْ جِسْمًا وَعَقْلاً، فَإِذَا اكْتَمَلَ بِبُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ ثَبَتَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الْكَامِلَةِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَهْلاً لِلتَّحَمُّلِ وَالأَْدَاءِ، بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمُمَيَّزِ، فَإِنَّهُ لاَ تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةُ لاِنْتِفَاءِ الْقُدْرَتَيْنِ عَنْهُ.
أَنْوَاعُ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ:
أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ نَوْعَانِ:
أ - أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ قَاصِرَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ.
ب - أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ كَامِلَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِالْقُدْرَةِ هُنَا: قُدْرَةُ الْجِسْمِ أَوِ الْعَقْلِ، أَوْ هُمَا مَعًا؛ لأِنَّ الأَْدَاءَ - كَمَا قَالَ الْبَزْدَوِيُّ - يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتَيْنِ: قُدْرَةِ فَهْمِ الْخِطَابِ وَذَلِكَ بِالْعَقْلِ، وَقُدْرَةِ الْعَمَلِ بِهِ وَهِيَ بِالْبَدَنِ، وَالإِْنْسَانُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ عَدِيمُ الْقُدْرَتَيْنِ، لَكِنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ وَصَلاَحِيَّةٌ لأَِنْ تُوجَدَ فِيهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقُدْرَتَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ تَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَرَجَةَ الْكَمَالِ، فَقَبْلَ بُلُوغِ دَرَجَةِ الْكَمَالِ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَاصِرَةً، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيَّزِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَقَدْ تَكُونُ إِحْدَاهُمَا قَاصِرَةً، كَمَا فِي الْمَعْتُوهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنَّهُ قَاصِرُ الْعَقْلِ مِثْلُ الصَّبِيِّ، وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِالصَّبِيِّ فِي الأَْحْكَامِ.
فَالأَْهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ: عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْقُدْرَتَيْنِ أَوَّلَ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالاِعْتِدَالِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ. وَالْقَاصِرَةُ: عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَتَيْنِ قَبْلَ بُلُوغِهِمَا أَوْ بُلُوغِ إِحْدَاهُمَا دَرَجَةَ الْكَمَالِ.
ثُمَّ الشَّرْعُ بَنَى عَلَى الأَْهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ صِحَّةَ الأَْدَاءِ، وَعَلَى الْكَامِلَةِ وُجُوبَ الأَْدَاءِ وَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ؛ لأِنَّ هُ لاَ يَجُوزُ إِلْزَامُ الإِْنْسَانِ الأَْدَاءَ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ؛ إِذْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ أَصْلاً، وَإِلْزَامُ مَا لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ شَرْعًا وَعَقْلاً، وَبَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ وَأَصْلِ قُدْرَةِ الْبَدَنِ قَبْلَ الْكَمَالِ، فَفِي إِلْزَامِ الأَْدَاءِ حَرَجٌ؛ لأِنَّ هُ يُحْرِجُ الْفَهْمَ بِأَدْنَى عَقْلِهِ، وَيُثْقِلُ عَلَيْهِ الأَْدَاءَ بِأَدْنَى قُدْرَةِ الْبَدَنِ، وَالْحَرَجُ مُنْتَفٍ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فَلَمْ يُخَاطَبْ شَرْعًا لأَِوَّلِ أَمْرِهِ حِكْمَةً، وَلأَِوَّلِ مَا يَعْقِلُ وَيَقْدِرُ رَحْمَةً، إِلَى أَنْ يَعْتَدِلَ عَقْلُهُ وَقُدْرَةُ بَدَنِهِ، فَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ الْفَهْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ.
ثُمَّ وَقْتُ الاِعْتِدَالِ يَتَفَاوَتُ فِي جِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ إِلاَّ بَعْدَ تَجْرِبَةٍ وَتَكَلُّفٍ عَظِيمٍ، فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْبُلُوغَ الَّذِي تَعْتَدِلُ لَدَيْهِ الْعُقُولُ فِي الأَْغْلَبِ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً، تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَصَارَ تَوَهُّمُ وَصْفِ الْكَمَالِ قَبْلَ هَذَا الْحَدِّ، وَتَوَهُّمُ بَقَاءِ الْقُصُورِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِّ سَاقِطِي الاِعْتِبَارِ؛ لأِنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ مَتَى أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَأَيَّدَ هَذَا كُلَّهُ قَوْلُهُ عليه السلام: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَالْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَالنَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَلَمِ: الْحِسَابُ، وَالْحِسَابُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ لُزُومِ الأَْدَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالأَْهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ، وَهِيَ اعْتِدَالُ الْحَالِ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ.
أَثَرُ الأَْهْلِيَّةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ:
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْكُمُهَا الأَْهْلِيَّةُ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ - تَخْتَلِفُ وَتَتَعَدَّدُ أَحْكَامُهَا تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ نَوْعِ الأَْهْلِيَّةِ، وَتَبَعًا لاِخْتِلاَفِ مَرَاحِلِ النُّمُوِّ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإِْنْسَانُ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ تِلْكَ الأَْهْلِيَّةِ، فَالأَْهْلِيَّةُ - كَمَا سَبَقَ - إِمَّا أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَإِمَّا أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَدْ تَكُونُ نَاقِصَةً وَقَدْ تَكُونُ كَامِلَةً، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.
