loading

موسوعة قانون العقوبات​

الأحكام

1-  الأصل أن المحكمة لا تتقيد بالوصف القانوني الذي تُسبغه النيابة العامة على الفعل المسند إلى المتهم لأن هذا الوصف ليس نهائياً بطبيعته وليس من شأنه أن يمنع المحكمة من تعديله متى رأت أن ترد الواقعة بعد تمحيصها إلى الوصف القانوني السليم الذي ترى انطباقه على واقعة الدعوى ، وإذ كانت الواقعة المادية المبينة بأمر الإحالة - الشروع في القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد – هي بذاتها الواقعة التي اتخذها الحكم المطعون فيه أساساً للوصف الجديد الذي دان الطاعن به وكان مرد التعديل هو عدم توافر الدليل على ثبوت نية القتل لدى المحكوم عليهما دون أن يتضمن التعديل إسناد واقعة مادية أو إضافة عناصر جديدة تختلف عن الأولى فإن الوصف الذي نزلت إليه المحكمة في هذا النطاق حين اعتبرت الطاعن مرتكب لجريمة الضرب المفضي إلى العاهة المستديمة لا يُجافي التطبيق القانوني السليم في شيء ولا محل لما يثيره من دعوى الإخلال بحق الدفاع إذ المحكمة لا تلتزم في مثل هذه الحالة بتنبيه المتهم أو دفاعه إلى ما أجرته من تعديلٍ في الوصف نتيجة استبعاد أحد عناصر الجريمة التي رُفعت بها الدعوى ويكون ما يثيره الطاعن في هذا الشأن غير قويم .

( الطعن رقم 19145 لسنة 92 ق - جلسة 21 / 2 / 2024 )

2- لما كان ذلك ، وكان سبق الإصرار حالة ذهنية تقوم بنفس الجاني فلا يستطيع أحد أن يشهد بها مباشرة بل تستفاد من وقائع خارجية يستخلصها منها القاضي استخلاصاً ، وكان البحث في توافر ظرف سبق الإصرار من إطلاقات القاضي يستنتجه من ظروف الدعوى وعناصرها ما دام موجب تلك الظروف وهذه العناصر لا يتوافر عقلاً مع ذلك الاستنتاج، ولما كان ما قاله الحكم في تدليله على توافر ظرف سبق الإصرار في حق الطاعن كافياً وسائغاً في تحقيق هذا الظرف - كما هو معرف به في القانون - ، فإن منعى الطاعن في هذا الشأن لا يكون له محل . 

( الطعن رقم 10349 لسنة 88 ق - جلسة 6 / 2 / 2021 )

3- لما كان دفاع الطاعن قد قام على أن المجني عليه لم يكن حياً وقت أن ألقاه بعد ‏الحادث استناداً إلى ما شهد به كبير الأطباء الشرعيين بجلسة المحاكمة وما ورد بتقرير ‏الصفة التشريحية من أن سبب الوفاة يرجع إلى الإصابات الناشئة عن الحادث وما ورد ‏بالتقرير الاستشاري ، وكان النص فى المادة 230 من قانون العقوبات على أن " كل من قتل ‏نفساً عمداً ... " يدل فى صريح لفظه وواضح معناه على أن تحقق جريمة القتل العمد تلك ‏رهن بأن يكون الفعل المادي المكون لها قد وقع على شخص على قيد الحياة . لما كان ذلك ، ولئن كان الأصل أن المحكمة لا تلتزم بمتابعة المتهم فى مناحي دفاعه ‏المختلفة ، إلا أنه يتعين عليها أن تورد فى حكمها ما يدل على أنها واجهت عناصر الدعوى ‏وألمت بها على وجه يفصح أنها فطنت إليها ووازنت بينها ، وكان الحكم قد دان الطاعن ‏ملتفتاً كلية عن التعرض لدفاع المتهم المتقدم ذكره ، وهو دفاع يعد - فى خصوصية الدعوى ‏المطروحة - هاماً ومؤثراً فى مصيرها ، مما كان يقتضي من المحكمة أن تمحصه لتقف على ‏مبلغ صحته ، أو أن ترد عليه بما يبرر رفضه ، أما وهي لم تفعل فإن حكمها يكون معيباً ‏بالقصور فى البيان والإخلال بحق الدفاع .

( الطعن رقم 20244 لسنة 84 ق - جلسة 2016/04/12 )

4- من المقرر أن تقدير العقوبة فى الحدود المقررة قانوناً مما يدخل فى سلطة محكمة الموضوع بغير أن تكون ملزمة ببيان الأسباب التي دعتها إلى توقيع العقوبات بالقدر الذي ارتأته وكانتالمادة 230 من قانون العقوبات تقضي بأن عقوبة القتل العمد مع سبق الإصرار أو الترصد هي الإعدام فإن ما يثار فى هذا الخصوص لا يكون سديداً .

( الطعن رقم 14318 لسنة 71 ق - جلسة 2002/03/07 - س 53 ص 397 ق 71 )

5 ـ أوجبت المادة 230 من قانون العقوبات عند انتفاء موجبات الرأفة انزال العقوبة الوحيدة وهى عقوبة الاعدام لكل من قتل نفسا عمداً مع سبق الاصرار على ذلك والترصد فى حين قضت المادة 234 من قانون العقربات فى فقرتها الثالثة على أنه " ..... وإما اذا كان القصد منها - أى من جناية القتل العمد المجرد من سبق الاصرار والترصد - التأهب لفعل جنحه أو تسهيلها أو ارتكابها أو مساعدة مرتكبها أو شركائهم على الهرب أو التخلص من العقوبة فيحكم بالاعدام أو بالاشغال الشاقة المؤبدة " لما كان ذلك ,وكان الحكم المطعون فيه - وعلى ما يبين من مدوناته - قد جمع فى قضائه بين الظرفين المشددين سبق الاصرار والارتباط - وجعلهما معاً عماده فى انزال عقوبة الاعدام بالطاعن . فإنه وقد شاب استدلال الحكم على ظرف سبق الاصرار قصور يعيبه فلا يمكن - والحالة هذه - الوقوف على ماكانت تنتهى اليه المحكمة لو انها تفطنت الى ذلك ولا يعرف مبلغ الاثر الذى كان يتركه تخلف الظرف المشار اليه فى وجدان المحكمة لو انها اقتصرت على اعمال الظروف المشدد الأخر- وهو الارتباط الذى يبرر عند توافره بتوقيع عقوبة تخيريه أخرى مع الاعدام .

( الطعن رقم 6713 لسنة 63 ق - جلسة 1994/02/01 - س 45 ص 171 ق 27 )

6- جريمة القتل العمد لا تتطلب سوى ارتكاب فعل على المجنى عليه بنية قتله يؤدى بطبيعته إلى وفاته سواء أكانت الوفاة حصلت من إصابة وقعت فى مقتل أم من إصابة وقعت فى غير مقتل ما دامت الوفاة نتيجة مباشرة للجريمة ومتى بين الحكم جريمة القتل من ثبوت نية القتل واستعمال أسلحة نارية قاتلة بطبيعتها وحدوث الوفاة من الإصابات النارية فلا يعيبه عدم بيان الإصابات الواقعة فى مقتل وتلك الواقعة فى غير مقتل ما دام أنه بينها جميعاً - كما هو الحال فى الدعوى الماثلة - ونسب حدوثها إلى الطاعنين جميعاً دون غيرهم .

( الطعن رقم 5124 لسنة 52 ق - جلسة 1983/04/14 - س 34 ص 515 ق 106 )

7- من المقرر أن وزن أقوال الشهود وتقدير الظروف التى يؤدون فيها شهادتهم وتعويل القضاء على أقوالهم مهما وجه إليها من مطاعن وحام حولها من الشبهات كل ذلك مرجعه إلى محكمة الموضوع تنزله المنزلة التى تراها وتقدره التقدير الذى تطمئن إليه ، ولها أن تأخذ بشهادة الشاهد ولو كانت بينه وبين المتهم خصومة قائمة ، كما أن قرابة الشاهد للمجنى عليه لا تمنع من الأخذ بأقواله متى اقتنعت المحكمة بصدقها .

( الطعن رقم 6841 لسنة 52 ق - جلسة 1983/04/28 - س 34 ص 590 ق 117 )

8ـ إذا كان الحكم قد بين ثبوت واقعة القتل ثبوتاً كافياً ، كما بين الظروف التى وقعت فيها و الأدلة التى إستخلصت منها المحكمة ثبوت وقوعها من المتهمين ، كما إستخلص أن المتهمين إستعملوا فى الجريمة بقصد القتل - الفأس والحجارة - وهى وسائل على الصورة التى أوردها الحكم - تحدث الموت - بل وتحقق بها القتل فعلاً - فلا يقدح فى هذا الثبوت عدم العثور على جثتى المجنى عليهما أو عدم ضبط الوسائل التى إستعملت فى الحادث .

( الطعن رقم 1337 لسنة 29 ق - جلسة 1960/05/31 - س 11 ع 2 ص 521 ق 100 )

شرح خبراء القانون

الركن المادي للقتل :

يقوم الركن المادي للقتل على عناصر ثلاثة : فعل الاعتداء على الحياة ، والنتيجة التي تتمثل في وفاة المجنى عليه ، وعلاقة السببية التي تربط بينهما .

فعل الاعتداء على الحياة :

ماهية فعل الاعتداء على الحياة : فعل الاعتداء على الحياة هو سلوك من شأنه إحداث وفاة المجني عليه ، أي أنه فعل صالح بطبيعته لتحقيق هذه النتيجة : فإن حققها كانت جريمة القتل تامة ، وإن لم يحققها الأسباب لا ترجع إلى إرادة المتهم الذي توافر لديه قصد القتل اقتصرت مسئوليته على الشروع .

وهذا التحديد لماهية فعل الاعتداء على الحياة يثير التساؤل عن الضابط في صلاحية الفعل لإحداث الوفاة : أهو ضابط موضوعي بحيث يتعين أن يكون الفعل صالحاً بطبيعته وفي ذاته لتحقيق هذه النتيجة ، أم هو ضابط شخصي بحيث يكفي أن يكون الفعل صالحاً في تقدير المتهم واعتقاده لإحداث الوفاة .

يتطلب الضابط الموضوعي أن يمثل الفعل لحظة ارتكابه خطراً على حياة المجنى عليه بحيث لو سارت الأمور سيرها المعتاد لحدثت وفاته بناء عليه ، وهذا الخطر يقاس بالنظر إلى الآثار المحتملة للفعل ، ومدى ما يكمن فيه من میل واتجاه نحو إحداث الوفاة أما الضابط الشخصي فيجعل العبرة بنية الجاني التي يحددها في ضوء علمه بخصائص فعله ، وهو علم قد لا يتفق مع حقائق الأمور نعتقد أن الضابط الموضوعي هو الأجدر بالترجيح : ذلك أن خطورة الفعل على الحق الذي يحميه القانون هي علة تجريمه ، فصيانة الحق في الاعتبار الذي يوجه سياسة الشارع إلى تجريم الفعل الذي من شأنه الاعتداء ، وعلى هذا النحو كان تجريم الفعل مفترضاً صلة موضوعية مجردة بينه وبين النتيجة الإجرامية ، وجوهر هذه الصلة هو الخطورة الكامنة في طائفة معينة من الأفعال على نوع معين من الحقوق، وتطبيق ذلك على القتل يقتضى القول بأن الفعل لا يوصف بأنه اعتداء على الحياة ولا يصطبغ بالصفة غير المشروعة وفق النصوص التي تجرم القتل إلا إذا قامت هذه الصلة الموضوعية المجردة بينه وبين وفاة المجنى عليه ، فكان في ذاته خطراً على حياة المجني عليه ولا يعني الأخذ بهذا الضابط اشتراط أن يكون الفعل قاتلاً بطبيعته ، وإنما يعني تقدير صلاحيته لإحداث الوفاة في ضوء الظروف التي عاصرت ارتكابه : فهذه الظروف تتمثل فيها عوامل ذات آثار محتملة ، وإضافة هذه الآثار إلى الفعل هي التي تحدد صلاحيته لتكوين الركن المادي للقتل ، وبناءً على ذلك فإن فعلاً معيناً قد لا تكون له هذه الصلاحية بالنظر إلى ظروف معينة ، وتكون له بالنظر إلى ظروف مختلفة : فضرب شخص بعصا رفيعة أو لطمه لطمة يسيرة أو إيذاؤه نفسياً هي أفعال لا تصلح في الظروف العادية لإحداث الوفاة ، ولكن تتوافر لها هذه الصلاحية إذا كان المجني عليه طفلاً أو مريضاً أو طاعناً في السن ولا يشترط أن يكون المتهم عالماً بالظروف التي تؤخذ في الاعتبار التقدير خطورة فعله ، بل يكفي أن يكون في استطاعته العلم بها وقاضي الموضوع هو المنوط باستظهار هذه الظروف وإضافتها إلى الفعل وتحديد  مدى خطورته .

وتميل محكمة النقض في صدد مشكلة الجريمة المستحيلة - وهی مشكلة يثيرها البحث في خطورة الفعل ومدى صلاحيته ليقوم به الشروع في القتل - إلى الآراء التي تقول بالتفرقة بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية فقد قضت المحكمة أنه متى كانت المادة المستعملة للتسميم صالحة بطبيعتها لإحداث النتيجة المبتغاة فلا محل للأخذ بنظرية الجريمة المستحيلة ، لأن مقتضى القول بهذه النظرية ألا يكون في الإمكان تحقيق النتيجة مطلقاً لإنعدام الغاية التي ارتكبت من أجلها الجريمة أو لعدم صلاحية الوسيلة التي استخدمت لإرتكابها ، ويعني ذلك أنها تقر نظرية الجريمة المستحيلة إذا لم يكن في الإمكان تحقق الجريمة مطلقاً ، سواء أرجع ذلك إلى إنعدام الغاية أو عدم صلاحية الوسيلة ، وفي غير حالات  عدم إمكان تحقق الجريمة مطلقاً ، أي حيث يكون عدم الإمكان نسبياً ، كما لو كانت المادة المستعملة في القتل  تؤدي في بعض الصور إلى النتيجة المقصودة منها، فإن العقاب على الشروع يكون متعيناً .

سواء وسائل الاعتداء على الحياة : يخضع القتل للقاعدة العامة في التجريم التي توضع بمقتضاها جميع الوسائل على قدم المساواة ، طالما كان من شأنها الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون : فلا تفرقة بين وسائل الاعتداء على الحياة ، فهي سواء من حيث الصلاحية التكوين الركن المادي للقتل أو من حيث مقدار العقاب، ولا استثناء لذلك إلا إذ كانت الوسيلة هي السم ، فيعد استعمالها ظرفاً مشدداً للقتل (المادة 233 من قانون العقوبات)، وتطبيقاً لهذه القاعدة ، فإنه لا تفرقة بين قتل عن طريق أداة كسلاح ، وذلك هو الغالب في جرائم القتل ، وقتل دون استعانة بأداة كما لو خنقه بيديه، وهو ما يتصور إذا كان طفلاً أو محتضراً ولا تفرقة بين أدوات القتل : فسواء إطلاق الرصاص أو الطعن بآلة حادة أو الضرب بآلة راضية أو الإحراق أو الإغراق أو الصعق بتيار كهربائي وغير ذلك مما يمكن للعقل أن يتصوره من وسائل الاعتداء على الحياة وليس بشرط أن يصيب الجاني جسم المجني عليه مباشرة ، بل يكفي أن يهيئ الوسائل بحيث تفضی حسب المجرى العادي للأمور إلى حدوث الوفاة : فيعد قاتلاً من يضع في طريق المجني عليه مواد مفرقعة أو يحطم جسراً يعلم أنه سيمر عليه أو يحبسه في غرفة ويمنع الطعام عنه ولا يتطلب القانون أن يؤدي الفعل إلى إحداث الموت فوراً : فالفعل اعتداء على الحياة على الرغم من أن الموت لم يترتب عليه إلا بعد فترة من الوقت ، طالما أن الشك لا يثور حول توافر علاقة السببية بينهما ، فإعطاء شخص بطيء المفعول يصلح ليقوم به الركن المادي للقتل وسواء أن يحدث الموت بفعل واحد أو أن يحدث بجملة أفعال كل منها على حدة لا يكفي لإحداث الموت ، ولكن تعاقبها واجتماع آثارها جعلها في مجموعها كافياً لإحداثه ، ومثال ذلك توجيه عدد من الضربات إلى المجنى عليه أو اعطاؤه جملة جرعات من مادة سامة .

القتل بالامتناع : الامتناع هو إحجام الجاني عن إتيان فعل إيجابي معين كان الشارع ينتظره منه في ظروف معينة بشرط أن يوجد واجب قانوني يلزم بهذا الفعل وأن يكون في استطاعة الممتنع عنه إرادته .

وقد يعقب امتناع الجاني وفاة المجنى عليه ، فهل نستطيع القول بتوافر عناصر الركن المادي لجريمة القتل بهذا الامتناع ؟ فالأم مثلاً امتنعت عن إرضاع طفلها أو عن قطع حبل السري فمات ، ومن عهد إليه برعاية مريض عاجز عن الحركة امتنع عن تقديم الطعام والدواء إليه فمات ، ومعلم السباحة امتنع عن إنقاذ تلميذة فغرق ، فهل يعد الامتناع في هذه الأمثلة اعتداء على الحياة فيسأل الممتنع عن قتل .

لبيان الرأي الصحيح في هذا الموضوع يتعين تحديد نطاقه باستبعاد الحالات التي لا تدخل فيه : يتعين في المقام الأول استبعاد الحالات التي لا يكون الممتنع فيها محملاً بواجب قانونی ، إذ أحجم عنه ، ذلك أن الواجب القانونی عنصر في فكرة الممتنع ، إذ الإمتناع في دلالته القانونية لا يتصور به إلا بالنسبة لعمل إيجابي كان الممتنع ملزماً قانوناً بإتيانه وتطبيقاً لذلك ، فإنه لا يعد قاتلاً من يشهد شخصاً لا تربطه به صلة - وتبعا لذلك لا يحمل واجباً قانونياً قبله - يوشك أن يموت غرقاً أو حرقاً فلا ينقذه ، على الرغم من استطاعته ذلك ، ولو توافرت لديه الرغبة في أن تحدث وفاته وتستبعد كذلك الحالات التي لا يكون في استطاعة الممتنع فيها إتيان العمل الإيجابي الذي من شأنه إنقاذ الحياة ، فلا تكليف بما لا يستطاع ، ولا يغير من هذا الحكم أن يحمل واجباً قانونياً بإتيانه وتطبيقاً لذلك لا يعد قاتلاً الأب الذي يشهد ابنه يصارع الموت غرقاً فلا ينقذه لأنه لا يستطيع السباحة ، وليس في وسعه أن يستعين بمن ينقذه بدلاً منه وتستبعد الحالات التي يكون الامتناع فيها مسبوقاً بعمل إيجابي من شأنه إحداث الوفاة ، فهذا الامتناع لا ينسب إليه أنه سبب الموت ، وإنما تنسب هذه النتيجة إلى العمل الإيجابي ، ولا تثور عندئذ الصعوبات التي تثيرها سببية الامتناع ، إذ تعد علاقة السببية متوافرة بين الوفاة والعمل الإيجابي ، ويقتصر دور الامتناع على كونه تدعيما لآثار ذلك العمل ومحافظة عليها وتمكيناً لها من أن تتابع حلقاتها حتى تفضي في النهاية إلى الموت ،وتستبعد من نطاق البحث في النهاية الحالات التي تنفي فيها قاعدة قانونية عن الامتناع الصفة الإجرامية ، إذ هي بذلك تنفي عنه صلاحيته ليقوم به الركن المادي للقتل : فمن يمتنع عن الحيلولة بين شخص وبين انتحاره لا يعتبر قاتلاً له ، وإن كانت بينهما صلة تفرض عليه رعايته ، كزوج أو أب لا يحول بين زوجته أو ابنه وبين الانتحار ، ذلك أن الانتحار غير ذي صفة إجرامية ، ومن ثم كانت المساعدة عليه في جميع صورها متجردة بدورها من الصفة الإجرامية .

وتطبيقاً لذلك فإن من يحبس شخصاً ثم يحرمه الغذاء بنية إزهاق روحه فيموت يسأل عن قتل عمد، ومن يقود عربة ويتعمد قتل أحد المارة فيوجه عربته نحوه حتى إذا أصبحت قريبة منه امتنع عن إيقاف الحيوانات التي تجرها مما أدى إلى موته يسأل عن قتل عمد وعلى هذا النحو ، فإن الحكم الذي أصدرته محكمة النقض وقضت فيه بأن تعجيز شخص عن الحركة بضربه ضرباً مبرحاً ثم تركه في مكان منعزل محروماً من وسائل الحياة يعد قتلاً عمداً متی اقترن ذلك بنية القتل وكانت الوفاة بنتيجة مباشرة لهذه الأفعال 28 ديسمبر سنة 1936 مجموعة القواعد القانونية ج4 رقم 28 ص 27، هذا الحكم لا يعني الاعتراف بصلاحية الامتناع لتكوين الركن المادي للقتل ، ولا يقرر الاعتراف بعلاقة السببية بينه وبين الوفاة ، ذلك أن سلوك المتهم لم يمكن امتناعاً فحسب ، وإنما سبقه عمل إيجابي تمثل في الضرب المبرح والتعجيز عن الحركة والنقل إلى مكان منعزل ، وهذا العمل الإيجابي هو الذي يحمل وزر النتيجة وتتوافر بينهما علاقة السببية ، ويقتصر دور الامتناع على مجرد تدعيم آثار هذا العمل .

ونعتقد أن الامتناع يصلح - بعد استبعاد الحالات السابقة - لتكوين الركن المادي للقتل ، ولا عقبة من المنطق القانوني تحول دون الإعتراف يتوافر علاقة السببية بينه وبين الوفاة : فالامتناع صورة للسلوك الإنساني ، ويضم عنصرا إيجابيا هو الإرادة المتجهة على نحو معين ، والامتناع بالإضافة إلى ذلك تعبير عن هذه الإرادة ، وهو من الناحية المادية وسيلة لبلوغ غاية في العالم الخارجي ، وكل ذلك يحول دون أن يوصف الامتناع بأنه ظاهرة سلبية ، إذ يصدم المنطق أن تضم ظاهرة سلبية من بين عناصرها ظاهرة إيجابية وليس الامتناع مجرداً من الكيان المادي ، وباعتباره سلوكاً فهو يصدر إزاء ظروف مادية معينة ، ويمثل تصرف صاحبه في مواجهتها ولما كان السلوك السلبي في كل صوره واعياً مدركاً ، فهو بفضل هذه الصفة يكتسب سيطرة على الظروف المادية المحيطة به ويوجهها إلى غايته ، فيكون مؤدى ذلك القول بأن هذه الظروف تنسب إليه باعتبارها بعض وسائله لإدراك هذه الغاية ، ويصل ذلك إلى حد إندماج هذه الظروف فيه واكتسابه منها طابعاً مادياً ، فالأم تمتنع عن إرضاع طفلها في ظروف معينة ، منها على سبيل المثال : عدم وجود شخص يستطيع في الوقت الملائم إطعام الطفل وعجز الطفل عن إطعام نفسه وبلوغ جوعه الحد الذي يهدد حياته ، والأم تعلم بهذه الظروف أو على الأقل تستطيع هذا العلم ، فإذا ما صدر عنها الامتناع فهي تسيطر به على هذه الظروف وتوجهها إلى غايتها ، ويصبح هذا المجموع من العوامل منسوباً إليها ولا صعوبة في الإعتراف للامتناع بسببيته القانونية ، فهو سبب للعدوان الذي نال مصلحة أو حقاً جديراً بحماية القانون ، وبيان ذلك أن الشارع ينتظر من الممتنع إتيان فعل إيجابي ويوجب ذلك عليه ، ويفترض أن من شأن هذا الفعل صيانة الحق ، فإذا خالف سلوك الممتنع ما توقعه الشارع فنال العدوان الحق ، فلا شك في أن سبب هذا العدوان هو ذلك السلوك، والسببية القانونية تحمل الدليل على السببية المادية ، وهذه نستظهرها إذا ما وضعنا في اعتبارنا الفعل الإيجابي الذي ينتظره الشارع ، وثبتت لنا علاقته بالنتيجة الإجرامية ، إذ يعد ذلك في الوقت نفسه إثباتاً للعلاقة بين الامتناع وهذه النتيجة فإذا تحقق لدينا أنه لو أتى المتهم ذلك الفعل ما حدثت النتيجة الإجرامية ، فمعنى ذلك أن هذا الفعل سبب لعدم حدوث النتيجة ، ويقتضي ذلك بطريق اللزوم العقلى أن نقرر أن الامتناع سبب لحدوث النتيجة : فإذا كان من شأن إرضاع الأم طفلها ألا تحدث وفاته ، فمعنى ذلك أن عدم إرضاعه هو سبب وفاته، وغنى عن البيان أن مسئولية الممتنع عن القتل منوطة بتوافر جميع أركانه : فبالإضافة إلى ما تقتضيه فكرة الامتناع من وجود واجب قانوني يلزم بالعمل الإيجابي الذي كان من شأنه إنقاذ حياة المجني عليه ومن كون إتيان هذا العمل ممكناً، فإنه يتعين أن تتوافر علاقة السببية بين الامتناع والوفاة ، ويجب أن يثبت توافر القصد الجنائي أو الخطأ لدى الممتنع .

القتل بالوسائل ذات الأثر النفسي : هل تصلح الوسائل ذات الأثر النفسي ليقوم بها الركن المادي للقتل ؟ مثال ذلك توجيه الإهانات الشديدة أو التهديدات المتكررة أو سرد الأخبار السيئة إذا ترتب عليها انزعاج أو ألم نفسى قاس أساء إلى الصحة فحدثت الوفاة ، أو إطلاق عيار ناري في مكان به جمع من الناس بحيث أفزع واحداً منهم فمات من الفزع وغنى عن البيان أن هذا التساؤل لا يثور إلا إذا ثبت توافر قصد القتل لدي من صدرت عنه هذه الوسائل ، أو ثبت توافر الخطأ المنصرف إلى الوفاة .

يذهب الرأي الراجح في الفقه إلى نفي قيام القتل بالوسائل النفسية ، وحجته في ذلك أن عبارات القانون يفهم منها تطلب فعل ذي أثر مادی يمس جسم المجني عليه ؛ وبالإضافة إلى ذلك ، فإن من العسير إثبات علاقة السببية بين الأفعال ذات الأثر النفسي والوفاة ، إذ كيف يمكن القطع - عن طريق الخبرة الطبية - بأن ما ترتب على الفعل من أثر نفسي هو الذي أحدث في أجهزة الجسم الاضطراب الذي أفضى إلى الوفاة ولكننا نعتقد أن هذا الرأي يتضمن تعميماً مجافياً للصواب ، إذ من الأصوب أن تبحث ظروف كل حالة على حدة ، فإن تبين من ظروف حالة معينة أن الموت لم يحدث إلا بسبب هذه الأفعال التي اكتسبت خطورة خاصة بإنضمام آثار الظروف السابقة إليها، فإن الاعتراف بعلاقة السببية لا تعترضه عقبة من القانون وهذه الظروف عديدة ، واستخلاص دلالتها وتحديد آثارها ، والقول بما إذا كان إنضمامها إلى الأفعال السابقة قد جعل من شأنها إحداث الوفاة وأدى إلى توافر علاقة السببية ، كل ذلك من اختصاص قاضي الموضوع ومثال هذه الظروف مرض المجني وحساسيته ومقدار ثقته في أقوال الجاني والتكرار الملح لهذه الأفعال وبالإضافة إلى ذلك ، فإن هذه الوسائل ليست ذات أثر نفسي فحسب ، إذ أن التأثير السيئ على الحالة النفسية للمجني عليه يفضي إلى آثار ضارة تنال الجهاز العصبي ، وقد تنعكس على غيره من أجهزة الجسم ، فتسيء إلى الصحة على نحو لا يختلف عن الوسائل ذات الأثر المادي .

 هل يعتبر الانتحار فعل اعتداء على الحياة : التعريف القانوني للقتل أنه إعتداء على حياة الغير وهو ما يفترض أن من يصدر عنه فعل الاعتداء هو شخص مختلف عمن يقع عليه هذا الفعل ، أما إذا اتحد الشخصان - وهو ما يتحقق في الانتحار - فقد انتفى معنى القتل ويعني ذلك أن الانتحار لا يخضع للأنموذج القانوني للقتل ولم يضع الشارع نص تجريم خاص به ، فيكون مؤدى ذلك تجرده من الصفة غير المشروعة وعدم قيام جريمة به ويترتب على نفي الصفة الإجرامية عن الإنتحار نفي هذه الصفة كذلك عن الشروع فيه ، إذ الشروع يفترض انصراف البدء في التنفيذ إلى فعل ذي صفة إجرامية ويترتب على ذلك أيضا نفي الصفة الإجرامية عن الإشتراك في الانتحار .

ولكن قاعدة عدم العقاب على الإشتراك في الانتحار لا يجوز أن يساء فهمها ، فتشمل صوراً من القتل يتعين العقاب عليها : فلهذه القاعدة حدودها التي تقف عندها .

فمن ناحية يتعين رسم الحدود الفاصلة بين الإشتراك في الانتحار وبين القتل بالرضاء : فمن قتل غيره برضائه يعاقب ، ولا يستطيع أن يلتمس في رضاء المجني عليه ما ينفى مسئوليته  والتفرقة بين القتل بالرضاء والإشتراك في الإنتحار تعتمد على ذات الضوابط التي تميز بين نشاط الفاعل الأصلي ونشاط الشريك ؛ ففي الحالة الأولى يوجد قتل بالرضاء ، وفي الحالة الثانية يتحقق الإشتراك في الانتحار ، ولنا أن نقارن بين حالة شخص يسمح لغيره بأن يطلق الرصاص عليه وحالة آخر يمسك بيده المسدس فيطلقه على نفسه .

ومن ناحية ثانية ، فإن قاعدة العقاب على الإشتراك في الانتحار لا تطبق حيث تنتفي الفكرة الأساسية في الانتحار ، وهي تفترض أن شخصاً قد أقبل على الموت عن رغبة ، وأن انتحاره كان صورة لاستعماله حريته فإذا كان من شأن نشاط المتهم أن صار المجنى عليه مجرد أداة في يديه يوجهه إلى الموت وهو على غير بينة من أمره أو غير محتفظ بحريته ، فإن هذا المتهم يعد فاعلاً معنوياً للقتل  وتطبيقاً لذلك ، فإن من يكره شخصاً على قتل نفسه ، ومن يحرض مجنوناً أو صغيراً غير مميز على الموت ، ومن يوقع ضحيته في غلط يتعلق بطبيعة الفعل الذي يحمله عليه فيوهمه أن المادة السامة التي يحمله على تناولها هي دواء ، أو أن السلك الذي يحمل التيار الصاعق لا خطر منه ويحمله بذلك على لمسة ، كل أولئك فاعلون لقتل .

ومن ناحية ثالثة ، فإن الحامل التي تشرع في الانتحار فتفشل ، ولكن يترتب على محاولتها إجهاضها ، تسأل عن إجهاضها نفسها ، ولا يستبعد قصد الانتحار قصد الإجهاض ، بل أنه يتضمنه على الأقل في صورته الاحتمالية : فإذا توقعت الحامل حدوث الإجهاض - وهو ما يتحقق غالباً فرضيت بهذا الاحتمال كان قصد الإجهاض متوافراً لديها .

وفاة المجنى عليه :

الأهمية القانونية لوفاة المجني عليه : تعد وفاة المجني عليه النتيجة الإجرامية في القتل ، وهي على هذا النحو أحد عناصر ركنه المادي ، وفيها يتمثل الاعتداء على الحق في الحياة ، وحرص الشارع على توقيتها هو علة تجريمه القتل وحدوث الوفاة شرط لاستكمال الركن المادي كيانه : فإذا لم تحدث على الرغم من ارتكاب فعل الاعتداء على الحياة وتوافر القصد .

اقتصرت المسئولية على الشروع في القتل ؛ أما إذا كان الفعل مقترناً بالخطأ فإن حلول الموت بالمجنى عليه شرط لتوافر جريمة القتل غير العمدي ، فإن لم يحدث الموت ولكن أدى الفعل إلى مساس بسلامة جسم المجني عليه اقتصرت المسئولية على الإصابة غير العمدية .

وتتحقق الوفاة بإنتهاء النفس الأخير الذي يلفظه المجنى عليه  وغير ذي أهمية أن تحدث الوفاة فور ارتكاب الفعل ، أو أن تتراخى زمناً طالما أن الشك لا يثور حول توافر علاقة السببية بينها وبين الفعل .

إثبات الوفاة : تثبت الوفاة بجميع الطرق ، بما في ذلك القرائن البسيطة . وليس من شروط المحاكمة من أجل القتل العثور على جثة المجني عليه أو تقديم شهادة بموته؛ بل إنه لا يشترط أن تعين شخصيته  ولكن مجرد اختفاء شخص ليس دليلاً على موته والنيابة العامة هي المكلفة بإقامة الدليل على وفاة المجنى عليه ، فلا يجوز تكليف المتهم بإثبات حياة المجني عليه ولو كان هو المكلف برعايته ولا يصلح دليلاً على ارتكاب شخص قتلاً أنه كان آخر من اجتمع بالمجنى عليه قبل اختفائه .

علاقة السببية بين فعل الاعتداء على الحياة ووفاة المجنى عليه

الأهمية القانونية لعلاقة السببية في جرائم القتل : العلاقة السببية أهميتها في كل جريمة يتطلب ركنها المادي نتيجة إجرامية ، إذ تسند هذه النتيجة إلى الفعل الذي ارتكبه المتهم وتقيم بذلك وحدة الركن المادي ، وتقرر توافر شرط المسئولية مرتكب الفعل عن النتيجة وتطبيق ذلك على القتل أنه إذا انتفت علاقة السببية اقتصرت مسئولية مرتكب الفعل على الشروع في القتل إذا كانت جريمته عمدية ، أما إذا كانت غير عمدية ، فلا مسئولية عن القتل ، إذ لا شروع في الجرائم غير العمدية ، وإنما تقتصر المسئولية على الإصابات التي نالت المجنى عليه ، وثبت توافر علاقة السببية بينها وبين الفعل .

معيار علاقة السببية : السبب في الرأي الراجح من وجهة المنطق المجرد هو « مجموعة العوامل الإيجابية والسلبية التي يستتبع تحققها حدوث النتيجة على نحو لازم » ويؤدي تطبيق هذا الرأي على المشكلة القانونية العلاقة السببية إلى القول بأن سبب النتيجة الإجرامية ليس عاملاً بمفرده ، ولكنه مجموعة عديدة من العوامل تتضامن فيها بينها فتحدث النتيجة وعلى سبيل المثال ، فإنه إذا أعطى شخص آخر مادة سامة فمات ، فليس سبب الوفاة هو فعل الإعطاء وحده ، ولكنه كذلك الظروف الصحية للمجني عليه التي جعلت السم ينتج أثره على نحو معين وعدم إسعافه بالعلاج الطبي في الوقت الملائم ، وقد يكون من عوامل الوفاة تقصير المجني عليه في علاج نفسه أو خطأ الطبيب المعالج .

ولكن تطبيق هذه النظرية المنطقية المجردة لا يؤدي إلى معيار قانونی مقبول : ذلك أن اعتبار السبب مجموعة من العوامل لا يمثل فعل المتهم إلا أحدها يعنى إنكار علاقة السببية بين هذا الفعل والنتيجة الإجرامية واستحالة قيام المسئولية تبعاً لذلك من أجل ذلك تنحصر الأهمية القانونية لهذه النظرية في تحديد أساس البحث القانوني في علاقة السببية : فإذا كان فعل المتهم واحداً من العوامل التي ساهمت في إحداث النتيجة ، فالمشكلة القانونية تدور حول معرفة ما إذا كان من السائغ القول بتوافر علاقة السببية - في المعنى القانوني - بين الفعل والنتيجة لمجرد كونه عاملاً أياً كانت أهميته من بين عواملها أم أنه يتعين التحقق من أنه بالقياس إلى سائرها يمثل أهمية خاصة .

تصنيف النظريات القانونية في معيار علاقة السببية : يمكن تأصيل هذه النظريات بردها إلى قسمين : قسم يرى الإعتراف بعلاقة السببية بين الفعل والنتيجة لمجرد كونه عاملاً أياً كانت أهميته بين العوامل التي ساهمت في إحداث النتيجة ، وقسم يتطلب أن يمثل هذا الفعل - بالقياس إلى سائر العوامل - أهمية أو فاعلية خاصة ، أو أن يتصف بخصائص معينة تجعله متميزاً عن العوامل الأخرى فالقسم الأول تمثله نظرية التعادل بين الأسباب ، والقسم الثاني تمثله نظريات عديدة تختلف فيما بينها من حيث الضابط الذي تأخذ به للتمييز بين العوامل والمفاضلة بينها والقول بأن الفعل ترجح أهميته عليها على نحو تقوم معه علاقة السببية بينه وبين النتيجة ، وأهم هذه النظريات هي نظرية السببية الملائمة .

نظريات التعادل بين الأسباب : تقرر هذه النظرية المساواة بين جميع العوامل التي أسهمت في إحداث النتيجة ، فكل منها تقوم بينه وبين النتيجة علاقة السببية  وتطبيق ذلك على جريمة القتل يقتضى القول بأن علاقة السببية تقوم بين فعل الجاني ووفاة المجني عليه إذا ثبت أنه عامل ساهم في إحداثها ، ولو كان نصيبه من المساهمة محدوداً ، وشاركت معه في ذلك عوامل تفوقه في الأهمية على نحو ملحوظ  وتقود هذه النظرية إلى النتائج الآتية : إذا ساهمت مع فعل الجاني عوامل طبيعية كضعف صحي أو مرض سابق كان المجني عليه يعاني فعلاقة السببية تظل قائمة بين هذا الفعل والوفاة ؛ وإذا ساهمت في إحداث الوفاة أفعال أخرى فعلاقة السببية لا تنتفي بذلك : فخطأ المجني عليه وإن كان جسيماً ونشاط مجرم ثان اتجه إلى ذات النتيجة لا ينفيان علاقة السببية ؛ بل إن العوامل التي تتدخل في التسلسل السببي بعد ارتكاب الجاني فعله فتزيد من جسامته وتقود إلى إحداث الوفاة لا تحول دون القول بتوافر هذه العلاقة : فخطأ الطبيب المعالج وإن كان فاحشاً أو إصابة المجنى عليه بمرض لاحق أو احتراقه في المستشفى الذي نقل إليه لعلاجه ، كل ذلك لا ينفي علاقة السببية .

نظرية السببية الملائمة وتذهب هذه النظرية إلى التفرقة بين عوامل النتيجة الإجرامية والاعتداد ببعضها دون بعض ؛ فإن كانت جميعاً اللازمة لإحداث النتيجة على النحو الذي حدثت به ، فإن بعضها فقط يتضمن إتجاها إليها ويعبر عن ميل نحوها ويمثل خطورة في اتجاهها ، وتكمن فيه تبعاً لذلك « الإمكانيات الموضوعية » التي من شأنها إحداثها وترى هذه النظرية أن علاقة السببية تقوم بين النتيجة وهذه العوامل دون سواها ويقتضي تطبيق هذه النظرية تجريد التسلسل السببي من ملابساته الواقعية غير ذات الأهمية : وللتجريد مرحلتان : استبعاد بعض عوامل النتيجة، وهي العوامل الشاذة غير المألوفة ، والاقتصار على الاعتداد بالعوامل الطبيعية المألوفة ، وهذه العوامل وحدها يضاف تأثيرها إلى آثار الفعل التحديد ما ينطوي عليه من إمكانيات ؛ أما المرحلة الثانية من التجريد فتقتضي أن تستبعد من النتيجة ظروفها الواقعية لكي تحدد باعتبارها نوعاً معيناً من النتائج الإجرامية ، ولكن هذا التجريد لا يستتبع إغفال الوسيلة التي حدثت بها النتيجة الإجرامية وللتحقق من توافر علاقة السببية بين فعل الجاني والنتيجة ينبغي التساؤل عما إذا كان الفعل - مقترناً بالعوامل العادية المألوفة - يتضمن القدرة على تحريك القوانين الطبيعية التي من شأنها إحداث النتيجة عن طريق الوسيلة التي حدثت بها ، فإن كانت الإجابة إثباتاً فعلاقة السببية متوافرة ، وإن كانت نفيا فهي غير متوافرة : فإذا أصاب شخص آخر بجروح قاصداً قتله ولكن المجني عليه لم يمت بجروحه، وإنما مات في حريق المستشفى الذي نقل إليه ، فإن تحديد ما إذا كانت علاقة السببية متوافرة أم غير متوافرة يختلف باختلاف ما إذا أخذنا بنظرية تعادل الأسباب أم قلنا بنظرية السببية الملائمة فطبقاً للأولى تعد هذه العلاقة متوافرة ، إذ لولا الجروح ما نقل المجني عليه إلى المستشفى وما هلك في حريقها ، ويعني ذلك أن هذه النظرية تضيف إلى فعل الجاني جميع العوامل التي ساهمت في إحداث الوفاة ومن بينها الحريق فتتضخم بذلك آثاره ويغدو منطقياً القول بأنه سبب الوفاة أما إذا أخذنا بنظرية السببية الملائمة ، فيتعين أن يستبعد حريق المستشفى من التسلسل السببي ، وأن تستبعد من النتيجة ظروفها ، فتحدد باعتبارها « وفاة إنسان عن طريق الحريق » ، وبعد ذلك نضع السؤال الآتي : هل إحداث جروح بشخص فعل ينطوي على الإمكانيات الموضوعية التي تجعل من شأنه إحداث الوفاة عن طريق الحريق ؟ من البديهي أن الإجابة هي بالنفي ، فيكون مقتضى ذلك اعتبار علاقة السببية غير متوافرة .

معيار علاقة السببية لدى القضاء : اجتهدت محكمة النقض في صياغة معيار لعلاقة السببية ، فقالت إن « العلاقة السببية علاقة مادية تبدأ بفعل المتسبب وترتبط من الناحية المعنوية بما كان يجب عليه أن يتوقعه من النتائج المألوفة لفعله إذا أتاه عمداً ، أو خروجه فيما يرتكبه بخطئه عن دائرة التبصر بالعواقب العادية لسلوكه والتصون من أن يلحق عمله ضرراً بالغير » ويعني هذا القضاء أن المحكمة تقرر قيام معیار علاقة السببية على عنصرين :عنصر مادي وعنصر معنوي فالعنصر المادي قوامه العلاقة المادية التي تصل ما بين الفعل والنتيجة ، وهي علاقة تقرر - في تطبيقها على القتل - أن فعل الجاني كان أحد العوامل التي أسهمت في إحداث الوفاة أما العنصر المعنوي فترى المحكمة اختلافه باختلاف ما إذا كانت الجريمة عمدية أو غير عمدية : فإن كانت عمدية فإن علاقة السببية تقف عند النتائج المألوفة للفعل التي يجب على الجاني أن يتوقعها ؛ أما إذا كانت غير عمدية فإن هذا العنصر يقتضي « خروج الجاني فيما يرتكبه بخطئه عن دائرة التبصر بالعواقب العادية لسلوكه والتصون من أن يلحق عمله ضرراً بالغير »، وأهمية العنصر المعنوي أنه يحدد من تلك العلاقة المادية الجزء الذي تكون له أهمية قانونية ، ونرى تفصيلاً للمعيار الذي تأخذ به محكمة النقض التمييز بين القتل العمدي والقتل غير العمدی .

معيار علاقة السببية في القتل العمدي : تتطلب علاقة السببية في القتل العمدى توافر عنصرها المادي الذي سلفت الإشارة إليه ، وهو عنصر تشترك فيه مع علاقة السببية في القتل غير العمدي وبالإضافة إلى ذلك يتعين أن يتوافر عنصرها المعنوي الذي يفترض أن كيفية حدوث الوفاة مألوفة وأنه كان يجب على الجاني توقعها ، والأمران غير منفصلين : إذ أن وجوب التوقع يفترض استطاعته ، لأنه لا تكليف بما لا يستطاع ، واستطاعة التوقع لا محل لها إلا بالنسبة للنتائج المألوفة المعتادة ، أما النتائج الشاذة غير العادية فليس في استطاعة الجاني توقعها وليس ذلك واجباً عليه ، ونستطيع التعبير عن هذا العنصر بقولنا : إنه يقوم « باستطاعة الجاني توقع وفاة المجني عليه ووجوب ذلك عليه » ، ومن السائغ اعتبار الصفة المألوفة للنتيجة قرينة على استطاعة توقعها ووجوبه وتطبيقاً لهذا المعيار قضت المحكمة بأن المتهم بالقتل العمد مسئول عن وفاة المجني عليه التي لم تحدث إلا بعد علاج دام ثمانية وخمسين يوما طالما أنه كان في استطاعته ومن واجبه أن يتوقع هذه النتيجة وقضت بمسئولية الضارب عن الفعل ولو ساهم في إحداث الوفاة تسمم معوي نتج عن الحمرة ، إذ هي من الأمراض التي تنشأ عادة عن الجروح وقضت بأن إهمال العلاج أو حدوث مضاعفات تؤدي إلى الوفاة لا يقطع علاقة السببية بين الإصابة والوفاة .

وتطبيقاً لهذا المعيار فإن علاقة السببية في القتل العمدى تنتفي في حالتين : إذا لم يكن فعل الجاني أحد العوامل التي أسهمت في إحداث الوفاة ؛ وإذا ثبت أنه أحد هذه العوامل ، ولكن لم يكن في استطاعة المتهم أن يتوقع بعض العوامل الأخرى التي أسهمت كذلك في إحداث الوفاة ، لأنها شاذة غير مألوف تدخلها في التسلسل السببي ، وبناءً على ذلك لم يكن في استطاعته : توقع الوفاة ، لأن كيفية حدوثها هي على هذا النحو غير مألوفة .

سلطة القضاء في إثبات علاقة السببية : تلتزم محكمة الموضوع بأن تثبت في حكمها بالإدانة توافر هذه العلاقة ، فإن لم تفعل كان حكمها قاصر التسبيب وإذا كان البحث في علاقة السببية مقتضياً خبرة فنية ، فإن المحكمة تلتزم بأن تسند قولها بتوافرها إلى واقع التقرير الفني ، وغالباً ما يكون في جرائم القتل تقريراً طبياً وعلاقة السببية مسألة موضوعية يستخلصها قاضي الموضوع من وقائع الدعوى ، ولا رقابة لمحكمة النقض عليه في ذلك ولكن لمحكمة النقض أن تراقب قاضي الموضوع من حيث فصله في أن أمراً معيناً يصلح قانوناً لأن يكون سبباً لنتيجة معينة أو لا يصلح ويعني ذلك أن لها الرقابة على المعيار الذي يأخذ به القاضي ، فإن أخذ بمعيار غير صحيح ، فلها أن ترده إلى المعيار القانوني في تقديرها .

القتل العمدى فى صورته البسيطة .

القصد الجنائي في القتل :

عناصر القصد الجنائي في القتل : يقوم القصد الجنائي على عنصرين : العلم والإرادة ، فالعلم يتعين أن يحيط بأركان الجريمة وعناصر كل ركن ، ولا يشذ عنصر على هذه القاعدة إلا استثناء والإرادة يتعين أن تتجه إلى الفعل الذي تقوم به الجريمة وإلى النتيجة التي تترتب عليه ، ونتكلم في كل من عنصري القصد في القتل ، ثم نعقب ذلك بعرض لأهم الأحكام العامة التي يخضع لها .

العلم بأركان القتل : يتعين أن يعلم المتهم أنه يوجه فعله إلى جسد حي ، ويتعين أن يعلم بخطورة فعله على حياة المجني عليه ، ويتعين أن يتوقع وفاته ويثير البحث في علاقة السببية بعض الصعوبات .

فيتعين أن يعلم بوجود جسد حي يتجه إليه فعله ، فإن اعتقد أن فعله ينصب على جثة فارقتها الحياة ، فالقصد لا يعد متوافراً لديه : فالطبيب الذي يعتقد أنه يشرح جثة فإذا بصاحبها لا يزال حياً ، وإذا بالوفاة تحدث نتيجة الفعله ، لا يعد القصد متوافراً لديه ، وأن أمكن نسبة الخطأ إليه .

ويتعين أن يعلم المتهم بخطورة فعله على حياة المجنى عليه ، أي أن يعلم أن من شأن فعله إحداث وفاته ، فإن ثبت جهله ذلك انتفى القصد لديه  فمن ينظف سلاحاً وهو يجهل وجود عیار به لا يعد قاتلاً عمداً إذا ترتب على فعله انطلاق العيار وموت من أصيب به ؛ ومن يطلق النار للإرهاب أو فض مشاجرة فيكون معتقداً أنه ليس من شأن فعله إصابة أحد ، لا يعد القصد متوافراً لديه إذا أصيب بالرصاص شخص ومات .

ويتعين أن يتوقع المتهم وفاة المجنى عليه كأثر لفعله : فمن أعطى آخر مادة سامة متوقعاً أن يستعملها في إبادة الحشرات ، فإذا به قد تناولها ظناً منه أنها مادة شافية لا يعد القصد متوافراً لديه .

والأصل أن يتوقع المتهم علاقة السببية التي تربط ما بين فعله والوفاة ولكن الغلط في علاقة السببية لا ينفي القصد : فإذا توقع الجانی أن تحدث وفاة المجنى عليه بوسيلة معينة ، فإذا بها تحدث بوسيلة مختلفة فإن القصد يظل متوافراً لديه ، وتفسير ذلك أن القانون يضع على قدم المساواة كل الوسائل التي تفضي إلى حدوث الوفاة  : فإذا أراد شخص أن يقتل آخر بضربه على رأسه لإفقاده الوعي ثم ذبحه ولكن حدثت الوفاة نتيجة لضربة الرأس وحدها ، أو أطلق شخص النار على غريمه الذي يقف على سطح بناء متوقعا أن يصيبه الرصاص إصابة مميتة تقضى عليه ولكنه أصيب إصابة بسيطة أدت مع ذلك إلى اختلال توازنه وسقوطه من السطح وارتطامه بالأرض ووفاته ، فالقصد الجنائي متوافر لديه .

إرادة الفعل والنتيجة : اتجاه الإرادة إلى فعل الاعتداء على حياة المجني عليه و إلى إحداث وفاته هو جوهر القصد الجاني في القتل ، ولا يتطلب القانون العلم بأركان القتل إلا باعتبار ذلك شرطاً لتصور هذا الاتجاه الإرادي .

تفترض فكرة القصد الجنائي أن إرادة المتهم قد اتجهت إلى ارتكاب فعل الاعتداء على حياة المجنى عليه ، وهو على بينة من خطورة هذا الفعل على حياته ، وأن من شأنه إحداث وفاته واتجاه الإرادة إلى الفعل قدر يشترك فيه القصد والخطأ ، وهما يفترقان بعد ذلك باتجاه الإرادة إلى النتيجة في أولهما دون ثانيهما .

ويتطلب القصد الجنائي كذلك اتجاه إرادة المتهم إلى إحداث وفاة المجني عليه : فلا يغني عن ذلك أنه توقع وفاته وأن إرادته اتجهت إلی الفعل الذي من شأنه إحداث الوفاة وتطبيقاً لذلك فإن الطبيب إذا أجرى عملية جراحية خطيرة لشخص اشتد عليه مرضه وتوقع أن تحدث وفاته نتيجة لها ، ولكنه لم يرد هذه النتيجة ، بل كان راغباً عنها محاولاً تفاديها وإنقاذ حياة المريض فحدثت على الرغم من ذلك ، لا يتوافر لديه القصد .

وإذا ثبت توافر  إرادة إحداث الوفاة ، أي نية إزهاق الروح  في تعبير آخر توافر القصد الجنائي المتطلب في القتل وسواء أن تتوافر هذه النية لحظة الإقدام على الفعل أو قبل ذلك بقليل، أو أن تسبق هذه اللحظة بوقت طويل نسبياً ، وسواء أن يتاح للجاني خلال هذا الوقت التفكير الهادئ أو ألا يتاح له ذلك ، فسبق التصميم على التنفيذ ، والهدوء في التفكير خلال الفترة الفاصلة بينهما عناصر في سبق الإصرار ، وليست من عناصر نية القتل .

وتثير إرادة الوفاة مشكلة التمييز بين القصد المباشر والقصد الاحتمالي ، ومدى كفاية كل منهما ليقوم به قصد القتل .

القصد المباشر في القتل :

العنصر الجوهرى للقصد المباشر هو الإرادة التي اتجهت على نحو يقيني إلى الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون ، فهي إرادة اتجهت مباشرة إلى مخالفة القانون ، ومن ثم كان القصد مباشراً ، ولا يتاح للإرادة هذا الاتجاه إلا إذا استندت إلى علم يقيني ثابت يتوافر عناصر الجريمة ؛ وأهم عناصر الجريمة التي يتجه إليها تفكير الجاني هو النتيجة الإجرامية ، إذ يتوقعها كأثر لفعله ، ومجال القصد المباشر مقتصر على الحالات التي يتوقع فيها الجاني النتيجة الإجرامية كأثر حتمی لازم لفعله وتطبيق ذلك على القتل يقتضي أن يكون الجاني قد توقع وفاة المجني عليه كأثر حتمي لازم لفعله وللقصد المباشر صورتان : صورة تكون الوفاة فيها هي الغرض الذي يستهدف الجاني تحقيقه بفعله ، فهو قد ارتكبه من أجل إحداث الوفاة ، مثال ذلك من يطلق النار على عدوه في مقتل ويكون غرضه من ذلك إزهاق روحه أما الصورة الثانية للقصد المباشر فتفترض أن الوفاة ترتبط على نحو لازم بالغرض الذي استهدف الجاني تحقيقه بفعله ، فالجاني يسعى إلى تحقيق واقعة معينة ولكن هذه الواقعة ترتبط بها الوفاة ارتباطاً لازماً بحيث لا يتصور بلوغ الجاني غرضه دون أن تتحقق الوفاة : مثال ذلك أن يريد مالك سفينة أن يحصل على مبلغ التأمين عليها ، فيضع فيها قبيل أن تغادر الميناء قنبلة زمنية تنفجر إذا أصبحت في عرض البحر ، فإذا حدث الإنفجار كما توقعة وترتب عليه غرق السفينة وهلاك بحارتها والمسافرين عليها فإن القصد المباشر يعد متوافراً لديه ولم يثر شك في كفاية القصد المباشر في صورتيه ليقوم به قصد القتل .

القصد الاحتمالي في القتل :

يفترض القصد الاحتمالى أن الجاني قد توقع الوفاة كأثر ممكن لفعله يحتمل في تقديره أن تحدث أو ألا تحدث ، ولكنه رحب باحتمال حدوثها ، وأبصر فيه غرضاً آخر - إلى جانب الغرض الذي ارتكب الفعل من أجل تحقيقه - يستهدفه بفعله : مثال ذلك من يشوه جسد آخر لكي يعده الاحتراف التسول فيتوقع وفاته ثم يمضي في فعله راضياً بهذا الاحتمال العداوة يحملها له ، أو أن يسرع شخص بسيارته في مكان مزدحم بأشخاص يؤلفون مظاهرة سياسية فيتوقع أن يؤدي ذلك إلى إصابة أحد المتظاهرين ووفاته ، فيقبل هذا الاحتمال ليتخلص من بعض خصومه الذي يؤلفون هذه المظاهرة  .

والقصد الاحتمالي - محدداً على هذا النحو - يعادل القصد المباشر في القيمة القانونية ، ويكفي مثله ليقوم به القتل العمد ، ذلك أنه قد توافر له عنصرا القصد ، وهما : العلم والإرادة، فالعلم قد توافر بتوقع الوفاة كأثر ممكن للفعل ، والإرادة قد توافرت بقبول هذه النتيجة ، ذلك أن القبول هو إرادة متجهة إلى النتيجة ، فمن ارتكب الفعل کی يحقق به غرضاً معيناً ، ثم تبين له أنه من المحتمل أن يؤدي إلى نتيجة أخرى ، فقبل هذه النتيجة واكتشف فيها غرضاً يمكن أن يتجه إليه بفعله ، فارتكب الفعل من أجل تحقيق أي من الغرضين ، فإن القصد الجنائي يعد متوافراً لديه بالنسبة لكل منهما .

هل القصد الجنائي في القتل قصد عام أم قصد خاص و القصد العام هو ما توافر بالعلم المحيط بأركان الجريمة والإرادة المتجهة إلى الفعل والنتيجة ، أما القصد الخاص فيتميز بأن العلم والإرادة لا يقتصران على أركان الجريمة وعناصرها ، وإنما يمتدان – بالإضافة إلى ذلك - إلى وقائع ليست في ذاتها من أركان الجريمة ، ولتوضيح ذلك نقرر أنه إذا تطلب القانون في جريمة توافر القصد الخاص ، فمعنى ذلك أنه يتطلب أولاً انصراف العلم والإرادة إلى أركان الجريمة ، وبذلك يتوافر القصد العام ، ثم يتطلب بعد ذلك انصراف العلم والإرادة إلى وقائع لا تعد طبقاً للقانون من أركان الجريمة ، وبهذا الإتجاه الخاص للعلم والإرادة يقوم القصد الخاص .

وتذهب محكمة النقض إلى القول بأن القصد الجنائي في القتل هو قصد خاص ، فتقول : تتميز جرائم القتل العمد والشروع فيه قانوناً بنية خاصة هي انتواء القتل وإزهاق الروح وهذه تختلف عن القصد الجنائي العام الذي يتطلبه القانون في سائر الجرائم العمدية .

وهذا القول محل نظر : ذلك أن « نية إزهاق الروح » التي تقيم عليها محكمة النقض القصد الخاص لا تعدو أن تكون الإرادة المتجهة إلى إحداث الوفاة ، أى إحداث النتيجة التي تعد أحد عناصر الركن المادي في القتل ، وإرادة النتيجة عنصر يقوم به القصد العام ، وهي لا تكفي کی تجعل منه قصداً خاصاً .

الأحكام العامة التي يخضع لها القصد الجنائي في القتل : يخضع القصد الجنائي في القتل للأحكام العامة التي تقررها النظرية العامة للقصد الجنائي وفيما يلي بيان أهم هذه الأحكام .

الغلط في شخصية المجنى عليه ، وهو ما يفترض أن المتهم قد خلط بين شخصين ، فقتل أحدهما أو شرع في قتله معتقدا أنه الآخر لا ينفي القصد الجنائي ، ولا ينفي القصد الجنائي كذلك  الخطأ في توجيه الفعل أو الحيدة في الهدف ، وهو ما يفترض أن المتهم لم يحسن توجيه فعله العدم دقته في إصابة هدفه ، كما لو انتوي إزهاق روح شخص معين فوجه إليه فعله أطلق عليه الرصاص مثلاً ولكنه لم يصبه و إنما أصاب شخصاً يمر إلى جواره .

ويستوي أن يكون القصد محدوداً أو غير محدود ويفترض القصد المحدود أن إرادة المتهم اتجهت إلى إزهاق روح شخص أو أكثر معينين بذواتهم ؛ أما القصد غير المحدود ، فيفترض أن إرادة المتهم اتجهت إلى إزهاق روح شخص أو أشخاص أياً كانوا ، أي اتجهت إلى مجرد إزهاق الروح دون أن تعنيه شخصيات من يكونون ضحايا لفعله ، كما لو أطلق شخص الرصاص على جمع من الناس أو ألقي عليهم قنبلة مريداً أن يصيب أي عدد منهم دون أن تكون شخصياتهم معينة لديه .

ويتعين أن يعاصر القصد الفعل ، وسواء بعد ذلك توافر وقت تحقق النتيجة أم لم يكن متوافراً وتطبيقاً لذلك ، فإنه إذا توافر القصد وقت الفعل ثم انتفى وقت تحقق النتيجة فلا جدال في مسئولية المتهم عمداً : فمن وضع السم عمداً في طعام آخر ثم ندم على فعله فهو مسئول عن جريمة التسميم ، ولا يجديه غير سعيه لتخييب آثار فعله ، أي عدوله اختياراً ، فلا تحدث النتيجة ، وينتفي بذلك أحد أركان الشروع أما إذا لم يتوافر القصد وقت الفعل ، ولكن توافر وقت تحقق النتيجة ، أي كان قصدا لاحقا على الفعل ، فلا اعتداد به : فمن أصاب دون عمد شخصاً بجراح خطيرة ثم اكتشفت أنه عدو له ، فرحب باحتمال وفاته ، بحيث ثبت توافر القصد لديه وقت تحققها ، فهو لا يسأل إلا مسئولية غير عمدية .

