تجيز المادة 32 عقد الإختصاص لمحاكم الجمهورية إذا قبل الخصم ولايتها صراحة أو ضمناً وقد سوى المشروع بين القبول الصريح والقبول الضمني في هذا الشأن معالجاً بذلك ما وجه من نقد إلى نص المادة 862 من القانون القائم بسبب إقتصار حكمها على حالة القبول الصريح ومعمماً هذا الحكم بحيث يشمل المنازعات في مواد الأحوال العينية وفي مواد الأحوال الشخصية على السواء .
1- إن الحكم بعدم اختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعوى لا يترتب عليه انقضاء الحق الذي رفعت به وإلا كان إنكارا لحق المدعيين في العدالة والانتصاف ، وترك الضرر يستقر حيثما وقع دون أن تتحمل الدولة المعتدية مسئولية ما ترتب على عدوانها ، وهو ما يشكل ظلما بينا للمدعيين ، فإن هذا الحكم لا يحول بينهم وبين مطالبة الحكومة المصرية بوصفها الهيئة التنفيذية والإدارية العليا والممثل الوحيد للدولة والمعبر عن سيادتها في علاقتها بأشخاص القانون الدولي ، باتخاذ جميع الإجراءات الضرورية اللازمة على الصعيد الدولي وسلوك كافة السبل التي توفرها قواعد القانون الدولي بما يكفل الحصول للمدعيين على حقهم في التعويض عن الأضرار التي حاقت بهم من جراء قتْل القوات الفرنسية لمورثهم بعد أسره بالمخالفة لاتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولات الملحقة بها وقواعد العرف الدولي الآمرة – على ما سلف بيانه – ، ذلك أن السعي الجاد لحماية حقوق المواطنين من عدوان دولة أجنبية لا يدخل في نطاق وظيفتها ومسئوليتها السياسية كسلطة تنفيذية فحسب ، بل يمثل التزاما أخلاقيا وإنسانيا ، فضلا عن أنه التزامٌ دستوريٌ وقانونيٌ على عاتق الدولة ، مما لا سبيل إلى إنكاره أو النكول به ، فهي كما تفرض سيادتها عن طريق أعمال السيادة التي لا تخضع لرقابة القضاء ، يجب أنْ تبْسط حمايتها على مواطنيها من كل عسف أو عدوان على حقوقهم سواء كان المعتدي من داخل الدولة أو خارجها ، وهو ما يأتي في صدارة واجبات الحكومة وأسمى وظائفها .
( الطعن رقم 2703 لسنة 87 ق - جلسة 15 / 6 / 2020 )
2- الاتفاقيات الدولية الجماعية لا تلزم إلا الدول أطرافها في علاقتها المتبادلة ، وهي الدول التي صدقت عليها علي النحو الذي يحدده تشريعها الداخلي وقامت بإيداع هذا التصديق بالطريقة التي توجبها كل اتفاقية ، بما مؤداه ، أن الدول التي لم تنضم إلي اتفاقية جماعية معينة تخضع في علاقاتها المتبادلة وفي علاقاتها مع الدول التي انضمت إليها للقواعد المقررة في القانون الدولي ، دون تلك التي نصت عليها الاتفاقية ، إذ لا يتصور أنْ تنشئ الاتفاقية التزامات أو حقوقا للدول غير الأطراف بدون موافقتها ، احتراما لسيادة تلك الدول ، كما أنه من غير المقبول أن تستفيد دولة من أحكام اتفاقية ليست طرفا فيها .
( الطعن رقم 2703 لسنة 87 ق - جلسة 15 / 6 / 2020 )
3- إذ كان الطاعنون قد أقاموا دعواهم على سفير فرنسا بصفته الممثل القانوني لها ، بطلب التعويض عما لحقهم من أضرار بسبب قتل القوات الفرنسية مورثهم الضابط بالجيش المصري بعد أسره من هذه القوات خلال الحرب العدوانية التي شاركت فيها عام 1956 ، وبرغم أن المستندات المقدمة من الطاعنين وخاصة كتاب مفوض الهيئة الدولية للصليب الأحمر المؤرخ 29 / 4 / 1975 ، وكذلك الصادرة من وزارة الدفاع المصرية والشهادة التي تفيد منْح المورث نجمة الشرف فضلا عما ساقوه من قرائن يقْطع جميعها باستشهاده علي يد القوات الفرنسية بعد أسره ، ... ، وبرغم ثبوت مخالفة القوات الفرنسية لأحكام اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها - على النحو السالف البيان - بما يستوجب مسئولية الدولة الفرنسية عما قارفته قواتها المسلحة في حق مورث الطاعنين ، إلا أن الحصانة القضائية التي تتمتع بها الدولة الفرنسية تعفيها من الخضوع لولاية المحاكم المصرية ، ولا يؤثر في ذلك انضمام الدولة الفرنسية إلى اتفاقية الأمم المتحدة لحصانات الدول وممتلكاتها من الولاية القضائية التي نشرتْ وفتحت للتوقيع بموجب قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 2 / 12 / 2004 التي نصت في المادة 12 منها علي أنه ... ، لكل ما تقدم بيانه آنفا ، فإن هذه المحكمة لا تملك سوى تقرير عدم اختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعوى والوقوف عند هذا الحد ، باعتبار ... ، فإن الحكم المطعون فيه إذ انطوى قضاؤه في موضوع الدعوى على قضاء ضمني باختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعوى ، فإنه يكون معيبا بمخالفة القانون ، بما يوجب نقضَه وإلغاء الحكم المستأنف والقضاء بعدم اختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعوى .
( الطعن رقم 2703 لسنة 87 ق - جلسة 15 / 6 / 2020 )
4- النص فى المادة 32 من قانون المرافعات على أن " تختص محاكم الجمهورية بالفصل فى الدعوى ولو لم تكن داخلة فى اختصاصها طبقا للمواد السابقة إذا قبل الخصم ولايتها صراحة أو ضمنا " مفاده أن المشرع أضاف لحالات ضوابط اختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعاوى ، ضابطا آخر هو" ضابط إرادة الخصوم " ذلك عندما يتفقوا صراحة أو ضمنا على قبول ولاية القضاء المصرى لنظر النزاع حال أن النزاع غير خاضع فى الأصل لاختصاص محاكمها وفقا للضوابط الواردة على سبيل الحصر فى المواد من 28 وحتى 31 من القانون السالف ، وهو المعروف " بالخضوع الاختيارى للقضاء الوطنى ".
( الطعن رقم 15807 لسنة 80 ق - جلسة 2014/03/24 )
5- تمتع الشخص الطبيعى أو الإعتبارى الأجنبى بالحصانة القضائية وعدم الخضوع للقضاء الوطنى يمنع من إختصاص المحاكم المصرية ولائياً بنظر المنازعات الصادر في شأنها هذا الإعفاء ولو كانت لهذا الشخص إقامة في مصر وأن ما ورد في المواد من 29 - 35 من قانون المرافعات الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968من اختصاص محاكم الجمهورية بنظر الدعاوى التى ترفع على الأجنبي المقيم في مصر إنما يمثل الإطار العام الوارد في هذا القانون وبديهى أن يخرج عن هذا النطاق ما استثنى منه بقوانين خاصة تعفى الأجنبى من الخضوع للقضاء الوطنى سواء كانت تلك القوانين سابقة أو لاحقة على صدور قانون المرافعات إذ أن المقرر أن القانون العام لا يلغى قانوناً خاصاً إلا إذا نص على ذلك صراحة ومن أمثلة ذلك القوانين الصادرة بالموافقة على الإتفاقات والمعاهدات الدبلوماسىة من الخضوع للقضاء الإقليمى والقوانين الصادرة بالموافقة على الإتفاقيات والمعاهدات الدولية التى تقضى باختصاص القضاء المصرى بنظر الدعاوى التى ترفع على الأجنبى المقيم في مصر أو له محل إقامة مختار بها لما تتمتع به الهيئة المطعون ضدها من إعفاء من الخضوع للقضاء الإقليمى وارد على سبيل الحصر في الاتفاقية المعقودة بينهما وبين سلطة تشريعية في ذلك الوقت فأصبحت قانون المرافعات طالما لم ينص القانون الأخير على إلغائها .
( الطعن رقم 2248 لسنة 53 ق - جلسة 9 / 12 / 1993 )
قبول الخصم ولاية المحاكم المصرية :
اذا كان الاختصاص الدولي لم ينعقد للمحاكم المصرية بموجب أي من المواد السابقة ورفع المدعي أمامها دعوي لا تختص بنظرها، فإن المحكمة تقضي في هذه الحالة ومن تلقاء نفسها بعدم إختصاصها دولياً بنظرها وتقف عند هذا الحد فلا تأمر بإحالة الدعوي للمحكمة المختصة لإقتصار الإحالة علي المحاكم المصرية ولأن هذه المحاكم لا سلطان لها على المحاكم الأجنبية، أما إن حضر المدعي عليه ودفع بعدم إختصاص المحكمة دولياً بنظر الدعوي، تعين الأخذ بهذا الدفع، فإن حضر ولم يبد هذا الدفع، وترافع في الدعوي بإبداء أوجه دفاعه أو دفوع موضوعية فإنه يكون قد قبل اختصاص المحكمة المصرية ضمناً ، وقد يقبل هذا الاختصاص صراحة وحينئذ ينعقد الاختصاص لها ولا يشترط لذلك اثبات هذا القبول كتابة ان لم يكن قد أثبت، إذ يكفي القبول الضمني إذا ثار النزاع حول القبول الصريح.
ومتي تم هذا القبول صراحة أو ضمناً سقط حق المدعي عليه في الدفع بعدم الاختصاص الدولي للمحكمة، والساقط لا يعود، وتستمر المحكمة في نظر الدعوي ثم تصدر حكمها في الدفع برفضه وفي الموضوع وفقاً لما تخلص إليه.
ويسري نص المادة 32 من قانون المرافعات علي كافة الدعاوي التي ترفع الي المحاكم المصرية، سواء تعلقت بالأحوال العينية أو الشخصية . .)المطول في شرح قانون المرافعات، المستشار/ أنور طلبة، الناشر/ المكتب الجامعي الحديث، الجزء / الأول ، الصفحة : 481 )
وفقاً للمادة 32 مرافعات - محل التعليق - تختص المحاكم المصرية بالفصل في الدعوى ولو لم تكن داخلة في اختصاصها إذا قبل الخصم ولايتها صراحة أو ضمناً ، وهذا هو مايسمى بالخضوع الإختياري لولاية القضاء، أو المد الاختياري لولاية القضاء ( عز الدين عبدالله - ج2 - بند 196 ص 673 هامش رقم 1 ) ، فقد يقبل المدعى أو المدعى عليه الخضوع لولاية القضاء المصري، رغم عدم دخول المنازعة أصلاً في ولاية هذا القضاء، وهذا القبول قد يكون صريحاً وقد يكون ضمنياً ، والقبول الصريح يتحقق عادة بالنص عليه في التصرف القانونی الذي تستند إليه الدعوى، ويغلب أن يكون قبول الإختصاص في هذه الحالة عاماً فلا يقتصر على دعوى بعينها، بمعني أنه بنص في هذا التصرف على اختصاص محاكم دولة معينة بكافة المنازعات المتعلقة بهذا التصرف، أما القبول الضمني فهو ما يحمل عليه سلوك الخصم ( عز الدين عبدالله - ح 2- بند 196 ص 734 ) ، وهو يتحقق من ناحية المدعي برفع دعواه أمام المحاكم المصرية، ويتحقق بالنسبة للمدعى عليه إذا ما رفعت عليه الدعوى أمام هذه المحاكم فحضر ولم يتمسك بعدم إختصاصها، إذ يدل هذا المسلك من المدعي أو المدعى عليه على قبوله ولاية القضاء المصري .