هَذَا، وَلِلْوُقُوفِ عَلَى تِلْكَ الأَْحْكَامِ، لاَ بُدَّ أَنْ نَتَنَاوَلَ تِلْكَ الْمَرَاحِلَ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإِْنْسَانُ، وَبَيَانُ الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِهِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاحِلِ.
الْمَرَاحِلُ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإِْنْسَانُ:
يَمُرُّ الإِْنْسَانُ مِنْ حِينِ نَشْأَتِهِ بِخَمْسِ مَرَاحِلَ أَسَاسِيَّةٍ، وَهَذِهِ الْمَرَاحِلُ هِيَ:
(1) مَرْحَلَةُ مَا قَبْلَ الْوِلاَدَةِ، أَيْ حِينَ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
(2) مَرْحَلَةُ الطُّفُولَةِ وَالصِّغَرِ، أَيْ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ أُمِّهِ، وَقَبْلَ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ.
(3) مَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ، أَيْ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ إِلَى الْبُلُوغِ.
(4) مَرْحَلَةُ الْبُلُوغِ، أَيْ بَعْدَ انْتِقَالِهِ مِنْ سِنِّ الصِّغَرِ إِلَى سِنِّ الْكِبَرِ.
(5) مَرْحَلَةُ الرُّشْدِ، أَيِ اكْتِمَالُ الْعَقْلِ.
هَذَا، وَلِكُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاحِلِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
الْمَرْحَلَةُ الأُْولَى - الْجَنِينُ:
الْجَنِينُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنَ الاِجْتِنَانِ، وَهُوَ الْخَفَاءُ، وَهُوَ وَصْفٌ لِلْوَلَدِ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِمْ لِلْجَنِينِ لاَ يَخْرُجُونَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، إِذْ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: وَصْفٌ لِلْوَلَدِ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ.
وَالْجَنِينُ إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَالْجُزْءِ مِنْ أُمِّهِ يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا يُحْكَمُ بِعَدَمِ اسْتِقْلاَلِهِ، فَلاَ تَثْبُتُ لَهُ ذِمَّةٌ، وَبِالتَّالِي فَلاَ يَجِبُ لَهُ وَلاَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَإِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً بِحَيَاةٍ خَاصَّةٍ يُحْكَمُ بِثُبُوتِ الذِّمَّةِ لَهُ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ أَهْلاً لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ. وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَلَى الأُْخْرَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ الشَّرْعَ عَامَلَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ أُمِّهِ بِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَعَامَلَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً بِحَيَاةٍ خَاصَّةٍ بِكَوْنِهِ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ لَهُ، وَبِهَذَا لاَ يَكُونُ لِلْجَنِينِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ كَامِلَةٍ، بَلْ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ نَاقِصَةٍ.
13 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِثْبَاتِ بَعْضِ الْحُقُوقِ لِلْجَنِينِ، كَحَقِّهِ فِي النَّسَبِ، وَحَقِّهِ فِي الإِْرْثِ، وَحَقِّهِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَحَقِّهِ فِي الْوَقْفِ.
فَأَمَّا حَقُّهُ فِي النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ: فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ وَأَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ ثُبُوتِ النَّسَبِ الْمُبَيَّنَةُ فِي مَوْضِعِهَا. ر: (نَسَبٌ).
وَأَمَّا حَقُّهُ فِي الإِْرْثِ: فَهُوَ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَمْلِ لِلإِْرْثِ مَتَى قَامَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ وَتَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَهُ. وَأَمَّا حَقُّهُ فِي الْوَقْفِ: فَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْوَقْفَ عَلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَيَسْتَحِقُّهُ إِنِ اسْتَهَلَّ.
وَلَمْ يُجَوِّزِ الشَّافِعِيَّةُ الْوَقْفَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ الْوَقْفَ تَسْلِيطٌ فِي الْحَالِ بِخِلاَفِ الْوَصِيَّةِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْوَقْفُ عَلَى حَمْلٍ أَصَالَةً، كَأَنْ يَقِفَ دَارَهُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ؛ لأِنَّ هُ تَمْلِيكٌ، وَالْحَمْلُ لاَ يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ بِغَيْرِ الإِْرْثِ وَالْوَصِيَّةِ، أَمَّا إِذَا وَقَفَ عَلَى الْحَمْلِ تَبَعًا لِمَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ، أَوْ عَلَى أَوْلاَدِ فُلاَنٍ وَفِيهِمْ حَمْلٌ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَشْمَلُهُ عِنْدَهُمْ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ - الطُّفُولَةُ:
تَبْدَأُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مِنْ حِينِ انْفِصَالِ الْجَنِينِ عَنْ أُمِّهِ حَيًّا، وَتَمْتَدُّ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ، فَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ تَثْبُتُ لِلْمَوْلُودِ الذِّمَّةُ الْكَامِلَةُ، فَيَصِيرُ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، أَمَّا أَهْلِيَّتُهُ لِلْوُجُوبِ لَهُ فَهِيَ ثَابِتَةٌ حَتَّى قَبْلَ الْوِلاَدَةِ - كَمَا سَبَقَ - فَتَثْبُتُ لَهُ بَعْدَهَا بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، بَلْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّ لَهُ يَدًا وَاخْتِصَاصًا كَالْبَالِغِ.