البواعث على القتل : يخضع القتل للقاعدة العامة التي تقرر أن البواعث التي حركت إرادة المتهم إلى ارتكاب جريمته لا تعتبر من عناصر القصد الجنائي ، فسواء أن يبعث على الجريمة باعث سئ أو باعث نبیل : فالقصد الجنائي يعد متوافراً لدى من أقدم على القتل لتخليص المجني عليه من آلام مرض لا أمل في شفائه أو من عار محاكمة جنائية ، ولدى من استهدف بالقتل تأييد مبدأ سياسي ، أو دفعه إلى القتل استفزاز ونتيجة لذلك فإن عدم معرفة الباعث لا يحول دون اعتبار القصد متوافراً ، وسكوت الحكم عن بيان الباعث على ارتكاب الجريمة لا يعيبه ولكن للباعث غیر السيء اعتبار يحق للقاضي أن يراعيه في حدود سلطته التقديرية عند تحديده العقوبة التي يقضي بها على المتهم : فله أن يعتبره مبرراً للحكم بالحد الأدنى للعقوبة ، ولا أن يعتبره من قبيل الظروف المخففة .

إثبات القصد الجنائي : أهم عناصر القصد الجنائي التي يثور البحث في إثباتها هو « نية إزهاق الروح » أى « نية القتل »، والقاعدة أن القول بتوافر نية القتل أو انتفائها من شأن قاضي الموضوع ، فهي مسألة موضوعية؛ وعلة ذلك أنها - باعتبارها ظاهرة نفسية - لا يستدل عليها  إلا بالمظاهر الخارجية التي تفترضها ، ويعني ذلك أنها تستخلص من الوقائع التي يختص بتقديرها والبت فيها نهائياً قاضى الموضوع ومتى قال قاضی الموضوع كلمته في شأن نية القتل إثباتاً أو نفياً فلا تعقيب لمحكمة النقض عليه إلا إذا كان ثمة تناقض بين ما قرره وبين الوقائع التي استنتجه منها ، أو كان العقل لا يتصور إمكان دلالة هذه الوقائع على الخلاصة التي انتهى إليها .

ولما كانت نية القتل عنصراً جوهرياً في القتل العمد ، فإنه يجب على المحكمة أن تثبت توافرها صراحة واستقلالاً، وإلا كان حكمها قاصر التسبيب .

ونية القتل يستدل عليها بالمظاهر الخارجية ، وهي عديدة : فقد تكون استعمال آلة  أو إصابة المجني عليه في موضع من جسمه يعد مقتلاً، وقد تكون شدة الطعن وتعدد مراته ، أو وجود ضغينة مشهورة بين الجاني والمجنى عليه أو سبق تهديده له بالقتل ولكن هذه المظاهر مجرد قرائن بسيطة : فلا يكفي أن تثبت المحكمة أحدها لكى تستخلص منه على نحو ضرورة توافر نية القتل ، فقد تستعمل آلة قاتلة أو تكون الإصابة في مقتل دون أن يعني ذلك توافر نية القتل ، إذ قد يكون قصد الجاني مقتصراً على مجرد إحداث إصابات بالمجنى عليه  وتحديد ما إذا كانت الآلة قاتلة أو الإصابة في مقتل من شأن قاضي الموضوع ، وقد قضى بأن الفخذ والعضد وراحة اليد لا تعد مقاتل .

القتل العمد استعمالاً لسلطة : أهم صورة لقتل يرتكب استعمالاً للسلطة تتمثل في القتل الذي يأتيه الجلاد تنفيذاً لحكم صادر بالإعدام ، ويمتد نطاق الإباحة إلى كل من أصدروا الأمر بتنفيذ الإعدام ولكن شرط الإباحة به أن تتبع بدقة جميع القواعد والإجراءات التي يعلق عليها القانون صلاحية في الحكم بالإعدام للتنفيذ، ويصدر الأمر بالتنفيذ ممن خولهم القانون هذا الاختصاص : فإن خولفت بعض هذه القواعد انتفت الإباحة ، وكان فعل الجلاد قتلاً معاقباً عليها ، وسئل عنه كذلك من أصدروا إليه الأمر كشركاء .

ويثير البحث في القتل استعمالاً للسلطة التساؤل عن مدى مشروعية أفعال رجال الشرطة التي تصدر عنهم أثناء مطاردة المجرمين أو من أجل الحيلولة بينهم وبين ارتكاب الجرائم، والقاعدة أن القانون لا يعترف بفعل يصدر عن رجل الشرطة « بنية القتل » ، وإنما يتعين أن يصدر من أجل التعجيز عن الهرب أو عن الاعتداء ، وهو ما تكفي فيه « نية الإصابة »، ولذلك يتعين أن يوجه الفعل إلى غير مقتل  ومن ثم يكون التكييف الحقيقي للفعل إذا أفضى إلى موت المجرم أنه جرح مفض إلى موت ، ويشمله على هذا النحو نطاق الإباحة وشرط هذه الإباحة أن تتبع بدقة القواعد التي يقررها القانون لجواز استعمال رجال الشرطة الأسلحة النارية ، وخاصة أن يسبق ذلك الإنذار ثم إطلاق الرصاص للإرهاب ثم توجيهه إلى غير مقتل .

ولكننا نضيف إلى ذلك أنه إذا سمح القانون لرجل الشرطة بتعريض حياة بعض المجرمين للخطر ، كالوضع إذا حدث تمرد في سجن ولم يعد ممكناً السيطرة عليه بغير هذا الفعل ، وورد إلى توقع رجل الشرطة احتمال أن يفضي الفعل إلى الوفاة ، فقبل هذا الاحتمال - أى توافر لديه القصد الاحتمالي في القتل - فإنه لا مناص من إباحة هذا القتل .

القتل العمد استعمالاً لحق الدفاع الشرعي : يعتبر القتل من أهم الصور التي يتخذها فعل الدفاع عن النفس أو المال ، ولذلك يعد الدفاع الشرعي مجالاً هاماً لإباحة القتل العمد ولكن الشارع - تقديراً منه لخطورة القتل العمد - قد حد من الحالات التي يجوز الالتجاء فيها إليه دفاعاً عن النفس أو المال : فلا يجيزه دفاعاً عن النفس إلا في حالات ثلاث : فعل يتخوف أن يحدث منه الموت أو جراح بالغة إذا كان لهذا التخوف أسباب معقولة ؛ و إتيان امرأة كرها أو هتك عرض إنسان بالقوة ؛ واختطاف إنسان (المادة 249 من قانون العقوبات)، ولا يجيزه دفاعاً عن المال إلا في حالات أربع : الحريق العمد ؛ وسرقة من السرقات المعدودة من الجنايات ؛ والدخول ليلاً في منزل مسكون أو في أحد ملحقاته ؛ وفعل يتخوف أن يحدث منه الموت أو جراح بالغة إذا كان لهذا التخوف أسباب معقولة (المادة 250 من قانون العقوبات)، فالشارع يحظر الالتجاء إلى القتل العمد استعمالا لحق الدفاع الشرعي في غير الحالات السابقة التي حددها على سبيل الحصر ، ولو ثبت أن القتل لازم لرد الخطر ومتناسب معه، ولكن ذلك لا يعني أن الشارع يسمح بالقتل لمجرد توافر إحدى الحالات السابقة ، وإنما يتعين أن تتوافر بالإضافة إلى ذلك جميع شروط الدفاع الشرعي ، ومن بينها تناسب القتل مع الخطر .

القتل العمد أثناء الحرب : الحرب كفاح مسلح بين دولتين ، وهي من ثم صورة للعلاقة بين دولتين ، والقتل العمد من مستلزماتها، وعلى الرغم من الجهود التي بذلت للحد من الحروب ، بل وتحريمها ، فإن القانون الدولي ما زال يعترف بها ، ويتضح ذلك من وضعه القواعد لتنظيمها ، وتقوم خطة هذا القانون على تحريم بعض الأساليب الحربية لبشاعتها أو تجاوزها الحدود التي تمثل فيها الحرب صورة للعلاقات الدولية ، ويلزم من ذلك أن ما عدا الأساليب المحرمة يكون مباحاً والإباحة التي يقررها القانون الدولي القتل العمد أثناء الحرب (ومن باب أولى يقررها للإصابة والإتلاف) تمتد بالضرورة إلى القانون الداخلي استناداً إلى واجب الدولة في أن تحقق الإتساق بين تشريعها والقواعد الدولية : فما يبيحه القانون الدولى يبيحه القانون الداخلي ، ولا يجوز مساءلة قاتل عمداً ولو كان من الأعداء طالما أباح القانون الدولي فعله .

والقاعدة هي وجوب التمييز بين القواعد التي تحدد مشروعية الحرب في ذاتها والقواعد التي تحدد مشروعية الأعمال الحربية : فمخالفة الأولى لا تحول دون الإباحة في حين تحول مخالفة الثانية دون ذلك : فشن حرب عدوانية - أي مخالفة للقواعد الدولية التي تحظر الحرب - تثير مسؤولية الدولة التي شنتها ، بل والمسئولية الجنائية الدولية لمن أمروا بشنها (على مثال ما جرى في محاكمات نورمبرج وطوكيو) ، ولكن ذلك لا يحول دون أن تباح الأفعال التي تمارس بها هذه الحرب أما إذا خولفت القواعد التي تحدد كيفية ممارسة الحرب ، فتحظر بعض الأسلحة أو تحرم الاعتداء على بعض الأشخاص أو الأموال كانت الأفعال المخالفة لهذه القواعد غير مشروعة ، وساغ محاكمة مرتكبيها أمام محاكم دولتهم أو محاكم الدولة المعادية وأهم القواعد المنظمة لممارسة الحرب تتضمنها اتفاقية لاهاي في شأن الحرب البرية المبرمة في 18 أكتوبر سنة 1907 واتفاقيات جنيف الأربع المنعقدة في 21 أغسطس سنة 1949 ، وتتضمن هذه الأخيرة معاملة الجرحى والمرضى في ميدان المعركة ، وتحسين معاملة الأسرى ، ومعاملة الجرحى والمرضى في الحرب البحرية ، وحماية المدنيين في زمن الحرب .

وتبيح قواعد الحرب قتل العدو المسلح في ميدان المعركة ، وتبيح إرسال فرق فدائية لتعمل خلف خطوط العدو قتلاً وتخريباً بشرط أن يرتدي أفرادها زيهم العسكري الوطني ، ويجوز تكليفهم بقتل قائد الجيش المعادي ولكن هذه القواعد تحظر قتل العدو غير المسلح أو الذي ألقى سلاحه ، وتحظر قتل العدو الذي استسلم أو أسر ولا يجوز أن يقتل الأسرى ولو كان نقلهم إلى ما خلف الخطوط الحربية يهدد سلامة الجيش بالخطر ، ولا يجوز قتلهم على سبيل المعاملة بالمثل ويتمتع بالحماية المقررة للأسرى رعايا العدو الذين يكلفون بالعمل الجبري، وتحمي القواعد الدولية المدنيين الذين لا يشاركون في العمليات الحربية حماية شاملة : فلا يجوز الاعتداء عليهم بقتل أو إيذاء ولو وقع الإقليم الذي يقيمون فيه تحت احتلال قوات الأعداء ، ولكن يستثنى من ذلك حالة تنظيمهم فرقاً عسكرية تحارب قوات الاحتلال ، إذ يعاملون معاملة العسكريين .

القتل العمدي في صوره المشددة :

أسباب التشديد في القتل العمدي : نص الشارع على أسباب تشديد عقاب القتل العمدي ، وهذه الأسباب ترد إلى الأنواع التالية : أولاً : التشديد الذي يرجع إلى نفسية الجاني وقصده ، ونعني به « سبق الإصرار » ( المادة 230 من قانون العقوبات )، ثانياً : التشديد الذي يتعلق بكيفية تنفيذ القتل ، ويندرج في هذا النوع الترصد (المادة 230 من قانون العقوبات) ، واستعمال السم في القتل (المادة 233 من قانون العقوبات)، ثالثاً : التشديد الذي يرجع إلى اقتران القتل بجناية (المادة 234 من قانون العقوبات ، الفقرة الثانية) .

رابعاً : التشديد الذي يقوم على ارتباط القتل بجناية أو جنحة (المادة 234 من قانون العقوبات ، الفقرة الثانية) .

خامساً : التشديد الذي يرجع إلى تنفيذ القتل لغرض إرهابي (المادة 234 من قانون العقوبات ، الفقرة الثالثة) .

سادساً : التشديد الذي يرجع إلى صفة المجنى عليه ، ونعني به القتل الذي يقع على جريح حرب (المادة 251 مکرراً من قانون العقوبات) .

وجميع أسباب التشديد تفترض ابتداء توافر أركان القتل العمدی فی صورته البسيطة ، فجرائم القتل المشدد ليست جرائم خاصة ، وإنما هي جرائم قتل اقترنت بظروف مشددة من شأنها تغيير وصف الجريمة .

وجميع أسباب التشديد وجوبية ، فليست للقاضي السلطة التقديرية في أن يحكم بالعقوبة المقررة للقتل العمدي البسيط على الرغم من توافر الظروف المشددة ، إلا إذا قرر تطبيق الظروف المخففة وأسباب التشديد ترتفع بعقوبة القتل العمدي إلى الإعدام ، عدا حالة ارتباط القتل بجناية أو جنحة التي ترتفع فيها العقوبة إلى الإعدام أو السجن المؤبد .

 

وغالبية أسباب التشديد لها طابع مادي أو عيني ، ومن ثم تسری على كل المساهمين في القتل ، ويستثنى من ذلك ظروف سبق الإصرار وارتباط القتل بجناية أو جنحة ، وتنفيذ القتل لغرض إرهابي إذ تتميز بطابع شخصی ، فلا يتأثر بها من المساهمين غير من ثبت توافرها لديه . ( شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ محمود نجيب حسني، دار النهضة العربية،  الصفحة :   371 )

يقع القتل اعتداء على حق الإنسان في الحياة، ولذلك فإن محل الاعتداء في جريمة القتل هو الإنسان الحي، فالمشرع يتطلب أن تتوافر في محل الاعتداء صفة الإنسانية وشرط الحياة، فإن تخلف أحدهما لا تقع جريمة القتل، وإن أمكن أن تقع بالفعل جريمة أخرى .

ولا تثير لحظة انتهاء الحياة صعوبة ما ، إذ هي اللحظة التي يلفظ فيها الإنسان نفسه الأخير ، حيث تتوقف كل وظائف الجسم توقفاً تاماً وإنما يثور التساؤل حول تحديد اللحظة التي تبدأ فيها الحياة ؟ وترجع أهمية التحديد إلى اختلاف نطاق الحماية القانونية التي يسبغها المشرع على الإنسان قبل هذه اللحظة عنه بعدها. فقبل هذه اللحظة يعتبر الإنسان جنيناً فتحميه النصوص التي تعاقب على الإجهاض ، بينما تحميه منذ أن تبدأ الحياة النصوص التي تعاقب على القتل ، وكذلك النصوص المتعلقة بالجرح والضرب وإعطاء المواد الضارة، والحماية التي تقررها نصوص الإجهاض أضيق نطاقاً من تلك التي تتضمنها نصوص القتل ، فالمشرع لا يعاقب على الإجهاض إلا إذا كان عمدياً ، بينما يعاقب عن القتل سواء كان عمدياً أو غير عمدي، كذلك لا عقاب على الشروع في الإجهاض بينما يوقع العقاب على الشروع في القتل، وبالإضافة إلى ذلك فإن المشرع لا يجرم إيذاء الجنين بينما يجرم الإيذاء البدني الواقع على الإنسان الحي .

ولا يثير هذا التحديد صعوبة إذا وقع إعدام الجنين قبل بدء عملية الولادة، إذ يخضع عندئذ لنصوص الإجهاض ، أو بعد انتهاء عملية الولادة ، إذ تطبق عندئذ نصوص القتل ؛ ولكن الصعوبة تثور حول ما إذا كانت صفة الإنسان الحي تتحقق في الفترة التي تنحصر بين بدء عملية الولادة ونهايتها أم أنه يعتبر جنيناً ؟ استقر الفقه الجنائي على أن الحياة التي يعنيها المشرع في نصوص جريمة القتل تبدأ منذ اللحظة التي تبدأ فيها عملية الولادة ، وهي اللحظة التي يصبح عندها الجنين صالحاً للحياة خارج جسم أمه ، وقابلاً للتأثر تأثراً مباشراً بالعالم الخارجي ويترتب على هذا التحديد أنه إذا أخطأ الطبيب أثناء إجراء عملية الولادة خطأ أدى إلى وفاة المولود فإنه يسأل عن جريمة القتل غير العمدي ، بينما لا يسأل الطبيب إطلاقاً إذا اعتبرنا أن المولود لا يزال جنيناً في هذه الفترة، حيث أن جريمة الإجهاض لا تكون إلا عمدية .

وإذا تحقق في محل الاعتداء أنه إنسان حي فإن ذلك يكفى لقيام هذا الركن، فيستوي بعد ذلك سن المجني عليه أو جنسه أو مستواه الاجتماعي ، فالمجتمع يحمي حق المجنى عليه في الحياة سواء كان غنياً أو فقيراً متعلماً أو جاهلاً مفيداً للمجتمع أو ضاراً به فتقع جريمة القتل ولو كان المجني عليه مجرماً خطيراً بل ولو كان محكوماً عليه بالإعدام ذلك أن حق هذا الشخص في الحياة يظل محلاً لحماية القانون إلى أن ينفذ فيه الإعدام بالطريق القانونی .

كذلك يستوي في نظر المشرع أن يكون المجني عليه معافي أو معانياً من مرض خطير ، بل ولو كان هذا المرض يسبب له آلاماً مبرحة فيسأل الطبيب عن جريمة القتل إذا أنهي حياة المريض إشفاقاً عليه من الآلام التي يعانيها ولو كان ذلك بناء على رجاء المريض أو أهله  بل ولو كان هذا المرض يؤدي به حتماً إلى الموت .

ويستوي في نظر المشرع أيضاً أن يكون المجني عليه عادياً أو مشوهاً فتقع جريمة القتل إذا كان المجني عليه قد ولد في صورة غير طبيعية ، ولو كان تشويهه ينذر بموت عاجل كذلك يستوي أن يكون المجني عليه متخلفاً من الناحية الذهنية أو كان أحد العباقرة .

الركن المادي في جريمة القتل :

يقوم الركن المادي في جريمة القتل على عناصر ثلاثة :

السلوك الإجرامي الذي يصدر عن الجاني وهو فعل الاعتداء على الحياة، والنتيجة الإجرامية وهي وفاة المجني عليه ثم علاقة السببية التي تربط بين السلوك الإجرامي والنتيجة .

السلوك الإجرامي :  

وسائل الاعتداء على الحياة :

السلوك الإجرامي هو النشاط الذي يصدر عن الجاني ويتمثل فيه الاعتداء على الحياة .

وتستوي في نظر المشرع الوسائل التي تستعمل في فعل الاعتداء على الحياة ، فالمشرع لم يشترط لقيام الركن المادي في جريمة القتل استعمال وسيلة معينة وإنما يقع القتل بكل وسيلة أو أداة صالحة لإحداث الوفاة في الظروف التي ارتكب فيها الفعل .

فيستوي أن تكون وسيلة الفاعل في الاعتداء على الحياة أداة معينة كسلاح ناري، أو آلة حادة، أو سلك يسري فيه تيار كهربائي، أو أن يستعمل الجاني أحد أعضائه كخنق المجنى عليه أو إغراقه أو لكمه في مقتل أو كتم أنفاسه أو إلقائه من مكان مرتفع .

كذلك يستوي في وسيلة الاعتداء أن تنال جسم المجنى عليه مباشرة أو أن تحقق أثرها بطريق غير مباشر فيقع القتل إذا وضع الجاني السم في طعام المجنى عليه أو شرابه ، أو وضع مادة متفجرة في سيارته تنفجر عند تشغيل المحرك ، أو حفر في طريقه حفرة يؤدى وقوعه فيها إلى وفاته .

ويستوي في نظر المشرع أن يحدث الاعتداء بفعل واحد كإطلاق رصاصة قاتلة على المجنى عليه، أو أن يقع بعدة أفعال لا يكفي كل منها وحده لإحداث الوفاة ، كمن يضع في طعام المجنى عليه سما على عدة دفعات ، أو يضربه عدة ضربات ، أو يطعنه عدة طعنات كذلك يتوافر عنصر الاعتداء ولو لم يترتب عليه حدوث الوفاة فوراً وإنما تراخت النتيجة، طالما ثبت قيام صلة السببية بين الفعل والنتيجة .

ويغلب في وسائل الاعتداء أن تكون مادية ، ومع ذلك فقد يلجأ الجاني في الاعتداء إلى وسيلة معنوية ؛ مثال ذلك أن يطلق شخص عياراً من مكان خفي قريب من المجني عليه فيموت فزعاً، أو أن يهدد المدرس تلميذاً بالضرب فيموت خوفاً ولما كان المشرع لا يميز بين وسائل الاعتداء في جريمة القتل فإن من المنطقي القول بأن الوسيلة المعنوية تصلح لتحقيق عنصر الاعتداء ، وإن كان من العسير في أغلب الحالات إقامة الدليل على ذلك .

وعلى الرغم من أن المشرع لم يتطلب وسيلة معينة لقيام فعل الاعتداء ، فإن التساؤل قد ثار حول موضوعين ، الأول : صلاحية الوسيلة المستعملة لإحداث الوفاة وهي المشكلة المتعلقة بالجريمة المستحيلة ، والثاني : إيجابية أو سلبية السلوك الإجرامي ، وهذه هي فكرة القتل بالامتناع .

الجريمة المستحيلة :

قد يلجأ الفاعل إلى وسيلة معينة تكون غير صالحة لتحقيق النتيجة، واستحالة حدوث النتيجة قد يكون راجعاً إلى كون وسيلة الاعتداء لم تكن صالحة لإحداث الوفاة في الظروف التي استخدمت فيها ، مثال ذلك أن يضغط شخص على زناد المسدس الموجه إلى المجني عليه فلا تنطلق الرصاصة لخلل أصاب المسدس ، أو أن يضع في طعام المجنى عليه كمية من السم لا تكفي لإحداث الوفاة ، وهنا تكون الاستحالة نسبية وقد يكون مرجع استحالة حدوث النتيجة إلى أن الوسيلة المستعملة لا تصلح مطلقاً وتحت أي ظرف لإحداث الوفاة ، مثال ذلك أن يطلق شخص الرصاص على غريمه من بندقية تالفة، أو أن يستعمل أساليب السحر والشعوذة ، أو أن يضع لعدوه كمية من الدقيق معتقداً أنه مادة سامة ، وهنا تكون الاستحالة مطلقة .

وقد ميز القضاء المصري بين هذين النوعين من الاستحالة فقرر اعتبار الجاني مسئولاً عن الشروع في القتل في حالة الاستحالة النسبية ، بينما لا يعد شارعاً في القتل إذا كانت الاستحالة مطلقة .

وفاة المجنى عليه :

تعتبر وفاة المجني عليه هي النتيجة في جريمة القتل ، فهذه الوفاة هي الأثر المترتب على سلوك الجاني والذي يتطلبه المشرع للمساءلة عن جريمة القتل، أما إذا لم تتحقق هذه النتيجة بأن أوقف نشاط الجاني أو خاب أثره لسبب لا دخل لإرادته به فإن جريمته تعتبر شروعاً إذا توافر لديه القصد الجنائي .

ويعتد المشرع بالنتيجة ولو لم تعقب الفعل مباشرة ، فيستوي لديه أن تحدث الوفاة فور وقوع الفعل أو بعد مضي فترة من الزمن على وقوعه ، طالما توافرت صلة السببية بينها وبينه، وتعتبر وفاة المجني عليه هي النتيجة في كل جرائم القتل ، فإن توافر لدى الجاني قصد إحداث الوفاة كانت الجريمة قتلاً عمدياً ، وإن تخلف القصد وتحقق الخطأ لدى الجاني كانت الجريمة قتلاً عمدياً ، فإذا تخلف كل من نية إزهاق الروح ، والخطأ غير العمدي وتحقق قصد إيذاء المجني عليه ، ومع ذلك وقعت الوفاة كنتيجة لفعل الإيذاء كانت الجريمة ضرباً أفضى إلى الموت .

ولا يتطلب المشرع وسيلة معينة لإثبات حدوث الوفاة ، فيكفي أن يقوم الدليل على قتل شخص ما ولو لم تتحدد شخصيته ، أو تقدم شهادة بوفاته ، بل حتى ولو لم يعثر على جثته على أن اختفاء شخص لا يعتبر دليلاً على وفاته ويقع عبء إثبات وفاة المجني عليه وفقاً للقواعد العامة على سلطة الإتهام ، فلا يجوز أن يطالب المتهم بإقامة الدليل على أن المدعي قتله لا يزال على قيد الحياة ولو كان خاضعاً لإشرافه ورعايته .

علاقة السببية :

تحديد علاقة السببية في القتل :

علاقة السببية هي العنصر الثالث من عناصر الركن المادي في جريمة القتل ، فلابد لإكتمال هذا الركن من أن تكون النتيجة ، وهي الوفاة ، قد ترتبت  على فعل الاعتداء على الحياة بحيث يسند إليه وقوعها ، فإذا لم يتحقق هذا العنصر اقتصرت مسئولية مرتكب الفعل على الشروع في القتل إذا كان قد توافر لديه القصد الجنائي ، أما إذا لم يتوافر لديه إلا الخطأ غير العمدي ، فإنه  لا يسأل إذ لا شروع في الجرائم غير العمدية ، وإنما يسأل مسئولية غير عمدية عما يكون قد لحق المجنى عليه من إصابات تسببت عن الفعل .

إثبات علاقة السببية :

تعتبر علاقة السببية عنصراً من عناصر الركن المادي لجريمة القتل ، ولذلك كان من اللازم أن تثبت المحكمة في حكمها الصادر بالإدانة توافر هذه العلاقة بين الفعل وبين الوفاة ، فإن لم تفعل كان حكمها قاصر التسبيب مما يستوجب نقضه .

القصد الجنائي :

عناصر القصد الجنائي :

يقوم القصد الجنائي في جريمة القتل العمد على عنصري العلم والإرادة .

العلم :

يجب أن ينصرف علم الجاني إلى عناصر الركن المادي لجريمة القتل ، فيجب أن يكون عالماً بأنه يقوم بنشاط من شأنه أن يقضي على حياة المجني عليه ، فإذا انتفى لديه هذا العلم إنهار القصد ، فإذا استعمل شخص مسدساً يعتقد أنه مسدس أطفال لا خطر منه فإذا به مسدس حقيقي انطلقت منه رصاصة فقتلت شخصاً كان في مواجهته ، لا يسأل عن قتل عمدي لانتفاء القصد ، وإن أمكن أن يسأل عن قتل خطأ .

ويجب أن يكون الجاني عالماً بأنه يوجه فعله إلى إنسان حي ، فإذا أطلق شخص رصاصة في الظلام تجاه إنسان وهو يعتقد لعدم وضوح الرؤية أنه كلب ضال جاء يهدد أطفاله فقتله ينتفي لديه القصد كذلك إذا اعتقد شخص أن آخر قد مات فدفنه ، ثم تبين أنه كان حياً مصاباً بالإغماء فمات بتأثير الدفن ، لا يسأل الفاعل عن جريمة القتل العمد .

كذلك يجب أن يتوقع الجاني حدوث الوفاة كأثر لفعله ، فإذا انتفى هذا التوقع ومع ذلك حدثت الوفاة انتفى القصد ، فمن يعط آخر مادة سامة متوقعاً أن يستعملها كمبيد حشري فيتناولها الأخير معتقداً أنها تشفيه من مرضه ، ينتفي القصد الجنائي .

الإرادة :

يجب أن تتجه إرادة الجاني إلى ارتكاب فعل الاعتداء على الحياة ، وإلى نتيجة هذا الفعل وهي إزهاق الروح ، وعلى ذلك فإذا لم تتجه الإرادة إلى الفعل انتفى القصد ، فمن دفعه شخص نحو طفل فسقط عليه ومات الطفل ، لا تقع بسقوطه على الطفل جريمة القتل لأن إرادته لم تتجه إلى هذا الفعل كذلك ينتفي القصد ولو اتجهت إرادة الجاني إلى الفعل إذا كانت لم تتجه إلى النتيجة وهي حدوث الوفاة ، فإذا أطلق شخص أعيرة نارية ابتهاجاً أو إرهاباً فأصاب أحدها شخصاً وقتله ، فإنه لا يسأل عن قتل عمدي لعدم اتجاه إرادته إلى إحداث هذه النتيجة وإن أمكن أن يسأل عن قتل خطأ .

ويكتفى المشرع باتجاه إرادة الجاني إلى الفعل وإلى تحقيق النتيجة ، وهي إزهاق روح إنسان حي ، دون أي اعتداد بشخص المجنى عليه ، سواء كان هو الشخص الذي اتجهت إرادة الجاني إلى قتله أو كان شخصاً آخر، وسواء تحققت النتيجة في شخص واحد أو أكثر ، ويرجع ذلك إلى أن المشرع لا يحمي الحق في الحياة لشخص دون آخر ، وإنما الناس جميعاً لديه سواء ويترتب على ذلك النتائج الآتية :

أولاً : الخطأ في توجيه الفعل أو الحيدة عن الهدف :

إذا أخطأ الجاني في توجيه فعل الاعتداء إلى الشخص الذي يريد إزهاق روحه فأزهق روح شخص آخر فإنه يسأل عن جريمة قتل عمدية ، إذ يستوي في نظر المشرع أن تتحقق هذه النتيجة في هذا الشخص أو ذاك ، لأن الناس في نظر القانون سواء  كذلك يسأل بالإضافة إلى ذلك عن شروع في قتل الشخص الآخر، ونكون حينئذ بصدد تعدد معنوي بین جريمتي القتل والشروع فيه ، فتوقع على الجاني أشد العقوبتين طبقاً للمادة 32 / 1 من قانون العقوبات ونظراً لأن الجريمتين قد وقعتا بفعل واحد فإنه لا يجوز القول بتوافر ظرف الاقتران الذي يترتب عليه تشديد عقوبة القتل العمد إذ لا يتحقق هذا الظرف إلا إذا كانت الجناية قد قامت بفعل مستقل عن الفعل الذي قامت به جريمة القتل العمد .

ثانياً : الغلط في شخصية المجنى عليه :

يتحقق الغلط في شخصية المجني عليه إذا كان الجاني يريد إزهاق روح شخص معين فيوجه فعله إلى شخص آخر وهو يعتقد أنه هو الشخص المقصود بالقتل ، فيسأل الجاني في هذه الحالة عن قتل عمدي طالما أن عناصر القصد الجنائي قد توافرت لديه إذ لا يعتد المشرع بحدوث النتيجة في شخص معين وإنما يكتفي بتحققها بصورة مجردة، أياً كان شخص المجنى عليه .

 ثالثاً : القصد المحدود والقصد غير المحدود :

القصد المحدود يتحقق عند اتجاه الإرادة إلى تحقيق وفاة شخص معين أو أشخاص معينين بالذات ، أما القصد غير المحدود فيتوافر إذا اتجهت إرادة الجاني إلى إزهاق الروح دون تعيين لشخص أو أشخاص من تتحقق فيهم هذه النتيجة مثال ذلك أن يلقى إرهابي قنبلة على جمع من الناس بغية قتل أي عدد منهم دون أن يكونوا معروفين له ، لمجرد الإخلال بالأمن ودون أن يعنيه التخلص منهم بالذات .

ويستوي في نظر المشرع أن يكون القصد محدوداً أو غير محدود إذا تتوافر في الحالتين عناصر القصد الجنائي ، ولا عبرة بشخص من وقع عليه الاعتداء مادامت القاعدة أن الناس أمام القانون سواء .

 رابعاً : الباعث على القتل :

لا يدخل الباعث على ارتكاب القتل في عناصر القصد الجنائي ، فإذا توافر العلم والإرادة على النحو الذي تقدم بيانه تحقق القصد الجنائي سواء كان الباعث الذي حدا بالجاني إلى ارتكاب جريمته نبيلاً أو رذيلاً ، وعلی ذلك فإنه لا يؤثر في تحقق القصد الجنائي أن يكون الدافع إلى القتل إنقاذ المجنى عليه من الآلام المبرحة التي يسببها مرضه، ولو كان ذلك بناءً على رضاء المجنى عليه ، فالحق في الحياة من الحقوق التي لا يجوز التنازل عنها ، ولذلك فإن رضاء المجنى عليه بالقتل لا يصلح سبباً لإباحته .

ولكن إذا كان لا تأثير للباعث على توافر القصد الجنائي فإنه غالباً ما  يدخل في اعتبار المحكمة - إذا كان باعثاً شريفاً - فتعتبره ظرفاً من الظروف المخففة للعقوبة في الحدود التي تنص عليها المادة 17 من قانون العقوبات .

ويترتب على اعتبار الباعث خارجاً عن نطاق القصد الجنائي أن سكوت الحكم عن بيان الباعث على ارتكاب الجريمة لا يعيبه  كما أن الخطأ فيه لا يؤثر في سلامة الحكم طالما لم يتخذ منه دليلاً في الإدانة .

 بعض المشاكل التي تثيرها فكرة القصد الجنائي في القتل .

  نوع القصد : عام أم خاص ؟

القصد الجنائي وفقاً للقواعد العامة قد يكون عاماً ، وقد يكون قصداً خاصاً وهو يكون عاماً إذا انصرف علم الجاني إلى أركان الجريمة واتجهت إرادته إلى ارتكاب الفعل وإلى تحقيق النتيجة ويكون القصد الجنائي قصداً خاصاً إذا تطلب المشرع بالإضافة إلى عناصر القصد العام انصراف علم الجاني وإرادته إلى واقعة أخرى ليست من أركان الجريمة من ذلك أن المشرع يتطلب لتوافر الركن المعنوي في جريمة التزوير نية استعمال المحرر والمزور فيما زور من أجله، وتعتبر هذه النية قصداً خاصاً لأنها تنصرف إلى واقعة خارجة عن نطاق جريمة التزوير التي يتحقق ركنها المادي بمجرد تغيير الحقيقة ولو لم يستعمل المحرر المزور .

وبتطبيق هذا التحديد على جريمة القتل يتبين أن نية إزهاق الروح لا تعتبر قصداً خاصاً لأنها لا تنصرف إلى واقعة خارجة عن نطاق ماديات الجريمة وإنما هي قصد عام إذ تمثل اتجاه الإرادة إلى النتيجة في جريمة القتل ، وهي إزهاق الروح .

وتذهب محكمة النقض المصرية إلى اعتبار القصد الجنائي في جريمة القتل قصداً خاصاً .

فهي ترى أن جرائم القتل العمد والشروع فيه تتميز «بنية خاصة هي انتواء القتل وإزهاق الروح وهذه تختلف عن القصد الجنائي العام الذي يتطلبه القانون في سائر الجرائم العمدية» .

( انظر : نقض 20 أكتوبر سنة 1969 مجموعة أحكام محكمة النقض س 20 رقم 216 - ص 1102 ، وفي نفس المعنى نقض 10 مايو سنة 1970 س 21 رقم 162 ص 489 ونقض 27 مارس 1972 س 23 رقم 108 ص 487 ؛ ونقض 25 مارس سنة 1973 س 24 رقم 82 ص 388 ؛ ونقض 3 يناير سنة 2006 س 57 رقم 4 ص 46 ) .

وقد رتبت على ذلك عدم مسئولية السكران باختياره عن القتل العمد والاكتفاء بتقرير مسئوليته عن جريمة الجرح أو الضرب المفضي إلى الموت ، وذلك جرياً على مذهبها الذي يقضي بنفي مسئولية السكران باختياره عن الجرائم التي يتطلب فيها المشرع قصداً خاصاً وقصر مسئوليته على الجرائم التي لا يتطلب فيها غير القصد العام ، اللهم إلا إذا كان قد انتوي القتل قبل أن يتناول المسكر ثم أخذه ليكون مشجعاً له على ارتكاب جريمته .  ( نقض 13 مايو سنة 1946 مجموعة القواعد القانونية ج7 رقم 153 ص 140 ) .

خلاصة القول أن القصد المباشر يتمثل في توقع النتيجة كأثر لازم  والسعي بالفعل إلى تحقيقها ، بينما يتمثل القصد الاحتمالي في توقع النتيجة كأثر ممكن وقبولها ، أما الخطأ الواعي فيتمثل في توقع النتيجة والرغبة في توقيعها ونسوق الأمثلة الآتية لإيضاح هذه الفروق : الأول : أن يطلق شخص الرصاص على آخر ابتغاء إزهاق روحه، هنا نكون بصدد قصد مباشر، الثاني : أن يطلق شخص الرصاص للاصطياد في أحد الحقول ويتوقع أن يصيب الرصاص جاره الذي يضمر له العداء فيقبل هذه النتيجة ليتخلص من عدوه ، وهنا نكون بصدد قصد احتمالی، الثالث : أن يطلق الأب - في سبيل إثبات مهارته في الرماية - سهماً نحو تفاحة موضوعة فوق رأس ابنه ، ويتوقع أن يؤدي فعله إلى إصابة الصبي فيرفض هذه النتيجة ويحاول تجنب وقوعها، فيضاعف جهده حتى يتقن التصويب فلا تقع هذه النتيجة ، فإذا أصيب الصغير على الرغم من ذلك كنا بصدد صورة واضحة للخطأ غير العمدي .

ويأخذ القصد الاحتمالي حكم القصد المباشر فيسأل من توافر لديه عن قتل عمدي .

ذلك أن القصد الاحتمالي يفترض أن الجاني في سبيل تحقيق الغرض الذي أراد تحقيقه من إتيان نشاطه قد قبل سلفا حدوث الوفاة التي توقع أن تترتب على فعله ، فهو قد وضع تحقيق مشروعاته فوق مرتبة احترام حقوق الغير، مما يصمه بالأنانية البالغة التي تجعله جديراً بعقوبة الجريمة العمدية .

الوقت الذي يلزم فيه توافر القصد :

القاعدة أن القصد الجنائي يجب أن يكون متوافراً وقت ارتكاب الفعل ، ولا تثور الصعوبة إذا كان القصد متوافراً وقت الفعل وظل قائماً إلى وقت حدوث النتيجة، ولكن قد يحدث أن يتوافر القصد وقت النشاط الإجرامي ويتخلف وقت حدوث النتيجة، فإذا أطلق شخص الرصاص على آخر قاصداً قتله ثم أسف على فعلته فحاول إنقاذه ولكن المحاولة لم تجد فمات المجني عليه ، هنا يسأل الجاني عن جريمة قتل عمدية إذ يكفى توافر القصد وقت ارتكاب الفعل .

كذلك قد يتوافر القصد وقت القيام بجزء من النشاط دون أن يتوافر في الجزء الآخر ، مثال ذلك أن يضع الطاهي مادة في الطعام وهو معتقد أنها إحدى المواد اللازمة لإعداده، فيتناولها المجني عليه ، وحينئذ وقبل حدوث الوفاة يتنبه الطاهي إلى أن المادة التي وضعها هي مبيد حشري قاتل فلا ينبه المجني عليه إلى هذا الخطأ ليتدارك آثار المادة السامة وذلك رغبة في وفاته ، فالطاهي يسأل مسئولية عمدية لا على أساس أن القصد قد توافر وقت حدوث النتيجة - فالعبرة في توافر القصد بوقت ارتكاب الفعل - وإنما على أساس أن الوفاة هنا تحققت كنتيجة لنشاطين : الأول إيجابي لم يكن مصحوباً بالقصد وهو وضع المادة السامة ، والثاني سلبي يتمثل في امتناع الجاني عن تدارك آثار هذه المادة ، مخالفاً بذلك التزاماً ولده الفعل الإيجابي المصحوب بالخطأ الذي صدر عنه، وإذا كان القصد قد تخلف وقت النشاط الإيجابي فإنه قد توافر وقت النشاط السلبي ، أي أنه كان معاصراً لجزء من النشاط الإجرامي ، وهذه المعاصرة تكفي للقول بتوافر القصد وقت الفعل مما يرتب مسئولية الجاني عن قتل عمدي ، أما إذا لم يكن في قدرة الجاني تنبيه المجني عليه إلى تدارك آثار الخطأ ، فحينئذ يسقط التزامه بذلك التنبيه ، إذ لا إلزام إلا بمستطاع ، وتقتصر مسئوليته على القتل غير العمدي .

وقد يحدث أن ينتفي القصد وقت النشاط الإجرامي ويتحقق بعد انتهائه وقبل حدوث النتيجة مثال ذلك أن يطلق شخص الرصاص ابتهاجاً فيصيب شخصاً إصابة خطيرة ليس في إمكانه إنقاذه منها ، ثم يتبين أن هذا الشخص عدو له فيرغب في حدوث وفاته ، فإذا مات المجنى عليه لا يسأل الفاعل هنا إلا عن قتل غير عمدي .

 إثبات القصد :

لما كان القصد الجنائي ركناً في جريمة القتل العمد ، فإنه يجب على المحكمة أن تقيم الدليل على تحققه حتى تحكم بإدانة الجاني، وإذا كان القصد الجنائي يقوم على عدة عناصر على النحو الذي تقدم تفصيله ، فإن بعض هذه العناصر يفترض توافره إلى أن يثبت عكس هذا الافتراض ، كعلم الجاني بأنه يقوم بفعل من شأنه الاعتداء على الحياة ، وبأن هذا الفعل يوجه إلى إنسان حي ، واتجاه إرادة الجاني إلى هذا الفعل ، وعلى ذلك تقتصر إقامة الدليل على توافر القصد من الناحية العملية على إثبات اتجاه إرادة الجاني إلى ازهاق الروح ، أي إثبات قصد القتل أو نية القتل، ويجب على المحكمة أن تتحدث في حكمها استقلالاً عن توافر هذه النية ، وأن تورد الأدلة التي تدل عليها وإلا كان حكمها قاصراً قصوراً يستوجب نقضه .

وقصد القتل - على حد تعبير محكمة النقض – هو أمر خفي لا يدرك بالحس الظاهر ، وإنما يدرك بالظروف المحيطة بالدعوى والأمارات والمظاهر الخارجية التي يأتيها الجاني وتنم عما يضمره في نفسه .

( نقض 19 ديسمبر سنة 1971 مجموعة أحكام محكمة النقض س 22 رقم 184 ص 767  ، ونقض 8 مايو سنة 1972 س 23 رقم 152 م 672 ، 13 يونية سنة 1977 س 28 رقم 159 ص 759 ؛ 8 يناير سنة 1979 س 30 رقم 4 ص 24 ، ونقض 15 فبراير سنة 1990 س 41 رقم 62 ص 383 ؛ ونقض 21 مارس سنة 1993 س 44 رقم 39 ص 296 ) .

واستخلاص هذا القصد أمر يتعلق بوقائع الدعوى فيدخل في حدود السلطة التقديرية لقاضي الموضوع  .

( نقض 4 مايو سنة 1970 مجموعة أحكام محكمة النقض س 21 رقم 155ص655  ، ونقض 12 مارس سنة 1972 س 23 رقم 78 ص 340 ؛ ونقض 9 ديسمبر سنة 1973 س 24 ) .

 دون رقابة من محكمة النقض عليه إلا إذا كان العقل لا يتصور إمكان دلالة الأسباب التي بينها في حكمه على توافر نية القتل ، أو كان فيما استنتجته المحكمة في هذا الشأن من وقائع الدعوى أو ظروفها شطط أو مجافاة لتلك الوقائع .

( نقض 12 مارس سنة 1934 مجموعة القواعد القانونية ج 3 رقم 222 ص 292 ؛ ونقض 11 مايو سنة 1964 مجموعة أحكام محكمة النقض س15 رقم 72 ص 366 ونقض 19 ديسمبر سنة 1971  س 22 رقم 184 ص767  السابق الإشارة إليه ) .

والمظاهر الخارجية التي يستخلص منها توافر القصد هي الظروف التي وقع فيها فعل الاعتداء ، ووسيلة تنفيذ هذا الفعل ، وموضع الإصابة من جسم المجني عليه ، والعلاقة التي تربط الجاني بالمجني عليه، والغرض الذي استهدفه الجاني . من أمثلة ذلك أن يستعمل الجاني أداة قاتلة ، أو أن تكون الإصابة في مقتل ، أو أن يكون هناك عداء شديد بين الجاني والمجنى عليه ، أو أن يكون الجاني قد استهدف بالقتل الانتقام لشرفه وقد قضى باعتبار نية القتل ثابتة من قيام المتهم بتغريق المجني عليه بقصد إزهاق روحه وعدم إفلاته رأس المجني عليه إلا بعد أن تحقق مأربه وتيقن من وفاته .

ولكن يجب ألا يغيب عن الأذهان أن توافر أحد هذه المظاهر أو بعضها لا يفيد سوى الحديث عن ظروف الفعل المادي ، ولا يكفي في ذاته دليلاً على تحقق نية القتل وإنما هذه الظروف تعد قرائن بسيطة تسترشد بها المحكمة في استخلاص توافر نية القتل ، فقد يتوافر أحد هذه المظاهر ومع ذلك تنتفى نية القتل ، وقد يستعمل الجاني أداة قاتلة ، أو تكون الإصابة في مقتل فيثبت تعمد الفعل المادي ومع ذلك لا تثبت نية القتل ، إذ قد يكون القصد من ذلك مجرد الإيذاء .

عقوبة القتل العمد :

تختلف العقوبات المقررة للقتل العمدي بحسب ما إذا كان قتلاً عمدياً بسيطاً ، أو صاحبته ظروف ارتأى المشرع أنها تقتضي تشديد العقاب ، أو إذا ارتكب في حالة معينة اقتضت تخفيف العقوبة .

يقرر المشرع للقتل العمدي في صورته البسيطة عقوبة السجن المؤبد - أو المشدد (المادة 1/234 من قانون العقوبات)، ومن الواضح أن سلطة القاضي التقديرية في ظل هذا النص سلطة واسعة إذ يستطيع أن يصل بالعقوبة إلى السجن المؤبد ، وأن يهبط بها إلى السجن المؤبد لمدة ثلاث سنوات ، بل إن له - فضلاً عن ذلك – إذا اقتضت أحوال الجريمة الرأفة أن يهبط بالعقوبة إلى السجن أو الحبس الذي لا يجوز أن ينقص عن ستة شهور تطبيقاً للمادة 17 من قانون العقوبات .

ويلاحظ على هذا النص عدة ملاحظات :

أولاً : أن استعماله عبارة «لارتكاب جنحة أو جناية» يفيد أنه لا يقتصر على جناية القتل العمد وإنما قد يتحقق في بعض الجرائم التي تعد جنحاً كما هو الشأن في جنح الجرح والضرب وإعطاء المواد الضارة .

ثانياً : أن عبارة «سواء كان ذلك القصد معلقاً على حدوث أمر أو موقوفاً على شرط» تفيد لغوياً أن القصد لا يكون قائماً إلا في إحدى هاتين الحالتين، وهذا مخالف لحقيقة قصد المشرع ، ومرجع ذلك إلى أن هذه العبارة ترجمة غير دقيقة للعبارة الفرنسية  التي تعني «حتى ولو كان القصد ... إلخ» .

ثالثاً : أن التعريف الذي تضمنه النص لسبق الإصرار يفيد الاقتصار على عنصر واحد هو العنصر الزمني المستفاد من عبارة القصد المصمم عليه قبل الفعل ، وهو يعني مرور فترة من الزمن بين تحقق نية القتل لدى الجاني وبين ارتكابه الجريمة، والواقع أن هذا العنصر غير كاف في ذاته لتوافر سبق الإصرار ، وإنما هو متطلب كشرط لا غنى عنه لتحقق عنصر آخر أكثر أهمية هو العنصر النفسي ، الذي يقتضي أن يكون الجاني قد فكر في الجريمة في هدوء وروية وخطط لارتكابها وتدبر في عواقبها بعيداً عن ثورة الانفعال .

والعنصر النفس هو الذي يبرر تشديد العقاب عند تحقق سبق الإصرار ، ذلك أن المجرم الذي يقدم على ارتكاب جريمة القتل بعد أن فكر فيها تفكيراً هادئاً مطمئناً يعبر عن شخصية أشد خطورة من شخصية من ينفذ القتل تحت تأثير ثورة انفعال وغضب .

وإذا كنا ننتهي - بهذا التحديد - إلى القول بأن سبق الإصرار يقوم على كلا العنصرين الزمني والنفسي ، فإننا نرى أن تحقق العنصر النفسي يفترض تحقق العنصر الزمني ، فإذا كان الجاني قد أقدم على تنفيذ الجريمة بعد تفكير هادئ وتدبر وروية ، فإن سبق الإصرار يكون متوافراً مهما قصر الزمن بين العزم على الجريمة وتنفيذها ، ولكن العكس غير صحيح ، فمرور فترة من الزمن - وإن طالت - بين العزم على ارتكاب جريمة القتل وبين تنفيذها لا يعني حتماً توافر التفكير الهادئ المطمئن الذي يكون العنصر النفسي ، فمناط قيام سبق الإصرار هو أن يرتكب الجاني الجريمة وهو هاديء البال بعد إعمال فكر وروية فليست العبرة في توافر ظرف سبق الإصرار بمضى الزمن لذاته بين التصميم على الجريمة ووقوعها ، طال هذا الزمن أو قصر ، بل العبرة بما يقع في ذلك الزمن من التفكير والتدبير .

وقد قضت محكمة النقض بأن سبق الإصرار يتحقق بإعداد وسيلة الجريمة ورسم خطة تنفيذها بعيداً عن ثورة الإنفعال ، مما يقتضي الهدوء والروية قبل ارتكابها ، لا أن تكون وليدة الدفعة الأولى في نفس جاشت بالاضطراب وجمح بها الغضب حتى خرج صاحبها عن طوره، وكلما طال الزمن بين الباعث وبين وقوعها صح افتراضه، ( نقض 25 يناير سنة 1921 مجموعة القواعد القانونية ج 2 رقم 169 ص 322 ) .

وإذا تحقق العنصران الزمني والنفسى توافر سبق الإصرار ، فلا يؤثر في قيامه أن يكون الجاني قد أخطأ في توجيه الفعل ، أو أخطأ في شخصية المجني عليه فأصاب شخصاً آخر غير من صمم على قتله ، ذلك أن سبق الإصرار « حالة قائمة بنفس الجاني وملازمة له سواء أصاب الشخص الذي أصر على قتله أم أخطأه وأصاب غيره » .

كما لا يؤثر في قيام سبق الإصرار أن يكون قصد الجاني محدوداً أو غير محدود ، فيستوي أن يصمم الجاني على قتل شخص معين أو غير معين ، كأن يصمم على قتل أي شخص يعترض عملاً سيقوم به ، وقد صرحت بذلك المادة 231 بقولها «أو أي شخص غير معين وجده أو صادفه» .

سبق الإصرار وتعدد الجناة :

سبق الإصرار ظرف شخصي يتعلق بنفسية الجاني ، ولذلك فإنه لا يتأثر به إلا من توافر لديه دون غيره من المساهمين في الجريمة فاعلين كانوا أو شركاء (المادتان 2/39 ، 41 (ثانياً) من قانون العقوبات)، وإذا كان الغالب أن يكون الاتفاق السابق بين المساهمين في الجريمة قرينة على توافر سبق الإصرار لديهم جميعاً، إلا أن التلازم بين الاتفاق السابق وسبق الإصرار ليس أمراً حتمياً ، فقد يتم الاتفاق بين المساهمين على ارتكاب جريمة قتل فجأة وفي ثورة غضب دون ترو أو تفكير هادئ فلا يتوافر سبق الإصرار، فانتفاء سبق الإصرار لا ينفي الاتفاق الذي يكفي لتحققه بين المتهمين تقابل إرادتهم ؛ وقد يتم الاتفاق بين شخص أو عدة أشخاص فكروا في الجريمة تفكيراً هادئاً وآخرين لم يكن لديهم فرصة كافية للتفكير المطمئن، فيتوافر سبق الإصرار لدى الأولين دون الآخرين .

كذلك قد يتوافر سبق الإصرار لدى المساهمين في الجريمة دون أن يكون بينهم اتفاق سابق ، فقد يبيت كل من أ، ب النية على قتل المجني عليه ، فيطلق عليه عياراً نارياً ثم يطلق عليه ب عيار آخر قاصداً التداخل مع أ في ارتكاب جريمته .

وتذهب محكمة النقض المصرية إلى القول بأن مجرد إثبات سبق الإصرار على المتهمين يلزم عنه الاشتراك بالاتفاق بالنسبة لمن لم يقارف بنفسه الجريمة من المصريين عليها .

( نقض 16 نوفمبر سنة 1931 مجموعة القواعد القانونية ج 2  رقم 289 ص 358؛ ونقض 13 يناير سنة 1969 مجموعة أحكام محكمة النقض س 20 رقم 18 ص 85 ؛ ونقض 26  مارس سنة 1973 س 24  رقم 89 ص 427 ) .

وهذا القول وإن كان يمثل الوضع الغالب إلا أنه ليس صحيحاً على إطلاقه ، فقد يتوافر سبق الإصرار لدى شخصين أو أكثر على قتل المجني عليه دون أن يوجد بينهم اتفاق سابق ، وترجع أهمية هذا التحديد إلى أنه لو سلمنا بأن توافر الإصرار السابق يتضمن حتماً تحقق الاتفاق لترتب على ذلك مسئولية كل مساهم عن الجريمة التي ارتكبها المساهم معه مهما ضؤل نصيبه من الأفعال المادية المكونة لها أما إذا رفضنا هذه الوجهة وتطلبنا : لتحقق المساهمة ضرورة تحقق الاتفاق ، فإنه إذا ثبت توافر القصد ولم يثبت توافر الاتفاق فإن كل من ارتكب فعلاً يسأل عن فعله فحسب إذ لا نكون عندئذ بصدد جريمة واحدة تعدد المساهمون فيها ، وإنما بصدد عدة جرائم ، فيسأل كل فاعل عن جريمته فحسب ، وعلى ذلك فإذا توافر سبق الإصرار لدى كل من أ، ب على قتل المجنى عليه دون أن يتفقا على ذلك وطعنه أ وهو نائم فأغمي عليه ، وبعد ذلك دخل عليه ب وطعنه طعنة أخرى فمات ، يسأل الأول عن شروع في القتل فحسب ، ويسأل الثاني عن جريمة قتل تامة، بينما لو قلنا بأن سبق الإصرار لدى كل منهما يفترض الاتفاق بينهما لسئل أ عن فعل ب أي عن قتل تام .

بیان سبق الإصرار في الحكم :

تأخذ الظروف المشددة حكم أركان الجريمة من حيث وجوب أن تقيم المحكمة الدليل على توافرها، والقول بتوافر هذه الظروف يدخل في السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع، وهي تستشف قيامها من ظروف الدعوى، وعلى ذلك فإذا ارتأت المحكمة تحقق سبق الإصرار وحكمت على المتهم على هذا الأساس وجب أن تبين في حكمها الظروف التي استخلصت منها توافره ، وإن لم تذكره صراحة في الحكم ولا رقابة لمحكمة النقض عليها إلا إذا كانت الظروف التي أثبتتها لا تؤدي عقلاً إلى استخلاصه ، أو إذا كانت تتنافر مع تعريف سبق الإصرار قانوناً .

 ( نقض 24 أكتوبر سنة 1932 مجموعة القواعد القانونية ج 2  رقم 371 ص 606 ؛ ونقض 23 أبريل سنة 1934 ج 3 رقم 235 ص 312 ؛ ونقض 23 أكتوبر سنة 1977 مجموعة أحكام محكمة النقض س 28 رقم 181 ص 875 ؛ ونقض 8 مايو سنة 1978 س 29 رقم 91 ص 492 ؛ ونقض 11 ديسمبر سنة 1978 س 29 رقم 190 ص 916 ونقض 15 فبراير سنة 1990 س 41 رقم 62 ص 383 ) .

وترجع علة تشديد العقاب عند توافر وظرف الترصد لما يدل عليه من خسة وغدر ونذالة ، إذ أن الجاني يباغت على المجنى عليه بالاعتداء فتضعف المفاجأة قدرته على الدفاع عن نفسه ، وتثير - على حد تعبير محكمة النقض – الاضطراب في نفسه يأتيها الهلاك من حيث لا تشعر .

( نقض 5 ديسمبر سنة 1932 مجموعة القواعد القانونية ج 3 رقم 46 ص 52 ) .

وتوافر عنصر المفاجأة يكفي لتحقق ظرف الترصد، وإذا كان الغالب أن يكون الجاني متخفياً انتظاراً للمجني عليه ، فإن ذلك ليس بشرط لقيام الترصد ، فقد ينتظره مستتراً وراء سور أو شجرة ، وقد ينتظره في مكان ظاهر للناس، ويستوي في تحقق الترصد مكان الانتظار ، فقد يكون في الطريق العام أو في مكان خاص كحديقة أو باستان ، أو في مكان يخص الجاني نفسه کشرفة منزله  كذلك لا عبرة بالمدة التي يستغرقها الانتظار ، فيتحقق الترصد ولو كان الانتظار لمدة قصيرة ، والنص صريح في ذلك .

وقد عبرت محكمة النقض عن الترصد بقولها إن « العبرة في قيام الترصد هي تربص الجاني وترقبه للمجني عليه فترة من الزمن طالت أم قصرت في مكان يتوقع قدومه إليه ليتوصل بذلك إلى الاعتداء عليه ، دون أن يؤثر في ذلك أن يكون الترصد في مكان خاص بالجاني نفسه » ( نقض 6 فبراير سنة 1961 مجموعة أحكام محكمة النقض س 12 رقم 27 ص 174 ) .

الترصد وسبق الإصرار :

يختلف الترصد عن سبق الإصرار من حيث طبيعة كل منها، فبينما رأينا أن سبق الإصرار ظرف شخصی، نجد الترصد ظرفاً عينياً يتعلق بماديات الجريمة ولا شأن له بقصد الجاني ، ويعني ذلك أنه بينما يقتصر أثر سبق الإصرار على من توافر لديه ، فإن أثر الترصد يمتد إلى كل المساهمين في الجريمة فاعلين كانوا أو شركاء .

وإذا كان الغالب أن يتحقق سبق الإصرار إلى جانب الترصد ، فإنه قد يتوافر أحدهما دون الآخر ؛ فقد يتوافر الترصد وحده كما إذا تشاجر الجاني مع المجنى عليه ، أو سمع عنه أخباراً أثارت ثائرته ، فتربص له حتى فاجأه بالاعتداء دون أن يكون قد أتيح له التفكير الهادئ المطمئن المتروى في مشروعه الإجرامي كذلك قد يتحقق سبق الإصرار دون الترصد كما لو عزم الجاني على قتل ضحيته وفكر في ذلك تفكيراً هادئاً متروياً ثم واجهة بتنفيذ القتل دون أن يتربص له .

والترصد - شأنه شأن سبق الإصرار - لا يؤثر في قيامه أن يكون مقصد الجاني محدوداً أو غير محدود ، معلقاً على شرط أو موقوفاً علی حدوث أمر ، كذلك لا ينفى تحقق الترصد أن يكون الجاني قد أصاب شخصاً غير من أراد إزهاق روحه سواء كان ذلك الخطأ في توجيه الفعل أو لغلط في شخصية المجني عليه ويعتبر ذلك تطبيقاً للقواعد العامة في القصد الجنائي ، فلا يجوز الاعتراض عليه بكون المادة 232 ع الخاصة بالترصد لم تنص عليه كما فعلت المادة 231 ع الخاصة بسبق الإصرار .

بيان الترصد في الحكم :

إذا تحقق الترصد وجب أن تقيم المحكمة الدليل على قيامه ، وإن كان لا يشترط أن تستعمل لفظ الترصد، وإثبات الترصد يدخل في سلطة محكمة الموضوع دون تعقيب عليها من محكمة النقض طالما كان الاستدلال على توافره صحيحاً. ( شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتورة/ فوزية عبد الستار، الطبعة الرابعة 2017 دار النهضة العربية،  الصفحة :  362 )

القتل هو كل اعتداء يصدر من إنسان على إنسان آخر يترتب عليه وفاته هذا هو التعريف العام للقتل .

الشرط المفترض ( محل القتل )

إنسان حي :

تفترض جريمة القتل وقوعها على إنسان حي، بغض النظر عن العثور على جثته بالفعل ، والمقصود بالافتراض هنا الأسبقية على وقوع الجريمة .

وتبدأ حياة الإنسان منذ لحظة انتهاء فترة كونه جنيناً، أي منذ لحظة ابتداء ولادته وتمكنه من تنسم الحياة دون اعتماد على أمه فمنذ هذه اللحظة، أي لحظة صلاحية المولود للحياة في العالم الخارجي وتأثره به على نحو مباشر لا كنتيجة غير مباشرة لتأثير جسد الأم، يعد المولود إنساناً حياً، بحيث يصبح محلاً لجريمة القتل ولو لم يكن الحبل السري قد قطع بعد أو إذا لم تكن ولادته قد تمت .

وتعد هذه اللحظة معياراً حاسماً بين جريمة الإجهاض التي لا تقع إلا على الجنين، وجريمة القتل التي لا ترتكب إلا على الإنسان الحي، فإذا أراد الجاني قتل الجنين في أثناء الفترة التي قضاها في أحشاء أمه ثم فشل في محاولته وجاء المولود متأثراً بما لحقه من أذى خلال الفترة التي قضاها جنيناً - فإن الجاني لا يسأل عن وفاته بوصفها قتلاً، لأن النشاط الإجرامي الذي باشره لم يرد وقت وقوعه على إنسان حي .

وإذا باشر الجاني نشاطه لقتل المجني عليه ولكن ثبت أن هذا المجني عليه كان قد مات قبل تأثره بهذا النشاط، فإن الواقعة لا تعد قتلاً ، بل ولا تعد شروعاً في قتل فهي على هذه الصورة تعد جريمة مستحيلة استحالة قانونية، ومصدر الاستحالة أن الشرط الذي يوجبه القانون لتجريم القتل وهو الإنسان الحي - لم يتوافر في تلك الحالة .

وغني عن البيان أنه يكفي ثبوت أن المجني عليه كان إنساناً حياً قبل الإعتداء عليه حتى تقع جريمة القتل بإزهاق روحه، دون اعتداد بمدى حالته الصحية أو العقلية أو سنة أو جنسيته أو حالته الاجتماعية أو صفته، أو حتى كونه محكوماً عليه بالإعدام .

ولإثبات توافر هذا الشرط المفترض في جريمة القتل، من الأفضل أن يحدد المحقق شخصية المجني عليه تحديداً دقيقاً ومع ذلك، فهذا التحديد ليس شرطاً لازماً ما لم يكن في أوراق الدعوى ما يشكك في كون المجني عليه حياً وقت القتل، وبالتالي فلا يشترط لصحة الحكم أن يثبت في مدونته صراحة توافر هذا الشرط ما دام أنه لم يكن مداراً للنزاع .

ولا ينال من صحة الحكم بالإدانة عدم العثور على جثة المجني عليه مادامت المحكمة قد بينت الأدلة التي أقنعتها بوقوع جناية القتل على شخص المجني عليه .

الركن المادي ( إزهاق الروح )

فعل إزهاق الروح في جريمة القتل هو جوهر ركنها المادي، فلا قيام لها بدونه .

ويتحقق هذا الركن بتوافر العناصر الثلاثة الآتية :

النشاط الإجرامي

العمل الإيجابي :

يتحقق هذا النشاط بسائر صور الاعتداء على الحياة التي تصدر عن الجاني ودون عبرة بالوسيلة التي التجأ إليها، وأياً كانت صور الركن المعنوي الذي لازمه فأهمية هذا الركن تقتصر على التمييز بين القتل العمد والقتل غير العمد .

والأصل في النشاط الإجرامي في جريمة القتل أن يكون بعمل إيجابي وأن يكون العمل مادياً ومع ذلك، فقد ثار البحث عما إذا كان يمكن أن يقع القتل العمد بطريق الامتناع أم لا، وعما إذا كان يمكن أن يقع القتل بوسائل نفسية أو لا .

ونرى أن القتل قد يحدث بطريق الامتناع، سواء كان عمداً أو بغير عمد .

ويشترط في هذه الحالة أن يكون هذا الامتناع عن التزام بعمل معين يقع على عاتق الجاني الممتنع، فالامتناع المعتبر قانوناً هو ما يكون بالنظر إلى فعل إيجابي معين يلتزم الجاني بمباشرته، فإذا لم يكن هناك ثمة التزام من هذا القبيل يعد الامتناع لغواً وعدماً، وبالتالي لا يصلح نشاطاً إجرامياً في جريمة القتل .

ولكي يكون للامتناع وجود في نظر القانون، يجب أن يكون في صورة إحجام عن تنفيذ التزام قانوني بمباشرة عمل إيجابي، لا في مجرد النكول عن القيام بواجب أدبي .

وقد قيل بأن الالتزام الذي يهتم به القانون الجنائي هو : (1) واجب تقديم الطعام والكساء والمأوى . (2) وواجب تقديم الرعاية والعناية الطبية. (3) واجب حماية بعض الأشخاص أو الجمهور بصفة عامة ضد أخطار معينة، ومن أمثلة هذه الالتزامات التزام الأب قانوناً بتوفير الطعام والمأوى والحماية لأولاده الذين وهم في كنفه، وواجب الزوج بالإنفاق على زوجته وحمايتها إذا وجدت في ظروف تحتاج إلى الحماية وقد حكم أنه إذا شاهد شخص زوجته واثنين من أولاده يسقطون في نافورة فلا يمد إليهم يد المساعدة حتى يموتو غرقاً يعد مسئولاً عن قتلهم بطريق الامتناع  .

والفرض بداهة أن الأب يمكنه تقديم هذه المساعدة، فلا التزام بمستحيل .

على أن الامتناع يتطلب بطبيعة الحال القدرة على التنفيذ دون تعريض نفسه أو غيره للخطر، وبعبارة أخرى أن القدرة على مباشرة ما لم يحدث من أفعال هو أمر تتطلبه فكرة الامتناع ذاتها، إذ لا التزام بمستحيل فالأب الذي يرى ابنه يسقط في النهر ولا يمد له يد الإنقاذ لا يعد ممتنعاً إذا كان غير قادر على السباحة ولم يستطع الاستعانة بمن ينقذه، والأم التي لا تقدم الطعام لوليدها لا تكون ممتنعة إذا لم يكن لديها هذا الطعام ولم يمكنها الحصول عليه .

الوسيلة :

لا أهمية للوسيلة المستعملة في القتل، فهي ليست من عنصر الركن المادي للجريمة، فقد تكون طعناً بآلة حادة أو بإطلاق الرصاص أو بالخنق أو بالإغراق أو بوضع السم أو بتسليط تيار كهربائي على المجني عليه أو رجمه بالأحجار لكن القانون قد اعتبر القتل معاقباً عليه بالإعدام إذا حدث بوسيلة معينة هي السم، وفي هذه الحالة يكون السم عنصراً جوهرياً في الركن المادي للقتل بالسم .

ولا يشترط في وسيلة الاعتداء أن تصيب جسم المجني عليه مباشرة، فيعد قتلاً حبس إنسان في حجرة دون تمكينه من تناول الطعام حتى يموت جوعاً وقد قضي أن خلو السكين من آثار دماء لا يؤثر في استدلال الحكم على حصول الاعتداء به .

الوسائل النفسية :

ثار البحث عن مدى صلاحية الوسائل النفسية كالخوف والألم في النشاط الإجرامي لجريمة القتل، والراجح عندنا أن القانون لم يتطلب لارتكاب القتل وسيلة معينة دون غيرها، ومن ثم فيستوي حصول القتل بأية وسيلة كانت على أنه لا يفوتنا أن ننبه إلى صعوبة إثبات علاقة السببية بالنسبة إلى القتل بالوسائل النفسية ولا تحول هذه الصعوبة دون تقرير المبادئ القانونية صحيحة سليمة .

ومن الأمثلة التي حكم فيها بالقتل بهذه الوسائل ما يأتي :

- التسبب في وفاة طفل بسبب ما أصابه من خوف نتيجة للاعتداء على أمه وهي تحمله على يديها .

- التسبب في وفاة امرأة بسبب ما لحقها من خوف ورهبة نتيجة لاعتداء الجاني - وهو مسلح ببندقية - على زوج ابنتها أمامها .

- إثارة جواد مما أدى إلى سقوط راكبه عنه بسبب الخوف مما أدى إلى وفاته .

- محاولة ضرب إنسان مما أدى إلى خوفه وتقهقره ثم سقوطه في حفرة وقتله ، أو تمدید شخص أدى إلى قفزة من القطار أو قفزه في نشر مما أدى إلى وفاته .

النتيجة : الوفاة

يتعين لوقوع جريمة القتل أن يؤدي النشاط الإجرامي إلى وفاة المجني عليه حال الاعتداء عليه أو متراخياً عقبة، ولا يستعاض عن هذه النتيجة بأي حدث آخر، فلا عبرة باختفاء المجني عليه ولا بعدم العثور عليه، بل لابد من التحقق من وفاته ولو لم يعثر على جثته .

والوفاة هي النتيجة المعتبرة في القانون بغض النظر عن وقوعها حال إصابة المحني عليه بحالة مرضية ولو كان من المؤكد أنها ستؤدي بحياته، مادامت الوفاة لم تحدث إلا نتيجة للاعتداء عليه، ولا يحول دون ضرورة توافر هذا العنصر أن يكون الطب  قد تدخل لإنقاذ حياة المجني عليه بعملية جراحية دقيقة أعادت إليه الحياة لفترة معينة بعد أن كان قلبه قد توقف لبضع دقائق .

ويتحدد تاريخ الوفاة عند موت الجسد تماماً، فإذا كان الجسد مازال حياً نتيجة استخدام بعض الأجهزة الطبية، فإن الوفاة لا تكون قد حدثت قانوناً .

وما لم تقع الوفاة وتوافر القصد الجنائي، فإن الواقعة تعد شروعاً في قتل إذا وقعت الجريمة أو خاب أثرها لسبب لا دخل لإرادة الفاعل فيه فإذا لم يتوافر هذا القصد ووقعت الوفاة، وصفت الجريمة بأنها ضرب أفضى إلى موت .

إثبات الوفاة :

لا يشترط القانون إثبات الوفاة بطريقة معينة، فالأمر متروك لتقدير محكمة الموضوع واقتناعها اليقيني بما تصل إليه من نتائج ولا يشترط لإدانة المتهم بالقتل العثور على جثة المجني عليه، ولا تحديد شخصيته، مادامت المحكمة قد اقتنعت على وجه يقيني بأن الجاني قد أحدث الوفاة بإنسان معين .

علاقة السببية : 

يتعين لمساءلة الجاني عن الوفاة أن تتوافر رابطة الإسناد المادي بين نشاطه الإجرامي وهذه النتيجة ويدق البحث إذا لم تكن الوفاة قد حدثت نتيجة لفعل الجاني وحده، بل أسهمت مع هذا الفعل عدة عوامل تتضافر معه في إحداث هذه النتيجة ومشكلة علاقة السببية هي من المسائل المهمة في فقه قانون العقوبات التي دار حولها الجدل كثيراً ورغم أنها من المشكلات العامة في الفقه الجنائي والتي يثور بحثها في عديد من الجرائم، لكن المشكلة لا تبدو واضحة ولا تثور في العمل غالباً إلا في جرائم القتل والجرح العمدي وغير العمدي .

معيار علاقة السببية :

اختلف الفقه في تحديد معیار علاقة السببية، وفيما يأتي نعرض لأهم النظريات التي قيل بهما في هذا الصدد .

1- نظرية تعادل الأسباب : وقد نادى بها فريق من الفقه الألماني في نهاية القرن الماضي. وفكرة هذه النظرية من السهولة بمكان، فهي تقول بأن تحديد علاقة السبية يتوقف على الإجابة عن هذا السؤال: هل خطأ الجاني شرط لا غنى عنه  لحصول النتيجة؟ وبعبارة أخرى، إذا لم يتوافر سلوك الجاني هل كان يمكن للنتيجة أن تحدث بالكيفية نفسها التي وقعت بما؟ إذا كانت الإجابة عن هذا السؤال الأخير بالإيجاب فيجب القول بعدم توافر علاقة السببية بين الخطأ والنتيجة .

ويرى أصحاب هذه النظرية أن كل نتيجة تترتب على عدة أسباب، فمثلاً: إذا قابل (أ) غريمه (ب) في الطريق العام تشاجرا ، وانتهت المشاجرة بأن اعتدى (أ) على (ب) بسكين فقتله في هذا المثال لو أن (أ) سار من طريق آخر أو لم يأخذ معه سكيناً أو لم يكن منحرف المزاج في ذلك اليوم، فإن القتل لم يكن ليحدث فكل من هذه العوامل كانت شروطاً لا غنى عنها لوقوع النتيجة ومن بين هذه الشروط كان سلوك الجاني (أ) – وهو اعتداؤه على (ب) بالسكين - وإذا كانت الشروط جميعها متعادلة في سببتها للنتيجة، فإنها كلها أسباب لها .

ويؤيد أصحاب هذه النظرية فكرتهم القائلة بتعادل الأسباب بأن حل مشكلة السببية يفسرها المنطق والعلوم الطبيعية ولا يحكمها القانون .

وقد وجهت إلى هذه النظرية عدة انتقادات أهمها أنها لا تقيم أي تفرقة بين الأسباب مهما اختلف تأثيرها في إحداث النتيجة، وأنها تساوي بين مناسبة حصول النتيجة والسبب المؤدي إليها، فهي بذلك تؤدي إلى الاعتراف بالمسئولية الجنائية في نطاق واسع على أن هذا الانتقاد قد أصبح مردوداً بأن رابطة السببية ليست إلا مجرد عنصر في الركن المادي للجريمة، وأن المسئولية لا تنعقد على هذا العنصر وحده، وإنما لا بد من تضافر عناصر أخرى أهمها الركن المعنوي الذي ينهض بدوره في تحديد المسئولية الجنائية وفقاً لإثم الجاني ولعل الأصح في رأينا أن هذه النظرية لا تتفق مع طبيعة علم القانون، فهو بوصفه علماً اجتماعياً يجب ألا يستعير من العلوم التطبيقية أفكاراً لا تتفق مع الطبيعة الإنسانية للأفعال أو مع متطلبات الأمن القانوني .

2- نظرية السببية الملائمة : وتقول هذه النظرية بأنه يجب عدم الاعتداد بسائر الأسباب المؤدية إلى النتيجة وفقاً لمنطق النظرية السابقة، وإنما يتعين الوقوف عند السبب الأكثر صلاحية لكي يؤدي إلى النتيجة، وهو الذي يمكن أن يترتب عليه وفقاً للمجرى العادي للأمور حدوث النتيجة، وهو السبب الذي ينطوي في ذاته على إمكانية مألوفة نحو حدوث هذه النتيجة في معظم الأحوال فمثلاً ، إذا أهمل ميكانيكي مكلف بفحص موتور طائرة في إصلاح أحد أجزائه الرئيسية، وبعد أن أقلعت الطائرة كشف الطيار الخطأ وكان في مقدوره العودة إلى المطار ولكنه لم يفعل، فانفجرت الطائرة واحترق من بها في هذا المثال رغم خطأ الطيار، فإن إهمال الميكانيكي في إصلاح موتور الطائرة ينطوي في ذاته على احتمال حدوث هذه الكارثة، ومن ثم فيمكن اعتباره سبباً للحادث .

ويقتضي هذا المعيار البحث فيما إذا كان فعل الجاني في حد ذاته - وبغض النظر عما أحاط به من عوامل أخرى مألوفة - يتضمن إمكانية إحداث النتيجة بالوسيلة التي حدثت بما أو لا .

كما تتطلب هذه النظرية أن تكون العوامل المصاحبة لفعل الجاني متوقعة ومألوفة وفقاً للمجرى العادي للأمور وقد قيل بأن العبرة في تقدير العوامل المتوقعة المألوفة ليس في إحاطة الجاني فعلاً بهذه العوامل أو في إمكانية الإحاطة بما، وإنما بمدى قدرة شخص مجرد يتمتع بأوسع الإمكانات الذهنية أن يعلم بها .

فمثلاً، إذا صدم سائق سيارة أحد المارة فأصيب بجراح اقتضت نقله إلى المستشفى، وهناك شب حريق ومات المجني عليه حرقاً لا يسأل السائق عن خطئه، لأن فعله الخاطئ لا ينطوي في ذاته على إمكانية التسبب في وفاة المجني عليه حرقاً .

القضاء المصري : اتجهت محكمة النقض في بعض أحكامها إلى القول بأنه يستوي في السببية أن تكون مباشرة أو غير مباشرة مادام الضرر لا يمكن تصور حدوثه لولا وقوع الخطأ، وأنه يكفي لتوافر رابطة السببية أن تستخلص المحكمة أنه لولا الخطأ المرتكب لما وقع الضرر بل ذهبت محكمة النقض حديثا إلى أن رابطة السببية بوصفها ركناً في جريمة القتل الخطأ تقتضي أن يكون الخطأ متصلا بالقتل اتصال السبب بالمسبب بحيث لا يتصور وقوع القتل بغير هذا الخطأ .

اتجاه الارادة ( نية القتل ) :

يجب أن تتجه إرادة الجاني إلى الاعتداء على إنسان حي وإرادة نتيجته وهي إزهاق روحه. فلا تتوافر الجريمة إذا صدر فعل الجاني عن إكراه، أو لم يرد إزهاق روح إنسان حي، كما إذا صوب نحو حيوان فأخطأ التصويب وأصاب إنساناً .

والعبرة هي باتجاه الإرادة إلى إزهاق روح إنسان أيا كان، فهذه هي النتيجة المعتبرة في نظر القانون، ولا تتوقف على شخصية المجني عليه ولذا فإنه إذا أخطأ الجاني فأصاب شخصاً غير الذي يقصده إما لخطأ في التصويب أو الخطأ في شخصية الجاني فإن ذلك لا يحول دون توافر القصد الجنائي مادام الجاني قد أراد بفعله إزهاق روح إنسان حي .

ويلاحظ أن اتجاه الإرادة إلى إزهاق الروح هو ما يعبر عنه الفقه والقضاء بنية القتل كقصد خاص في جريمة القتل العمد والواقع من الأمر أنه لا حاجة للإلتجاء إلى فكرة القصد الخاص في القتل العمد، فما دامت النتيجة في القتل هي إزهاق الروح فإنه يتعين لتوافر القصد العام أن تتجه الإرادة إلى إحداث هذه النتيجة، أي إلى إزهاق الروح وبذلك يبين أن نية القتل ليست إلا جوهر القصد الجنائي العام ذاته، وهو اتجاه الإرادة إلى إحداث النتيجة فلا تتوافر نية القتل لدى من يطلق أعيرة نارية بقصد الإرهاب فيصيب أحدهما شخصاً ويؤدي بحياته .

العلم :

يتعين لتوافر القصد الجنائي أن يعلم الجاني أن اعتداءه منصب على إنسان حي، فلا يتوافر القصد إذا اعتقد أنه جنين أو حيوان .

ويجب أن يعلم الجاني أن نشاطه يمثل اعتداء على المجني عليه، فالممثل الذي يطلق مسدسه على ممثل آخر أثناء التمثيل معتقدا أن المسدس به طلقات صوت لا يتوافر لديه القصد الجنائي إذا تبين أن مدير المسرح سلمة مسدساً محشواً برصاص حي دون علمه .

ويلاحظ أن شخص المجني عليه ليس عنصراً في الركن المادي للجريمة، ومن ثم فلا يشترط العلم به، إذ يكفي مجرد العلم بأنه إنسان حي ولا يشترط علم الجاني بالعوامل التي تسهم مع فعله في إحداث النتيجة، ذلك أن القانون لم يتطلب في القتل تسلسلاً سببياً، بل يضع جميع الوسائل التي تؤدي إلى القتل على قدم المساواة. وما دامت علاقة السببية بين فعل الجاني والوفاة قد توافرت، فإن غلط الجاني في هذه العوامل ليس إلا غلطاً غير جوهري لا يؤثر في توافر القصد الجنائي. هذا عدا جريمة القتل بالسم، فإنه يتعين لمساءلة الجاني عن هذه الجريمة أن يعلم أن سبب الوفاة كان هو السم .

القصد الاحتمالي :

تفترض إرادة إزهاق الروح توقع حدوث الوفاة، فلا يتصور اتجاه إرادة الجاني إلى وفاة المجني عليه ما لم يكن قد توقع هذه الوفاة نتيجة لفعله ويتحقق توقع الوفاة في فروض ثلاثة، هي :

الأول : أن يتوقع الجاني الوفاة نتيجة ممكنة لفعله ويريد هذه النتيجة، فيكون قصده نحوها مباشرة .

الثاني : أن تكون الوفاة نتيجة حتمية لازمة لفعله، ويتوقع الجاني هذه النتيجة، كمن ينسف باخرة بها ركاب القبض مبلغ التأمين وفي هذا الفرض لابد أن تكون إرادة الجاني قد اتجهت إلى هذه النتيجة مادامت حتمية، فيكون قصده نحوها مباشرة .

الثالث : أن يتوقع الجاني الوفاة كنتيجة ممكنة لفعله ولكنه وإن لم يرد تحققها لكنه قبل وقوعها مثال ذلك لاعب السيرك الذي يصوب خنجراً في اتجاه شخص آخر لكي يظهر مهارته، فيتوقع - لمرضه - أن يخطئ التصويب ويصيب هذا الشخص، لكنه رحب باحتمال حدوث هذه النتيجة، أي قبلها، فيكون قصده نحوها احتمالياً .

في الفرضين الأول والثاني توافر القصد المباشر لدى الجاني، لأن إرادته قد اتجهت إلى إحداث النتيجة أما في الفرض الثالث، فقد توافر لديه ما يعرف بالقصد الاحتمالي والواقع من الأمر أن الذي يتوقع نتيجة معينة ويقبلها مرحباً بحصولها فكأنه يريد تحقيق هذه النتيجة ولذا، فإن القصد الاحتمالي ليس في حقيقته سوى صورة من صور القصد الجنائي العام أما إذا لم يقبل الجاني النتيجة لكنها حدثت نتيجة لخطئه في التصويب، فإنه يسأل عن قتل خطأ .

أثر الباعث في توافر القصد :

من المسلم به أنه لا أهمية للباعث الذي حمل الجاني على ارتكاب القتل، سواء كان هذا الباعث شريفاً أو سيئاً، فلا هو ركن في الجريمة ولا عنصر في ركنها المعنوي، وبالتالي فإن الخطأ فيه لا يؤثر في سلامة الحكم ما دام أنه لم يتخذ منه دليلاً في الإدانة .

قصد القتل أمر خفي لا يدرك بالحس الظاهر، وإنما يدرك بالظروف المحيطة بالدعوى والأمارات والمظاهر الخارجية التي يأتيها الجاني وتنم عما يضمره في نفسه .

واستخلاص هذا القصد متروك لمحكمة الموضوع في حدود سلطتها التقديرية، ويجب عليها أن تتحدث في حكمها استقلالاً عن توافر هذا الركن .

ومتى قررت المحكمة استخلاص هذا القصد من أسباب سائغة تؤدي إليه من حيث المنطق والعقل، فلا رقابة لمحكمة النقض عليها .

وغالبا ما يرتكز الطعن أمام محكمة النقض في جرائم القتل على قصور الحكم في استخلاص توافر قصد إزهاق الروح أو فساده في الاستدلال على هذا القصد وهو ما يعبر عنه بنية القتل وتمارس محكمة النقض رقابتها على محكمة الموضوع من حيث التسبيب السليم لتوافر هذه النية، ولا تكتفي محكمة النقض بمجرد استدلال محكمة الموضوع على توافر نية القتل من مجرد توافر بعض الظروف، کاستعمال آلة قاتلة أو إحداث إصابة جسيمة بالمجني عليه أو إصابته في مقتل، فهذه الظروف لا تؤدي حتماً ولزوماً إلى توافر هذه النية، بل لابد من أن تفصح محكمة الموضوع عن علة اطمئنانها الحقيقي لتوافر قصد الجاني عند توافر هذه الظروف أو غيرها وبعبارة أخرى فإن هذه الظروف كلها أو بعضها ليست قرائن قانونية ذكرها كاف للتدليل على توافر نية القتل بحيث يعد مجرد إثباتها بذاتها دليلاً حاسماً على قيام هذه النية، بل لابد من أن تستخلص المحكمة بنفسها من هذه الظروف في حدود اقتناعها وعلى ضوء سائر الوقائع الأخرى للدعوى ما يدل على توافر نية القتل كأن تثبت المحكمة مثلاً أنها تطمئن إلى توافر نية القتل في حق المتهم من استعماله أداة قاتلة بطبيعتها (طبنجة) وإطلاق الأعيرة النارية المتكررة منه متعمداً صوب المجني عليهم في مقتل من أجسادهم .

والخلاصة أنه لإثبات نية القتل لا يكفي أن تعتمد محكمة الموضوع في تقرير في توافر هذه النية على مجرد نوع الآلة أو الإصابة أو أي ظرف معين يرشح لذلك، وإنما يجب عليها أن تمحص جميع وقائع الدعوى وظروفها والأمارات والمظاهر الخارجية التي يأتيها الجاني وتنم عما يضمره في نفسه وأن تستخلص منها توافر نية القتل، ولا بأس عليها في هذه الحالة من الإعتماد على سبيل الاستدلال في استخلاصها المذكور على نوع الآلة أو الإصابة . ( الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الطبعة السادسة 2016 الكتاب الثاني ،  الصفحة : 21 )

 

القتل هو التسبب في إحداث الوفاة للإنسان، فالإنسان الحي هو موضوع الحماية الجنائية في جرائم القتل على اختلاف أنواعها .

ويقصد بالإنسان الكائن الحي الناتج عن عملية التلقيح بين الحيوان المنوي للرجل والبويضة الأنثوية للمرأة ويستوي بعد ذلك أن يكون هذا الكائن الحي مولوداً مباشرة من المرأة أم تحت عملية التخليق خارج رحم المرأة، كما يستوي أن يكون كامل التكوين العضوي أم به تشوهات خلقية .

فالحماية الجنائية لحياة الإنسان تستقل تماماً عن درجة اكتمال مكوناته العضوية وقدراته النفسية، كما تستقل أيضاً عن مستوى سنة أو جنسه أو أصله أو مركزه الاجتماعي .

ويلزم أن يكون الإنسان حياً، فبدون الحياة لا توجد صفة الإنسان الحي، ومن ثم لا يمكن تصبيب الموت أو الوفاة، ولذلك فإن إطلاق النار على إنسان فارق الحياة قبل لحظة وصول المقذوف الناري إلى جسده لا يشكل جريمة قتل، وإنما نكون في محيط الجريمة المستحيلة لانعدام الموضوع المادي للسلوك .

والحياة تبدأ في لحظة الميلاد ويقصد بالميلاد انفصال المولود عن الرحم الطبيعي أو الصناعي والحياة تتحقق بالتنفس الذي يتم إثباته بكافة الطرق بما فيها العلامات والظواهر الطبيعية التي لا تتحقق إلا بالنسبة لجسد حي .

غير أن التنفس ليس كافياً لإضفاء صفة الإنسان الحي على المولود وإنما يلزم أن يكون انفصاله عن الأم قد تحقق بالشكل الذي يعطي للجسد استقلالاً وظيفياً، ومن هنا تبدأ الحماية الجنائية لحياة الإنسان .

أما قبل تلك اللحظة فإننا نكون في محيط الحماية الجنائية للجنين، وإذا ما تحققت الحياة للمولود تمتع بالحماية الجنائية المقررة بتجريم القتل حتى ولو كانت ظروفه العضوية والصحية لا تمكنه من الحياة إلا لساعات أو لحظات .

فتجريم القتل قائم بالنسبة للمولود الذي ليست لديه إمكانية الحياة ما دام قد حيا لحظة مباشرة سلوك القتل .

وعلى ذلك لا يشترط توافر الحيوية في الإنسان الحي لكي يتمتع بالحماية الجنائية المقررة في جرائم الاعتداء على الحياة فجريمة القتل تتحقق بالنسبة للإنسان الذي ينبض بالحياة وقت مباشرة الفعل ولو كان في لحظات الاحتضار، فالذي يصاب في حادث سيارة إصابة جسيمة ستؤدي بحياته خلال لحظات ثم يأتي آخر ويجهز عليه فتتوافر بالنسبة للأخير جريمة القتل .

كذلك أيضاً تتوافر جريمة القتل بالنسبة للمولود المشوه خلقياً والذي سوف تنتهي حياته حتماً بسبب هذه التشوهات خلال ساعات أو أيام، إذا أجهز على حياته ذووه .

كما تتوافر الجريمة بالنسبة للمريض الذي يعاني مرضاً شديداً سوف يؤدي بحياته إذا أقدم أهله على إنهاء حياته تخليصاً له من عذاب المرض .

وإذا كان الإنسان الحي هو موضوع الحماية الجنائية في جرائم القتل بغض النظر عن الأصل أو الجنس أو المركز الاجتماعي أو الأهلية إلا أنه قد أخذ المشرع في الاعتبار الصفة أو المركز المتعلق بالمجني عليه بحيث يتغير الوصف القانوني للجريمة .

ومثال ذلك صفة رؤساء الدول الأجنبية وممثليها الدبلوماسيين بالنسبة لجرائم الاعتداء عليهم إلا أن ذلك لا يؤثر في عمومية الحماية الجنائية المقررة لحياة الإنسان أياً كان السلوك الإجرامي . السلوك الإجرامي :

السلوك الإجرامي في القتل يتوافر بالنسبة لأي فعل من شأنه أن يحقق إزهاق الروح، فجريمة القتل من جرائم الشكل المطلق التي يتحدد فيها السلوك الإجرامي بالنظر إلى النتيجة المترتبة عليه وهي وفاة إنسان .

فالمشرع لم يحدد شكلاً معيناً للسلوك وإنما حدد النتيجة فقط وهي الوفاة، ونهي عن تحقيقها بأي شكل وبأي أسلوب بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة وذلك ما لم يأخذ المشرع الوسيلة بعين الاعتبار كظرف مشدد للقتل كما فعل بالنسبة للقتل بالسم .

والسلوك الإجرامي في القتل قد يأخذ شكل العنف الواقع على جسم المجني عليه مباشرة كما هو الشأن في القتل بالطعن بآلة حادة أو الضرب على الرأس أو بالخنق أو بإطلاق النار، كما يكون باستخدام وسيلة تباشر أثرها على وظائف الأعضاء الداخلية، وتؤدي بذلك إلى الوفاة .

ومثال ذلك إعطاء مواد ضارة أو مواد سامة أو تعريض جسم المجني عليه لقوى الإشعاع أو القوى الكهربائية .

وأخيرا قد يكون السلوك متمثلاً في تعريض المجني عليه لقوى الطبيعة من شأنها أن تودي بحياته .

ومثال ذلك تعرض مريض بالتهاب رئوي لتيار هوائي بارد، أو بتعريض طفل حديث العهد بالولادة لمثل ذلك ودفع المجني عليه إلى الماء فيموت غرقاً ودعوة طفل أو إنسان حسن النية إلى الإمساك بسلك كهربائي يحمل تياراً كهربائياً فيصعق .

ولا يشترط في الوسيلة أن تكون مادية، فالوسائل النفسية تصلح في أن يقوم عليها السلوك الإجرامي في القتل، ومثال ذلك للقاء خبر مفزع مختلق على مريض بالقلب في حالة متأخرة لا يتحمله ويودي إلى وفاته، والتهديد الذي لا يتحمله المجني عليه فيؤدي بحياته، والإفزاع وغير ذلك من الوسائل التي تباشر أثرها على أجهزة الجسم الداخلية مادامت قد توافرت فيها الكفاءة اللازمة لإحداث النتيجة وفقاً لمجريات الأمور .

ولا يشترط في الوسائل المستخدمة أن تكون من الناحية المجردة، صالحة بطبيعتها لإحداث الوفاة ولكن كل ما يلزم بشأنها أن تكون في الظروف التي بوشر فيها السلوك، سواء السابقة أو المعاصرة أو اللاحقة من شأنها أن تؤدي إلى الوفاة وفقاً للمجرى العادي للأمور ولذلك فالضرب بالسوط على الرأس وإن كان لا يحدث الوفاة عادة إلا أنه بالنسبة لمولود حديث العهد بالولادة أو بالنسبة لمريض أجريت له تربنة يمكن أن يؤدي إلى الوفاة .

ومؤدى ما سبق أنه يشترط في السلوك الإجرامي للقتل أن يملك مقومات إحداث النتيجة منظوراً إليه في الظروف السابقة والمعاصرة واللاحقة التي بوشر فيها فإذا كان السلوك غير كفء لإحداث النتيجة فإننا نكون في محيط الجريمة المستحيلة .

ومثال ذلك من يحاول قتل إنسان باستخدام الجان أو بإعطائه كمية كبيرة من السكر اعتقاداً منه بأن ذلك يؤدي إلى إصابته بمرض السكر الذي يمكن أن يترتب عليه الوفاة أو من يحاول قتل إنسان باستخدام مسدس أطفال اعتقاداً منه بأنه حقيقي .

ففي جميع هذه الفروض يفقد السلوك الإجرامي المقومات الذاتية لإحداث النتيجة ومن ثم فلا عقاب عليه تحت وصف الشروع في القتل .

كذلك نكون بصدد جريمة مستحيلة ولو كان السلوك يملك الكفاءة الذاتية لإحداث النتيجة إلا أن الموضوع المادي وهو الإنسان الحي منعدم الوجود .

ومثال ذلك إطلاق النار على إنسان يعتقد أنه حي، بينما يتبين من تقرير الصفة التشريحية أنه توفي قبل إطلاق النار وإطلاق النار على المكان الذي تعود أن يوجد فيه المجني عليه ثم يتبين أن المجني عليه قد غادر المكان منذ مدة طويلة، أما إذا كان السلوك يملك مقومات إحداث الوفاة في الظروف التي بوشر فيها وكان الموضوع المادي للسلوك، وهو الإنسان الحي موجوداً فإنه يتحقق به السلوك الإجرامي في جريمة القتل ولو لم تتحقق الوفاة فعلاً، إذ في هذه الحالة نكون بصدد شروع في قتل معاقب عليه وفقاً لقواعد الشروع، ما دام عدم تحقق النتيجة كان لسبب خارج عن إرادة الجاني .

 الفعل الإيجابي والامتناع :

إن السلوك الإجرامي في القتل قد يأخذ شكل الفعل الإيجابي كما قد يأخذ شكل الامتناع، فلا يشترط في القتل أن يقع بفعل إيجابي متمثلاً في حركة عضوية متجسدة في العالم الخارجي في شكل سلوك، حقا إن هذا الشكل هو المتردد في الغالبية العظمى لجرائم القتل باعتبار أن إزهاق روح إنسان يحتاج إلى طاقة جسدية إيجابية من قبل الجاني إلا أن ذلك لا يمنع من تحقيق إزهاق الروح عن طريق سلوك سلبي متمثل في الامتناع مادام قد توافرت فيه مقومات سلوك القتل المتمثلة في كفاءة أحداث النتيجة .

ذلك أن النهي التشريعي عن إحداث النتيجة المتمثلة في الوفاة ينطوي على أمر بعدم ارتكاب أي سلوك إيجابي أو امتناع من شأنه أن يؤدي إلى إحداث تلك النتيجة .

 ومن ثم فإن الصفة التجريمية تلحق بأي شكل من أشكال السلوك الذي يرتبط بتلك النتيجة برابطة سببية مادية .

غير أن مشكلة القتل بطريق الامتناع أو الترك تثير مشكلتين أساسيتين :

الأولى : متعلقة بتحديد مفهوم الامتناع، ومتى يتحقق هذا الشكل من أشكال السلوك .

والثانية : تتعلق بالفاعلية السببية للامتناع .

ودون الدخول في تفصيلات تجد موضعها في القسم العام في قانون العقوبات، تكفي هنا الإشارة بالنسبة للمشكلة الأولى إلى أن الراجح فقهاً وقضاءً هو أن للامتناع مفهوم قانونياً وليس طبيعياً، فالامتناع ليس مجرد عدم الإتيان بفعل معين، وإنما يتحقق حينما يكون هناك أمر قانوني بتحقيقه .

ومعنى ذلك أنه ليس كل امتناع يمكن أن يدخل في التكوين القانوني للركن المادي إنما فقط الفروض التي يكون فيها الشخص ملزماً بمقتضى قاعدة قانونية بأن يحقق سلوكاً إيجابياً معيناً فلا يمكن تكييف السلوك بأنه امتناع إلا إذا كانت هناك قاعدة تفرض على الجاني نوعاً معيناً بين السلوك الإيجابي فهو إذن عبارة عن تكييف الرابطة بين السلوك وقاعدة قانونية تفرض واجباً سواء كانت القاعدة في قانون العقوبات أو في أي فرع من فروع القانون .

ولكن يلاحظ أن المشرع الجنائي لا يهتم بكل أنواع الامتناع وإنما ببعض منها فيجرم السلوك في ذاته أو في علاقته بنتيجة معينة، وعليه فالامتناع أو الترك الذي يصلح لأن يكون سلوكاً إجرامياً للقتل لابد وأن تتوافر فيه شروط الاعتداد بالامتناع القانوني، أي أن يكون مخالفاً لقاعدة قانونية تلزم الشخص بتحقيق سلوك إيجابي معين .

فإذا لم توجد القاعدة القانونية الملزمة بتحقيق سلوك إيجابي معين فلا نكون بصدد امتناع يعتد به قانون العقوبات، ولو كانت هناك قواعد أخلاقية أو دينية أو اجتماعية تفرض على الشخص نوعاً معيناً من السلوك الإيجابي .

وعلى ذلك لا تثور مشكلة القتل بالامتناع أو بالترك بالنسبة للشخص العادي الذي يشاهد شخصاً مشرفاً على الغرق ويستطيع أن ينقذه ولكنه يمتنع عن تقديم المساعدة له بينما تثور المشكلة بالنسبة لعامل الإنقاذ المعين لمواجهة مثل تلك الحالات ويمتنع عن الإنقاذ .

القتل بواسطة نقل العدوى لأمراض خطيرة :

هناك بعض الأمراض المعدية غالباً التي ما يترتب عليها الوفاة، فهل إذا تمكن شخص من نقل المرض إلى آخر نكون بصدد السلوك المكون للجريمة إذا ما حدثت النتيجة ؟

إن الإجابة على هذا التساؤل تتوقف على مدى كفاءة هذا الفعل لإحداث النتيجة وهي الوفاة، ولذلك إذا كانت العدوى بالمرض من شأنها أن تؤدي إلى الوفاة وفقاً لمجريات الأمور، فلا يوجد ما يمنع قانوناً من صلاحية هذه الوسيلة للقتل باعتبار أن سلوك القتل إنما يتحدد في شكله القانوني بمدى فاعلية السببية لإحداث النتيجة .

القتل بواسطة وسائل قضائية :

يثور التساؤل حول ما إذا كان السلوك الإجرامي للقتل يمكن أن يتمثل في وسائل قضائية وذلك بالتسبب في حكم الإعدام لشخص بريء بإعداد أدلة تثبت ارتكابه لجريمة معاقب عليه بالإعدام وصدور الحكم بذلك .

أجاب البعض على هذا التساؤل  بأنه إذا كان من الممكن القتل بأي وسيلة نظراً لأن القانون لم يحدد شكلاً معيناً للقتل، إلا أن القتل بالوسائل القضائية لا يتوافر بالنسبة له علاقة السببية، وذلك تأسيساً على أن الحكم القضائي هو عمل من نتاج العقل يصدر عن سلطة لديها الإمكانيات الكافية للتثبت من الحقيقة .

ومع ذلك يلاحظ على هذا الرأي أن المشرع قد أقام بعض فروض التجريم استناداً على علاقة السببية بين تزوير بعض الأدلة والحكم بالإعدام، فالمادة 295 عقوبات تنص على أنه إذا ترتب على الشهادة الزور الحكم على المتهم يعاقب من شهد زوراً عليه بالسجن المشدد أو السجن .

أما إذا كانت العقوبة المحكوم بها على المتهم هي الإعدام ونفذت عليه يحكم بالإعدام أيضاً على من شهد عليه زوراً .

ومفاد ذلك أن المادة 295 تقوم على الفروض التي يترتب فيها على الشهادة الزور الحكم بالإعدام، ومن ثم فإن علاقة السببية تكون متوافرة بين الشهادة الزور وبين إعدام المتهم البريء .

كذلك أيضاً يعتد المشرع بعلاقة السببية بين تزوير الأدلة وبين الحكم بالإدانة وهو بصدد تحديد حالات التماس إعادة النظر بالبند الثالث من المادة 441 والتي ورد بها « إذا حكم على أحد الشهود أو الخبراء بالعقوبة لشهادة الزور وفقاً لأحكام الباب السادس من الكتاب الثالث من قانون العقوبات، أو إذا كان حكم بتزوير ورقة قدمت أثناء نظر الدعوى وكان للشهادة أو التقرير الخبير أو الورقة تأثير في الحكم ».  

ولكن يلاحظ أن كفاءة السلوك المتمثل في تزوير الأقوال أو الأوراق أو الخبرة التي أسس عليها الحكم بالإعدام وإن كانت قائمة بالنسبة للخطأ القضائي في الحكم، إلا أنها غير متوافرة بالنسبة للحكم بالإعدام ذاته الذي يستند في سببه إلى الخطأ القضائي وليس تزوير الأدلة .

هذا بالإضافة إلى أن نص المادة 295 عقوبات بالنسبة للشهادة الزور التي تؤدي إلى الحكم بالإعدام يعتبر نصاً خاصاً يستبعد تطبيق النص العام باعتبار أن المشرع لم يتطلب أن تكون الشهادة الزور قد أديت بقصد الوصول إلى الحكم بالإعدام أم كان هذا القصد غير متوافر ففي الحالتين تكون العقوبة المقررة للشهادة الزور هي الإعدام وتطبق إذا ما تحقق شرط العقاب وهو تنفيذ الإعدام فعلاً في المتهم الذي شهد عليه زوراً .

ومع ذلك نكون بصدد جريمة قتل إذا ما تعمد أعضاء المحكمة إصدار حكم غير عادل بالإعدام للتخلص من شخص المتهم إذا ما نفذ الحكم، وإن كان هذا الفرض هو من الفروض الجدلية البحتة .

 النتيجة :

أن جريمة القتل من جرائم السلوك، والنتيجة المادية عبارة عن الحدث المترتب على السلوك في العالم الخارجي، وفي جريمة القتل تتفق النتيجة المادية والنتيجة القانونية المتمثلة في الإضرار بالحق أو المصلحة محل الحماية الجنائية وهو الحق في الحياة .

وعليه فالنتيجة الإجرامية تتمثل في إزهاق روح المجني عليه، فتحقق الوفاة للمجني عليه، وتكمل الواقعة الإجرامية للقتل .

وتمام الجريمة يتحقق في اللحظة التي تتم فيها الوفاة والتي تعتبر عنصراً من عناصر الركن المادي وليست مجرد شرط عقاب، وتثبت الوفاة بكافة الطرق وليس بشرط لإثباتها وجود جثة القتيل، ولكن من ناحية أخرى لا يكفي اختفاء شخص لإثبات الوفاة .

علاقة السببية بين السلوك والنتيجة :

يلزم لتوافر الركن المادي في جريمة القتل أن يكون السلوك المرتكب هو الذي سبب وفاة المجني عليه، ويتوافر ذلك متى كانت هناك علاقة سببية مادية بين السلوك والنتيجة . رابطة السببية فى قضاء النقض المصرى :

اتجه قضاء النقض المصري إلى تطبيق معيار السببية الملائمة في تحديد رابطة السببية في جرائم القتل، فقد استقر قضاؤها على أن علاقة السببية في المواد الجنائية علاقة مادية تبدأ بالفعل الضار الذي قارفه الجاني وترتبط من الناحية المعنوية بما يجب عليه أن يتوقعه الجاني من النتائج المألوفة لفعله إذا ما أتاه عمداً، وأن رابطة السببية بين الإصابات والوفاة في جريمة القتل العمد والتدليل عليها هما من البيانات الجوهرية التي يجب أن يعني الحكم باستظهارها وإلا كان مشوباً بالقصور الموجب لنقضه .

ووفقاً لقضاء النقض فإن الأصل هو أن المتهم يكون مسئولاً عن جميع النتائج المحتمل حصولها عن الإصابة التي أحدثها ولو كانت عن طريق غير مباشر كالتراخي في العلاج أو الإهمال فيه ما لم يثبت أنه كان متعمداً ذلك لتجسيم المسئولية، كما أن مرض المجني عليه هو من الأمور الثانوية التي لا تقطع رابطة السببية بين الفعل المسند إلى المتهم والنتيجة التي انتهى إليها أمر المجني عليه بسبب إصابته . 

وبالنسبة لأثر العوامل السابقة والمعاصرة للسلوك فإنها لا تقطع علاقة السبية مادام الواجب على الجاني أن يتوقع حدوث الوفاة كأثر محتمل للإصابة .

سببية الامتناع :

أن الامتناع بوصفه الشكل السلبي للسلوك يمكن أن يقوم عليه الركن المادي لجريمة القتل باعتبارها من جرائم الشكل المطلق، غير أن الامتناع يثير مشكلة سببية باعتبار أنه إذا كان الامتناع من وجهة النظر الطبيعية هو عدم، فلا يتصور أن ينتج عنه حدث مادي غير مشروع .

غير أن المفهوم القانوني للامتناع كفيل بحل مشكلة السببية، فإذا كان الامتناع له مفهوم قانوني فمن المنطقي أن تكون فاعليته السببية بدورها قانونية وليست طبيعية .

فالامتناع يعتبر سبباً للنتيجة من وجهة النظر القانونية وليست الطبيعة، وبعبارة أخرى فهو سبب قانوني للنتيجة . 

ولبيان هذه الفاعلية السببية ينبغي تحديد وظيفة القاعدة القانونية التي تفرض على المخاطبين إتيان سلوك إيجابي معين، فالمشرع يهدف دائماً إلى حماية المصالح الخاصة بالجماعة عن طريق القواعد القانونية وذلك لتفادي الإضرار بتلك المصالح .

ولذلك فإن القاعدة القانونية تلزم الأفراد بالامتناع عن أي سلوك من شأنه أن يحقق ضرراً بالمصالح موضوع الحماية .   

بينما نجد بعض القواعد الأخرى تفرض على الأفراد وجهاً معيناً بإتيان سلوك من شأنه أن يمنع تحقيق النتيجة الضارة بالمصالح المحمية وفي إطار تلك القواعد الأخيرة يوجد الامتناع غير المشروع كما رأينا .  

غير أن الأمر التشريعي بإتيان سلوك إيجابي والمفروض بمقتضى القاعدة ينقسم إلى مجرد أمر بتحقيق سلوك معين بغض النظر عن النتيجة وعلى أمر يمنع تحقق النتيجة الضارة.

وبعبارة أخرى قد يكون الأمر هو مجرد تحقيق سلوك إيجابي معين دون غاية أخرى، كما قد يكون الأمر بتحقيق سلوك إيجابي هادف لغرض معين ألا وهو منع تحقيق النتيجة غير المشروعة .

ومثال ذلك ما يفرضه المشرع على الأفراد من تقديم العون والمساعدة لمن وجد في حالة خطر، وما يفرضه على بعض الموظفين العموميين بالتدخل الإيجابي في حالات الخطر لمنع تحقيق النتيجة الضارة .

ولاشك أن المشرع حينما يفرض واجب التحرك بإتيان سلوك إيجابي، إنما يخلق عائقاً يحول دون مباشرة العوامل السببية الأخرى لآثارها في إحداث النتيجة .

فإذا كانت تلك العوامل تشكل ظروفاً إيجابية للنتيجة، فإن السلوك الواجب بمقتضى قاعدة قانونية معينة يشكل ظروفاً سلبية لتحقيقها ولما كانت النتيجة غير المشروعة لا تتحقق فقط بمجموعة الظروف الإيجابية المتجهة لإحداثها وإنما أيضاً بغياب الظروف السلبية التي تحول دون تحقيقها وتعطل آثار الأولى فإنه يسهل بعد ذلك فهم سببية الامتناع القانونية .

فالمشرع حينما يلزم الأم بالعناية بطفلها الصغير إنما قد قدر أن هذه العناية تحول دون الإضرار به، فإذا امتنعت الأم عن إتيان ذلك فإن النتيجة غير المشروعة تتحقق لأن المشرع قدر بهذا الواجب أن عدم تحقق السلوك المفروض سوف يؤدي إلى الإضرار بالمصلحة محل الحماية ومن أجل ذلك فرضه .

ونتيجة لذلك يمكن القول بأن من يمتنع عن سلوك واجب بمقتضى قاعدة قانونية إنما يحقق النتيجة غير المشروعة ليس بعامل إيجابي وإنما بعامل سلبي للنتيجة .

فحارس مزلقان السكة الحديد الذي يتسبب في وقوع تصادم لامتناعه عن إغلاقه المزلقان وإعطاء الإشارات اللازمة يعتبر حقق النتيجة غير المشروعة بعدم إتيان السلوك المفروض والذي كان من شأن تحققه منع وقوع التصادم .

ولإثبات سببية الامتناع لا يكفي تحقق الامتناع ثم تحقق النتيجة غير المشروعة التي من أجل تفاديها فرض المشرع سلوكاً إيجابياً، وإنما يلزم أن يكون الامتناع هو السبب في النتيجة .

ويتم إثبات ذلك بإثبات أنه : هل إذا كان الجاني قد باشر سلوكه الإيجابي المفروض ما كانت النتيجة لتتحقق أم لا ؟

فإذا كانت النتيجة لن تتحقق إذا لم يمتنع الجاني فإن السببية تكون قائمة أما إذا كانت النتيجة ستحقق حتى ولو باشر الجاني السلوك الواجب، فإن رابطة السببية تنتفي باعتبار أن الامتناع لم يكن ظرفاً ملائماً للنتيجة .

والجدير بالذكر أن الفقه والقضاء لا يترددان في اعتبار الامتناع سبباً للنتيجة في جرائم القتل الخطأ، بينما أثارت تلك السببية خلافاً بالنسبة للجرائم العمدية، على حين أن العمد والخطأ هما صورتان للركن المعنوي والذي يفترض توافر السببية لقيام الركن المادي .

حكم الانتحار والمساهمة فيه :

الانتحار هو قتل الإنسان لنفسه، أما جريمة القتل فهي التسبب في إزهاق روح الإنسان غير الجاني، ولذلك فإن الانتحار لا يتحقق به النموذج التشريعي لجريمة القتل، وإنما يتعين تجريمه بنص خاص إذا قدر المشرع المصري ذلك، والمشرع المصري لا يعاقب على الانتحار أو الشروع فيه في قانون العقوبات العام، ولكنه جرم الشروع في الانتحار في قانون الأحكام العسكرية رقم 25 لسنة 1966 .

ويترتب على عدم العقاب على الانتحار أن الشروع فيه لا عقاب عليه باعتبار أن الشروع لا يتصور قيامه إلا بصدد واقعة غير مشروعة جنائياً، ولذلك فإن المشرع في قانون الأحكام العسكرية جرم الانتحار، ومن ثم فقد جرم الشروع فيه .

ويلاحظ أن قيمة تجريم الانتحار تبدو فقط بالنسبة للمساهمة الجنائية من قبل الغير، فإذا كان الانتحار محرماً وكذلك الشروع فيه، فمعنى ذلك أن مساهمة الغير تحت أي شكل من أشكال المساهمة الجنائية تستوجب المساءلة الجنائية وتوقيع العقوبة المقررة للجريمة وليست العقوبة المقررة للقتل .

وإذا كان قانون العقوبات المصري لا يعاقب على الانتحار أو الشروع فيه، فمؤدي ذلك هو عدم العقاب على المساهمة الجنائية في الانتحار أو الشروع فيه .

غير أن هذا الإطلاق يحتاج إلى تحديد فينبغي التمييز بين المساهمة الأصلية والمساهمة التبعية .

فبالنسبة للمساهمة التبعية المتمثلة في التحريض أو الاتفاق أو المساعدة لا عقاب على الشريك باعتبار أن العقاب على تلك المساهمة يتطلب وقوع فعل غير مشروع من الفاعل وهو المنتحر أو الشارع في الإنتحار والقانون لا يجرم هذا الفعل، ومن ثم فلا عقاب على الإشتراك فيه .

أما بالنسبة للمساهمة الأصلية : فالأمر مختلف، ذلك أن المساهم الأصلي يحقق سلوكاً يعتبر به فاعلاً أصلياً وبالتالي يستمد سلوكه الصفة غير المشروعة من النص التجريمي مباشرة، والنص التجريمي في هذه الحالة هو نص المادة 230 الذي ينهى عن التسبب العمدي في إزهاق روح إنسان ولذلك يعاقب المساهم الأصلي في هذه الحالة على القتل العمد أو الشروع فيه، ولذلك فقد أثار البعض المشكلة الخاصة بأثر رضاء المجني عليه في هذه الحالة بالقتل وذهب البعض إلى أن الرضاء بالقتل في هذه الحالة يؤثر على مدى الاعتداد القانوني بسلوك الجاني بحيث يعدم أهميته الاجتماعية فضلاً عن أن من حق الإنسان أن يتصرف في حياته إلى حد إنهائها بالوسيلة التي يراها ولو كان ذلك بدفع آخر على وضع حد لها بالموت .

ولا شك أن الحق في الحياة ليس ملكاً خالصاً للفرد وإنما هو حق ثابت للفرد بوصفه عضواً في الجماعة، فليس كل حق للفرد يعطيه رخصة التنازل عنه، ذلك أن هناك من الحقوق التي تنعكس على المجتمع ومن ثم لا يسمح بالتنازل عنها لأن التنازل عنها إضرار بأسس التعايش الاجتماعي .

ويلاحظ أن الانتحار لا يتحقق إلا إذا أقدم المنتحر على فعله بإرادته الحرة الواعية، ولذلك لا نكون بصدد انتحار وإنما بصدد جريمة قتل إذا أكره شخص المنتحر على الانتحار باعتبار أن القتل يتحقق بأي سلوك يؤدي إلى إحداث الوفاة ولو كانت بمساهمة المجني عليه ذاته سلوك غير إرادي أو غير واع .

كما نكون بصدد جريمة قتل إذا كانت إرادة المجني عليه المتسيب مباشرة في موته معيبة بسبب خداع أو حيلة أو جهل بمواطن الخطر التي دفعه إليها الجاني .

الركن المعنوي

القصد الجنائي

العناصر التي يقوم عليها القصد الجنائي :

يقوم القصد الجنائي في القتل العمد على العلم والإرادة، العلم بالعناصر المكونة للواقعة وإرادة تحقيقها .

وعلى ذلك يجب أن ينصرف علم الجاني إلى أن المجني عليه هو إنسان حي بمعنى أن يكون الجاني عالماً بأن الموضوع المادي لسلوكه، هو إنسان ينبض بالحياة، فإذا اعتقد الجاني أن سلوكه موجه إلى إنسان فارق الحياة وذلك خلافاً للواقع، فلا يتوافر القصد الجنائي .

كما ينتفي القصد أيضاً إذا كان السلوك موجهاً إلى حيوان أو هدف آخر خلاف الإنسان فأصاب الغير .

ويجب أن يعلم الجاني أن سلوكه يملك مقومات الخطورة اللازمة لإحداث النتيجة وهي إزهاق روح إنسان، حتى ولو لم يكن هذا السلوك متجهاً مباشرة إلى الإنسان طالما أنه يملك الكفاءة اللازمة لإحداث الوفاة للغير كنتيجة حتمية ولازمة للسلوك، فمن يفجر قنبلة في مكان مزدحم بالناس يعلم بأن من شأن هذا السلوك إحداث الوفاة للغير كنتيجة لازمة للسلوك .

والعلم بكفاءة السلوك لإحداث النتيجة ينصرف أيضاً إلى العلم بكفاءة الوسيلة المستخدمة في الظروف التي بوشر فيها السلوك، وهذا يتطلب العلم بأن الوسيلة المستخدمة في الظروف التي بوشر فيها السلوك من شأنها أن تحدث الموت وفقاً لمجريات الأمور العادية، أي في الغالب الأعم من الحالات .

وكفاءة الوسيلة من الناحية المجردة لا تحدث الوفاة عادة، فإن هذا لا يمنع كفاءتها لإحداث الوفاة في الظروف التي بوشر فيها السلوك ومن ثم يلزم أن ينصرف علم الجاني إلى كفاءتها لإحداث تلك النتيجة في الظروف المحيطة بالسلوك .

فمن يستخدم عصا خفيفة في الاعتداء على شخص مريض يجب أن يعلم لتوافر القصد الجنائي أن يكون على علم بكفاءة هذه الوسيلة في إحداث الوفاة في الظروف الخاصة بالمجني عليه .

والعلم ينصرف أيضاً إلى علاقة السببية إذا كان المشرع يتطلب التكوين القانوني للجريمة تحقق الوفاة بتسلسل سببي معين، كما هو الشأن في القتل بالسم، أما في غير ذلك من الأحوال فيكفي أن يعلم الجاني بأن سلوكه من شأنه أن يحقق الوفاة، ولو حدثت الوفاة بتسلسل سببي مختلف ما دامت أوجه الاختلاف بين ما توقعه الجاني وبين ما حدث ليس جوهرياً .

فمن يلقي آخر في النيل ليموت غرقاً فيصطدم المجني عليه بحجر ويموت نتيجة هذا الاصطدام، وليس نتيجة الغرق فإن القصد الجنائي يتوافر باعتبار أن عنصر العلم لم يتأثر في وجوده بمثل هذا الغلط في التنفيذ .

وكذلك الحال إذا ثبت أن الوفاة حدثت قبل وصول المجني عليه إلى الماء بسبب الخوف من النتيجة والصدمة العصبية التي رافقت فعل الإلقاء .

 الإرادة :  

 لكي يتوافر القصد الجنائي لابد أن تتجه إرادة الجاني إلى السلوك العمد دون نتيجة تخلف القصد الجنائي في القتل العمد .

ولذلك ينتفي قصد القتل في جريمة الضرب أو الجرح المفضي إلى موت، نظراً لأن إرادة إزهاق الروح غير متوافرة، وإنما الذي توافر هو قصد الجرح أو الضرب .

ولكن متى تعتبر النتيجة إرادية :

لا خلاف في أن النتيجة تعتبر إرادية متى كانت تمثل الغاية التي يرمي الجاني إلى تحقيقها بسلوكه، فهي تعتبر نتيجة عمدية باعتبارها تعبر عن النية التي حركت السلوك الإجرامي لتحقيقها .

غير أن القصد الجنائي لا يقف فقط عند حد النتائج المتعمدة المعبرة عن النية وإنما يشمل أيضاً النتائج الإرادية .

فمما لاشك فيه أن الإرادة تحيط بالنتائج التي وإن لم تكن تمثل الغاية أو الهدف من السلوك، إلا أنها تعتبر أكيدة التحقيق كأثر للسلوك متى كان الجاني قد تمثلها وتوقعها .

فمن يفجر قنبلة في مكان مزدحم بالناس بقصد إحداث فتنة أو اضطراب يتوقع كنتيجة أكيدة لحدوث الوفاة لبعض الناس .

القصد الجنائي بوصفه إرادة متجهة إلى السلوك وإلى النتيجة يتطلب توقع النتيجة باعتبارها أكيدة أو محتملة متى قبل الجاني تحققها .

 القصد الخاص في جريمة القتل :

جرى بعض الفقه والقضاء على اعتبار الركن المعنوي في جريمة القتل العمد تقوم على قصد جنائي خاص إلى جانب القصة الجنائي العام ويقوم القصد الجنائي العام على إرادة المساس بالجسم، بينما يقوم القصد الخاص على نية إزهاق الروح .

والواقع أن القصد الخاص كما استقر عليه الفقه الراجح مناطه مدى اعتداد المشروع بالغاية التي يرمي الجاني إلى تحقيقها من الجريمة .

ذلك أن القاعدة العامة هي أن المشرع لا يعتد بما يرمي الجاني إلى تحقيقه من جريمته، ولذلك فإن القصد الجنائي العام يتمثل في إرادة تحقيق الواقعة الإجرامية مع العلم بعناصرها المكونة لها بغض النظر عن الغاية التي يرمي الجاني إلى تحقيقها، ولكن المشرع في بعض نماذج التجريم لا يكتفي بتوافر إرادة تحقيق الواقعة وإنما يعتمد بالغاية منها وهنا فقط يتوافر القصد الخاص .

فإذا ما طبقنا ذلك على جريمة القتل العمدي لوجدنا أن القصد الجنائي فيها ما هو إلا إرادة تحقيق الواقعة الإجرامية التي تقوم على التسبب في إزهاق روح إنسان، ومن ثم فلا مجال للحديث عن القصد الخاص باعتبار أن إزهاق الروح هو النتيجة التي يتجه إليها السلوك .

والقول بغير ذلك يؤدي إلى اعتبار جرائم السلوك والنتيجة جميعها من جرائم القصد الخاص وهذا ما لم يقل به أحد .

 القصد المحدود والقصد غير المحدود :    

يكون القصد الجنائي محدوداً أو غير محدود تبعاً لاتجاه إرادة الجاني إلى تحقيق النتيجة في موضوع محدد، أو غير محدد، فإذا اتجهت الإرادة إلى إحداث النتيجة في موضوع أو أكثر محدد سلفاً وقت مباشرة السلوك كان القصد محدوداً .

ومثال ذلك إطلاق النار على شخص معين بنية إزهاق روحه أو إطلاق عدة أعيرة في مواجهة أكثر من شخص بقصد قتلهم .

أما إذا كان موضوع النتيجة غير محدد سلفاً وقت مباشرة السلوك وإنما اتجهت إرادة الجاني فقط إلى إحداث النتيجة أيا كان الموضوع الذي يحقق فيه، فإن القصد يكون غير محدود .

ومثال ذلك إطلاق النار في مواجهة حشد من الناس بقصد قتل أي عدد منهم دون تحديد .

ونظراً لأن القانون لا يحمي الحقوق والمصالح المختلفة لاعتبارات تتعلق بشخص المجني عليه، فإن تحديد القصد أو عدم تحديده بالنسبة للمجني عليه يستوي في نظره، وكل ذلك ما لم تكن صفة المجني عليه ركناً في الجريمة حيث يتطلب القصد الجنائي في هذه الحالة العلم بها .

القصد الجنائي والقصد مع سبق الإصرار :      

يتحقق القصد الجنائي إذا كان الجاني قد اتخذ قراره بارتكاب الجريمة وقام بتنفيذها دون مرور فاصل زمني بين القرار والتنفيذ يسمح بالتفكير الهادئ والتروي .

أما سبق الإصرار فهو القصد المصمم عليه قبل الفعل لارتكاب الجريمة، والقصد الجنائي والقصد مع سبق الإصرار لا يختلفان فيما بينهما من حيث التكوين القانوني لجريمة القتل العمد .

ولكن فرق المشرع بينهما من حيث التشديد في العقاب فجعل من سبق الإصرار ظرفاً مشدداً لعقوبة القتل العمد كما سنرى .

 لحظة تحقق القصد الجنائي :

إذا كان القصد الجنائي هو إرادة تحقيق الواقعة مع العلم بعناصرها المكونة لها، فهو يتوافر في اللحظة التي يحقق فيها الجاني السلوك الإجرامي، ولا يشترط أن يستمر القصد الجنائي طوال الفترة التي تستغرقها السببية في إحداث النتيجة .

 فالنتيجة تعتبر إرادية في اللحظة التي يحقق فيها الجاني السبب الذي من شأنه أن يؤدي إلى النتيجة وهي إزهاق الروح .  

ومؤدي ذلك أن القصد الجنائي يتوافر ولو كانت النتيجة تحققت في لحظة كان الجاني فيها معدوم الأهلية . فالعبرة بوجود القصد الجنائي بعنصريه في لحظة تمام الفعل التنفيذي مهما طالت عملية التسبب في النتيجة .  

ومن ناحية أخرى لا يتوافر القصد الجنائي إذا حقق الجاني السلوك دون اتجاه إرادته إلى النتيجة حتى ولو توفرت لديه بعد ذلك الرغبة في إحداث تلك النتيجة .

فمن صدم أخر بسيارته بسبب إهماله وعدم احتياطه فيصيب المجني عليه ثم تبين بعد ذلك أنه غريمه الذي عزم على قتله ويتمنى أن تتحقق الوفاة نتيجة الإصابة فإن وفاة المجني عليه في هذه الحالة لا تكون عمدية، ولكن إذا كان الجاني ملزماً قانوناً بإتيان فعل إيجابي لمنع تحقق النتيجة فإن القصد الجنائي يتوافر ويكون معاصراً للسلوك المتمثل في هذه الحالة في الامتناع وليس قصداً لاحقاً كما يعتقد البعض .

فامتناع رجل الإسعاف عن نقل المصاب الذي صدمته سيارة الإسعاف بقصد تحقيق الوفاة يتوافر لديه القصد الجنائي المعاصر لسلوك الامتناع .

 القصد الجنائي والباعث والغاية :

أن القصد الجنائي باعتباره إرادة متجهة إلى تحقيق الواقعة الإجرامية يختلف عن البواعث المختلفة الدافعة على الجريمة، فالبواعث هي التي تدفع الجاني إلى تحقيق سلوك معين بالنظر إلى غاية معينة، فمن يزهق روح إنسان قد يكون مدفوعاً بالثأر أو الانتقام وهذه كلها بواعث لا علاقة لها بتكوين القصد الجنائي .

وهذه البواعث قد تكون شريفة وقد تكون دنيئة وكل ذلك لا يؤثر على القصد الجنائي وكل ما للبواعث من أثر هو في تقدير العقوبة من قبل محكمة الموضوع في حدود السلطة التنفيذية التقديرية المخولة لها قانوناً .

كذلك لا تدخل الغاية في تكوين القصد الجنائي، ويقصد بالغاية ما يرمي إليه الجاني من إشباع لحاجة معينة عن طريق الجريمة .

وهناك ارتباط بين الغاية والباعث، فالباعث يوجد بتمثل الجاني للغاية التي تشبع حاجة من حاجاته ويرمي بسلوكه إلى تحقيقها فعلاً .

ومعنى ذلك أن الباعث يتعلق بالجانب العاطفي للشخصية، بينما الغاية يحكمها الجانب العقلي أو التفكير .

فمن يقتل مورثه استعجالاً للإرث يكون مدفوعاً بباعث الرغبة في الإثراء بينما يشكل الإثراء في ذاته الغاية التي يهدف إليها الجاني بسلوكه .

ومن يقتل آخر للانتقام يكون الباعث هو الانتقام من غريمه، بينما يشكل الغاية التخلص من وجود المجني عليه في حياة الجاني . 

وإذا كانت الغاية كقاعدة عامة لا يعتد بها في جرائم القتل، وذلك بالمعنی السابق بيانه، فإن المشرع قد اعتد بها في محيط جرائم أخرى، والتي على أساسها يتشكل القصد الخاص في هذه الجرائم .       

أما جرائم القتل العمد فقد رأينا أن نية إزهاق الروح هي ذاتها التي يتشكل عليها القصد الجنائي العام في جريمة القتل، ومع ذلك فقد يعتد المشرع بالغاية في بعض أسباب الإباحة في جرائم القتل التي تقوم على استعمال الحق .

ومثال ذلك قصد العلاج بالنسبة للتدخل الطبي كذلك يعتد المشرع بالغاية في حالات القتل بسبب توافر حالة الضرورة، بأن يكون القتل قد ارتكب بقصد درء خطر جسيم على نفس الشخص أو الغير .

وخلافاً للحالتين السابقتين فلا يعتد بالبواعث والغايات المختلفة إلا في نطاق السلطة التقديرية للقاضي واستعمال ظروف الرأفة .

الإثارة والاستفزاز :    

أعتدت بعض التشريعات بالإثارة والاستفزاز كظرف مخفف لعقوبة القتل العمد، غير أن المشرع المصري لم يعتد بهذا الظرف كقاعدة عامة،إنما نص على تخفيف العقوبة وجوباً في القتل المرتكب من الزوج في حالة مفاجأته لزوجته متلبسة بالزنا، كما سنرى فيما بعد، وفي غير ذلك لا اعتداد بالإثارة أو الاستفزاز .

ولكن يلاحظ أن الاعتداد أو عدم الاعتداد بالإثارة أو الاستفزاز كظرف قضائي مخفف أو كعذر قانوني لا علاقة له بالقصد الجنائي .

فحالات الإثارة أو الاستفزاز أو الغضب لا تنفي نية القتل، كما أنه لا تناقض بين قيام هذه النية لدى الجاني وكونه ارتكب فعله تحت تأثير أي من هذه الحالات وإن عدت اعذاراً قضائية أو قانونية مخففة .

 الغلط في تنفيذ القتل وحكمه :

يقصد بالغلط في التنفيذ ذلك النوع من الغلط غير المتعلق بتكوين الإرادة وإنما بوضعها موضع التنفيذ وهو يشتمل الغلط في توجيه الفعل والغلط في شخص المجني عليه، والغلط في نوع النتيجة، والغلط في علاقة السببية .

 أولاً : الغلط في توجيه الفعل :

ويقصد بذلك الغلط الذي يشوب الفعل التنفيذي ، بحيث تتحقق الجريمة في شخص آخر خلاف الشخص الموجه إليه الفعل ، وهذا الغلط له صورتان :

الأولى : هي حيث تتحقق النتيجة الإرادية في شخص آخر خلاف من وجه إليه الفعل، كأن يطلق الجاني النار على زيد فيخطئه ويصيب عمرا الذي تصادف مروره في خط إطلاق النار .

الثانية : هي حيث تتحقق النتيجة الإرادية في شخص المجني عليه المقصود بالفعل وتتحقق إلى جانبها نتيجة أخرى من ذات النوع كأن يطلق الجاني عدة أعيرة نارية على (أ) فيقتله ويقتل (ب) الموجود معه .

والصورة الأولى يتنازعها آراء ثلاثة :

الأول : يذهب إلى أن الجاني يسأل عن جريمة قتل عمدي بالنسبة للنتيجة المتحققة وعن شروع في قتل بالنسبة لعدم تحقق النتيجة في الشخص المقصود بالسلوك، وهذا هو الرأي السائد فقهاً وقضاءً .

بينما يذهب الرأي الثاني : إلى أن الجاني يسأل عن جريمة قتل، عمدية تامة دون الشروع تأسيساً على أن الغلط هنا لا يفترق عن الغلط في شخصية المجني عليه .

أما الرأي الثالث : فيرى أن الجاني يسأل عن شروع في قتل بالنسبة للشخص المقصود بالسلوك، وعن جريمة غير عمدية بالنسبة لمن تحقق فيه القتل .

وهذا الرأي الأخير يجب استبعاده لأنه لا يستقيم وقواعد القصد الجنائي المستقر عليها، ذلك أن النتيجة التي اتجهت إليها الإرادة قد تحققت فعلاً، ويستوي بعد ذلك شخصية المجني عليه .

أما الخلاف بين الرأي الأول والثاني فلا قيمة له عملاً بالنسبة لقانون العقوبات المصري، نظراً لأنه وفقاً للرأي الأول نكون بصدد تعدد معنوي بين الشروع والجريمة التامة يطبق في شأنه العقوبة المقررة للجريمة وهي القتل العمد .

أما الصورة الثانية : والتي فيها تتحقق إلى جانب النتيجة المقصودة نتيجة أخرى من ذات النوع، فإن هذا الغلط لا تأثير له في نفي القصد الجنائي بالنسبة للنتيجة الأخرى نظراً لأن المشرع يكتفي بقيام القصد الجنائي باتجاه الإرادة إلى تحقيق إزهاق الروح دون اعتبار لعدد الأشخاص المجني عليهم .

 ثانياً : الغلط في شخصية المجني عليه :

القاعدة العامة هي أن الغلط في شخصية المجني عليه ينتفي به القصد الجنائي في القتل. فمن يطلق النار على شخص فيقتله معتقداً أنه غريمه الذي انتوي قتله ثم يتضح بعد ذلك أنه إنسان آخر، فإنه يسأل عن قتل عمد، فالحماية الجنائية لحق الحياة لا يراعي فيها شخص دون آخر وإنما يتساوى فيها الناس جميعاً، وهذا الغلط في شخصية المجني عليه يختلف عن الغلط في توجيه الفعل السابق بيانه .

ففي الغلط في توجيه الفعل يكون هناك تغاير بين ما تخيله الجاني وتمثله وبين الواقع الفعلي .

بينما الغلط في التوجيه يكون هناك تطابق بين التخيل أو التمثيل والواقع .

وكل ما هنالك أن النتيجة تحققت في شخص آخر لخطأ في توجيه الفعل .

ومعنى ذلك أن الغلط في توجيه الفعل لا ينصب على عملية التخيل الذهني للجاني وإنما على وسيلة التنفيذ .

ومع ذلك إذا كانت الصفة الخاصة بشخص المجني عليه تدخل كعنصر من عناصر التكوين القانوني للجريمة فإن الغلط فيها ينفي القصد الجنائي بالنسبة لتلك الجريمة، ولكنه لا ينفي القصد الجنائي بالنسبة للقتل العادي .

 ثالثاً : الغلط في نوع النتيجة :

يتحقق الغلط في نوع النتيجة إذا كان الجاني قد وجه سلوكه لتحقيق نتيجة من نوع معين فتحققت نتيجة من نوع آخر .

ومثال ذلك من يصوب سلاحه الناري لقتل حيوان ولكنه يحيد عن الهدف ويقتل إنساناً، أو أنه يحقق النتيجة التي اتجهت إليها إرادته، وتتحقق بجانبها النتيجة الأخرى .

والقاعدة العامة، وفقاً للراجح فقهاً، هي أن المسئولية الجنائية بالنسبة للنتيجة الأولى المتجهة إليها الإرادة لا تتأثر بهذا الغلط، فيسأل الجاني عن جريمة عمدية تامة أو شروع بحسب الأحوال .

أما بالنسبة للنتيجة الثانية المختلفة في النوع عن الأولى والتي لم تتجه إليها الإرادة فيسأل الجاني عنها مسئولية غير عمدية .

رابعاً : الغلط في علاقة السببية :

يتحقق الغلط في علاقة السببية في جميع الفروض التي تحقق فيها النتيجة الإرادية بتسلسل سلبي مختلف عن التسلسل الذي توقعه الجاني واتجهت إليه إرادته .

ومثال ذلك من يلقي بآخر في بئر أو ساقية قاصداً قتله غرقاً، إلا أنه يموت نتيجة ارتطام رأسه ببروز في جانب البئر أو الساقية أدى إلى كسر الجمجمة، فالنتيجة التي أرادها الجاني وهي الوفاة قد تحققت، ولكن بتسلسل سببي مختلف عما توقعه الجاني واتجهت إليه إرادته .

ويلاحظ أنه يخرج عن نطاق الغلط في السببية الفروض التي تتحقق فيها النتيجة بتدخل عوامل لاحقة وغير مألوفة وفقاً للمجرى العادي للأمور .

فمن يطعن آخر بسكين قاصداً قتله فيحاول المجني عليه الهروب من اعتداء الجاني فتصدمه سيارة تؤدي بحياته لا نكون بصدد غلط في علاقة السببية وإنما بصدد مشكلة انقطاع رابطة السببية بتدخل العوامل اللاحقة غير المألوفة وفقاً لمجريات الأمور العادية المتعلقة بالسلوك .

ومؤدي ذلك أن الغلط في علاقة السببية يفترض أن هناك رابطة سببية بين فعل الجاني المنسوب إليه وبين النتيجة المتحققة والتي اتجهت إليها إرادته إلا أنها تحققت بتسلسل سببي للسلوك مختلف عما توقعه .

ولمعرفة حكم الغلط في علاقة السببية يذهب البعض إلى التفرقة بين الغلط الجوهري وبين الغلط غير الجوهري، ويكون الغلط الجوهري إذا كان الجاني لن يقدم على تنفيذ جريمته بالكيفية التي وقعت بها فيما لو توقع شكل التسلسل السببي الذي حدث، ويكون غير جوهري في الفروض الأخرى، فمن يطلق عياراً نارياً على آخر قاصداً، فيصاب المجني عليه فاعتقد الجاني أنه قد فارق الحياة فألقي به في النيل لإخفاء جثته، ثم تبين بعد ذلك أن المجني عليه مات غرقاً وليس من الطعن بالسكين، فإننا نكون بصدد غلط جوهري يتعلق برابطة السببية إذا كان الجاني لن يقدم على إلقاء المجني عليه في النيل فيما لو علم بأنه ما زال على قيد الحياة .

وهنا يسأل الجاني عن شروع وعن قتل خطأ بالنسبة لسلوكه الثاني وما ترتب عليه من نتيجة .

ومع ذلك فهناك من الفقه من يرى أنه في جميع الفروض التي يعتقد فيها الجاني أنه أثم جريمته على خلاف الواقع، ويأتي سلوكاً بعد ذلك تتحقق به النتيجة فإنه يسأل عن جريمتين :

الأولى : شروع - والثانية : بوصف الخطأ غير العمدي، وهو الرأي الراجح في نظرنا نظراً لتعدد السلوك المنسوب إلى الجاني، وبالتالي يتحدد الركن المعنوي بالنسبة لكل منهما وفقاً للنتيجة التي تحققت فعلاً .

أما الغلط في التسلسل السببي السابق على تمام الجريمة من وجهة نظر الجاني فلا قيمة له قانوناً .

 أثر السكر والعقاقير المخدرة على القصد الجنائي في القتل :

فيما يتعلق بالسكر غير الاختياري فلا خلاف حول تأثير ذلك، على المسئولية الجنائية بنفسها إعمالاً لحكم المادة 62 من قانون العقوبات ويقصد بالسكر غير الاختياري الذي يكون ناشئاً عن عقاقير مخدرة أو مذهبة للعقل تناولها الجاني قهراً عنه أو على غير علم منه بحقيقة أمرها .

ويشترط لانتقاء المسئولية أن يكون من شأن تلك العقاقير إفقاد الجاني الشعور والاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل ولذلك فإن القتل المرتكب في ظل حالة سكر غير اختياري ينتفي بالنسبة له القصد الجنائي، فإذا أمكن نسبة الخطأ إلى الجاني فإنه يسأل عن الجريمة مسئولية غير عمدية .

أما بالنسبة للسكر الاختياري، وهو ما يتحقق بالنسبة لمن تناول مادة مخدرة أو للسكر مختاراً أو على علم بحقيقتها، فالراجح في الفقه هو أن المسئولية الجنائية والقصد الجنائي في القتل لا يتأثران، وقد ذهبت محكمة النقض المصرية إلى ذلك في قضاء قديم لها .

غير أن قضاء النقض الحديث اتجه إلى التمييز بين جرائم القصد العام وبين جرائم القصد الخاص. واعتبرت الجاني مسئولاً عن جميع الجرائم ذات القصد العام المرتبكة في حالة السكر الاختياري تماماً كالمدرك التام الإدراك .

أما بالنسبة لجرائم القصد الخاص فلا مجال لافتراض توافر ذلك القصد الخاص، ومن ثم يحاسب الجاني على القصد العام إذا كان القانون يعاقب على الجريمة بهذا الوصف .

ونظراً لأن قضاء النقض يذهب إلى أن القصد الجنائي في جريمة القتل يقوم على قصد خاص وهو نية إزهاق الروح، فإن القتل المرتكب في حالة سكر اختياري لا يتوافر بصدده القصد الجنائي، ويسأل الجاني عن القصد العام المتمثل في قصد المساس بسلامة الجسم مما أدى إلى الوفاة، أي يسأل الجاني عن جريمة ضرب أو جرح مفض إلى موت . ( قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ مأمون محمد سلامة، الطبعة الأولى 2017 الجزء الثاني،  الصفحة : 9 )

أركان القتل العمد :

في صدر المادة التي نحن بصددها وردت العبارة الآتية :

" كل من قتل نفساً عمداً ...."، ومنها تستخلص أركان القتل العمد وهي ثلاثة :

أولها : أن القتل يفترض وقوعه على إنسان حي .

 ثانيهما : الركن المادي في القتل .

 ثالثها : القصد الجنائي وهو تعمد إزهاق الروح .

 الركن الأول : صفة المجني عليه :

إنسان حي : هذا عنصر إضافي في بعض الجرائم يطلق عليه العنصر المفترض، فالقتل العمد إزهاق روح إنسان فيفترض أن يكون المجني عليه حياً وقت قيام الفاعل بنشاطه الإجرامي .

ولا يقع القتل إلا على إنسان، فلو كان محل الجريمة حيواناً تكون من جرائم المال والمجني عليه فيها هو صاحب الحيوان، ولا يعتبر الجنين في أحكام القتل إنساناً، فإعدامه قبل مولده الطبيعي لا يعد قتلاً، وإنما يعد إسقاطاً للحامل .

ويلزم أن يكون المجني عليه حياً وقت إرتكاب الفعل، فإذا كان قد فارق الحياة قبل إتيان الفعل فإن جريمة القتل لا تقوم، لفقدان ركن من أركانها .

الركن الثاني - الركن المادي :

طبقاً للقواعد العامة يلزم لتوافر الركن المادي ثلاثة عناصر : الأول - نشاط إجرامي، وهو الأمر الذي يصدر من الفاعل بنية تحقيق النتيجة، والثاني - النتيجة التي يعاقب عليها القانون وهي إزهاق الروح، والثالث - علاقة السببية بين نشاط الجاني والنتيجة التي حصلت .

 أولاً - النشاط الإجرامي :

وهو الأمر الذي يتوصل به الفاعل لتحقيق النتيجة المعاقب عليها ولا تشترط المادة التي نحن بصددها أن يكون القتل بوسيلة معينة، غاية ما هناك أن الوسيلة المستعملة قد تسهل على المحكمة استظهار نية القتل والغالب أن تكون وسيلة القتل مادية، فيستعمل القاتل سلاحاً نارياً أو قاطعاً أو واخزاً أو يستعمل آلة أو أداة راضياً، كما قد يلجأ إلى الخنق أو الإحراق أو الإغراق أو إلقاء المجني عليه من مرتفع وما إلى ذلك، ويستوي في هذا المقام أن تكون الوسيلة المستعملة صالحة بطبيعتها لإحداث النتيجة أو تكون غير صالحة لذلك إلا في نظر الجاني .

وليس بشرط أن يصيب الجاني بفعله جسم المجني عليه مباشرة، بل يكفي أن يهيئ وسيلة القتل ويتركها تحدث أثرها بفعل الظروف، فيتوافر النشاط لدى من يضع للمجني عليه في طعامه أو شرابه مادة قاتلة، أو يسلط عليه تياراً من غاز سام، أو يحفر في طريقة حفرة حتى إذا مر عليها وقع فيها ومات، وما إلى ذلك، وكما يكون القتل بوسيلة مادية يصح تصوره بوسيلة معنوية، فيعد قاتلاً عمداً من يلجأ في قتل إنسان ضعيف الأعصاب إلى تحميله بالهموم .

هذا ما يؤدي إليه القول بأن القانون لا يعتد بوسيلة القتل، وإن كان يصعب عملاً استظهار نية القتل وعلاقة السببية بين وسيلة القتل وإزهاق الروح .

وقد لا يتوصل الفاعل في تحقيق النتيجة بعمل إيجابي وإنما بإمتناع أو ترك ومثال ذلك الأم التي تقصد قتل وليدها فتمتنع عن إطعامه أو ربط الحبل السري له فيموت ولما كان القانون المصري لا يشترط أن يتم القتل بوسيلة معينة فإنه يستوي أن يكون قد حصل بفعل إيجابي أو بأمر سلبي .

ثانياً - إزهاق الروح

وهو الأمر المترتب على نشاط الفاعل وبه تتم جريمة القتل العمد، وليس من الضروري أن تتحقق هذه النتيجة أثر نشاط الجاني، فيصح أن يكون بين العنصرين فاصل زمني لا يمنع من مساءلة الفاعل عن قتل عمد متى توافرت علاقة السببية أما إذا لم تتحقق الوفاة بأن أوقف نشاط الجاني أو خاب أثره السبب لا دخل لإرادته فيه فإن جريمته تكون شروعاً في قتل عمد متى توافر القصد الجنائي .

ثالثاً - رابطة السببية :

لا يكفي أن يحصل من الفاعل نشاط إجرامي وأن تقع نتيجة، وإنما يشترط القول بتوافر الركن المادي في حقه أن تنسب هذه النتيجة إلى ذلك النشاط، أي أن يكون بينهما رابطة السببية، وتعتبر رابطة السببية قائمة إذا كانت النتيجة التي حصلت محتملاً توقعها وفقاً لما تجري عليه الأمور عادة، فالنظر إلى رابطة السببية يكون من الناحية المادية لا من الناحية المعنوية؛ بمعنى أنه لا يرجع فيها إلى توقع الجاني نفسه وإنما إلى توقع حصول النتيجة ذاتها بصرف النظر عما إذا كان الجاني قد توقعها .

ولكن الجاني لا يسأل عن الوفاة إذا كانت من النتائج البعيدة الإحتمال وفقاً للمجرى العادي للأمور، وظاهر من هذا أن السببية مسألة موضوعية بحتة، لقاضي الموضوع تقديرها بما يقوم لديه من الدلائل، ومتى فصل في شأنها إثباتاً أو نفياً، فلا رقابة لمحكمة النقض عليه إلا من حيث الفصل في أن أمراً معيناً يصلح قانوناً لأن يكون سبباً لنتيجة معينة أو لا يصلح .

تعدد الجناة :

قد يتعدد المتهمون في قتل مجني عليه واحد، ففي هذه الحالة إما أن يكون بين المتهمين تعاون على إحداث القتل أو لا يكون، فإذا كان بين المساهمين تعاون على القتل فإنهم لا يساهمون في جريمة واحدة، ونتيجة لوحدة الجريمة يعد مسئولاً عنها كل من ساهم فيها بفعل ثانوي أو فعل أصلي، فإذا كانت المساهمة بفعل أصلي فإن المادة (39) من قانون العقوبات لا تفرق بين ما يأتي ضربة قاتلة وبين من كانت ضربته ليست قاتلة بذاتها .

أما إذا كان كل من المتهمين قد عمل مستقلاً عن الآخر، بأن انعدام التعاون بينهم أو نية التداخل أو المساهمة في الجريمة، فإن الجريمة لا تكون واحدة، ومقتضى هذا أن تكون مسئولية كل عن فعله وحده .

وإذا تعذر تعیین محدث الضربة القاتلة فإن المحكمة تقضي على كل من المتهمين بعقوبة الشروع في القتل فهذا الشروع هو القدر المتيقن في حق كل منهم .

الركن الثالث - القصد الجنائي :

 عناصر القصد :

جناية القتل جريمة عمدية، فيلزم أن يتوافر فيها القصد الجنائي، ويكون هذا بانصراف إرادة الجاني وعلمه إلى عناصر القتل .

فيجب أن يكون الجاني معتقداً أنه يوجه فعله إلى إنسان حي، فلا يرتكب القتل من يوجه فعله إلى إنسان معتقداً أنه ميت، أو كان من البسطاء الذين يعتقدون في الخيالات والأوهام فأطلق عبارة على إنسان معتقداً أنه من الجن، أو لم يكن يقصد بفعله قتل إنسان وإنما قصد مجرد الإرهاب وفي هذه الصور وما شابهها لا يؤاخذ الفاعل عن قتل عمد، وإنما تصح مساءلته عن قتل بإهمال إذا توافرت شروطه كذلك يجب أن تتجه إرادة الجاني إلى إتيان الفعل المكون للنشاط الإجرامي في القتل، فلا يسأل عن قتل عمد من يكره على إتيان الفعل، سواء كان الإكراه بفعل إنسان آخر أو بقوة قاهرة، ويلزم أن يستعمل الفاعل نشاطه عن رغبة في إحداث النتيجة أي إزهاق الروح، فلا يتوافر القصد الجنائي في القتل إذا لم يثبت أن نية الفاعل قد انصرفت إلى إزهاق روح المجني عليه، ولكنه لا يعفى من العقاب كلياً بل قد يعاقب على ضرب أفضى إلى موت إذا انصرفت إرادته إلى مجرد المساس بسلامة جسم - المجني عليه، أو على قتل خطأ إذا لم يتعمد هذا المساس .

 الغلط في الشخص والشخصية :

في هاتين الصورتين يخطئ الجاني فيصيب شخصاً غير الذي كان يقصده، إما الخطأ في التصويب أو لغلط في شخصية المجني عليه، ولكن متى كان الجاني قد تعمد إزهاق روح إنسان فإن إرادته تكون قد انصرفت إلى تحقيق نتيجة القتل فيعاقب بعقوبته بصرف النظر عن شخصية القتيل، فقد تعمد إزهاق روح على أي حال، وفي حالة الغلط في الشخص يكون فعل الجاني جريمتين، شروع في قتل الشخص المقصود وقتل تام بالنسبة للشخص الآخر، وهذه صورة من صور التعدد المعنوي في الجرائم التي يقضي فيها بعقوبة الجريمة الأشد وهي القتل التام وفقاً للفقرة الأولى من المادة (32) من قانون العقوبات .

 فكرة القصد غير المحدود :

يمثل للقصد المحدود بانصراف إرادة الجاني إلى إزهاق روح إنسان بعينه، ويمثل للقصد غير المحدود بانصراف إرادة الجاني إلى إزهاق روح أي إنسان كأن يطلق رصاصة أو يلقي قنبلة على جمع عن رغبة في قتل إنسان أو أكثر بغير تعيين، وظاهر أن هذه التفرقة لا جدوى منها، بنتيجة القتل في القانون هي إزهاق روح إنسان، ومتى انصرفت إرادة الجاني إليها فإنه يعاقب على القتل العمد بصرف النظر عن شخصية القتيل .

فكرة القصد الاحتمالي :

يلزم لتوافر القصد الجنائي في القتل العمد أن تنصرف إرادة الجاني إلى إحداث النتيجة المعاقب عليها وهي إزهاق الروح، فلا يكفي لتحقق القصد أن تكون الوفاة متوقعة نتيجة لفعل الجاني ولو توقعها الجاني بالفعل مادامت إرادته لم تنصرف إليها .

والصورة العادية للقصد الجنائي، ويطلق عليها القصد المباشر، هي الصورة التي لا يقتصر فيها الجاني على قبول النتيجة وإنما يكون راغباً فيها، على أن هناك صورة أخرى من صور القصد يتوقع فيها الجاني حصول نتيجة غير مرغوبة ولكنه يقبلها في سبيل تحقيق النتيجة المرغوبة، ومثال ذلك أن يقصد الجاني قتل زيد فيضع له سماً في طعامه ولكنه يتوقع أن يتناول معه هذا الطعام فيموت فلا يمنعه هذا من المضي في عمله، ويقال عندئذ أنه قد توافر لدى الجاني قصد مباشر بالنسبة لزيد وقصد احتمالي بالنسبة لبكراً وظاهر أن صورة القصد الاحتمالي على هذا الوجه لا تختلف في كثير عن صورة القصد المباشر، فالفاعل في الحالتين قد قصد إزهاق الروح فيسأل عن قتل عمد إذا تحققت نتيجته أو عن شروع إذا أوقف فعله أو خاب أثره لسبب لا دخل لإرادته فيه .

 النتائج الاحتمالية :

يلقى القانون عبء نتائج غير مقصودة على الفاعل ولو لم يقبلها، بل وإن لم يتوقعها .

فالمادة (43) من قانون العقوبات تقضي بأن من إشترك في جريمة فعليه عقوبتها ولو كانت غير التي تعمد ارتكابها متى كانت الجريمة التي وقعت بالفعل نتيجة محتمله للتحريض أو الإتفاق أو المساعدة التي حصلت، فإذا كان الإتفاق على سرقة فإن من المحتمل أن يرتكب الفاعل قتلاً في سبيل تحقيق النتيجة المتفق عليها فيكون شريكاً مسئولاً عن ذلك القتل .

وتنص المادة (126) على أن كل موظف أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الإعتراف يعاقب بالأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى عشر، فإذا مات المجني عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل عمداً .

وتعاقب المادة (167) بالأشغال الشاقة أو السجن من عرض عمداً سلامة وسائل النقل للخطر، وتنص المادة (168) على أنه إذا نشأ عن ذلك موت شخص يعاقب الفاعل بالإعدام أو بالأشغال الشاقة المؤبدة .

ومما ينبغي ملاحظته في هذا الصدد أن الحالات التي يلقى فيها القانون عبء نتائج محتملة كما لو كانت مقصودة قد وردت في القانون على سبيل الحصر إستثناء من القاعدة العامة فلا يجوز القياس عليها، ويشترط فيها جميعاً أن تتقدمها نتيجة مقصودة يهدف الجاني إليها ثم تتسلسل الحوادث فتقع النتيجة التي يحملها، ولا يشترط لمساءلته عنها أن يكون قد توقعها بالفعل، وإنما يكفي أن تكون محتملة الفعله وفقاً للمجرى العادي للأمور .

متى يلزم توافر القصد :

القاعدة أن القصد الجنائي يجب أن يكون معاصراً للفعل المكون للقتل، ولا صعوبة في الأمر إذا توافر القصد وقت النشاط والنتيجة معاً، ولكن من المتصور أن تقوم نية القتل وقت النشاط دون النتيجة أو العكس فإذا عاصر القصد مرحلة النشاط الإجرامي كان هذا كافياً ولو عدل الفاعل عن قصده قبل حصول النتيجة متى كان إزهاق الروح قد تحقق بفعل الجاني، فلو أن شخصاً أطلق عياراً علی آخر قاصداً قتله ثم ندم بعد ذلك وحاول إسعافه ومع ذلك تحققت النتيجة بموت المجني عليه، فإن الجاني لا يرتكب جرحاً أفضى إلى موت وإنما قتل عمد وقد لا يتوافر القصد الجنائي وقت مباشرة النشاط وإنما ينشأ بين هذا النشاط وبين حصول النتيجة، ومثال ذلك أن يخطئ صيدلي في تركيب دواء فيضع فيه مادة سامة ثم يتنبه إلى خطئه بعد ذلك ولكنه يمتنع عن لفت نظر المريض مع قدرته عليه رغبة في إزهاق روحه ويحدث هذا فعلاً والظاهر أن القصد الجنائي يكون متوافراً في هذه الحالة فيعاقب الصيدلي على قتل عمد .

 نية القتل وسبق الإصرار :

مما يبحثه الفقهاء في هذا الصدد تقسيم القصد من حيث درجته إلى قصد بسيط وقصد مع سبق الإصرار، فإذا باشر الفاعل نشاطه الإجرامي عند مرحلة العزم كان قصده بسيطاً، أما إذا تجاوز هذه إلى مرحلة التصميم فأصر على الجريمة ثم نفذها كان قصده مقروناً بسبق الإصرار ويكتفي القانون المصري بالقصد البسيط ويرتب على توافر الإصرار السابق تشديد العقوبة وإختلاف العقوبة في الحالتين له ما يبرره إذ لا تستوي الإرادة في الحالتين، ففي الأولى تكون سطحية لا يلعب فيها النشاط الذهني قدراً كافياً، أما الإرادة المصرة فهي ثمرة تفكير عميق ينتصر فيها حتماً عوامل الشر على عوامل الخير .

 نية القتل والباعث عليه : 

ويجب عدم الخلط بين نية القتل والباعث عليه، فنية القتل تتوفر باتجاه إرادة الجاني إلى إزهاق الروح، وهي ركن في القتل العمد، فلا يسأل الجاني عنه إذا لم تتوافر لديه أما الباعث فهو سبب إتجاه هذه الإرادة أو العامل المحرك لها ولا تأثير له في كيان الجريمة .

 إثبات نية القتل :

النية أمر داخلي يبطنه الجاني ويضمره في نفسه، ولا يستطاع معرفته إلا بمظاهر خارجية من شأنها أن تكشف عن قصد الجاني وتظهره، ومن ثم يكون استظهار نية القتل مسألة موضوعية بحتة لقاضي الموضوع تقديرها بحسب ما يكون لديه من الدلائل ومتى قرر أنها حاصلة للأسباب التي بينها في حكمه فلا رقابة لمحكمة النقض عليه، إلا إذا كان العقل لا يتصور إمكان دلالة هذه الأسباب عليها أو إذا كان فيما إستنتجته المحكمة في هذا الشأن من وقائع الدعوى أو ظروفها شطط أو مجافاة لتلك الوقائع .

أما المظاهر الخارجية التي يستدل بها على وجود النية فهي الظروف التي وقع فيها الإعتداء والغرض الذي كان يرمي إليه الجاني ووسائل التنفيذ وموضع الإصابة وجسامتها، وما إلى ذلك .

وقد يكفي إحداها للدلالة على نية القتل، فقد يستدل على النية من الآلة التي إستعملها الجاني ولو في غير مقتل، أو من إصابة المجني عليه في مقتل ولو بآلة لا تؤدي بطبيعتها إلى موت، ومن باب أولى يصح الإستدلال على نية القتل من نوع الإصابة ومن إصابة المجني عليه في مقتل، كما يصح الإستدلال عليها بخطورة الإصابة التي أحدثها المتهم .

 العقوبة :

إذا اقترن القتل العمد بسبق إصرار أو بترصد وهما من الظروف المشددة تكون العقوبة الإعدام . ( الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثالث، الصفحة : 293 )

تعريف القتل العمد :

القتل يراد به إطلاقاً إزهاق روح إنسان بفعل إنسان آخر ولكن هذا التعريف يشمل صوراً متعددة من القتل فقد يكون الفعل مقترناً بنية القتل وعندئذ يسمى قتلاً عمداً وقد يكون ناشئاً عن إهمال أو عدم انتباه فيسمى قتلاً خطأ وكلاهما يعاقب عليه القانون بدرجات مختلفة وقد يحصل القتل مصادفة واتفاقاً وعلى غير إرادة الفاعل وبدون خطأ منه يسمى قتلاً بالقضاء والقدر ولا عقاب عليه وقد يقترن القتل العمد بظروف تجعله أشد خطراً من القتل العادي فيعاقب بعقوبة أشد وهذه الظروف ترجع إما إلى قصد القاتل وتصميمه وإما إلى الوسائل التي استخدمها وإما إلى الغرض الذي رمى إليه .

طبيعة جريمة القتل العمد :

جريمة القتل العمد جريمة مادية ذات حدث ضار هو أن تفيض روح المجنى عليه فيصبح جثة هامدة في الكون المادي للأحياء أي هو تأثير في شخص بإعدامه وفي الوقت ذاته فإنه الجريمة من جرائم الفاعل الوحيد إذ لا يلزم لارتكابها أكثر من فاعل وهي جريمة حدث سيئ ضار بضحية السلوك من حيث كون هذا الأخير يفقد حياته كما أنها جريمة قابلة للشروع فيها على صورته الموقوفة أم على صورته الخائبة .

أركان جريمة القتل العمد :

يتكون القتل العمد من ثلاثة أركان هي :

1- أن يكون محل الجريمة إنسان حي .

2- أن يقع بفعل عمدی من الجاني من شأنه إحداث الموت " الركن المادي".

3- أن يكون قصد الجاني إحداث الموت " القصد الجنائي".

وفيما يلي تفصيل لازم لكل ركن :

الركن الأول

محل الجريمة

 حماية الإنسان الحي هي الهدف الأول من قانون العقوبات لذلك كان الإنسان عنصراً ضرورياً في جميع جرائم الاعتداء على الأشخاص سواء ما يقع منها على الجسم أم العرض أم الاعتبار أم الجريمة الشخصية وقد نصت المادتان 230 ، 234 على عقاب " من قتل نفساً " فخرج بذلك الحيوان الذي يعد قتله جريمة قائمة بذاتها ( 355 ،357 ، 380 / 2 ع) كما خرج الجنين قبل ولادته فإن قتله يكون جريمة قائمة بذاتها هي جريمة الإسقاط (م 260 - 264 ع) وفي ذلك يقرر فقهاء القانون الجنائي أنه لا يشترط لبدء الوجود القانوني للإنسان في تطبيق نصوص القتل أن يخرج الوليد بأكمله من رحم أمه وينفصل عنها انفصالاً تاماً بل أن هذا الوليد يعتبر إنساناً حتى قبل أن يتم انفصاله غير أنهم مع ذلك لم يجمعوا على رأي واحد بذلك بالنسبة للحظة التي يكتسب الوليد فيها وصف الإنسان فمنهم من يشترط لذلك بروز بعضه وانفصاله جزئياً عن أمه وأكثرهم لايشترطون الانفصال أصلاً بل يكتفون باكتمال نضج الجنين وتمتعه بحياة مستقلة عن حياة أمه وتأهبه للنزول ولهذا فهم يثبتون للإنسان وجوده منذ اللحظة التي فيها عملية الوضع ولو تراخى نزوله لبعض الوقت بسبب عسر في الولادة والرأي الآخر أولى بالاتباع لأن اكتمال نضج الجنين يحول دون تطبيق نصوص الإجهاض على ما يصيبه من أفعال تستهدف حياته سواء برز بعضه أو لم يبرز منه شئ قط وتمام النضج لا يقترن زمنياً بتمام الوضع فالولادة العسرة لا ترجع في أسبابها إلى عدم اكتمال الجنين بل ترجع إلى أسباب أخرى كضيق الرحم أو انحراف وضع الجنين انحرافاً يعوق انزلاقه ومتى ثبت انحسار أحكام الإجهاض عن الجنين بتمام نضجية وجب اعتباره على الفور إنساناً تحميه نصوص القتل وإلا ذهبت روحه ضياعاً تحت سمع القانون وبصره .

وتنتهي حياة الإنسان بوفاته أي بتوقف قلبه وجهازه التنفسي توقفاً تاماً ونهائياً وفي تلك اللحظة تنحسر نصوص القتل عن حماية (الميت) باعتبار أنه صار شيئاً لا إنسان بل أن القانون الجنائي المصري ينسحب تماماً تاركاً هذا الشئ دون حماية من أي عبث من لحظة موته إلى لحظة دخوله قبره فتعود إليه الحماية إذا عبث به عابث لحمايته لهذا الشئ في ذاته وإما لأن هذا العبث يشكل انتهاكاً لحرمة القبور كجريمة قائمة بذاتها .

وكل عمل يقصر حياة الإنسان ولو لحظة واحدة يعد قتلاً فلا يقبل من الجاني الاعتذار بأن المجني عليه كان مصاباً بمرض قاتل ولا بأنه كان محكوماً عليه بالإعدام ويعد قاتلاً الطبيب الذي يعطي مريضه جرعة من السم ليعجل بموته ويخلصه من أسقام وأوجاع كانت ستؤدي به إلى الوفاة حتماً ولكن لا محل لعقاب الطبيب الذي يمتنع من إعطاء المريض دواء ليس من ورائه سوى إطالة أوجاعه بضع ساعات حتى ولو كان قد أخذ على عاتقه علاج هذا المريض .

وقد يثور التساؤل هل يعد القضاء على المولود قتلاً ؟ والحال في هذا لايخرج عن صورة من اثنتين إما أن يكون المولود قابلاً للحياة رغم ما فيه من تشويه فالتخلص منه بلا جدال يعتبر قتلاً لأنه فضلاً عن أن التشويه لا يبرر القضاء عليه فقد يكون من الميسور علاج تلك الحال في يوم من الأيام وكذلك إن كان استمرار حياة المولود غير محتمل بسبب ما به من تشويه فإن هذا أيضاً بدوره لا يجيز التخلص منه لما سبق من أسباب وعلى هذا الأساس يكون إزهاق روح مريض شفقة عليه بسبب الآلام التي يتحملها من مرض أصابه يقضى عليه بالموت حتماً وفقاً للرأي الطبي مكوناً لجريمة القتل حتى لو حدث الفعل تلبية لرغبة المجنى عليه .

ويثبت القتل بكافة الطرق حتى بالقرائن وإذا لم يعثر على جثة الشخص المقتول فلا يمنع ذلك من محاكمة المتهم والحكم عليه وعلى النيابة إثبات حصول القتل وصحة إسناده إلى المتهم كما جرى العمل على أن تلجأ النيابة الطبيب الشرعي في حالة الوفاة ليبدي رأيه في السبب الحقيقي للوفاة وكون الإصابات التي به هي التي أدت إلى الموت غير أن رأى الطبيب لا يلزم المحكمة فليس الطبيب سوى خبير للقضاء تقدير رأيه بما يطمئن إليه .

الانتحار :

يشترط لقيام جريمة القتل أن يكون الجاني شخصاً آخر خلاف المجنى عليه فإذا قام الأخير بقتل نفسه وهو ما يعد انتحاراً فلا تقوم جريمة القتل ولم يتضمن القانون المصرى أي نص يعاقب على الانتحار أو الشروع فيه وينتج عن هذا أن الاشتراك في الانتحار لا عقاب عليه أيضاً فمن تناول المنتحر سماً أو أمده بسلاح أو ساعده بأية وسيلة أخرى لا يعاقب لانعدام الجريمة الأصلية ولكن يجب التفرقة بين من يساعد آخر على الانتحار ومن يقتل آخر بناءً على طلب فإن الفعل الثاني جريمة أصلية لا اشتراك في انتحار وعقاب الجاني واجب .

وإذا تعاون اثنان على الانتحار واتفقا على أن يقتل كلاهما الآخر في لحظة واحدة عدا قاتلين لا منتحرين ووجبت معاقبة من ينجو منهما ويجب أن يلاحظ إذا كان المنتحر ناقص الإدراك أو الاختيار فإن التحريض على انتحاره أو المساعدة فيه من قبل الغير يعتبر معاقباً عليه بدون حاجة إلى نص إذ المحرض في هذه الحالة يعتبر فاعلاً معنوياً لجريمة القتل .

ويلاحظ أن الحامل التي تشرع في الإنتحار فتفشل ولكن يترتب على محاولتها إجهاضها تسأل عن إجهاضها نفسها ولا يستبعد قصد الانتحار قصد الإجهاض بل أنه يتضمنه على الأقل في صورته الاحتمالية فإذا توقعت الحامل حدوث الإجهاض وهو ما يتحقق غالباً فرضيت بهذا الإحتمال كان قصد الإجهاض متوافر لديها .

الركن الثاني

فعل عمدي يتسبب عنه القتل

الركن المادي

 يتمثل الركن المادي في جريمة القتل في النشاط الذي يبذله الجاني في سبيل الوصول إلى النتيجة التي يحرمها القانون ويعني ذلك إثبات فعل أو امتناع من شأنه أن يؤدي إلى الموت وعلى ذلك فإن الركن المادي في جريمة القتل يتكون من فعل القتل - والنتيجة التي تتمثل في الوفاة- والرابطة السببية بين السلوك والنتيجة .

 أولاً : فعل القتل ( السلوك) :

فعل القتل أو ما يطلق عليه الفعل المادي للقتل ما هو إلا سلوك وبعبارة أخرى حركة عضلية تعد استظهاراً أو تعبيراً عن إرادة تحدث تغييراً في العالم الخارجي وقد يتخذ السلوك أشكالاً متعددة وذلك لأن القانون لاينص على الطريقة التي يجب على السلوك اتخاذها ولكن يقتصر على أن يتطلب بأن يحدث هذا السلوك موت إنسان حي ولذلك تعد جرائم القتل من الجرائم التي أطلق عليها کارنیلوتی اسم "الجرائم ذات الشكل الحر" وقد يكون هذا النشاط الإجرامي ايجابياً وقد يكون سلبياً "الامتناع" ولذلك نجد أن الاعتداء في القتل لا يخرج عن أن يكون اعتداء بسلوك إيجابي أو سلوك سلبي .

 ( أ ) القتل بسلوك إيجابي :

يشترط في جريمة القتل المعاقب عليه أن يكون القتل بفعل من الجاني من شأنه إحداث الموت ولاتهم بعد هذه الوسيلة التي استخدمها الجاني لإحداث القتل قد يكون القتل بسلاح ناري أو بآلة حادة أو بجسم ثقيل أو بضربة في مقتل أو بالخنق إلخ إنما يلاحظ أن القتل بإعطاء مواد سامة له حكم خاص ولايشترط أن يكون القتل حاصلاً بيد الجاني مباشرة بل يكفي أن يكون الجاني قد أعد أسباب الموت ومهد له ولو بقى الموت بعد ذلك معلقاً على حكم الظروف فيعد قاتلاً من يضع للمجني عليه في طعامه مواد قاتلة ومن يسلط على المجنى عليه تیاراً من غاز الكربون ومن يحضر لآخر حفرة في طريقة ومن يقطع جسراً يعلم أن المجنى عليه سيعبره ومن يرمي غيره في البحر قاصداً بكل ذلك قتله إذا وقع الموت فعلاً إنما يشترط فقط أن يكون الفعل في ذاته من شأنه إحداث الموت وأن يكون بين الفعل والموت والموت الحادث رابطة السببية .

ويلاحظ أنه لا عبرة بنوع الوسيلة التي يتذرع بها الجاني لإحداث الموت ليست هناك وسيلة مقبولة وأخرى مرفوضة إذ الوسيلة في ذاتها ليست مبعث الخطر وإنما يكمن الخطر فيما يؤدي إليه استعمالها ولهذا تستوي كل الوسائل في جريمة القتل فلا فرق بين وسيلة وأخرى لا من حيث أصل التجريم ولا من العقاب بوجه عام وإنما استثنى الشارع وسيلة القتل بالسم لاعتبارات خاصة فاتخذ منها ظرفاً مشدداً للعقوبة وهذه هي الحالة الوحيدة التي اعتد فيها الشارع بوسيلة القتل وقد تكون الوسيلة قاتلة بطبيعتها ولكنها تؤدي إلى الموت لاستخدامها على وجه معين أو في ظروف معينة ومن أمثلتها الفؤوس والمدى والعصي والحجارة ولأن تكون الوسيلة قاتلة بطبيعتها أو لا تكون أمر لا تأثير له في قيام الجريمة وكل الفارق بين النوعين هو أن الوسيلة القاتلة بطبيعتها غالباً ما تكون الدليل الأول في إثبات قصد القتل في حين أن الوسيلة غير القاتلة بطبيعتها قد تكون الدليل الأول في نفي هذا القصد .

 القتل بالوسيلة المعنوية :

في كل ما سبق فإن الوسيلة المستخدمة في إزهاق الروح هي عبارة عن جسم مادي ملموس ولكن هناك من الحالات ما يمكن بها إزهاق الروح بدون المساس بالجسم ومن شأنها أن تؤدي إلى وفاته والمثال الذي يضرب في هذا الصدد أن يلقي شخص بخبر مزعج إلى آخر مريض أو مسن وهو يعلم بأن من شأن تصرفه بالصورة التي يقدم بها الخبر أن تؤدي إلى إحداث الوفاة والرأي الغالب في هذه الحالة هو اعتبار الفعل قتلاً عمداً لأن الوسيلة ليست ركناً في الجريمة على أنه يجب أن تقوم علاقة السببية بين الفعل والنتيجة ولا يغير من ذلك القول بصعوبة إثبات علاقة السببية بين الوسيلة النفسية وبين الوفاة فتلك أولاً مشكلة إثبات تدخل في مشاكل القانون القضائي ولم يكن الإثبات أبداً معیاراً في تحديد السلوك الذي يشكل عنصراً في الركن المادي للجريمة وتلك ثانياً مشكلة أهل الخبرة وعليهم يقع واجب حلها وكذلك شأن القصد فهو مسألة موضوعية يقع عبء التحقق منه على قاضي الموضوع فإذا تعذر عليه إثبات العمد فلن يتعذر عليه إثبات الخطأ وهكذا يتضح أن الأصل العام بالنسبة لوسيلة القتل صحيح فكل وسيلة تحدث الموت يدينها القانون بغير تفرقة بين وسيلة وأخرى سواء كانت مادية أو معنوية وسواء كانت كذلك بحسب طبيعتها أو بحسب أثرها .

الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية :

إذا كان الفعل ليس من طبيعته ولا من شأنه أن يؤدي للقتل كمن يحاول إطلاق سلاح ناري غير صالح البتة للاستعمال وكذلك من يصوب سلاحاً فارغاً أو يستخدم السحر والوسائط الروحانية في القتل فلا يعد شارعاً في القتل من كل من هذه الصور وأشباهها إذ الاستحالة هنا مطلقة لاتتحقق بها النتيجة في كافة الظروف والأحوال أو بعبارة أوضح ليس من شأن هذه الأفعال ولا من طبيعتها أن تحدث الموت .

أما حالات الاستحالة النسبية بالنظر إلى موضوع الجريمة أو إلى وسائل ارتكابها فلا تمنع من العقاب على الشروع في القتل كإطلاق النار على شخص في المكان الذي ألف الوجود أو البقاء وقت الحادث فإذا به بعيد عنه أو استعمال مسدس صالح للإطلاق ومحشو دون أن يعرف الجاني كيفية استعماله فلا ينطلق في يده أو عدم التصويت فينجو المجنى عليه من الإصابة أو وجود المجني عليه على مسافة أبعد من مرمى السلاح الناري ففي هذه الصور وأشباهها يعاقب الجاني على الشروع في القتل ما دام تعمد إحداث الموت لأن من شأن هذه الأفعال إحداث الوفاة لو أنها استخدمت بمهارة وحذق كاف أو تكررت أو كانت ظروف الزمان والمكان مواتية .

 (ب) القتل بسلوك سلبي :

للسلوك الإنساني مظهران هما الفعل والامتناع ومن الجرائم ما يقع بالفعل الإيجابي وحده ومنها ما يقع بالترك وحده ومنها ما يصح وقوعه بالفعل في حالات وبالترك في حالات .

ثانياً : النتيجة :

 وفاة المجنى عليه :

إزهاق الروح هو الأمر المترتب على سلوك الفاعل وبه تتم جريمة القتل العمد وليس من الضروري أن تتحقق هذه النتيجة أثر نشاط الجاني فيصح أن يكون بين العنصرين فاصل زمني لايمنع من مساءلة الفاعل عن قتل عمد متى توافرت علاقة السببية أما إذا لم تتحقق الوفاة بأن أوقف نشاط الجاني أو خاب أثره لسبب لا دخل لإرادته فيه فإن جريمته تكون شروعاً في قتل عمد متى توافر القصد الجنائي .

ويلاحظ أنه يتعين التفرقة هنا بين النتيجة والضرر فالنتيجة (الموت) هی الأثر المادي الذي أحدث تغيراً في العالم الخارجي لم يكن له وجود من قبل ويسبغ عليه القانون أهمية قانونية أما الضرر فهو الأثر المتولد عن الجريمة ذاتها بما يحدثه من خسارة أو يفوته من کسب وبناءً على ذلك يكون هناك تمييز بين المجني عليه والمضرور في الجريمة وقد تكون النتيجة " نتيجة ضرر" أو " نتيجة "خطر" وبالنسبة للقتل فإن النتيجة التي تتمثل في إزهاق روح إنسان هي من نتائج الضرر لأنها عبارة عن اعتداء بل قضاء تام على مصلحة يحميها القانون .

 ثالثاً : علاقة السببية

جريمة القتل من جرائم النتيجة وهي وفق النموذج القانوني لها إزهاق روح إنسان حي وهذا النوع من الجرائم ينبغي لكي يتوافر الركن المادي له ليس فقط أن يقع من الجاني فعل القتل ولا أن تزهق روح إنسان وإنما أن تتوافر بين فعل الجاني أو امتناعه وبين النتيجة رابطة السببية أي أن تكون " الوفاة" نتيجة للفعل .

بمعنى أن تقوم رابطة السبب بالمسبب أو العلة بالمعلول .

الركن الثالث

القصد الجنائي

القصد المباشر :

القصد المباشر هو الإرادة التي اتجهت على نحو يقيني إلى الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون . وللقصد المباشر صورتان صورة تكون الوفاة فيها هي الغرض الذي يستهدف الجاني تحقيقه بفعله فهو قد ارتكبه من أجل إحداث الوفاة أما الصورة الثانية للقصد المباشر فتفترض أن الوفاة ترتبط على نحو لازم بالغرض الذي استهدف الجاني تحقيقه بفعله فالجاني يسعى إلى تحقيق واقعة معينة ولكن هذه الواقعة ترتبط بها الوفاة ارتباطاً لازماً بحيث لا يتصور بلوغ الجاني غرضه دون أن تتحقق الوفاة مثال ذلك أن يريد مالك سفينة أن يحصل على مبلغ التأمين عليها فيضع فيها قبيل أن تغادر الميناء قنبلة زمنية تنفجر إذا أصبحت في عرض البحر .

 القصد الاحتمالي ( القصد غير المباشر ) :

القصد الاحتمالي هو الحالة الذهنية للشخص الذي يتمثل النتائج الممكنة أو المحتملة لفعله أو الذي يعلم أن وضعاً إجرامياً معيناً يمكن أن ينشأ عن نشاطه مع عدم حصوله فثمة نتيجة إجرامية يتوقعها الجاني أو يتمثلها باعتبارها مجرد ممكنة ثم يرتضي المخاطرة بالإقدام على الفعل .

وعلى ذلك فإن الجاني قد يتعمد جريمة معينة فتتحقق بدلاً منها جريمة أخرى أو قد تتحقق الجريمة المقصودة ومعها جريمة ثانية فطبقاً لنظرية القصد الاحتمالي ينبغي مساءلة الجاني عن جميع النتائج التي تحصل إذا كانت مقبولة منه أو بالأقل متوقع حدوثها بأن كانت جريمته الأولى أو الأساسية تؤدي إليها بحسب السير العادي للأمور على اعتبار أنه كان عليه أن يتوقع هذه النتائج ويفترض إمكان حصولها وهي وإن كانت لا تدخل في قصده الأصيل أي المباشر إلا أنه يمكن افتراض دخولها في قصده الاحتمالي رکناً معنوياً في الجرائم العملية المختلفة .

القصد المحدد وغير المحدد :

إذا كان القصد الجنائي المحدد في القتل معناه انصراف الإرادة إلى إحداث وفاة إنسان معين بالذات فإن القصد غير المحدد حسب التعبير الشائع فقهاً هو انصرافها إلى إحداث وفاة إنسان ما غير معين أو وفاة فئة من الأشخاص مطلقة دون تحديد كما في إلقاء قنبلة أو إطلاق النار على جمع محتشد .

وفي القصد المحدد يريد الجاني على وجه التعيين الفعل الذي يقارفه والضرر الذي ينتج عنه فهو يريد قتل فلان ويقتله ومسئوليته في هذه الصورة واضحة لا شبهة فيها على أن الجاني مسئول أيضاً عن قصده غير المحدود وإن كانت فكرة النتيجة التي يبغي الوصول إليها غير مؤكدة في نفسه بشرط أن يكون قصد القتل بصفة عامة وأن توجد رابطة السببية بين هذا القتل وإرادته فالجاني الذي يطلق عياراً نارياً على جمع محتشد ويقتل شخصاً من هذا الجمع يعد قاتلاً عمداً لأنه وإن لم يتعمد قتل شخص معين ولم يعرف من هو المجني عليه الذي سيصيبه إلا أنه كان لديه قصد القتل .

ولا محل للخلط هنا بين القصد الاحتمالي والقصد غير المحدد فإن القصد غير المحدد يكون عندما ما تتجه نية الجاني لا إلى قتل شخص معين بل شخص أو أشخاص غير معينين وهو وحده كاف في تكوين الركن المعنوي لجريمة القتل أما القصد الاحتمالي فهو توقع وفاة شخص أو أكثر كأثر ممكن يحتمل أن تحدث الوفاة أو لا تحدث ولكنه رحب باحتمال تحققها وجدير بالذكر أنه في حالة القصد غير المحدد لا تتعد جريمة القتل بتعدد المجنى عليهم ما دام الفعل المادي الذي أحدث وفاتهم واحداً .

 الخطأ في شخص المجني عليه :

إذا كان الجاني وقت ارتكاب الفعل عالماً بحقيقة المحل الذي يوجه إليه فعله مدركاً أنه إنسان فقد استوفى القصد الجنائي في جريمة القتل مقوماته ولا يؤثر فيه بعد ذلك ما قد يقع فيه الجاني من غلط يتصل بذات المجنى عليه أو بصفة من صفاته فالذات والصفات أمور لا يعتد بها الشارع في تجريم القتل والعقاب عليه ولذلك فإنها تقع خارج حدود الجريمة فلا يثور حولها في القانون بحث ولا يترتب عليها كقاعدة أثر وعلى ذلك فقد يحدث أن يقتل الجاني شخصاً غير الذي كان يقصده إما بسبب خطأ في شخصية المجنى عليه أو بسبب خطأ في التصويب فإذا كان سبب هذا الخطأ فلا تأثير لهذا الظرف على إجرام القاتل ومسئوليته ذلك لأنه ما دام الفاعل قد قامت لديه نية القتل .

وفي حالة الغلط في الشخص يكون فعل الجاني جريمتين شروع فى قتل الشخص المقصود وقتل تام بالنسبة للشخص الآخر وهذه صورة من صور التعدد المعنوي في الجرائم يقضي فيها بعقوبة الجريمة الأشد وهي القتل التام وفقاً للفقرة الأولى من المادة 32 من قانون العقوبات ومتى حكم على المتهم بهذه العقوبة انتهت المسئولية الجنائية عن الفعل وجميع نتائجه ولما كانت الجريمتان قد وقعتا بفعل واحد فلا تعتبر إحداهما مقترفة بالأخرى وهو الظرف الذي يستتبع تشديد العقوبة في القتل العمد إذ من المسلم أنه لتوافر هذا الظرف يجب أن يكون كل من الجريمتين قد وقع بفعل مستقل متميز عن الفعل الذي وقعت به الأخرى .

الحيدة عن الهدف :

إجماع الفقه والقضاء على أن الحيدة عن الهدف والخطأ في الشخصية أمران لا تأثير لهما في مسئولية الجاني بوصفه مرتكباً جريمة عمدية لا جريمة من جرائم الخطأ أو الإهمال وبالتالي يعتبر قاتلاً عمداً الشخص الذي أصابه بالفعل إذا مات أو شارعاً في قتله إذا نجا من الموت والحيدة عن الهدف هي أن يعمد الجاني إلى قتل زيد من الناس فيطلق عليه مقذوفاً نارياً مثلاً ولكن يخطئه ويصيب بكراً الذي يقف إلى جواره أما الخطأ في شخصية المجنى عليه فهو أن يعمد الجاني إلى قتل زيد من الناس فيخطئ في شخصيته ويصيب بكراً باعتبار أنه هو المقصود بالقتل نظراً إلى حالة الظلام مثلاً أو التشابه بينهما والصورة الأولى تفترض وجود شخصين أمام الجاني أما الثانية فتفترض وجود شخص واحد .

البواعث على القتل :

القاعدة في القانون الجنائي أن لا عبرة بالباعث في التجريم وفي العقاب وإنما للقاضي أن يتعقب البواعث بنظره فيتأثر بها تقديره للعقوبة تخفيفاً أو تشديداً فلا عبرة في القتل بما يرمي إليه القاتل من وراء اغتيال المجني عليه فسواء قصد القتل للانتقام والتشفي أو لغاية دينية أو غرض سیاسی أو لستر فضيحة أو عار للسرقة والحصول على مال الغير بالإكراه أو طمعاً في ميراث أو وصية فالباعث الذي يحرك القاتل للقتل لا اعتداد به شريفاً كان أو خبيثاً وسواء كان هذا الباعث في نظر المجتمع خيراً أو شراً فلا عبرة به من ناحية القانون وإن كان لهذه البواعث الشريفة موجباً لتخفيف العقوبة كما قد یری القاضي التشديد عندما يكون الباعث موسوماً بالشر أو منطوياً على الخبث .

 وقت توافر القصد الجنائي :

 قد يكون قصد القتل معاصراً لفعل القتل كما في إطلاق النار على آخرين بقصد قتله عندئذ لايجدي في دفع مسئولية الفاعل أن يعدل عن قصده أو يحاول إسعاف المجنى عليه فإذا توفي هذا الأخير اعتبر الفاعل رغم ذلك العدول أو تلك المحاولة مسئولاً عن قتل عمد لا عن جرح أفضى إلى الموت ولكن قصد القتل قد تطرأ في الزمن الواقع تنفيذ فعل من شأنه القتل وبين حدوث القتل نتيجة لهذا الفعل كأن يضع صيدلى سماً في الدواء خطأ ويفطن بعدئذ إلى هذا الخطأ دون أن يلفت النظر إليه فيتعاطى المريض الدواء ويموت من أثر السم ويشترط لمؤاخذة الصيدلي عندئذ عن قتل عمد أن يكون في استطاعته تنبيه المرض قبل تعاطي الدواء وألا يفعل ذلك مؤيداً بإرادته حدوث وفاة المريض فإذا لم يكن في استطاعته إجراء هذا التنبيه في الوقت المناسب لظروف مادية حالت دونه فلا يمكن أن ينسب إليه قصد القتل وإنما يسأل عن قتل بإهمال .

اثبات القتل :

تحقيق الركن المادي يقتضي إثبات أمرين الأول قتل إنسان والثاني أن هذا القتل نتيجة فعل أو ترك منسوب للمتهم لذلك تعد الاستعانة بخبير من الأطباء تارة من الأعمال التمهيدية وتارة أول عمل من أعمال التحقيق في حوادث القتل وعمل الطبيب في حوادث القتل لا يقتصر على الكشف الظاهري بل يجب أن يتناول إجراء الصفة التشريحية حتى يتمكن من إبداء رأي صحيح عن أسباب الوفاة لكن لا سبيل إلى تدخل الطبيب إذا لم يعثر على جثة القتيل ومما لاشك فيه أن المحاكمة على القتل لاتتوقف على العثور على الجثة كما أن المحاكمة على أية جريمة أخرى لا تتوقف على وجود جسم الجريمة .

والمظاهر الخارجية التي يستدل بها على وجود النية فهي الظروف التي وقع فيها الاعتداء والغرض الذي كان يرمي إليه الجاني ووسائل التنفيذ وموضع الإصابة وجسامتها وما إلى ذلك وقد يكفي إحداهما للدلالة على نية القتل يستدل على النية من الأدلة التي استعملها الجاني ولو في غير مقتل أو من إصابة المجني عليه في مقتل ولو بآلة لاتؤدي بطبيعتها إلى الموت ومن باب أولى يصح الاستدلال على نية القتل من نوع الآلة وإصابة المجني عليه في مقتل كما يصح الاستدلال عليها بخطورة التي أحدثها المتهم . ( موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثالث ، الصفحة : 200 )

الفقه الإسلامي

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحات : 175  ، 251 ، 252 ، 254 ، 255  ، 31

( مادة 340 ) :

 يعاقب بالحبس من حرض مباشرة على إرتکاب جنايات القتل أو السرقة أو الإتلاف أو الحريق بإحدى طرق العلانية ، إذا لم يترتب على تحريضه أثر . 

( مادة 510 ) :

 يعاقب بالإعدام كل من قتل نفساً عمداً مع سبق الإصرار أو الترصد . 

( مادة 513 )  :

تستبدل بعقوبة الإعدام المنصوص عليها في المادتين (510) و (512) من هذا القانون - عقوبة السجن المؤبد أو المؤقت إذا أجمع أولياء الدم على العفو عن القاتل ، والتصالح معه طبقاً لأحكام الباب السابع من الكتاب الثاني .

 ولا يسري حكم هذه المادة إلا بالنسبة للجاني الذي حصل العفو عنه ، أو التصالح معه . 

( مادة 522 ) :

 كل شخص يلتزم برعاية آخر عاجز عن أن يحصل لنفسه على مقومات الحياة بسبب سنه ، أو حالته الصحية أو العقلية ، أو بسبب تقييد حريته ، سواء كان منشأ إلتزامه القانون أو الإتفاق أو فعل مشروع إمتنع عمداً عن القيام بإلتزامه ، وأفضى ذلك إلى موت المجني عليه أو إصابته - يعاقب بحسب قصده ودرجة الإصابة بالعقوبات المنصوص عليها في المواد (510)، (512)، (513)، (515)، (516)، (517) من هذا القانون . 

 فإذا كان الإمتناع عن خطأ يعاقب على حسب الأحوال بالعقوبات المنصوص عليها في المادتين (520)، (521) من هذا القانون . 

الجرائم الواقعة على الأشخاص 

الفصل الأول 

المساس بحياة الإنسان وسلامة بدنه 

المواد من (510) - (529) : 

أحكام مواد المشروع تتضمن بصفة عامة أحكام المواد من (230) إلى (251)، (265) من القانون القائم ، مع إستحداث بعض الأحكام على ما سببين في موضعه ، وقد رأى المشروع إبقاء المواد الخاصة بحق الدفاع الشرعي عن النفس والمال ضمن مواد هذا الفصل ؛ وذلك لأن وسائل الدفاع الشرعي - بحسب الأصل - تمس سلامة جسد المعتدي ، ومن ثم كان هذا الفصل هو الموضع المناسب لإيراد أحكامها على نحو مفصل ، بعد إذ ورد وحكمها العام في الكتاب الأول ، ومن أهم ما تضمنه هذا الفصل ما يلي : 

١- المادة (512) من المشروع تضمنت الظروف المشددة للقتل ، فبعد أن نصت المادة (510) من المشروع على عقوبة الإعدام للقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، وعرفت المادة (511) سبق الإصرار والترصد وتوافرهما ، نصت المادة (512) المذكورة على عقوبة السجن المؤبد لجريمة القتل العمد بغير سبق إصرار أو ترصد ، ثم عرضت إلى الظروف المشددة التي ترفع العقوبة إلى الإعدام ، وعددتها في فقرات أربع استحدث فيها وسيلة القتل بمادة مفرقعة كظرف مشدد للجريمة ، ووقوع القتل العمد على أحد أصول الجاني أو على موظف عام أو من في حكمه ، أو مكلف بخدمة عامة أثناء تأدية الوظيفة أو الخدمة ، وإذا كان الباعث على القتل العمد دنيئاً ، أو صاحب القتل أعمال تعذيب،  أو مثل بجثة المجني عليه (القتيل) . 

وتكون العقوبة الإعدام أو السجن المؤبد إذا كان الغرض من القتل العمد التأهب لإرتكاب جنحة أو تسهيلها ، أو إرتكبها بالفعل ، أو مساعدة مرتكبها أو الشريك فيها على الهرب أو الإفلات من العقوبة . 

2- رأى المشروع عدم وجود مبرر لتخفيض عقوبة الشريك في القتل المستوجب عقوبة الإعدام التي كانت تعرض لها المادة (235) من القانون القائم ، وذلك بأن هذا الحكم كان يخالف قاعدة أصولية إلتزمها الشارع، ألا وهي أن من إشترك في جريمة فعليه عقوبتها ، ومن ثم ترك الأمر للقاضي حسب ظروف الدعوى وملابساتها وأصول تفريد العقاب ليحدد في نطاق النص القانوني العقوبة التي يراها مناسبة . 

3- المادة (513) من المشروع استحدثت حكماً ، إذ إنه متى تحقق موجبها من إجماع أولياء الدم على العفو عن الجاني أو التصالح معه طبقاً لأحكام الباب السابع من الكتاب الثاني ، عد ذلك عذراً قانونياً مخففاً من شأنه إستبدال عقوبة السجن المؤبد أو المؤقت بالعقوبة المقررة في المادتين (510)، (512) من المشروع على حسب الأحوال ، مع مراعاة أنه إذا تعدد الجناة ، فلا يشمل حكم العذر المخفف إلا من تم العفو عنه ، أو التصالح معه منهم ، وذلك تمشياً مع الحكمة من سقوط القصاص بعفو أولياء الدم ، أو تصالحهم مع الجاني ، ولئن منع العفو أو الصلح القصاص ، فإنه لا يمنع العقوبة التعزيرية، إلا أنه كان حرياً بالمشروع أن يخفف عقوبة الإعدام نزولاً على هذا العفو أو الصلح . 

4 - المادة (515) في فقرتها الثانية ، استحدثت ظرفاً مشدداً لجريمة إحداث العاهة المستديمة ، وذلك برفع العقوبة إلى السجن المؤقت إذا تعمد الجاني في إحداث العاهة أو توفر قبله أي من الظروف المشار إليها في الفقرات الثلاث الأولى من المادة (515) من المشروع . 

والفقرة الأخيرة من المادة تعتبر في حكم العاهة كل تشويه جسيم لا يحتمل زواله ، ومع أن التشويه لا يترتب عليه قطع أو إنفصال عضو أو بتر جزء منه أو فقد منفعة أو نقصانها أو تعطيل وظيفة إحدى الحواس بصورة كلية أو جزئية دائماً ، فإن المشروع رأى إعتبار التشويه الجسيم في حكم ذلك ، فإن يترتب على التشويه أياً كان فقد أو تعطيل شيء مما ورد ذكره في الفقرة الثالثة من المادة - فلا مشاحة في إنطباقها من باب أولى ؛ لأنها تكون هي الأصل . 

5- المادة (519) من المشروع استحدثت لأول مرة في التشريع المصري عقاب التحريض على الإنتحار أو المساعدة عليه بأية وسيلة ، يستوي أن يتم الإنتحار بناء على ذلك التحريض وهذه المساعدة أم يشرع فيه ، على أنه إذا كان المنتحر لم يبلغ الثامنة عشرة أو كان ناقص الإدراك أو الإختيار - عد ذلك ظرفاً مشدداً يرفع عقوبة المحرض أو المساعد إلى السجن المؤقت ، وهذا النص مستلهم من الشريعة الإسلامية فيما حرمه المصدر الأول لها وهو القرآن الكريم ، من تحريم قتل النفس سواء تم ذلك بمعرفة الجاني أم غيره ، فكان حقيقاً بالمشروع أن يؤثم المحرض أو المساعد على ذلك .

6- المادة (520) من المشروع تعرض لجريمة القتل الخطأ ، وقد غلظ المشروع العقوبة إلى الحبس لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على عشر سنوات ، إذا توافر أي من الظروف المشددة المنصوص عليها في الفقرات الأربع من المادة ؛ وذلك لأن الإخلال الوارد في الفقرات يخالف أصول وظيفة المتهم أو مهنته أو حرفته التي يزاولها بالفعل ، وهو ما يوجب عليه من الحيطة والحذر ومراعاة دواعي السلامة - ما يحفظ حياة الآخرين كما أن وقوع الجريمة والجاني تحت تأثير سكر أو تخدير أو عقار تناوله عن حرية وإختيار - ينبئ عن الإستهتار والعبث والجنوح عن الجادة ، فكان لزاماً إعتبار ذلك ظرفاً مشدداً ، كما أن نكول الجاني عن مساعدة المجني عليه أو عن طلب المساعدة له مع القدرة على ذلك - إن دل على شيء فإنما يدل على الإستخفاف بأرواح الناس ، والقعود عن مد يد العون أو طلبها مع القدرة على الإغاثة ، فكان لزاماً إعتبار ذلك القعود والنكول ظرفاً مشدداً ، هذا إلى أنه إذا نشأ عن الفعل موت ثلاثة أشخاص على الأقل - عد ذلك أيضاً ظرفاً مشدداً له حكم الظرف السابق من حيث تغليظ العقوبة .

7- المادة (521) من المشروع تعرض لحالة الإصابة الخطأ، وقد نصت الفقرة الثانية منها على الأخذ بحكم الظروف المشددة المنصوص عليها في المادة السابقة ، بمعنى أنه إذا نشأت الإصابة مع توافر ظرف منها غلظت العقوبة ، فإن توافر ظرفان زيدت العقوبة أكثر . 

واستبقى النص حالة ما إذا نشأ عن الجريمة إصابة ثلاثة أشخاص على الأقل ، أو نشأ عنها عاهة مستديمة أو تشويه جسيم لا يحتمل زواله ، کظروف مشددة لجريمة الإصابة الخطأ ، ترفع العقوبة على نحو ما أفصح عنه النص .

8- المادة (522) من المشروع وهي مستحدثة ، وتتناول بالعقاب حالتي الإمتناع العمدي والإمتناع عن خطأ ، عن القيام بإلتزام رعاية شخص عاجز عن الحصول لنفسه على مقومات الحياة بسبب سنه أو حالته الصحية أو العقلية ، أو بسبب تقييد حريته ، سواء كان منشأ هذا الإلتزام القانون أو الإتفاق أو فعل مشروع أو غير مشروع، إذا ما ترتب على إمتناعه موت المجني عليه أو إصابته ، وتكون العقوبة في حالة الإمتناع العمدي وحسب قصد الجاني ودرجة الإصابة - إحدى العقوبات المنصوص عليها في المواد (510)، (512)، (513)، (516)، (517) من المشروع، فإن كان الإمتناع عن خطأ ، يعاقب الجاني على حسب الأحوال بعقوبة من المنصوص عليه في المادتين (520)، (521) من المشروع . 

9- المادة (526) من المشروع تعرض لحالة مجاوزة حق الدفاع الشرعي بحسن نية ، وقد اعتبر المشروع قیام حسن النية مع هذا التجاوز عذراً قانونياً يوجب على القاضي توقيع العقوبة المخففة الواردة في النص ، وكان نص المادة (251) من القانون القائم يعتبر هذا التجاوز حسن النية عذراً قضائياً يجيز تخفيف العقوبة ، وأخيراً أجاز النص للمحكمة العفو عن المتهم . 

10- خلت نصوص هذا الفصل من حكم مماثل لحكم المادة (237) من القانون القائم، وذلك إكتفاء بوجود حكم مماثل لها في شأن الجناية على النفس الوارد ، ضمن جرائم الحدود والقصاص في الكتاب الثاني من هذا المشروع . 

(مادة 19 ) 

يتوافر العمد إذا ارتكب الجاني السلوك الإجرامي بإرادته وعلمه وبنية إحداث نتيجته، ولا عبرة في توافر العمد بالباعث على ارتكاب الجريمة، إلا إذا نص القانون على غير ذلك .

 ويتحقق العمد أيضاً إذا توقع الجاني لتيجة لسلوكه، فأقدم على ارتكابه قابلاً حدوثها . 

 

أما بالنسبة إلى الفصل الثالث الخاص بأركان الجريمة المواد (17) - (20)) : فقد عالج المشروع الركن المادي للجريمة والعمد والخطأ غير العمدي، بوصفها جوهر الركن المعنوي للجريمة الذي يفترض بالإضافة إلى ذلك توافر الأهلية الجنائية للشخص . 

وبالنسبة إلى الركن المادي للجريمة فقد عبر عنه المشروع في المادة (17) التي نصت على أنه: «لا تسند الجريمة إلى شخص ما لم تكن قد وقعت نتيجة لسلوكه فعلاً وامتناعاً» . 

وهذا النص يوضح عناصر الركن المادي للجريمة، وهي السلوك الإجرامي ممثلاً في الفعل أو الامتناع، والنتيجة، وعلاقة السببية . 

ويساند القرآن الكريم في مواضع عدة شرط توافر علاقة السببية بين السلوك والنتيجة، مثل قوله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ) [النجم: 39]، وقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [المدثر: 38]، والسبب في الشريعة الإسلامية هو نشاط الجاني الذي تترتب عليه النتائج الجنائية التي تتضمن انتهاكاً للمصالح والمقاصد الشرعية، وذلك أن الشرع الإسلامي يحرص على الضروريات لحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والعرض والمال، كما يحمي الحاجات التي تيسر للناس سبل حياتهم، فالفعل الإجرامي يعد إضراراً بالمقاصد الشرعية مع حفظ الضروريات أو الحاجيات، كإزهاق الروح المسبب عن حز الرقبة، والسكر الناشئ عن الشرب عند أبي حنيفة، وقد أشار فقهاء المسلمين إلى توفر علاقة السبية وضرورتها، فإذا جرح رجل آخر عمدا وصار ذا فراش ومات يقتص منه؛ لأن الجرح سبب ظاهر لموته، فيحمل الموت عليه ما لم يوجد ما يقطعه. (تبيين الحقائق للزيلعي، جـ (6) ص (109)، ويراجع المغني لابن قدامة، ج (7) ص (683)، (684)) . 

وتتوافر علاقة السببية سواء باشر الجاني الفعل والنتيجة بنفسه دون توافر عوامل أخرى، أو إذا قام بالفعل إلا أن النتيجة اشتركت في إحداثها عوامل أخرى غير فعل الجاني، ويطلق الشرعيون على الحالة الأولى تعبير المباشرة، ويسمون الحالة الثانية التسبب .

 ومثال المباشرة: أن يقتل شخص آخر بسكين فيموت على الفور أما التسبب، فمثاله: أن يطلق شخص ناراً على شخص آخر فينقل إلى المستشفى، ويخطى الطبيب في علاجه، ويموت متأثراً بجراحه وإهمال الطبيب . 

إلا أنه في الشريعة الإسلامية لا تجب عقوبة الحد أو القصاص إلا في حالة المباشرة دون التسبب فلا يعاقب المتسبب بعقوبة الحد، وإنما يعاقب بعقوبة تعزيرية، فتدخل عوامل وسيطة مؤثرة في إحداث النتيجة يعد شبهة يدرأ معها الحد أو القصاص . 

وقد حاول الفقهاء المسلمون الاحتياط ما أمكن في توقيع عقوبات الحدود فجعلوها على المباشر وحده، وقد جاء في الفتاوى الكبرى: إذا اشترك جماعة في قتل معصوم عمداً ، يجب عليهم القصاص إذا باشروا جميعاً قتله، وإن كان بعضهم باشر والبعض كان قائماً يحرس، ففي ذلك قولان يرى مالك أن القصاص على الجميع، ويرى أبو حنيفة والشافعي وأحمد أن القصاص على المباشر (الفتاوى الكبرى، ج (4)، ص (222)). كما ورد في السرقة أنه إذا دخل جماعة من اللصوص منزلاً وأخذوا متاعاً ، وحملوه على ظهر واحد، وأخرجوه من المنزل، فألقياه، فالقول ألا تقطع يد الحامل وهو قول زفر، وقيل: يقطعون جميعاً استحساناً. (البدائع جـ (7) ص (65)، (66)). غير أن الفقهاء قد راعو طبيعة بعض الجرائم التي تحتاج إلى تعاون عدد من الناس، مثل جريمة الحرابة، فنجد أن الحد يطبق على المباشر وعلى المعين كمن يحرس الطريق أثناء ارتكاب جريمة الحرابة. (المبسوط جـ (9) ص (146)) . 

ومعنى ذلك أن المساهمة في الجريمة بطريق التسبب هو نشاط إجرامي مؤثم شرعاً وغاية الفرق هو القول بامتناع توقيع عقوبة الحد أو القصاص إلا على المباشر، والمباشر من يرتكب فعلاً أو أفعالاً تؤدي إلى النتيجة الإجرامية دون تدخل عوامل أخرى أو وساطة كمن يقتل شخصاً بطلق ناري أو بضربات متلاحقة من عصا غليظة على رأسه، أما المتسبب فهو من يأتي فعلاً أو أفعالاً تؤدي مع غيرها من العوامل أو الوسائط إلى حصول النتيجة على نقيض جري العادة (المسئولية المدنية والجنائية للشيخ شلتوت، ص (19)، وما بعدها) ومثال ذلك من يحفر بئراً في الطريق قاصداً أن يتردى فيه إنسان فيموت، وقد سبق أن ذكرنا أن بعض الفقهاء في خصوص الحدود قد يسوون في العقوبة بين المباشر والمتسبب، كما في جريمة الحرابة، وذلك كما يبدو في التعليل لأسباب عملية تتعلق بهذه الجريمة بالذات، واعتمادها في الغالب على التضافر بين مرتكبيها (بدائع الصنائع، ج (9) ص (4226)) . 

وتأكيداً لأهمية توافر علاقة السببية بين السلوك والنتيجة نصت المادة (18) من المشروع على أن تنتفي رابطة السببية بين السلوك والنتيجة، إذا توافر سبب كافي بذاته لإحداث النتيجة، وفي هذه الحالة تقتصر مسئولية الشخص على سلوكه إذا كان معاقباً عليه مستقلاً عن النتيجة ومثال انقطاع علاقة السببية ما لم لو كان فعل أحد الجناة قد وقع مع استحالة الجريمة ذاتها، كما لو جنى رجل على آخر جناية أخرجته عن حكم الحياة مثل ذبحه ثم ضرب آخر عنقه، فالأول هو القاتل، أما إذا كان جرح الأول للمجني عليه يؤدي إلى الموت لا محالة، ولكنه مع ذلك لم يخرجه عن حكم الحياة، ثم ضربه الجاني فيكون قاتلاً ؛ لأنه فوت حياة مستقرة. (المغني لابن قدامة، جـ (7) ص (684)) .

 

ويتفق هذا النص مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي لا تشترط أن يكون سلوك الجاني هو السبب الوحيد المحدث للنتيجة، بل يكفي أن يكون سلوك الجاني سبباً فعالاً في إحداث النتيجة وقد اختلفت في هذا الشأن نظريات القانون الوضعي، فمنها ما يأخذ بتعادل الأسباب سواء أكانت فعالة في إحداث النتيجة أو غير فعالة، ومنها ما يأخذ بنظرية السبب الأقوى، ومنها ما يأخذ بنظرية السبب الملائم أما الشريعة الإسلامية فإنها تشترط أن يفضي السلوك الإجرامي إلى النتيجة، ولو تدخلت عوامل أخرى، طالما كان العرف يعتبر السلوك - رغم هذه العوامل - مؤدياً إلى النتيجة، وبناء على ذلك فإن كفاية السبب وفقاً المجريات الأمور أو مقتضى العادة، هو معیار توافر رابطة السببية في الشريعة الإسلامية مهما توافرت عوامل أخرى ساهمت في إحداث النتيجة وقد عبرت المادة (18) من المشروع عن ذلك حين نصت على انتقاء رابطة السببية إذا توافر سبب کافي بذاته لإحداث النتيجة . 

فالكفاية صفة موضوعية في السبب تقدر وفقاً للمجرى العادي للأمور بحسب ما تعارف عليه الناس . 

وقد عني المشروع بعد ذلك ببحث جوهر الركن المعنوي للجريمة، وهو العمد أو الخطأ غير العمدي فلا يكفي إسناد الفعل مادياً إلى الشخص، وإنها يجب أن يقترن بالإثم الجنائي هذا الإثم الذي يأخذ إما صورة العمد أو صورة الخطأ غير العمدي فبدون توافر هذا الإثم لا يكون الشخص مسئولاً وقد فرق القرآن الكريم بين العمد وبين الخطأ غير العمدي، فقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) . 

والمقصود هو عدم تسوية المخطئ بالعامد، وقد ثبت هذا في القرآن الكريم بالتفرقة الواضحة بين القتل العمد وبين القتل الخطأ في العقوبة الدنيوية والأخروية، ذلك أن القاتل عمداً جزاؤه عدا القصاص جهنم خالدا فيها أبداً ، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً   أليهما وأما القتل الخطأ فإن العقوبة هي الكفارة والدية، ومن الأصول المستقرة في الشرع الإسلامي بوجه عام أن النية أو القصد لها أثرها في الجزاء على العمل سواء كان دنيوياً أو أخروياً وذلك طبقاً للحديث الشريف: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى»، وهو متفق عليه . 

وبالنسبة للعمد فقد نصت المادة (19) من المشروع على أن يتوافر العمد إذا ارتكب الجاني السلوك الإجرامي بإرادته وعلمه وبنية إحداث نتيجته، ولا عبرة في توافر العمد بالباعث على ارتكاب الجريمة، إلا إذا نص القانون على غير ذلك . 

ويتحقق العمد أيضاً إذا توقع الجاني النتيجة لسلوكه فأقدم على ارتكابه قابلاً حدوثها . 

وقد فرقت الشريعة الإسلامية بين العمد والباعث، أي بين قصد العدوان (العمد)، وبين الدوافع التي دفعت الجاني للعدوان، ولم تجعل الشريعة للباعث على ارتكابه الجريمة أي تأثير على تكوين الجريمة أو على العقوبة المقررة لها، على أن للباعث من الوجهة العملية أثراً على عقوبات التعازير دون غيرها من العقوبات الحدية أو عقوبة القصاص، وذلك أن عقوبة الحدود أو القصاص قدرها الشارع، ولا مجال لزيادة عنها، أو التخفيض من قدرها عند ثبوت الجريمة أياً كان الباعث على ارتكابها، ويلاحظ أن جرائم الحدود والقصاص التي لا أثر للباعث عليها في تقدير العقوبة، تشمل الجرائم العادية أي التي تحدث في كل مجتمع، والتي تنتهك أهم مقاصد الشارع، وهي حفظ الدين والنفس والمال كما يستند ذلك إلى مبدأ أصيل في الشرع الإسلامي، وهو تساوي النفوس في حرمتها، ووجوب حفظها من العدوان الذي لا يبرره سوى الحق وحده، لا ما يتصوره بعض الناس مبرراً لارتكاب العدوان على النفس أو المال . 

وقد عني المشروع في تعريف العمد بأن يتسع للعمد الاحتمالي، حيث يتوقع الجاني النتيجة لسلوكه فيقدم على ارتكابه قابلاً حدوثها وهذا العمد الاحتمالي يختلف عن شبه العمد، ومعناه: إتيان السلوك دون أن تتجه نية الجاني إلى إحداث النتيجة (دون أن يقبل حدوثها)، مثال ذلك: إلى الضرب المفضي إلى الموت، تعريض الأطفال للخطر المفضي إلى الموت وفي صورة شبه العمد لا تكون حيال عمد محض ولا خطأ محض، وإنما يوجد جمع بين العمد والخطا، إذ يكون فيه الضرب متعمداً والوفاة غير متعمدة وقد أوضح بعض فقهاء المسلمين ذلك، كما ورد في المغني لابن قدامة في جريمة القتل شبه العمد: کا لو ضربه بها يقتل غالباً ، إما بقصد العدوان عليه، أو بقصد التأديب كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير والوكز باليد، ولكنه مات - فإنه شبه عمد ؛ لأنه قصد الضرب دون القتل (ج (7) ص (650))، ويراجع تبيين الحقائق (جـ (6) ص (100)، (101)، والمجموع جـ (17) ص (331)) . 

الجناية على النفس : 

يعرف الشرع الإسلامي للنفس الإنسانية منزلتها؛ تحقيقا لقوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء، آية: 70]، ولذلك كان من مقاصد الشريعة حفظ النفس كإحدى الضروريات الخمس إلى جانب حفظ الدين والعقل والنسل والمال، ومن ثم كان التشريع الجنائي الإسلامي في مجال جرائم الاعتداء على النفس بالقتل أو بها دونه - صادرا عن الاحتفال بالنفس الإنسانية ومعرفة قدرها، وعن العدل المطلق في تحديد عقوبات هذه الجرائم والاحتياط في إنزالها على من يستحقها، كما يصدر عن إدراك كامل الأحوال الناس وحاجاتهم ومدى اختلافهم بحسب تنوع المجتمعات وتغير المكان أو الزمان . 

ولقد شدد الشرع الإسلامي النكير على من يقتل النفس الإنسانية بغير حق، يقول تعالى: ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء، آية: 93]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم بغير حق». حتى لقد رأى بعض علماء المسلمين أن قاتل النفس بغير حق لا تقبل له توبة، وكل ذلك بسبب استعظام الشرع الإسلامي لهذا الجرم حتى لا يستهين به الناس، ولا يكون ثمة مجال لشيوعه في مجتمع مسلم . 

وجوب شريعة القصاص : 

ومن أجل حفظ النفس الإنسانية وصيانتها كانت شريعة القصاص في جرائم الاعتداء على النفس، ولقد كانت شريعة لبني إسرائيل في التوراة، يقول تعالى: ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ [المائدة، آية: 45]، وظلت باقية حتى فرضها الله على المسلمين، بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ. [البقرة، آية: 178]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتله. ولا خلاف بين علماء المسلمين في وجوب تطبيق شريعة القصاص في جرائم القتل العمد العدوان .  

معنى القصاص وحكمته : 

القصاص معناه : المساواة بين الجريمة وبين العقوبة، فالقتل العمد يعاقب عليه بالقتل أصلا، إلا أن يعفو ولي الدم عن القاتل نظير الدية أو بلا مقابل، وهذه التسوية بين الجريمة والعقوبة تجعل قدر العقاب بعيداً عن التحكم ويظهر فيه العدل، ولا يغلق باب الفضل مع مراعاة مصالح الناس وحاجاتهم . 

والقصاص في جرائم القتل العمد يقضي على فكرة الانتقام الشخصي من الجاني، ويعاون في القضاء على ظاهرة الثأر المنتشرة في بعض المجتمعات، ذلك أن الشرع الإسلامي قد راعى اعتباراً عملياً لا يمكن إنكاره أو حتى التقليل من شأنه، وهو أن جريمة القتل تقع على إنسان بعينه وتصيب أقرب الناس إليه بالأذى، سواء أكان معنوياً أم مادياً، ولا ريب أن المجتمع كله يتأذى من قتل النفس بغير حق، ولكن مساس الجريمة بأولياء دم المجني عليه أبلغ من مساسها بالمجتمع، ومن ثم فإن لأولئك في الشرع سلطان يستطيعون به أن يشفوا أنفسهم من الجاني عن طريق القضاء، ويستطيعون أن يدركوا به مصلحتهم إن رضيت نفوسهم بالدية أو بالعفو مطلقا، ولا ترد فكرة الانتقام أو الثأر البتة؛ لأن شريعة القصاص تقضي على جذورها التي ترجع إلى أن أقرب الناس إلى القتيل لا يجدون في عقوبة السجن التي توقع على الجاني شفاء للنفوس، فضلا عن إدراكهم أن السلطان الذي أولاهم إياه الشرع في طلب القصاص من القاتل قد انتزع منهم بلا حق، وهو السلطان الذي نصت عليه الآية الكريمة: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (33) [الإسراء، آية: 33). وينبغي التنويه في هذا المقام إلى أن المجني عليه أو ولي دمه مخير بين طلب القصاص أو العفو المجاني، والدية، أو الصلح على مال، وإن كلا من هذه الخيارات رهينة بمشيئته ورضائه الحر، يتخير من بينها ما يرى فيه شفاء لنفسه، وفي ذلك ما يقطع دابر التفكير في أي ثأر من بعد هذا التخيير الرضائي المحض . 

وقد يظن البعض ممن لم يعرفوا الشريعة حق المعرفة أن القصاص متروك أمره لأولياء الدم، فيكون فيه أثر من فكرة الانتقام الشخصي، وذلك وهم باطل؛ لأن القصاص من القاتل بإعدامه يصدر به حكم من القضاء بعد أن يقوم الدليل الشرعي على ثبوت جريمة القتل على الجاني، وأولياء الدم يقف سلطانهم عند اختيار ما يشفي نفوسهم، أو تتحقق به مصلحتهم من طلب القصاص من القاتل أو الرضاء بالدية أو العفو، فشريعة القصاص تصون حياة الجاني حتى يصدر الحكم عليه بقتله قصاصاً بناء على طلب ولي الدم، بينما لا يعرف الانتقام سوى حكم النفس وشهوة الثأر بلا دلیل قائم، وإذا كانت شريعة القصاص أصلها وعمادها المساواة، فإن الانتقام لا يعرف تسوية ولا يرضى العدل في العقاب، ويكفي أن الله تعالى قد قرن السلطان الذي أولاه لولي الدم بالنهي عن الإسراف في القتل؛ لأن شريعة القصاص أصلها كما ذكرنا التسوية والعدل في الجزاء، بينما الانتقام يقوم على الظلم والإسراف في العقاب . 

وجدير بالذكر أن مسلك التشريعات الجنائية الوضعية قد شابه التردد في شأن عقوبة الإعدام كجزاء لجريمة قتل النفس عمداً، وارتفعت دعوات تنادي بأنه ليس من حق المجتمع أن يوقع هذه العقوبة بأحد أفراده وأن يسلبه حياته، بينما بقي جانب كبير من العلماء والمفكرين على وجوب إبقاء عقوبة الإعدام لما يظهر فيها من عدل كجزاء على جرائم القتل العمد، ولما يتحقق بها من ردع للقتلة وزجر لغيرهم في أخطر جريمة تقع على الإنسان، ووسط هذا التردد يقف الشرع الإسلامي - الشريعة القصاص - موقفاً لا تردد فيه ولا يمكن أن يتوجه إليه نقد من كلا الطرفين؛ لأنه أبقى على العقوبة - وهي القصاص من القاتل - حين يكون إعدامه محققاً للجزاء العادل وللمصلحة من إبعاد فكرة الانتقام والنار، وفتح الطريق لعدم إعمال هذه العقوبة حين يكون أقرب الناس إلى المجني عليه وأولاهم بطلب العدل في مقتله - قد شفیت نفوسهم، وتحققت مصلحتهم بعد أن مارسوا الحق الذي أعطاه الشارع لهم، وأبقى الشرع الإسلامي بعد ذلك للحاكم حق تعزير القاتل الذي عفا عنه أولياء الدم، أو رضیت نفوسهم بالدية منعا للفساد في الأرض، وقياماً بحق المجتمع في الأمن وحفظ النفس وصيانتها، وبذلك تنأى شريعة القصاص عن الإفراط أو التفريط في حق الفرد أو المجتمع، وليس أدل على تردد التشريعات الوضعية في الإبقاء على عقوبة الإعدام أو إلغائها من أن عقوبة الإعدام بعد أن ألغيت في بعض الدول كإيطاليا ورومانيا والبرتغال - أعيدت إلى توقيعها . 

وفي عام 1955 رفض مجلس العموم البريطاني اقتراحاً بإلغاء عقوبة الإعدام لفترة معينة على سبيل التجربة، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن المحكمة الدستورية العليا قد اتخذت قرارا بتاريخ (29) من يونية سنة 1972 بأغلبية خمسة أصوات ضد أربعة باعتبار عقوبة الإعدام غير دستورية . 

وذلك فإن الشرع الإسلامي يبدو وسط هذه التشريعات الوضعية وقد أدرك العدل بتقريره القصاص أصلا عقوبة لجريمة القتل العمد، ويفتح باب العدول فيها إلى الدية، الإدراك مصلحة محققة لأقرب الناس إلى المجني عليه أو للمجتمع، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ  [البقرة، الآية: 179] 

قال ابن القيم : 

لولا القصاص لفسد العالم، وأهلك الناس بعضهم بعضاً ابتداءً واستيفاءً، فكان في القصاص دفقا لمفسدة التحري على الدماء بالجناية وبالاستيفاء، وقد قالت العرب في جاهليتها: القتل أنفي للقتل، وبسفك الدماء تحقن الدماء. فلم تغسل النجاسة بالنجاسة بل الجناية نجاسة، والقصاص طهره، وإذا لم يكن بد من موت القاتل ومن استحق القتل فموته بالسيف أنفع له في عاجلته وآجلته، والموت به أسرع الموتات وأرجاها وأقلها ألم، فموته به مصلحة له ولأولياء القتيل ولعموم الناس، وجرى ذلك مجرى إتلاف الحيوان بذبحه لمصلحة الآدمي، فإنه حسن وإن كان في ذبحه إضرار بالحيوان، فالمصالح المرتبة على ذبحه أضعاف أضعاف مفسدة إتلافه . 

وخلاصة القول : أن شريعة القصاص في جريمة القتل العمد يتمثل فيها العدل بالتسوية بين الجريمة وعقوبتها، كما تتلاقى هذه الشريعة مع النفس الإنسانية التي تعتبر جريمة القتل واقعة بها أو بأقرب الناس إليها أولا ثم بالمجتمع - وهي النظرة العملية السليمة، وفضلا عن ذلك تقضي شريعة القصاص على كل نزعة للانتقام الشخصي أو الثأر من الجاني، ما دام حكم الشرع هو القصاص أصلاً - ما لم يرض أولياء الدم بالدية أو بغيرها، وأخيرا فإن إنزال القصاص بالجاني قد أحاطه الشارع بضمانات لا يعرفها القانون الوضعي في مجال الإثبات وفي مجال التنفيذ؛ إذ إن إثبات الجريمة التي تستوجب الإعدام قصاصاً لا يكون إلا بالدليل الشرعي، وتنفيذ العقوبة فعلاً يكون بعد القضاء بها وبعد انتفاء العفو من أولياء الدم . 

المبادئ العامة في تقنين شريعة القصاص : 

راعى مشروع القانون أن شريعة القصاص في أحكامها تستند إلى قواعد أصلية في التشريع الجنائي الإسلامي الذي يعرف كل ما أوردته القوانين الوضعية من قواعد التجريم والعقاب، وقد ارتأت اللجنة أن المبادئ العامة التي وردت في قانون العقوبات تستند إلى أساس شرعي فأبقت عليها، فقد بحث الفقهاء المسلمون على هدي ما ورد من نصوص في القرآن الكريم أو السنة النبوية حكم المساهمة الجنائية، وعرفوا تعدد الفاعلين وطرق الاشتراك من التحريض أو الاتفاق أو المساعدة، وكذلك تعدد الجرائم والعقوبات، وبحثوا كذلك أساس المسئولية الجنائية، وأسباب انتفائها، وأوردوا حكم الضرورة التي تلجئ وأثره في المسئولية، وتناولوا أسباب الإباحة بحالاتها الواردة في القانون الوضعي من استعمال الحق، أو أداء الواجب، أو الدفاع الشرعي - وهو ما يطلق عليه في الشريعة دفع الصائل -، وصغر السن، ومن الجنون أو العاهة في العقل، ولا نكاد نجد في المبادئ العامة في هذا القانون موضوعا إلا ونجده في الشرع الإسلامي، ولذلك وبعد أن تبين أن ما نص عليه هذا القانون من هذه المبادئ لا يعدم سنداً من الفقه الإسلامي؛ لتعدد مذاهبه وغناها بالبحث والتأصيل - فإنه يتعين الرجوع إلى هذه المبادئ . 

واختارت اللجنة من مذاهب الفقه الإسلامي في أحكام المشروع - أقرب المذاهب والآراء إلى حياة الناس في هذا العصر، سواء أقوال المتقدمين أو المتأخرين من فقهاء المذاهب الإسلامية، كما استعانت بها كتبه المحدثون من الفقهاء في هذه الموضوعات دون التقيد بمذهب معين يجري على كل الأحكام، وهي خطة سليمة سبق أن أتبعها المشروع المصري من قديم في نصوص قوانين الأحوال الشخصية . 

وقد رأت اللجنة أن تعالج في هذا المشروع أحكام القتل شبه العمد، وهو ما يسمى في القانون الوضعي الضرب المفضي إلى الموت، وتجب فيه الدية أصلاً في الشرع الإسلامي، كما تناول المشروع أحكام جريمة القتل الخطأ، وتجب فيه الدية، وأحكام إسقاط الجنين وما يستحق لذويه من غرة مقدرة (الغرة نصف عشر الدية). ولا شك أن هذه الجرائم يجمعها أنها قتل نفس عمداً أو شبه عمد أو خطأ، ويجمعها كذلك أن الدية قد تجب في القتل العمد إذا لم يكن مستوجباً لعقوبة القتل قصاصاً، وأن الدية تستحق لأولياء الدم في حالتي القتل شبه العمد والقتل الخطأ في كل حال . 

وتعزيزاً لحق المجتمع في العقاب، وتمكيناً للدولة من مقاومة الإجرام - وهما من المقررات الإسلامية - فرق المشروع بين القتل العمد الذي يستوجب بحسب الشرع عقوبة الإعدام قصاصا، وبين الجرائم التي لا تستوجب هذا القصاص، فأبقى على أحكام القانون الوضعي في شأنها، كما أحال إليه في شأن عقوبة القتل شبه العمد والقتل الخطأ، وقد راعی المشروع في الجملة أن يضيف - ما أوجبته الشريعة الإسلامية من ميزات تتعلق بحقوق أولياء الدم في الدية، أو بحقوق الجاني في الضمانات التي تتاح له قبل الحكم عليه أو قبل تنفيذ العقوبة - إلى ما ورد بصفة عامة في القانون الوضعي، وجمعا بين ما جرى عليه العمل وما ينتظره الناس من أمل عند العمل بهذا التشريع . 

وأضاف المشروع أحكاما مستحدثة أصلها تجريم القتل بالترك، سواء أكان قتلاً عمداً أم قتلاً شبه عمد، وهو تقدم في سياسة التجريم يجد سنده في أحكام الشرع الإسلامي، كما جرم واقعة تستوي مع الشهادة الزور التي تؤدي إلى الحكم بالإعدام وينفذ الحكم، وهي إكراه متهم على الإقرار على نفسه بجريمة استوجبت الحكم عليه بالإعدام ونفذ عليه الحكم، وأضاف المشروع في حكم العذر المخفف عند قتل الزوج زوجته المتلبسة بالزنا بأن مد حكم العذر إلى الأب والابن والأخت، ولذلك سنده من الشرع وأخذت به بعض التشريعات الوضعية كالقانون الإيطالي والقانون الليبي، مما يجعل هذه الأحكام وغيرها مما أضافه المشروع استكمالا لنقص واتجاها إلى الأفضل في السياسة الجنائية . 

ونظراً لأن أحكام المشروع كلها روعي فيها أن تدخل في التطبيق في ظل أحكام قانون الإجراءات الجنائية، فقد أحيل إليه عمداً ما نص عليه من أحكام مستحدثة لا نظير لها في ذلك القانون، وفيما يلي التعليق على أحكام المشروع . 

الفصل الأول 

في القتل وإسقاط الجنين 

مادة (189) : کل بالغ قتل نفساً عمداً يعاقب بالإعدام قصاصاً إذا كان المقتول معصوم الدم وليس فرعاً للقاتل، ونفس الذكر والأنثى والمسلم وغير المسلم سواء . 

الإيضاح 

(1) في القتل العمد : 

قال في المصباح : قتلته قتلاً أزهقت روحه فهو قتيل، والمرأة قتيل أيضاً إذا كان وصفاً، والجمع قتلى (المصباح المنير (2)/ (70)) . 

وفي مادة عمد: عمدت للشيء عمداً من باب ضرب، وعمدت إليه قصدته وتعمدته وقصدت إليه أيضا، والحاصل أن معنى القتل العمد لغة إزهاق الروح قصداً . 

في مذهب الحنفية 

قال أبو حنيفة : 

القتل العمد الموجب للقصاص ما تعمد فيه ضرب المقتول بسلاح أو ما أجري مجرى السلاح (الهداية مع تکملة فتح القدير (8)/ (245))، أو هو: تعمد ضرب الآدمي بالحديد - سواء كان له حد كالسيف والسكين، أو طعن کالرمح أو الإبرة - في مقتل، أو با كان الحديد في تفريق الأجزاء المحدد من الخشب، والحجر، والزجاج، والليطة - قشر القصب - وكالنار، ومثل الحديد في ذلك غيره من المعادن كالنحاس، والرصاص، والذهب، والفضة. أما آلة القتل المتخذة من الحديد وما يشبهه إذا كانت غير محددة کالعمود و صنجة الميزان فقد اختلف الحكم فيها، فعلى ظاهر الرواية: يكون القتل بها عمداً، ولا يشترط في الحديد وما يشبهه الجرح لوجوب القصاص. وعلى رواية الطحاوي: العبرة للجرح نفسه حديداً كان أو غيره. وهذه الرواية أصح . 

هذا معنى القتل العمد عند أبي حنيفة - وقد جعله في الحديد أو المحدد -، فإذا قتل الجاني المقتول «المجني عليه» بأحد هذه المذكورات وجب أن يقتص منه، وإذا كان القتل بغيره لم يكن عمداً فلا يوجب القصاص، بل يعتبر عنده شبه عمد فتجب الدية . 

والواقع أن حصر أبي حنيفة للعمد فيما ذكره يؤدي إلى قتل أناس والقاتل آمن على نفسه من القصاص. وقد اشتهرت هذه المسألة في مقابلة رأي أبي حنيفة بعدم القتل بالمثقل، یعني من قتل غيره بحجر ثقيل أو عصاً غليظة فليس عليه قصاص، ولا شك أن الحجر الكبير والخشبة الغليظة تزهق الروح بضربة أو ضربتين بلا نزاع، وهو آمن على نفسه من الإعدام، وقد خالف كل الفقهاء في ذلك حتى صاحبيه أبي يوسف ومحمد . 

والعمد عند صاحبي أبي حنيفة : 

ما تعمد فيه القاتل ضرب المقتول بها لا تطيق النفس احتاله، سواء كان بسلاح أو بها أجري مجرى السلاح، أم بغيرهما مما فيه تعمد ضرب الآدمي با يقتل غالباً کسیف وحجر عظيم وخشبة ثقيلة . 

ويقتضي تعريف القتل العمد في مذهب الحنفية في قول الإمام خروج القتل بالمثقل عند الإمام فلا يوجب القصاص، وهذه الصورة معروفة في القانون «ضرب أفضى إلى موت» وعقوبتها غير القصاص، ولو ألقى شخص شخصاً آخر من الجبل أو من سطح أو غرقه في الماء، أو خنقه إلى أن مات كل ذلك غير عمد بل شبه عمد لا قصاص فيه عند الإمام، وعند صاحبيه يكون القتل عمداً إذا قتله بما يقتل غالباً، فإن كان لا يقتل غالبا يكون شبه عمد، ولا جزاؤه الدية المغلظة، ويسمى خطأ العمد . 

ولا يشمل القتل بالتسبب ولو كان معه قصد الجناية على المقتول بها يقتل غالبا؛ لأن تعمد الضرب إنما يفيد المباشرة، والقتل بالتسبب قسم خاص عنده، وكذلك لا يشمله تعريف الصاحبين، ولا يشمل تعريفهم القتل الناشئ من موالاة الضرب بعصا صغيرة، وهو عندهم قتل شبه عمد؛ لأنه مما تطيق النفس احتماله . 

ولا يشمل تعريفهم أيضاً ما إذا قصد الجاني قتل إنسان معصوم فأصاب معصوماً مثله، فإنه لا يعتبر من القتل الخطأ عندهم، ولأنهم يرون أن التعمد الملاحظ في التعريف هو القصد المعتبر يجعلان عمد الصبي والمجنون من القتل الخطأ وشبهة أبي حنيفة في رأيه ما أخرجه البيهقي من حديث النعمان بن عاشور قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء خطأ إلا السيف». فهذه قصرت العمد في السيف أي المحدد، وفي رواية: «كل شيء سوى الحديدة خطأ». وهذه قصرت العمد على الحديد. وهما معاً يقتضيان أن كل ما كان بغير المحدد والحديد ولا يعمل عمله يكون من الخطأ . 
 

وردت استدلالات الحنفية بالطعن في الرواية بوجود رواة لا تصلح رواياتهم للاحتجاج بها، بل ضعفت الأحاديث بهؤلاء الرواة ووجهة نظر المذهب الحنفي في اعتبارهم العمد - أن العمد هو القصد والقصد أمر باطني لا سبيل إلى الاطلاع عليه إلا باستعمال الآلة الخاصة بالقتل وهي المحدد أو ما يعمل عمله، فنسب إليها الحكم وعلل بها؛ لأنها هي التي يمكن ضبطها ولكنها تحمل الشك في قصد القتل . 

ولكن يرد هذا بأن القصد إذا وقف عليه بالسلاح وما يعمل عمله يوقف عليه باستعمال ما يقتل غالباً، کالمثقل الكبير، وأقيم ما يقتل غالباً مقام القصد تيسيراً، كما أقيم السفر مقام المشقة، و أقيم النوم مضطجعاً مقام الخروج من السبيلين، والبلوغ مقام اعتدال العقل تيسيراً، والآلة القاتلة غالباً هي المحددة؛ لأنها هي المعدة للقتل، وما ليس له حد فليس بمتعمد . 

ولأبي حنيفة نص حديث آخر: «ألا إن قتيل العمد الخطأ - قتيل السوط والعصا والحجر - فيه دية مغلظة مائة من الإبل، بينها أربعون خلفة في بطونها أولادها». ففي الحديث تسمية القتل بغير المحدد عمد الخطأ، وأوجب فيه الدية دون القصاص . 

ووجهة الصاحبين أن معنى العمدية يتقاصر باستعمال آلة لا تقتل غالباً؛ لأنه يقصد به التأديب أو إتلاف العضو، ولا يتقاصر باستعمال آلة تقتل غالباً، فتكون كالسيف في تحقيق العمد، وبها روي أنه صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بين حجرين لرضه رأس جارية بين حجرين، وأنه صلى الله عليه وسلم قتل المرأة بمسطح وهو عمود الفسطاط . 

ولكن قيل : إن الرسول رض رأس اليهودي؛ لأنه علم أنه مفسد في الأرض قاطع طريق، فهو مقتول حداً لا قصاصاً، وحديث المرأة التي قتلت امرأة بعمود لم يصح . 

 

(في مذهب المالكية) 

في كتاب المدونة في مذهب مالك : 

إن كل ما تعمده الإنسان من ضرية بلطمة أو بلكزة أو ببندقة أو حجر أو بقضيب أو بعصا قتل عمد فيه وفيه، القصاص إذا مات المجني عليه، سواء قصد الجاني القتل أو لم يقصده ما دام الفعل عمداً وعدواناً، وليس على وجه اللعب أو التأديب لمن له ذلك . 

وعند ابن عرفة المالكي: القتل العمد: ما قصد به إتلاف النفس بآلة تقتل غالباً ولو بمثقل أو بإصابة المقتل، کعصر الأنثيين، وشدة الضغط والخنق ، فمعناه أن القتل العمد ما قصد به إتلاف معصوم بها يقتل غالبا، فهو بذلك يثبت شبه العمد، أي لا يقتصر على التقسيم الثنائي للقتل - العمد والخطأ - وهو المشهور عن أمامة بالقيود التي ذكرها ابن عرفة في عبارته هذه . 

وعلى رواية نفي شبه العمد، فالقتل العمد: هو قصد المكلف ضرب المعصوم بمحدد أو مثقل بقضيب وسوط مما يقتل غالباً، وإن لم يقصد قتلاً، أو قصد زيداً فإذا هو يصيب عما إذا فعله لعداوة أو غضب لغير تأديب . 

وإن كان على وجه التأديب أو اللعب فهو من الخطأ إن كان بقضيب لا بنحو سيف (في غير الأب) أما الأب فلا يقتل بولده ولو قصد وما لم يقصد إزهاق روحه أو بسبب في إهلاك معين . 

في مذهب الشافعية 

وعند الإمام الشافعي القتل العمد : 

قصد الفعل وعين الشخص بما يقتل غالباً جارح أو مثقل، فيتحقق بالآلة الجارحة وبالمثقل الذي يقتل في الغالب، واستند هذا الرأي إلى قوله تعالى: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) (سورة الإسراء، آية: 33)، ولا شك أن من قتل بغير الجارحة مظلوم، وممن جعل الله لوليه سلطاناً .

وبخبر الجارية التي رض رأسها بين حجرين، وقد اقتص لها الرسول من اليهودي الذي قتلها بالرض، واقتص منه بنفس الفعل. وهذا الرأي يؤدي إلى تحقيق حكمة مشروعية القصاص عن رأي أبي حنيفة، ولكن يبقى بعد ذلك ما يحقق صيانة الدم بأعظم من هذا وذاك، فإن غرز إبرة في مقتل مزهق للروح لا يقتص منه عند هذا القائل، وكذلك إذا نزع شخص أنملة إنسان فسرت الجراحة إلى النفس حيث يجب القصاص مع أنه لا يقتل غالبا، وقد نصوا على غرز الإبرة في مقتل على أنها عمد يوجب القصاص، و أضافوها إلى ما يشمله التعريف عندهم . 

وقد أخذ الشافعية من «القصد» اعتبار الصبي والمجنون من القاصدين التعمد، وصرحوا بأن القتل الحاصل منهما عمداً والحق أن قصدهما لا يعتبر صحيحاً؛ لانعدام الأهلية فيها للحديث الذي أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يكبر، والمجنون حتى يفيق» .

والدية تسقط عنهما وتتحملها العاقلة مثل دية الخطا، ولذلك قرر جماهير أهل العلم أن عمدهما خطأ . 

ولا يزال تعريف الشافعية للقتل العمد قاصرا عن استغراق كل ما يعتبر عمداً، كما إذا أراد شخص قتل شخص معين فأصاب غيره .

والتقيد بعين الشخص يقتضي عدم تحقق العمد إلا بقصد شخص بعينه ، مع أن قصد شخص لا يعنيه قصد للماهية، أي للقدر المشترك بين جميع الأفراد، وإذا لم يعتبر من قصد شخصاً لا يعنيه قاتلاً عمداً لأمكن لكل عدو قتل عدوه، ويدعي أنه لم يقصده بعينه، وينجو من القصاص، ثم إن الوقوف على معرفة قصده عسير، فيكفي أن يكون القاتل قاصداً القتل، ويكون المقتول مقصوداً في الجملة . 

(في مذهب الحنابلة) 

القتل العمد عندهم أن يقتل قصداً بما يغلب على الظن موته به، عالماً بكونه آدمياً معصوماً، ومقتضاه أن يقتص من القاتل إذا قتل بألة لا تقتل غالباً، وفي ذلك ما قدمنا من الشخص الذي يوالي الضرب على آخر حتى يموت . 

والتعريف لا يشمل عمد الصبي والمجنون؛ لأن القصد المعتبر في القتل هو القصد الصحيح، ولا يتحقق منها قصد صحيح؛ إذ هما من غير أهله، والأصل في هذا حديث: «رفع القلم»، وهو نص في إخراجها من العمد ومؤاخذته، ويخرج عن هذا التعريف عند الحنابلة من قصد شخصاً معصوماً فأصاب معصوماً آخر؛ إذ التعريف يقتضي أن يقصد القاتل قتل المقتول، والتعريف في جملته يبين: أن القتل الموجب للقصاص لا بد فيه من :

(1) أن يكون قاصداً بالقتل شخصاً يعلمه أنه آدمي معصوم، فإذا لم يقصد القتل، أو قصد قتل إنسان غير معصوم الدم، فأصاب غيره - لم يكن قاتلاً عمداً في الحالتين. (عدم القصد للقتل - وقصده غير معصوم، ولا قصاص عليه في أيها) . 

2-  وأن يكون الفعل الذي أدى إلى القتل من الأفعال التي تقتل غالبا، سواء كان مباشرة أو تسبباً . 
 

3- وأن يكون الفعل اعتداءً، فلو كان بقصد التأديب لم يكن عمداً موجباً للقصاص، وذلك إذا لم يتجاوز الحد، فمن قصد تأديب ولده أو امرأته أو صبيه أو تلميذه أو أحد رعيته، ولم يسرف الأب أو الزوج أو المعلم أو الأستاذ أو السلطان، ولكن التأديب أفضى إلى القتل وتلف المؤدب - فلا ضمان على المؤدب؛ لأنه مأذون فيه شرعاً، فلا ضمان لما تلف بفعله المأذون فيه كالحد . 

فإذا زاد في التأديب وأسرف فيما أذن له فيه بأن زاد على المعتاد، أو زاد على ما يتحقق به المقصود، أو أوقع الضرب على من لا يحصل منه المقصود، بأن ضرب من لا عقل له غير صالح للتأديب من صبي ومجنون ومعتوه؛ لأنه غير مأذون شرعاً في ذلك؛ لأن الشارع لا يأذن بالعبث . 

وقد وضح صاحب المغني معنى القتل العمد عند الحنابلة فقال: إن ذلك نوعان : 

1- أن يضرب القاتل المقتول بمحدد، وهو ما يقطع ويغوص في البدن، كالسيف والسكين، وهذا ما رآه أبو حنيفة. ثم قال .

2- النوع الثاني من العمد: أن يقتل القاتل المقتول بغير محدد مما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله، فذاك عمد موجب للقصاص أيضاً، وبذلك قال النخعي، والزهري، وابن سيرين، وحماد، وعمرو بن دينار، وابن أبي ليلى، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد .
 

وقال الحسن : لا قود في ذلك. وروى ما رآه الحسن عن الشعبي . 

وقال سعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس: العمد: ما كان بالسلاح . 

وقال أبو حنيفة كما سبق عنه: لا قود في ذلك، إلا أن يكون القتل بالنار، وعنه في حكم القتل بالمثقل روايتان . 

(في مذهب الظاهرية) 

بين الظاهرية القتل العمد بأنه : 

ما تعمد به المرء مما قد یمات من مثله، وقد لا يمات من مثله . 

وبالتأمل القريب يتضح شمول تعريف ابن حزم لبعض صور العمد عند الجمهور وأهل الظاهر کالك في المشهور عنه ينفون شبه العمد . 

فالجريمة عندهم وعند كل من أنكر القسم الثالث: إما عمد - أو خطأ ولا ثالث لها -  وأن القتل يتميز باعتبار آلة القتل، وهو بهذا الاعتبار نوعان : 

1- ما تعمد به المرء مما قد یمات من مثله، وقد لا يهات من مثله، قال أبو محمد: هذا عمد وفيه القود أو الدية كسائر هذا النوع، وهو القتل العمد؛ لأنه عدوان، قال تعالى:(فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ) . 

2- والثاني: ما تعمد به مما لا يموت أحد أصلاً من مثله ، فهذا ليس قتلاً عمداً، ولا خطأ، ولا شيء فيه إلا الأدب . 

وقال أبو محمد: إن القصاص واجب في كل ما كان بعمد من جرح أو كسر؛ لإيجاب القرآن ذلك في كل تعمد، وفي كل حرمة، وفي كل عقوبة، وفي كل سيئة، وورود السنن الثابتة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم .

وبالتأمل فيما ذكرنا من هذه التعاريف يتبين : 

أولاً: من ناحية القصد : 

فلأجل أن يتحقق القتل العمد الموجب للقصاص اشترط الحنفية والشافعية والحنابلة قصد القتل في الفعل العمد للعدوان . 

وأما عند المالكية : فلا يشترط القصد ما دام الفعل عمداً عدواناً ، وقد أدى إلى موت المجني عليه . 

ثمرة الخلاف : 

(أ) والخلاف في القصد تظهر ثمرته فيما إذا جنى شخص على آخر بفعل عمد عدوان، أدى إلى موت المجني عليه، ولم يكن عند الجاني قصد القتل، أي أنه خلا عن القصد . 

فعند المالكية يجب القصاص عليه، ولا يجب عند غيرهم؛ إذ لا يعتبر عمداً فلا قصاص فيه بل هو شبه عمد تجب فيه دية مغلظة، وهذا أيضا مما يتفرع على نفس القسم 

(1) سورة البقرة، آية: (194).

(2) ابن حزم في المحلى جـ (10) ص (403) . 

الثالث وهو شبه العمد، فمن لا يقول به يدخل الصورة في العمد، وغيرهم شبه العمد واقع تدخل في مفهومه أي صورة خلت عن قيد أو قيود العمد . 

(ب) إذا رمى القاتل معصوماً فأصاب غيره، عند غير المالكية كما تدل تعاريفهم تقتضي إبعاد ذلك عن القتل العمد؛ لأنه لم يقصده عينا، وعند مالك تدخل هذه الصورة في العمد، فيجب عنده القصاص فيها - ولا قصاص عند الجمهور .

والخطأ في القصد - ويسمى الخطأ في الشخصية - لم يكن في حساب غير المذهبين الشافعي والمالكي، وعند الشافعية والمالكية هي من العمد الموجب للقصاص . 

(جـ) القتل بها قد يمات من مثله عمد في مذهب الظاهرية إذا تعمد القاتل المقتول، فوجب القصاص، واعتبره الجمهور غير الظاهرية شبه عمد تجب فيه الدية المغلظة، كما هو حکم شبه العمد عند من يقول به . 

(د) عمد الصبي والمجنون من القتل العمد عند الشافعية كما يؤخذ من تعريفهم، وعند الجمهور أخذا من تعاريفهم للقتل العمد، يعتبر عمدهما من باب الخطأ في الجزاء، وهي ظاهرة تحت العلم بالتكليف وصلاحيتها له . 

ثانياً: من ناحية آلة القتل : يشترط عند أبي حنيفة في تحقق القتل العمد أن يحصل القتل بمحدد كالسيف، وعنه في غير المحدد من الحديد کالعمود وصنجة الميزان، فعلى ظاهر الرواية يكون القتل عمداً ، وعلى رواية الطحاوي العبرة عنده بالجرح نفسه سواء كان حديداً أو غير حديد، ومثل الحديد في ذلك غيره من سائر المعادن كالنحاس والذهب والفضة، والرصاص، فإن كان القتل بالمثقل غير المحدد وما يشبهه کالحجر الكبير، فهو شبه عمد عند أبي حنيفة. وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد يشترط في آلة القتل أن تكون مما يقتل غالباً من محدد ومثقل . 

وعند مالك لا يشترط في الآلة شيئاً ، فلا يلزم أن تكون مما يقتل غالباً إذا أدى الفعل إلى الوفاة، ما دام الفعل عمداً عدواناً . 

ثمرة الخلاف وما يترتب على الأراء : 

بمقتضى اختلاف التعاريف المذكورة للقتل العمد تظهر آثار ذلك فيما يأتي من حيث آلة القتل : 

(أ) لو تعمد شخص ضرب شخص آخر بعمود من حديد أو ما يشبه الحديد من المعادن کالنحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضة وغيرها فقتله، فعند أبي حنيفة على ظاهر الرواية يكون القتل عمداً یوجب القصاص، وعلى رواية الطحاوي يكون القتل شبه عمد تجب فيه الدية المغلظة . وعند الصاحبين أبي يوسف ومحمد، والإمام الشافعي وأحمد ومالك: يكون القتل عمداً يجب فيه القصاص . 

(ب) وإذا تعمد شخص ضرب آخر بالمثقل من غير المحدد وما يشبهه، کالحجر الكبير والخشبة الكبيرة فقتله، فعند أبي حنيفة هذا القتل شبه عمد تجب فيه الدية المغلظة، وعند غيره من جمهور الفقهاء يكون عمداً موجباً للقود . 

(ج) وإذا تعمد شخص ضرب آخر بعصا صغيرة فيات المضروب، وكان الفعل عمداً عدواناً - عند مالك يكون عمدا موجبا للقصاص، وعند غيره يكون شبه عمد موجباً للدية المغلظة . 

العمد وشبه العمد عند الأئمة : 

من جعل القتل الموجب للأحكام قسمين عمداَ وخطأ - يدرج ما هو شبه عمد عند باقي الأئمة في العمد نفسه، وقد يدخل في الخطأ على القول الآخر غير المشهور عند المالكية، والفرق بين الإلحاقين واضح، وهو إيجاب القصاص على الأول، وإيجاب الدية على القول الآخر غير المشهور . 

وعند باقي الأثمة غير مالك وهم الذين قالوا بأن القتل ثلاثة أقسام، اعتمدوا في ذلك على حديث عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعلى ما ورد عن أصحاب السنن - إلا الترمذي - فقد جاء في هذه الروايات: «ألا إن في قتیل عمد الخطأ - قتيل السوط والعصا - مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها». (نيل الأوطار للشوكاني (7)/ (18)) . 

وقد روى أبو هريرة كما أخرج الشيخان: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها ومن في بطنها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عائلتها، أي الضاربة». فهذا ليس عمداً ؛ لأن العاقلة لا تحمل في العمد، وليس خطأ بأتفاق ؛ للقصد، فلم يبق إلا أنه شبه عمد . 

ويحمل الحجر المذكور على الحجر الصغير للأدلة الدالة على وجوب القصاص في القتل بالمثقل، ثم إن مفهوم العمد يقوى باعتبار شبه العمد قسماً شاملاً للصور التي قالوا: إنها شبه عمد ، وفيها الدية المغلظة. فالأفعال بالنيات، والقصد إلى القتل هو الأساس المميز للعمد، والقصاص ينبني عليه ؛ لأنه أهم أجزاء العلة في التأثير، ولكنه باطن خفي لا سبيل إلى الاطلاع عليه، فاحتاج كشفه إلى شواهد الحال، فإذا دلت الشواهد على أن القاتل لم يقصد هذا المقتول بعينه، بل قصد غيره فأصابه، كمن صوب الرصاص إلى شجرة فأصابت إنسانا، أو ظنه صيدا فأصاب المقتول، أو اعتقد أنه قاتل أبيه، فقصده فأصاب سواه، أو دلت الشواهد على أنه قصد القتيل بعينه، ولكن لم يقصد الفعل الذي قضى عليه، كمن يطلق مسدسا لظنه فارغا، فإذا هو عامر بالطلقات، فإذا دلت الشواهد على أنه قصد الشخص بعينه أو الفعل الذي قتله، فإن ذلك لا يكفي لإثبات قصد القتل، فالآلة المستعملة قد لا تكون قاتلة، ومن يرد أن يقتل يستخدم آلة تحقق غرضه، ومن هنا وجب النظر إلى الآلة إن كانت مما تقتل غالبا، كالسلاح الأبيض أو الناري تبين قصد القتل، فیدارعلى ذلك حكمه وهو القصاص. (وقد نص الحنفية على أنه إذا عمد إنسان سلاحه إلى يد رجل فأخطأها وأصاب عنقه، فأطاح بها - كان عمدا وفيه القصاص). (فتح القدير (8)/ (299)، ومجمع الأنهر (2)/ (617). وهذا إهدار لخصوص الموضع المقصود بالإصابة من أنه مقتل أو غير مقتل) . 

فإذا كانت الآلة مما لا تقتل غالباً كلطمة أو لكمة في غير مقتل، علمنا أنه لم يقصد القتل فلا قصاص لانتفاء مظنة القصد التي أقيمت مقامه للخفاء الباطن .

ولكن لمكان الشبه بالعمد لتوفر القصدين: قصد القتيل بعينه، وقصد الفعل الذي أودى بحياته - كان أغلظ وأفحش، فيا انتفى فيه أحدهما فيصير ذا مرتبة بين المرتبتين، وبذلك أخذ حكماً خاصاً به ناشئاً من حقيقته، ولذلك أخذ نوع تغليظ في الدية الخاصة به بالتثبت (مغني المحتاج (4)/ (14)، المغني لابن قدامة (2)/ (249)، فتح القدير (8)/ (252)) . 

(القتل بالمثقل)

نشات مسألة سميت : القتل بالمثقل من تعريف الإمام أبي حنيفة للقتل العمد الموجب للقصاص بالضرب بالمحدد كالسيف والسكين، وهو ممن قالوا بالقسمة الثلاثية، يعني: المثبتون لقسم «شبه العمد»، أو عمد الخطأ، أو خطأ العمد، وساقوا فيه الحديث المروي عن ابن عمر وابن عمرو، وفيه أن الفاعل عمد الفعل وأخطأ القتل، والمراد أنه تعمد الفعل الذي ترتب عليه القتل (زهوق الروح)، واستعمل آلة لا تقتل غالباً .

فأبو حنيفة قال: إن شبه العمد هو القتل بغير النار والآلة الحادة من كل ما لا يفرق أجزاء البدن، مع توافر القصدين: قصد الفعل، وقصد الشخص، وبذلك التفسير الذي التزمه أبو حنيفة - اعتبر القتل بالعصا الغليظة أو الحجر الكبير شبه عمد . 

ولا شك في أن العصا الغليظة والحجر الكبير هما قتل بالمثقل، فعنده أنه لا يوجب القصاص، وقد نشأ من تقييد الإمام العمد بالنار أو المحدد - أن خرج القتل بالمثقل، فلا يوجب القصاص، بل يوجب الدية الغليظة. (المحلى لابن حزم (7)/ (466) - مغني المحتاج (4)/ (4) - مجمع الأنهر (2)/ (622) - فتح القدير (8)/ (250) - ملا مسكين (2) / (260)) .

فالحاصل أن أبا حنيفة وحده انفرد باعتبار القتل بالمثقل من قبيل شبه العمد، فلا يوجب قصاصاً ، واستند إلى حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، حيث نص فيه على أن قتيل السوط والعصا مطلقاً شبه عمد، ولم يفرق الحديث بين ما خف وما ثقل، ويعتبر العمد وهو فعل القتل لا يوقف عليه إلا بالآلة القاتلة غالباً ، وهي المحدد؛ لأنها هي المعدة للقتل فيا ليس له حد فليس بعمد، وبذلك خرج القتل بالعصا الغليظة والحجر الثقيل، وسمي بالمثقل خرج عن العمد إلى أنه شبه عمد، وفيه الدية المغلظة لا القصاص. (تبيين الحقائق ج (6) ص (98) - ص (100)) . 

وغير أبي حنيفة يدخل ذلك في العمد الموجب للقصاص ؛ عملاً بالعموم في نصوص القصاص، ولم تفرق بين محدد ومثقل، فتخصيص العمد بالمحدد تخصيص لا دليل عليه . 

من المقرر أنه يلزم كأصل عام توافر شروط عامة للعقاب على أية جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المشروع، ومن هذه الشروط أن يكون الجاني مكلفاً، ومناط التكليف البلوغ والعقل، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق». ومن ثم نصت المادة (189) على شرط البلوغ للمساءلة، وقد أجمع الفقهاء على وجوب القصاص في القتل العمد العدوان بغير حق، غير أنهم اختلفوا فيما بعد كذلك، وما لا يعد: 

(أ) ذهب الزيلعي من الحنفية إلى أن القتل العمد هو ما تعمد ضربه بسلاح ونحوه في تفريق الأجزاء، کالمحدد من الحجر والخشب والليطة والنار، وهذا تعريف أبي حنيفة . 

وذكر قاضيخان رحمه الله: (أن الجرح لا يشترط في الحديد وما يشبه الحديد كالنحاس وغيره في ظاهر الرواية ؛ لوجوب القصاص). وفي رواية الطحاوي: العبرة بالجرح نفسه حديدا كان أو غيره ، وقد اختار الزيلعي ذلك. (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق جـ (6) ص (97) / (98) منه، وهامش الطبعة الأولى ، المطبعة الأميرية) . 

أما القتل العمد عند أبي يوسف ومحمد فهو ما تعمد فيه ضرب المقتول بما لا تطيق النفس احتماله، سواء كان بسلاح، أو ما أجري مجرى السلاح، أو بغيرهما مما فيه تعمد ضرب الآدمي بما يقتل غالباً کسیف و حجر عظيم وخشبة ثقيلة. (المبسوط للسرخسي جـ (26) ص (152)، (153)) . 

(ب) بينما ذهب الشافعية إلى أن العمد في النفس بما فيه القصاص أن يعمد الرجل الرجل فيصيبه بالسلاح الذي يتخذ لينهر الدم ويذهب في اللحم، كالسيف والسكين وما أشبهه، وكذلك كل ما كان في معناه من شيء له صلابة محدد، حتى صار إذا وجئ به أو رمي به يخرق جلده، مثل: العود يحدد، والنحاس والفضة، فكل من أصاب أحدا بشيء من هذا فجرحه فيات من الجرح - ففيه القصاص، وإن ضربه بعرض سيف أو عرض خنجر أو مخيط، فلم يجرحه فيات - فلا قود فيه حتى يكون الحديد جارحا أو شارا، مثل: الحجر الثقيل يفتح به رأسه، وعمود الحديد وما أشبهه، وكذلك لو ضربه بعمود خفیف من الحديد لا يشرخ مثله أو بشيء من الحديد لا يشرخ، وما كان لا يجرح أو كان خفيفا لا يشرخ، وكذلك لو ضربه بحد السيف، فلم يجرحه ومات، ففيه العقل ولا قود فيه. وإذا كانت الآلة خفيفة وتابع الضربات مما الأغلب أنه لا يعاش من مثله، ويعقب ذلك الوفاة أو الإغماء ثم الوفاة ففيه القود. (الأم للإمام الشافعي ج (6) ص (4) / (5) طبعة الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر)، وانتهى الإمام الشافعي إلى وضع المعيار التالي الذي فيه القصاص، فيما عدا ما يقطع أو يشرخ (أن ينظر إلى من قتل بشيء مما وصفت غير السلاح المحدد، فإن كان الأغلب أن من نيل منه يقتله ويقتل مثله في مثل سنه وصحته وقوته أو حاله إن كانت مخالفة لذلك قتلا وحياة، كقتل السلاح - ففيه القود وإن كان الأغلب أن من نيل منه بمثل ما نيل منه يسلم، ولا يأتي ذلك على نفسه، فلا قود فيه) (الأم جـ (6) ص (6)) . 

(جـ) أما الحنابلة فيرون أن العمد الموجب للقود: أولهما: (أن يضربه بمحدد، وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين). وثانيها: (القتل بغير المحدد مما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله). ونقل ابن قدامة أن النوع الثاني هو الموجب للقود، قال به النخعي والزهري وابن سیرین و حماد وعمرو بن دینار وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد المغني ج(9) ص (322)/ (323)) . 

(د) وذهب المالكية إلى أن الجناية الموجبة للقصاص (إن قصد ضربا للمعصوم، أي: مع علمه بذلك، احترازاً مما إذا قصد ضرب شيء معتقدا أنه غير آدمي، أو أنه آدمي غير محترم لكونه حربياً ، وإن كان بقضيب أو سوط ونحوهما مما لا يقتل غالبا، وإن لم يقصد قتلا، أو قصد زيدا فإذا هو عمرو، إن فعله بعداوة أو غضب لغير تأديب... وشبهه بالضرب في وجوب القصاص، كخنق، ومنع طعام أو شراب، قاصدا به موته فات) الشرح الكبير ج (4) ص (219)/ (210) منه، وهامش المطبعة الخيرية . 

(هـ) وذهب الظاهرية بأنه «ما تعمد به المرء مما قد يهات من مثله، وقد لا يات من مثله». (المحلى لابن حزم الظاهري ج (1) ص (343)) . 

(أركان القتل العمد الموجب للقصاص) 

تدل التعريفات المذكورة عند الأئمة على أركان القتل العمد الموجب للقصاص من القاتل، وهي : 

الركن الأول : أن يكون الاعتداء بالقتل اعتداءً واقعاً على آدمي. ولذلك ساها الفقهاء جناية على النفس؛ لأن الاعتداء واقع عليها فلا يتحقق قتل عمد إلا إذا كان المجني عليه المقتول» آدما، فإن لم يكن آدمياً بأن كان حيواناً ، فذلك باب آخر لا علاقة له بالاعتداء على النفس، والاعتداء على النفس بالقتل يوجب القصاص من القاتل، أما غيره کالحيوان فإن الجزاء ضمان التلف؛ لأن الحيوان مال، والاعتداء على المال يوجب الضمان . 

الحي : ولا بد أن يكون الآدمي الواقع عليه الاعتداء حتماً قبل أن يقتل؛ لأنه إن لم يكن حيا كان الاعتداء واقعاً على ميت، والميت هو الذي خرجت منه الحياة، فالقتل مستحيل أن يقع على الميت، فهو إزهاق للروح، والميت خرجت قبل الاعتداء عليه روحه، فلا تعتبر الجريمة على الميت قتلاً ، بل تعتبر هتكاً لحرمة ميت، انتهاكاً لحرمته التي يأمر بها الشارع ويحتمها العقل، وتنفر منه الطباع النفسية، وهذه الجريمة اعتداء لم يقدر الشارع لها عقوبة مقدرة، فسبيلها في الدنيا التعزير، وفي الآخرة داخلة في باب الحلال والحرام . 

حياة ظاهرة : ويشترط أن تكون الحياة الموجودة في المقتول حين قتله ظاهرة محققة، فإذا جنى شخص على جنين في بطن أمه، لم يجب القصاص على الجاني، فمن ضرب حاملا فسقط جنينها ميتا، فالحكم وجوب الدية على من ضربها؛ لما رواه أبو هريرة رحمة الله عليه أنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة - عبد أو أمة - ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة ماتت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبيتها» .   

وما روى المغيرة أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها وهي حبلى، فأتی النبي صلى الله عليه وسلم فقضى فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين - غرة. رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي) . 

قال في الفتح : ومما ذكره الفقهاء هنا: أن وجوب الغرة، إذا انفصل الجنين عن أمه ميتاً بسبب الجناية، فإذا انفصل حيا ثم مات، وجب فيه القود أو الدية، فحين تكون الحالة التي اعتدى فيها الجنين، أنه في بطن أمه لم يخرج من بطنها إلى الحياة بعد، ثم خرج بفعل الجناية ميتا، فتلك حالة الغرة - عبد أو أمة - أو عشر من الإبل أو (100) مائة شاة، وحين :

(1) مغني المحتاج ج (4) ص (13).

(2) نیل الأوطار للشوكاني (7)/ (73)، (76).

(3) نيل الأوطار للشوكاني (7)/ (74)، (73)، (76). 

يكون تأثير الجناية أن يخرج من بطن أمه حياً ثم يموت بعد ذلك بسببها، تكون الجناية قتلاً عمداً موجباً للقصاص . 

الركن الثاني : أن يكون المقتول (المجني عليه) معصوم الدم على التأبيد، والعصمة المؤبدة يجب أن يتساوى فيها الكبير والصغير، الصحيح والمريض، کامل الجسم والحواس وناقص شيء منها، والعاقل کالمجنون . 

وقد صرح سائر الأئمة - الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة، الظاهرية - بأنه يجب أن يكون المقتول معصوم الدم . 

أما إذا كان مباح الدم عند الشارع؛ لأنه حربي، أو مرتد، أو زان محصن، أو قاطع طريق - تعين قتله، فإن قاتله لا يقتل به، وإن كان بغير إذن ولا تجب دية ولا كفارة؛ لأنه مباح الدم في الجملة، وإذا توقف مباشرة قتله على إذن الإمام، فإن قاتله يأثم للإذن فقط، ويعزر من بادر بقتل أي واحد من هؤلاء؛ لافتياته على حق الإمام . 

وإذا قتل شخص آخر غير ولي الدم المقتول شخصاً ، وجب قتله قصاصاً في شخص آخر قتله عمدا، فإنه يقتص من هذا القاتل؛ لأن المقتول وإن كان مهدر الدم؛ لأنه قاتل عمدا، فإنه غير مهدر عند جميع المسلمين، بل إهداره إنما هو في حق الأولياء. أما بالنسبة لمن سواهم فهو محقون الدم بالنسبة لغير الأولياء، وقد يعفو عنه أحد الأولياء . 

 

العصمة :

يشترط لمن يقتص له أن يكون معصوم الدم على التأبيد، والعصمة المؤبدة يستوي فيها الكبير والصغير، والمريض والصحيح، وكامل الجسم والحواس وناقصهما، والعاقل والمجنون، هذا ما نص عليه فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الظاهر . 

فإذا أبيح دمه؛ لأنه حربي أو مرتد أو زان محصن، أو من قطاع الطريق الذين يحتم قتلهم - فإنه لا يقتص له من قاتله، ولا تجب عليه الدية ولا الكفارة؛ لأنه مباح الدم فيؤثم إذا قتله بلا إذن، ويعزر القاتل لافتياته على حق الإمام . 

فإباحة دم من عليه القصاص هو بالنسبة لأولياء الدم، فلو قتله واحد من غير الأولياء قتل به (الشرح الكبير على متن المقنع (9)/ (301) - کشاف القناع متن الإقناع (3)/ (346) - ومغني المحتاج (4)/ (14) - (15))؛ لأنه محقون الدم بالنسبة لغير الأولياء، ولا سبب فيه يباح به دمه . 

والمحكوم عليه بالقصاص عمداً إذا قتله أحد أولياء المقتول، فلا قصاص ولا دية ؛ لأنه مباح الدم ، وإن توقفت مباشرة قتله قصاصاً على إذن الإمام. فيؤثم بدون إذن الحاكم العام، ويعزر قاتل هؤلاء الذين حكم بقتلهم؛ لأنه افتات على حق الإمام – فلو قتله غير الولي وجب عليه القصاص به؛ لأنه محقون الدم بالنسبة لغير الأولياء، ولا يوجد فيه سبب يباح به دمه لغير ولي المقتول - فإذا قتله اقتص منه، قال الله تعالى: 

(وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (33)(سورة الإسراء، الآية: 33). فقد خص النص الولي بقتله ، على أن غيره لا سلطان له عليه، فإذا قتله اقتص منه . 

الركن الثالث : أن الآدمي المقتول معيناً في مذهب الحنفية والمالكية في القتل بسبب، والشافعية والحنابلة حسب تعريفاتهم للقتل العمد أنه لا بد وأن يكون المقتول إنساناً معيناً ؛ ليقع عليه القتل العمد، فلو قصد بالقتل إنساناً معيناً كمحمد ، ثم أصاب شخصاً آخر هو محمود - فإن الجناية تكون بالنسبة للمقتول جناية قتل خطأ، لأنه لم يقصده بل قصد غيره، فأصابه هو. 

فالجناية على هذا الواقع مدارها على القصد وعدمه بالنسبة لمن وقعت عليه الجناية، فإن كان مقصودا كان عمدا عليه جناية عمد، وإن كان غير مقصود کانت خطأ . 

وعند المالكية في القتل بالمباشرة : أنه إن قصد عليا فأصاب محمداً تكون جناية عمد؛ لأن الجاني قصد بفعله قتل آدمي معصوم الدم، وكون المقتول شخصاً آخر غير من قصده بالقتل لا يغير من وصف الجريمة لتصير غير عمد، ما دام قد قصد قتل الآدمي المعصوم. وهذا هو الرأي المقرر فقهاً وقضاء في القانون الوضعي، والذي تأخذ به اللجنة. ويستوي أن يكون الخطأ في شخص المجني عليه، أو في توجيه الفعل ما دامت تحققت نية القتل بالنسبة للمقصود أولاً وبالذات .
 

ومعنى العصمة المشروطة في القاتل والمقتول : احترام الدم وعدم إهداره بسبب الإسلام، أو بعقد الأمان، فالحربي إذا جاءنا تائباً عن الكفر فآمن بالله ، أو أعطيناه الأمان - لا يقتل، فإذا لم يلتزم أحكام الإسلام كان دمه هدراً ، فيقتل بسبب هدر دمه وعدم عصمته . 

فيلزم أن يكون المقتول معصوم الدم على الدوام بإسلامه وبذمته ؛ للاحتراز عن المستأمن، فإن العصمة التي اكتسبها مؤقتة إلى رجوعه إلى دياره . 

ومعنی معصوم الدم ألا يكون دم المقتول مهدراً لسبب شرعي يجعل الشخص غير معصوم الدم، والذين فقدوا العصمة هم: الحربي؛ لأنه حرب علينا، فلا يعقل أن نؤمنه وهو يتربص بنا ریب المنون ، ومن ارتكب جريمة توجب قتله حدا، ومن ارتكب جريمة قتل موجبة للقصاص . 

وانتفاء العصمة من هذا إنها تكون بالنسبة إلى أولياء الدم من القتيل فقط، ولكن بالنسبة إلى غيره فهو معصوم بحيث لو قتله اقتص له، والحربي هو من ليس مسلماً وهو تابع لدولة غير إسلامية يكون بينها وبين المسلمين حرب معلنة أو قائمة ، ولم يكن مستأمناً ، فإذا لجأ إلى المسلمين وطلب الأمان وأجابته الدولة إلى ما طلب - زالت عنه صفة الحربي، ويصبح مستأمناً . 

فكل من ليس بمسلم غير الحربي فهو معصوم الدم كالذمي والمستأمن . 

ومن يرتكب جريمة توجب قتله حداً هو المحارب قاطع الطريق على العامة، ويرتكب جريمة القتل، مسلما وغير مسلم، فإن عقوبة هذا المحارب هي قتله حداً ، فمن قتله لا يكون مرتكباً لجناية القتل العمد متى ثبتت حرابته واستوفى شروط إقامة الحد، فماله أن يقتل حتماً ، فلا تكون لدمه حصانة ولا يعاقب قاتله باعتبار أنه ارتكب جريمة قتل، بل يعاقب تعزيراً ؛ لاعتدائه على حق السلطة العامة لإقامة الحدود . 

الركن الرابع : قصد الجاني ضرب المجني عليه. القتل يوجب القصاص إذا كان عمداً يقصد الجاني ضرب المجني عليه بها يقتل غالباً ، وليس بشرط أن يقصد الجاني قتل المجني عليه ، وشرط فريق من الفقهاء أن قصد الضرب لا يكفي ؛ لتحقق القتل العمد الموجب للقصاص، ولذلك يشترطون تحقق القصد إلى القتل . 

وبيانه أن الشافعي رحمه الله برى في قول عنه مرجوح: أن يقصد الجاني قتل شخص معين لكي تتحقق الجناية بالقتل العمد (مغني المحتاج للخطيب ج (4) ص (3) - (4) - (5)). 

ويرى الكاساني الحنفي أنه يقصد الجاني قتل المجني عليه لتكون جناية قتل عمد بقوله في كتابه البدائع : «الثالث: أن يكون متعمداً في القتل قاصداً إياه». الرابع: أن يكون القتل منه عمداً محضاً ليس فيه شبهة العدم، لأنه لا شرط العمد مطلقاً بقوله: «العمد قود». والعمد من كل وجه، والكال لا يجتمع مع شبهة العدم، ولأن الشبهة هنا ملحقة بالحقيقة فيخرج القتل بضربة أو ضربتين على قصد القتل أنه لا يوجب القود الضربة أو الضربتان مما لا يقصد به القتل عادة، بل التأديب والتهذيب، فتمكنت في القصد شبهة العدم . 

الركن الخامس : أن يكون الضرب بقصد العدوان. لكي يقع القتل عمداً لا بد أن يكون الجاني قد قصد الضرب بسبب عداوة أو غضب - عدواناً - وهو ما يعبر عنه بأنه قتل بغير حق، وهذا رأي جمهور الفقهاء؛ لأن القتل بحق ليس من العدوان، وإنما هو استيفاء للحق قد نص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (33)(الإسراء: 33 ) . 

والمشروع في مادته (189) لم ينظر إلى وسيلة القتل لتغيرها بتغير الأمكنة والأزمنة، واعتبر كل من تعمد قتل النفس بغير حق قتلاً عمداً موجباً للقصاص عند توافر الشروط الأخرى، وهي بذلك تكون قد سارت على هدي الآيتين الكريمتين (178) من سورة البقرة (93) من سورة النساء، واتفقت مع رأي المالكية والظاهرية، ولا تتجافى مع قول الشافعية. أما عن نية القتل فيستظهرها القاضي من ظروف الدعوى عداوة بين القاتل والمقتول، والآلة المستعملة وتوالي الضربات وحصولها في مقتل، وهي تختلف من قضية الأخرى، مع الاسترشاد بآراء الفقهاء على ما هو مفصل في أقوالهم المبثوثة في كتب المذاهب المختلفة . 

ويشترط للقصاص في حكم هذه المادة شرطان : 

أولهما : أن يكون المقتول معصوم الدم، إذا ما كان غير معصوم الدم، فلا يكون فيه قصاص. والعصمة تكون بأمرين: بإيمان - أي: إسلام - أو أمان من السلطان أو غيره، والمراد بالإيمان ما يشمل عقد الجزية ، وعلى ذلك لا يعد معصوم الدم القاتل عمدا عدوانا بالنسبة لولي المقتول، وكذلك لا يعد معصوم الدم المرتد ولا الثيب الزاني إذا ثبت ارتکاب أولهما للقتل، وثبت ارتکاب ثانيها الزنا، كما لا يكون الحربي معصوم الدم . 

وأخذا بعموم هذا النص، فإن المسلم يقتل بالذمي وهو رأي الحنفية؛ أخذا بها روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلما بذمي، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته». وأن هذا التعليل تنصيص على وجوب القود على المسلم بقتل الذمي، واستيفاء القود منه (المبسوط للسرخسي ج (26) .  

الجزء الرابع ص (132)/ (130)) . 

بينما يرى الجمهور بعدم وجوب القصاص من المسلم إذا قتل كافراً أو ذماً ؛ أخذا بقول الله سبحانه وتعالى : (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ (18)  (السجدة: 18) ، وبها رواه البخاري في صحيحه: «... وأن لا يقتل مسلم بكافر». فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج (2) ص (212). فضلاً عن ضعف الأثر الذي ركن إليه الحنفية، كما أنه بعموم نص المادة يقتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، ويقتل البالغ العاقل بالصبي وبالمجنون ، ويقتل السليم المبصر بذي العاهة وبالأعم، ويقتل الفرع بأصله، فهذه الأمور وأشباهها لا يعتد بها في القصاص . 

أما الشرط الثاني : فانتفاء الفرعية بين المقتول والقاتل، فإذا كان القاتل أصلاً للمقتول، وكان المقتول فرعاً للقاتل - فإن هذا من موانع القصاص، فلا يقتص من الأب إذا قتل ابنه، ولا من الجد إذا قتل حفيده، كما لا يقتص من الأم إذا قتلت ابنها، ولا من الجدة إذا قتلت حفيدها. والمشروع أخذ في هذا برأي الشافعية والحنفية والحنابلة وكثير غيرهم . 

وسندهم في هذا ما رواه الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال: حضرت رسول الله يقيد للأب من ابنه، ولا يقيد للابن من أبيه. قال أبو عيسى: هذا حدیث لا نعرفه من حديث سراقة، إلا من هذا الوجه، وليس إسناده صحيح، وروي عن عمرو بن شعيب مرسلاً وفيه اضطراب، وقال ابن العربي: إنه باطل. وكذا ما روي عن عمر بن الخطاب الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقاد الوالد بالولد». رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه ابن الجارود والبيهقي، قال الترمذي: وروي عن عمرو بن شعيب مرسلاً ، وهذا حديث فيه اضطراب، والعمل عليه عند أهل العلم. (سبل السلام جـ (3) ص (233)/ (234)) . 

کما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فأخذ سائر الفقهاء رضي الله عنهم  المسألة مسجلة، وقالوا: لا يقتل الوالد بولده. كما استند هذا الرأي للمعقول؛ لأن الأب سبب وجود الابن، فلا يجوز أن يكون الابن سببا لفقده . 

أما الرأي المقابل فيرى وجوب القصاص من الأصل إذا قتل فرعه، ودليله قول الله سبحانه وتعالى 🙁 كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ ) (البقرة: 178) . وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه قال: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم». وأنه لا يوجد خبر ثابت يجب به استثناء الأب من عموم الآية. أما عن الرد على المعقول، فإن الأب يقتل إذا زنا بابنته وهو سبب وجودها، والقصاص إنما هو لمعصية الله سبحانه وتعالى . 

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن مباشر الجريمة في معنى هذه المادة هو الفاعل الأصلي لها، وذلك قد يكون بأن يقوم وحده بارتكاب الفعل المؤدي للقتل كما يكون بالمساهمة فيه مع غيره، أو بالوجود على مسرح الجريمة آتياً عملاً من الأعمال التي تمكن آخرين من ارتكاب الفعل المؤدي للقتل وفقاً لما اتفق عليه بينهم، وهو ما يعرف بالربيئة، وهذا لا يتنافى مع ما جرت به المادة (26) من هذا القانون، من اعتبار الفاعل للجريمة هو من يرتكبها وحده أو مع غيره، ومن يدخل في ارتكابها إذا كانت تتكون من جملة أفعال فيأتي عمدا عملا من الأعمال المكونة لها وما استقر عليه قضاء محكمة النقض من اعتبار ظهور الجاني على مسرح الجريمة وإتيانه عملا من الأعمال التي تمكن الجناة الآخرين من مقارفة الجريمة المتفق عليها بينهم شداً لأزرهم وحماية لظهورهم في مسرحها حال تنفيذها فاعلاً أصلياً ذلك لأن له دوراً مباشراً في تنفيذها بحسب ظروف ارتكاب الجريمة وتوزيع الأعمال المكونة لها بين الجناة مما اقتضى وجوده على مسرحها للقيام به وقت ارتكابها . 

مادة (190) :

يدخل في القتل العمد الموجب للقصاص : 

(أ) امتناع الجاني بقصد القتل عن القيام بواجبه المكلف به بناء على أحكام الشريعة أو القانون أو العقد، إذا كان من شأن هذا الامتناع أن يؤدي إلى إزهاق روح المجني عليه، ووقع القتل نتيجة هذا الامتناع . 

(ب) إكراه الجاني غيره على القتل إكراها يجعله يخشى على النفس أو العرض، إذا وقع القتل تحت تأثير هذا الإكراه . 

(ج) إكراه الغير على الإقرار على نفسه بغير الحق بجريمة استوجبت الحكم عليه  بالإعدام حداً أو قصاصاً أو تعزيراً ، بناء على هذا الإقرار وحده، ونفذ الحكم . 

(د) شهادة الزور إذا أدت وحدها إلى الحكم على آخر بالإعدام حدا أو قصاصا أو تعزیزاً ونفذ الحكم . 

الإيضاح 

تتكون المادة (190) من المشروع من أربعة بنود : 

يعالج البند (أ) من هذه المادة القتل بالترك أو بالامتناع، وقد اتفق جمهور الفقهاء على أن القتل العمد بالامتناع يوجب القود . 

1- فيقول المالكية : «وشبه بالضرب في وجوب القصاص قوله: كخنق ومنع طعام أو شراب، قاصداً به موته فات... ومن ذلك الأم تمنع ولدها الرضاع حتى مات، فإن قصدت موته قتلت» (الشرح الكبير للدردير جـ (4) ص (210)). 

2- ويقول الشافعية : وإن حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة لا يتبقى فيها من غير طعام ولا شراب، فات وجب عليه القود ؛ لأنه يقتل غالباً (المهذب جـ (2) ص (176)) . 

3- ويقول الحنابلة : حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما، أو الدفء في الشتاء ولياليه الباردة ، قاله ابن عقیل حتى مات جوعاً أو عطشاً أو برداً في مدة يموت في مثلها غالباً بشرط أن يتعذر عليه الطلب فعمد... والمدة التي يموت فيها غالباً تختلف باختلاف الناس والأزمنة (الإقناع ج (4) ص (165)) . 

واعتبار القتل العمد بالامتناع موجبا للقصاص - يتفق وعموم آیات القصاص ، والتي لم تحدد وسيلة القتل العمد الموجب للقصاص .

4- أما الحنفية فقد اتفقت كلمتهم على أنه لا قصاص على القتل بالترك، وإن اختلفوا فيما يجب على الجاني فقالوا: «إن أدخله بيتاً فيات فيه جوعاً لم يضمن شيئاً عند الإمام وعندهما تجب الدية». مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر جـ (2) ص (490) .

وأورد البند المذكور تعداداً لمصادر الوجوب الذي يعد الامتناع عنه بقصد القتل موجبا للقصاص، فنص على الامتناع عن القيام بواجب شرعي، أي: مما نصت عليه الشريعة في القرآن الكريم وصحاح السنة النبوية ، وعن القيام بواجب بناء على قانون، أي مما نصت عليه القوانين أو اللوائح الصادرة بناءً على تفويض من القانون، وبداهة أن ذلك إنما يكون فيها لم ينص عليه شرعاً وإلا دخل في الواجب الأول، كما نص على الامتناع عن القيام بواجب تعاقدي، سواء أكان العقد بين الجاني والمجني عليه ، أو كان بين الجاني وآخر المصلحة المجني عليه، أو كان المذكور يستفيد منه أو يدخل تحت نصوصه، ولا يلزم في هذا الخصوص أن يكون قد عين بشخصه في العقد، وإنما يكفي أن يدخل تحت نصوص العقد، وأمكن تعيينه بعد انعقاد العقد . 

ويلزم أن يكون من شأن الامتناع أن يؤدي إلى إزهاق روح المجني عليه، وأن يترتب عليه حصوله بسببه . 

أما البند (ب) من المادة فقد خصص للعقاب على من يكره آخر على القتل، فيقوم بذلك تحت هذا الإكراه، ويلزم في الإكراه على القتل أن يكون ملجئاً ، وهو يكون بالتهديد با يعرض النفس أو عضواً من الأعضاء للتلف، كالتهديد بالقتل والتهديد بقطع عضو من الأعضاء منه، والمكره بضرب يؤدي لشيء من هذا، وهو ما يسمى بالإكراه التام (أبو زهرة ص (510) بند (530) العقوبة). وكذلك يكون بالتهديد بهتك العرض اختار أحد الأمرين، وأن يغلب على ظن المأمور أن الأمر ينفذ وعيده إن لم يستجب لأمره، وأنه قادر على ذلك . 

ويلزم أن يكون القتل المأمور به بغير حق، وحالة الإكراه على القتل محل اتفاق بين جمهور الفقهاء . 

حاشية الدسوقي ج (4) ص (218)، المهذب ج (2) ص (177)، تبيين الحقائق شرح کنز الدقائق كتاب الإكراه، الإقناع جـ (4) ص (171)) . 

فتوافر شروط الإكراه يجعل المكره كآلة في يد المكره، فكأن المكره استعمل آلة كاستعماله حيواناً أو مجنوناً أو ما في حكمهما في القتل، فكل ذلك يكون كأن المكره هو القاتل حقيقة دون المكره . 

ويعالج البند (جـ) من المادة حالة رجال الضبط أو الحكام أو غيرهم ممن يكره شخصا على الاعتراف زورا بجرم يستوجب الحكم عليه بالقتل ، وينفذ الحكم في المعترف، ويلزم أن يكون الإقرار کاذباً ، وأن المقر لم يرتكب الفعل الذي أقر به (حاشية ابن عابدین ج (5) ص (120)، بدائع الصنائع ج (7) ص (189)، (190)) . 

ويلزم أن يقوم الحكم بالقتل على هذا الإقرار الكاذب وحده . 

وأخيراً يتكلم البند (د) من المادة عن حالة من يشهد زوراً على آخر، شهادة أدت إلى الحكم بقتل المشهود عليه بغير حق، ويلزم أن يكون الحكم بالقتل قد أقيم على الشهادة، وكانت عماده الأصلي الأساسي . 

أما إذا لم يستند الحكم على هذه الشهادة أو لم تكن هي عماده - لم تدخل في هذه الفقرة، وجمهور الفقهاء يأخذ بحكم هذه الفقرة، وخالف الحنفية في ذلك، والحاكم الذي يقضي بالقتل بناء على الشهادة الزور مع علمه يقينا بذلك - يدخل في حكمها (الإقناع ج (4) ص (166)، المهذب ج (2) ص (177)) ، وسواء كان القتل قصاصا أو حدا أو تعزيرا ما دام الحكم قد نفذ في المشهود عليه، ويقتص من الشاهدين أو الشهود الذين شهدوا بالشهادة التي أقيم عليها الحكم، ولا تكون الشهادة زوراً إلا إذا ثبت علم الشهود بكذب شهادتهم عند الإدلاء بها ؛ لما روى القاسم بن عبد الرحمن: أن رجلين شهداً عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق، فقطعه ثم رجعا عن شهادتها فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما القطعت أيديكا. (سبل السلام ج (3) ص (243)) .  

مادة (191) : في القتل الموجب للقصاص تعدم الجماعة بالواحد والواحد بالجماعة، وفي الحالة الأخيرة لا يخل القصاص بحق باقي أولياء دم سائر المجني عليهم في الدية، ولو كانت جرائم القتل من أنواع مختلفة . 

الإيضاح

أما المادة (191) من المشروع فتعالج حالة تعدد الجناة أو المجني عليهم، والجمهور على قتل الجماعة بالواحد، واستدل الجمهور على ذلك بعموم آية القصاص، وبها روي أن عمر قتل سبعة برجل بصنعاء . 

وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعاً . (أخرجه البخاري والموطأ). وقتل علي رضي الله عنه الحرورية بعبد الله بن خباب ، وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة وأبي سموهم الحرورية نسبة إلى حروراء مكان قرب الكوفة - أول مجتمعهم وتحكيمهم فيها. وكان علي قد توقف في قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب كذبح الشاة، فأخبر علي بذلك، فقال: الله أكبر، نادوهم سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار». وقال فيه: حديث غريب. (أحكام القرطبي ص (629) طبعة كتاب الشعب) . 

ومن المعقول أنه لو ترك الجماعة ولم يقتص منهم لتمالأ من يريد القتل جماعة، واشتركوا في القتل، ولم يقتص منهم . 

بينها ذهب الإمام أحمد بن حنبل مستدلا بآية القصاص، وقال: لا تقتل الجماعة بالواحد؛ لأن الله سبحانه وتعالى شرط المساواة، ولا مساواة بين الجماعة والواحد، ولقوله سبحانه وتعالى : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ). (المائدة: 45) .

وقال القرطبي: «كما روي عن الزهري، وحبيب بن أبي ثابت ، وابن سیرین قولهم: لا يقتل اثنان بواحد، روینا ذلك عن معاذ بن جبل، وابن الزبير، وعبد الملك، قال ابن الزبير: وهذا أصح، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه» . أحكام القرآن للقرطبي ص (629) . 
 

وقتل الجماعة بالواحد قال به الحنابلة والحنفية والشافعية والمالكية (الإقناع جـ (4) ص (169)، کشف الحقائق شرح الدقائق جـ (2) ص (272)، المهذب جـ (2) ص (174)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج (4) ص (217)) . 

ويلزم أن يتعمد كل من الجناة المساهمين قتل المجني عليه، ولا يلزم تمیز فعل كل منهم، فسواء تمیز فعل كل منهم، وكان يؤدي إلى الموت، أو لم يتميز وأدى فعلهم جميعا لموت المجني عليه . 

وأوردت المادة أن الواحد يقتل بالجماعة، واختلف رأي الفقهاء فيما يجب لباقي أولياء دم المجني عليهم، فذهب مالك إلى أن الواحد إذا قتل جماعة قتل بهم قصاصاً، ولا يجب مع القتل شيء من المال، سواء كان الجاني قتلهم مرة واحدة، أو قتلهم على التعاقب، وسواء كان الأولياء قد طلبوا كلهم قتله أو طلب بعضهم قتله، وطلب بعضهم الدية وإن أن أخرجوا لنا قاتل عبد الله، ثلاثاً. فقالوا: كلنا قتله. ثلاثاً ، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم. فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه . 

بادر أحد الأولياء، فقتل الجاني قبل إبداء الآخرين رأيهم - فقد سقط حق الباقين في القصاص، ولا دية لهم. وهذا تطبيق دقيق القول بأن القصاص يجب عيناً ؛ لأن حق الجميع تعلق بالقصاص، فإذا قتل الجاني، فقد استوفوا حقهم كاملاً ، وليس لأحدهم أن يطالب بالدية ؛ لأن تنازله عن القصاص لا قيمة له، ما دام أحد الأولياء يريد القصاص، وإنما تجب الدية بدلاً من القصاص إذا امتنع القصاص، وهنا لا يمكن امتناعه ما دام أحد الأولياء يطلبه ؛ لأن محل القصاص واحد بالنسبة للجميع (بدائع الصنائع جـ (7) ص (239)، مواهب الجليل ج (6) ص (248)) . 

وذهب الشافعي إلى أن حقوق الأولياء لا تتداخل، فإن قتل الجاني واحداً بعد واحد اقتص منه للأول؛ لأن له مزية بالسبق، وإن سقط حق الأول بالعفو اقتص للثاني، وإن سقط حق الثاني اقتص للثالث، وهكذا، وإذا اقتص من الجاني لواحد بعينه ، تعين حق الباقين في الدية؛ لأن القصاص فاتهم بغير رضاهم فانتقل حقهم إلى الدية، كما لو مات القاتل . 

وإن قتلهم دفعة واحدة أو أشكل الحال أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة اقتص له ؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فقدم بالقرعة، وإن عفا عمن خرجت له القرعة أعيدت القرعة اللباقين لتساويهم، وإن ثبت القصاص لواحد منهم بالسبق أو القرعة فبادر غيره واقتص منه - صار مستوفياً لحقه ، وإن أساء في التقدم على من هو أحق منه. (المهذب ج (2) ص (195)) . 

ومذهب أحمد يتفق مع مذهب الشافعي، ولا يختلف معه إلا في أنه يجيز للأولياء أن يتفقوا على قتل القاتل، فإذا اتفق اثنان أو أكثر على قتله قتل، وليس لهم غير ذلك، وإن أراد البعض القود والبعض الدية قتل لمن أراد القود، وأعطى الباقون الدية، وحجته في ذلك أن محل القصاص - وهو القاتل - تعلقت به حقوق لا يتسع لها معا، فإذا اكتفى المستحقون بمحل القصاص فيكتفى به، فأساس فكرته أنه ما دام المستحقون قد اكتفوا بالقصاص، فقد تنازلوا عما عداه (المغني جـ (9) ص (405) - (408)) . 

وأساس الاختلاف في هذا كله بين المذاهب هو اختلافهم في العقوبة الواجبة بالقتل العمد، فأبو حنيفة ومالك يريان أن الواجب هو القصاص عيناً ، وأن عفو ولي القتيل لا يلزم الجاني بالدية إلا إذا رضي الجاني بذلك . 

والشافعي وأحمد يريان أن الواجب بالقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية ، ولولي القتيل أن يختار أي العقوبتين شاء، دون حاجة لموافقة الجاني . 

وقد اختارت اللجنة الأخذ برأي الشافعي وأحمد؛ لأنه أحفظ لحقوق باقي أولياء الدم الذين لم يقتص لهم، وحتى لا تطل دماء قتلاهم، وفي الأخذ بهذا الرأي وإعطائهم ديات قتلاهم أكبر الأثر في تهدئة ثائراتهم وترضية نفوسهم، مما يساعد في القضاء على جريمة الثأر التي تتفشى في مثل هذه الحالات . 

فنص في عجز المادة (191) على أن الواحد إذا قتل بالجماعة لا يخل قتله بحق باقي أولياء دم سائر المجني عليهم في الدية ، وأنه لا يؤثر اختلاف أنواع القتل الذي باشره الجاني من عمد، أو شبه عمد، أو خطأ في هذا الحكم ، وهو تعلق حق باقي أولياء دم سائر المجني عليهم ممن لم يقتص لهم من القاتل في الدية . 

(التشريع الجنائي الإسلامي الجزء الثاني ص (138) وما بعدها) . 

مادة (192) :

يعتبر المجني عليه غير معصوم الدم إذا تحققت في شأنه إحدى الحالات الآتية: الأولى : إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله قصاصاً ، وكان الجاني من أولياء الدم. الثانية : إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله حداً . 

الثالثة : إذا كان حربياً غير مستأمن، والحربي هو غير المسلم التابع لدولة غير إسلامية، بينها وبين دولة إسلامية حرب معلنة أو فعلية . 

ولا تخل أحكام الحالتين الأولى والثانية بمعاقبة الجاني بالعقوبة التعزيرية المقررة، ولا جريمة في قتل الحربي . 

الإيضاح

ثمة شروط عامة يتعين توافرها - كأصل عام - للعقاب على جرائم الاعتداء على ما دون النفس التي تسري في شأنها أحكام المشروع، ونجمل هذه الشروط في : 

(1) انتفاء أسباب الإباحة .

(2) أن يكون المجني عليه معصوم الدم . 

فأما عن أسباب الإباحة فقد أورد القانون هذه الأسباب في المواد من (14) إلى (16) ، ومن (523) إلى (529) کمارسة الحق أو القيام بواجب، والدفاع المشروع والضرورة، والإكراه وهذه الأسباب منضبطة، ومن السهل على القاضي تطبيقها، ولا تعدم في الأسس التي تقوم عليها سنداً من الفقه الإسلامي في عمومه برحابته وتعدد الآراء فيه . 

ففيما يتعلق بممارسة الحق، فإن الشريعة تعطي (على سبيل المثال) الأب ولاية التأديب بالنسبة إلى أولاده الصغار الذين دون البلوغ، وللمعلم أياً كان - مدرساً أو معلم حرفة - تأديب الصغير، وللولي والوصي تأديب من تحت ولايته أو وصايته، وحق التأديب ممنوح لهؤلاء بشروط منها أن يكون التأديب لذنب فعله الصغير، وأن يكون الضرب غير مبرح متناسبا مع حالة الصغير وسنه، وألا يكون على الوجه والمواضيع المخوفة، وأن يكون بقصد التأديب وألا يسرف فيه، فإذا وقع الضرب في هذه الحدود وترتب عليه أذى من أنواع الإيذاء التي نص عليها المشروع - فلا مسئولية على المؤدب؛ لأن الفعل مباح، وإنها تترتب المسئولية إذا انحرف المؤدب بحق التأديب، سواء كان هذا الانحراف مقصوداً أو عن خطأ وإهمال، وتترتب المسئولية بحسب الجريمة التي يشكلها هذا الانحراف . 

ومن أمثلة أداء الواجب قیام الطبيب بواجبه من جراحة ونحوها، وقيام الجندي بواجبه في الميدان، وقيام الموظف بأداء وظيفته، كل ذلك في إطار الحدود الشرعية المرسومة، فالشرطي الذي يضطر إلى ملاحقة اللص الهارب بإطلاق النار عليه فيلحق به أذى في جسمه رغم احتياطه وقيامه بالواجب في الحدود المقررة - لا عقاب عليه طالما تم إطلاق النار بقصد أداء الواجب . 

وأما الدفاع المشروع، فأصله مقرر في الشريعة تحت أحكام دفع الصائل، والأصل في دفع الصائل قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) ... (سورة البقرة، الآية: 194). ودفع الصائل مقرر في الشريعة ؛ لدفع الاعتداء على النفس أو المال أو العرض، والشريعة تجيز دفع الصائل، ولو استلزم الأمر قتل المعتدي، طالما لم تكن ثمة وسيلة لدفعه إلا بذلك، وعلى هذا فإذا استلزم دفع المعتدي إيذاءه بأي من أنواع الإيذاء المنصوص عليها في المشروع – فلا يكون في ذلك جريمة، وإنما هو فعل مباح . 

على أنه يشترط لإباحة الفعل بسبب دفع الصائل أن يكون الاعتداء حالا، وألا يمكن دفعه بطريق آخر غير ما وقع، وأن يدفع الاعتداء بالقدر اللازم لدفعه فقط . 

وأما إباحة الفعل للضرورة فاصله في الشريعة - بوجه عام - قوله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ)(الأنعام، الآية: 119)، وقوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ (البقرة، الآية: 173) . 

فمن أكره على الفعل إكراها تاماً ملجئاً يعتبر في حالة ضرورة في منطق الرأي القائل برفع العقوبة عن المكره (بفتح الراء)، وكذلك الجائع المشرف على الهلاك في الصحراء إذا منعه الطعام من وجد عنده ولم يكن ثمة وسيلة للحصول على الطعام إلا بالإقدام على فعل يتضمن إيذاء مانع الطعام . 

ومن الشروط الأساسية للضرورة أن يكون الشخص في حالة إرغام تام على ارتكاب الفعل، وألا يكون ثمة وسيلة للخروج من حالة الضرورة ، إلا بما أتاه من فعل، وأن يكون الفعل بالقدر اللازم لدفع الضرورة فقط . 

كذلك تعتبر إباحة الفعل دفاعا عن النفس أو العرض أو المال من تطبيقات الضرورة بوجه عام؛ لأن الفاعل في هذه الصور يجد نفسه مضطرا إلى الفعل لدفع الاعتداء، طالما أنه لم يتسن دفعه بأية وسيلة أخرى على ما سلف بيانه عند تناول حكم دفع الصائل . 

مبدأ المساواة في العقوبة : 

متى توافرت الشروط العامة للعقاب، فلا فرق بعد ذلك بين الذكر والأنثى في شريعة القصاص، وهذا قول عامة أهل العلم، ومنهم: النخعي، والشعبي، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، ومالك ، وأهل المدينة، والشافعي، وإسحاق، والحنفية، وغيرهم. وقد استدل ابن القيم على ذلك بما ثبت في الصحيحين من أن يهوداً رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها (أي حلي) فأخذ فاعترف ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، وكذلك الشأن بالنسبة للخنثى؛ لأنه لا يخلو من أن يكون ذكراً أو أنثي . 

ولا تفرقة بين الناس كذلك بسبب مناصبهم أو أوضاعهم، فهم جميعاً أمام القصاص والدية سواء، فلا فرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، وصحيح وعليل، بل لقد أجمع الفقهاء على أن السلطان يجب عليه أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من الرعية؛ إذ ليس بينه وبين العامة فرق في أحكام الله تعالى، وورد في بعض الآثار المدونة أن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتص من نفسه (تبيين الحقائق للزيلعي الحنفي، الطبعة الأميرية 1315 هـ الجزء السادس ص (102) إلى (105) - المغني جـ (8) ص (261)) . 

وأما بالنسبة إلى الشرط الذي يجب توافره في المجني عليه وهو أن يكون معصوم الدم، فالمقصود به ألا يكون دمه مهدراً لأحد الأسباب الشرعية التي تجيز ذلك، وقد اعتبرت هذه المادة المجني عليه غير معصوم الدم إذا تحققت في شأنه إحدى الحالات الآتية : 

الأولى : إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله قصاصاً، وكان الجاني من أولياء الدم. الثانية : إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله حداً .

الثالثة : إذا كان حربياً غير مستأمن . 

وقد آثر المشروع الأخذ برأي أبي يوسف ومحمد في خصوص اعتداء ولي دم القتيل على من ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله قصاصاً ، متى وقع هذا الاعتداء على بدنه بما دون القتل، فقد جاء في بدائع الصنائع ج (7) ص (204) ما نصه: «ولو كان له على رجل قصاص في النفس فقطع يده ثم عفا عن النفس، وبرأت اليد - ضمن دية اليد في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لاضمان عليه (وجه) قولهما أن نفس القاتل بالقتل صارت حقا لولي القتيل، والنفس اسم لجملة الأجزاء فإذا قطع يده فقد استوفي حق نفسه، فلا يضمن ولهذا لو قطع يده ثم قتله ، لايجب عليه ضمان اليد ولو لم تكن اليد حقه لوجب الضمان عليه ، ودل على أنه بالقطع استوفي حق نفسه، فبعد ذلك إن عفا عن النفس فالعفو ينصرف إلى القائم لا إلى المستوفی، کمن استوف بعض دينه ثم أبرأ الغريم أن الإبراء ينصرف إلى ما بقي لا إلى المستوفي، كذا هذا . 

وغني عن البيان أن من ارتكب جريمة توجب قتله قصاصاً مهدر الدم في حق أولياء دم القتيل فحسب ، أما بالنسبة لمن سواهم من غير الأولياء فهو محقون الدم؛ إذ قد يعفو عنه الأولياء، ومن ثم فحكمه يختلف عمن ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله حداً، وعن الحربي ؛ لأن كليهما مهدر الدم عند الشارع

ومثال من ارتكب جريمة توجب قتله حداً كالمرتد ، فمن قطع يد مرتد لا يضمن، وإن كان متعدياً في القطع ( المرجع السابق ص (304)) . 

والمحارب وهو الذي يقطع الطريق على الناس لو ارتكب جريمة قتل - مسلماً كان أو غیر مسلم - فعقوبة المحارب في هذه الصورة هي قتله حداً بموجب أحكام الشريعة قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة الإسلامية ، ولذلك لا تكون لديه حصانة ، ولا يعاقب قاتله أو من اعتدى عليه باعتبار أنه ارتكب جريمة قتل أو اعتداء، وإنما يعاقب تعزيراً باعتباره معتدياً على حق السلطة العامة في إقامة الحدود؛ لأن إقامة الحدود ليست موكولة للأفراد وإنها معقودة للسلطة العامة، ويلاحظ أن مناط انتفاء قيام جريمة الاعتداء على النفس هو أن تثبت الجريمة الموجبة للقتل حداً قبل المجني عليه بالدليل الشرعي، أما إذا لم تثبت على هذا الوجه اعتبر المجني عليه معصوم الدم، وعوقب الجاني على الجريمة باعتبارها اعتداء على النفس . 

وقد عنيت هذه المادة بتحديد المقصود بالحربي حتى لا تختلف الآراء في هذا الشأن، فنصت على أن: الحربي هو غير المسلم التابع لدولة غير إسلامية بينها وبين دولة إسلامية حالة حرب معلنة أو فعلية ، وغني عن البيان أن الحربي لا يعتبر غير معصوم الدم إلا إذا كان وجوده في الدولة غير مشروع، أما إذا لجأ للدولة مثلاً طالباً الأمان وأجابته الدولة إلى ذلك كما إذا دخلها بمقتضى جواز سفر، فإنه مستأمن معصوم الدم. (حاشية رد المحتار لابن عابدين الحنفي، مطبعة: الحلبي 1386 / 1966 الجزء الرابع ص (166)) .

ويلاحظ أنه إذا كان الاعتداء على غير معصوم الدم في الحالتين الأولى والثانية من هذه المادة لا يوجب القصاص أو الدية ، إلا أنه لا يمنع من المساءلة التعزيرية، وهذا ما تكفلت به الفقرة الأخيرة من المادة. أما الحربي غير المستأمن فمباح الدم على الإطلاق بغير خلاف. وقيل: إنه أشبه بالخنزير ولا دية فيه لذلك ولا كفارة. (المغني جـ (8) ص (255)) .

مادة (193) : يثبت القصاص للمجني عليه ابتداء، ثم ينتقل للوارث ولا يجرى فيه تمليك، وإذا انقلب مالا يصير ميراثا، ويتوقف القصاص على الدعوى . 