ولكن إذا كان للخصم أن يقبل بإرادته الخضوع لولاية القضاء المصري رغم عدم انعقاد الإختصاص للمحاكم المصرية بنظر الدعوى فإنه ليس له أن يستبعد اختصاص المحاكم المصرية، إذا ما كانت هذه المحاكم هي المختصة بنظر الدعوى وفقاً للقانون المصري، إذ رغم أن الدولة تجيز مد اختصاص محاكمها على أساس الإرادة، فإنها لاتجيز الخروج عليه على أساس الإباحة، لأن أداء العدالة مصاحة عامة تباشرها الدولة في الحدود التي تحقق هذه المصلحة بواسطة محاكمها، التي تراها دون غيرها، من محاكم أجنبية أو محكمين يباشرون وظيفتهم في الخارج، جديرة بأن تكفل هذه الغاية، فأساس عدم جواز إستبعاد الخصم لاختصاص المحاكم المصرية إذا ما كانت هذه المحاكم المختصة بنظر الدعوى وفقاً للقانون المصرى أن أداء العدالة هو وظيفة من وظائف الدولة تباشرها بواسطة سلطة من سلطاتها هي محاكمها، وإذا كانت الدولة تركت بيد الأفراد وسيلة تحريك هذه السلطة لمباشرة تلك الوظيفة، ألا وهي وسيلة الدعوى، فليس معنى هذا أن القضاء يؤدي أولاً وآخراً لصالح الأفراد، بل أنه في الحقيقة يؤدي لتحقيق مصلحة عامة، وهي إقرار النظم والسكينة في إقليم الدولة منذ أن حلت الدولة محل الفرد في إقرار حقه وحمايته، وإذا كانت الدولة تركت الفرد إختيار الظروف التي يحرك فيها السلطة القضائية، أي الظروف التي يباشر فيها الدعوى، فما ذلك إلا حملاً على التقاء المصلحة الخاصة، مصلحة الفرد، مع المصلحة العامة، ولكن ليس للفرد أن يذهب إلى أبعد من هذا فيمتنع عن تحريك هذه السلطة ويحرك بدلها سلطة قضائية في دولة أجنبية أو محكمين يباشرون وظيفتهم في دولة أجنبية، والدولة هي التي ترسم حدود ولاية القضاء فيها مقدرة في رسمها ما يلزم لتحقيق المصلحة العامة الهامة وهي أداء العدالة ، وهي لاترى أية سلطة أخرى أجنبية تصلح لأدائها ( عز الدين عبد الله - القانون الدولي الخاص - سابق الإشارة إليه - الجزء الثاني - بند 197 - ص 738 و ص 739 ) .
كذلك ينبغي ملاحظة أن قواعد الإختصاص القضائي الدولي في مصر تعتبر من النظام العام ( محمد عبدالخالق عمر - قانون المرافعات - المرجع السابق - ص 19 ، أحمد أبو الوفا - المرافعات المدنية والتجارية - المرجع السابق بند 25 ص 93 وص 94، فؤاد عبد المنعم رياض وسامية راشد الوجيز في القانون الدولي الخاص - المرجع السالف الذكر - الجزء الثاني - بند 317 ص 358 ) ، وهذا يؤكد لنا عدم قدرة الخصم على إستبعاد إختصاص المحاكم المصرية، إذا ما كانت هذه المحاكم هي المختصة وفقاً لقواعد الإختصاص القضائي المصري . ( الموسوعة الشاملة في التعليق على قانون المرافعات، الدكتور/ أحمد مليجي، الطبعة الثالثة عشر 2016 طبعة نادي القضاة ، الجزء / الأول ، الصفحة : 795 )
قبول الأجنبي اختصاص القضاء المصري قد يكون صريحاً وقد يكون ضمنياً والقبول الصريح يكون بالنص عليه في سند الرابطة القانونية محل الدعوى كما إذا كان عقداً ونص فيه على اختصاص المحاكم الوطنية بنظر الأنزعة التي تثور بشأنه وفي هذه الحالة يكون قبولاً عاماً بشأن كافة الدعاوى المتعلقة بهذا العقد وقد يكون القبول الصريح خاصاً بدعوى بعينها ، أما القبول الضمني فيستفاد ضمناً من سلوك صاحب الشأن كما لو أقام الأجنبي الدعوى أمام القضاء المصري أو أقيمت عليه الدعوى أمام القضاء المصري فلم يدفع بعدم الاختصاص. ( التعليق على قانون المرافعات، المستشار/ عز الدين الديناصوري والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات وتحديث أحكام النقض للأستاذ/ خيرت راضي المحامي بالنقض، الطبعة 2017 دار المطبوعات الجامعية، الجزء : الأول ، الصفحة : 423 )
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / العشرون ، الصفحة / 277
مَكَانُ الدَّعْوَى:
- الْكَلاَمُ فِي مَكَانِ الدَّعْوَى يَقْتَضِي بَيَانَ أَمْرَيْنِ: الأْوَّلُ: الْمَجْلِسُ الَّذِي تُرْفَعُ فِيهِ الدَّعْوَى وَتُنْظَرُ فِيهِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَالثَّانِي: الْقَاضِي الْمُخْتَصُّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى.
أَوَّلاً: مَجْلِسُ الْقَضَاءِ:
- الأْصْلُ أَنَّ جَمِيعَ الأْمْكِنَةِ صَالِحَةٌ لِتَلَقِّي الْمُتَنَازِعَيْنِ وَالنَّظَرِ فِي خُصُومَاتِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَحْرُمُ فِيهِ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِهْدَارُ حَقٍّ أَوْ فِعْلُ مُحَرَّمٍ، كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَ الْقَاضِي مِلْكَ إِنْسَانٍ مِنْ أَجْلِ الْقِيَامِ بِإِجْرَاءَاتِ التَّقَاضِي مِنْ غَيْرِ الْحُصُولِ عَلَى إِذْنِهِ.
وَلَكِنْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِفَاتٍ وَخَصَائِصَ يُسْتَحَبُّ تَوَافُرُهَا فِي الأْمَاكِنِ الَّتِي تُرْفَعُ فِيهَا الدَّعَاوَى، وَيُفْصَلُ فِيهَا بَيْنَ الْخُصُومِ. وَيُمْكِنُ إِرْجَاعُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْخَصَائِصِ إِلَى أَمْرَيْنِ:
الأْوَّلُ: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تَوَفَّرَ التَّيْسِيرُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَالاِهْتِدَاءِ إِلَى مَوْضِعِهَا، وَأَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يُتَوَخَّى الْعَدْلُ وَالإْنْصَافُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا يَبْذُلُونَهُ مِنَ الْجَهْدِ لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تَوَفَّرَ الاِسْتِقْرَارُ النَّفْسِيُّ وَالرَّاحَةُ الْجَسَدِيَّةُ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَقْصِدُونَهَا لِلتَّقَاضِي، وَلِلْقُضَاةِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهَا مَجْلِسًا لِلْقِيَامِ بِوَظَائِفِهِمْ.
وَيَنْبَنِي عَلَى الأْمْرِ الأْوَّلِ أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ، بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَيْهِ كُلُّ قَاصِدٍ لِلتَّقَاضِي، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ بَارِزٍ، وَلَيْسَ فِي مَوْضِعٍ مُسْتَتِرٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ، حَتَّى وَإِنْ أَقَامَ الْقَاضِي عَلَى بَابِهِ مَنْ يَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ لاَ يَظْهَرُ جُلُوسُهُ بِهِ، وَلاَ يَهْتَدِي إِلَيْهِ الْغُرَبَاءُ.
وَيَنْبَنِي عَلَى الأْمْرِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فَسِيحًا لاَ يَتَأَذَّى الْحَاضِرُونَ بِضِيقِهِ، وَأَنْ يَكُونَ نَزِهًا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَالْغُبَارُ وَالدُّخَانُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيَجْلِسُ الْقَاضِي لِلصَّيْفِ حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ، وَلِلرِّيَاحِ وَالشِّتَاءِ حَيْثُ يَلِيقُ.
وَلِلْفُقَهَاءِ اخْتِلاَفَاتٌ وَتَفْصِيلاَتٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ مِنِ اتِّخَاذِ الْبَوَّابِ وَالْحَاجِبِ، وَاتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَجْلِسًا لِلتَّقَاضِي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ، وَمَسْجِدٌ، وَحَاجِبٌ ج 16 - 244).
ثَانِيًا: الْقَاضِي الْمُخْتَصُّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى:
- لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ وَاحِدٌ يَخْتَصُّ بِالطَّرَفَيْنِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي تُرْفَعُ إِلَيْهِ الدَّعْوَى. أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ الْقُضَاةُ، وَاسْتَقَلَّ كُلٌّ بِمَحَلَّةٍ يَخْتَصُّ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ أَهْلِهَا، وَلاَ يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى عَلَى الآْرَاءِ الآْتِيَةِ.
- الرَّأْيُ الأْوَّلُ: أَنَّ الدَّعْوَى تُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي الَّذِي يَخْتَارُهُ الْمُدَّعِي. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَمُعْظَمُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَعَدَّدَ الْقُضَاةُ فِي نِطَاقِ بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الْمُتَنَازِعَانِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ بِأَنَّ الْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ، بِحَيْثُ إِذَا تَرَكَهَا تُرِكَ وَشَأْنُهُ، فَهُوَ الْمُنْشِئُ لِلْخُصُومَةِ، فَيُعْطَى الْخِيَارَ: إِنْ شَاءَ أَنْشَأَهَا عِنْدَ قَاضِي مَكَانِهِ هُوَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْشَأَهَا عِنْدَ قَاضِي مَكَانِ خَصْمِهِ، فَلأِنَّ الْحَقَّ لَهُ فِي الدَّعْوَى جُعِلَ الْحَقُّ لَهُ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي.
- الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي الَّذِي يَنْظُرُ فِي الدَّعْوَى يَكُونُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَ لِلْمُدَّعِي، وَإِلَى هَذَا الرَّأْيِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ.
وَيَسْتَنِدُ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمَدَافِعُ يَطْلُبُ السَّلاَمَةَ لِنَفْسِهِ، وَالأْصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ، فَأَخْذُهُ إِلَى مَنْ يَأْبَاهُ لِرِيبَةٍ يَثْبُتُ عِنْدَهُ رُبَّمَا يُوقِعُهُ فِي ارْتِبَاكٍ يَحْصُلُ لَهُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى إِثْبَاتِ مَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ، فَالأْوْلَى مُرَاعَاةُ جَانِبِهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَاعْتِبَارُ اخْتِيَارِهِ، لأِنَّهُ يُرِيدُ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَخَصْمُهُ يُرِيدُ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ طَلَبَ السَّلاَمَةَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ مِمَّنْ طَلَبَ ضِدَّهَا.
وَيَرَى بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَذْهَبَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ لَيْسَ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ عِنْدَهُ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي الَّذِي تُرْفَعُ إِلَيْهِ الدَّعْوَى وَيُنْظَرُ فِيهَا هِيَ لِمَكَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ قَاضِيَ هَذَا الْمَكَانِ هُوَ الْمُخْتَصُّ فِيهِ، فَلَيْسَتِ الْعِبْرَةُ لاِخْتِيَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لِمَكَانِهِ.
- الرَّأْيُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدِ اتَّفَقُوا مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّ الاِخْتِيَارَ يَكُونُ لِلْمُدَّعِي فِي تَحْدِيدِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى فِي حَالَةِ تَعَدُّدِ الْقُضَاةِ فِي نِطَاقِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ. إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مَعَهُمْ فِي تَحْدِيدِهِ عِنْدَمَا يَتَعَدَّدُ الْقُضَاةُ، وَتَتَعَدَّدُ الْبِلاَدُ، وَاخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْمُدَّعَى بِهِ أَيْضًا عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
- فَفِي دَعَاوَى الدَّيْنِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى تُنْظَرُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ فِيهِ الطَّالِبُ بِالْمَطْلُوبِ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مُدَّعِيَ الدَّيْنِ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْقُضَاةِ إِذَا كَانَ هُوَ وَخَصْمُهُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَتَعَدَّدَ قُضَاتُهُ، وَكَانُوا مُسْتَقِلِّينَ بِالنَّظَرِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى. فَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِخَصْمِهِ فِي أَيِّ مَكَانٍ يَجِدُهُ، وَيُطَالِبُ بِحَقِّهِ عِنْدَ قَاضِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
- وَفِي دَعَاوَى الْعَيْنِ يُنْظَرُ: إِنْ كَانَ الْمُتَخَاصِمَانِ مِنْ بَلَدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَكِلاَهُمَا فِي وِلاَيَةِ قَاضٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الدَّعْوَى تُرْفَعُ إِلَى ذَلِكَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي بَلَدِ الْمُدَّعِي أَمْ فِي بَلَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَحَيْثُمَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي وِلاَيَةِ قَاضٍ، فَعِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
الْقَوْلُ الأْوَّلُ: وَهُوَ لاِبْنِ الْمَاجِشُونِ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَفِيهِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الدَّعْوَى يَنْبَغِي أَنْ تُرْفَعَ إِلَى الْقَاضِي الْمَوْجُودِ فِي مَحَلِّ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى. فَإِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ يَسْمَعُ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي، وَيَضْرِبُ لِمَنْ عِنْدَهُ الْحَقُّ الْمُدَّعَى أَجَلاً حَتَّى يَأْتِيَ، فَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يُوَكِّلَ لَهُ وَكِيلاً يَقُومُ عَنْهُ بِالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ.
وَنَقَلَ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ ذَهَبَ إِلَيْهِ سَحْنُونُ وَابْنُ كِنَانَةَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُطَرِّفِ وَأَصْبَغَ، وَيَرَيَانِ أَنَّ الدَّعْوَى إِنَّمَا تُرْفَعُ إِلَى قَاضِي مَوْضِعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى مَوْضِعِ الْمُدَّعِي وَلاَ مَوْضِعِ الْمُدَّعَى بِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، وَقَدْ نَقَلَهُ فَضْلُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ حَقِّ الْمُدَّعِي أَنْ يَبْدَأَ بِقَاضِي مَحَلَّتِهِ، فَيَرْفَعَ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، وَيُثْبِتَ عِنْدَهُ بَيِّنَتَهُ، ثُمَّ يَكْتُبَ قَاضِيهِ إِلَى قَاضِي مَحَلَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَيَأْخُذَ الْمُدَّعِي كِتَابَ قَاضِيهِ لِيُقَدِّمَهُ إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ وَكَّلَ غَيْرَهُ، وَأَرْسَلَهُ بِالْكِتَابِ، فَإِذَا قَدِمَ الْمُدَّعِي أَوْ وَكِيلُهُ إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَلَّمَهُ كِتَابَ قَاضِيهِ، فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ، قَرَأَهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ، وَإِلاَّ أَنْفَذَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَفْعَلِ الْمُدَّعِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَدِمَ مُبَاشَرَةً إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مَعَهُ، نُظِرَتِ الدَّعْوَى، وَطُلِبَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَخْرَجُ. أَمَّا إِذَا أَعْلَمَهُ الْمُدَّعِي أَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي مَكَانِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، كَتَبَ إِلَى قَاضِي مَحَلَّةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَطَلَبَ مِنْهُ تَزْوِيدَهُ بِالْبَيِّنَةِ. وَفِي جَمِيعِ الأْحْوَالِ يُعْطَى الْمُدَّعِي أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّةَ الْكَافِيَةَ لِتَحْضِيرِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ.
غَيْرَ أَنَّ أَصْبَغَ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَجَدَ الْمُدَّعِي خَصْمَهُ فِي مَحَلَّتِهِ أَوْ مَحَلَّةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، وَتَعَلَّقَ بِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهُ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الدَّعْوَى فِي هَذِهِ الْحَالِ هُوَ قَاضِي الْمَكَانِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ فِيهِ.
تِلْكَ الآْرَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِهَا فِيمَا إِذَا تَمَيَّزَ الْمُدَّعِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ كَاخْتِلاَفِهِمَا فِي قِسْمَةِ الْمِلْكِ، أَوْ كَمَا إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ صَدَاقٍ اخْتِلاَفًا يُوجِبُ تَحَالُفَهُمَا، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُمْكِنُ تَطْبِيقُ أَحَدِ تِلْكَ الآْرَاءِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا تُرْفَعُ الدَّعْوَى إِلَى أَقْرَبِ الْقُضَاةِ مِنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْمَسَافَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ.
الرَّأْيُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، هُوَ مَنْعُ الْمُتَنَازِعَيْنِ مِنَ التَّقَاضِي إِلَى أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ. وَإِنَّمَا ضَعَّفَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ لأِنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى ظُلْمِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْتَاجًا إِلَى رَفْعِ الدَّعْوَى أَكْثَرَ مِنَ الآْخَرِ، وَغَالِبًا مَا يَكُونُ هَذَا الْمُحْتَاجُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَبِذَلِكَ تُتَاحُ لِلآْخَرِ الْفُرْصَةُ فِي التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ الاِتِّفَاقَ عَلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثالث والثلاثون ، الصفحة / 282
قَضَاء
التَّعْرِيفُ:
- مِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ، قَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْقَاضِي مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ:
الْقَاطِعُ لِلأْمُورِ الْمُحَكَّمِ لَهَا. وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالْفَصْلُ، يُقَالُ: قَضَى يَقْضِي قَضَاءً فَهُوَ قَاضٍ إِذَا حَكَمَ وَفَصَلَ.
وَيَأْتِي فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِضَاءِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ: يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَالصُّنْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أَيْ خَلَقَهُنَّ وَصَنَعَهُنَّ، وَعَلَى الْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) مَعْنَاهُ فَاعْمَلْ مَا أَنْتَ عَامِلٌ.
وَعَلَى الْحَتْمِ وَالأْمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أَيْ أَمَرَ رَبُّكَ وَحَتَّمَ.
وَعَلَى الأْدَاءِ تَقُولُ: قَضَيْتُ دَيْنِي أَيْ أَدَّيْتُهُ وَمِنْهُ قوله تعالى : (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ) أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا.
وَعَلَى الإْبْلاَغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأْمْرَ) أَيْ أَبْلَغْنَاهُ ذَلِكَ.
وَعَلَى الْعَهْدِ وَالْوَصِيَّةِ وَمِنْهُ قوله تعالى : (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ عَهِدْنَا وَأَوْصَيْنَا.
وَعَلَى الإْتْمَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أَيْ أَتْمَمْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ.
وَعَلَى بُلُوغِ الشَّيْءِ وَنَوَالِهِ تَقُولُ: قَضَيْتُ وَطَرِي أَيْ بَلَغْتُهُ وَنِلْتُهُ، وَقَضَيْتُ حَاجَتِي كَذَلِكَ.
وَالْقَضَاءُ الْمُقْتَرِنُ بِالْقَدَرِ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الإْلَهِيِّ فِي أَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الأْحْوَالِ الْجَارِيَةِ فِي الأْزَلِ إِلَى الأْبَدِ.
وَالْقَضَاءُ فِي الإْصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ، وَزَادَ ابْنُ عَابِدِينَ: عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ، حَتَّى لاَ يَدْخُلَ فِيهِ نَحْوُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ.
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: الإْخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الإْلْزَامِ.
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: إِلْزَامُ مَنْ لَهُ إِلْزَامٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالإْلْزَامُ بِهِ وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ.
- وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ (الْقَضَاءِ) فِي غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِبَادَاتِ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى فِعْلِهَا خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا وَيُنْظَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ، (صَوْم ف 86 - 89، وَحَجّ ف 123، وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ).
كَمَا اسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ (قَضَاءُ الدَّيْنِ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى سَدَادِ الدَّيْنِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (دَيْن ف 70، وَأَدَاء ف 29).
وَاسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى آدَابِ التَّخَلِّي. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اسْتِتَار ف 7، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ).
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَتْوَى:
- الْفَتْوَى وَالْفُتْوَى وَالْفُتْيَا فِي اللُّغَةِ: مَا أَفْتَى بِهِ الْفَقِيهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِلسَّائِلِ عَنْهُ.
فَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الإْلْزَامِ، وَالْفَتْوَى مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ، فَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي إِظْهَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْوَاقِعَةِ، وَيَمْتَازُ الْقَضَاءُ عَنِ الْفَتْوَى بِالإْلْزَامِ.
ب - التَّحْكِيمُ:
- التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الأْمْرِ وَالشَّيْءِ أَيْ: جَعَلَهُ حَكَمًا، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِلَيْهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ: أَنَّ الْقَضَاءَ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَالتَّحْكِيمُ تَوْلِيَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، فَهُوَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْهُ.
ج - الْحِسْبَةُ:
- الْحِسْبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِحْتِسَابِ وَمِنْ مَعَانِيهَا: الأْجْرُ، وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلاَنٌ حَسَنُ الْحِسْبَةِ فِي الأْمْرِ إِذَا كَانَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ لَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا الأْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْقَضَاءِ: أَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ فِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُحْتَسِبِ وَالْقَاضِي نَظَرُ أَنْوَاعٍ مَخْصُوصَةٍ مِنَ الدَّعَاوَى وَهِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمُنْكَرٍ ظَاهِرٍ مِنْ بَخْسِ أَوْ تَطْفِيفِ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ، وَغِشِّ الْبَيْعِ أَوْ تَدْلِيسٍ فِيهِ أَوْ فِي ثَمَنِهِ، وَالْمَطْلُ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مُكْنَةِ الْوَفَاءِ.
وَتَقْصُرُ الْحِسْبَةُ عَنِ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِسَمَاعِ عُمُومِ الدَّعَاوَى الْخَارِجَةِ عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُنْكَرَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُهُ التَّجَاحُدُ وَالتَّنَاكُرُ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ النَّظَرُ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةً عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقِّ أَوْ يَحْلِفَ يَمِينًا عَلَى نَفْيِهِ.
وَتَزِيدُ الْحِسْبَةُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي أَنَّ الْمُحْتَسِبَ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الأْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ يَسْتَعْدِيهِ بِخِلاَفِ الْقَاضِي، كَمَا أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ بِمَا لَهُ مِنْ قُوَّةِ السُّلْطَةِ وَالرَّهْبَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُنْكَرَاتِ أَنْ يُظْهِرَ الْغِلْظَةَ وَالْقُوَّةَ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْهُ تَجَوُّزًا وَلاَ خَرْقًا لِوِلاَيَتِهِ، أَمَّا الْقَضَاءُ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِلْمُنَاصَفَةِ، فَهُوَ بِالْوَقَارِ وَالأْنَاةِ أَخَصُّ.
د - وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ:
- الْمَظَالِمُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَظْلَمَةٍ، يُقَالُ: ظَلَمَهُ يَظْلِمُهُ ظُلْمًا وَظَلْمًا وَمَظْلِمَةً، وَيُقَالُ: تَظَلَّمَ فُلاَنٌ إِلَى الْحَاكِمِ مِنْ فُلاَنٍ فَظَلَّمَهُ تَظْلِيمًا أَيْ أَنْصَفَهُ مِنْ ظَالِمِهِ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَوَدُ الْمُتَظَالِمِينَ إِلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ وَزَجْرِ الْمُتَنَازِعِينَ عَنِ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ، وَوَالِي الْمَظَالِمِ لَهُ مِنَ النَّظَرِ مَا لِلْقُضَاةِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُمْ مَجَالاً، وَأَعْلَى رُتْبَةً، إِذِ النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، وَهِيَ وِلاَيَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ السُّلْطَةِ، وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
- الْقَضَاءُ مَشْرُوعٌ وَثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وَقَوْلُهُ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، وَقَدْ «تَوَلاَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَبَعَثَ عَلِيًّا إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَبَعَثَ مُعَاذًا قَاضِيًا» كَمَا تَوَلاَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ وَبَعَثُوا الْقُضَاةَ إِلَى الأْمْصَارِ.
وَأَمَّا الإْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَصْبِ الْقُضَاةِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ.
- وَالأْصْلُ فِي الْقَضَاءِ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الصَّالِحُ لَهُ سَقَطَ الْفَرْضُ فِيهِ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنِ امْتَنَعَ كُلُّ الصَّالِحِينَ لَهُ أَثِمُوا.
أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، وَلأِنَّ طِبَاعَ الْبَشَرِ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّظَالُمِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ وَقَلَّ مَنْ يُنْصِفُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلاَ يَقْدِرُ الإْمَامُ عَلَى فَصْلِ الْخُصُومَاتِ بِنَفْسِهِ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَوْلِيَةِ الْقُضَاةِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلأِنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَهُمَا عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَالْقَضَاءُ مِنَ الْقُرَبِ الْعَظِيمَةِ، فَفِيهِ نُصْرَةُ الْمَظْلُومِ وَأَدَاءُ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَرَدُّ الظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَالإْصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَخْلِيصُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْفَسَادِ.
- وَالْقَضَاءُ تَعْتَرِيهِ الأْحْكَامُ الْخَمْسَةُ:
فَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ إِذَا طُلِبَ لَهُ، لَكِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ سِوَاهُ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ عَنِ الْقَبُولِ يَأْثَمُ كَمَا فِي سَائِرِ فُرُوضِ الأْعْيَانِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ قَبُولُ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ يَخَافُ فِتْنَةً عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ إِنْ لَمْ يَتَوَلَّ، أَوْ مَنْ يَخَافُ ضَيَاعَ الْحَقِّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ إِنِ امْتَنَعَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَإِنْ عُرِضَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَالأْفْضَلُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اقْتِدَاءً بِالأْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صلوات الله عليهم وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم، وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأْفْضَلُ تَرْكُهُ.
وَيُنْدَبُ لَهُ الْقَبُولُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَصْلُحُ وَلَكِنَّهُ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْقَبُولُ إِذَا كَانَ عَالِمًا فَقِيرًا لِيَسُدَّ خُلَّتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ كَانَ عَالِمًا خَامِلَ الذِّكْرِ لِيَنْتَشِرَ عِلْمُهُ وَيُنْتَفَعَ بِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقَضَاءِ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا كَانَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، وَالاِجْتِهَادِ، وَيُوجَدُ غَيْرُهُ مِثْلُهُ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَسُئِلَ بِلاَ طَلَبٍ، فَلَهُ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ بِحُكْمِ حَالِهِ وَصَلاَحِيَّتِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ؛ لأِنَّهُ قَدْ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْقَضَاءِ مُخْتَارًا رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ لاَ يُوَفَّقُ لَهُ.
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ تَحْصِيلَ الْجَاهِ وَالاِسْتِعْلاَءَ عَلَى النَّاسِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنْ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَكَانَ مَشْهُورًا لاَ يَحْتَاجُ أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ وَعِلْمَهُ بِالْقَضَاءِ، أَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ مِنْهُ لِلْقَضَاءِ.
وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ تَوَلِّي الْقَضَاءِ إِذَا كَانَ جَاهِلاً لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، أَوْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ وَظَائِفِهِ، أَوْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ، أَوْ كَانَ قَصْدُهُ الاِنْتِقَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ، أَوْ أَخْذَ الرِّشْوَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَخَافُ الْحَيْفَ فِيهِ، بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ قَدْ يَجُورُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ يَرَى فِي نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ سَمَاعِ دَعَاوَى كُلِّ الْخُصُومِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ أَمِنَ الْخَوْفَ فَلاَ يُكْرَهُ.
- وَيَجِبُ عَلَى الإْمَامِ أَنْ يَنْصِبَ الْقُضَاةَ فِي الْبُلْدَانِ؛ لأِنَّ الإْمَامَ هُوَ الْمُسْتَخْلَفُ عَلَى الأْمَّةِ وَالْقَائِمُ بِأَمْرِهَا، وَالْمُتَكَلِّمُ بِمَصْلَحَتِهَا، وَالْمَسْئُولُ عَنْهَا، فَتَقْلِيدُ الْقُضَاةِ مِنْ جِهَتِهِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ وِلاَيَتِهِ؛ وَلأِنَّ التَّقْلِيدَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِ.
حِكْمَةُ الْقَضَاءِ:
- الْحِكْمَةُ مِنَ الْقَضَاءِ: رَفْعُ التَّهَارُجِ وَرَدُّ النَّوَائِبِ، وَقَمْعُ الظَّالِمِ وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ، وَقَطْعُ الْخُصُومَاتِ، وَالأْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِيهِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَحَلِّهِ، لِيَكُفَّ الظَّالِمُ عَنْ ظُلْمِهِ.
سُلْطَةُ الْقَاضِي وَاخْتِصَاصُهُ:
- لِلإْمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ الْقَاضِيَ عُمُومَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ سَائِرَ الأْحْكَامِ بِسَائِرِ الْبِلاَدِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ عُمُومَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ، فَيُقَلِّدَهُ النَّظَرَ فِي جَمِيعِ الأْحْكَامِ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيمَنْ سَكَنَهُ وَمَنْ أَتَى إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سُكَّانِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ فَيَقُولُ مَثَلاً: جَعَلْتُ إِلَيْكَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ خَاصَّةً فِي جَمِيعِ وِلاَيَتِي، أَوْ يَجْعَلَ حُكْمَهُ فِي قَدْرٍ مِنَ الْمَالِ نَحْوِ أَنْ يَقُولَ: احْكُمْ فِي الْمِائَةِ فَمَا دُونَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ كَأَنْ يُوَلِّيَهُ قَضَاءَ الأْنْكِحَةِ فِي مَدِينَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ شَطْرٍ مِنْهَا.
الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ:
- إِنْ كَانَتْ وِلاَيَةُ الْقَاضِي عَامَّةً مُطْلَقَةَ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ فَنَظَرُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: فَصْلُ الْمُنَازَعَاتِ، وَقَطْعُ التَّشَاجُرِ وَالْخُصُومَاتِ، إِمَّا صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ أَوْ إِجْبَارًا بِحُكْمٍ بَاتٍّ.
الثَّانِي: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِنَ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا، وَإِيصَالُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهَا.
الثَّالِثُ: ثُبُوتُ الْوِلاَيَةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ، لِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، حِفْظًا لِلأْمْوَالِ عَلَى مُسْتَحِقِّهَا.
الرَّابِعُ: النَّظَرُ فِي الأْوْقَافِ بِحِفْظِ أُصُولِهَا، وَتَنْمِيَةِ فُرُوعِهَا، وَقَبْضِهِ غَلَّتَهَا، وَصَرْفِهَا فِي سُبُلِهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ رَعَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلاَّهُ.
الْخَامِسُ: تَنْفِيذُ الْوَصَايَا عَلَى شَرْطِ الْمُوصِي فِيمَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنِينَ نَفَّذَهَا بِالإْقْبَاضِ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا إِلَى اجْتِهَادِ النَّظَرِ.
السَّادِسُ: تَزْوِيجُ الأْيَامَى بِالأْكْفَاءِ إِذَا عُدِمَ الأْوْلِيَاءُ.
السَّابِعُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ مُطَالِبٍ، إِذَا ثَبَتَ بِالإْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ وَقَفَتْ عَلَى طَلَبِ مُسْتَحِقِّيهَا.
الثَّامِنُ: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ، مِنَ الْكَفِّ عَنِ التَّعَدِّي فِي الطُّرُقَاتِ وَالأْفْنِيَةِ، وَإِخْرَاجِ الأْجْنِحَةِ وَالأْبْنِيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ.
التَّاسِعُ: تَصَفُّحُ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ، وَاخْتِبَارُ النَّائِبِينَ عَنْهُ مِنْ خُلَفَائِهِ.
الْعَاشِرُ: التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ وَلاَ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي الْحُكْمِ.
الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ:
- إِذَا كَانَتْ وِلاَيَةُ الْقَاضِي خَاصَّةً فَهِيَ مَقْصُورَةُ النَّظَرِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ، كَمَنْ جُعِلَ لَهُ الْقَضَاءُ فِي بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأْحْكَامِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ بِالإْقْرَارِ دُونَ الْبَيِّنَةِ، أَوْ فِي الدُّيُونِ دُونَ قَضَايَا النِّكَاحِ، أَوْ فِي مِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ، فَيَصِحُّ التَّقْلِيدُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لأِنَّهَا وِلاَيَةٌ، فَصَحَّتْ عُمُومًا وَخُصُوصًا كَالْوَكَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ يَقْبَلُ التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ وَيَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْخُصُومَةِ، فَلَوْ أَمَرَ وَلِيُّ الأْمْرِ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى عِنْدَ الإْنْكَارِ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ تُسْمَعْ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْقَاضِي لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَلَوْ جَعَلَ وِلاَيَةَ الْقَاضِي مَقْصُورَةً عَلَى الْحُكْمِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ اسْتَمَرَّتْ وِلاَيَتُهُ عَلَيْهِمَا بَاقِيَةً مَا كَانَ التَّشَاجُرُ بَيْنَهُمَا بَاقِيًا، فَإِذَا بَتَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا زَالَتْ وِلاَيَتُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُحَدِّدَ عَمَلَ الْقَاضِي بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الأْسْبُوعِ، كَأَنْ يُقَلَّدَ النَّظَرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ خَاصَّةً فَيَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْخُصُومِ، فَإِذَا خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ تَزُلْ وِلاَيَتُهُ لِبَقَائِهَا عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الأْيَّامِ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ النَّظَرِ فِيمَا عَدَاهُ.