وَأَمَّا أَهْلِيَّتُهُ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ يَأْتِي.
وَوُجُوبُ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ عَلَى الطِّفْلِ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، الْمُرَادُ مِنْهُ: حُكْمُهُ، وَهُوَ الأَْدَاءُ عَنْهُ، فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَا لاَ فَلاَ.
وَإِنَّمَا قُيِّدَ الأَْدَاءُ بِالْمُمْكِنِ؛ لأِنَّ الطِّفْلَ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَافَّةُ الْحُقُوقِ كَالْبَالِغِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُعَامَلُ بِمَا يُنَاسِبُهُ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ؛ لِضَعْفِ
بِنْيَتِهِ، وَلِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى مُبَاشَرَةِ الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ، فَيُؤَدِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا أَمْكَنَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا تَفْصِيلاً فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، الَّتِي تُؤَدَّى عَنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَمَا ذَكَرُوا أَيْضًا حُكْمَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: حُقُوقُ الْعِبَادِ:
حُقُوقُ الْعِبَادِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَنِ الطِّفْلِ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَلاَ يُؤَدَّى عَنْهُ.
فَحُقُوقُ الْعِبَادِ الْوَاجِبَةُ وَالَّتِي تُؤَدَّى عَنْهُ هِيَ:
أ - مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ وَيَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُ؛ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ كَالْغُرْمِ وَالْعِوَضِ.
ب - مَا كَانَ صِلَةً شَبِيهَةً بِالْمُؤَنِ كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ، أَوْ كَانَ صِلَةً شَبِيهَةً بِالأَْعْوَاضِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّهُ يُؤَدَّى عَنْهُ.
وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ الَّتِي لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ وَلاَ تُؤَدَّى عَنْهُ فَهِيَ:
أ - الصِّلَةُ الشَّبِيهَةُ بِالأَْجْزِيَةِ كَتَحَمُّلِ الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ.
ب - الْعُقُوبَاتُ كَالْقِصَاصِ، أَوِ الأَْجْزِيَةِ الشَّبِيهَةِ بِهَا كَالْحِرْمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ.
ثَانِيًا: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى:
هَذِهِ الْحُقُوقُ أَيْضًا مِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الطِّفْلِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَجِبُ.
فَالْحُقُوقُ الَّتِي هِيَ مَئُونَةٌ مَحْضَةٌ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَتُؤَدَّى عَنْهُ؛ لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْمَالُ، فَتَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بَدَنِيَّةً أَمْ مَالِيَّةً.
أَمَّا الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْفَهْمِ وَضَعْفِ بَدَنِهِ.
وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ فِطْرٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأِنَّ هَا لَيْسَتْ عِبَادَةً خَالِصَةً بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الأَْغْنِيَاءِ حَقًّا لِلْمُحْتَاجِينَ، فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ كَمَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ هَا عِنْدَهُمْ عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ، وَتَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَلاَ تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حُقُوقُ اللَّهِ عُقُوبَاتٍ كَالْحُدُودِ، فَإِنَّهَا لاَ تَلْزَمُهُ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ؛ لأِنَّ الْعُقُوبَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ جَزَاءً لِلتَّقْصِيرِ، وَهُوَ لاَ يُوصَفُ بِهِ.
ثَالِثًا: أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ:
أَقْوَالُ الصَّبِيِّ وَأَفْعَالُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ؛ لأِنَّ هُ مَا دَامَ لَمْ يُمَيِّزْ فَلاَ اعْتِدَادَ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّمْيِيزُ:
التَّمْيِيزُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ: مِزْتُهُ مَيْزًا، مِنْ بَابِ بَاعَ، وَهُوَ: عَزْلُ الشَّيْءِ وَفَصْلُهُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَيَكُونُ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ وَالْمُخْتَلِطَاتِ، وَمَعْنَى تَمَيُّزِ الشَّيْءِ: انْفِصَالُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ: سِنُّ التَّمْيِيزِ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ: تِلْكَ السِّنُّ الَّتِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا عَرَفَ مَضَارَّهُ وَمَنَافِعَهُ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَيَّزْتُ الأَْشْيَاءَ: إِذَا فَرَّقْتُهَا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُونَ: التَّمْيِيزُ قُوَّةٌ فِي الدِّمَاغِ يُسْتَنْبَطُ بِهَا الْمَعَانِيَ.
وَهَذِهِ الْمَرْحَلَةُ تَبْدَأُ بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ سِنُّ التَّمْيِيزِ كَمَا حَدَّدَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَتَنْتَهِي بِالْبُلُوغِ، فَتَشْمَلُ الْمُرَاهِقَ وَهُوَ الَّذِي قَارَبَ الْبُلُوغَ.
فَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ يُصْبِحُ عِنْدَ الصَّبِيِّ مِقْدَارٌ مِنَ الإِْدْرَاكِ وَالْوَعْيِ يَسْمَحُ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الْقَاصِرَةِ؛ لأِنَّ نُمُوَّهُ الْبَدَنِيَّ وَالْعَقْلِيَّ لَمْ يَكْتَمِلاَ بَعْدُ، وَبَعْدَ اكْتِمَالِهِمَا تَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الْكَامِلَةِ؛ لأِنَّ أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ الْكَامِلَةِ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِاكْتِمَالِ النُّمُوِّ الْبَدَنِيِّ وَالنُّمُوِّ الْعَقْلِيِّ، فَمَنْ لَمْ يَكْتَمِلْ نُمُوُّهُ الْبَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ مَعًا، أَوْ لَمْ يَكْتَمِلْ فِيهِ نُمُوُّ أَحَدِهِمَا فَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ فِيهِ تَكُونُ قَاصِرَةً.
فَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ؛ لِعَدَمِ اكْتِمَالِ الْعَقْلِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَامِلاً مِنَ النَّاحِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ، بِخِلاَفِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ كَامِلَةً مُنْذُ الْوِلاَدَةِ، فَالطِّفْلُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ.
وَلِلتَّمْيِيزِ أَثَرُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ يَجُوزُ لَهُ بِأَهْلِيَّتِهِ الْقَاصِرَةِ مُبَاشَرَةُ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَتَصِحُّ مِنْهُ؛ لأِنَّ الثَّابِتَ مَعَ الأَْهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ صِحَّةُ الأَْدَاءِ، وَيُمْنَعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الأُْخْرَى، وَخَاصَّةً تِلْكَ الَّتِي يَعُودُ ضَرَرُهَا عَلَيْهِ، فَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ أَيْضًا مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِنَفْسِهِ، بَلْ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ إِذْنِ الْوَلِيِّ.
وَفِيمَا يَلِي مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الإِْجْمَالِ، أَمَّا التَّفْصِيلُ فَفِي مُصْطَلَحِ (تَمْيِيزٍ).
تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ:
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُبَاشِرُهَا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِمَّا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحُقُوقُ عِبَادَاتٍ وَعَقَائِدَ، أَوْ حُقُوقًا مَالِيَّةً، أَوْ عُقُوبَاتٍ، وَإِمَّا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهِيَ إِمَّا: مَالِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ مَالِيَّةٍ.
أ - حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى:
أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلاَةِ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِأَدَائِهَا فِي سِنِّ السَّابِعَةِ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهَا فِي سِنِّ الْعَاشِرَةِ؛ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ.
وَأَمَّا الْعَقَائِدُ كَالإِْيمَانِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ، فَيُعْتَبَرُ إِيمَانُهُ؛ لأِنَّ هُ خَيْرٌ مَحْضٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ إِسْلاَمَهُ لاَ يَصِحُّ حَتَّى يَبْلُغَ؛ لِحَدِيثِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ وَمِنْهَا عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ.
وَأَمَّا رِدَّتُهُ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ رِدَّتِهِ؛ لأِنَّ هَا ضَرَرٌ مَحْضٌ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ مَا عَدَا الْقَتْلَ.
وَنُقِلَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ وَالْمُنْتَقَى رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَالِيَّةُ كَالزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِحُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهَا لاَ تُقَامُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
ب - حُقُوقُ الْعِبَادِ:
أَمَّا الْمَالِيَّةُ مِنْهَا كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُجْرَةِ الأَْجِيرِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالأَْقَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ؛ لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ الْمَالُ، وَأَدَاؤُهُ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، فَيَصِحُّ لِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ أَدَاؤُهُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ أَدَّاهُ وَلِيُّهُ.
وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا عُقُوبَةُ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ لاَ يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ، فَلاَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ لِقُصُورِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فِي فِعْلِهِ، وَلَكِنْ تَجِبُ فِي فِعْلِهِ الدِّيَةُ؛ لأِنَّ هَا وَجَبَتْ لِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ، وَالصِّبَا لاَ يَنْفِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ؛ وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وُجُوبِهَا الْمَالُ، وَأَدَاؤُهُ قَابِلٌ لِلنِّيَابَةِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ فِي الْجِنَايَاتِ عَمْدٌ، فَتَغْلُظُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَيُحْرَمُ إِرْثَ مَنْ قَتَلَهُ.
أَمَّا تَصَرُّفَاتُهُ الْمَالِيَّةُ، فَفِيهَا تَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
(1) تَصَرُّفَاتٌ نَافِعَةٌ لَهُ نَفْعًا مَحْضًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا دُخُولُ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، مِثْلُ قَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ، وَهَذِهِ تَصِحُّ مِنْهُ، دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ؛ لأِنَّ هَا خَيْرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
(2) تَصَرُّفَاتٌ ضَارَّةٌ بِالصَّغِيرِ ضَرَرًا مَحْضًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ وَالطَّلاَقِ وَالْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ، وَهَذِهِ لاَ تَصِحُّ مِنْهُ، بَلْ تَقَعُ بَاطِلَةً، وَلاَ تَنْعَقِدُ، حَتَّى وَلَوْ أَجَازَهَا الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ؛ لأِنَّ هُمَا لاَ يَمْلِكَانِ مُبَاشَرَتَهَا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَلاَ يَمْلِكَانِ إِجَازَتَهَا.
(3) تَصَرُّفَاتٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بِحَسَبِ أَصْلِ وَضْعِهَا، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذِهِ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَصِحُّ صُدُورُهَا مِنْهُ، بِاعْتِبَارِ مَا لَهُ مِنْ أَصْلِ الأَْهْلِيَّةِ؛ وَلاِحْتِمَالِ أَنَّ فِيهَا نَفْعًا لَهُ، إِلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ لِنَقْصِ أَهْلِيَّتِهِ، فَإِذَا أَجَازَهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا بَطَلَتْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَقَعُ صَحِيحَةً لَكِنَّهَا لاَ تَكُونُ لاَزِمَةً، وَيَتَوَقَّفُ لُزُومُهَا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَصِحُّ صُدُورُهَا مِنَ الصَّبِيِّ، فَإِذَا وَقَعَتْ كَانَتْ بَاطِلَةً لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَيُّ أَثَرٍ.
الْمَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ - الْبُلُوغُ:
الْبُلُوغُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: قُوَّةٌ تَحْدُثُ لِلشَّخْصِ، تَنْقُلُهُ مِنْ حَالِ الطُّفُولَةِ إِلَى حَالِ الرُّجُولَةِ.
وَهُوَ يَحْصُلُ بِظُهُورِ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالاِحْتِلاَمِ، وَكَالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ فِي الأُْنْثَى، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعَلاَمَاتِ كَانَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِهِ، فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لِلْفَتَى، وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِلْفَتَاةِ، وَقَدَّرَهُ الصَّاحِبَانِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيرُهُ بِثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لِكُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
وَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَهِيَ مَرْحَلَةُ الْبُلُوغِ، يَكْتَمِلُ فِيهَا لِلإِْنْسَانِ نُمُوُّهُ الْبَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الْكَامِلَةِ، فَيَصِيرُ أَهْلاً لأَِدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَحَمُّلِ التَّبِعَاتِ، وَيُطَالَبُ بِأَدَاءِ كَافَّةِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَغَيْرِ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا اكْتَمَلَ نُمُوُّهُ الْعَقْلِيُّ مَعَ اكْتِمَالِ نُمُوِّهِ الْبَدَنِيِّ، أَمَّا إِذَا وَصَلَ إِلَى سِنِّ الْبُلُوغِ وَلَمْ يَكْتَمِلْ نُمُوُّهُ الْعَقْلِيُّ، بِأَنْ بَلَغَ مَعْتُوهًا أَوْ سَفِيهًا، فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَيَسْتَمِرُّ ثُبُوتُ الْوِلاَيَةِ عَلَيْهِ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ فِي السَّفِيهِ.
الْمَرْحَلَةُ الْخَامِسَةُ - الرُّشْدُ:
الرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ: الصَّلاَحُ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ.
وَالرُّشْدُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: حُسْنُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِثْمَارِهِ وَاسْتِغْلاَلِهِ اسْتِغْلاَلاً حَسَنًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: صَلاَحُ الدِّينِ وَالصَّلاَحُ فِي الْمَالِ.
وَهَذَا الرُّشْدُ قَدْ يَأْتِي مَعَ الْبُلُوغِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، تَبَعًا لِتَرْبِيَةِ الشَّخْصِ وَاسْتِعْدَادِهِ وَتَعَقُّدِ الْحَيَاةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ وَبَسَاطَتِهَا، فَإِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ.
وَإِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ، وَكَانَ عَاقِلاً كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، بَلْ تَبْقَى فِي يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ بِالْفِعْلِ، أَوْ يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، وَلَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ؛ لأِنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الاِحْتِيَاطِ وَالتَّأْدِيبِ، وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ، وَالإِْنْسَانُ بَعْدَ بُلُوغِهِ هَذِهِ السِّنَّ وَصَلاَحِيَّتِهِ لأََنْ يَكُونَ جَدًّا لاَ يَكُونُ أَهْلاً لِلتَّأْدِيبِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الشَّخْصَ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَلَكِنْ لاَ تَرْتَفِعُ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ، وَتَبْقَى أَمْوَالُهُ تَحْتَ يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّهُ مَنَعَ الأَْوْلِيَاءَ وَالأَْوْصِيَاءَ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إِلَى السُّفَهَاءِ، وَنَاطَ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِمْ بِتَوَافُرِ أَمْرَيْنِ: الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ بِالْبُلُوغِ مَعَ عَدَمِ الرُّشْدِ.
أَمَّا إِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا، ثُمَّ طَرَأَ السَّفَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ، بَيْنَ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ.
عَوَارِضُ الأَْهْلِيَّةِ:
الْعَوَارِضُ: جَمْعُ عَارِضٍ أَوْ عَارِضَةٍ، وَالْعَارِضُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: السَّحَابُ، وَمِنْهُ قوله تعالي فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا.