الإيضاح :

أخذ المشروع وفقاً لنص هذه المادة برأي بعض الفقهاء الذين ذهبوا إلى أن القصاص يجب بالجناية التي وقعت على المقتول ، فكان ما يجب بها حقا له ، وبالموت عجز عن استيفاء حقه بنفسه ، فيقوم الورثة مقامه بطريق الإرث عنه ويكون القصاص مشتركا بينهم، وهذا قول الشافعي وأحمد وبعض الحنفية ، وطرح المشروع الرأي الآخر في هذا الخصوص، والذي يذهب إلى أن أثر القصاص يثبت ابتداء للورثة ، قولاً أن القتيل لا يثبت له هذا الحق الجزء الرابع ما دام حياً ؛ إذ لم يكن قد وجد هذا الحق بعد، وبوفاته أصبح غير أهل لثبوت الحقوق، فيثبت للورثة ابتداء كما نصت المادة على عدم جریان التمليك في القصاص، وأنه إذا انقلب مالاً بعفو أو بغيره أصبح میراثاً وجزءاً من تركة المجني عليه . 

ونصت المادة على توقف القصاص على الدعوى، فلا يجوز للورثة استيفاؤه بغير دعوى . 

مادة (194) :

يسقط القصاص في الأحوال الآتية : 

(أ) بعفو المجني عليه أو بعض أولياء دمه دون غيرهم، أو بوجوب المال مصالحة برضاء الجاني في ماله، أو بإسقاط بعض الأولياء حقهم بمصلحة على مال، ويجب للباقي منهم نصيبه في الدية . 

(ب) إذا ورث ولي الدم القصاص على أحد أصوله، أو ورث القاتل القصاص بموت من له القصاص . 

(جـ) بموت القاتل . 

وفي غير حالتي المصالحة على مال، والعفو المطلق المنصوص عليه في المادة (221)، لا يخل سقوط القصاص بالدية . 

الإيضاح

تعالج المادة الخامسة في البند (أ) حالات سقوط القصاص، فتتكلم عن عفو المقتول أو بعض أولياء دمه، أو بالتصالح برضا القاتل في ماله. يقول الحق سبحانه وتعالى : (ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ).(البقرة:178 ) .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله ، فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية». أخرجه أبو داود والنسائي، وأصله في الصحيحين (سبل السلام جـ (3) ص (243 ) / (244) فدلت الآية الكريمة والحديث الشريف على سقوط القصاص بالعفو). والعفو قد يصدر من المجني عليه قبل وفاته وبعد وقوع الاعتداء عليه اعتداء بقصد قتله. وقد اختلف الفقهاء في هذا الشأن . (م 40 - قوانين الشريعة الإسلامية)  .

فذهب داود والشافعي في القديم وأبو ثور وإسحاق إلى أن الإرث باق لورثة المقتول؛ لحصول عفوه قبل ثبوت الحق . 

بينما ذهب مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي في الجديد والحنابلة إلى أن الورثة ليس لهم الحق في طلب القصاص؛ لسقوطه بعفو المقتول، وهو ما اختاره المشروع؛ لأنه أقرب للآية الكريمة، وللمقتول إذ إنه إن جاز لأولياء الدم العفو فأولى لمن وقع عليه الاعتداء قبل وفاته، ولأن السبب انعقد في حقه (کشف الحقائق شرح كنز الدقائق ج (2) ص (275)، الإقناع ج (4) ص (187)/ (188)، المهذب ج (2) ص (189)). وكما يسقط القصاص بعفو المجني عليه قبل وفاته، فإن القصاص يسقط بعفو بعض أولياء الدم، فإذا تعدد أولياء الدم وعفا أحدهم سقط القصاص للمقتول . 

فقد روي أن عمر رضي الله عنه  أتي برجل قتل رجلا، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت أخت المقتول - وهي امرأة القاتل -: قد عفوت عن حقي. فقال عمر رضي الله  عنه: عتق من القتل. ولأن القصاص مشترك بينهم وهو مما لا يتبعض ومبناه على الإسقاط، فإذا أسقط بعضهم حقه سرئ إلى الباقي كالعتق. (المهذب ج (2) ص (189)، الإقناع ج (4) ص (181)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ج (2) ص (494)، حاشية الدسوقي ج (4) ص (232)) . 

والعفو قد يكون بغير مقابل، وقد يكون مصالحة على مال يزيد أو يقل عن الدية برضا القاتل، فيجب بهذا الصلح ويكون لباقي أولياء الدم نصيبهم في الدية . 

ويعالج البند (ب) من المادة حالة ما إذا ورث ولي الدم القصاص على أحد أصوله، ففي هذه الحالة يسقط القصاص؛ لأنه إذا كان القصاص لا يجوز إذا كان القاتل أصلاً للقتيل، فأولى في صورة أن يكون حق القصاص للفرع على أصله، ويتفق حكم هذا البند مع ما ورد بالمادة الأولى من المشروع، ويعالج حكم هذا البند صوراً، منها: إذا قتل الزوج زوجته عمدا فإن ابنهما يكون ولي الدم، فيسقط القصاص .

کما يعالج الشق الثاني من البند ذاته حالة اتحاد الذمة بأن يرث القاتل القصاص بموت من له القصاص، فيصبح القاتل هو صاحب الحق في طلب القصاص، فلا يجوز أن يطلب تنفيذه؛ لأنه يكون قاتلاً نفسه، ويمثل هذه الحالة بصورة ما إذا قتل أحد ولدين أباه، ثم مات الابن غير القاتل ولا وارث سواه، فيرث القاتل جميع دم نفسه .

ويدخل في هذا البند أيضاً حالة أن يرث القاتل بعضاً من القصاص کما في المثال السابق إذا كان للمقتول أكثر من ابن فات أحدهم بعد موت المقتول، فهنا أصبح القاتل وارثاً لجزء من القصاص، فسقط. (الشرح الكبير للدردير ج (4) ص (233)) . 

كما نص في البند (ج) من المادة ذاتها على سقوط القصاص بموت القاتل؛ لانعدام محل القصاص . 

وانتهت المادة في عجزها إلى تقرير القاعدة المقررة من أن سقوط القصاص في غير حالتي العفو المطلق والمصالحة على ما لا يخل بالدية . 

صاحب الحق في العفو :

تقضي المادة الثانية من الدستور بأن الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. ولما كان حق العبد في القصاص غالباً، فكان لا بد في القصاص بكل أنواعه، ألا يكون العفو إلا من المجني عليه أو ولي الدم فحسب، فإن اختار القصاص فلا عقوبة سواه، وإن اختار العفو، فلولي الأمر رفع ذلك إذا رأى أن يعاقب القاتل بعقوبة تعزيرية؛ ذلك بأن الاعتداء إفساد في الأرض، وولي الأمر منوط به منع الفساد، وإذا كان القاتل قد نال العفو من المجني عليه أو ولي الدم بأي طريق - فإن حق المجتمع باق بيد ولي الأمر، وله أن يضع من العقوبات التعزيرية الرادعة ما يراه أحفظ الحقوق المجتمع وأمنع للفساد في الأرض . 

مادة (195) : من اعتدى على غيره متعمداً أو امتنع عن القيام بواجبه المكلف به بناءً على أحكام الشريعة أو القانون أو العقد بقصد العدوان، ولم يقصد من ذلك قتلاً، ولكن الاعتداء أو الامتناع أفضى إلى الموت - يكون قتلا شبه عمد، يعاقب عليها بالعقوبة المنصوص عليها في المادة (514) من هذا القانون، إذا كان المقتول معصوم الدم، وذلك دون إخلال بالدية . 

الإيضاح :

(أ) شبه العمد في مذهب الحنفية : القتل بغير النار والآلة الحادة من كل آلة لا تفرق أجزاء البدن مع توفر قصدي الفعل، والشخص - حتى كان القتل عنده بالخنق، أو الإغراق في الماء، أو بالإلقاء من شاهق مرتفع، أو بالضرب بالعصا، أو بالحجر الكبير، أو بإيجار السم الزعاف القاتل فوراً، أو بإغلاق الحجرة، أو السجن إلى الموت جوعاً وجهداً، كل ذلك من شبه العمد عند أبي حنيفة (مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر جـ (2) ص (616) - فتح القدير تكملته لقاضي زاده جـ (8) ص (250)) . 

أما صاحباه أبو يوسف ومحمد: فهو عندهما تعمد الضرب بآلة لا يقتل بمثلها في الغالب (الزيلعي في شرح تبيين الحقائق، شرح کنز الدقائق (6)/ (100)، حاشية الشلبي (6)/ (100)) (وعبارة البابرتي في شرح العناية على الهداية ج (8) ص (250)) هو: تعمد الضرب بما لا يحمل الهلاك به غالباً، كالعصا الصغيرة إذا لم يوال الضربات، فإذا والى فلهما قولان في حالة موالاة الضرب. قول أنه شبه عمد، وقول بأنه عمد محض (العناية) . 

(ب) وشبه العمد في المذهب الشافعي : هو قصد الفعل، وقصد الشخص بما لا يقتل غالباً، كالضرب بالسوط والعصا، أو قصد الضرب بما لا يقتل غالباً، فيموت المضروب كأن ضربه بعصا خفيفة أو بسوط لا بنحو قلم مما لا ينسب إليه القتل عادة؛ لأن ذلك مصادفة قدر فلا شيء فيه، لا قود ولا دية. (حاشية الباجوري، وشرح ابن قاسم ج (2) ص (3) - مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر ج (2) ص (616) - فتح القدير تكملة زاده ج (8) ص (250)، مغني المحتاج للخطيب ج (4) ص (4)) . 

ونص في نهاية المحتاج الشافعي: شبه العمد: قصد الفعل والشخص بما لا يقتل غالباً، سواء قتل كثيراً، أو نادراً بضربة يمكن إحالة الهلاك عليها، فإذا كان بنحو قلم، فهو هدر (الرملي في نهاية المحتاج جـ (7) ص (6)) . 

(ج) أما الحنابلة : فشبه العمد عندهم هو قصد الجناية، إما لقصد العدوان عليه أو القصد التأديب له، فيسرف فيه بما لا يقتل غالباً، ولم يجرحه بها فيقتل، سواء قصد قتله أو لم يقصده، وقد سمي بذلك؛ لأنه قصد الفعل، وأخطأ في القتل. (کشاف القناع لابن إدريس الحنبلي جـ (3) ص (338)) . 
 

وجاء في المغني لابن قدامة: أنه قصد الضرب بما لا يقتل غالباً، إما القصد العدوان عليه، أو القصد التأديب فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا، والحجر الصغير، والوكز باليد، وسائر ما لا يقتل غالباً إذا قتل، وهو شبه عمد؛ لأنه قصد الضرب دون القتل، ويسمى: عمد الخطأ، وخطأ العمد لاجتماع العمد والخطأ، فإنه عمل الفعل وأخطأ في القتل، وهذا لا قود فيه، والدية على العاقلة. (المغني لابن قدامة ج(9) ص (337)) . 

(د) وعلى القول الثاني غير المشهور عند مالك الذي وافق على إثبات هذا القسم (شبه العمد) قالوا : شبه العمد تغلظ فيه، وهو ضرب الزوج، والمؤدب، والأب في ولده، والأم والأجداد، وفعل الطبيب والخاتن، وكل من جاز فعله شرعاً، إلا أنه تعدى فيه. وقيل: يكون في اللطمة، واللكزة، والرمية، والحجر، والضرب بعصاة متعمداً، فلا قصاص فيه، وتكون فيه الدية مغلظة. (مواهب الجليل للحطاب ج (6) ص (266)). وفي المنتقى أحد شروح الموطأ: «عاقلة شبه العمد : هو ما قصد فيه الضرب على وجه الغضب بالة لا يقتل بمثلها غالباً». (الباجي في المنتقى شرح الموطأ جـ (7) ص (101)) . 

والمشهور عن مالك نفيه إلا في الابن مع أبيه (ابن رشد في بداية المجتهد جـ (2) ص (429)) . 

 

الموازنة بين التعريف (في شبه العمد) 

أولاً : الضرب بالعصا الغليظة : 

الاتفاق بين الأئمة على أن الضرب بالعصا الغليظة قتل عمد عندهم جميعاً إذا أدى ذلك إلى القتل، وخالف فيه أبو حنيفة، حيث رأى أن الضرب بالعصا الغليظة والحجر الكبير من قبيل شبه العمد عنده؛ لأن الحديث: «ألا إن قتيل خطأ العمد، قتيل السوط والعصا والحجر - فيه دية مغلظة مائة من الإبل...». وآخره: «منها أربعون خلفة في بطونها أولادها...». فهو بإطلاقه يتناول العصا الكبيرة، وأبو حنيفة يعتبر القتل بالمثقل الكبير من قسم شبه العمد؛ لأن قصد القتل أمر مبطن لا يعرف إلا بدليله، وهو استعمال الآلة القاتلة . 

ثم إن ما يوجب القصاص وهو الآلة المحددة لا يختلف الصغير منها والكبير؛ لأن الكل صالح للقتل بتخريب البنية ظاهرة وباطناً، فكذلك ما لا يوجب القصاص وجب أن يسوى فيه بين الصغير منه والكبير، حتى لا يوجب الكل القصاص؛ لأنه غير معد للقتل، ولا صالح له لعدم نقض البنية الظاهر، فكان قصده القتل شك لما فيه من القصور، والقصاص نهاية في العقوبة، فلا يجب مع الشك (الزيلعي ج (6) ص (100) تبيين الحقائق)، ونوقش هذا الرأي بأن المراد في الحديث من الحجر والعصا الصغيران، بدليل الاقتران بالسوط، والعادة أن العصا تكون صغيرة . 

ثم المثقل الكبير صالح للقتل وقد يقتل به عادة؛ لأنه غالباً ما يقتل، وعدم نقضه للبنية في الظاهر لا يمنع من اعتبار القتل به عمداً، وإلا لضاعت حكمة مشروعية القصاص؛ لأن الناس يتذرعون إلى القتل به، وهم في أمان من القتل قصاصاً . 

والاستدلال لأبي حنيفة بأن المثقل الكبير غير معد للقتل، ولا صالح له - مردود ولا وجه لما زعمه المستدل لرأي الإمام من قصور العمدية في القتل به؛ لأنه مزهق للروح، والعرف العام يقضي بذلك . 

ثانياً : موالاة الضرب بالعصا الغليظ : 

والقتل بموالاة الضربات بالعصا الصغيرة شبه عمد عند أبي حنيفة والصاحبين في قول. والجمهور من الأئمة الثلاثة أنه عمد؛ لأنه حاصل بفعل يقتل غالباً . 

وأما من اعتبره شبه عمد عند الحنفية الإمام وصاحباه؛ فلأن الآلة المستعملة في القتل غير موضوعة للقتل، ولا تستعمل فيه غالباً، فإذا كان الضرب بها في مقتل، أو كان المضروب صغيرا فيه غالبا، أو حدث في زمان مفرط في الحرارة أو البرودة مما يعين على الهلاك، أو اشتد منها الألم حتى الموت - فإن القتل عمد عند الجمهور؛ لأنه بفعل يقتل غالباً. (مغني المحتاج للخطيب (4)/ (40)) . 

وعند أبي حنيفة وصاحبيه هو شبه عمد، لرعايتهم جانب الآلة المستعملة في القتل . 

ثالثاً : الضرب بما لا يقتل غالباً : 

(أ) إن كان على سبيل التأديب ولم يصاحبه إسراف وأدى إلى القتل - فإنه يكون من الخطأ عند جمهور الفقهاء؛ لأن الفعل مأذون فيه شرعا، فيكون من خطأ القصد . 

وعند الحنفية هو شبه عمد .

ب) أما في حالة الإسراف في التأديب، فإن القتل شبه العمد عند الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية في الظاهر عندهم؛ لأن قصد الفعل مقيد بالعدوان. (مغني المحتاج ج(4)/ (3)) . 

معنی شبه العمد : 

(أ) وأما معنى شبه العمد عند كل من الشافعية والحنابلة فلا خلاف بينهما في وجهة نظرهم فيه، ومقصودها بالقصد بها لا يقتل غالباً إنما يكون في القتل بالتسبب والمباشرة؛ إذ لا فرق بين النوعين عندهما . 

(ب) وأما تعريف أبي حنيفة وصاحبيه فلا يكون إلا في القتل بطريق المباشرة؛ لأن القتل بالتسبب قسم خاص عندهم، وتعريفهم شبه العمد شامل القتل الذي يحصل بموالاة الضرب بالعصا الصغيرة . 

(تحليل شبه العمد) 

من المعلوم أن القتل غير العمد تجب فيه الدية، وشبه العمد تجب فيه الدية، ولكن نظرا إلى قربه من العمد كانت الدية الواجبة فيه دية مغلظة لا من ناحية الحكم والعدد، بل من ناحية سن الإبل الواجبة؛ إذ من المائة الواجبة أربعون خلفة في بطونها أولادها . 

ثم حقيقته أنه مرتبة بين المرتبتين «العمد والخطأ»، فشبهه بالعمد من جهة قصد الضرب، وشبهه بالخطأ من جهة أنه ضرب بها لا يقصد به القتل، ولذلك كان حكمه مترددا بين حكم العمد والخطأ. (بداية المجتهد لابن رشد ج (2) ص (430)). وهو المعبر عنه في القانون بالضرب المفضي إلى الموت، «فهو ضرب انتهى إلى زهوق الروح، وابتداء التعبير عنه بالضرب يجانب اسمه الفقهي «شبه العمد»، والشبه بالعمد الملحوظة في تسميته الشرعية يجعل دائرته تتسع لكل الأفعال التي يقصد منها العدوان ولم يقصد القتل وأدت إلى الموت، وذلك كالقتل الناشئ من الضرب والجرح وإعطاء المادة السامة أو الضارة، والخنق والتردية والتفريق والتحريق وكل ما يندرج تحت القتل العمد، محققاً فيه قصد العدوان، ولكن مع انعدام نية القتل، والعبارة القانونية التي أطلقت على هذا القتل تكاد تحصره في قصور هو خصوص الضرب باليد أو بالأداة، ولا يشمل أنواعاً من الإيذاء اندرجت تحته بالاصطلاح الشرعي، كإعطاء المواد الضارة أو السامة والتفريق والتحریق والخنق والتردية، وذلك ما استنتجه بعض رجال القانون (التشريع الجنائي الإسلامي (2)/ (99) بند (103) للمرحوم عبد القادر عودة) . 

وعلى كل حال فإن نص المادة (514) من هذا القانون لا يوافق مذهب أبي حنيفة تمام الموافقة لما رآه من اعتبار القتل بالمثقل غير موجب للقصاص، فلا يلزم من استعمال آلة غير قاتلة بطبيعتها انتفاء قصد القتل، فإن الظروف إذا دلت على تعمد الجاني إحداث إصابات قاتلة بآلة قد تقتل کعصا غليظة، ودلت الصفة التشريحية على وجود رضوض يمكن نسبتها إلى تلك الآلة، فإن القتل يكون عمداً، وهذا تعبير يتفق في نتيجته مع ما رآه جمهور الفقهاء في القتل شبه العمد الموجب للدية المغلظة . 

والمشروع قد أخذ في القتل شبه العمد با يقرب من قول الشافعية، وهو أن يعتدي الجاني على غيره متعمدا، أو يمتنع عن القيام بواجبه المكلف به بناء على أحكام الشريعة، أو القانون، أو العقد بقصد العدوان، ولم يقصد من ذلك قتلاً، ولكن الاعتداء أو الامتناع أفضى إلى موته، ولم يدخل المشروع وسيلة القتل ركنا في الجريمة؛ أخذا بما سار عليه في المادة (189). 

ونصت المادة (195) على أن الجاني يعاقب بالعقوبة التعزيرية المنصوص عليها في المادة (514) من هذا القانون في حالة القتل شبه العمد، شرط أن يكون المقتول معصوم الدم، وهذا لا يخل بالدية وفق قواعدها المقررة . 

مادة (196) : المجنون أو من به عاهة في العقل أو غير البالغ - يعتبر عمده في حكم الخطأ، وتجب فيه الدية إذا كان المقتول معصوم الدم . 

الإيضاح :

تعالج هذه المادة من المشروع حالة وقوع القتل العمد من المجنون، أو ممن به عاهة في العقل، أو من غير البالغ . 

ومن المقرر شرعاً أن المجنون والصبي غير مكلفين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق». ولأن كليهما فاقد العقل، ومن ثم فإن جمهور الفقهاء اتفقوا على أن عمدهما خطأ تجب فيه الدية على العاقلة، وهو ما أخذ به المشروع . 

يقول الحنابلة: (وعمد الصبي والمجنون خطأ لا قصاص فيه، والدية على العاقلة حيث وجبت). (الإقناع ج (4) ص (169) .  

وبمثل ذلك يقول المالكية، فقد ورد في الشرح الكبير: «وأما الصبي والمجنون فلا يقتص منها «أي والدية على عاقلتهما». وتتعدد الدية أو الغرة بتعدد ما ألقي من أجنة. والغرة نصف عشر الدية . 

ولا تخل الدية أو الغرة بالعقوبة التعزيرية المقررة قانوناً . 

وفيما عدا ما تقدم تسري على الغرة الأحكام المقررة للدية . 

الإيضاح :

لما كان القتل ينصب على الأنفس التي خرجت إلى حيز الوجود، وكان الإنسان يمر بأطوار في رحم أمه قبل خروجه إلى الحياة، كما ورد في الآية الكريمة: ( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ - (13)، (14) سورة المؤمنون - وإسقاط الجنين ليس قتلا بالمعنى الشرعي؛ لأن القتل لا يقع إلا على آدمي حي ذي كيان مستقل منفصل، والجنين ليس كذلك، ولذلك عبر الفقهاء عن هذه الجريمة بالجناية على النفس من وجه دون وجه، وقد ألحقت بالقتل؛ لأنها أقرب إليه، وتؤدي في الغالب إلى إزهاق روح الجنين، ومن ثم فإن الشريعة الإسلامية تعرضت للجناية التي تقع على الأجنة في بطون أمهاتها بالنص على ما يجب على الجاني، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد، أو وليدة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورث الدية ولدها ومن معه، فقال حمل بن النابغة الهذلي: یا رسول الله، كيف يغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هذا من إخوان الكهان - من أجل سجعه الذي سجع - »» صحيح مسلم بشرح النووي، المجلد الرابع ص (254)، سبل السلام جـ (3) ص (238)، ومتفق عليه . 

ومن هذا الحديث اتفق العلماء على أن الجنين إذا انفصل ميتا تجب فيه غرة عبد أو أمة، سواء أكان الجنين ذكراً أو أنثى، وسواء أكان خلقه كامل الأعضاء أو ناقصها، أو كان مضغة تصور فيها خلق آدمي، وذلك حسماً لكل نزاع، وبهذا أخذ المشروع .
 

واختلف الفقهاء في الغرة، فقيل: المراد العبد أو الأمة، وقيل: الأبيض خاصة. وجمهور الفقهاء على أن المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم، أو نصف عشر دية الأب . 

كما اختلف الفقهاء على من تجب؟ قال الشافعي وأبو حنيفة وفريق من المالكية: إنها تجب على العاقلة. وقال مالك وغيره: تجب على الجاني. وهو ما أخذ به المشروع . 

واتفق الفقهاء على أنه إذا انفص الجنين حياً ثم مات، فيجب کمال دية الكبير بحسب ما إذا كان ذكراً أو أنثى، سواء كان عمداً أو خطأ . 

واختلف الفقهاء فيمن يستحق في دية الجنين، فقال بعضهم: هي لورثته على مواريثهم الشرعية. وقال بعض العلماء: هو كعضو من أعضاء الأم، فتكون ديته لها خاصة . 

(يراجع الأم للشافعي ج (6) ص (93) وما بعدها، المهذب ج (2) ص (197)، الشرح الكبير للدردير ج (4) ص (238) وما بعدها) . 

ويرى المالكية أنه إذا ألقي الجنين ميتاً بعد موت أمه، فلا يجب شيء، وهو ما أخذ به المشروع، يقول الدردير في الشرح الكبير: (فإذا انفصل كله بعد موتها أو بعضه وهي حية وباقية بعد موتها - فلا شيء فيه). ج (4) ص (239). وعلى هذا نص المشروع في هذه المادة منه على حكم إسقاط الجنين، سواء أكان عمدا أو خطأ، فأوجب الدية في مال الجاني؟ أخذا برأي مالك في هذا الصدد، وحددت المادة الدية وفق رأي الفقهاء بأنها نصف عشر دية الرجل، سواء أكان الجنين ذكراً أو أنثى، كما أخذت المادة برأي من قال من الفقهاء بأن الدية لورثة الجنين، إلا أن يكون أحدهم هو الجاني، فلا يستحق فيها شيئاً . 

کا نصت المادة أخذا برأي المالكية وغيرهم: أنه إذا ألقي الجنين ميتاً بعد موت أمه، فلا يجب فيه شيء؛ لجواز حدوث وفاته نتيجة وفاة الأم كما أخذت المادة برأي الفقهاء في وجوب الدية كاملة إذا انفصل الجنين حيا، ثم مات بعد ذلك . 

ونصت المادة على أن: وجوب الدية أو الغرة لا تخل بالعقوبة التعزيرية المنصوص عليها في هذا القانون، وأنه فيما عدا ما ورد بالمادة تسري على الغرة الأحكام المقررة للدية . 

الفصل الثاني 

في شأن القتل الموجب للقصاص 

مادة (199) : 

1- إثبات القتل الموجب للقصاص يكون في مجلس القضاء بإحدى الوسيلتين الآتيتين : 

الأولى : إقرار الجاني قولاً أو كتابة ولو مرة واحدة، ويشترط أن يكون الجاني بالغاً عاقلاً مختاراً وقت الإقرار، غير متهم في إقراره، صريحاً واضحاً منصباً على ارتكاب الجريمة بشروطها . 

الثانية : شهادة رجلين بالغين عاقلين، عدلين مختارين، غير متهمين في شهادتها، مبصرین قادرين على التعبير قولاً أو كتابة، وذلك عند تحمل الشهادة، وعند أدائها . 

وتثبت عند الضرورة بشهادة رجل وامرأتين أو أربع نسوة. ويفترض في الشاهد العدالة ما لم يقم الدليل على غير ذلك قبل أداء الشهادة . 

ويشترط أن تكون الشهادة بالمعاينة، لا نقلا عن قول الغير، وصريحة في الدلالة على وقوع الجريمة بشروطها . 

ولا يعد المجني عليه شاهداً إلا إذا شهد لغيره . 

2- أما باقي الجرائم المنصوص عليها في هذا الباب فيكون إثباتها وفق أحكام قانون الإجراءات الجنائية . 

الإيضاح :

خصص هذا الفصل للقتل الموجب للقصاص، فنصت المادة (199) على أنه يثبت على الجاني إما بالإقرار أو الشهادة أو بها معاً . 

فعن ثبوت القتل بإقرار الجاني : 

الإقرار لغة : هو الإثبات من قر الشيء يقر قراراً، إذا أثبت. وشرعاً: الإخبار عن حق أو الاعتراف به. (حاشية قليوبي، شرح الجلال المحلى على منهاج الطالبين جـ (3) ص (2)، طرق القضاء أحمد إبراهيم ص (117)) . 
 

والأصل في مشروعية ثبوت القتل بإقرار الجاني الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ إلى قوله - عز من قائل -: قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا. سورة آل عمران (81)، وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ سورة النساء (135). قال المفسرون: المرء على نفسه هي الإقرار. وغير ذلك من الآيات (الأعراف (172)، البقرة (282)، التوبة (102)) . 
 

وأما السنة فحديث ماعز المشهور، والغامدية، وقصة العسيف. (يراجع سبل السلام ج(4) ص (6)، نيل الأوطار ج (7) ص (91)) . 

وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة على صحة الإقرار والعمل به كحجة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير، ومن المعقول أن الإقرار إخبار بنفس التهمة والجريمة عن المقر، ولأن العاقل لا يكذب على نفسه كذباً يضر بها، ولهذا كان الإقرار آكد من الشهادة، وكان حجة في حق المقر يوجب عليه الحد والقصاص والتعزير، كما يوجب عليه الحقوق المالية . 

التشريع الجنائي الإسلامي للمرحوم الشهيد عبد القادر عودة ج(2) ط (5) ص (303)) . 

والإقرار في رأي جمهور الفقهاء حجة قاصرة على المقر، ويرى البعض أنه يمكن اعتبار الإقرار على الغير قرينة فيما يجوز إثباته بالقرائن، ويلزم أن يكون الإقرار في مجلس القضاء . 

واشترطت المادة في الإقرار المثبت للجناية أن يكون المقر عاقلاً، دليله ما رواه البخاري بسنده في قصة ماعز عندما أقر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا أربع شهادات، ودعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أبك جنون؟» قال: لا يا رسول الله. ج (8) ص (207) طبعة: كتاب الشعب، فدل ذلك على أن العقل شرط لصحة الإقرار، وكذا يلزم أن يكون المقر مختارا، فلو كان مکرها على الإقرار كان باطلا لا يعتد به، ولا ينهض دليلا عليه، سنده قول الحق سبحانه وتعالى : إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ» [النحل: 106]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . 

يراجع في تفصيلات الإكراه البحر الرائق ج (8) ص (79)/ (80)، مواهب الجليل ج (4) ص (45)/ ( 49)، المغني ج (8) ص (260)، المبسوط للسرخسي ج (9) ص (187) . 

أما من ادعى الإكراه، فلا تقبل دعواه لمجرد الادعاء؛ لأن الأصل عدم الإكراه، إلا أن يقوم الدليل عليه. (المغني ج (5) ص (273)) . 

كما يلزم أن يكون المقر غير متهم في إقراره، فإن أراد تحمل الجناية عن غيره. يقول ابن القيم: 

فإن الإقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه أبداً». (الطرق الحكمية ص (6)) . 

كما يلزم أن يكون الإقرار صريحاً واضحاً منصباً على ارتكاب الجريمة بشروطها .
 

کما يثبت القتل الموجب للقصاص بشهادة رجلين في مجلس القضاء، وتقرر المادة شروط الشهادة التي يثبت بها القتل العمد للقصاص . 

والشهادة لغة : الإخبار بما قد شوهد، المصباح المنير ج (1) ص (163). شرعاً : هي إخبار بحق للغير على الغير عن مشاهدة لا عن ظن؛ لأن الإقرار إخبار بحق على نفسه. الغيره، والدعوى إخبار بحق على غيره لنفسه (حاشية قليوس على منهاج الطالبين ج (3) ص (2)، طرق القضاء، أحمد إبراهيم ص (282)) . 

أما شهادة النساء بحتا، فقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنها أنه: «لا تجوز شهادة النساء في الطلاق ولا النكاح ولا الدماء ولا الحدود» . 

وقال الزهري: «مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده ألا تجوز شهادة النساء في الحدود والنكاح والطلاق» . 

الطرق الحكمية لابن القيم ص (178)/ (179) . 

غير أن المشروع نص في الفقرة الثانية من هذه المادة على أنه : في حالة وقوع الجريمة في مكان غير مطروق للرجال، كسجن النساء أو مدرسة بنات أو مدينة جامعية للطالبات - فإن القتل الموجب للقصاص يثبت بشهادة رجل وامرأتين، أو بشهادة أربع نسوة وذلك للضرورة، كما نصت الفقرة الثالثة من المادة على أن: المجني عليه لا يعد شاهداً لنفسه، وإنما يكون شاهداً في شهادته لغيره فحسب. وعنيت المادة في الفقرة الأخيرة بالنص على أن باقي الجرائم المنصوص عليها في هذا المشروع - عدا ما جاء بصدرها يكون إثباتها وفق أحكام قانون الإجراءات الجنائية . 

مادة (200) : يجوز للمقر العدول عن إقراره إلى ما قبل الحكم النهائي من محكمة الجنايات، وفي هذه الحالة يحكم بالعقوبة التعزيرية المقررة إذا لم يكن ثانيا إلا بإقراره . 

الإيضاح : 

أوردت هذه المادة حكم الرجوع عن الإقرار قبل الحكم النهائي من محكمة الجنايات، وقد اختلف الفقهاء في أثر رجوع المقر عن إقراره، فالجمهور يرى أن المقر يرجع في إقراره قبل إقامة الحد عليه؛ لأن الرجوع في الإقرار يفيد التعارض بين خبرين محتملين للصدق والكذب من غير مرجح لأحدهما، وسند هذا الرأي ما روي في قصة ماعز أنه أقر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأول مرة فأعرض عنه، ولثاني مرة فأعرض عنه، فلو لم يسقط الإقرار بالرجوع لما أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (المهذب ج (2) ص (345)) . 

ولأن من المقرر أن الحدود تدرأ بالشبهات، ورجوعه عن إقراره يورث الشبهة فيه ، وأما في حقوق العباد فالرجوع عنها باطل والإقرار صحيح نافذ، ومن ذلك القصاص أيضاً. (طرق القضاء في الشريعة الإسلامية، أحمد إبراهيم، ص (162)) . 

غير أن المشروع أخذ باعتبار رجوع الجاني عن إقراره، وشرط أن يتم ذلك إلى ما قبل الحكم النهائي من محكمة الجنايات، فإذا رجع الجاني حتى ذلك الوقت، فإنه لا يحكم عليه بالإعدام قصاصاً، إذا لم يكن القتل ثابتاً إلا بالإقرار، أما إذا كان ثابتاً بالشهادة أيضاً ، فإنه يحكم عليه بالإعدام إذا توافرت الشروط المقررة في الشهادة . 

مادة (201) : إذا رأت النيابة العامة بعد التحقيق توافر أركان القتل الموجب القصاص ودليله الشرعي - أصدر رئيس النيابة أو من يقوم مقامه أمراً بإحالة الدعوى إلى محكمة الجنايات مباشرة . 

الإيضاح : 

جعلت هذه المادة حق إحالة الدعوى بالقتل الموجب للقصاص بعد تحقيقها، وتوافر أركانها وأدلتها، إلى محكمة الجنايات مباشرة، دون عرضها على مستشار الإحالة، وجعلت هذا الحق لرئيس النيابة العامة أو من يقوم مقامه . 

مادة (202) : لا يجوز إبدال عقوبة الإعدام قصاصاً ولا العفو عنها إلا وفقا لأحكام هذا الباب . 

الإيضاح : 

لما كان من المقرر شرعاً أنه إذا توافرت أركان وشروط القصاص تعين القضاء به، وليس للحاکم سلطة تقديرية في ذلك، كما لا يجوز للقاضي النزول به أو إبداله بأية عقوبة أخرى، ومن ثم نصت المادة (202) على أنه إذا وجب بالإعدام قصاصاً ، فلا يجوز لمحكمة الجنايات تطبيق المادة (55) من هذا القانون . 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثلاثون ، الصفحة / 308

الْقَتْلُ الْعَمْدُ مُحَرَّمٌ بِالإْجْمَاعِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْقِصَاصِ وَالنَّارِ كَمَا جَاءَ فِي قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) .

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ تَوْبَةِ قَاتِلِ الْعَمْدِ :

فَذَهَبَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأْرْبَعَةِ إِلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ، لقوله تعالى :وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) وقوله تعالى  : ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)؛ وَلأِنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِ الْعَمْدِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ فَإِذَا قُبِلَتِ التَّوْبَةُ مِنْهُ فَقَبُولُ التَّوْبَةِ مِنَ الْقَتْلِ أَوْلَى .

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِقَاتِلِ الْعَمْدِ تَوْبَةٌ، لقوله تعالى :(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) .

عَمْد

التَّعْرِيفُ :

1 - الْعَمْدُ فِي اللُّغَةِ : قَصْدُ الشَّيْءِ وَالاِسْتِنَادُ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّيَّةِ يُقَالُ: تَعَمَّدَ وَتَعَمَّدَ لَهُ وَعَمَدَ إِلَيْهِ وَلَهُ، أَيْ قَصَدَهُ.

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :

أ - الْقَصْدُ :

2 - يُقَالُ : قَصَدْتُ الشَّيْءَ وَلَهُ وَإِلَيْهِ قَصْدًا: إِذَا طَلَبْتَهُ بِعَيْنِهِ، وَقَصَدَ الأَْمْرَ: تَوَجَّهَ إِلَيْهِ عَامِدًا، وَالْمَقْصِدُ: مَوْضُوعُ الْقَصْدِ، وَقَصَدَ فِي الأَْمْرِ: تَوَسَّطَ وَلَمْ يُجَاوِزِ الْحَدَّ فِيهِ، وَقَصَدَ الطَّرِيقَ: أَيِ: اسْتَقَامَ.

وَالْقَصْدُ أَعَمُّ مِنَ الْعَمْدِ .

ب - الْعَزْمُ :

3 - الْعَزْمُ فِي اللُّغَةِ : عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الأَْمْرِ، يُقَالُ: عَزَمَ فُلاَنٌ عَزْمًا أَيْ: جَدَّ وَصَبَرَ، وَعَزَمَ الأَْمْرَ أَيْ: عَقَدَ نِيَّتَهُ وَضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِهِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثاني والثلاثون ، الصفحة / 321

قَتْلٌ

التَّعْرِيفُ :

الْقَتْلُ فِي اللُّغَةِ : فِعْلٌ يَحْصُلُ بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ يُقَالُ: قَتَلَهُ قَتْلاً: أَزْهَقَ رُوحَهُ، وَالرَّجُلُ قَتِيلٌ وَالْمَرْأَةُ قَتِيلٌ إذَا كَانَ وَصْفًا، فَإِذَا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ جُعِلَ اسْمًا وَدَخَلَتِ الْهَاءُ نَحْوُ: رَأَيْتُ قَتِيلَةَ بَنِي فُلاَنٍ.

وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ نَقْلاً عَنِ التَّهْذِيبِ يُقَالُ: قَتَلَهُ بِضَرْبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ سُمٍّ: أَمَاتَهُ .

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَالَ الْبَابَرْتِيُّ: إنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مِنَ الْعِبَادِ تَزُولُ بِهِ الْحَيَاةُ.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :

أ - الْجَرْحُ :

- الْجَرْحُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ جَرَحَ يَجْرَحُ جَرْحًا: أَثَرٌ بِالسِّلاَحِ وَنَحْوِهِ.

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .

وَالْجَرْحُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ .

ب - الضَّرْبُ :

-مِنْ مَعَانِي الضَّرْبِ: الإْصَابَةُ بِالْيَدِ أَوِ السَّوْطِ أَوِ السَّيْفِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ .

وَالضَّرْبُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ .

قَتْلٌ بِسَبَبٍ

التَّعْرِيفُ :

الْقَتْلُ بِسَبَبٍ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، هُمَا: الْقَتْلُ وَالسَّبَبُ .

وَيُنْظَرُ تَعْرِيفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُصْطَلَحِهِ .

وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْقَتْلُ نَتِيجَةَ فِعْلٍ لاَ يُؤَدِّي مُبَاشَرَةً إلَى قَتْلٍ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ، أَوْ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَأَمْثَالِهِمَا، فَيَعْطَبُ بِهِ إنْسَانٌ وَيُقْتَلُ .

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :

أ - الْقَتْلُ الْعَمْدُ :

الْقَتْلُ الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ قَطْعًا أَوْ غَالِبًا .

وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا، وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ يَكُونُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ .

ب - الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ :

الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا لاَ يَقْتُلُ غَالِبًا .

وَالْعَلاَقَةُ أَنَّ الْقَتْلَ شِبْهَ الْعَمْدِ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ لاَ يَقْتُلُ غَالِبًا .

وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ يَكُونُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ .

ج - الْقَتْلُ الْخَطَأُ :

هُوَ مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ، أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا .

وَالصِّلَةُ أَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ يَقَعُ نَتِيجَةَ فِعْلٍ مُبَاشِرٍ، بِخِلاَفِ الْقَتْلِ بِسَبَبٍ .

حَالاَتُ الْقَتْلِ بِسَبَبٍ :

قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْقَتْلَ أَقْسَامًا اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ الْقَتْلُ بِسَبَبٍ، فَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا مِنْ أَقْسَامِ الْقَتْلِ الْخَمْسَةِ عِنْدَهُمْ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَجْعَلُوهُ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا وَإِنَّمَا أَوْرَدُوا أَحْكَامَهُ فِي الأْقْسَامِ الأْخْرَى وَمِنْ ذَلِكَ الْحَالاَتُ التَّالِيَةُ :

أ - الإْكْرَاهُ :

- الْقَتْلُ بِسَبَبِ الإْكْرَاهِ أَنْ يُكْرِهَ رَجُلاً عَلَى قَتْلِ آخَرَ فَيَقْتُلَهُ .

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إكْرَاهٌ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا) .

ب- الشَّهَادَةُ بِالْقَتْلِ :

إذَا شَهِدَ رَجُلاَنِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، فَقُتِلَ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، وَاعْتَرَفَا بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَبِعِلْمِهِمَا بِأَنَّ مَا شَهِدَا بِهِ يُقْتَلُ بِهِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ، فَقَطَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَا فِي شَهَادَتِهِمَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا، وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ يَدِهِ، وَلأِنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الرَّجُلِ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ تَوَصَّلاَ إلَى قَتْلِهِ بِسَبَبٍ يَقْتُلُ غَالِبًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ كَالْمُكْرَهِ .

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَشْهَبَ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِمَا بَلْ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، لأِنَّهُ تَسَبُّبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَلاَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ .

ج - حُكْمُ الْحَاكِمِ بِقَتْلِ رَجُلٍ :

إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَى شَخْصٍ بِالْقَتْلِ بِنَاءً عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَاعْتَرَفَ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا حِينَ الْحُكْمِ أَوِ الْقَتْلِ دُونَ الْوَلِيِّ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْحَاكِمِ .

وَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَهُ أَقَرَّ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِ الشُّهُودِ وَتَعَمُّدِ قَتْلِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ) .

د - حَفْرُ الْبِئْرِ وَوَضْعُ الْحَجَرِ :

مِنْ صُوَرِ الْقَتْلِ بِسَبَبٍ حَفْرُ الْبِئْرِ وَنَصْبُ حَجَرٍ أَوْ سِكِّينٍ تَعَدِّيًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلاَ إذْنٍ، فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِنَايَةَ وَأَدَّى إلَى قَتْلِ إنْسَانٍ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ قَتْلُ خَطَأٍ وَمُوجَبَهُ الدِّيَةُ .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ وَمُوجَبَهُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، لأِنَّهُ سَبَبُ التَّلَفِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، لأِنَّ الْقَتْلَ مَعْدُومٌ مِنْهُ حَقِيقَةً، فَأُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ، فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الأَْصْلِ، وَهُوَ إنْ كَانَ يَأْثَمُ بِالْحَفْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لاَ يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ .

أَمَّا إذَا قَصَدَ الْجِنَايَةَ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إذَا قَصَدَ هَلاَكَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَهَلَكَ فِعْلاً، فَعَلَى الْفَاعِلِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ هَلَكَ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَفِيهِ الدِّيَةُ .

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَمُوجَبُهُ الدِّيَةُ، وَقَدْ يَقْوَى فَيَلْحَقُ بِالْعَمْدِ، كَمَا فِي الإْكْرَاهِ وَالشَّهَادَةِ .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى اعْتِبَارِ حَفْرِ الْبِئْرِ شَرْطًا، لأِنَّهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْهَلاَكِ وَلاَ يُحَصِّلُهُ، بَلْ يَحْصُلُ التَّلَفُ عِنْدَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَفْرَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي التَّلَفِ، وَلاَ يُحَصِّلُهُ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ التَّخَطِّي فِي صَوْبِ الْحُفْرَةِ، وَالْمُحَصِّلُ لِلتَّلَفِ التَّرَدِّي فِيهَا وَمُصَادَمَتُهَا، لَكِنْ لَوْلاَ الْحَفْرُ لَمَا حَصَلَ التَّلَفُ وَلاَ قِصَاصَ فِيهِ .

قَتْلٌ عَمْدٌ

التَّعْرِيفُ :

الْقَتْلُ الْعَمْدُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا: «الْقَتْلُ» «وَالْعَمْدُ»، وَسَبَقَ تَعْرِيفُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مُصْطَلَحِهِ .

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ: هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ قَطْعًا أَوْ غَالِبًا .

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ: هُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ ضَرْبَ الْمَقْتُولِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ بِآلَةٍ تُفَرِّقُ الأْجْزَاءَ كَالسَّيْفِ، وَاللِّيطَةِ، وَالْمَرْوَةِ وَالنَّارِ، لأِنَّ الْعَمْدَ فِعْلُ الْقَلْبِ، لأِنَّهُ الْقَصْدُ، وَلاَ يُوقَفُ عَلَيْهِ إلاَّ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الآْلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَتْلِ عَادَةً .

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :

أ - الْجِنَايَةُ :

الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْحرْمُ

وَشَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَقِيلَ: كُلُّ فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا عَلَى النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا، إلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصَّصُوا لَفْظَ الْجِنَايَةِ بِمَا حَلَّ بِنَفْسٍ أَوْ أَطْرَافٍ، وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَلَّ بِمَالٍ.

وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقَتْلِ الْعَمْدِ، أَنَّ الْقَتْلَ تَتَحَقَّقُ بِهِ الْحِنَايَةُ لأِنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ يَحِلُّ بِالنَّفْسِ، وَأَنَّ كُلَّ قَتْلٍ جِنَايَةٌ وَلاَ عَكْسَ .

ب - الْجِرَاحُ :

الْجِرَاحُ لُغَةً جَمْعُ جُرْحٍ، وَهُوَ مِنَ الْجَرْحِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، يُقَال: جَرَحَهُ إذَا أَثَّرَ فِيهِ بِالسِّلاَحِ .

وَالْجُرْحُ - بِضَمِّ الْجِيمِ - الاِسْمُ .

وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءُ لِلْجِرَاحِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ .

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْجِرَاحِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ .

ح - الْقَتْلُ الْخَطَأُ :

الْقَتْلُ الْخَطَأُ: مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا .

وَالْعَلاَقَةُ الضِّدْيَةُ فِي الْقَصْدِ.

د - الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ :

الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ : قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا لاَ يَقْتُلُ غَالِبًا.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لاَ يُفَرِّقُ الأْجْزَاءَ كَالْحَجَرِ، وَالْعَصَا، وَالْيَدِ .

وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِأَدَاةِ الْقَتْلِ .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:  (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ)،  وقوله تعالي : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ)، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :  «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ».

صُوَرُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ :

الصُّورَةُ الأْولَى : الضَّرْبُ بِمُحَدَّدٍ :

- إذَا ضَرَبَ شَخْصٌ آخَرَ بِمُحَدَّدٍ وَهُوَ مَا يَقْطَعُ وَيَدْخُلُ فِي الْبَدَنِ، كَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ، وَالسِّنَانِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يُحَدِّدُ فَيَجْرَحُ مِنَ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالزُّجَاجِ، وَالْحَجَرِ، وَالْقَصَبِ، وَالْخَشَبِ، وَأَمْثَالِهَا، فَجَرَحَ بِهِ جُرْحًا كَبِيرًا فَمَاتَ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ .

وَأَمَّا إذَا جَرَحَهُ جُرْحًا صَغِيرًا كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ، أَوْ غَرَزَهُ بِإِبْرَةٍ: فَإِنْ كَانَ فِي مَقْتَلٍ كَالْعَيْنِ، وَالْفُؤَادِ، وَأَصْلِ الأْذُنِ، فَمَاتَ فَهُوَ عَمْدٌ أَيْضًا، لأِنَّ الإْصَابَةَ بِذَلِكَ فِي الْمَقْتَلِ كَالْجَرْحِ بِالسِّكِّينِ فِي غَيْرِ الْمَقْتَلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .

وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبُ: إنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إنْ غَرَزَ إبْرَةً فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ فَتَوَرَّمَ وَتَأَلَّمَ حَتَّى مَاتَ فَعَمْدٌ، لِحُصُولِ الْهَلاَكِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَثَرٌ فَمَاتَ فِي الْحَالِ فَشِبْهُ عَمْدٍ فِي الأْصَحِّ، لأِنَّهُ لاَ يَقْتُلُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ بِالسَّوْطِ الْخَفِيفِ، وَقِيلَ: هُوَ عَمْدٌ، لأِنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِلُ خَفِيَّةً وَمَوْتُهُ حَالاً يُشْعِرُ بِإِصَابَةِ بَعْضِهَا، وَقِيلَ: لاَ شَيْءَ، إحَالَةً لِلْمَوْتِ عَلَى سَبَبٍ آخَرَ .

أَمَّا إذَا تَأَخَّرَ الْمَوْتُ عَنِ الْغَرْزِ فَلاَ ضَمَانَ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ .

وَهَذَا كُلُّهُ فِي بَدَنِ الْمُعْتَدِلِ، أَمَّا الشَّيْخُ وَالصَّغِيرُ وَنِضْوُ الْخِلْقَةِ، فَفِيهِ الْقِصَاصُ .

وَلَوْ غَرَزَهَا فِيمَا لاَ يُؤْلِمُ، كَجِلْدَةِ عَقِبٍ وَلَمْ يُبَالِغْ فِي إدْخَالِهَا فَمَاتَ، فَلاَ شَيْءَ سَوَاءٌ أَمَاتَ فِي الْحَالِ أَمْ بَعْدَهُ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ، أَمَّا إذَا بَالَغَ فَيَجِبُ الْقَوَدُ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إنْ كَانَ قَدْ بَالَغَ فِي إدْخَالِهَا فِي الْبَدَنِ فَهُوَ كَالْجُرْحِ الْكَبِيرِ، لأِنَّ هَذَا يَشْتَدُّ أَلَمُهُ، وَيُفْضِي إلَى الْقَتْلِ كَالْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْغَوْرُ يَسِيرًا، أَوْ جَرَحَهُ بِالْكَبِيرِ جُرْحًا لَطِيفًا كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ فَمَا دُونَهَا فَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ زَمَنًا حَتَّى مَاتَ فَفِيهِ الْقَوَدُ، لأِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهُ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْحَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ، لأِنَّ الْمُحَدَّدَ لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي حُصُولِ الْقَتْلِ بِهِ، وَلأِنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِلَ خَفِيَّةً وَهَذَا لَهُ سِرَايَةٌ، فَأَشْبَهَ الْجُرْحَ الْكَبِيرَ .

وَالثَّانِي : لاَ قِصَاصَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، لأِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ .

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : الْقَتْلُ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حُصُولُ الزُّهُوقِ بِهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ :

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ عَمْدٌ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ .

وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ .

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه : «أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا بِحَجَرٍ، فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  بَيْنَ حَجَرَيْنِ» .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لاَ قَوَدَ فِي ذَلِكَ إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ بِالنَّارِ، وَحُجَّتُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :  «أَلاَ إنَّ قَتِيلَ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا شِبْهِ الْعَمْدِ فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإْبِلِ» فَسَمَّاهُ عَمْدَ الْخَطَأِ، وَأَوْجَبَ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ، وَلأِنَّ الْعَمْدَ لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ ضَبْطُهُ بِمَظِنَّتِهِ، وَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا لِحُصُولِ الْعَمْدِ بِدُونِهِ فِي الْجُرْحِ الصَّغِيرِ، فَوَجَبَ ضَبْطُهُ بِالْجُرْحِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَيْضًا .

وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوسٌ: الْعَمْدُ مَا كَانَ بِالسِّلاَحِ .

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مُثَقَّلِ الْحَدِيدِ رِوَايَتَانِ: الْمَذْهَبُ أَنَّ فِيهِ الْقَوَدَ .

- وَمِنَ الضَّرْبِ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ: الضَّرْبُ بِمُثَقَّلٍ كَبِيرٍ يَقْتُل مِثْلُهُ غَالِبًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ كَالسِّنْدَانِ وَالْمِطْرَقَةِ، أَوْ حَجَرٍ ثَقِيلٍ، أَوْ خَشَبَةٍ كَبِيرَةٍ، وَحَدَّ الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ الْخَشَبَةَ الْكَبِيرَةَ بِمَا فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ: يَعْنِي الْعُمُدَ الَّتِي يَتَّخِذُهَا الأْعْرَابُ لِبُيُوتِهِمْ، وَفِيهَا دِقَّةٌ، وَأَمَّا عُمُدُ الْخِيَامِ فَكَبِيرَةٌ تَقْتُلُ غَالِبًا فَلَمْ يُرِدْهَا الْخِرَقِيُّ .

وَإِنَّمَا حَدَّ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ بِمَا فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ، لأِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  لَمَّا «سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي ضَرَبَتْ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ، وَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا»، وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِلُ الْعَمْدَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ فَهُوَ عَمْدٌ، لأِنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا .

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا أَنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ حَائِطًا أَوْ صَخْرَةً، أَوْ خَشَبَةً عَظِيمَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُهْلِكُهُ غَالِبًا، فَفِيهِ الْقَوَدُ، لأِنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا .

-وَإِنْ ضَرَبَهُ بِمُثَقَّلٍ صَغِيرٍ كَالْعَصَا وَالسَّوْطِ، وَالْحَجَرِ الصَّغِيرِ، أَوْ لَكَزَهُ بِيَدِهِ فِي مَقْتَلٍ، أَوْ فِي حَالِ ضَعْفٍ مِنَ الْمَضْرُوبِ لِمَرَضٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ فِي زَمَنٍ مُفْرِطِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ بِحَيْثُ تَقْتُلُهُ تِلْكَ الضَّرْبَةُ، أَوْ كَرَّرَ الضَّرْبَ حَتَّى قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَفِيهِ الْقَوَدُ، لأِنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ بِمُثَقَّلٍ كَبِيرٍ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ .

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ : الْقَتْلُ بِالْخَنْقِ :

- أَنْ يَجْعَلَ فِي عُنُقِهِ خُرَاطَةً، ثُمَّ يُعَلِّقَهُ فِي خَشَبَةٍ أَوْ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنِ الأْرْضِ فَيَخْتَنِقَ وَيَمُوتَ، فَهَذَا عَمْدٌ سَوَاءٌ مَاتَ فِي الْحَالِ أَوْ بَقِيَ زَمَنًا، لأِنَّ هَذَا أَوْحَى أَنْوَاعِ الْخَنْقِ، وَكَذَا أَنْ يَخْنُقَهُ وَهُوَ عَلَى الأْرْضِ بِيَدَيْهِ أَوْ بِمِنْدِيلٍ أَوْ بِحَبْلٍ، أَوْ شَيْءٍ يَضَعُهُ عَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ، أَوْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمَا فَيَمُوتَ، فَهَذَا إنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ مُدَّةً يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَمَاتَ فَهُوَ عَمْدٌ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالنَّخَعِيُّ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لأِبِي حَنِيفَةَ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (خَنْقٌ ف 3)

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يُلْقِيَهُ فِي مَهْلَكَةٍ :

وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ :

الضَّرْبُ الأْوَّلُ :

- أَنْ يُلْقِيَهُ مِنْ شَاهِقٍ كَرَأْسِ جَبَلٍ، أَوْ حَائِطٍ عَالٍ يَهْلِكُ بِهِ غَالِبًا فَيَمُوتَ، فَهُوَ عَمْدٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لأِبِي حَنِيفَةَ .

الضَّرْبُ الثَّانِي :

- أَنْ يُلْقِيَهُ فِي نَارٍ أَوْ مَاءٍ يُغْرِقُ، وَلاَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ، إمَّا لِكَثْرَةِ الْمَاءِ أَوِ النَّارِ، وَإِمَّا لِعَجْزِهِ عَنِ التَّخَلُّصِ لِمَرَضٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ كَوْنِهِ مَرْبُوطًا، أَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ، أَوْ كَوْنِهِ فِي حَفِيرَةٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الصُّعُودِ مِنْهَا، وَنَحْوِ هَذَا، فَهَذَا كُلُّهُ عَمْدٌ، لأِنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ فَلاَ قَوَدَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ، لأِنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ مَوْتُهُ بِلُبْثِهِ فِيهِ وَهُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ النَّارُ إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا .

الضَّرْبُ الثَّالِثُ :

أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَدٍ أَوْ نَمِرٍ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ كَذُبْيَةٍ وَنَحْوِهَا فَيَقْتُلَهُ، فَهَذَا أَيْضًا عَمْدٌ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا فَعَلَ السَّبُعُ بِهِ فِعْلاً يَقْتُلُ مِثْلُهُ، وَإِنْ فَعَلَ بِهِ فِعْلاً لَوْ فَعَلَهُ الآْدَمِيُّ لَمْ يَكُنْ عَمْدًا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ بِهِ، لأِنَّ السَّبُعَ صَارَ آلَةً لِلآْدَمِيِّ فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ. وَإِنْ أَلْقَاهُ مَكْتُوفًا بَيْنَ يَدَيِ الأْسَدِ أَوِ النَّمِرِ فِي فَضَاءٍ فَأَكَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَيَّةٍ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ فَنَهَشَتْهُ، فَقَتَلَتْهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لأِنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا فَكَانَ عَمْدًا مَحْضًا كَسَائِرِ الصُّوَرِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لأِبِي حَنِيفَةَ .

الضَّرْبُ الرَّابِعُ :

أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَكَانٍ وَيَمْنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُدَّةً لاَ يَبْقَى فِيهَا حَتَّى يَمُوتَ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لأِنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ وَالزَّمَانِ وَالأْحْوَالِ، فَإِذَا كَانَ عَطْشَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، مَاتَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ، وَإِنْ كَانَ رَيَّانَ، وَالزَّمَنُ بَارِدٌ أَوْ مُعْتَدِلٌ لَمْ يَمُتْ إلاَّ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ، فَيُعْتَبَرُ هَذَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَفِيهِ الْقَوَدُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَرْكٌ ف 13).

الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ : الْقَتْلُ بِالسُّمِّ :

إذَا قَدَّمَ طَعَامًا مَسْمُومًا لِصَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ أَوْ مَجْنُونٍ فَمَاتَ، فَفِيهِ الْقَوَدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

فَإِنْ قَدَّمَهُ لِبَالِغٍ عَاقِلٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سُمٌّ ف 7).

الصُّورَةُ السَّادِسَةُ : الْقَتْلُ بِالسِّحْرِ :

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ بِسِحْرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، لأِنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ بِسِكِّينٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَقْتُلُ غَالِبًا فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (سِحْرٌ ف 16) .

الصُّورَةُ السَّابِعَةُ : الْقَتْلُ بِسَبَبٍ :

الْقَتْلُ بِسَبَبٍ قَدْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَيَكُونُ فِيهِ الْقِصَاصُ، كَأَنْ يُكْرِهَ رَجُلاً عَلَى قَتْلِ آخَرَ إكْرَاهًا مُلْجِئًا، أَوْ يَشْهَدَ رَجُلاَنِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ وَيَعْتَرِفَا بِكَذِبِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ .

أَوْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ بِالشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ وَكَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ مُتَعَمِّدًا .

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ بِسَبَبٍ ف 6 وَ 7) .

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ :

إذَا تَحَقَّقَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَلِي :

أ - الْقِصَاصُ :

إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا، مُسْلِمًا، مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ خِلاَفًا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الآْيَاتُ وَالأْخْبَارُ بِعُمُومِهَا قَالَ تَعَالَى:  (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأْنْثَى بِالأْنْثَى).

إلاَّ أَنَّهُ يُقَيَّدُ الْقَتْلُ بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : «الْعَمْدُ قَوَدٌ، إلاَّ أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ» وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ».

وَلأِنَّ الْجِنَايَةَ بِالْعَمْدِيَّةِ تَتَكَامَلُ، وَحِكْمَةُ الزَّجْرِ عَلَيْهَا تَتَوَفَّرُ، وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لاَ شَرْعَ لَهَا بِدُونِ الْعَمْدِيَّةِ. وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ).

ب - الدِّيَةُ :

- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً أَصْلِيَّةً لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالصُّلْحِ بِرِضَا الْجَانِي، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي، فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَجَبَتِ الدِّيَةُ .

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ الدِّيَةَ عُقُوبَةٌ أَصْلِيَّةٌ بِجَانِبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، فَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ ف 17) .

ج - الْكَفَّارَةُ :

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، سَوَاءٌ وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ لَمْ يَجِبْ، لأِنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَلاَ يُنَاطُ بِهَا .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، لأِنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّكْفِيرِ فِي الْعَمْدِ أَمَسُّ مِنْهَا إلَيْهِ فِي الْخَطَأِ، فَكَانَ أَدْعَى إلَى إيجَابِهَا .

د - الْحِرْمَانُ مِنَ الْوَصِيَّةِ :

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ وَعَدَمِ جَوَازِهَا عَلَى أَقْوَالٍ :

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْظْهَرِ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى جَوَازِ الْوَصِيَّة لِلْقَاتِلِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لأِنَّ الْهِبَةَ لَهُ تَصِحُّ، فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَالذِّمِّيِّ .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، لأِنَّ الْقَتْلَ يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ، فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى، وَلأِنَّ الْوَصِيَّةَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْمِيرَاثِ فَيَمْنَعُهَا مَا يَمْنَعُهُ .

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّةٌ) .

هـ - الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ الْقَاتِلَ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ مِنَ الْمِيرَاثِ إذَا كَانَ الْقَتْلُ مُبَاشِرًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إرْثٌ ف 17).

و - الإْثْمُ فِي الآْخِرَةِ :

- انْعَقَدَ الإْجْمَاعُ عَلَى التَّأْثِيمِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:  (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) .

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» .

وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ .

وَلأِنَّ حُرْمَتَهُ أَشَدُّ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِجَوَازِهِ لِمُكْرَهٍ بِخِلاَفِ الْقَتْلِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الأول  ، الصفحة / 109

آلَةُ الْعُدْوَانِ وَأَثَرُهَا فِي تَحْدِيدِ نَوْعِ الْجِنَايَةِ :

جِنَايَةُ الْقَتْلِ لاَ يَجِبُ بِهَا الْقِصَاصُ إِلاَّ إِنْ كَانَتْ مُتَعَمَّدَةً، وَلَمَّا كَانَ تَعَمُّدُ الْقَتْلِ أَمْرًا خَفِيًّا يُنْظَرُ إِلَى الآْلَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ إِلاَّ إِذَا كَانَ بِمُحَدَّدٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ بِغَيْرِهِ فَلَيْسَ بِعَمْدٍ، بَلْ هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ إِذَا تَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِهِ، وَلاَ قِصَاصَ فِيهِ .

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُوَافِقُوا أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَثْبُتُ الْعَمْدُ عِنْدَهُمْ فِي الْقَتْلِ بِمَا عَدَا الْمُحَدَّدِ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي الضَّوَابِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ذَلِكَ، يُذْكَرُ فِي مَسَائِلِ الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثاني  ، الصفحة / 24 

الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ :

يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةً غَيْرَ مُؤَجَّلَةٍ وَلاَ مُنَجَّمَةٍ، وَذَلِكَ لأِنَّ  مَا وَجَبَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ كَانَ حَالًّا، كَالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ حَالًّا، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الدِّيَةِ الَّتِي تَجِبُ بِالصُّلْحِ، فَيَجْعَلُونَهَا حَالَّةً فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَبَيْنَ الَّتِي تَجِبُ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِشُبْهَةٍ، كَمَا إِذَا قَتَلَ الأْبُ ابْنَهُ عَمْدًا، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الرابع  ، الصفحة / 135

الْجِنَايَةُ عَلَى الْجَنِينِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ اسْتِهْلاَلِهِ :

الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُسْتَهِلِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الاِنْفِصَالِ أَوْ بَعْدَهُ، وَاَلَّتِي قَبْلَهُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ ظُهُورِهِ أَوْ بَعْدَهُ .

حُكْمُهَا قَبْلَ الظُّهُورِ :

إِنْ تَعَمَّدَ الْجَانِي ضَرْبَ الأْمِّ فَخَرَجَ الْجَنِينُ مُسْتَهِلًّا، ثُمَّ مَاتَ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الأْمِّ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الأْمُّ حَيَّةً أَمْ مَيِّتَةً. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا قَسَامَةَ أَوْلِيَائِهِ حَتَّى يَأْخُذُوا الدِّيَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ فِي الْجَنِينِ يَسْقُطُ حَيًّا مِنَ الضَّرْبِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِنْ تَعَمَّدَ قَتْلَ الْجَنِينِ بِضَرْبِ أُمِّهِ عَلَى ظَهْرِهَا أَوْ بَطْنِهَا أَوْ رَأْسِهَا عِنْدَ الأْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ .

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ، فَأَشْهَبُ قَالَ: لاَ قَوَدَ فِيهِ، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْجَانِي بِقَسَامَةٍ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَسَامَةٍ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ .

حُكْمُهَا بَعْدَ الظُّهُورِ :

إِنْ ظَهَرَ الْجَنِينُ ثُمَّ صَاحَ، ثُمَّ جَنَى جَانٍ عَلَيْهِ عَمْدًا فَالأْصَحُّ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ ظَهَرَ أَغْلَبُهُ. وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: فَإِنْ كَانَ ذَبَحَهُ رَجُلٌ حَالِمًا يُخْرِجُ رَأْسَهُ فَعَلَيْهِ الْغُرَّةُ لأِنَّهُ جَنِينٌ، وَإِنْ قَطَعَ أُذُنَهُ وَخَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ .

وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الاِعْتِبَارُ بِالاِنْفِصَالِ التَّامِّ .

الْجِنَايَةُ بَعْدَ الاِنْفِصَالِ :

قَتْلُ الْمُسْتَهِلِّ بَعْدَ الاِنْفِصَالِ كَقَتْلِ الْكَبِيرِ، فِيهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ. وَكَذَلِكَ إِنْ انْفَصَلَ بِجِنَايَةٍ وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَقَتَلَهُ جَانٍ آخَرُ .

أَمَّا إِنْ نَزَلَ فِي حَالَةٍ لاَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ مَعَهَا، وَقَتَلَهُ شَخْصٌ آخَرُ فَإِنَّ الضَّامِنَ هُوَ الأْوَّلُ، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 87 

مَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ عَمْدًا بِالصَّلْبِ حَتَّى مَاتَ  :

مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يُطَالِبَ بِقَتْلِ الْجَانِي قِصَاصًا بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ. قَالُوا: وَهَذَا مَعْنَى الْقِصَاصِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُمَاثَلَةُ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِالسَّيْفِ. فَإِنْ  قُتِلَ بِالسَّيْفِ، وَكَانَ الْجَانِي قَدْ قَتَلَ بِأَشَدَّ مِنْهُ كَانَ الْوَلِيُّ قَدْ تَرَكَ الْمُمَاثَلَةَ، وَهِيَ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ. وَمُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ صَلْبُ الْقَاتِلِ حَتَّى الْمَوْتِ، إِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ بِالصَّلْبِ .

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، فَعَلَى هَذَا لاَ يَتَأَتَّى عُقُوبَةُ الصَّلْبِ قِصَاصًا. وَمَعَ ذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْوَلِيَّ  إِذَا اقْتَصَّ بِغَيْرِ السَّيْفِ عُزِّرَ، وَوَقَعَ الْقِصَاصُ مَوْقِعَهُ .

الْقَتْلُ الْعَمْدُ  :

- الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ، وَيَجِبُ لِذَلِكَ تَوَافُرُ شُرُوطٍ، أَهَمُّهَا: كَوْنُ الْقَاتِلِ قَدْ تَعَمَّدَ تَعَمُّدًا مَحْضًا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَكَوْنُهُ مُخْتَارًا، وَمُبَاشِرًا لِلْقَتْلِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمَقْتُولُ جُزْءَ الْقَاتِلِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ مُطْلَقًا. وَفَضْلاً عَنْ ذَلِكَ يَجِبُ لِلْقِصَاصِ: أَنْ يُطْلَبَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ .

فَإِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، وَفِيهِ التَّعْزِيرُ .

وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (قَتْلٌ - قِصَاصٌ) . 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الحادي والعشرون ، الصفحة / 21

الْقَتْلُ بِالدَّفْنِ :

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ مَنْ دُفِنَ حَيًّا فَمَاتَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ .

الْقَتْلُ الْعَمْدُ :

الأْصْلُ أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ بِدَلِيلِ قوله تعالي : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأْنْثَى بِالأْنْثَى) الآْيَةَ .

فَمَنْ قَتَلَ شَخْصًا عَمْدًا عُدْوَانًا يُقْتَلُ قِصَاصًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ .

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً أَصْلِيَّةً لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالصُّلْحِ (بِرِضَا الْجَانِي)، كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَوْ بَدَلاً عَنِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي، كَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِسَبَبٍ مَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ عِنْدَهُمْ .

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ عُقُوبَةٌ أَصْلِيَّةٌ بِجَانِبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ. فَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي .

تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ :

الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ، سَوَاءٌ أُوجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَسَقَطَ بِالْعَفْوِ، أَوْ لِشُبْهَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَمْ لَمْ يَجِبْ أَصْلاً، كَقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ .

وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ :

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ أَرْبَاعًا، خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَتَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي حَالَّةً، وَذَلِكَ تَغْلِيظًا عَلَى الْقَاتِلِ .

لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: تُثَلَّثُ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الأْبِ وَلَدَهُ عَمْدًا إِذَا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ .

فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ التَّثْلِيثُ بِثَلاَثِينَ حِقَّةً، وَثَلاَثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً أَيْ حَامِلاً .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : دِيَةُ الْعَمْدِ مُثَلَّثَةٌ فِي مَالِ الْجَانِي حَالَّةً فَهِيَ مُغَلَّظَةٌ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: كَوْنِهَا عَلَى الْجَانِي، وَحَالَّةً، وَمِنْ جِهَةِ السِّنِّ .

وَلاَ تُؤَجَّلُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأِنَّ الأْصْلَ وُجُوبُ الدِّيَةِ حَالَّةً بِسَبَبِ الْقَتْلِ، وَالتَّأْجِيلُ فِي الْخَطَأِ ثَبَتَ مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الأْصْلِ لإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، أَوْ مَعْلُولاً بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ، حَتَّى تَحْمِلَ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ، وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ، وَلِهَذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ لاَ عَلَى الْعَاقِلَةِ .

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: التَّغْلِيظُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ كَالتَّغْلِيظِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ مِنْ نَاحِيَةِ أَسْنَانِ الإِْبِلِ، فَتَجِبُ أَرْبَاعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَأَثْلاَثًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ. إِلاَّ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي وَحْدَهُ وَلاَ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ؛ لأِنَّهَا جَزَاءُ فِعْلٍ ارْتَكَبَهُ قَصْدًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:  ( وَلاَ تَزِرُوَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). وَقَالَ صلى الله عليه وسلم :  «وَلاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ.» .

وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ مُؤَجَّلَةً أَيْضًا فِي ثَلاَثِ سِنِينَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ)؛ لأِنَّ الأْجَلَ وَصْفٌ لِكُلِّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ، فَدِيَةُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ فَقَطْ: أَحَدُهُمَا مِنْ نَاحِيَةِ الأْسْنَانِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي .

حَالاَتُ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ :

أ - الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ :

- رَغَّبَ الشَّارِعُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:  (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) ثُمَّ قَالَ:  ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَلاَ عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا» .

قَتْلُ الْوَالِدِ وَلَدَهُ :

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ فَلاَ قِصَاصَ لِحَدِيثِ: «لاَ يُقَادُ الأْبُ مِنِ ابْنِهِ.» وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْوَالِدِ لِشُبْهَةِ الْجُزْئِيَّةِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ .

وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ الْجَدُّ وَالْوَالِدَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُقْتَلُ الأُمُّ بِقَتْلِ وَلَدِهَا .

وَهَذَا بِخِلاَفِ قَتْلِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ الْجَمِيعِ. وَعَلَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِتَحْقِيقِ حِكْمَةِ الْحَيَاةِ بِالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الزَّجْرِ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ لاَ فِي جَانِبِ الْوَالِدِ؛ وَلأِنَّ الْوَالِدَ كَانَ سَبَبًا فِي حَيَاةِ الْوَلَدِ فَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ ابْنَهُ مُتَعَمِّدًا، وَاعْتَرَفَ بِقَصْدِ قَتْلِهِ، أَوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلاً مِنْ شَأْنِهِ الْقَتْلُ مِثْلَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ بَطْنَهُ، وَلاَ شُبْهَةَ لَهُ فِي ادِّعَاءِ الْخَطَأِ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا .

مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ :

الأْصْلُ أَنَّ الدِّيَةَ إِذَا كَانَ مُوجِبُهَا الْفِعْلَ الْخَطَأَ أَوْ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَلَمْ تَكُنْ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، إِلاَّ دِيَةَ الْعَبْدِ أَوْ مَا وَجَبَ بِإِقْرَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوِ الصُّلْحِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم :  « لاَ تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ صُلْحًا وَلاَ اعْتِرَافًا» .

وَيَشْتَرِكُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي تَحَمُّلِ دِيَةِ الْخَطَأِ الْجَانِي نَفْسُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ، حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ عَلَى الْجَانِي الْمُخْطِئِ شَيْءٌ مِنَ الدِّيَةِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُ وَحِكْمَةُ تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ دِيَةَ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ .

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحِ: (عَاقِلَة) .

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا وَسَقَطَ الْقِصَاصُ بِشُبْهَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَوْ ثَبَتَتْ بِاعْتِرَافِ الْجَانِي أَوِ الصُّلْحِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي نَفْسِهِ؛ لأِنَّهَا دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، وَمِنْ وُجُوهِ التَّغْلِيظِ فِي الْعَمْدِ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ .

وَاخْتَلَفُوا فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ: فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لأِنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا كَمَالُ الْقَصْدِ، فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَتِهِمَا كَشِبْهِ الْعَمْدِ. وَلأِنَّ مَجْنُونًا صَالَ عَلَى رَجُلٍ بِسَيْفِ فَضَرَبَهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَجَعَلَ عَقْلَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَقَالَ: عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ .

وَلأِنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ، وَالْعَاقِلُ الْمُخْطِئُ لَمَّا اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ حَتَّى وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَهَؤُلاَءِ - وَهُمْ أَغْرَارٌ - أَوْلَى بِهَذَا التَّخْفِيفِ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْظْهَرِ: إِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَمْدٌ إِذَا كَانَ لَهُمَا نَوْعُ تَمْيِيزٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ؛ لأِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا مُوجَبُهُ الآْخَرُ وَهُوَ الدِّيَةُ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثالث والعشرون ، الصفحة /  148

الْقَوَدُ عَلَى مَنْ قَتَلَ شَخْصًا فِي الرَّمَقِ الأْخِيرِ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَتْ جِنَايَةٌ مِنْ شَخْصٍ، فَأَوْصَلَ إِنْسَانًا إِلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِبْصَارٌ وَنُطْقٌ وَحَرَكَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ آخَرُ بِفِعْلٍ مُزْهِقٍ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الأْوَّلُ، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي لأِنَّهُ اعْتَدَى عَلَى حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ جَنَى الثَّانِي قَبْلَ وُصُولِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ بِفِعْلٍ مُزْهِقٍ كَحَزِّ رَقَبَةٍ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي، وَعَلَى الأْوَّلِ قِصَاصُ الْعُضْوِ أَوْ دِيَتُهُ .

وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَرْحُ الأْوَّلِ يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ لاَ مَحَالَةَ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى الرَّمَقِ الأَْخِيرِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ، فَضَرَبَ الثَّانِي عُنُقَهُ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي أَيْضًا لأَِنَّهُ فَوَّتَ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، بِدَلِيلِ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه  لَمَّا جُرِحَ دَخَلَ عَلَيْهِ الطَّبِيبُ فَسَقَاهُ لَبَنًا فَخَرَجَ صَلْدًا أَبْيَضَ (أَيْ يَنْصَبُّ) فَعَلِمَ الطَّبِيبُ أَنَّهُ مَيِّتٌ فَقَالَ: اعْهَدْ إِلَى النَّاسِ، فَعَهِدَ إِلَيْهِمْ وَأَوْصَى وَجَعَلَ الْخِلاَفَةَ إِلَى أَهْلِ الشُّورَى، فَقَبِلَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم عَهْدَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ وَصَايَاهُ .

أَمَّا لَوْ كَانَ وُصُولُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى الرَّمَقِ الأْخِيرِ بِسَبَبِ مَرَضٍ لاَ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ، بِأَنْ كَانَ فِي حَالَةِ النَّزْعِ وَعَيْشُهُ عَيْشُ مَذْبُوحٍ، أَوْ بَدَتْ عَلَيْهِ مَخَايِلُ الْمَوْتِ، أَوْ قُتِلَ مَرِيضًا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ لأِنَّ هَذِهِ الأْمُورَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا، وَقَدْ يُظَنُّ ذَلِكَ ثُمَّ يُشْفَى. وَلأِنَّ الْمَرِيضَ لَمْ يَسْبِقْ فِيهِ فِعْلٌ يُحَالُ الْقَتْلُ وَأَحْكَامُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يُهْدَرَ الْفِعْلُ الثَّانِي .

وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، دِيَة، وَقَتْل) .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الرابع والعشرون ، الصفحة / 267

حُكْمُ السَّاحِرِ إِذَا قَتَلَ بِسِحْرِهِ :

 ذَهَبَ الْجُمْهُورُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالسِّحْرِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا، وَفِيهِ الْقِصَاصُ. وَيَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الإْقْرَارِ .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ مَنْ هُوَ مُكَافِئٌ لَهُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ إِنْ تَعَمَّدَ قَتْلَهُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ السَّاحِرِ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، كَقَوْلِهِ: قَتَلْتُهُ بِسِحْرِي، أَوْ قَوْلِهِ: قَتَلْتُهُ بِنَوْعِ كَذَا، وَيَشْهَدُ عَدْلاَنِ يَعْرِفَانِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَا تَابَا، بِأَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ يَقْتُلُ غَالِبًا. فَإِنْ كَانَ لاَ يَقْتُلُ غَالِبًا فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ. فَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتُ مِنَ اسْمِ غَيْرِهِ إِلَى اسْمِهِ فَخَطَأٌ .

وَلاَ يَثْبُتُ الْقَتْلُ الْعَمْدُ بِالسِّحْرِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِتَعَذُّرِ مُشَاهَدَةِ الشُّهُودِ قَصْدَ السَّاحِرِ وَتَأْثِيرَ سِحْرِهِ .

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ مِمَّنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ بِالسَّيْفِ وَلاَ يُسْتَوْفَى بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، أَيْ لأِنَّ  السِّحْرَ مُحَرَّمٌ؛ وَلِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ .

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / التاسع والعشرون ، الصفحة / 174

أَثَرُ الْقَتْلِ ظُلْمًا فِي إِيجَابِ الْقِصَاصِ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ ظُلْمًا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ ظُلْمًا عُدْوَانًا مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ، وَخَرَجَ بِقَيْدِ الظُّلْمِ: الْقَتْلُ بِحَقٍّ أَوْ بِشُبْهَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ .

وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا مَحْقُونَ الدَّمِ لِيَتَحَقَّقَ الظُّلْمُ، لقوله تعالى : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْقَتْلَ، وَلأِنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا شُرِعَ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ وَزَجْرًا عَنْ إِتْلاَفِ الْبُنْيَةِ الْمَطْلُوبِ بَقَاؤُهَا، فَلاَ يَجِبُ قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ وَلاَ كَفَّارَةٌ بِقَتْلِ حَرْبِيٍّ، وَلاَ مُرْتَدٍّ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَلاَ بِقَتْلِ زَانٍ مُحْصَنٍ، وَلاَ مُحَارِبٍ قَاطِعِ طَرِيقٍ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ وَلاَ تَارِكِ الصَّلاَةِ بَعْدَ أَمْرِ الإْمَامِ لَهُ بِهَا .

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (قِصَاص) .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الحادي والثلاثون ، الصفحة /182

الْقَتْلُ بِالإْغْرَاق :

يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ مَا إِذَا أَلْقَى الْجَانِي شَخْصًا فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ لِمِثْلِهِ لاَ يَخْلُصُ مِنْهُ عَادَةً كَلُجَّةٍ وَقْتَ هَيَجَانِهَا، وَكَانَ لاَ يَخْلُصُ بِسِبَاحَةٍ لِعَجْزِهِ عَنْهَا، أَوْ لاَ يُحْسِنُهَا، أَوْ كَانَ مَكْتُوفًا، أَوْ زَمِنًا فَغَرِقَ فَهُوَ عَمْدٌ، وَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِذَا كَانَ يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ وَمَنَعَ مِنْهَا عَارِضٌ بَعْدَ إِلْقَائِهِ كَرِيحٍ وَمَوْجٍ فَشِبْهُ عَمْدٍ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ إِلْقَاؤُهُ وَقْتَ هَيَجَانِ الْبَحْرِ؛ لأِنَّهُ مُهْلِكٌ غَالِبًا لاَ يُمْكِنُهُ الْخَلاَصُ مِنْهُ، وَأَمَّا إِذَا أَلْقَى مُمَيِّزًا قَادِرًا عَلَى الْحَرَكَةِ فِي مَاءٍ جَارٍ أَوْ رَاكِدٍ لاَ يُعَدُّ مُغْرِقًا عُرْفًا بِقَصْدِ الإْغْرَاقِ، فَمَكَثَ فِيهِ مُضْطَجِعًا، فَمَاتَ غَرَقًا فَلاَ ضَمَانَ وَلاَ كَفَّارَةَ؛ لأَنَّهُ الْمُهْلِكُ لِنَفْسِهِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثالث والثلاثون ، الصفحة / 261

أَسْبَابُ الْقِصَاصِ :

- أَسْبَابُ الْقِصَاصِ هِيَ: الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالْجُرْحُ وَالشِّجَاجُ وَإِزَالَةُ مَعَانِي الأْعْضَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي: 

الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ :

- الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ سَبَبُهُ الْقَتْلُ الْعَمْدُ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ سَوْفَ يَأْتِي تَفْصِيلُهَا.

شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ :

- لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ شُرُوطٌ فِي الْقَاتِلِ، وَالْمَقْتُولِ، وَفِعْلِ الْقَتْلِ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إِلاَّ بِتَوَفُّرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، كَمَا يَلِي:

أ - التَّكْلِيفُ :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاتِلِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، أَيْ عَاقِلاً بَالِغًا عِنْدَ الْقَتْلِ، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا جُنُونًا مُطْبِقًا عِنْدَ الْقَتْلِ .

فَإِذَا قَتَلَهُ عَاقِلاً ثُمَّ جُنَّ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دَفَعَهُ الْقَاضِي لِلْوَلِيِّ عَاقِلاً ثُمَّ جُنَّ اقْتُصَّ مِنْهُ، وَإِنْ جُنَّ قَبْلَ دَفْعِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ بَدَلاً مِنْهُ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ إِذَا جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ؛ لأِنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُخَاطَبًا حَالَةَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْقَضَاءِ وَيَتِمُّ بِالدَّفْعِ، فَإِذَا جُنَّ قَبْلَ الدَّفْعِ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْوُجُوبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ .

فَإِنْ كَانَ يَجِنُّ وَيُفِيقُ، فَإِنْ قَتَلَ فِي إِفَاقَتِهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْبِقًا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ غَيْرَ مُطْبِقٍ قُتِلَ قِصَاصًا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إِلَى حِينِ إِفَاقَتِهِ ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ .

فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مَجْنُونًا جُنُونًا مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مَجْنُونٌ جُنُونًا مُطْبِقًا فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ .

وَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لأِنَّهُ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الإْفَاقَةِ، أَوْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ حَالَ جُنُونِهِ .

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ عَنْهُ، ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَصْحُوَ؛ لاِحْتِمَالِ رُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ .

وَمِثْلُ الْجُنُونِ: النَّوْمُ وَالإْغْمَاءُ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .

أَمَّا السَّكْرَانُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِمُحَرَّمٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ لِعُذْرٍ كَالإْكْرَاهِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ .

وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُقُوعِ طَلاَقِهِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ .

ب - عِصْمَةُ الْقَتِيلِ :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مَعْصُومَ الدَّمِ، أَوْ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ .

فَإِذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ - كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ - لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ قِصَاصٌ مُطْلَقًا .

فَإِذَا كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ سَائِرِهِمْ، كَالْقَاتِلِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَاصَّةً، فَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا؛ لأِنَّهُ غَيْرُ مُهْدَرِ الدَّمِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ وَلِيُّ الدَّمِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ؛ لأِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّهِ .

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَتْ عِصْمَتُهُ مُؤَقَّتَةً كَالْمُسْتَأْمَنِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قَاتِلُهُ؛ لأِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَصُونُ الدَّمِ فِي حَالِ أَمَانِهِ فَقَطْ، وَهُوَ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي الأْصْلِ، لأِنَّهُ حَرْبِيٌّ، فَلاَ قِصَاصَ فِي قَتْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُهُ مُسْتَأْمَنًا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيُقْتَلُ بِهِ لِلْمُسَاوَاةِ لاَ اسْتِحْسَانًا، وَقِيلَ: لاَ يُقْتَلُ عَلَى الاِسْتِحْسَانِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْلِ . 

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْعِصْمَةِ التَّأْبِيدُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُقْتَلُ قَاتِلُ الْمُسْتَأْمَنِ، لقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) .

ج - الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ :

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي أَوْصَافٍ اعْتَبَرُوهَا، فَلاَ يُقْتَلُ الأْعْلَى بِالأْدْنَى، وَلَكِنْ يُقْتَلُ الأْدْنَى بِالأْعْلَى وَبِالْمُسَاوِي .

وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُقْتَلُ عِنْدَهُمُ الْمُسْلِمُ وَلاَ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيِّ، لاَ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَلْ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ .

إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِي الأْوْصَافِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا لِلْمُكَافَأَةِ .

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الإْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ. أَوْ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ أَزْيَدَ مِنَ الْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ أَزْيَدَ مِنَ الْقَتِيلِ فِيهِمَا فَلاَ قِصَاصَ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْقَصَ مِنَ الآْخَرِ فِي أَحَدِهِمَا، كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ وَلَوْ حُرًّا، وَلاَ حُرٌّ بِرَقِيقٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ زَائِدَ إِسْلاَمٍ، فَيُقْتَلُ حُرٌّ كِتَابِيٌّ بِرَقِيقٍ مُسْلِمٍ كَمَا سَيَأْتِي تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الإْسْلاَمِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ .

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْتَلُ الْكَافِرُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ؛ لأِنَّ الْحُرَّ لاَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ، كَمَا لاَ يُقْتَلُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْكَافِرِ؛ لأِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا، فَإِذَا قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ حُرٌّ مَنْ نِصْفُهُ عَبْدٌ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ .

وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ الْقِنُّ بِالْمُكَاتَبِ، وَيُقْتَلُ الْمُكَاتَبُ بِهِ، وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ - وَالْعَكْسُ - لأِنَّ الْكُلَّ عَبِيدٌ .

وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا .

وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لاَ بُدَّ فِي الْقَوَدِ مِنَ الْمُكَافَأَةِ فِي الْحَالاَتِ الثَّلاَثِ: حَالَةُ الرَّمْيِ وَحَالَةُ الإْصَابَةِ وَحَالَةُ الْمَوْتِ، وَمَتَى فُقِدَ التَّكَافُؤُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ الَّذِي فِيهِ مَالٌ إِذَا زَالَتِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، أَوْ عُدِمَتْ قَبْلَ السَّبَبِ وَحَدَثَتْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْمُسَبَّبِ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِهَا وَقْتَ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ وَقْتُ الإِْصَابَةِ فِي الْجُرْحِ وَوَقْتُ التَّلَفِ فِي الْمَوْتِ، وَلاَ يُرَاعَى فِيهِ وَقْتُ السَّبَبِ وَهُوَ الرَّمْيُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ خِلاَفًا لأَشْهَبَ .

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الإْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ هُنَا الْقَتْلَ غِيلَةً، وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: إِلاَّ الْغِيلَةَ - بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ الْقَتْلُ لأِخْذِ الْمَالِ - فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، بَلْ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ .

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَوَقْتُ الْمُسَاوَاةِ الْمُشْتَرَطِ عِنْدَهُمْ هُوَ وَقْتُ الْقَتْلِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ.. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُقْتَصُّ مِنْهُ.. لأِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ فَكَانَ الاِعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالِ وُجُوبِهَا دُونَ حَالِ اسْتِيفَائِهَا كَالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لاَ يُقْتَلَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الأْوْزَاعِيِّ .

وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْلُ غِيلَةً وَغَيْرَهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ دُونَ السُّلْطَانِ .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الإْسْلاَمِ وَالأْمَانِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالأْصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا بِذِمِّيٍّ لِخَبَرِ: «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» .

وَلأِنَّهُ لاَ يُقَادُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالإْجْمَاعِ، فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى.. وَيُقْتَلُ ذِمِّيٌّ بِهِ أَيِ الْمُسْلِمِ لِشَرَفِهِ عَلَيْهِ، وَيُقْتَلُ أَيْضًا بِذِمِّيٍّ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا، وَمُعَاهَدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمَجُوسِيٍّ وَعَكْسُهُ؛ لأِنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّسْخَ شَمِلَ الْجَمِيعَ .

وَالأْظْهَرُ: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِذِمِّيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمُعَاهَدٍ سَوَاءٌ عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الإْسْلاَمِ أَمْ لاَ؛ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ، بَلِ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الذِّمِّيِّ لأِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ. وَالثَّانِي: لاَ يُقْتَلُ بِهِ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الإْسْلاَمِ فِي الْمُرْتَدِّ، وَالأْظْهَرُ أَيْضًا: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِمُرْتَدٍّ لِتَسَاوِيهِمَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، وَالثَّانِي: لاَ؛ لأِنَّ الْمَقْتُولَ مُبَاحُ الدَّمِ، لاَ ذِمِّيٌّ بِمُرْتَدٍّ فِي الأْظْهَرِ، وَالثَّانِي يُقْتَلُ بِهِ أَيْضًا، وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالزَّانِي الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ كَمَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَلاَ يُقْتَلُ زَانٍ مُحْصَنٌ بِهِ لاِخْتِصَاصِهِ بِفَضِيلَةِ الإْسْلاَمِ، وَلِخَبَرِ: «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، وَلاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ وَإِنْ قَلَّ، لقوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَعَبْدُهُ وَعَبْدُ غَيْرِهِ .

وَيُقْتَلُ قِنٌّ وَمُدَبَّرٌ وَمُكَاتَبٌ وَأُمُّ وَلَدٍ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ لِكَافِرٍ وَالْقَاتِلُ لِمُسْلِمٍ لِلتَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ، وَاسْتُثْنِيَ الْمُكَاتَبُ إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لاَ يُقْتَلُ بِهِ كَمَا لاَ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِهِ .

وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَوْ قَتَلَ مِثْلَهُ أَيْ مُبَعَّضًا، سَوَاءٌ ازْدَادَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَقْتُولِ أَمْ لاَ، لاَ قِصَاصَ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ وَجَبَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ أَتَسَاوَيَا أَمْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ فَلاَ قِصَاصَ قَطْعًا؛ لاِنْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ .

وَالْفَضِيلَةُ فِي شَخْصٍ لاَ تُجْبِرُ النَّقْصَ فِيهِ، فَلاَ قِصَاصَ وَاقِعٌ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَحُرٍّ ذِمِّيٍّ؛ لأِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ لاَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَلاَ تُجْبَرُ فَضِيلَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَقِيصَتَهُ .

وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ فِي وَصْفَيِ الأْصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الْمُسَاوَاةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَقْتَ الْقَتْلِ، وَهُوَ وَقْتُ انْعِقَادِ سَبَبِ الْقِصَاصِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ، الَّذِي قَتَلَ كَافِرًا مُكَافِئًا لَهُ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ لِتَكَافُئِهِمَا حَالَةَ الْجِنَايَةِ؛ لأِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُقُوبَاتِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَلاَ نَظَرَ لِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ أَوْ نَحْوُهُ ذِمِّيًّا أَوْ نَحْوَهُ وَأَسْلَمَ الْجَارِحُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِسِرَايَةِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لاَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِي الأْصَحِّ، لِلتَّكَافُؤِ حَالَةَ الْجَرْحِ.

د - أَنْ لاَ يَكُونَ الْقَاتِلُ حَرْبِيًّا :

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا، حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم  وَالصَّحَابَةِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ عَدَمِ الْقِصَاصِ مِمَّنْ أَسْلَمَ كَوَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ وَلِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ بِمَا هُدِرَ بِهِ دَمُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قِصَاصًا، وَيُقْتَلُ لإِهْدَارِ دَمِهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ الْقَتْلُ وَالْقِصَاصُ. 

هـ - أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُتَعَمِّدًا الْقَتْلَ :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَجِبُ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «الْعَمْدُ قَوَدٌ»، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ فِي جِنَايَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْجِنَايَةُ لاَ تَتَنَاهَى إِلاَّ بِالْعَمْدِ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قَتْلُ عَمْدٍ ف 1).

و - أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا :

- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإْكْرَاهَ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْمُكْرَهِ، فَإِذَا قَتَلَ غَيْرَهُ مُكْرَهًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَلَزِمَ الْقِصَاصُ الْمُكْرَهَ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا اخْتِيَارَ الإْيثَارِ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى مُكْرَهٍ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ الأْخْرَى وَهَلْ يَجِبُ  الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؟

فِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19) .

أَمَّا الإْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ فَلاَ أَثَرَ لَهُ وَيُقْتَصُّ مَعَهُ مِنَ الْقَاتِلِ .

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19 - 24) .

ز - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْتُولُ جُزْءَ الْقَاتِلِ أَوْ مِنْ فُرُوعِهِ :

- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ مُطْلَقًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «لاَ يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ»؛ وَلأِنَّهُ كَانَ سَبَبَ حَيَاتِهِ فَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ، وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ هُنَا كُلُّ الأْصُولِ مِنَ الذُّكُورِ وَالإْنَاثِ مَهْمَا بَعُدُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الأْمُّ وَالْجَدَّاتُ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنَ الأْبِ كُنَّ أَمْ مِنَ الأْمِّ، كَمَا يَدْخُلُ الأْجْدَادُ وَإِنْ عَلَوْا مِنَ الأْبِ كَانُوا أَوْ مِنَ الأْمِّ؛ لِشُمُولِ لَفْظِ الْوَالِدِ لَهُمْ جَمِيعًا .

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الأْمَّ تُقْتَلُ بِالاِبْنِ خِلاَفًا لِلأْبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالأْبِ فَلاَ تُقْتَلُ بِالاِبْنِ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأْبَ إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ قُتِلَ بِهِ إِذَا كَانَ قَصَدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ وَاضِحًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَضَابِطُهُ أَنْ لاَ يَقْصِدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ، فَإِنْ قَصَدَهُ كَأَنْ يَرْمِيَ عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، أَوْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْقِصَاصُ .

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَالِدِ النَّسَبِيِّ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: أَمَّا الْوَالِدُ مِنَ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ مِنَ الرَّضَاعِ لِعَدَمِ الْجُزْئِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ .

ح - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَمْلُوكًا لِلْقَاتِلِ :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ قُتِلَ بِهِ، أَمَّا السَّيِّدُ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً مَمْلُوكَيْنِ لَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ بِهِمَا، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : «لاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدِهِ» .

وَمِثْلُ الْمَمْلُوكِ هُنَا مَنْ لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَوْ كَانَ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ؛ لأِنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ .

كَمَا لاَ يُقْتَلُ الْمَوْلَى بِمُدَبَّرِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَمُكَاتَبِهِ؛ لأِنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ حَقِيقَةً .

ط - أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشِرًا :

- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى سَوَاءٍ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ الأْخْرَى .

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً، فَلَوْ قَتَلَهُ بِالسَّبَبِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْحَافِرِ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ إِذَا شَهِدَ بِالْقَتْلِ فَاقْتُصَّ مِنَ الْقَاتِلِ بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الشَّهَادَةِ، أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا لِثُبُوتِ حَيَاةِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ عِنْدَهُمْ .

ي - أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ قَدْ حَدَثَ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ :

- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لإِطْلاَقِ الآْيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالأْحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ .

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لأِنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مَكَانًا، فَكَانَ كَالْمُحَارِبِ لاَ عِصْمَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ تَاجِرَانِ مُسْلِمَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ أَيْضًا .

ك - الْعُدْوَانُ :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَجِبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُدْوَانٌ، وَالْعُدْوَانُ يَعْنِي تَجَاوُزَ الْحَدِّ وَالْحَقِّ، فَإِذَا قَتَلَهُ بِحَقٍّ أَوْ بِإِذْنِ الْقَتِيلِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُخَرَّجُ الْقَتْلُ قِصَاصًا، أَوْ حَدًّا، أَوْ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ، أَوْ دِفَاعًا عَنِ الْمَالِ كَقَتْلِ السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ، أَوْ تَأْدِيبًا، أَوْ تَطْبِيبًا فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الأْحْوَالِ كُلِّهَا لاَ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِذْن ف 39 وَ 58 وَ 60، وَتَأْدِيب ف 11، وَتَطْبِيب ف 7، وَصِيَال ف 6)

ل - أَنْ لاَ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِلِ :

لَوْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِلِ، كَأَنْ وَرِثَ الْقِصَاصَ عَلَيْهِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِلْجُزْئِيَّةِ، لأِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفَرْعُ أَحَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ كُلُّهُ؛ لأِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ .

م - أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقِصَاصِ مَعْلُومًا :

- وَهَذَا شَرْطٌ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ مَجْهُولاً لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لأِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبٌ لِلاِسْتِيفَاءِ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ فَتَعَذَّرَ الإْيجَابُ .

ن - أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْقَاتِلِ شَرِيكٌ فِي الْقَتْلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ :

- إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ أَحَدِ الْمُشَارِكِينَ فِي الْقَتْلِ لأِيِّ سَبَبٍ كَانَ غَيْرِ الْعَفْوِ عَنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأِنَّ الْقَتْلَ وَاحِدٌ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ مُوجِبُهُ بِتَغَيُّرِ الْمُشَارِكِينَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَبًا أَوْ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ.. سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ .

أَمَّا إِذَا قَتَلَ اثْنَانِ رَجُلاً، فَعَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ كَالأْوَّلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي .

هَذَا مَا دَامَ الْوَلِيُّ الْعَافِي وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيلِ أَوْلِيَاءٌ فَعَفَا أَحَدُهُمْ، سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلْبَاقِينَ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا قَتَلَ إِنْسَانٌ رَجُلَيْنِ، فَعَفَا وَلِيُّ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، سَقَطَ حَقُّ الأْوَّلِ وَبَقِيَ حَقُّ الثَّانِي فِي الْقِصَاصِ عَلَى حَالِهِ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَعَمَّدَا قَتْلَهُ، أَوِ الْكَبِيرُ فَقَطْ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْكَبِيرِ؛ لاِحْتِمَالِ أَنَّ ضَرْبَ الصَّغِيرِ هُوَ الْقَاتِلُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ أَنَّهُ مَاتَ بِضَرْبِ الْكَبِيرِ، وَيُقْسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ فَيُقْتَلُ الْكَبِيرُ .

وَلاَ قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَهَلْ يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ سَبْعٍ، أَوْ جَارِحٍ نَفْسَهُ جُرْحًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا، أَوْ شَرِيكِ حَرْبِيٍّ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، وَإِلاَّ اقْتُصَّ مِنَ الشَّرِيكِ. أَوْ شَرِيكِ مَرَضٍ، بِأَنْ جَرَحَهُ ثُمَّ مَرِضَ مَرَضًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يُدْرَ أَمَاتَ مِنَ الْجُرْحِ أَمْ مِنَ الْمَرَضِ؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْقِصَاصُ، وَفِي غَيْرِهِ لاَ يُوجَدُ تَرْجِيحٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْقَسَامَةُ وَيَثْبُتُ الْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ، وَكُلُّ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرَضُ قَبْلَ الْجُرْحِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَارِحِ اتِّفَاقًا، وَقَالَ: وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الثَّلاَثُ الأْوَلُ فَالْقَوْلاَنِ فِيهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكٍ مُخْطِئٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَيُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ مَنِ امْتَنَعَ قَوَدُهُ لِمَعْنًى فِيهِ إِذَا تَعَمَّدَا جَمِيعًا، فَلاَ يُقْتَلُ شَرِيكُ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ عَمْدٍ؛ لأِنَّ الزُّهُوقَ حَصَلَ بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُهُ وَالآْخَرُ يَنْفِيهِ، فَغَلَبَ الْمُسْقِطُ .

وَيُقْتَلُ شَرِيكُ الأْبِ فِي قَتْلِ وَلَدِهِ، وَعَلَى الأْبِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً، وَفَارَقَ شَرِيكُ الأْبِ شَرِيكَ الْمُخْطِئِ بِأَنَّ الْخَطَأَ شُبْهَةٌ فِي فِعْلِ الْخَاطِئِ وَالْفِعْلاَنِ مُضَافَانِ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ كَمَا لَوْ صَدَرَا مِنْ وَاحِدٍ، وَشُبْهَةُ الأْبُوَّةِ فِي ذَاتِ الأْبِ لاَ فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَذَاتُ الأْبِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ ذَاتِ الأْجْنَبِيِّ، فَلاَ تُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ .

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا، وَكَانَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ أَبًا لِلْقَتِيلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الأْبِ وَحْدَهُ، وَوَجَبَ عَلَى الآْخَرِينَ، لأِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَاتِلٌ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ مُنْفَرِدًا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ قِصَاصَ عَلَى الأْبِ وَلاَ عَلَى شُرَكَائِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ الْقَتْلَ مِنْهُمْ جَمِيعًا، فَلاَ يَخْتَلِفُ وَصْفُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الآْخَرِ، وَمَا دَامَ قَدْ سَقَطَ عَنْ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ .

وَمِثْلُ الأَبِ هُنَا كُلُّ مَنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ فِي السَّبَبِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، كَالذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ، فَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَعَاقِلٌ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمْ جَمِيعًا فِي الأْصَحِّ؛ لأِنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَقَطْ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ .

قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ :

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يُقْتَلُونَ بِالْفَرْدِ الَّذِي تَمَّ التَّوَاطُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَتَلَ سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلاً، وَقَالَ: لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوَاطُؤ ف 7).

وَلِيُّ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ :

- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلاً؛ لأِنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ فَكَانَ الْجَزَاءُ حَقَّهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ، فَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ، انْتَقَلَ الْقِصَاصُ إِلَى الْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الاِشْتِرَاكِ بَيْنَهُمْ، كُلٌّ مِنْهُمْ حَسَبَ حِصَّتِهِ فِي التَّرِكَةِ، يَسْتَوِي فِيهِمُ الْعَاصِبُ وَصَاحِبُ الْفَرْضِ، وَالذَّكَرُ وَالأْنْثَى، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا مَاتَ مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، أَوْ مَاتَ لاَ عَنْ تَرِكَةٍ فَالْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا شَيْئًا؛ لأِنَّ فِيهِمْ قُوَّةَ الإْرْثِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ زَائِدٌ عَنِ الدَّيْنِ لَوَرِثُوهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَاصِ هُوَ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ لاَ يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ، وَيَحْصُلُ لِوَرَثَتِهِ، فَكَانَ حَقًّا لَهُمُ ابْتِدَاءً، وَثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ لاَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِيهِ حَقًّا حَتَّى يَسْقُطَ بِعَفْوِهِ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لِعَصَبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الذُّكُورِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَصَبَةً بِالنَّسَبِ كَالاِبْنِ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَالْوَلاَءِ، فَلاَ دَخْلَ فِيهِ لِزَوْجٍ وَلاَ أَخٍ لأِمٍّ أَوْ جَدٍّ لأِمٍّ، يُقَدَّمُ فِيهِ الاِبْنُ ثُمَّ ابْنُ الاِبْنِ، وَيُقَدَّمُ الأْقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَاتِ عَلَى الأْبْعَدِ، إِلاَّ الْجَدُّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَعَ الإْخْوَةِ بِخِلاَفِ الأْبِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَصَبَةِ هُنَا الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ لاِشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِيهِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهُ عَصَبَتُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ :

الأْوَّلُ : أَنْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، كَالْبِنْتِ وَالأْخْتِ .

وَالثَّانِي : أَنْ لاَ يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ، فَإِنْ سَاوَاهُنَّ فَلاَ قِصَاصَ لَهُنَّ، كَالْبِنْتِ مَعَ الاِبْنِ، وَالأْخْتِ مَعَ الأْخِ، فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، وَالْحَقُّ فِيهِ لِلاِبْنِ وَحْدَهُ، وَلِلأْخِ وَحْدَهُ . 

وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْوَارِثَةُ مِمَّنْ لَوْ ذُكِّرَتْ عُصِّبَتْ، كَالْبِنْتِ وَالأْخْتِ الشَّقِيقَةِ أَوْ لأِبٍ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ وَالْجَدَّةُ لأِمٍّ وَالأْخْتُ لأِمٍّ.. فَلاَ قِصَاصَ لَهُنَّ مُطْلَقًا .

فَإِذَا كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَارِثٌ مِنَ النِّسَاءِ، وَعَصَبَتُهُ مِنَ الرِّجَالِ أَبْعَدُ مِنْهُنَّ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَهُنَّ وَلِلْعَصَبَةِ الأْبْعَدِ مِنْهُنَّ .

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الأْوْلِيَاءِ الْمُنْفَرِدِينَ وَالْمُتَعَدِّدِينَ تَوْكِيلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَكَالَةٌ) .

وَلِلأْبِ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَنِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِوِلاَيَتِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا غَيْرُ الأْبِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النَّفْسِ كَالأْخِ وَالْعَمِّ فَلَهُ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لأِبِي يُوسُفَ. أَمَّا الْوَصِيُّ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَنِ الْقَاصِرِ الْمَشْمُولِ بِوِصَايَتِهِ؛ لأِنَّ الْوِصَايَةَ عَلَى الْمَالِ فَقَطْ وَلَيْسَ الْقِصَاصُ مِنْهُ .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لاَ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَمَّنْ يَلِي عَلَيْهِ، أَبًا أَوْ غَيْرَهُ .

فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ وَلاَ عَصَبَةٌ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِوِلاَيَتِهِ الْعَامَّةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ:  لاَ وِلاَيَةَ لِلسُّلْطَانِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: حَقُّ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ .

طَرِيقَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ :

- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِمِثْلِ الطَّرِيقَةِ وَالآْلَةِ الَّتِي قَتَلَ بِهَا، لقوله تعالى : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقَةُ مُحَرَّمَةً، كَأَنْ يَثْبُتَ الْقَتْلُ بِخَمْرٍ فَيُقْتَصَّ بِالسَّيْفِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِلِوَاطٍ أَوْ بِسِحْرٍ فَيُقْتَصَّ بِالسَّيْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَا فِي الأْصَحِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ .

وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْخَمْرِ بِإِيجَارِهِ مَائِعًا كَخَلٍّ أَوْ مَاءٍ، وَفِي اللِّوَاطِ بِدَسِّ خَشَبَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ آلَتِهِ وَيُقْتَلُ بِهَا .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْعُنُقِ مَهْمَا كَانَتِ الآْلَةُ وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي قَتَلَ بِهَا، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم  «لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ»، وَالْمُرَادُ بِالسَّيْفِ هُنَا السِّلاَحُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ السِّكِّينُ وَالْخَنْجَرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ .

- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإْمَامِ فِيهِ لِخَطَرِهِ؛ وَلأِنَّ وُجُوبَهُ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ لاِخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَالاِسْتِيفَاءِ، لَكِنْ يُسَنُّ حُضُورُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ لاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ الْوَلِيُّ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إِذْنِ السُّلْطَانِ جَازَ، وَيُعَزَّرُ لاِفْتِئَاتِهِ عَلَى الإْمَامِ .

اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ :

يُشْتَرَطُ لاِسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ أَنَّ لَهُ طَلَبَ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءَهُ، فَإِنْ طَلَبَهُ أُجِيبَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ وَاحِدًا أُجِيبَ إِلَيْهِ إِذَا طَلَبَهُ مُطْلَقًا، وَإِذَا كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أُجِيبُوا إِلَيْهِ إِذَا طَلَبُوهُ جَمِيعًا، فَإِذَا أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْقِصَاصُ - كَمَا تَقَدَّمَ -فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ قَاصِرًا، أَوْ كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ بَعْضُهُمْ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ نَاقِصَ الأْهْلِيَّةِ .

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي الظَّاهِرِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ الصَّغِيرُ حَتَّى يَكْبَرَ، وَالْمَجْنُونُ حَتَّى يُفِيقَ؛ لأِنَّهُ رُبَّمَا يَعْفُو فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ؛ لأِنَّ الْقِصَاصَ عِنْدَهُمْ يَثْبُتُ لِكُلِّ الْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الاِشْتِرَاكِ؛ وَلأِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي، فَحَقُّهُ التَّفْوِيضُ إِلَى خِيرَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَلاَ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ غَيْرِهِ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُحْبَسُ الْقَاتِلُ حَتَّى الْبُلُوغِ وَالإْفَاقَةِ، وَلاَ يُخَلَّى بِكَفِيلٍ؛ لأِنَّهُ قَدْ يَهْرُبُ فَيَفُوتُ الْحَقُّ .

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ يَكُونُ لِكَامِلِي الأْهْلِيَّةِ وَحْدَهُمْ حَقُّ طَلَبِ الْقِصَاصِ، لأِنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كَامِلاً - عِنْدَهُ - عَلَى سَبِيلِ الاِسْتِقْلاَلِ، فَإِذَا طَلَبُوهُ أُجِيبُوا إِلَيْهِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالآْخَرِينَ نَاقِصِي الأْهْلِيَّةِ؛ لأِنَّ عَفْوَهُمْ لاَ يَصِحُّ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْتَظَرُ صَغِيرٌ لَمْ يَتَوَقَّفِ الثُّبُوتُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُنْتَظَرُ مَجْنُونٌ مُطْبِقٌ لاَ تُعْلَمُ إِفَاقَتُهُ بِخِلاَفِ مَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا فَتُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ .

فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الأْوْلِيَاءِ كَامِلِي الأْهْلِيَّةِ غَائِبًا انْتُظِرَتْ عَوْدَتُهُ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأِنَّ لَهُ الْعَفْوَ فَيَسْقُطُ بِهِ الْقِصَاصُ؛ وَلأِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي كَمَا سَبَقَ .

زَمَانُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ :

- إِذَا ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِشُرُوطِهِ جَازَ لِلْوَلِيِّ اسْتِيفَاؤُهُ فَوْرًا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ لأِنَّهُ حَقُّهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُعَدُّ مُسْتَحِقًّا لَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا جَرَحَهُ جُرْحًا نَافِذًا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ؛ لأِنَّهُ رُبَّمَا شُفِيَ مِنْ جُرْحِهِ فَلاَ قِصَاصَ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِذَا مَاتَ ثَبَتَ الْقِصَاصُ فَيُسْتَوْفَى فَوْرًا .

وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُعَافًى أَوْ مَرِيضًا، وَسَوَاءٌ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ بَارِدًا أَوْ حَارًّا؛ لأِنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْمَوْتُ، وَلاَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَوْتِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .

إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا كَانَ امْرَأَةً حَامِلاً يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ حَتَّى تَلِدَ، حِفَاظًا عَلَى سَلاَمَةِ الْجَنِينِ وَحَقِّهِ فِي الْحَيَاةِ، بَلْ إِنَّهَا تُنْظَرُ إِلَى الْفِطَامِ أَيْضًا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا لإِرْضَاعِهِ، فَإِذَا ادَّعَتِ الْحَمْلُ وَشَكَّ فِي دَعْوَاهَا أُرِيَتِ النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ حَامِلٌ أُجِّلَتْ، ثُمَّ إِنْ ثَبَتَ حَمْلُهَا حُبِسَتْ حَتَّى تَلِدَ وَإِنْ قُلْنَ: غَيْرُ حَامِلٍ اقْتُصَّ مِنْهَا فَوْرًا .

مَكَانُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ :

لَيْسَ لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مَكَانٌ مُعَيَّنٌ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا الْتَجَأَ الْجَانِي إِلَى الْحَرَمِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ :

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَجَّبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ قُتِلَ فِيهِ، فَإِنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ أُخْرِجَ مِنْهُ وَقُتِلَ خَارِجَهُ .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُخْرَجُ مِنْهُ وَلاَ يُقْتَلُ فِيهِ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ عَنْهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ بِنَفْسِهِ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ .

هَذَا مَا دَامَتِ الْجِنَايَةُ وَقَعَتْ خَارِجَ الْحَرَمِ فِي الأْصْلِ، فَإِذَا كَانَتْ وَقَعَتْ فِي الْحَرَمِ أَصْلاً، جَازَ الاِقْتِصَاصُ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ وَخَارِجَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . 

مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ :

يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ بِأُمُورٍ، هِيَ :

أ - فَوَاتُ مَحَلِّ الْقِصَاصِ :

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ؛ لأِنَّ الْقَتْلَ لاَ يَرِدُ عَلَى مَيِّتٍ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ قَدْ حَصَلَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ بِقَتْلِ آخَرَ لَهُ بِحَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .

أَمَّا إِذَا قَتَلَ الْقَاتِلُ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ مَعَ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ الأْوَّلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي لأِوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الأْوَّلِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ لأِوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الأْوَّلِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ الثَّانِي .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الخامس والثلاثون ، الصفحة / 51

الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ :

الْقَوْلُ الأْوَّلُ : عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ .

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا) وقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) .

وَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَتَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ فِي الآْيَةِ الأْولَى كَفَّارَةَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الآْيَةِ الثَّانِيَةِ الْقَتْلَ الْعَمْدَ، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ كَفَّارَةً، جَعَلَ جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ، فَلَوْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِيهِ وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا وَذَكَرَهَا، فَكَانَ عَدَمُ ذِكْرِهَا دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ .

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ رضي الله عنه قَتَلَ رَجُلاً، فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  عَلَيْهِ الْقَوَدَ وَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً .

وَقَالُوا: إِنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ فِعْلٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ فَلاَ يُوجِبُ كَفَّارَةً، كَزِنَا الْمُحْصَنِ وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالإْبَاحَةِ لِتَعَلُّقِ الْعِبَادَةِ بِالْمُبَاحِ وَالْعُقُوبَةِ بِالْمَحْظُورِ، وَقَتْلُ الْعَمْدِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، فَلاَ تُنَاطُ بِهِ كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، مِثْلُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا، وَلِعَدَمِ جَوَازِ قِيَاسِهِ عَلَى الْخَطَأِ، لأِنَّهُ دُونَهُ فِي الإْثْمِ، فَشَرْعُهُ لِدَفْعِ الأْدْنَى لاَ يَدُلُّ عَلَى دَفْعِ الأْعْلَى، وَلأِنَّ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَعِيدًا مُحْكَمًا، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَرْتَفِعُ الإْثْمُ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ مَعَ وُجُودِ التَّشْدِيدِ فِي الْوَعِيدِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، وَمَنِ ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ تَحَكُّمًا مِنْهُ بِلاَ دَلِيلٍ، وَلأِنَّ الْكَفَّارَةَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ فَلاَ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلأِنَّ قوله تعالى : (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) هُوَ كُلُّ مُوجِبِهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ الْجَزَاءِ لِلشَّرْطِ، فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ نَسْخًا، وَلاَ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ .

الْقَوْلُ الثَّانِي : وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ .

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الأْسْقَعِ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ أَوْجَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً، يَعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» فَقَدْ أَوْجَبَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم  الْكَفَّارَةَ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ النَّارَ، وَلاَ تُسْتَوْجَبُ النَّارُ إِلاَّ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ .

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِذَا وَجَبَتْ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ مَعَ عَدَمِ الْمَأْثَمِ، فَلأِنْ تَجِبَ فِي الْعَمْدِ وَقَدْ تُغَلَّظُ بِالإْثْمِ أَوْلَى، لأِنَّهُ أَعْظَمُ إِثْمًا وَأَكْبَرُ جُرْمًا وَحَاجَةُ الْقَاتِلِ إِلَى تَكْفِيرِ ذَنْبِهِ أَعْظَمُ .

الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ بِالتَّسَبُّبِ :

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ بِالتَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ بِالتَّسَبُّبِ .

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْلِ قَدْ وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّسَبُّبِ .

وَلأِنَّهُ قَتَلَ آدَمِيًّا مَمْنُوعًا مِنْ قَتْلِهِ لِحُرْمَتِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِالْمُبَاشَرَةِ.وَلأِنَّ السَّبَبَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي إِيجَابِ الضَّمَانِ، فَكَانَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ .

وَلأِنَّ فِعْلَ الْقَاتِلِ سَبَبٌ لإِتْلاَفِ الآْدَمِيِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُهُ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ رَاكِبًا فَأَوْطَأَ دَابَّتَهُ إِنْسَانًا .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ بِالتَّسَبُّبِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَحَقُّقِ الْقَتْلِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَتْلِ بِالْمُبَاشَرَةِ، أَمَّا الْقَتْلُ بِالتَّسَبُّبِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِهِ، فَلَمْ يَسْتَنِدِ الْفِعْلُ إِلَيْهِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / التاسع والثلاثون ، الصفحة / 330

الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ وَجِنَايَتُهُ :

إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ قِنًّا وَكَانَ قَتْلُهُ عَمْدًا فَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عَفْوٌ مَجَّانًا وَلاَ قَوَدٌ، لأِنَّهُ لاَ يَخْتَصُّ بِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ، فَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ بَدَلُهُ: أَيْ مِثْلُهُ .

وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِيَّةِ فِي الْبَدَلِ الْمُشْتَرَى مَعْنَاهُ: وُجُوبُ الذَّكَرِ فِي الذَّكَرِ، وَالأْنْثَى فِي الأْنْثَى، وَالْكَبِيرِ فِي الْكَبِيرِ، وَسَائِرِ الأْوْصَافِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ الأْعْيَانُ بِتَفَاوُتِهَا، وَلاَ سِيَّمَا الصِّنَاعِيَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي الْوَقْفِ، لأِنَّ الْغَرَضَ جُبْرَانُ مَا فَاتَ وَلاَ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ .

وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ بَعْضِ أَطْرَافِهِ عَمْدًا فَلِلْقِنِّ الْمَوْقُوفِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لأِنَّهُ حَقُّهُ لاَ يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ .

وَإِنْ عَفَا الْقِنُّ الْمَوْقُوفُ عَنِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ لاَ تُوجِبُ الْقِصَاصَ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ أَوْ لِكَوْنِهَا خَطَأً وَجَبَ نِصْفُ قِيمَتِهِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ مِمَّا فِيهِ نِصْفُ دِيَةٍ فِي الْحُرِّ وَإِلاَّ فَبِحِسَابِهِ وَيُشْتَرَى بِالأْرْشِ مِثْلُهُ أَوْ شِقْصُ بَدَلِهِ .

وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ خَطَأً فَالأْرْشُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ، لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ. 

وَلَمْ يَلْزَمِ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَجِبُ أَقَلُّ الأْمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ .

وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ وَجَنَى فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي كَسْبِهِ، لأِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ إِيجَابُ الأْرْشِ عَلَيْهِ، وَلاَ يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَتِهِ فَتَعَيَّنَ فِي كَسْبِهِ .

وَإِنْ جَنَى الْمَوْقُوفُ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِعُمُومِ قوله تعالى: (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) .

فَإِنْ قُتِلَ قِصَاصًا بَطَلَ الْوَقْفُ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَإِنْ قُطِعَ كَانَ بَاقِيهِ وَقْفًا .