وَأَمَّا الْعَوَارِضُ فِي الاِصْطِلاَحِ فَمَعْنَاهَا: أَحْوَالٌ تَطْرَأُ عَلَى الإِْنْسَانِ بَعْدَ كَمَالِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ، فَتُؤَثِّرُ فِيهَا بِإِزَالَتِهَا أَوْ نُقْصَانِهَا، أَوْ تُغَيِّرُ بَعْضَ الأَْحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَرَضَتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ فِي أَهْلِيَّتِهِ.
أَنْوَاعُ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ:
عَوَارِضُ الأَْهْلِيَّةِ نَوْعَانِ: سَمَاوِيَّةٌ وَمُكْتَسَبَةٌ:
فَالْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ: هِيَ تِلْكَ الأُْمُورُ الَّتِي لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا اخْتِيَارٌ، وَلِهَذَا تُنْسَبُ إِلَى السَّمَاءِ؛ لِنُزُولِهَا بِالإِْنْسَانِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهِيَ: الْجُنُونُ، وَالْعَتَهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالنَّوْمُ، وَالإِْغْمَاءُ، وَالْمَرَضُ، وَالرِّقُّ، وَالْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَالْمَوْتُ.
وَالْمُكْتَسَبَةُ: هِيَ تِلْكَ الأُْمُورُ الَّتِي كَسَبَهَا الْعَبْدُ أَوْ تَرَكَ إِزَالَتَهَا، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَالَّتِي تَكُونُ مِنْهُ: الْجَهْلُ، وَالسُّكْرُ، وَالْهَزْلُ، وَالسَّفَهُ، وَالإِْفْلاَسُ، وَالسَّفَرُ، وَالْخَطَأُ، وَالَّذِي يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ الإِْكْرَاهُ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الحادي والعشرون ، الصفحة / 274
- الاِلْتِزَامُ:
أَصْلُ الاِلْتِزَامِ اللُّزُومُ، وَمَعْنَى اللُّزُومِ فِي اللُّغَةِ الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، يُقَالُ لَزِمَ الشَّيْءُ يَلْزَمُ لُزُومًا أَيْ ثَبَتَ وَدَامَ، وَلَزِمَهُ الْمَالُ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ: وَجَبَ حُكْمُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَالَ وَالْعَمَلَ فَالْتَزَمَهُ، وَالاِلْتِزَامُ أَيْضًا الاِعْتِنَاقُ.
وَالاِلْتِزَامُ أَيْضًا: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا لَهُ، أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَبْلُ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى شَامِلٌ لِلْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ جَرَتْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالاَتُ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ تَدُلُّ تَعْبِيرَاتُهُمْ عَلَى أَنَّ الاِلْتِزَامَ عَامٌّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الاِخْتِيَارِيَّةِ، وَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ الْعُقُودِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُعَاوَضَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ، وَهُوَ مَا اعْتَبَرَهُ الْحَطَّابُ اسْتِعْمَالاً لُغَوِيًّا.
قَالَ الْحَطَّابُ: وَالاِلْتِزَامُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَالْحَبْسُ (الْوَقْفُ) وَالْعَارِيَّةُ، وَالْعُمْرَى، وَالْعَرِيَّةُ، وَالْمِنْحَةُ، وَالإِْرْفَاقُ وَالإِْخْدَامُ، وَالإِْسْكَانُ، وَالنَّذْرُ، قَالَ الْحَطَّابُ فِي كِتَابِهِ تَحْرِيرِ الْكَلاَمِ: وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَعْرُوفِ بِلَفْظِ الاِلْتِزَامِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الرابع والأربعون ، الصفحة / 56
وَطَن
التَّعْرِيفُ:
الْوَطَنُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالطَّاءِ- فِي اللُّغَةِ: مَنْزِلُ الإْقَامَةِ، أَوْ مَكَانُ الإْنْسَانِ وَمَقَرُّهُ، وَيُقَالُ لِمَرْبِضِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالإِبِلِ: وَطَنٌ، وَهُوَ مُفْرَدٌ، جَمْعُهُ أَوْطَانٌ، وَمِثْلُ الْوَطَنِ الْمَوْطِنُ، وَجَمْعُهُ مَوَاطِنُ، وَأَوْطَنَ: أَقَامَ، وَأَوْطَنَهُ وَوَطَّنَهُ وَاسْتَوْطَنَهُ: اتَّخَذَهُ وَطَنًا، وَمَوَاطِنُ مَكَّةَ: مَوَاقِفُهَا .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْوَطَنُ: هُوَ مَنْزِلُ إِقَامَةِ الإْنْسَانِ وَمَقَرُّهُ، وُلِدَ بِهِ أَوْ لَمْ يُولَدْ .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَحَلَّةُ:
الْمَحَلَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَنْزِلُ الْقَوْمِ، وَالْجَمْعُ مَحَالُّ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ مَنْزِلُ قَوْمِ إِنْسَانٍ وَلَوْ تَفَرَّقَتْ بُيُوتُهُمْ حَيْثُ جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَحَلَّةِ وَالْوَطَنِ أَنَّ الْوَطَنَ أَعَمُّ مِنَ الْمَحَلَّةِ.
أَنْوَاعُ الْوَطَنِ:
يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْوَطَنَ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الأْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: وَطَنٌ أَصْلِيٌّ، وَوَطَنُ إِقَامَةٍ، وَوَطَنُ سُكْنَى، كَمَا يَلِي:
أ- الْوَطَنُ الأْصْلِيُّ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ هُوَ: مَوْطِنُ وِلاَدَةِ الإْنْسَانِ أَوْ تَأَهُّلِهِ أَوْ تَوَطُّنِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْوَطَنُ الأْصْلِيُّ، وَيُسَمَّى بِالأْهْلِيِّ، وَوَطَنُ الْفِطْرَةِ، وَالْقَرَارِ، وَمَعْنَى تَأَهُّلِهِ أَيْ تَزَوُّجِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلْدَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا دَخَلَهَا صَارَ مُقِيمًا، فَإِنْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ فِي إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَ لَهُ فِيهَا دُورٌ وَعَقَارٌ، قِيلَ: لاَ يَبْقَى وَطَنًا، إِذِ الْمُعْتَبَرُ الأْهْلُ دُونَ الدَّارِ، وَقِيلَ: تَبْقَى، وَمَعْنَى تَوَطُّنِهِ أَيْ عَزْمِهِ عَلَى الْقَرَارِ فِيهِ وَعَدَمِ الاِرْتِحَالِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ فِيهِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْوَطَنُ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الشَّخْصُ لاَ يَرْحَلُ عَنْهُ صَيْفًا وَلاَ شِتَاءً إِلاَّ لِحَاجَةٍ كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَةٍ .
وَيَلْحَقُ بِهِ الْقَرْيَةُ الْخَرِبَةُ الَّتِي انْهَدَمَتْ دُورُهَا وَعَزَمَ أَهْلُهَا عَلَى إِصْلاَحِهَا وَالإْقَامَةِ بِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً .
كَمَا يَلْحَقُ بِهِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ امْرَأَةٌ لَهُ أَوْ تَزَوَّجَ فِيهِ، لِحَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلاَةَ الْمُقِيمِ» .
قَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ بَعْدَ فِرَاقِ الزَّوْجَةِ .
وَيُؤْخَذُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْوَطَنِ الْبَلَدُ الَّذِي لِلشَّخْصِ فِيهِ أَهْلٌ أَوْ مَاشِيَةٌ، وَقِيلَ: أَوْ مَالٌ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْوَطَنُ هُوَ مَحَلُّ سُكْنَى الشَّخْصِ بِنِيَّةِ التَّأْبِيدِ، وَمَوْضِعُ الزَّوْجَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ سُكْنَاهُ عِنْدَهَا، فَمَنْ كَانَ لَهُ بِقَرْيَةٍ وَلَدٌ فَقَطْ أَوْ مَالٌ فَإِنَّهَا لاَ تَكُونُ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ .
ب- وَطَنُ الإْقَامَةِ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَطَنُ الإْقَامَةِ هُوَ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ الإْنْسَانُ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ مُدَّةٍ قَاطِعَةٍ لِحُكْمِ السَّفَرِ، وَيُسَمَّى بِالْوَطَنِ الْمُسْتَعَارِ أَوْ بِالْوَطَنِ الْحَادِثِ.
وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِحُكْمِ السَّفَرِ .
ج- وَطَنُ السُّكْنَى:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَطَنُ السُّكْنَى هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْصِدُ الإْنْسَانُ الْمُقَامَ بِهِ أَقَلَّ مِنَ الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلسَّفَرِ .
(ر: صَلاَةِ الْمُسَافِرِ ف3 – 8)
شُرُوطُ الْوَطَنِ:
لاَ يُسَمَّى الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الإْنْسَانُ وَطَنًا لَهُ تُنَاطُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطَنِ إِلاَّ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطٌ.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ كَوْنِهِ وَطَنًا أَصْلِيًّا، أَوْ وَطَنَ إِقَامَةٍ، أَوْ وَطَنَ سُكْنَى.
ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الشُّرُوطِ مِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَبَعْضَهَا مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
شُرُوطُ الْوَطَنِ الأْصْلِيِّ:
أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا بِنَاءً مُسْتَقِرًّا بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْبِنَاءِ بِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَيْثُ عَرَّفُوا الْوَطَنَ فِي مَعْرِضِ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِ إِقَامَةِ صَلاَةِ الْجُمْعَةِ بِأَنَّهَا الْقَرْيَةُ الْمَبْنِيَّةُ بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِبِنَائِهَا بِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ طِينٍ أَوْ لَبِنٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ شَجَرٍ وَنَحْوِهِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ .
وَالْحَنَفِيَّةُ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ يَعْتَبِرُونَ الْمَكَانَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ الشَّخْصُ أَوْ تَأَهَّلَ فِيهِ أَوْ تَوَطَّنَ فِيهِ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ .
ب -شُرُوطُ وَطَنِ الإْقَامَةِ:
تُشْتَرَطُ لاِتِّخَاذِ مَكَانٍ وَطَنًا لِلإْقَامَةِ شُرُوطٌ، مِنْهَا: نِيَّةُ الإْقَامَةِ، وَمُدَّةُ الإْقَامَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَاتِّخَاذُ مَكَانِ الإْقَامَةِ، وَصَلاَحِيَّةُ الْمَكَانِ لِلإْقَامَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمَكَانُ وَطَنًا أَصْلِيًّا لِلْمُقِيمِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ وَمَعْرِفَةِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا (ر: صَلاَة الْمُسَافِرِ ف26 - 29)
شُرُوطُ وَطَنِ السُّكْنَى:
لَيْسَ لِوَطَنِ السُّكْنَى إِلاَّ شَرْطَانِ، وَهُمَا: عَدَمُ نِيَّةِ الإْقَامَةِ فِيهِ، وَعَدَمُ الإْقَامَةِ فِيهِ فِعْلاً الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ- بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ- وَأَنْ لاَ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا لِلْمُقِيمِ فِيهِ.
(ر: صَلاَة الْمُسَافِرِ ف8)
مَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْوَطَنُ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْوَطَنُ الأْصْلِيُّ لاَ يَنْتَقِضُ إِلاَّ بِالاِنْتِقَالِ مِنْهُ إِلَى مِثْلِهِ، بِشَرْطِ نَقْلِ الأْهْلِ مِنْهُ، وَتَرْكِ السُّكْنَى فِيهِ، فَإِذَا هَجَرَ الإْنْسَانُ وَطَنَهُ الأْصْلِيَّ ، وَانْتَقَلَ عَنْهُ بِأَهْلِهِ إِلَى وَطَنٍ أَصْلِيٍّ آخَرَ، بِشُرُوطِهِ لَمْ يَبْقَ الْمَكَانُ الأْوَّلُ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ، فَإِذَا دَخَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسَافِرًا، بَقِيَ مُسَافِرًا عَلَى حَالِهِ، مَا لَمْ يَنْوِ فِيهِ الإْقَامَةَ، أَوْ مَا لَمْ يُقِمْ فِيهِ فِعْلاً الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقِيمًا، وَيَكُونُ الْمَكَانُ لَهُ وَطَنَ إِقَامَةٍ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَطَنَ الأْصْلِيَّ لاَ يَنْتَقِضُ بِاتِّخَاذِ وَطَنٍ أَصْلِيٍّ آخَرَ. قَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: لاَ يَقْصُرُ مَنْ مَرَّ بِوَطَنِهِ سَوَاءٌ كَانَ وَطَنَهُ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَاضِي، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بِهِ حَاجَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ طَرِيقُهُ إِلَى بَلَدٍ يَطْلُبُهُ .
وَمَنِ اسْتَوْطَنَ وَطَنًا آخَرَ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ وَطَنِهِ الأْوَّلِ، كَأَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ مَثَلاً: الأْولَى فِي وَطَنِهِ الأْوَّلِ، وَالثَّانِيَةُ فِي وَطَنٍ آخَرَ جَدِيدٍ، كَانَ الْمَكَانُ الآْخَرُ وَطَنًا لَهُ بِشُرُوطِهِ، وَلَمْ يَنْتَقِضِ الْوَطَنُ الأْوَّلُ بِذَلِكَ، لِعَدَمِ التَّحَوُّلِ عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ لِلإْنْسَانِ زَوْجَتَانِ فِي بَلَدَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يُعَدَّانِ وَطَنَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ لَهُ، فَأَيُّهُمَا دَخَلَهَا عُدَّ مُقِيمًا فِيهَا مُنْذُ دُخُولِهِ مُطْلَقًا، وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
وَلاَ يَنْتَقِضُ الْوَطَنُ الأْصْلِيُّ بِوَطَنِ الإْقَامَةِ، وَلاَ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لأِنَّهُ أَعْلَى مِنْهُمَا، فَلاَ يَنْتَقِضُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَيْهِ فَلَوْ خَرَجَ مِنْ وَطَنِهِ الأْصْلِيِّ مُسَافِرًا إِلَى بَلَدٍ، وَأَقَامَ فِيهَا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ، أَوْ نَوَى ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، لَمْ يَنْتَقِضْ بِذَلِكَ وَطَنُهُ الأْصْلِيُّ، فَلَوْ عَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ عُدَّ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا.
أَمَّا وَطَنُ الإْقَامَةِ، فَيَنْتَقِضُ بِالْوَطَنِ الأْصْلِيِّ؛ لأِنَّهُ فَوْقَهُ، وَبِوَطَنِ الإْقَامَةِ أَيْضًا؛ لأِنَّهُ مِثْلُهُ، كَمَا يَنْتَقِضُ بِالسَّفَرِ، وَلاَ يَنْتَقِضُ وَطَنُ الإْقَامَةِ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لأِنَّهُ دُونَهُ.
أَمَّا وَطَنُ السُّكْنَى، فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالْوَطَنِ الأْصْلِيِّ، وَبِوَطَنِ الإْقَامَةِ، وَبِوَطَنِ السُّكْنَى أَيْضًا، أَمَّا الأْوَّلاَنِ فَلأِنَّهُمَا فَوْقَهُ، وَأَمَّا الآْخِرُ فَ لأِنَّهُ مِثْلُهُ، وَالشَّيْءُ يَنْتَقِضُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ.