loading

موسوعة قانون العقوبات​

الأحكام

1- الأصل أن المحكمة لا تتقيد بالوصف القانوني الذي تُسبغه النيابة العامة على الفعل المسند إلى المتهم لأن هذا الوصف ليس نهائياً بطبيعته وليس من شأنه أن يمنع المحكمة من تعديله متى رأت أن ترد الواقعة بعد تمحيصها إلى الوصف القانوني السليم الذي ترى انطباقه على واقعة الدعوى ، وإذ كانت الواقعة المادية المبينة بأمر الإحالة - الشروع في القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد – هي بذاتها الواقعة التي اتخذها الحكم المطعون فيه أساساً للوصف الجديد الذي دان الطاعن به وكان مرد التعديل هو عدم توافر الدليل على ثبوت نية القتل لدى المحكوم عليهما دون أن يتضمن التعديل إسناد واقعة مادية أو إضافة عناصر جديدة تختلف عن الأولى فإن الوصف الذي نزلت إليه المحكمة في هذا النطاق حين اعتبرت الطاعن مرتكب لجريمة الضرب المفضي إلى العاهة المستديمة لا يُجافي التطبيق القانوني السليم في شيء ولا محل لما يثيره من دعوى الإخلال بحق الدفاع إذ المحكمة لا تلتزم في مثل هذه الحالة بتنبيه المتهم أو دفاعه إلى ما أجرته من تعديلٍ في الوصف نتيجة استبعاد أحد عناصر الجريمة التي رُفعت بها الدعوى ويكون ما يثيره الطاعن في هذا الشأن غير قويم .

( الطعن رقم 19145 لسنة 92 ق - جلسة 21 / 2 / 2024 )

2- القانون وإن لم يرد فيه تعريف للعاهة المستديمة واقتصر على إيراد بعض أمثلة لها إلا أن قضاء محكمة النقض قد جرى على ضوء هذه الأمثلة على أن العاهة في مفهوم المادة 240 من قانون العقوبات هى فقد أحد أعضاء الجسم أو أحد أجزائه أو فقد منفعته أو تقليلها أو تقليل قوة مقاومته للطبيعة بصفة مستديمة كذلك لم يحدد القانون نسبة معينة للنقص الذى يكفي وقوعه لتكوينها بل ترك الأمر في ذلك لتقدير قاضي الموضوع يبت فيه بما يتبينه من حالة المصاب وما يستخلصه من تقرير الطبيب، ومن ثم فلا جدوى مما يجادل فيه الطاعن من أن حالة المجني عليه لم تصبح نهائية ومن عدم تقدير نسبة العاهة ــــ بصفة نهائية ــــ مادام أن ما انتهى إليه الحكم من ذلك إنما يستند إلي الرأي الفني الذى قال به الطبيب الشرعي وخلص منه إلي أنه قد نشأت لدى المجني عليه من جراء إعتداء المتهم عليه عاهة مستديمة، هذا فضلاً عن أن البين من مدونات الحكم المطعون فيه أنه قد دان الطاعن بجرائم إحراز سلاح ناري غير مششخن وذخائر بغير ترخيص واحداث عاهة مستديمة وأعتبر تلك الجرائم الثلاث مرتبطة إرتباطاً لا يقبل التجزئة وأوقع على الطاعن عقوبة الجريمة الأشد وهى جريمة إحراز سلاح ناري غير مششخن بغير ترخيص تطبيقاً للمادة 32/2 من قانون العقوبات فإنه لا تكون للطاعن مصلحة فيما يثيره بشأن جريمة إحداث العاهة المستديمة، ويكون منعاه في هذا الصدد غير قويم . 

( الطعن رقم 22286 لسنة 92 ق - جلسة 6 / 3 / 2024 )

3 ـ لما كان الحكم المطعون فيه قد عرض لدفاع الطاعن بعدم حدوث عاهة للمجني عليه وفنده واطرحه بأسباب سائغة التزم فيها التطبيق القانوني الصحيح ، ودلل على توافر العاهة بقوله : ( وحيث إنه عن دفاع الطاعن بشأن عدم حدوث عاهة للمجني عليه من جراء إصابته فهو دفاع غير صحيح يخالف الثابت بالأوراق إذ ثبت بتقرير مصلحة الطب الشرعي رقم 1672 لسنة 2011 طب شرعي دمنهور والمؤرخ 28/11/2011 تخلف الإعاقة الموصوفة تفصيلاً بذلك التقرير وأنها تعد عاهة مستديمة تقدر نسبتها بنحو عشرين فى المائة ، ومن ثم تنتهي المحكمة إلى رفض ذلك الدفاع ) ، وكان القانون وإن لم يرد فيه تعريف للعاهة المستديمة واقتصر على إيراد أمثلة لها إلا أن قضاء محكمة النقض قد جرى على ضوء هذه الأمثلة على أن العاهة فى مفهوم المادة 240 من قانون العقوبات هي فقد أحد أعضاء الجسم أو أحد أجزائه أو فقد منفعته أو تقليلها أو تقليل قوة مقاومته الطبيعية بصفة مستديمة ، كذلك لم يحدد القانون نسبة معينة للنقص الذي يكفى وقوعه لتكوينها ، بل ترك الأمر فى ذلك لتقدير قاضى الموضوع يبت فيه بما يتبيِنه فى حالة المصاب وما يستخلصه من تقرير الطبيب، فإن الحكم إذ ساءله بعد ما أثبت فى حقه إحداث هذه الإصابة عن نشوء عاهة مستديمة من جرائها لدى المجني عليه يكون قد طبق القانون تطبيقاً صحيحاً ، ومن ثم فإنه لا جدوى مما يجادل فيه الطاعن من عدم حدوث عاهة للمجني عليه مادام أن الحكم قد خلص استناداً إلى الرأي الفني الذي قال به الطبيب الشرعي إلى أن الإصابة تخلف عنها عاهة مستديمة تقدر نسبة العجز الناشئ عنها بحوالي 20% وفضلاً عن ذلك فإنه لا مصلحة للطاعن فى النعي على الحكم فى خصوص جريمة العاهة ما دامت العقوبة المقضي بها عليه تدخل فى حدود جنحة الضرب البسيط الذي لم يتخلف عنه عاهة مستديمة .

(الطعن رقم 10055 لسنة 83 جلسة 2014/01/12)

4 ـ لما كان من المقرر أن العاهة المستديمة بحسب المستفاد من الأمثلة التى ضربتها الفقرة الأولى من المادة 240 من قانون العقوبات هى فقد أحد أعضاء الجسم أو أحد أجزائه أو وظيفته كلها أو بعضها بصفة مستديمة ، و كان يكفى لتوافر العاهة المستديمة - كما هى معرفة به فى القانون - أن تكون العين سليمة قبل الإصابة و أن تكون قد أصيبت بضعف يستحيل برؤه أو أن تكون منفعتها قد فقدت فقداً كلياً و لو لم يتيسر تحديد قوة الإبصار قبل الإصابة ، و كانت المحكمة قد إطمأنت من واقع التقرير الطبى الشرعى إلى أن إصابة المجنى عليه فى عينيه قد خلفت له عاهة مستديمة هى ضعف قوة الأبصار ، و من ثم فإن النعى على الحكم لعدم وقوفه على قوة أبصار العينين قبل الإصابة يكون غير سديد .

(الطعن رقم 7441 لسنة 54 جلسة 1985/03/11 س 36 ص 356 ق 61

5 ـ يتحقق وجود العاهة - فى مفهوم المادة 240 من قانون العقوبات - بفقد أحد الأعضاء أو الأجزاء أو تقليل قوة مقاومته الطبيعية. لما كان ذلك وكان الطاعن الثاني لا يماري - بدوره - فى أن إصابة الرأس قد اقتضت إجراء عملية تربنه ورفع العظام، فإن الحكم إذ ساءله، بعد ما أثبت فى حقه إحداث هذه الإصابة، عن نشوء عاهة مستديمة من جرائها لدى المجني عليه، يكون قد طبق القانون تطبيقا صحيحاً.

(الطعن رقم 761 لسنة 48 جلسة 1978/10/19 س 29 ع 1 ص 706 ق 140)

6 ـ إن نص المادة 240 من قانون العقوبات إذ أردف عبارة "عاهة مستديمة" بعبارة "يستحيل برؤها" فقد أكد - فحسب - معنى الاستدامة الظاهر من العبارة الأولى ، ومن ثم فلا يحول دون تطبيق هذا النص اقتصار التقرير الطبي الشرعي على وصف العاهة بأنها مستديمة وسكوته عن الإفصاح باستحالة برئها طالما أن هذه الاستحالة - ولو لم تذكر - صفة ملازمة ونتيجة حتمية لاستدامة العاهة .

(الطعن رقم 791 لسنة 46 جلسة 1976/02/14 س 27 ع 1 ص 892 ق 202)

7 ـ العاهة المستديمة فى مفهوم المادة 240 من قانون العقوبات هى فقد أحد أعضاء الجسم أو أحد أجزائه أو فقد منفعته أو تقليلها بصفة مستديمة . فإذا كان الحكم المطعون فيه قد أثبت أن صيوان الأذن اليسرى قد إنتزع بأكمله عدا " شحمة الأذن " التى لا تؤدى وظيفة و لا تعدو أن تكون حلية و ترتب على ذلك ضعف قوة سمع هذه الأذن بنسبة 1-2% التى إنتهى إليها الحكم أخذاً برأى الطبيب الشرعى و أحد الأخصائيين و دلل الحكم على ذلك تدليلاً سائغاً ، فإن منازعة الطاعن فى تخلف العاهة لا تكون مقبولة . و لا يجديه فى دفاعه بإمكان الإستعاضة عن الأذن الطبيعية بأخرى صناعية تؤدى وظيفتها تماماً ، ذلك لأن تدخل العلم للتخفيف من آثار العاهة ليس من شأنه أن ينفى وجودها كلية أو يخلى بين الطاعن و بين نتائج فعلته .

(الطعن رقم 1199 لسنة 36 جلسة 1966/11/01 س 17 ع 3 ص 1061 ق 199) 

8 ـ إن عبارة " يستحيل برؤها " التى وردت بالمادة 240 من قانون العقوبات بعد عبارة " عاهة مستديمة " إنما هى فضلة و تكرار للمعنى يلازمه إذا إستدامة العاهة يلزم عنها حتماً إستحالة برئها . فمتى قيل " إن العاهة مستديمة " كان معنى ذلك أنها باقية على الدوام و الإستمرار يستحيل برؤها و التخلص منها .

(الطعن رقم 1857 لسنة 34 جلسة 1965/05/11 س 16 ع 2 ص 450 ق 90)

9 ـ إذا كانت المحكمة وقد طبقت المادة 17 من قانون العقوبات قد أوقعت على الطاعن من العقاب ما يدخل فى نطاق الفقرة الأولى من المادة 240 من قانون العقوبات التى تنص على عقوبة الضرب الذى ينشأ عنه عاهة مستقيمة من غير سبق إصرار ، فلا جدوى مما ينعاه الطاعن على الحكم من الخطأ فى الإستدلال على توافر ركن سبق الإصرار ، و لا يغير من هذا النظر القول بأن المحكمة أخذت الطاعن بالرأفة و أنها كانت عند تقدير العقوبة تحت تأثير الوصف الذى أعطته الواقعة ، إذ أن تقدير العقوبة مداره ذات الواقعة الجنائية التى قارفها الجاني لا الوصف القانونى الذى تكيفه المحكمة و هى إذ تعمل حقها الإختيارى فى إستعمال الرأفة و ذلك بتطبيق المادة 17 من قانون العقوبات فإنما تقدر العقوبة التى تتناسب مع الواقعة و ما أحاط بها من ظروف .

(الطعن رقم 980 لسنة 24 جلسة 1954/10/11 س 6 ع 1 ص 46 ق 17)

10 ـ إن كل فعل مادي يقع على جسم الإنسان عمداً بقصد الإيذاء يعد ضربا ويعاقب عليه بالمادة 240 من قانون العقوبات متى تخلفت عنه عاهة يستحيل برؤها. فإذا كانت الواقعة هي أن المتهم دفع المجني عليها بيده فوقعت على الأرض وأصيبت بكسر فى عظم الفخذ، تخلفت عنه عاهة مستديمة فإنه يحق عقابه بمقتضى المادة المذكورة.

(الطعن رقم 1145 لسنة 22 جلسة 1953/01/06 س 4 ع 2 ص 346 ق 135)

11 ـ إذا كان الثابت من الحكم المطعون فيه أنه قد انتهى إلى ثبوت اتفاق الطاعنين على ضرب المجني عليه وترصدهم له فى السوق، فإن من مقتضى ذلك مساءلة كل منهم بإعتباره فاعلاً أصلياً عن العاهة التي تخلفت بالمجني عليه بوصف كونها نتيجة للضرب الذي أوقعوه عليه، وذلك دون حاجة إلى تقصي من منهم الذي أحدث إصابة العاهة.

(الطعن رقم 1948 لسنة 30 جلسة 1961/04/04 س 12 ع 2 ص 423 ق 78)

12 ـ من المقرر أن العاهة المستديمة بحسب المستفاد من الأمثلة التي ضربتها المادة 240 /1 من قانون العقوبات هي فقد أحد أعضاء الجسم أو أحد أجزائه أو وظيفته كلها أو بعضها بصفة مستديمة. ولما كان يكفي لتوافر العاهة المستديمة - كما هي معرفة به فى القانون - أن تكون العين سليمة قبل الإصابة وأن تكون قد أصيبت بضعف يستحيل برؤه أو أن تكون منفعتها قد فقدت فقداً كلياً حتى ولو لم يتيسر تحديد قوة الإبصار قبل الإصابة، وكانت المحكمة قد اطمأنت من واقع التقرير الطبي الشرعي إلى أن إصابة المجني عليه فى عينه اليسرى قد خلفت له عاهة مستديمة هي اتساع الحدقة والعتامة السطحية بغلاف العدسة فإن النعي على الحكم لعدم تحديده قوة إبصار العين قبل الإصابة يكون غير سديد.

(الطعن رقم 1842 لسنة 44 جلسة 1975/01/27 س 26 ص 94 ق 22)

13 ـ متى كان الثابت من الوقائع أن الجاني لم يتعمد الجرح وأنه أتى فعلاً لا يترتب عليه عادة حصول الجرح، ثم نشأ عن هذا الفعل جرح بسبب سوء العلاج أو بسبب آخر فلا يمكن اعتباره محدثاً لهذا الجرح عن عمد وإرادة، وكل ما تصح نسبته إليه فى هذه الحالة هو أنه تسبب بخطئه فى إحداث هذا الجرح ، ومن ثم فإذا كان الفعل المادي الصادر من المتهم وهو تمرير مرود بعين المجني عليها لم يكن مقصوداً به إحداث جرح وأن استعمال المرود على هذا النحو ليس من طبيعته إحداث الجرح وأن الجرح إنما نشأ عن خطئه فلا يمكن القول بعد ذلك إن القصد الجنائي فى جريمة الجرح المحدث للعاهة متوفر لدى المتهم .

(الطعن رقم 273 لسنة 27 جلسة 1957/04/16 س 8 ع 2 ص 428 ق 116

14 ـ متى إستبعدت المحكمة إصابتى العاهة لعدم حصولهما من المتهمين ، فلا يصح لها أن تسند إليهما إحداث إصابات أخرى بالمجنى عليهما و أخذهما بالقدر المتيقن فى حقهما ، ذلك لأن القدر المتيقن الذى يصح العقاب عليه فى مثل هذه الحالة هو الذى يكون إعلان التهمة قد شمله ، و تكون المحاكمة قد دارت عليه .

(الطعن رقم 700 لسنة 26 جلسة 1956/06/11 س 7 ع 2 ص 871 ق 240)

15 ـ من المقرر أن إثبات علاقة السببية فى المواد الجنائية علاقة مادية تبدأ بالفعل الضار الذي قارفه الجاني وتربط من الناحية المعنوية بما يجب أن يتوقعه من النتائج المألوفة لفعله إذا ما أتاه عمداً ، وثبوت قيام هذه العلاقة من المسائل الموضوعية التي ينفرد قاضى الموضوع بتقديرها ، ومتى فصل فى شأنها إثباتاً أو نفياً فلا رقابة لمحكمة النقض عليه ما دام قد أقام قضاءه فى ذلك على أسباب تؤدى إلى ما انتهى إليه ، وإذ كان الحكم المطعون فيه قد أثبت فى حق الطاعن أنه ضرب المجني عليه بسكين فى ذراعه الأيسر فأحدث به الإصابة التي نشأت عنها العاهة ، ودلل على توافر رابطة السببية بين الفعل المسند للطاعن وإصابة المجني عليه بما أثبته التقرير الطبي الشرعي من أن إصابة المجني عليه بذراعه الأيسر نتج عنها إعاقة بنهاية حركة وضع الرسغ للخلف ، وكذا بالحركة الجانبية للرسغ وإعاقة بمعظم حركة إبعاد وتقريب الإبهام وبنهاية حركات ثنى المفاصل المشطية السلامية لأصابع اليد مع تيبس المفصل السلامى العلوى للخنصر فى وضع بسط والمفصل السلامي الطرفي له فى وضع ثنى جزئي كما شوهدت إعاقة بنهاية بطح الساعد وقد تخلف لديه من جرائها عاهة مستديمة تقدر بنحو عشرين فى المائة ، فإن فى ذلك ما يحقق مسئولية الطاعن فى صحيح القانون عن هذه النتيجة التي كان من واجبه أن يتوقع حصولها .

(الطعن رقم 10055 لسنة 83 جلسة 2014/01/12)

16 ـ إن تقدير نسبة العاهة المستديمة بوجه التقريب وضآلة هذه النسبة لا ينفيان عنها هذه الصفة.

(الطعن رقم 1080 لسنة 22 جلسة 1952/12/22 س 4 ع 1 ص 260 ق 101)

17 ـ إذا كان الحكم قد استخلص دوام العاهة من عدم توقع ملء الفقد العظمي بنسيج عظمي، وإن كان من المحتمل أن يملأ بنسيج ليفي، وذلك بناء على رأي الطبيب الشرعي الذي أشار الحكم إلى تقريره - فذلك استخلاص سائغ، ولا يصح أن يعاب به الحكم.

(الطعن رقم 281 لسنة 23 جلسة 1953/04/27 س 4 ع 3 ص 755 ق 275)

18 ـ متى كان الدفاع عن المتهم بإحداث العاهة قد طلب "اعتبار الواقعة جنحة ضرب لأن الإصابة بسيطة وإزالة سنتيمتر من العظم لا يعتبر عاهة وكبير الأطباء الشرعيين يمكنه تقدير هذا والجزء البسيط الذي أزيل من العظم يملأ من النسيج الليفي" وصمم على طلب عرض الأمر على كبير الأطباء الشرعيين لإبداء الرأي، ولكن الحكم لم يجب المتهم إلى ما طلب ولم يناقش الأساس الذي بنى عليه طلبه ولم يبين مبلغ ما لهذا الدفاع من أثر فى تحديد مسئولية المتهم، فإنه يتعين نقض الحكم.

(الطعن رقم 80 لسنة 28 جلسة 1958/04/28 س 9 ع 2 ص 433 ق 117)

19 ـ يكفي لتوافر العاهة المستديمة - كما هي معرفه به قانوناً - أن تكون العين سليمة قبل الإصابة، وأن تكون قد أصيبت بضعف يستحيل برؤه حتى ولو لم يتيسر تحديد قوة الأبصار قبل الإصابة. فإذا كان يبين من الحكم المطعون فيه أنه أثبت ما تضمنه التقرير الطبي بما مفاده أن الطاعن الأول قد أصيب بتمدد فى حدقة العين اليسرى نتيجة المصادمة بجسم صلب راض، وأنه شفي من إصابته وتخلفت لديه منها عاهة مستديمة يستحيل برؤها هي ضعف قوة إبصار تلك العين بما يقدر بحوالي 10% مما مؤداه أن العين كانت مبصرة قبل الإصابة وأن قوة إبصارها ضعفت على أثرها - لما كان ذلك، فإن ما يثيره الطاعن على الحكم فى هذا الخصوص يكون على غير أساس.

(الطعن رقم 1904 لسنة 32 جلسة 1962/11/26 س 13 ع 3 ص 775 ق 189)

20 ـ متى كانت المحكمة قد أثبتت فى حكمها أن المتهمين تربصوا للمجني عليه فى الطريق وانتظروا عودته حتى إذا ما أقترب منهم انهالوا عليه ضرباً فأحدثوا به إصابات تخلفت عنها عاهة مستديمة، فإن ما تحدثت عنه المحكمة فى شأن ترصدهم له يفيد حصول الاتفاق بينهم على ضربه ويكون كل منهم مسئولاً عن العاهة بوصف كونها نتيجة للضرب الذي اتفقوا عليه وأحدثوه بالمجني عليه سواء فى ذلك ما وقع منه أو من زملائه .

(الطعن رقم 97 لسنة 22 جلسة 1952/02/25 س 3 ع 2 ص 508 ق 191)

21 ـ لمحكمة الموضوع - بما لها من حرية مطلقة فى تقدير الوقائع والأدلة - أن تأخذ فى قضائها بما تطمئن إليه من أقوال الشهود ، فلا تثريب عليها إن هى جزمت بصحة ما عجز الطبيب عن الوصول إليه فى تقريره بشأن حالة إبصار العين قبل الإصابة على اعتبار أنه هو الذى يتفق مع وقائع الدعوى و أدلتها المطروحة عليها .

(الطعن رقم 296 لسنة 29 جلسة 1959/04/06 س 10 ع 2 ص 411 ق 89)

22 ـ إنه وإن كان القانون لم يرد به تعريف العاهة المستديمة واقتصر على إيراد بعض الأمثلة لها إلا أن قضاء محكمة النقض قد جرى على ضوء هذه الأمثلة على أن العاهة فى مفهوم المادة 240 من قانون العقوبات هي فقد أحد أعضاء الجسم أو أحد أجزائه أو فقد منفعته أو تقليلها بصفة مستديمة وبذلك فإن العاهة يتحقق وجودها بفقد أحد الأعضاء أو الأجزاء أو تقليل منفعته، ومن ثم فإن المحكمة حين اعتبرت فقد جزء من الضلعين التاسع والعاشر الأيسرين مع بعض الضيق فى التنفس عاهة مستديمة تكون قد طبقت القانون تطبيقاً صحيحاً.

(الطعن رقم 758 لسنة 43 جلسة 1973/11/18 س 24 ع 3 ص 1010 ق 210)

23 ـإذا كان الحكم بإدانة المتهم فى العاهة التى حدثت بالمجنى عليه ، و هى فقد الطحال ، لم يورد للتدليل على إسناد العاهة إليه إلا ما نقله عن التقرير الطبى عن الكشف على المجنى عليه ، و كان هذا التقرير ، و إن أثبت إستعمال طحال المجنى عليه و ما يترتب على ذلك من العاهة ، لم يستظهر الصلة بين تمزق الطحال الذى أدى إلى إستئصاله و بين الضرب الذى أثبت الحكم وقوعه ، فإنه يكون حكماً قاصراً فى بيان رابطة السببية بين الفعل الذى أدان المتهم به و بين النتيجة التى رتب القانون العقاب على نشوئها عن ذلك الفعل .

(الطعن رقم 346 لسنة 20 جلسة 1950/04/03 س 1 ص 482 ق 159)

24 ـ من المقرر أن أحكام القانون فى تغليظ العقوبة على المتهم بسبب نتيجة فعلته إنما لحظ فيها قيام حسن النية لدى المجني عليه ومراعاته فى حق نفسه ما يجب على الشخص العادي مراعاته، فإذا كان المجني عليه قد تعمد تسوئ مركز المتهم فأهمل قاصداً، أو كان قد وقع منه خطأ جسيم سوأه نتيجة تلك الفعلة، فعندئذ لا تصح مساءلة المتهم عما وصلت إليه حال المجني عليه بسبب ذلك. وإذ كان المجني عليه فى الضرب أو نحوه مطالباً بتحمل المداواة المعتادة المعروفة فإنه إذا رفضها، فلا يسأل المتهم عما يترتب على ذلك لأن رفضه لا يكون له ما يسوغه - لكنه لا يصح أن يلزم بعملية جراحية يكون من شأنها أن تعرض حياته للخطر أو أن تحدث له آلاماً مبرحة. وإذا رفض ذلك فإن رفضه لا يكون ملحوظاً فيه عنده أمر المتهم وفي هذه الحالة يجب أن يتحمل المتهم النتيجة باعتبار أنه كان عليه وقت ارتكاب فعلته أن يتوقعها بما يلابسها من ظروف.

(الطعن رقم 1642 لسنة 45 جلسة 1976/02/09 س 27 ص 191ق 39)

شرح خبراء القانون

الضرب أو الجرح المفضي إلى عاهة:

عاقبت المادة 240 عقوبات كل من أحدث بغيره جرحاً أو ضرباً نشأ عنه قطع أو انفصال عضو أو فقد منفعته أو نشأ عن كف البصر أو فقد إحدى العينين أو نشأت عنه أية عاهة مستديمة يستحيل برؤها.

وعلى ذلك، فالعاهة المستديمة هي مناط التشديد الذي يتوقف عليه رفع الجريمة إلي مصاف الجنايات وفيما عدا ذلك يرجع إلى الأحكام العامة السالف بيانها.

العاهة المستديمة :

لم يعرف القانون العاهة المستديمة واقتصر على بيان بعض أمثلة لها وقد عرفتها محكمة النقض أنها فقد أحد أعضاء الجسم أو أحد أجزائه أو فقد منفعته أو تقليلها منه مستديماً، ومن استقراء هذه الأمثلة نجد أن العاهة يتحقق وجودها بفقد أحد الأعضاء أو أحد أجزائه، وبكل ما من شأنه نقص قوة أحد الأعضاء أو أحد الأجزاء أو تقلیل مقاومته الطبيعية. ولم يحدد القانون نسبة معينة للنقص الذي يكفي وقوعه لتكوينها، بل ترك الأمر في ذلك لتقدير محكمة الموضوع.

ويتعين أن تكون عاهة مستديمة، وذلك بانعدام الأمل في شفائها، أما عبارة «يستحيل برؤها» التي نصت عليها المادة 240 عقوبات بعد عبارة «عاهة مستديمة» فهي - كما قالت محكمة النقض - ليست إلا فضلة و تكريراً للمعنى، لأن استدامة العاهة يلزم عنها حتماً استحالة برئها، ولا يجدي الإدعاء أنه وقت الحكم لم تكن حالة المجني عليه في الضرب المفضي إلى عاهة مستديمة قد أصبحت نهائية - مادام ما انتهى إليه الحكم قد أثبت نقلاً عن التقرير الفني أن الإصابة خلفت عاهة وتدخل العلم للتخفيف من آثار العاهة ليس من شأنه أن ينفي وجودها كلياً.

ومن أمثلة العامة المستديمة : فقد الإبصار و استئصال العين، وفقد جزء من فائدة الذراع، وفقد سلامية من أحد أصابع اليد، وعدم إمكان ثني أصبع اليد، وفقد جزء من عظام الرأس على أثر عملية تربينة إذ يجعل المصاب أقل مقاومة للإصابات الخارجية والتغييرات الجوية ويعرضه لإصابات المخ كالصرع والجنون وخراجات المخ ويقلل من كفاءته للعمل ، واستئصال طحال المجني عليه، أو إحدی کلیتيه، وفقد قواه العقلية.

ويعد عاهة مستديمة كل ما من شأنه أن يعطل أحد الأجهزة العضوية في الإنسان، كفقد المرأة قدرتها على الحمل، أو فقد الرجل قدرته الجنسية، وكذا كل ما من شأنه أن يعطل على نحو دائم قدرته العقلية كالجنون أو العته.

ويلاحظ أن المشرع استعمل تعبير «عاهة مستديمة» بعد أن حدد صوراً يفقد فيها الشخص فائدة أحد أعضائه فلا يؤثر في وقوع الجريمة أن تكون هذه الفائدة ضعيفة قبل الجريمة، ما دامت الجريمة قد أدت إلى فقدها تماماً .

وقد حكم أنه لا يعد من قبيل العاهة فقد جزء من صيوان الأذن مادام ذلك لم يؤثر على حاسة السمع، وكذا كسر الأسنان لأن ذلك لا يقلل من منفعة الفم على نحو دائم لأنه في الإمكان استبدال أسنان صناعية بما تؤدي وظيفتها.

القصد الجنائي

هذه الجريمة عمدية، ويكفي أن يتوافر القصد بالنسبة إلى الضرب أو الجرح أو إعطاء المواد الضارة أما العاهة فيسأل عنها الجاني بوصفها نتيجة محتملة للفعل الذي ارتكبه عمداً، فيكفي للمساءلة عن هذه الجريمة توافر القصد المتعدي، أي الذي تعدت فيه النتيجة قصد الجاني على أن هذا لا يحول دون إمكان أن تتجه إرادة الجاني في بادئ الأمر إلى إحداث العاهة، ولا يؤدي ذلك إلى تغيير في وصف الجريمة ويترتب على ذلك تصور جريمة الشروع في إحداث الحاجة إذا اتجه قصد الجاني مباشرة إلى العاهة ولم تكتمل جريمته بسبب خارج عن إرادته .

العقوبة :

يعاقب على هذه الجريمة بالسجن من ثلاث إلى خمس سنوات وإذا كان الفعل صادرا عن سبق إصرار أو ترصد فيحكم بالسجن المشدد من ثلاث إلى عشر سنوات ويضاعف الحد الأقصى للعقوبات إذا ارتكبت الجريمة تنفيذاً لغرض إرهابي (المادتان 240 و 265 عقوبات). (الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الطبعة السادسة 2016 الكتاب الثاني ،  الصفحة: 165)

وواضح من النص السابق أن المشرع اعتد بجسامة النتيجة المترتبة على الضرب أو الجرح بالإضافة إلى النتيجة الأشد جسامة، والمتمثلة في العاهة المستديمة.

ولذلك فإن هذه الجريمة تندرج تحت طائفة الجرائم المشدد بالنتيجة ونظراً لأن هذه تتطلب لقيامها اتجاه إرادة الجاني إلى النتيجة المتمثلة في العاهة وإنما يتحمل بها الجاني استناداً إلى توافر رابطة السببية بين الضرب أو الجرح وبين العاهة فإنها تندرج تحت طائفة الجرائم المتعدية القصد.

وعلى ذلك فالأركان المكونة لجناية الضرب أو الجرح المفضي إلى عاهة تتمثل في الآتي:

أولاً : ارتكاب فعل ضرب أو جرح :

وهذا هو العنصر الأول من عناصر الركن المادي، فالسلوك الإجرامي يجب أن يتمثل في فعل يندرج تحت وصف الضرب أو الجرح أو إعطاء المواد الضارة.

 ثانياً : حدوث عاهة مستديمة :

يلزم أن يترتب على الجرح أو الضرب أو إعطاء المواد الضارة حدوث عاهة مستديمة، وقد اكتفى المشرع بتعداد بعض صور العاهة المستديمة وهي حدوث قطع أو انفصال عضو أو فقد منفعته وكف البصر أو فقد إحدى العينين. وهذا التعداد ورد على سبيل المثال، ولذلك فقد أردف المشرع بعبارة (أو نشأت عنه أي عاهة مستديمة يستحيل برؤها).

ومن ذلك كله يمكن تعريف العاهة المستديمة بأنها الفقد الكلي أو الجزئي المنفعة عضو من أعضاء الجسم فقداً مستديماً يستحيل شفاؤه.

ويستوي في ذلك أعضاء الجسم الخارجية أو الداخلية، وينصرف الفقد إلى حالات انفصال العضو كلياً أو جزئياً، كما ينصرف إلى فقد وظيفته أو قدرته على أداء الدور المنوط به بالنسبة لبقية أعضاء الجسم.

والفقد الجزئي يكفي فيه أية نسبة مئوية مهما قل قدرها. فلم يحدد القانون نسبة معينة للنقص الذي يكفي وقوعه لتكوين العاهة، بل ترك ذلك لتقدير قاضي الموضوع يبت فيه بما يتبينه من حالة المصاب وما يستخلصه من تقرير الطبيب ومتى أثبت الحكم أن منفعة أحد الأعضاء أو وظيفته فقدت ولو جزئياً بصفة مستديمة، فذلك كاف لسلامته ولذلك لا يؤثر في قيام العاهة ذاتها كونها لم يمكن تقديرها بنسبة مئوية.

فالعاهة في العينين تثبت بمجرد فقد إبصار العين المصابة مهما كان مقداره قبل أن يكف.

ويلزم التقدير فقط لبيان جسامة العاهة ومبلغ الضرر الذي لحق المجني عليه من جرائها، فإذا قرر الطبيب الشرعي أنه لم يمكنه تقدير العاهة بنسبة مئوية، لعدم معرفة قوة إبصار المجني عليه قبل الإصابة، فإن هذا لا يغض من إدانة المتهم في جناية إحداث العاهة إذا كان الحكم قد بين - بناءً على الكشف الطبي وسائر الأدلة المقدمة في الدعوى - أن عين المجني عليه قبل الواقعة كانت بلا شك تبصر وأنها بسبب الضرر الذي وقع من المتهم قد فقدت الإبصار فقداً تاماً.

والنقد المستديم لمنفعة العضو يتحقق باستحالة الشفاء، ويعتبر من قبيل استحالة الشفاء قيام مكنة الشفاء بإجراء عملية جراحية دقيقة فيها تعريض الحياة المجني عليه الخطر ورفض إجراءها.

أما إذا قبل المجني عليه إجراءها فإن العامة لا تكون مستديمة إلى أن يتم إجراء العملية وتبرأ بالفعل.

أما إذا شفي منها المريض فيحاسب المتهم على جنحة ضرب أو جرح وتطبيقاً لذلك قضى بأن القول بقيام العاهة مع احتمال شفاء المجني عليه بعملية جراحية دقيقة تجرى له لا يكون صحيحاً في القانون إلا إذا كانت هذه العملية قد عرضت على المجني عليه ورفضها بناءً على تقديره أن فيها تعريضاً لحياته للخطر.

وإذا أدانت المحكمة متهمة في تهمة إحداث عاهة بالمجني عليه مع قول الطبيب الشرعي أن هذه العاهة يمكن أن تتحسن أو تشفي بإجراء عملية جراحية، دون أن تتحدث في حكمها عن عدم رضاء المجني عليه بإجراء العملية فذلك يكون قصوراً في حكمها يعيبه بما يستوجب نقضه.

 أمثلة للعاهة المستديمة من قضاء النقض :

اعتبر النقض أنه لا تلازم بين إحساس العين بالضوء وبين قدرتها على تمييز المرئيات، فقد تحس العين بالضوء ولكنها لا تميز المرئيات فتفقد بذلك منفعتها، وأن انتزاع صيوان الأذن بأكمله عدا (الشحمية) التي لا تؤدي وظيفة ولا تعدو أن تكون حلية وترتب على ذلك ضعف السمع بنسبة 1 - 2 % يكون عاهة. ذلك أن العاهة هي فقد أحد أعضاء الجسم أو أحد أجزائه أو فقد منفعته أو تقليلها بصفة مستديمة ولا يجدي الطاعن دفاعه بإمكان الإستعاضة - عن الأذن الطبيعية بأخرى صناعية تؤدي وظيفتها تماماً.

ذلك أن تدخل العلم للتخفيف من آثار العاهة ليس من شأنه أن ينفي وجودها كلية أو يخلي بين المهتم وبين نتائج فعله.

كما قضى بأنه إذا كان الحكم قد أثبت بصورة مجردة أن فقد بعض صيوان الأذن تشويه لا يؤدي إلى فقد وظيفتها كلاً أو بعضاً وبالتالي لا يعد عاهة مستديمة، على خلاف ما أثبته الدليل الفني من واقع الأمر من أن هذا الفعل قد قلل من وظيفة الأذن في تجميع وتركيز التموجات الصوتية المنبعثة من مصادر صوتية في اتجاهات مختلفة وفي حماية الأذن الخارجية وطلبتها من الأتربة مما يقدر بحوالي 5% فإن الحكم يكون معيباً بما يوجب نقضه.

كما قضي بأن الفتق الجراحي يعتبر عاهة مستديمة، ذلك أن هذا الفتق في منطقة السرة يجعل أحشاء البطن أكثر تعرضا للصدمات البسيطة .. ومضاعفات الاختناق والاحتباس المعوي، وأنه حتى إذا أجريت له عملية جراحية فلا بد أن يتخلف لدية قبر من العاهة نتيجة ضعف البطن والجلد الذي من وظيفته حماية الأحشاء.

كما قضي بأن استئصال طحال المجني عليه بعد تمزقه من ضربة أحدثها المتهم يكون جناية عاهة مستديمة ولو كان الطحال مصاباً بمرض.

وقضى أيضا بأنه إذا كان الحكم قد استخلص دوام العاهة من عدم توقع ملء الفقد العظمى بنسيج عظمى وإن كان من المحتمل أن يملأ بنسيج ليفي فذلك استخلاص سائغ ولا يصح أن يعاب به الحكم.

ثالثاً : وجود رابط السببية بين الضرب والجرح وبين العاهة المستديمة :

يلزم أن تكون هناك علاقة سبية بين فعل الضرب أو الجرح وبين العامة المستديمة التي حدثت بالمجنى عليه. وتتحقق تلك الرابطة متى كان سلوك الضرب أو الجرح من شأنه، في الظروف التي بوشر فيها، أن يؤدي إلى حدوث تلك العامة وفقاً لمجريات الأمور.

ولذلك يتعين على المحكمة أن تبين في حكمها أن حدوث العاهة هي نتيجة محتملة ومتوقعة من سلوك الضرب أو الجرح وفقاً للمجرى العادي للأمور.

فإذا كانت العاهة هي سبب تدخل عوامل شاذة وغير مألوفة ساهمت مع سلوك المتهم فإن رابطة السببية تنتفي، كما لو كانت نتيجة تعمد المجني عليه تسوى إصابته للحصول على مبلغ أكبر من التعويض.

وتطبيقاً لذلك قضت محكمة النقض بأنه إذا كان الحكم قد ذكر أن الطبيب قرر أن ثقب طبلة الأذن المكون للعاهة يجوز حدوثه من إصابة أخرى أو نفخ بشدة ثم ذكر أن الطبيب الشرعي قرر أن العاهة ناتجة بطريقة غير مباشرة من الإصابة موضوع القضية وانتهى الحكم إلى إدانة المتهم على أساس أنه هو الذي أحدث الضربة التي نشأت عنها العاهة دون أن يتحدث عن حقيقة علاقة العاهة بالضربة التي أحدثها المتهم ومبلغ هذه العلاقة بما  يرفع الاحتمال الذي أشار إليه الطبيب فهذا الحكم يكون قاصر البيان.

رابعاً : توافر العمد بالنسبة لفعل الضرب أو الجرح أو إعطاء المواد الضارة :

يلزم لقيام جناية إحداث العاهة المستديمة أن يكون الجاني تعمد الضرب أو الجرح المفضي إلى عاهة فهي جريمة عمدية متعدية القصد في معظم فروضها.

فيكفي فيها اتجاه إرادة الجاني إلى إحداث الضرب أو الجرح أو إعطاء المواد الضارة ولا يلزم اتجاه إرادته إلى إحداث العاهة ولذلك فإن المشرع يحمل الجاني بالنتيجة الأشد جسامة والمتمثلة في العاهة اكتفاء بتوافر رابطة السببية بين الضرب أو الجرح العمدي وبين العاهة المستديمة.

وكل ذلك لا يمنع بطبيعة الحال توافر الفروض التي تتجه فيها إرادة الجاني إلى إحداث عاهة مستديمة بالمجني عليه وقد ساوى المشرع بصدد توافر أركان الجناية، بين هذه الفروض جميعها فسواء اتجهت الإدارة إلى إحداث العاهة أو لم تتجه فإن أركان الجريمة تتوافر متى كان الضرب أو الجرح المحدث العاهة قد ارتكب عمداً وكل ما للتفرقة السابقة من أثر ينصرف إلى سلطة القاضي التقديرية في اختيار العقوبة المناسبة بين الحدين الأقصى والأدنى.

وترتيباً على ما سبق، فلا مجال للحديث عن جناية العاهة المستديمة إذا كان الجاني لم يتعمد الضرب أو الجرح المحدث العاهة وإنما وقع منه خطأ.

ففي هذه الحالة نكون بصدد جنحة إصابة خطأ مهما ترتب على الإصابة من آثار فإذا كان الجاني حين باشر سلوكه لم تتجه إرادته إلى إحداث جرح بجسم المجني عليه إلا أنه لخطأ في التنفيذ أحدث به إصابة أدت إلى عاهة مستديمة فلا مجال للحديث عن جناية الجرح المفضي إلى عاهة .  

وتطبيقا لذلك قضى بأنه متى كان الثابت من الوقائع أن الجاني لم يتعمد الجرح وأنه أتي فعلاً لا يترتب عليه عادة حصول الجرح ثم نشأ عن هذا الفعل جرح بسبب سوء العلاج أو بسبب آخر فلا يمكن اعتباره محدثاً لهذا الجرح عن عمد وإرادة، وكل ما تصح نسبته إليه في هذه الحالة هو أنه تسبب بخطئه في إحداث هذا الجرح، ومن ثم فإذا كان الفعل المادي الصادر من المتهم وهو تمرير مرود بعين المجني عليها لم يكن مقصوداً به إحداث جرح وأن استعمال المرود على هذا النحو ليس من طبيعته إحداث الجرح وإنما نشأ الجرح عن خطئة فلا يمكن القول بعد ذلك أن القصد الجنائي في جريمة الجرح المحدث للعاهة متوفر لدى المتهم.

الشروع وجناية الضرب أو الجرح المفضي إلى عاهة مستديمة :

أن جناية الضرب أو الجرح المفضي إلى عاهة مستديمة هي من الجرائم المتعدية القصد والتي يكتفي فيها المشرع بتوافر القصد الجنائي بالنسبة للنتيجة الأقل جسامة، وهي المساس بسلامة الجسم، ليسأل الجاني بعد ذلك عن النتيجة الأشد جسامة وهي العاهة اكتفاء بتوافر علاقة السببية، ومؤدي ذلك أن الشروع غير منصور باعتبار أن الجريمة لا تتطلب اتجاه إرادة الجاني إلى إحداث العاهة وإنما يسأل الجاني عن العاهة متى تحققت كأثر لسلوك الضرب أو الجرح.

ومن ذلك فمن المتصور أن تكون جناية العاهة المستديمة عمدية سواء بالنسبة للنتيجة الأقل جسامة أو بالنسبة للأشد جسامة.

فقد يرتكب الجاني فعل الضرب أو الجرح بقصد إحداث عاهة مستديمة بالمجني عليه.

حقا أن المشروع ساوى بين هذا الفرض وبين الفروض الأخرى التي لا تتجه فيها إرادة الجاني إلى إحداث العاهة، إلا أن أهمية التمييز بين هذه الفروض جميعا تبدو بالنسبة للعقاب على الشروع.

فإذا ثبت من واقعة الحال أن الجاني قد بدأ في تنفيذ الضرب أو الجرح بقصد إحداث عاهة مستديمة بالمجني عليه وأوقف الفعل أو خاب أثره بسبب لا دخل لإرادته فيه فلا يوجد ما يمنع قانوناً من عقابه على الشروع في إحداث عاهة مستديمة.

فمن يشرع في وضع محلول بعين المجني عليه من شأنه إفقاد العين إيصالها يعاقب على الشروع في جناية عاهة مستديمة، متى أوقف الفعل أو خاب أثره بسبب لا دخل لإرادته فيه.

حكم الخطأ في شخص المجني عليه :

متى توافر القصد الجنائي بالنسبة لفعل الضرب أو الجرح فإن الخطأ في شخص المجني عليه لا يؤثر في توافره، فإذا تحقق الضرب أو الجرح في : شخص آخر خلاف الذي كان يقصده الجاني، فإن المسئولية الجنائية عن الضرب أو الجرح المتحقق تكون متوافرة على سبيل العمد.

وإذا تخلف عن الضرب أو الجرح عاهة مستديمة فإن أركان الجناية تتوافر في حق الجاني.

وتطبيقا لذلك قضت محكمة النقض بأنه متى كان الثابت أن المتهم تغمد إصابة شخص بالعصا، فأصابت العصا عين آخر وأفقدتها الإبصار فإن ركن العمد يكون متوافرة في هذه الصورة، ذلك أن الخطأ في شخص المجني عليه لا يغير من قصد المتهم، ولا ماهية الفعل الجنائي الذي ارتكبه تحقيقاً لهذا القصد، كما قضت بأن تأديب مدرسة بالتعليم الابتدائي لتلميذها بالضرب محظور قانون ومن ثم فإن تطاير جزء من آلة الاعتداء أثناء الضرب وإصابته عين المجني عليه بعاهة يستوجب مساءلتها بالمادة 240 عقوبات.

إذا تعمد الفاعلون في الضرب أو الجرح وتخلفت العاهة المستديمة عن إصابة أحدهم دون الباقين فيفترض فرضان :

 الأول: حيث تتوافر في حق الفاعلين جميعاً أركان المساهمة الأصلية وفي هذه الحالة يسأل كل منهما عن العاهة المستديمة ولو كانت قد تخلفت عن فعل أحدهم فقط .

وتطبيقاً لذلك قضى بأنه متى كان الثابت حصول اتفاق بين المتهمين على ضرب المجني عليه فإن مقتضى ذلك مساءلة كل منهما باعتباره فاعلاً أصلياً عن العامة التي تخلفت للمجني عليه بوصف كونها نتيجة للضرب الذي اتفقا عليه وأحداثه بالمجني عليه من غير حاجة إلى تقصي من منهما الذي أحدث إصابة العاهة كما قضى بأنه متى كانت المحكمة قد أثبتت في حكمها أن المتهمين تربصوا للمجني عليه في الطريق وانتظروا عودته حتى إذا ما اقترب منهم انهالوا عليه ضرباً فأحدثوا إصابات تخلف عنها عاهة مستديمة فإن ما تحدثت عنه المحكمة في شأن ترصدهم له يفيد حصول الاتفاق بينهم على ضربة ويكون كل منهم مسؤولاً عن العاهة بوصف كونها نتيجة للضرب الذي اتفقوا عليه وأحدثوه بالمجني عليه سواء في ذلك ما وقع منه أو من زملاءه.

أما الفرض الثاني : وهو حيث لا تتوافر عناصر المساهمة الجنائية في حق الفاعلين وهنا يسأل كل منهم عما أحدثه بالمجني عليه من إصابات فإذا تخلفت العاهة عن إصابة أحدهم دون الباقين فإنه وحده الذي يسأل عن جناية الضرب أو الجرح المفضي إلى عاهة مستديمة ويسأل غيره من الفاعلين عن جنحة ضرب أو جرح فقط .

ولا تعارض بين توافر سبق الإصرار لدى كل من الفاعلين المتعددين وبين استقلال كل منهم في المسؤولية عن الأفعال التي حققها ذلك أن سبق الإصرار المتوافر لدى الجميع والذي يؤدي إلى مساءلة كل منهم عما وقع من غيره هو الذي يكون مبنياً على ثبوت اتفاق بين الفاعلين على الضرب والذي يجعل كلاً منهم مسئولاً عن نتيجة الضرب الذي حصل الإتفاق عليه، سواء ما وقع منه أو من زملائه.

ومن ناحية أخرى لا تعارض بين انتفاء سبق الإصرار وبين ثبوت اتفاق المتهمين على الاعتداء على المجني عليه.

فإذا ما أخذت المحكمة المتهمين عن النتيجة التي لحقت بالمجني عليه نتيجة ضربة واحدة بناءً على ما اقتنعت به من اتفاقهم على الاعتداء عليه فلا تدريب عليه في ذلك.

أما حكم الشريك في الضرب أو الجرح المؤدي إلى عاهة مستديمة فتحكمه القواعد العامة في المساهمة الجنائية التبعية.

ومؤدي تلك القواعد هو مسؤولية الشريك عن العاهة المتخلفة عن الضرب أو الجرح بوصفها نتيجة محتملة ومتوقعة لأفعال الإشتراك.

وتطبيقا لذلك قضت محكمة النقض بأنه متى أثبت الحكم على المتهمين اشتراكهما مع آخر بالاتفاق والمساعدة في جناية العامة المتخلفة برأس المجني عليه وأدائهما على هذا الأساس، فإنهما يكونان مسئولين عنها حتى ولو لم يقع منهما أي ضرب على المجني عليه، بل هما يكونان مسئولين عنها كذلك ولو كانا لم يقصداها عند وقوع فعل الإشتراك منهما.

العقوبة :

العقوبة المقررة لجريمة الضرب المفضي إلى عاهة هي السجن من ثلاث إلى خمس سنوات.

وإذا توافر ظرف سبق الإصرار أو ظرف الترصد بالنسبة للضرب أو الجرح المؤدي إلى العاهة تكون العقوبة هي السجن المشدد من ثلاث سنوات إلى عشر أما إذا ارتكبت هذه الجريمة تنفيذاً لغرض إرهابي يضاعف الحد الأقصى المقرر للعقوبات السابقة ففي حالة عدم توافر سبق الإصرار يصير الحد الأقصى للسجن عشر سنوات أما إذا توافر سبق الإصرار أو الترصد يصل الحد الأقصى لعقوبة السجن المشدد إلى عشرين سنة وتكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن خمس سنين إذا وقع الفعل المفضي إلى عاهة من طبيب بقصد نقل عضو أو جزء من إنسان حي إلى آخر، وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا نشأ عن الفعل وفاة المجني عليه إلا أنه يشترط لتوقيع العقوبات المذكورة في الفقرة الأخيرة أن يقع الفعل المشار إليه خلسة. (قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ مأمون محمد سلامة، الطبعة الأولى 2017 الجزء الثاني،  الصفحة:  138 )

الجرائم متعدية القصد :

وهذا النوع من الجرائم إعد به المشرع فقط في نطاق جرائم الضرب والجرح دون غيرها فقد نصت المادة 236 عقوبات علي  أن «كل من جرح أو ضرب  أحدا عمدآ أو أعطاه مواد ضارة ولم يقصد من ذلك  قتلاً ولكنه أفضى إلى الموت يعاقب» كما تنص المادة 240  عقوبات على أن «كل من أحدث بغيره جرحاً أو ضرباً نشأ عنه قطع أو انفصال عضو أو فقد منفعته أو نشأ عنه كف البصر أو فقدان إحدى العينين أو نشأت عنه عاهة مستديمة يستحيل برؤها يعاقب....» فالضرب والجرح المفضي إلى موت أو عاهة هو صورة الجريمة متعدية القصد التي اعتد بها المشرع المصري في قانون العقوبات.

ومن النصين السابقين يستفاد أن الجريمة متعدية القصد تفترض تحقق أكثر من نتيجة للسلوك الإجرامي، الأولى هي تلك التي اتجهت إليها إرادة - الجاني، أما الثانية فلم تتجه إليها إرادته وإنما يحمل بها اكتفاء برابطة السببية المادية وبين سلوكه .

وقد اختلف الفقه في أساس المسئولية عن النتيجة متعدية القصد والتي لم تتجه إليها الإرادة.

فالفقه السائد في مصر أن المسئولية تستند إلى القصد الاحتمالي باعتبار أن الشخص الذي يرتكب ضربة أو جرحا يجب عليه توقع جميع النتائج المحتملة بسبب المساس بسلامة الجسم. وهذا الرأي محل نظر فالمسئولية عن النتيجة المتجاوزة القصد يستحيل تأسيسها على القصد الاحتمالي الذي يتطلب التوقع الفعلي للنتيجة، بينما هنا لا يشترط توقع الجاني للعاهة أو الوفاة كما أن الجاني يسأل عن النتيجة المتجاوزة حتى لو توقعها بغض النظر عن قبوله أو عدم قبوله لها كذلك يلاحظ أن القصد الاحتمالي هو شكل من أشكال القصد الجنائي وبالتالي فالمسئولية في نطاقه هي عمدية، على حين أن المسئولية عن النتيجة المتجاوزة ليست عمدية وإلا لقرر المشرع للضرب المفضي إلى موت ذات العقوبة المعتمدة للقتل العمد، وهو ما لم ينص عليه وإنما نص على عقوبة مخففة في تلك الحالة.

بينما اتجه فريق آخر إلى اعتبار المسئولية عن النتيجة المتجاوزة مؤسسة على صورة خاصة من صور الموقف النفسي هي مختلطة بين العمد والخطأ غير العمدي .

وهذا الرأي بدوره محل جدل فالجريمة متعدية القصد تستلزم العمد بالنسبة للنتيجة الأولى ولا تستلزم توافر الخطأ غير العمدي بالنسبة للثانية متجاوزة القصد فالجاني يسأل عن النتيجة الثانية المتمثلة في العاهة أو الوفاة متى أثبت عدم وجود إهمال أو عدم احتياط أو أية صورة أخرى للخطأ وإنما تنتفي مسئوليته عن تلك النتيجة فقط إذا أثبت انقطاع رابطة السببية بين سلوكه وبينها ولعل الذي حدا بأنصار هذا الرأي إلى اعتناقه هو تفريد جوهر الخطأ في مكنة التوقع وقد رأينا أن مكنة التوقع ليست هي جوهر الخطأ وإنما دليل لإثباته ولذلك فليس مقبولاً اعتبار النتيجة المتعدية للقصد غير عمدية حتى في صورة مخالفة القوانين واللوائح، لأن تلك المخالفة لا تشكل خطأ غير عمدي إلا بالنسبة للقوانين واللوائح التي تفرض احتياطات معينة منعاً لتحقق النتيجة الضارة.

ولذلك كله نرى أن أساس المسئولية في الجرائم متعدية القصد هو الارتباط السيبي بين السلوك والنتيجة وتنتفي المسئولية بانتفاء رابطة السببية متى كانت النتيجة لا يمكن توقعها وفقاً للمجرى العادي للأمور . (قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ مأمون محمد سلامة، الطبعة الأولى 2017 الجزء الثالث،  الصفحة :  399)

جرائم الجرح والضرب وإعطاء المواد الضارة في صورها المشددة :

تقسيم الظروف المشددة في جرائم الجرح والضرب وإعطاء المواد الضارة ؛ نص الشارع على ظروف عديدة تشدد العقاب في جرائم الاعتداء على سلامة الجسم وهذه الظروف على تعددها ترد إلى فئتين : فئة يقوم التشديد فيها  على درجة جسامة الأذى الذي نال جسم المجني عليه ، ويفترض أن الأذى الذي ترتب على الفعل لم يقف عند الأذى البسيط ، بل جاوز ذلك إلى المساس الجسيم بسلامة الجسم ، وهذه الفئة هي أهم الفئتين والفئة الثانية لا يقوم التشديد فيها على درجة جسامة الأذى ، وإنما يتوقف على اعتبارات أخرى .

الظروف المشددة التى تتوقف على درجة جسامة الأذى :

بيان هذه الظروف: حصر الشارع هذه الظروف في ثلاثة هي : حدوث مرض أو عجز عن الأشغال الشخصية مدة تزيد على عشرين يوماً (المادة 241 من قانون العقوبات)، وحدوث العاهة المستديمة (المادة 240 من قانون العقوبات) ، وحدوث الموت (المادة 236 من قانون العقوبات) .

والعلة العامة للتشديد عند توافر أحد الظروف السابقة هي أن جسامة الأذى الذي أصاب المجني عليه تعنی جسامة الضرر الذي أصاب المجتمع ممثلاً في أحد أفراده ومن ناحية ثانية ، فإن النتيجة الجسيمة قرينة على خطورة الفعل ، إذ الوضع الطبيعي أن النتيجة الخطيرة لا يحدثها إلا فعل خطير ، وخطورة الفعل بدورها قرينة على خطورة مرتكبه ، ويعني ذلك ازدياد خطورة شخصية الجاني على المجتمع .

الأحكام المشتركة في هذه الظروف المشددة : هذه الأحكام هی : اشتراط توافر أركان الجريمة في صورتها البسيطة ، واشتراط تحقق النتيجة الجسيمة ، واشتراط توافر علاقة السببية بين الفعل وبين الأذى الجسيم ، واشتراط استطاعة المتهم توقع هذا الأذى الجسيم .

توافر أركان الجريمة في صورتها البسيطة : لا محل للبحث في توافر الظرف المشدد إلا إذا ثبت ابتداء توافر الأركان التي يقوم عليها الاعتداء على سلامة الجسم في صورته البسيطة ، وهي كما قدمنا : محل الاعتداء والركن المادي والقصد الجنائي ، فالظرف المشدد يفترض جريمة بسيطة مكتملة الأركان يضاف إليها ويعني ذلك أنه إذا ثبت انتفاء أحد هذه الأركان ، فلا محل بداهة للتساؤل عن الظرف المشدد .

تحقق الأذى الجسيم :

لا يتوافر الظرف المشدد إلا إذا تحققت بالفعل النتيجة الجسيمة التي يفترضها ، ومن ثم فلا يكفي احتمال تحققها مهما كان هذا الاحتمال كبيراً وتطبيقاً لذلك فإذا كان فعل الجاني بالغ الجسامة شديد الخطورة وكان من شأنه حسب المجرى العادي للأمور أن يفضي إلى العاهة أو الموت ، ولكن هذه النتيجة لم تحدث لعوامل استثنائية ، فإن الظرف المشدد لا يتوافر ، وإنما يسأل الجاني عن النتيجة التي حدثت فعلاً ويرتبط بذلك أن العبرة ليست بما يقرره الطبيب و يستظهره من احتمالات ، ولكن العبرة بما يتحقق فعلاً .

ويقتضى اشتراط تحقق الأذى للمساءلة عنه وجوب أن تتريث سلطات الإتهام في إقامة الدعوى الجنائية حتى تستقر حالة المجني عليه وتتبلور في صورة نهائية آثار الفعل ، فيتحدد بذلك الوصف الذي يخلع على الجريمة وغني عن البيان أنه إذا صدر حكم بات في شأن الجريمة على أساس وصف معين ثم ازدادت جسامة الأذى على نحو يقتضي تعديل الوصف ، فإن قوة الشيء المحكوم فيه تحول دون إقامة الدعوى من أجل ذات الوقائع : فإذا أدين المتهم بحكم بات من أجل الواقعة باعتبارها ضرباً مفضية إلى عاهة ثم مات المجني عليه وثبت أن علاقة السببية متوافرة بين الفعل والموت ، فلا يجوز أن تقام عليه الدعوى من أجل الواقعة باعتبارها ضرباً مفضياً إلى الموت .

علاقة السببية بين فعل الاعتداء على سلامة الجسم والأذى البدني الجسدي :

لا يسأل المتهم عن الأذى الجسيم إلا إذا ثبت توافر علاقة السببية بين فعله وهذا الأذى ، وتعد علاقة السببية عنصرا في الركن المادي لجريمة الاعتداء على سلامة الجسم ذات النتيجة الجسيمة ، فإذا كانت هذه العلاقة منتفية فلا يسأل الجاني عن النتيجة التي لم يكن فعله سببها ، وإنما تقتصر مسئوليته على الأذى الذي ثبت توافر علاقة السببية بينه وبين الفعل : فإذا ترتب على فعل الجرح أو الضرب إصابة المجنى عليه بإيذاء بدني يسير ، ولكن ازدادت خطورة هذه النتيجة بتأثير عوامل مستقلة عن فعل الجاني حتى أفضت إلى العاهة المستديمة أو الموت فلا يسأل الجاني عن نتيجة لا تربطها بفعله علاقة السببية ، ولكن تقتصر مسئوليته على الإيذاء اليسير الذي ثبت توافر علاقة السببية بينه وبين فعله استطاعة توقع الأذى الجسدي، استطاعة المتهم توقع درجة جسامة الأذى ووجوب ذلك عليه عنصر في معيار علاقة السببية كما حددته محكمة النقض ، وثبوتهما لا غنى عنه للمساءلة عن ذلك الأذى ، أما إذا تخلفا فلا يسأل المتهم عن الظرف المشدد ، إذ تنتفي علاقة السببية، ولكن الرأي السائد في الفقه يقيم على أساس منهما القصد الاحتمالي ويعتبرونه الركن المعنوي للمسئولية عن الأذى الجسيم  .

حدوث العاهة المستديمة

تمهيد : نصت على هذا الظرف المشدد المادة 240 من قانون العقوبات في قولها «كل من أحدث بغيره جرحاً أو ضرباً نشأ عنه قطع أو انفصال عضو أو فقد منفعته أو نشأ عنه كف البصر أو فقد إحدى العينين أو نشأت عنه أي عاهة مستديمة يستحيل برؤها يعاقب بالسجن من ثلاث سنين إلى خمس سنين أما إذا كان الضرب أو الجرح صادراً عن سبق إصرار أو ترصد أو تربص فيحكم بالسجن المشدد من ثلاث سنين إلى عشر سنين»، ويأخذ حكم الضرب أو الجرح المفضي إلى العاهة المستديمة إعطاء المواد الضارة الذي يفضي إلى هذه النتيجة (المادة 265 من قانون العقوبات)، ويتطلب هذا الظرف أن تزداد جسامة الأذى إلى حد اتخاذه صورة العاهة المستديمة ؛ ويتعين أن تتوافر ابتداء الأركان العامة للاعتداء على سلامة الجسم .

دلالة العاهة المستديمة :

لم يرد في القانون تعريف للعاهة المستديمة ، فقد اقتصر على ذكر أمثلة لها : فبعد أن ذكر أهم حالاتها أردف ذلك بقوله «أو أي عاهة مستديمة يستحيل برؤها»، وترد الفكرة العامة في العاهة إلى فقد الجسم القدرة على أداء إحدى وظائفه الطبيعية فقدا كلياً أو جزئياً لا يتوقع شفاؤه، فقد أسلفنا أن الجسم يباشر مجموعة من وظائف الحياة على النحو الذي تحدده القوانين الطبيعية، فإذا أصاب إحدى هذه الوظائف العجز أو الخلل الدائم فقد تحققت العاهة، وسواء أن تأخذ العاهة صورة فقد الجسم عضواً أو فقده منفعة هذا العضو أو فقده حاسة أو فقده إمكانية ؛ وسواء في الحالات السابقة جميعاً أن يكون الفقد كلياً أو جزئياً .

وأهم عنصر في فكرة العاهة المستديمة هو عدم قابليتها للشفاء أو استحالة برئها حسب تعبير القانون ويقدر هذا العنصر بالنظر إلى القواعد العلمية المقررة وقت النظر في الدعوى دون تلك التي كانت سائدة وقت ارتكاب الفعل، فإذا كانت العاهة غير قابلة للشفاء وقت الفعل ، ثم صارت - لتقدم العلم - تقبله وقت النظر في الدعوى لم تكن بذلك عاهة مستديمة، ولكن إمكان تدخل العلم للتخفيف من آثار العاهة أو لتمكين الجسم من الاستعاضة عن العضو الذي فقده أو تناقصت وظيفته ببديل صناعی لا ينفي العاهة ؛ وتطبيقاً لذلك فقد قضت محكمة النقض بأنه لا ينفي العاهة  إمكان الاستعاضة عن الأذن الطبيعية بأخرى صناعية تؤدي وظيفتها تماماً ، ذلك لأن تدخل العلم للتخفيف من آثار العاهة ليس من شأنه أن ينفي وجودها كلياً، وأخذاً بذات الفكرة فإن إنقاص قوة الإبصار يعتبر عاهة مستديمة وإن كان بالإمكان تعويضه بنظارة طبية، وفقد الذراع عاهة مستديمة و إن كان بالإمكان الاستعاضة عنه بذراع صناعية  .

وتقرير العلم إمكان شفاء العاهة بجراحة دقيقة تجري للمجني عليه ينفي عنها أنها مستديمة، ولا صعوبة في الأمر إذا أجريت وترتب عليها برؤه، ولكن إذا رفض المجني عليه تحملها ، فهو لا يقر على رفضه لها إلا إذا كانت تعرض حياته للخطر، إذ من حقه أن يرجح حياته على احتمال قد لا يتحقق في التخلص من العاهة، وتعتبر العاهة مستديمة إذا أجريت العملية ففشلت .

أهم حالات العامة، أبرز صور العاهة أن ينفصل من الجسم عضو بأكمله ، كاليد أو الذراع أو الساق، ويراد بالعضو كل جزء من الجسم له كيان ووظيفة محددة ، ويستوي كونه كبير الحجم أو صغيرة ، هام الوظيفة أو ضئيلها، فالأصبع عضو وبتره بفعل الجاني إحداث عاهة مستديمة ، ويستوي كذلك كون العضو خارجياً كما في الأمثلة السابقة أو داخلياً كالطحال  أو الكلية  إذا صار استئصاله ضرورياً لإنقاذ حياة المجني عليه أو وقايته من ضرر صحي جسيم .

وليس بشرط أن يفقد الجسم عضوا بأكمله ، بل يكفي فقده جزءاً منه ، ذلك أن فقد جزء من العضو يعوق العضو في مجموعة عن أداء وظيفته في الصورة المعتادة وتطبيقاً لذلك يعد عاهة مستديمة فقد جزء من عظم قبو الجمجمة ، وبتر أحد الأصابع ، وكسر عظم الفخذ ، وقطع صيوان الأذن بأكمله خاصة وأنه يترتب على ذلك ضعف في السمع لفقد منفعة الصيوان في تجميع التموجات الصوتية المنبعثة من مصادر صوتية في اتجاهات مختلفة، ولكن يتعين أن يكون الجزء المفقود على قدر من الأهمية بحيث يترتب على فقده نقص في منفعة العضو وكفاءته لأداء وظيفته ، أما إذا كان قليل الأهمية بحيث لم يترتب على فقده شيء من ذلك ، كحلمة الأذن أو جزء من صيوانها فلا تتحقق العاهة بذلك.

ولا تتطلب فكرة العاهة المستديمة أن ينفصل عن الجسم العضو أو الجزء منه ، فإذا ظل على اتصاله به ولكنه عجز عن أداء وظيفته تحققت العاهة بذلك ، إذ أهمية العضو في كونه يؤدي وظيفة معينة ، وتطبيقا بذلك كانت العاهة متحققة بالعجز الدائم عن تحريك الذراع ولو بقي على اتصاله بالجسم، وتتحقق العاهة كذلك بعجز جزء من العضو عن أداء وظيفته ، ولو ظل على اتصاله بسائر أجزاء هذا العضو : فإعاقة ثنى مفصل سلامية أحد الأصابع يعتبر عاهة ، إذا أنه يقلل بصفة دائمة من منفعة الأصابع واليد بل ليس بشرط أن يفقد العضو أو الجزء منه منفعته كلياً ، وإنما يكفي أن يفقدها جزئياً طالما أن هذا الفقد الجزئي دائم، بل أن ضآلة نسبة العاهة المستديمة لا ينفي عنها هذه الصفة ، أي أنه لا عبرة بكون النقض الوارد على منفعة العضو ضئيلاً ويعني ذلك أن مدى جسامة العاهة ليس ركنا في الجريمة وتطبيقاً لذلك فإن العاهة تعتبر متحققة بالنقص في قوة إبصار إحدى العينين ، ولا أهمية لعدم استطاعته تحديد قوة إبصار هذه العين قبل إصابتها ، وعدم استطاعة تحديد نسبة النقص الطارئ عليها ، فهذه النسبة الا أهمية لها ، إذ يكفي أن ثمة نقصاً جزئياً مستديماً أياً كانت نسبته قد طرأ عليها، وتعتبر العاهة المستديمة متحققة بالإعاقة الطفيفة الدائمة في نهاية حركة بطح الساعد مما يقلل جزئياً من قدرة المجنى عليه على العمل .

وتتحقق العاهة المستديمة بفقد حاسة أياً كانت فقداً كلياً أو جزئياً : وبالإضافة إلى تحققها على النحو المتقدم بفقد بصر إحدى العينين أو ضعفه  ، فهي تتحقق بفقد السمع  أو الشم أو النطق فقداً كلياً أو جزئياً، وتتحقق العاهة بفقد الجسم قوة من القوى الطبيعية كالقدرة الجنسية أو القدرة على الإنجاب ، وتتحقق العاهة كذلك بإصابة المجني عليه بمرض شامل لا يؤمل شفاؤه ويترتب عليه إعاقته عن استعمال أعضاء جسمه كلها أو بعضها على النحو الطبيعي ، ومثال ذلك إصابته بشلل أو جنون ، ولو أصاب الشلل عذواً بالذات أو كان الجنون جزئياً .

سواء أن تكون العاهة المستديمة نتيجة مباشرة للفعل أو نتيجة جراحة صارت ضرورية بعد ارتكاب الفعل : إلى جانب الصورة الواضحة التي تتحقق فيها العاهة المستديمة كأثر مباشر للفعل كالوضع في الأمثلة السابقة ، فإن العاهة تتحقق كذلك إذا كان فقد العضو أو فقد منفعته نتيجة لعملية جراحية صارت ضرورية لإنقاذ حياة المجني عليه أو وقايته من ضرر صحي جسیم ، فتكون العاهة بذلك نتيجة غير مباشرة للاعتداء على سلامة الجسم، وقد سبق أن أشرنا إلى تحقق العاهة باستئصال الطحال أو الكلية إذا صار ضرورياً لإنقاذ حياة المجنى عليه أو وقايته من ضرر صحي جسيم، على أن أهم تطبيق لهذه الحالات محله أن تقتضي الإصابات المصحوبة بكسر أو انخساف في عظام الرأس أن تجرى للمجني عليه عملية «التربنة»، وهي تفترض استئصال جزء من عظام الجمجمة لرفع شظايا الكسور ومنع ضغط العظام المنخسفة على المخ ، ويعد ذلك عاهة لأن الجسم يفقد جزءاً من عظامه ، بالإضافة إلى أن ذلك «يجرد المخ من وقايته الطبيعية ، وهذا من شأنه أن يجعل المصاب عرضة للتأثر بالتغيرات الجوية وبالإصابات التي قد تقع على هذا الجزء من المخ والتي ما كانت لتؤثر فيه لو كان محمياً بالعظام ، وقد تطرأ مضاعفات خطيرة كالتهاب السحايا أو الصرع أو الجنون أو خراج المخ»، وهذه العاهة مستديمة لأن الجزء المرفوع من العظام لا ينتظر في المستقبل ملؤه بعظام بديلة ، وإنما قد يم بنسيج ليفي لا يحقق للمخ ذات الحماية الطبيعية ولا يقي المصاب من المضاعفات السابقة، ولكن إذا كان الجزء المرفوع من العظام ضئيلاً بحيث لا ينتظر حدوث الآثار السابقة فإن العاهة المستديمة لا تعتبر بذلك متحققة  .

لا يشترط حدوث عجز عن الأشغال الشخصية : لا يتطلب القانون أن يكون من شأن العاهة المستديمة إصابة المجنى عليه بعجز عن الأشغال الشخصية ، فكل من الظرفين مستقل عن الآخر ، وعلى سبيل المثال فإنه إذا ترتب على الفعل إصابة المجني عليه بنقص يسير دائماً في قوة إبصاره تحققت العاهة بذلك ، ولو لم يعقه هذا النقص عن القيام بجميع أشغاله الشخصية .

علاقة السببية :

تخضع علاقة السببية للمعيار العام الذي أقرته محكمة النقض في جرائم الاعتداء على سلامة الجسم، فيتعين أن يكون فعل المتهم أحد العوامل التي أسهمت في إحداث العاهة، ويتعين أن يكون في استطاعته ومن واجبه توقع هذه النتيجة، ويعني ذلك أنه لا يشترط أن يكون الفعل هو العامل الوحيد الذي أحدث العاهة، بل أن المتهم مسئول عن العاهة ولو وجدت إلى جانب الإصابة عوامل أخرى تعاونت بطريق مباشر أو غير مباشر على إحداثها، وتطبيقاً لذلك، فإن التراخي في العلاج والإهمال فيه ورفض إجراء عملية جراحية من شأنها أن تحول دون حدوث العاهة ولكنها تعرض الحياة للخطر، كل ذلك لا ينفي علاقة السببية ما لم يثبت أنه كان متعمداً لتجسيم المسئولية .

القصد الجنائي :

لا يتطلب القصد الجنائي في هذه الجريمة أن تتجه إرادة المتهم إلى إحداث العاهة المستديمة ، وإنما يكفي اتجاهها إلى مطلق الإيذاء ولو كان يسيراً ، ثم حدوث العاهة ، ولو كان لم يتوقعها، طالما كان في استطاعته ومن واجبه توقعها، وإذا توافرت لدى المتهم إرادة إحداث العاهة المستديمة ، فإن القصد الجنائي يعد متوافرا لديه من باب أولى ، مثال ذلك من يجرح آخر أو يضربه وإرادته متجهة إلى افتاده بصر إحدى العينين أو بتر ذراعه .

تصور الشروع في الاعتداء على سلامة الجسم المفضي إلى العاهة المستديمة، إذا كانت هذه الجريمة ذات نتيجة احتمالية ، أي لم تتوافر لدي المتهم نية إحداث العاهة ، وإنما أراد مطلق الإيذاء فحسب كان الشروع فيها غير متصور ، إذ القاعدة أن الجرائم ذات النتيجة الاحتمالية لا يتصور الشروع فيها أما إذا كانت هذه الجريمة عمدية عادية ، أى توافرت لدى المتهم - لحظة ارتكابه فعله - إرادة إحداث العاهة ، فإن الشروع فيها متصور ، إذ قد صارت الجريمة كأي جريمة عمدية خاضعة للقواعد العامة ، مثل ذلك أن يرتكب المتهم فعل الضرب أو الجرح بنية فقء عين المجني عليه أو بتر ذراعه ، ولكنه لا يحقق غرضه لمقاومة المجنى عليه أو تدخل شخص ثالث، ويعاقب على الشروع دون نص لأن الجريمة جناية .

تعدد الجناة :

إذا تعدد الجناة تعين التفرقة بين وضعين : أن تربط بينهم رابطة المساهمة الجنائية ، وألا تربط بينهم هذه الرابطة . فإن ربطت بينهم فجريمتهم واحدة وكل منهم مسئول عن العاهة المستديمة التي أحدثتها الضربة الصادرة عن أحدهم ، ولو كان مجهولاً من بينهم، أما إذا لم تربط بينهم رابطة المساهمة فإن جرائمهم تتعدد ، وتقتصر مسئولية كل منهم على فعله ونتيجته ، ويعني ذلك أنه لا يسأل عن العاهة المستديمة إلا من صدر عنه الفعل الذي أفضى إليها ، أما زملاؤه فلا يسأل أي منهم إلا عن ضرب بسيط إذا ثبت صدور فعل مضرب عنه، فإذا لم يتيسر تحديد مرتكب الضربة التي أفضت إلى العاهة فكانت شائعة بين أفعالهم ، اقتصرت مسئولية كل منهم على ضرب بسيط ، فذلك هو القدر المتيقن في حقه .

العقوبة :

حدد الشارع للجرح أو الضرب المفضى إلى العاهة المستديمة عقوبة السجن من ثلاث سنين إلى خمس سنين ، فإذا توافر سبق الإصرار أو الترصد أو التربص كانت العقوبة السجن المشدد من ثلاث سنين إلى عشر سنين ويضاعف الحد الأقصى للعقوبات إذا ارتكبت الجريمة تنفيذا لغرض إرهابي (المادة 240 من قانون العقوبات)، وقد أحالت إلى هذا النص المادة 65 من قانون العقوبات في تحديد عقوبة إعطاء المواد الضارة إذا أفضى إلى العاهة المستديمة . (شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ محمود نجيب حسني، دار النهضة العربية،  الصفحة:   531)

محل الاعتداء

 - تحديد محل الاعتداء :

يقع الاعتداء في جرائم الجرح والضرب وإعطاء المواد الضارة على الحق في سلامة الجسم ، ويفترض هذا الحق أن المجني عليه إنسان فلا تقع الجريمة على حيوان ، كذلك يفترض أن يكون الإنسان حياً .

وعلى النحو الذي تقدم بيانه فيما يتعلق بمحل الاعتداء في جريمة القتل ، وعلى ذلك لا تقع جرائم الجرح والضرب وإعطاء المواد الضارة على جنين ، وإنما تحمى الجنين نصوص الإجهاض ، كذلك لا تقع هذه الجرائم على الجسم الذي فارقته الحياة.

ويقصد بالجسم الكيان الذي يؤدي الوظائف الحيوية وهو بهذا التحديد يشمل الجانبين : المادي والنفسي ، وعلى ذلك يستوي في الاعتداء على سلامة الجسم أن ينال مادته كعضو من أعضائه أو أن ينال الجانب العقلي أو النفسي ، فيعتبر اعتداء على سلامة الجسم إطلاق رصاصة بجوار المجني عليه ، أو وضع فوهة مسدس على صدره لتحدث له صدمة عصبية ، أو إعطاؤه مادة ضارة تسبب له الجنون أو الاكتئاب النفسي.

وحق الإنسان في سلامة جسمه له عناصر ثلاثة : أولاً : الحق في المحافظة على الوضع الصحي الذي عليه الجسم ، وعلى ذلك يعتبر اعتداء على هذا الحق كل فعل يهبط بالمستوى الصحى - البدني أو العقلي أو النفسي - للمجني عليه ، سواء ترتب عليه حدوث مرض لم يكن موجوداً من قبل أو تفاقم مرض كان يعاني منه، ثانياً : الحق في الاحتفاظ بكل أجزاء مادة الجسم سليمة ، فيعتبر اعتداء كل فعل ينقص منها أو يخل بتماسكها ، كبتر عضو من أعضائه ، أو إخراج جزء من دمه أو وخزه بإبرة أو إحداث فتحة فيه أو قص الشعر، ثالثاً : الحق في التمتع بإنعدام الإحساس بالألم ، وعلى ذلك يتحقق الاعتداء بكل فعل يؤدي إلى إشعار المجنى عليه بألم لم يكن موجوداً ، أو إلى زيادة قدر الألم الذي كان يعانيه ولو لم يترتب على ذلك الهبوط بمستواه الصحي أو المساس بمادة جسمه ، مثال ذلك صفعه على وجهه أو جذب شعره.

الركن المادي

يقوم الركن المادي لجرائم الضرب والجرح وإعطاء المواد الضارة على عناصر ثلاثة : الفعل والنتيجة وعلاقة السببية التي تربط بينهما، والفعل في هذه الجرائم هو كل سلوك من شأنه المساس بسلامة الجسم ، والنتيجة لا تثير صعوبة ، إذ تتمثل فيما يترتب على الفعل من مساس بحق المجني عليه في سلامة جسمه في عنصر أو أكثر من عناصره التي تقدم بيانها، كذلك لا صعوبة في علاقة السببية ، إذ يخضع تحديدها لذات الضابط الذي حددناه فيما يتعلق بجرائم القتل ، فهى - على حد تعبير محكمة النقض - علاقة مادية تبدأ بفعل المتسبب وترتبط من الناحية المعنوية بما يجب عليه أن يتوقعه من النتائج المألوفة لفعله إذا أتاه عمداً ، أو خروجه فيما يرتكبه بخطئه عن دائرة التبصر بالعواقب العادية لسلوكه والتصون من أن يلحق عمله ضرراً بالغير .

نقض 14 يونيو سنة 1966 مجموعة أحكام محكمة النقض س 17 رقم 152 ص 806 ؛ ونقض 26 نوفمبر سنة 1973 س 24  رقم 220 ص 1072 ؛ ونقض 8 أبريل سنة 1974 - س 25 رقم 85 ص 395 ؛ ونقض 8 يناير سنة 1976 س 27 رقم 194 ص 858 .

على ذلك تتوافر علاقة السببية بين الفعل والنتيجة ولو ساهمت معه بعض العوامل المألوفة التي كان في إمكان الجاني ومن واجبه توقعها ، مثل إهمال العلاج والتراخي فيه، أو مرض المجني عليه السابق، أو حالته الصحية العامة .

ولكن هذه العلاقة تنقطع إذا تدخلت عوامل شاذة غير مألوفة ، تكون - الشذوذها - من غير الممكن وبالتالي من غير الواجب توقعها ، ومثالها اصطدام سيارة المجنى عليه أثناء نقله إلى المستشفى ، أو الخطأ الجسيم من الطبيب الذي تولى علاج المجنى عليه.

وقد حدد المشرع للفعل صوراً ثلاثة ، ويقتضى هذا التحديد أن نتناول بشيء من التفصيل دراسة كل صورة من هذه الصور.

- الصور التي يتخذها فعل الاعتداء :

يتخذ الفعل المكون الركن المادي في جرائم الجرح والضرب وإعطاء المواد الضارة - وفقا للتحديد التشریعی - إحدى صور ثلاث هي الجرح والضرب وإعطاء المواد الضارة.

- الجرح :

- هو تمزيق جزء من أنسجة الجسم ، سواء أكان التمزيق سطحياً بالجلد ، أو عميقاً ينال الأنسجة التي يغطيها الجلد ، أو الأعضاء أو الأجهزة الداخلية كالمعدة أو الكبد أو الرئة ، أو أحد الشرايين أو الأوردة أو الأعصاب أو العظام ، وسواء أن يكون التمزيق كبيراً كقطع بسكين أو أن يكون ضئيلاً کوخز بإبرة ، وسواء أن ينبثق منه الدم خارج الجلد ، أو ينتشر تحت الجلد فيبدو الجلد أزرق اللون ، أو أن يتوفق في عمق الجسم كتمزق في المعدة أو الأمعاء، وسواء أن يكون التمزيق كلياً ببتر عضو من أعضاء المجني عليه كقطع يده أو أذنه أو ساقه ، أو أن يكون جزئياً يقتصر على جزء من أنسجة الجسم دون فصلها عنه ، ويدخل في هذا النطاق التسلخات والحروق، كذلك يستوي أن يكون التمزيق مؤلماً للمجني عليه أو لا يكون كذلك ، فيتحقق الفعل ولو لم يشعر المجنى عليه بألم ، كما إذا كان مغمى عليه أو مخدراً ولا أهمية لكيفية تحقق الفعل ، فيستوي أن يقع التمزيق بدفع وسيلة الاعتداء نحو المجنى عليه ، أو بدفعه هو نحوها ، كذلك تستوى الوسائل التي تستعمل في التمزيق ، فقد يستعمل الجاني أحد أعضاء جسمه ، كركل المجني عليه بالقدم أو دفعه بقبضة اليد أو عضه ، وقد يستعمل أداة كسلاح أو آلة قاطعة أو راضة أو واخزة ، كالسكين والعصا والحجارة والإبرة، وقد يستخدم حيواناً كان يحرض كلباً على عقر المجني عليه كما قد يستعين بقوة طبيعية كتسليط أشعة حارقة أو تيار كهربائي على المجنى عليه ویستوی أخيراً أن يكون الاعتداء مباشرة أو غير مباشر ، فيقع الفعل إذا كلف المجنى عليه بالمرور في طريق به حفرة فوقع فيها.

 - الضرب :

الضرب هو كل ضغط يقع على جسم المجنى عليه دون أن يمزقه  ولو لم يترتب على الضغط آثار کاحمرار الجلد أو ينشأ عنه مرض أو عجز .

ويتحقق الضغط بأي وسيلة، فقد يستخدم الجاني أحد أعضائه كالركل بالقدم أو الدفع بقبضة اليد أو الصفع باليد، أو صدم رأس المجني عليه بالأرض أو بالحائط، وقد يستخدم أداة كعصا أو حذاء ويستوي في الضرب أن يسبب ألما للمجني عليه أو لا يسبب له ذلك ، فتقع الجريمة إذا مس الاعتداء جسم مغمى عليه أو مخدر دون أن يمزق أنسجته.

ويكفي لوقوع الاعتداء أن تقع ضربة واحدة ، وإن كان النص قد استعمل صيغة الجمع فذكر في المادتين 241 ، 242 من قانون العقوبات لفظی ضربات، وجروح.

ولما كانت الضربة الواحدة تكفي ، وكانت أي وسيلة اعتداء تقع بها الجريمة ، كما أن الضرب يخضع للعقاب ولو لم يترك أثرا ، فإن محكمة الموضوع لا تلزم بأن تبين عدد الضربات، ولا أن تذكر نوع الأداة - إذا استعملت  ولا أن تبين موضع الإصابة أو درجة جسامتها.

واعتبر المشرع إعطاء المواد الضارة صورة من صور الاعتداء على سلامة الجسم إذا نشأ عن ذلك مرض أو عجز وقتی عن العمل، وقد عبر المشرع عن هذه المواد في المادة 265 من قانون العقوبات بقوله «كل من أعطى عمداً لشخص جواهر غير قاتلة .. إلخ»، ويدل ظاهر النص على أن المشرع يخرج من نطاق المواد القاتلة أي السامة ، والواقع أن المواد الضارة يدخل في نطاقها المواد السامة ، إذ تعتبر المادة السامة مادة ضارة ، وتتوقف مسئولية معطى المادة السامة على القصد الجنائي الذي توافر لديه ، فإذا توافر لديه قصد إزهاق روح المجنى عليه فإنه يسأل عن جريمة تسميم أو شروع فيه ، وفقاً لتحقق الوفاة أو عدم تحققها كنتيجة لتناول المادة السامة ، وتقتصر مسئوليته على جريمة إعطاء المواد الضارة إذا لم يقصد سوی المساس بسلامة جسم المجنى عليه ، سواء كان يعتقد أن المادة ضارة فحسب ، أم كان على علم بأنها سامة ولكنه كان معتقداً أن الكمية المستعملة لا تحدث سوى الإيذاء ، دون الموت.

وتعتبر المادة ضارة إذا كانت تؤدي إلى الإخلال بالوضع الصحي - البدني أو النفسي أو العقلي – للمجني عليه، والعبرة في ذلك ليس بالأثر الوقتي للمادة وإنما بالأثر النهائي المترتب على تناولها  فلا تقع الجريمة إذا ترتب على إعطاء المادة اضطراب وقتي في الوظائف الحيوية لجسم المجنى عليه ثم انتهى ذلك بتحسن في صحته أو ببقائها على ما كانت عليه، ويجب أن يراعى في تحديد طبيعة المادة الظروف المختلفة التي أعطيت فيها ، کسن المجني عليه أو جنسه أو حالته الصحية وكمية المادة المستعملة، ويستوي في المادة المستعملة أن تكون ذات طبيعة سائلة أو صلبة أو غازية.

ويقصد بفعل «الإعطاء» في جريمة إعطاء المواد الضارة كل سلوك يقيم به الجاني الصلة بين المادة وجسم المجنى عليه ، سواء تم ذلك عن طريق الجاني نفسه ، كأن يضع المادة الضارة في طعام المجنى عليه أو شرابه ، أو عن طريق المجنى عليه ، كما لو سلمها له الجاني ليتناولها بنفسه ، أو عن طريق شخص ثالث ، سواء كان حسن النية أو سيء النية، كذلك يستوي أن يكون المجني عليه عالماً بكون المادة ضارة فتناولها ابتغاء التخلص من التزام أو للحصول على إعانة ، أو كان يجهل ذلك ، كما يستوي أن يتناولها المجني عليه مكرها أو بمحض اختياره، وأخيراً تستوي وسيلة إعطاء المادة الضارة ، فقد يكون ذلك عن طريق الابتلاع أو الاستنشاق أو امتصاص مسام الجلد ، أو الحقن أو التقطير في الأذن أو العين.

القصد الجنائي

- عناصر القصد :

القصد المتطلب لقيام جريمة الجرح أو الضرب أو إعطاء المواد الضارة هو قصد عام يقوم على عنصري الإرادة والعلم : إرادة ارتكاب الفعل وإرادة تحقيق نتيجته ، والعلم المحيط بعناصر الجريمة، وقد عبرت عن ذلك محكمة النقض بقولها : «جريمة إحداث الجروح عمدا لا تتطلب غير القصد الجنائي العام ، وهو يتوفر كلما ارتكب الجاني الفعل عن إرادة وعن علم بأن هذا الفعل يترتب عليه المساس بسلامة جسم المجني عليه أو صحته».

 - العلم :

يجب أن يكون الجاني عالما وقت ارتكاب الفعل بأن فعله يقع على جسم إنسان حي ، فلا يتوافر القصد إذا اعتقد الفاعل أنه يوجه فعله إلى جثة ثم تبين أن المجني عليه كان مغمى عليه ولا يزال على قيد الحياة ، وإذا أطلق النار على شيء اعتقد أنه حيوان يريد أن يصطاده فإذا به إنسان يصيبه الرصاص بجراح.

كذلك يجب أن يكون الجاني عالماً بأن من شأن فعله المساس بسلامة جسم المجنى عليه ، فينتفى القصد إذا أعطى الجاني المجنى عليه مادة يعتقد أنها الدواء الذي يتناوله فإذا بها مادة ضارة.

وينبغي أخيراً أن يتوقع الفاعل أن يترتب على فعله مساس بسلامة جسم المجنى عليه ، فإذا انتفى هذا التوقع تخلف القصد الجنائي ، فمن أعد لآخر کوباً به دواء کی يستعمله كمضمضة، فإذا به يبتلعه لا يتوافر لديه القصد ، وإن أمكن أن ينسب إليه الخطأ إذا كان في استطاعته توقع النتيجة.

 - الإرادة :

يجب أن تتجه إرادة الجاني إلى الفعل الذي قام به ، وإلى المساس بسلامة جسم المجنى عليه ، فإذا لم تتجه الإرادة إلى الفعل ، كما لو كان قد أكره على ضرب المجنى عليه أو جرحه أو إعطائه مادة ضارة انتفى القصد ، كذلك ينتفي القصد ولو اتجهت الإرادة إلى الفعل إذا كانت لم تتجه إلى تحقيق النتيجة وهي المساس بسلامة جسم المجني عليه، سواء لأن الفاعل لم يتوقع هذه النتيجة إطلاقاً، أو لأنه مع توقعه حدوث النتيجة كان يأمل ألا تقع ، وعلى ذلك لا يتوافر القصد لدى من يطلق الرصاص ابتهاجاً أو اصطياداً فيصيب شخصا بجراح، أو من يقذف كلباً بحجر فيصيب أحد الأطفال، أو من يمرر مروراً بعين شخص للتطهير فيترتب على ذلك إحداث جرح له بالعين وإذا كان القصد الجنائي يتخلف في هذه الحالات فإن ذلك لا يمنع من مساءلة المتهم عن جريمة غير عمدية إذا ثبت في حقه الخطأ.

أما إذا كان الجاني قد توقع النتيجة كأثر لفعله فقبل احتمال وقوعها ، فإنه يتوافر في حقه القصد الاحتمالي، وهو يعدل القصد المباشر من حيث قيام المسئولية العمدية.

وإذا توافر للقصد الجنائي عنصراه : العلم والإرادة ، فإن ذلك يكفي لتحققه ، فلا يشترط بعد ذلك أن تتوافر نية الإضرار بالمجني عليه ، فالجاني يسأل عن جريمة عمدية ولو كانت نيته قد اتجهت إلى إنقاذ المجنى عليه من عدوه ، أو إلى شفائه من مرض ، إذ أن هذه النوايا لا تعدو أن تكون مجرد بواعث على ارتكاب الجريمة لا شأن لها بالقصد الجنائي .

لما كان القصد ركناً من أركان جريمة الجرح أو الضرب أو إعطاء المواد الضارة العمدية ، فإنه يجب أن يبينه الحكم القاضي بالإدانة ، وإن كان لا يلزم أن يتحدث عنه صراحة ، بل يكفي أن يكون مفهوماً من عباراته أو من وقائع الدعوى التي أثبتها ولذلك قضت محكمة النقض بأن تعبير المحكمة بأن المتهم ضرب المجنى عليه يفيد حتماً أن الفعل الإيجابي الذي وقع منه قد صدر عن عمد.

ويأخذ إعطاء المواد الضارة حكم الجرح - أو الضرب من حيث الخضوع لهذا النص (م 265 ع)، ووفقاً لهذا النص يتمثل الظرف المشدد الذي يصل بالجريمة إلى مرتبة الجناية في ترتب نتيجة جسيمة على ارتكاب الفعل هي حدوث عاهة مستديمة، فهذه الجناية تفترض توافر أركان جريمة الضرب أو الجرح أو إعطاء المواد الضارة ، ثم أن تتحقق نتيجة معينة هي العاهة المستديمة.

 - العاهة المستديمة :

لم يضع المشرع تعريفاً للعاهة المستديمة ، وإنما اقتصر على ذكر بعض أمثلة لها، ويمكن تعريف العاهة المستديمة بأنها «فقد عضو من أعضاء الجسم أو فقد جزء منه أو فقد منفعته أو إضعافها أو فقد حاسة من الحواس أو إضعافها بصورة دائمة»، ويعني ذلك عجز العضو أو الحاسة عن القيام بوظيفته الطبيعية عجزاً كلياً أو جزئياً وبصفة دائمة ، وسواء كان ذلك نتيجة مباشرة للفعل ، أم كان نتيجة جراحة ضرورية أجريت إنقاذاً لحياة المجني عليه أو صحته، ولا يحدد المشرع نسبة معينة للنقص الذي لحق منفعة العضو أو الحاسة مما يعني أن العاهة تتحقق بهذا النقص مهما كان ضئيلاً، فضالة النسبة لا تنفي صفة العاهة، كما أنه لا يؤثر في قيام العاهة عدم إمكان تقديرها بنسبة مئوية وعلى ذلك فعاهة العين تثبت بمجرد فقد إبصار العين مهما كان مقداره قبل أن يكف .

على أن أهم ما يعني المشرع في تحديد العاهة هو أن تكون مستديمة «يستحيل برؤها» على حد تعبير المادة 240 ويلاحظ أن تعبير مستديمة يغني عن عبارة «يستحيل برؤها» ، إذ الاستدامة لا تتحقق إلا مع استحالة البرء وهذه الاستحالة صفة ملازمة ونتيجة حتمية لاستدامة العاهة، ويرجع في تقدير استحالة البرء إلى وقت النظر في الدعوى لا إلی وقت ارتكاب الفعل ولا ينفي استحالة البرء أن يكون الطب قد توصل إلى وضع بديل صناعى للعضو المفقود أو التالف ، كأذن صناعية أو نظارة طبية أو ساق صناعية ، أو أسنان صناعية .

كذلك تعتبر العاهة مستديمة ولو كان من الممكن برؤها عن طريق جراحة دقيقة تعرض حياة المجنى عليه الخطر ، إذا رفض المجني عليه إجراءها .

ومن الأمثلة على العاهة المستديمة فقد البصر أو ضعفه ولو كان الضعف مقصوراً على إحدى العينين  ومثل البصر في ذلك باقي الحواس فتتحقق العاهة بفقد أو ضعف حاسة الشم أو السمع ، كذلك يعتبر عاهة مستديمة فقد سلامية أحد الأصابع أو عدم القدرة على ثنيه ، وقطع صيوان الأذن إذا كان ذلك مما يترتب عليه فقد منفعة أو إضعافها ، ويتحقق ذلك في حالة القطع الكلى للصيوان إذ يضعف السمع ، أما القطع الجزئي - أو فقد حلمة الأذن - فلا تتحقق به العاهة .

القصد الجنائي المتطلب في هذه الجناية هو ذات القصد المتطلب في جريمة الضرب أو الجرح في صورته البسيطة ، وهو اتجاه إرادة الجاني إلى المساس بسلامة جسم المجني عليه مع علمه بأن من شأن فعله أن يحقق ذلك المساس ، فلا يعتبر من عناصر القصد أن تتجه إرادة الجاني إلى إحداث العاهة ، وليس بشرط لتحققه أن يكون الجاني قد توقع حدوث العاهة ، وإنما يكفي أن يكون في استطاعته ومن واجبه أن يتوقعها.

وإذا كان القصد الجنائي يتوافر على الرغم من عدم اتجاه إرادة الجاني إلى إحداث العاهة ، فإنه يتحقق ومن باب أولى إذا اتجهت إرادته إلى إحداثها ، دون أن يؤثر ذلك في وصف الجريمة، وإن كان يترتب على ذلك أثر هام هو تصور الشروع في هذه الجناية، بينما هو غير متصور في حالة عدم اتجاه إرادة الجاني إلى إحداث العاهة المستديمة ويعاقب على الشروع دون حاجة إلى نص خاص يقرر ذلك، إذ أن الجريمة جناية والقاعدة أن الشروع في الجناية يعاقب عليه بغير نص خاص.

 العقوبة :

يقرر المشرع الجريمة الجرح أو الضرب أو إعطاء المواد الضارة عمداً إذا نشأ عنه عاهة مستديمة عقوبة السجن من ثلاث سنين إلى خمس سنين ، فإذا كان الفعل مقترنا بسبق إصرار أو ترصد كانت العقوبة السجن المشدد من ثلاث سنين إلى عشر سنين (المادة 240 من قانون العقوبات)، وتطبق هذه العقوبة المشددة إذا وقع الفعل أثناء الحرب على أحد الجرحى ولو كان من الأعداء (المادة 251 مکرراً من قانون العقوبات). (شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتورة/ فوزية عبد الستار، الطبعة الرابعة 2017 دار النهضة العربية،  الصفحة:   469)

تتناول هذه المادة جريمة الضرب والجرح وما إليه إذا نشأ عنه عاهة مستديمة ويجب القيام هذه الجريمة أن يوجد ركنان أساسيان الأول هو الركن المادي ويتكون من فعل الضرب أو الجرح أو إعطاء مادة ضارة ونشوء عاهة مستديمة وقيام علاقة السببية بين الفعل والعاهة والثاني هو القصد الجنائي ويتحقق بتعمد مجرد الضرب أو الجرح دون قصد إحداث العاهة كما يتحقق بتعمد إحداث العاهة على التفصيل الآتي :

عناصر الجانب المادي ( الركن المادي) :

يجب أولاً : أن يحدث فعل الضرب أو الجرح ويدخل في هذا المعنى أنواع التعدي أو الإيذاء التي ليست ضرباً ولكنها تعادل الضرب في جسامتها مثل الضغط على الأعضاء والجذب العنيف والرمي على الأرض.

وثانياً : أن تحدث عاهة مستديمة للمجنى عليه ولم يعرف القانون العاهة المستديمة وإنما ذكر بعض صورها وهذه الصور لم ترد على سبيل الحصر بدليل قوله " أو نشأت عنه أية عاهة مستديمة يستحيل برؤها " و عبارة " يستحيل برؤها " عبارة زائدة إذ استدامة العاهة يلزم عنه حتماً استحالة برؤها ويقصد بالعاهة المستديمة فقد منفعة من أعضاء الجسم فقداً كلياً أو جزئياً سواء بفصل العضو أو بتعطيل وظيفته أو مقاومته على أن يكون ذلك بصفة مستديمة أي لا يرجى شفاء منه وتقدير هذا متروك لقاضي الموضوع بيت فيه بما يستبينه من حالة المصاب وما يستخلصه من تقرير الطبيب ولم يحدد القانون نسبة مئوية معينة للنقص الواجب توافره لتكوين العاهة المستديمة فيكفي لسلامة الحكم أن يثبت أن منفعة أحد الأعضاء أو وظيفته قد فقدت ولو فقداً جزئياً بصفة مستديمة.

ويلاحظ أنه لا عبرة بمقدار مدة العلاج أو مدة المرض أو العجز عن الأشغال الشخصية بل العبرة بالنتيجة التي انتهت إليها حالة المصاب وهي حدوث العاهة المستديمة وكذلك لا يشترط أن يكون للعاهة تأثير على حياة المجني عليه لأن ذلك أمر زائد على معنى العاهة المستديمة كما يتطلبها القانون ومن الأمثلة القضائية يعد من العاهات المستديمة ضعف بصر إحدى العينين أما كف البصر وفقد إحدى العينين فمنصوص عليهما صراحة في المادة 240 وفصل الذراع وفقد جزء من فائدة الذراع بصفة دائمة وخلع الكتف وتخلف عسر مستديم في حركته والقصور في إنشاء المرفق والنقص المستديم في منفعة اليد في حريته والقصور في حركة اليد وعدم إمكان ثني إصبع اليد وتقصير الفخذ وعدم إمكان انطباق نصف الفك العلوي على الفك الأسفل تماماً بسبب إصابة الفك الأسفل بكسر التحم التحاما معيبا و اختلال علاقة مركز الكلام بالذاكرة بسبب إصابة في الرأس وفقد جزء من عظام الرأس على أثر رفع العظام المكسورة والمنخفسة بعملية التربنة إذ يجعل المصاب أقل مقاومة للإصابات الخارجية والتغيرات الجوية ويعرضه لإصابات المخ كالصرع والجنون وخراجات المخ ويقلل من كفاءته للعمل.

ويلاحظ أن عملية التربية لا ينتج عنها دائماً عاهة مستديمة فقد يكون العظم المستخرج صغيراً بحيث يتكون بدله نسيج يحمي المخ من الطوارئ الجوية وغيرها فلا تتخلف عنه عاهة مستديمة كما وأن فصل صيوان الأذن بأكمله يعد عاهة مستديمة بصرف النظر عما قد يلحق حاسة السمع من ضعف ولكن فقد جزء من صيوان الأذن کزوال الثلث العلوي له أو فقد حلمة الأذن مع جزء من الحافة الخلفية للصيوان لايعد عاهة مستديمة لأن العضو باقی ويؤدي وظيفته.

ويلاحظ أن الأسنان ليست من أعضاء الجسم ففقدها لايقلل من منفعة الفم بطريقة دائمة لإمكان استبدالها بأسنان صناعية تؤدي وظيفتها وعلى ذلك فإن أحدث الضرب فقد الأسنان فلا تنطبق الواقعة على المادة 240 ع بل على المادة 242 ع، وقد انتقد رأى فقهى هذا النظر وذهب إلى أن الأسنان الطبيعية من أعضاء الجسم والصناعية فيها قد لاتؤدي وظيفتها تماماً.

 رابطة السببية :

لا يكتمل الركن المادي بحدوث ضرب أو جرح أو إعطاء لمادة ضارة وتخلف عاهة بالمجني عليه بل يلزم أن تقوم بين هذه العاهة وذلك السلوك رابطة السببية الأمر الذي يستقل قاضي الموضوع بتقديره مادام هذا التقدير قائماً على أسباب سائغة تؤدي فعلاً إليه ولايقطع رابطة السببية بين سلوك الجاني وبين العاهة الحادثة للمجني عليه أن يطرأ بعد السلوك في مجری تسلسل عواقبه عامل لاحق كان في وسع رجل عادي في مكان الجاني أو يتوقعه.

 الركن الثاني : القصد الجنائي :

لا يتطلب القصد الجنائي في هذه الجريمة أن تتجه إرادة المتهم إلى أحداث العاهة المستديمة وإنما يكفي اتجاهها إلى مطلق الإيذاء ولو كان يسير ثم حدوث العاهة ولو كان لم يتوقعها طالما كان في استطاعته ومن واجبه توقعها وإذا توافرت لدى المتهم إرادة إحداث العاهة المستديمة فإن القصد الجنائي يعد متوافر لديه من باب أولى مثال ذلك من جرح آخر قاصداً أن يضر به وإرادته متجهاً إلى إفقاده بصر أحد العينين أو بتر ذراعه.

ولا ينفى توافر القصد لدى الجاني حدوث الجرح برضاء المجنى عليه كما لاينفي قيام سبق الإصرار في جناية إحداث عاهة مستديمة كون الفعل لم يقع إلا تلبية لطلب المجني عليه أو بعد رضاء منه.

يستعمل المشرع في المواد التي تناولت المساس بجسم الإنسان لفظى الجرح والضرب ويطلق على الركن المادي بصفة عامة فعل الإيذاء الذي يتمثل في جرح أو ضرب.

 (أ) الجرح :

هو كل مساس مادی بجسم المجنى عليه من شأنه أن يؤدي إلى تغيرات ملموسة في أنسجته وقد يتمثل هذا في تمزق تلك الأنسجة أو حدوث انسكابات دموية يتسبب عنها أورام والجروح مادامت تمزقات في أنسجة الجسم سواء خارجية أم داخلية تعد أمراضاً قد تحتاج إلى علاج ولا يشترط أن يباشر الجاني فعل الجرح بنفسه بل قد يستعمل أخر كآلة في يده كما في حالة المكره والمجنون وقد يستخدم الفاعل حيواناً في هذا السبيل كمن يحرش كلبه على عض أحد المارة فيعقره والأداة المستعملة في الاعتداء ليست من الأركان الجوهرية للجريمة.

 (ب) الضرب :

الضرب هو الاعتداء الذي لايترك بالجسم أثراً ظاهراً فقد يكون لكم أو ركلاً أو صفعاً وقد يكون ضغطاً أوصدماً أو جذباً بالعنف وقد يكون بأداة راضة كالعصا أو حجر وبناء عليه فلا يلزم أن يبين الحكم بإدانة عدة متهمين بالضرب عن تفاصيل الضربات الصادرة منهم من الذي أحدث فيهم كلاً منهما مادام الثابت أن كلاً منهم اعتدى على المجني عليه وإذا لم يبلغ الفعل المادي حد الضرب أو الجرح بأن اتخذ صورة قص الشعر أو البصق على الوجه فتتوافر به مخالفة الإيذاء الخفيف المنصوص عليها في المادة 394/2 عقوبات لاجنحة الضرب أو الجرح.

ويلزم التحقق قبل إحالة المتهم بالضرب أو الجرح إلى المحاكمة من أنه لم يحدث مضاعفات للضرب أو الجرح تجعل لسلوك المتهم نتيجة أجسام يسأل عنها بوصف إجرامي أشد كالعاهة أو الوفاة.

ويلاحظ أن الأفعال المادية التي لا تقع على جسم الشخص لا تعد في حكم الضرب أو الجرح ولو سببت له ضيقاً وإنزعاجاً ومن ذلك التلويح باليد أو بعصا في حركة تهديدية واطلاق عيار ناري إلى إنسان لإزعاجه وكذلك الشأن عند تنغيص الشخص بالأقوال وتحميله بالأكدار والهموم ولو أنت صحته لأنه لابد من فعل مادی يمس جسم المجنى عليه ولا يغني عنه المساس بنفسه وهذا نقص في التشريع كان يجدر بالقانون تفاديه بنصه على الإيذاء إلى جانب أفعال العنف التي حددها .

جرائم الضرب أو الجرح هي من الجرائم العمدية ومن ثم يتعين أن يتوافر فيها القصد الجنائي وهو من نوع القصد الجنائي العام ويتوافر بتوجيه الجاني لإرادته نحو المساس بجسم المجنى عليه وإدراكه أن من شأن نشاطه الوصول إلى تلك النتيجة وقد يتوقع الجاني حدوث النتيجة التي وقعت ويرغب فيها كمن يفقع عين أخر ولكن في كثير من الصور بل في غالبيتها قد لا يستطيع الجاني سلفاً تحديد مدى نتيجة تصرفه ومع هذا فهو يسأل عنها وفقاً لجسامتها استناداً إلى أنها متوقعة وفقاً لسير الأمور العادي ولايؤثر في قيام القصد الجنائي لدى الفاعل الخطأ في الشخص أو الغلط في الشخصية كما هو الشأن في جريمة القتل إذ يهدف الشارع إلى حماية حق الإنسان في سلامة جسمه أياً كان الشخص ويكفي أن يوجه الجاني إرادته للمساس بهذا الجسم . (موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثالث،  الصفحة: 418)

وظاهر من النص أنه لكي يطبق يجب :

1) أن يحدث ضرب أو جرح.

 2) أن ينشأ عن ذلك عاهة مستديمة.

 3) القصد الجنائي.

وليس في هذه الشروط جديد إلا مصطلح العاهة المستديمة، أما الشروط الأخرى فقد وفيناها بحثاً أثناء تعرضنا للمادة (236) عقوبات ويمكن الرجوع إليها منعاً للتكرار.

 معنى العاهة المستديمة :

الإستدامة أمرها سهل، فالمقصود أن يكون للعاهة صفة الدوام، أي أن يثبت أن المصاب سوف لا يشفى منها أبداً وتحديد هذه الصفة أمره موکول إلى الطبيب الشرعي، وهو أمر لا يثير إشكالات قانونية، لأنه واضح، كما أنه لا يثير صعوبات فنية إلا نادراً.

وعملاً لا يقطع الطبيب برأي إلا بعد أن يمضي وقت كاف التيقن باستحالة الشفاء والذي يحتاج إلى تحديد هو العامة التي لم يورد لها النص تعريفاً صريحاً، ولكنه ضرب أمثالاً يمكن أن يستنتج منها التعريف بسهولة، فهو قد مثل الفقد الكلي للعضو نفسه قطع أو إنفصال أحد الأطراف؛ وللفقد الكلي للعضو مع بقائه مادياً فقد منفعة أحد الأطراف، وكف البصر، وللفقد الجزئي لإحدى الحواس فقد إحدى العينين، ثم أورد عبارة عامة يفهم منها أن الأمثال التي ضربها كانت للتمثيل لا للحصر إذ قال أو نشأت عنه أية عاهة مستديمة يستحيل برؤها.

مما تقدم يبين لنا أن العاهة المستديمة - كما تقول محكمتنا العليا بحق - يتحقق وجودها - حسب المستفاد من الأمثلة الواردة في المادة التي نحن بصددها – بفقد أحد الأعضاء أو أحد الأجزاء أو تقليل قوة مقاومته الطبيعية.

أن العاهة يتحقق وجودها بفقد منفعة أحد الأعضاء الخارجية أو الداخلية أو بفقد إحدى الحواس، أو إحدى الملكات الذاكرة مثلاً، فقداً كلياً أو جزئياً بصفة مستديمة، والقول في كل ذلك للخبراء، فإذا تحقق ذلك فلا أهمية لكون المصاب قد حدث لديه مرض أو عجز عن الأشغال الشخصية أم لا، وليس بشرط أن تكون العاهة مهددة للحياة لأن العبرة هي بما فقد من وظيفة الأعضاء، وبما نقص من مقاومة المجني عليه الطبيعية.

وعملاً بقدر الطبيب النسبة المئوية في المقدرة على العمل ولكن هذا التقدير ليس بركن في الجريمة فإذا ما اثبت الحكم أن هناك عاهة مستديمة، فإن الجاني يسأل بالمادة (240) عقوبات، سواء أكانت نسبة النقص في القدرة على العمل كبيرة أم صغيرة أم تافهة، وسواء أذكر الحكم هذه النسبة أم أغفل ذكرها بتاتاً .

 ما لا يعتبر عاهة :

مادام الأساس في تطبيق المادة التي نحن بصددها هو أن يحدث فقد كلي أو جزئي لعضو من الأعضاء أو بعبارة أدق لمنفعة أو وظيفة عضو، فإنه لا يعتبر عاهة أن تحدث الإصابة المجني عليه مرضاً أو عجزاً عن الأشغال الشخصية يطول أمده شهور أو سنين، مادام من المحقق أنه سوف لا تتخلف عنده عاهة مستديمة.

ولا يعتبر التشويه في الوجه عاهة مستديمة مهما كان بالغة فظيعة، لأنه لا ينقص من كفاءة الشخص عن العمل، ولا ينقص من منفعة أعضائه.

العقوبة:

هي السجن من ثلاث سنين إلى خمس سنين.

وتكون العقوبة السجن المشدد من ثلاث سنوات إلى عشر إذا إرتكبت الجريمة عن سبق إصرار أو ترصد.

وتضاعف العقوبة لتصبح السجن المشدد من ثلاث سنوات إلى عشرين سنة إذا إقترنت الجريمة بسبق إصرار أو ترصد بالإضافة إلى ظرف إستهداف الغرض الإرهابي.

 تشديد العقوبة لصفة الجاني :

نصت على هذا الظرف المادة التي نحن بصددها في فقرتيها الثالثة والرابعة، فالفقرة الثالثة تقرر وتكون العقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن خمس سنين إذا وقع الفعل المنصوص عليه في الفقرة الأولى من طبيب بقصد نقل عضو أو جزء منه من إنسان حي إلى آخر وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا نشأ عن الفعل وفاة المجني عليه، والفقرة الرابعة تقرر، ويشترط لتوقيع العقوبات المنصوص عليها في الفقرة السابقة أن يقع الفعل المشار إليه فيها خلسة .

ولقد شدد المشرع عقاب الإعتداء العمد على سلامة الجسم إذا حدث من طبيب وعلة التشديد واضحة لأن الطبيب مكلف بمقتضی مهنته أن يصون جسم الإنسان ولا يمس به إلا لضرورات العلاج فإذا قام الطبيب بممارسة فعل إحداث جرح بجسم الإنسان دون ضرورة علاجية أو جراحية، كان ذلك سبباً لتشديد عقابه عن عقاب الشخص العادي الذي يأتي السلوك ذاته.

وقد تطلب المشرع لإنطباق الظرف المشدد، توافر ثلاثة شروط :

الأول : أن يقع فعل الإعتداء من طبيب أو جراح، وتتحدد هذه الصفة طبقاً للقانون مزاولة المهن الطبية.

الثاني : أن يكون القصد من الفعل نقل عضو أو جزء منه من إنسان حي إلى إنسان آخر، ويعني ذلك أن فعل الطبيب لا تبرره ضرورات العلاج، وأن القصد منه لم يكن إنقاذ من نقل منه العضو، وإنما مجرد نقل العضو لتحقيق مصلحة لمن نقل إليه.

الثالث : أن يقع نقل العضو خلسة، أي دون علم ورضا المجني عليه أو برضاء مسبب منه ففعل الطبيب، فضلاً عما يتضمنه من إعتداء على سلامة جسم الإنسان، ينطوي على سرقة للعضو البشري أو لجزء منه.

ويترتب على توافر هذه الشروط تحقق الظرف المشدد فتكون عقوبة الجاني السجن المشدد لمدة لا تقل عن خمس سنين، أما إذا ترتب على فعل الطبيب وفاة المجني عليه، شددت العقوبة إلى السجن المؤبد. (الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثالث، الصفحة : 505)

 

الفقه الإسلامي

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحات: 252 ، 253 ، 254 ، 255 ، 31

(مادة 515) 

يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات ، إذا ترتب على الإعتداء المشار إليه في المادة السابقة عاهة مستديمة . 

وتكون العقوبة السجن المؤقت إذا تعمد الجاني إحداث العاهة ، أو توافر أي من الظروف المشار إليها في البنود الثلاثة الأولى من المادة (512) من هذا القانون . 

وتتوافر العاهة المستديمة إذا ترتب على الإصابة قطع أو إنفصال أو بتر جزء منه ، أو فقد منفعته أو نقصانها ، أو تعطيل وظيفة إحدى الحواس بصورة كلية أو جزئية دائمة . 

ويعتبر في حكم العاهة كل تشويه جسيم لا يحتمل زواله . 

(مادة 516)

 يعاقب بالحبس على الإعتداء المشار إليه في المادتين السابقتين في الحالات التالية :

 1- إذا ترتب على الإعتداء مرض أو عجز عن الأشغال الشخصية لمدة تزيد على عشرين يوماً . 

2- إذا كان الإعتداء على حبلى ، وترتب عليه إجهاضها . 

3- إذا كانت وسيلة الإعتداء آلة أو أداة أو مادة مفرقعة أو حارقة أو مخدرة أو ضارة بالصحة . 

4- إذا وقع الإعتداء من خمسة أشخاص على الأقل توافقوا عليه وتضاعف العقوبة إذا توافر أي من ظرفي سبق الإصرار والترصد . 

(مادة 522)

 كل شخص يلتزم برعاية آخر عاجز عن أن يحصل لنفسه على مقومات الحياة بسبب سنه ، أو حالته الصحية أو العقلية ، أو بسبب تقييد حريته ، سواء كان منشأ إلتزامه القانون أو الإتفاق أو فعل مشروع إمتنع عمداً عن القيام بإلتزامه ، وأفضى ذلك إلى موت المجني عليه أو إصابته - يعاقب بحسب قصده ودرجة الإصابة بالعقوبات المنصوص عليها في المواد (510)، (512)، (513)، (515)، (516)، (517) من هذا القانون . 

 فإذا كان الإمتناع عن خطأ يعاقب على حسب الأحوال بالعقوبات المنصوص عليها في المادتين (520)، (521) من هذا القانون . 

الجرائم الواقعة على الأشخاص 

الفصل الأول 

المساس بحياة الإنسان وسلامة بدنه 

المواد من (510) - (529): 

أحكام مواد المشروع تتضمن بصفة عامة أحكام المواد من (230) إلى (251)، (265) من القانون القائم ، مع إستحداث بعض الأحكام على ما سببين في موضعه ، وقد رأى المشروع إبقاء المواد الخاصة بحق الدفاع الشرعي عن النفس والمال ضمن مواد هذا الفصل ؛ وذلك لأن وسائل الدفاع الشرعي - بحسب الأصل - تمس سلامة جسد المعتدي ، ومن ثم كان هذا الفصل هو الموضع المناسب لإيراد أحكامها على نحو مفصل ، بعد إذ ورد وحكمها العام في الكتاب الأول ، ومن أهم ما تضمنه هذا الفصل ما يلي : 

١- المادة (512) من المشروع تضمنت الظروف المشددة للقتل ، فبعد أن نصت المادة (510) من المشروع على عقوبة الإعدام للقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، وعرفت المادة (511) سبق الإصرار والترصد وتوافرهما ، نصت المادة (512) المذكورة على عقوبة السجن المؤبد لجريمة القتل العمد بغير سبق إصرار أو ترصد ، ثم عرضت إلى الظروف المشددة التي ترفع العقوبة إلى الإعدام ، وعددتها في فقرات أربع استحدث فيها وسيلة القتل بمادة مفرقعة كظرف مشدد للجريمة ، ووقوع القتل العمد على أحد أصول الجاني أو على موظف عام أو من في حكمه ، أو مكلف بخدمة عامة أثناء تأدية الوظيفة أو الخدمة ، وإذا كان الباعث على القتل العمد دنيئاً ، أو صاحب القتل أعمال تعذيب،  أو مثل بجثة المجني عليه (القتيل) . 

وتكون العقوبة الإعدام أو السجن المؤبد إذا كان الغرض من القتل العمد التأهب لإرتكاب جنحة أو تسهيلها ، أو إرتكبها بالفعل ، أو مساعدة مرتكبها أو الشريك فيها على الهرب أو الإفلات من العقوبة . 

2- رأى المشروع عدم وجود مبرر لتخفيض عقوبة الشريك في القتل المستوجب عقوبة الإعدام التي كانت تعرض لها المادة (235) من القانون القائم ، وذلك بأن هذا الحكم كان يخالف قاعدة أصولية إلتزمها الشارع، ألا وهي أن من إشترك في جريمة فعليه عقوبتها ، ومن ثم ترك الأمر للقاضي حسب ظروف الدعوى وملابساتها وأصول تفريد العقاب ليحدد في نطاق النص القانوني العقوبة التي يراها مناسبة. 

3- المادة (513) من المشروع استحدثت حكماً ، إذ إنه متى تحقق موجبها من إجماع أولياء الدم على العفو عن الجاني أو التصالح معه طبقاً لأحكام الباب السابع من الكتاب الثاني ، عد ذلك عذراً قانونياً مخففاً من شأنه إستبدال عقوبة السجن المؤبد أو المؤقت بالعقوبة المقررة في المادتين (510)، (512) من المشروع على حسب الأحوال ، مع مراعاة أنه إذا تعدد الجناة ، فلا يشمل حكم العذر المخفف إلا من تم العفو عنه ، أو التصالح معه منهم ، وذلك تمشياً مع الحكمة من سقوط القصاص بعفو أولياء الدم ، أو تصالحهم مع الجاني ، ولئن منع العفو أو الصلح القصاص ، فإنه لا يمنع العقوبة التعزيرية، إلا أنه كان حرياً بالمشروع أن يخفف عقوبة الإعدام نزولاً على هذا العفو أو الصلح. 

4 - المادة (515) في فقرتها الثانية ، استحدثت ظرفاً مشدداً لجريمة إحداث العاهة المستديمة ، وذلك برفع العقوبة إلى السجن المؤقت إذا تعمد الجاني في إحداث العاهة أو توفر قبله أي من الظروف المشار إليها في الفقرات الثلاث الأولى من المادة (515) من المشروع . 

والفقرة الأخيرة من المادة تعتبر في حكم العاهة كل تشويه جسيم لا يحتمل زواله ، ومع أن التشويه لا يترتب عليه قطع أو إنفصال عضو أو بتر جزء منه أو فقد منفعة أو نقصانها أو تعطيل وظيفة إحدى الحواس بصورة كلية أو جزئية دائماً ، فإن المشروع رأى إعتبار التشويه الجسيم في حكم ذلك ، فإن يترتب على التشويه أياً كان فقد أو تعطيل شيء مما ورد ذكره في الفقرة الثالثة من المادة - فلا مشاحة في إنطباقها من باب أولى ؛ لأنها تكون هي الأصل . 

5- المادة (519) من المشروع استحدثت لأول مرة في التشريع المصري عقاب التحريض على الإنتحار أو المساعدة عليه بأية وسيلة ، يستوي أن يتم الإنتحار بناء على ذلك التحريض وهذه المساعدة أم يشرع فيه ، على أنه إذا كان المنتحر لم يبلغ الثامنة عشرة أو كان ناقص الإدراك أو الإختيار - عد ذلك ظرفاً مشدداً يرفع عقوبة المحرض أو المساعد إلى السجن المؤقت ، وهذا النص مستلهم من الشريعة الإسلامية فيما حرمه المصدر الأول لها وهو القرآن الكريم ، من تحريم قتل النفس سواء تم ذلك بمعرفة الجاني أم غيره ، فكان حقيقاً بالمشروع أن يؤثم المحرض أو المساعد على ذلك .

6- المادة (520) من المشروع تعرض لجريمة القتل الخطأ ، وقد غلظ المشروع العقوبة إلى الحبس لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على عشر سنوات ، إذا توافر أي من الظروف المشددة المنصوص عليها في الفقرات الأربع من المادة ؛ وذلك لأن الإخلال الوارد في الفقرات يخالف أصول وظيفة المتهم أو مهنته أو حرفته التي يزاولها بالفعل ، وهو ما يوجب عليه من الحيطة والحذر ومراعاة دواعي السلامة - ما يحفظ حياة الآخرين كما أن وقوع الجريمة والجاني تحت تأثير سكر أو تخدير أو عقار تناوله عن حرية وإختيار - ينبئ عن الإستهتار والعبث والجنوح عن الجادة ، فكان لزاماً إعتبار ذلك ظرفاً مشدداً ، كما أن نكول الجاني عن مساعدة المجني عليه أو عن طلب المساعدة له مع القدرة على ذلك - إن دل على شيء فإنما يدل على الإستخفاف بأرواح الناس ، والقعود عن مد يد العون أو طلبها مع القدرة على الإغاثة ، فكان لزاماً إعتبار ذلك القعود والنكول ظرفاً مشدداً ، هذا إلى أنه إذا نشأ عن الفعل موت ثلاثة أشخاص على الأقل - عد ذلك أيضاً ظرفاً مشدداً له حكم الظرف السابق من حيث تغليظ العقوبة .

7- المادة (521) من المشروع تعرض لحالة الإصابة الخطأ، وقد نصت الفقرة الثانية منها على الأخذ بحكم الظروف المشددة المنصوص عليها في المادة السابقة ، بمعنى أنه إذا نشأت الإصابة مع توافر ظرف منها غلظت العقوبة ، فإن توافر ظرفان زيدت العقوبة أكثر . 

واستبقى النص حالة ما إذا نشأ عن الجريمة إصابة ثلاثة أشخاص على الأقل ، أو نشأ عنها عاهة مستديمة أو تشويه جسيم لا يحتمل زواله ، کظروف مشددة لجريمة الإصابة الخطأ ، ترفع العقوبة على نحو ما أفصح عنه النص .

8- المادة (522) من المشروع وهي مستحدثة ، وتتناول بالعقاب حالتي الإمتناع العمدي والإمتناع عن خطأ ، عن القيام بإلتزام رعاية شخص عاجز عن الحصول لنفسه على مقومات الحياة بسبب سنه أو حالته الصحية أو العقلية ، أو بسبب تقييد حريته ، سواء كان منشأ هذا الإلتزام القانون أو الإتفاق أو فعل مشروع أو غير مشروع، إذا ما ترتب على إمتناعه موت المجني عليه أو إصابته ، وتكون العقوبة في حالة الإمتناع العمدي وحسب قصد الجاني ودرجة الإصابة - إحدى العقوبات المنصوص عليها في المواد (510)، (512)، (513)، (516)، (517) من المشروع، فإن كان الإمتناع عن خطأ ، يعاقب الجاني على حسب الأحوال بعقوبة من المنصوص عليه في المادتين (520)، (521) من المشروع . 

9- المادة (526) من المشروع تعرض لحالة مجاوزة حق الدفاع الشرعي بحسن نية ، وقد اعتبر المشروع قیام حسن النية مع هذا التجاوز عذراً قانونياً يوجب على القاضي توقيع العقوبة المخففة الواردة في النص ، وكان نص المادة (251) من القانون القائم يعتبر هذا التجاوز حسن النية عذراً قضائياً يجيز تخفيف العقوبة ، وأخيراً أجاز النص للمحكمة العفو عن المتهم . 

10- خلت نصوص هذا الفصل من حكم مماثل لحكم المادة (237) من القانون القائم، وذلك إكتفاء بوجود حكم مماثل لها في شأن الجناية على النفس الوارد ، ضمن جرائم الحدود والقصاص في الكتاب الثاني من هذا المشروع . 

(مادة 19) 

يتوافر العمد إذا ارتكب الجاني السلوك الإجرامي بإرادته وعلمه وبنية إحداث نتيجته، ولا عبرة في توافر العمد بالباعث على ارتكاب الجريمة، إلا إذا نص القانون على غير ذلك.

 ويتحقق العمد أيضاً إذا توقع الجاني التيجة لسلوكه، فأقدم على ارتكابه قابلاً حدوثها. 

 

أما بالنسبة إلى الفصل الثالث الخاص بأركان الجريمة المواد (17) - (20)): فقد عالج المشروع الركن المادي للجريمة والعمد والخطأ غير العمدي، بوصفها جوهر الركن المعنوي للجريمة الذي يفترض بالإضافة إلى ذلك توافر الأهلية الجنائية للشخص. 

وبالنسبة إلى الركن المادي للجريمة فقد عبر عنه المشروع في المادة (17) التي نصت على أنه: «لا تسند الجريمة إلى شخص ما لم تكن قد وقعت نتيجة لسلوكه فعلاً وامتناعاً» . 

وهذا النص يوضح عناصر الركن المادي للجريمة، وهي السلوك الإجرامي ممثلاً في الفعل أو الامتناع، والنتيجة، وعلاقة السببية. 

ويساند القرآن الكريم في مواضع عدة شرط توافر علاقة السببية بين السلوك والنتيجة، مثل قوله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ) [النجم: 39]، وقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [المدثر: 38]، والسبب في الشريعة الإسلامية هو نشاط الجاني الذي تترتب عليه النتائج الجنائية التي تتضمن انتهاكاً للمصالح والمقاصد الشرعية، وذلك أن الشرع الإسلامي يحرص على الضروريات لحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والعرض والمال، كما يحمي الحاجات التي تيسر للناس سبل حياتهم، فالفعل الإجرامي يعد إضراراً بالمقاصد الشرعية مع حفظ الضروريات أو الحاجيات، كإزهاق الروح المسبب عن حز الرقبة، والسكر الناشئ عن الشرب عند أبي حنيفة، وقد أشار فقهاء المسلمين إلى توفر علاقة السبية وضرورتها، فإذا جرح رجل آخر عمدا وصار ذا فراش ومات يقتص منه؛ لأن الجرح سبب ظاهر لموته، فيحمل الموت عليه ما لم يوجد ما يقطعه. (تبيين الحقائق للزيلعي، جـ (6) ص (109)، ويراجع المغني لابن قدامة، ج (7) ص (683)، (684)). 

وتتوافر علاقة السببية سواء باشر الجاني الفعل والنتيجة بنفسه دون توافر عوامل أخرى، أو إذا قام بالفعل إلا أن النتيجة اشتركت في إحداثها عوامل أخرى غير فعل الجاني، ويطلق الشرعيون على الحالة الأولى تعبير المباشرة، ويسمون الحالة الثانية التسبب .

 ومثال المباشرة: أن يقتل شخص آخر بسكين فيموت على الفور أما التسبب، فمثاله: أن يطلق شخص ناراً على شخص آخر فينقل إلى المستشفى، ويخطى الطبيب في علاجه، ويموت متأثراً بجراحه وإهمال الطبيب. 

إلا أنه في الشريعة الإسلامية لا تجب عقوبة الحد أو القصاص إلا في حالة المباشرة دون التسبب فلا يعاقب المتسبب بعقوبة الحد، وإنما يعاقب بعقوبة تعزيرية، فتدخل عوامل وسيطة مؤثرة في إحداث النتيجة يعد شبهة يدرأ معها الحد أو القصاص. 

وقد حاول الفقهاء المسلمون الاحتياط ما أمكن في توقيع عقوبات الحدود فجعلوها على المباشر وحده، وقد جاء في الفتاوى الكبرى: إذا اشترك جماعة في قتل معصوم عمداً ، يجب عليهم القصاص إذا باشروا جميعاً قتله، وإن كان بعضهم باشر والبعض كان قائماً يحرس، ففي ذلك قولان يرى مالك أن القصاص على الجميع، ويرى أبو حنيفة والشافعي وأحمد أن القصاص على المباشر (الفتاوى الكبرى، ج (4)، ص (222)). كما ورد في السرقة أنه إذا دخل جماعة من اللصوص منزلاً وأخذوا متاعاً ، وحملوه على ظهر واحد، وأخرجوه من المنزل، فألقياه، فالقول ألا تقطع يد الحامل وهو قول زفر، وقيل: يقطعون جميعاً استحساناً. (البدائع جـ (7) ص (65)، (66)). غير أن الفقهاء قد راعو طبيعة بعض الجرائم التي تحتاج إلى تعاون عدد من الناس، مثل جريمة الحرابة، فنجد أن الحد يطبق على المباشر وعلى المعين كمن يحرس الطريق أثناء ارتكاب جريمة الحرابة. (المبسوط جـ (9) ص (146)). 

ومعنى ذلك أن المساهمة في الجريمة بطريق التسبب هو نشاط إجرامي مؤثم شرعاً وغاية الفرق هو القول بامتناع توقيع عقوبة الحد أو القصاص إلا على المباشر، والمباشر من يرتكب فعلاً أو أفعالاً تؤدي إلى النتيجة الإجرامية دون تدخل عوامل أخرى أو وساطة كمن يقتل شخصا بطلق ناري أو بضربات متلاحقة من عصا غليظة على رأسه، أما المتسبب فهو من يأتي فعلاً أو أفعالاً تؤدي مع غيرها من العوامل أو الوسائط إلى حصول النتيجة على نقيض جري العادة (المسئولية المدنية والجنائية للشيخ شلتوت، ص (19)، وما بعدها) ومثال ذلك من يحفر بئراً في الطريق قاصداً أن يتردى فيه إنسان فيموت، وقد سبق أن ذكرنا أن بعض الفقهاء في خصوص الحدود قد يسوون في العقوبة بين المباشر والمتسبب، كما في جريمة الحرابة، وذلك كما يبدو في التعليل لأسباب عملية تتعلق بهذه الجريمة بالذات، واعتمادها في الغالب على التضافر بين مرتكبيها (بدائع الصنائع، ج (9) ص (4226)). 

وتأكيداً لأهمية توافر علاقة السببية بين السلوك والنتيجة نصت المادة (18) من المشروع على أن تنتفي رابطة السببية بين السلوك والنتيجة، إذا توافر سبب كافي بذاته لإحداث النتيجة، وفي هذه الحالة تقتصر مسئولية الشخص على سلوكه إذا كان معاقباً عليه مستقلاً عن النتيجة ومثال انقطاع علاقة السببية ما لم لو كان فعل أحد الجناة قد وقع مع استحالة الجريمة ذاتها، كما لو جنى رجل على آخر جناية أخرجته عن حكم الحياة مثل ذبحه ثم ضرب آخر عنقه، فالأول هو القاتل، أما إذا كان جرح الأول للمجني عليه يؤدي إلى الموت لا محالة، ولكنه مع ذلك لم يخرجه عن حكم الحياة، ثم ضربه الجاني فيكون قاتلاً ؛ لأنه فوت حياة مستقرة. (المغني لابن قدامة، جـ (7) ص (684)). 

ويتفق هذا النص مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي لا تشترط أن يكون سلوك الجاني هو السبب الوحيد المحدث للنتيجة، بل يكفي أن يكون سلوك الجاني سبباً فعالاً في إحداث النتيجة وقد اختلفت في هذا الشأن نظريات القانون الوضعي، فمنها ما يأخذ بتعادل الأسباب سواء أكانت فعالة في إحداث النتيجة أو غير فعالة، ومنها ما يأخذ بنظرية السبب الأقوى، ومنها ما يأخذ بنظرية السبب الملائم أما الشريعة الإسلامية فإنها تشترط أن يفضي السلوك الإجرامي إلى النتيجة، ولو تدخلت عوامل أخرى، طالما كان العرف يعتبر السلوك - رغم هذه العوامل - مؤدياً إلى النتيجة، وبناء على ذلك فإن كفاية السبب وفقاً المجريات الأمور أو مقتضى العادة، هو معیار توافر رابطة السببية في الشريعة الإسلامية مهما توافرت عوامل أخرى ساهمت في إحداث النتيجة وقد عبرت المادة (18) من المشروع عن ذلك حين نصت على انتقاء رابطة السببية إذا توافر سبب کافي بذاته لإحداث النتيجة . 

فالكفاية صفة موضوعية في السبب تقدر وفقاً للمجرى العادي للأمور بحسب ما تعارف عليه الناس. 

وقد عني المشروع بعد ذلك ببحث جوهر الركن المعنوي للجريمة، وهو العمد أو الخطأ غير العمدي فلا يكفي إسناد الفعل مادياً إلى الشخص، وإنها يجب أن يقترن بالإثم الجنائي هذا الإثم الذي يأخذ إما صورة العمد أو صورة الخطأ غير العمدي فبدون توافر هذا الإثم لا يكون الشخص مسئولاً وقد فرق القرآن الكريم بين العمد وبين الخطأ غير العمدي، فقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ). 

والمقصود هو عدم تسوية المخطئ بالعامد، وقد ثبت هذا في القرآن الكريم بالتفرقة الواضحة بين القتل العمد وبين القتل الخطأ في العقوبة الدنيوية والأخروية، ذلك أن القاتل عمداً جزاؤه عدا القصاص جهنم خالدا فيها أبداً ، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً 

 أليهما وأما القتل الخطأ فإن العقوبة هي الكفارة والدية، ومن الأصول المستقرة في الشرع الإسلامي بوجه عام أن النية أو القصد لها أثرها في الجزاء على العمل سواء كان دنيوياً أو أخروياً وذلك طبقاً للحديث الشريف: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى»، وهو متفق عليه. 

وبالنسبة للعمد فقد نصت المادة (19) من المشروع على أن يتوافر العمد إذا ارتكب الجاني السلوك الإجرامي بإرادته وعلمه وبنية إحداث نتيجته، ولا عبرة في توافر العمد بالباعث على ارتكاب الجريمة، إلا إذا نص القانون على غير ذلك. 

ويتحقق العمد أيضاً إذا توقع الجاني النتيجة لسلوكه فأقدم على ارتكابه قابلاً حدوثها. 

وقد فرقت الشريعة الإسلامية بين العمد والباعث، أي بين قصد العدوان (العمد)، وبين الدوافع التي دفعت الجاني للعدوان، ولم تجعل الشريعة للباعث على ارتكابه الجريمة أي تأثير على تكوين الجريمة أو على العقوبة المقررة لها، على أن للباعث من الوجهة العملية أثراً على عقوبات التعازير دون غيرها من العقوبات الحدية أو عقوبة القصاص، وذلك أن عقوبة الحدود أو القصاص قدرها الشارع، ولا مجال لزيادة عنها، أو التخفيض من قدرها عند ثبوت الجريمة أياً كان الباعث على ارتكابها، ويلاحظ أن جرائم الحدود والقصاص التي لا أثر للباعث عليها في تقدير العقوبة، تشمل الجرائم العادية أي التي تحدث في كل مجتمع، والتي تنتهك أهم مقاصد الشارع، وهي حفظ الدين والنفس والمال كما يستند ذلك إلى مبدأ أصيل في الشرع الإسلامي، وهو تساوي النفوس في حرمتها، ووجوب حفظها من العدوان الذي لا يبرره سوى الحق وحده، لا ما يتصوره بعض الناس مبرراً لارتكاب العدوان على النفس أو المال. 

وقد عني المشروع في تعريف العمد بأن يتسع للعمد الاحتمالي، حيث يتوقع الجاني النتيجة لسلوكه فيقدم على ارتكابه قابلاً حدوثها وهذا العمد الاحتمالي يختلف عن شبه العمد، ومعناه: إتيان السلوك دون أن تتجه نية الجاني إلى إحداث النتيجة (دون أن يقبل حدوثها)، مثال ذلك: إلى الضرب المفضي إلى الموت، تعريض الأطفال للخطر المفضي إلى الموت وفي صورة شبه العمد لا تكون حيال عمد محض ولا خطأ محض، وإنما يوجد جمع بين العمد والخطا، إذ يكون فيه الضرب متعمداً والوفاة غير متعمدة وقد أوضح بعض فقهاء المسلمين ذلك، كما ورد في المغني لابن قدامة في جريمة القتل شبه العمد: کا لو ضربه بها يقتل غالباً ، إما بقصد العدوان عليه، أو بقصد التأديب كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير والوكز باليد، ولكنه مات - فإنه شبه عمد ؛ لأنه قصد الضرب دون القتل (ج (7) ص (650))، ويراجع تبيين الحقائق (جـ (6) ص (100)، (101)، والمجموع جـ (17) ص (331)). 

جرائم الاعتداء على ما دون النفس 

قام التشريع الإسلامي في جانب العقوبات على أساس المساواة بين الجريمة والعقوبة، وأساس العقوبات الإسلامية هو القصاص بالتساوي بين الإثم المركب والعقوبة الرادعة ومراعاة التماثل، وأن تكون العقوبة من جنس الجريمة ما أمكن، بحيث إذا لم يتمكن المماثلة يسقط القصاص، وينتقل الحكم إلى عقاب آخر، وبذلك تتحقق الرحمة بالناس وتسود العدالة... حياتها على أساس قوي من الهدوء والاطمئنان، وهذه هي الحياة الحقيقية الكاملة التي لا فساد فيها ولا بغي ولا عدوان. 

 

قال الله تعالى: ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) (سورة المائدة، الآية: 45)، وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) (سورة البقرة الآيتان: 178، 179). 

وتدل هذه الآيات الكريمة على أن العقوبة في جريمة قتل النفس عمدا هي القصاص، كما تدل الآية الأولى على أن العقوبة في جريمة الاعتداء على ما دون النفس عمد هي القصاص؛ إذ صرحت بأن العين بالعين، والأنف بالأنف، والسن بالسن، والجروح قصاص. والسنة النبوية الشريفة مليئة بأحاديث القصاص في النفس، وفيما دونها في حالات العمد، ففي صحيح مسلم عن أنس أن أخت الربيع - أم حارثة - جرحت إنسانا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القصاص القصاص». فقالت أم ربیع: یا رسول الله، أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «سبحان الله يا أم الربيع! القصاص كتاب الله». قالت: لا، والله لا يقتص منها أبدا. قال: فما زالت حتى قبلوا الدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره». والمجروح في هذا الحديث جارية، والجرح کسر ثنيتها. 

(الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، مطبعة: دار الكاتب العربي 1387/ 1967 الجزء 

السادس ص (201)). 

وغاية المشرع الإسلامي من هذا التشريع تحقيق مصالح الناس، وتوفير العدالة والاطمئنان والحياة الكريمة للناس أفرادا وجماعات، ومن ثم جاء الحكم عاماً وشاملاً، يعم الحاكم والمحكوم، ويقيد الراعي کا يقيد الرعية، فلا يطبق على الضعفاء ويفلت منه الأقوياء، بل الكل أمامه سواء؛ إذ شفع بعض الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حد سرقة، فقام في الناس خطيبا، وقال: «إنها أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». . 

وإذا كانت الشرائع الوضعية تذهب إلى اعتبار الجناية الواقعة على الشخص جناية على المجتمع، باعتبارها اعتداء على الأمن الاجتماعي العام، وخرقا لناموس الحياة العامة القائمة على الاطمئنان والهدوء والاستقرار، وغلبت تلك الشرائع في ذلك حق المجتمع على حق الفرد، وجعلت حق الفرد مقصوراً على الادعاء بالحقوق المدنية، إلا أن الإسلام مع ملاحظته جانب المجتمع باعتبار أن الاعتداء على حياة شخص اعتداء على حق الحياة المقرر لكل شخص في هذا الشخص المعتدى عليه، كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ... (سورة المائدة، الآية: ۳۲). وإحياؤها بالقصاص ممن اعتدى عليها. 

الإسلام - مع هذا - لاحظ الجانب الشخصي للمجني عليه، فجعل له حق المطالبة بالقصاص، كما قال تعالى: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (33) (سورة الإسراء، الآية: ۳۳). والسلطان هو حق القصاص، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفتدي وإما أن يقتل». 

وبذلك حقق الإسلام القضاء على عوامل الغيظ والحقد في نفوس المجني عليه وأهله، وهدأ من ثورتهم ونزوعهم إلى إشباع غريزة الانتقام بالثأر. 

ومن المبادئ المقررة في الشريعة الإسلامية أنه لا تذهب جناية على النفس أو ما دونها بغير عقوبة من قصاص أو دية، إلا أن يكون عفو بدون مقابل من له الحق في ذلك شرعاً، حتى لقد قررت الشريعة الإسلامية حق المجني عليهم في الدية عند عدم إمكان الوصول إليها من الجاني أو عاقلته - في بيت المال (الخزانة العامة)؛ لتهدأ نفوسهم وتسكن ثائرتهم، وذلك على التفصيل الوارد في التعليق على المادة (270) من المشروع. 

ومن المسلم أن تطبيق شريعة القصاص يقلل من جرائم الاعتداء على النفس وما دونها، ومع ذلك لم تجعل الشريعة إنزال هذه العقوبة بالجاني المعتدي أمراً لازماً محتماً؛ تحقيقاً لهذا الهدف المقصود للشارع، بل الأمر في ذلك متروك إلى ولي القصاص صاحب الحق في المطالبة به فهو حقه، وله العفو عنه والصلح فيه؛ تحقيقاً لما قد تقتضيه الصلات والروابط بين الناس، وإذا عفا المعتدى عليه في جريمة الاعتداء على ما دون النفس عن القصاص - ثبت حقه في الدية، إلا إذا كان العفو مطلقا عن القصاص وعن الدية، بشرط أن يكون صريحا في الإبراء منها. وقد يبلغ المستحق فيها مقدار الدية الكاملة المحددة شرعا في النفس، وفي كل الأحوال هي حق للمجني عليه، ولا تستحق الدولة فيها شيئا؛ إذ هي مقررة شرعا؛ تقديرا للنفس الإنسانية، بدلاً من عقوبة الغرامة التي تقضي بها أحكام القانون الوضعي وتئول إلى الدولة، ومع ذلك فإن حق الدولة في مثل هذه الحالة باق، بحيث إذا ما رأى القاضي أن هناك اعتداء على حق المجتمع، فإنه يقضي علاوة على هذا بالتعزير، وقد يكون ذلك بالغرامة أحياناً. 

وقد تناول المشروع كذلك جرائم الإصابات الخطأ، إذا ترتب عليها قطع طرف أو عضو أو فقد منفعة، إلى غير ذلك مما هو منصوص عليه في المادة (227)، وقرر أن كل ذلك يستحق عنه الدية المقررة بمقتضى هذا القانون، وفي حالات الخطأ غير الواردة في البند (ب) من المادة (267)، وكذلك في الاعتداء الواقع من المجنون أو من به عاهة في العقل أو من غير البالغ - تتحمل العاقلة الدية أو الجزء المقدر منها. 

وقد أخذ المشروع بأيسر الآراء والمذاهب في الفقه الإسلامي في تقسيم الجرائم التي تستوجب الحكم بعقوبة القصاص، وفي الضوابط والشروط التي تجب مراعاتها عند تطبيق هذه العقوبة كضوابط للتطبيق، والتي تتضمن تحقق الماثلة الكاملة بين الجريمة والعقوبة؛ لأن هذه المماثلة هي جوهر القصاص، وعند ملاحظتها في التطبيق يضيق مجال العقوبة، ويتحقق العدل الكامل بقدر الإمكان، ولذلك أخرج المشروع من بين الجرائم التي تستوجب القصاص الشجاج فيما عدا الموضحة، كما أخرج جروح الجسد؛ إذ لا تتحقق فيها المماثلة بين الجريمة والعقوبة غالباً؛ لاختلاف الأشخاص الأحياء، وكذلك أخرج حالات الاعتداء بكسر العظم (إلا في السن)؛ لعدم إمكان المماثلة غالباً. أما في السن فقد ورد النص القرآني قاطعاً. ولم يأخذ المشروع بجريان القصاص في حالات إذهاب الحواس والمنافع مع بقاء أعيانها إلا إذا أفقد الجاني الحاسة أو المنفعة إفقاداً كاملاً، وأمكن استيفاء المثل بواسطة أهل الخبرة من غير أية مجاوزة. أما في حالات الفقد الجزئي فقد لا يؤمن الحيف، والشارع أحرص على المماثلة بأكثر من حرصه على توقيع العقوبة. 

ونظم المشروع أحكام الدية، وبين ما يستحق منها في كل حالة، وهو محدد شرعاً في أكثر الحالات الأخرى، وأجاز في الحالات الأخرى أن يقدر القاضي الواجب المستحق من الدية، إذا لم يكن هناك تحديد أو تقدير من الشارع. 

وفيما يلي التعليق على أحكام المشروع. 

الفصل الأول 

الأحكام العامة 

مادة (227): 

الجرائم التي تسري في شأنها أحكام المشروع 

تسري أحكام هذا القانون في شأن جرائم الاعتداء على ما دون النفس التي تلحق بالمجني عليه أي أي من أنواع الإيذاء الآتية: 

(أ) قطع طرف أو ما في حكمه. 

(ب) فقد حاسة أو منفعة من منافع الأطراف أو ما في حكمها فقداً كلياً، أو فقداً جزئياً، ولو مع بقاء أعيانها. 

(ج) الشجاج وهي جروح الوجه والرأس. 

(د) الجراح وهي جروح الجسد في غير الرأس والوجه. 

الإيضاح 

بينت هذه المادة الجرائم التي تسري في شأنها أحكام المشروع، وهي جرائم الاعتداء على ما دون النفس التي تلحق بالمجني عليه أي أذى من أنواع الإيذاء الآتية: 

(1) قطع طرف أو ما في حكمه. 

(ب) فقد حاسة أو منفعة من منافع الأطراف، أو ما في حكمها فقداً كلياً أو فقداً جزئياً مع بقاء أعيانها. 

(ج) الشجاج والجراح. 

والمقصود بجرائم الاعتداء على ما دون النفس الجرائم التي تلحق أذى بجسم الفرد أو حواسه أو منافع أطرافه وما في حكمها، ولا يصل هذا الأذى إلى حد موت المجني عليه؛ لأنه إذا ترتب على الأذى موت المجني عليه صارت الجريمة قتلاً، أي: اعتداء على النفس ذاتها بإزهاقها، وليس اعتداء على ما دون النفس، وقد يكون قتلاً عمداً أو شبه عمد أو خطأ. 

وجرائم الاعتداء على ما دون النفس تتعدد وتتنوع بحسب ما تلحقه من أذى بجسم الإنسان؛ إذ يتفاوت هذا الأذى تفاوتاً كبيراً، سواء من حيث النوع أو من حيث الدرجة، وذلك بحسب مدى الاعتداء ووسيلته ومكانه وأثره في الإنسان. على أنه يتبين من عرض الفقهاء لهذه الجرائم أنه يمكن ردها إلى أربعة أقسام رئيسية: 

القسم الأول: قطع الأطراف وما في حكمها: 

وذلك مثل: اليد، والرجل، والأصبع، والعين، والأنف، والأذن، والشفة، والجفن، والأسنان، واللسان، والثدي، والذكر، والأنثيين. 

القسم الثاني : تفويت منافع الأطراف وما في حكمها مع بقاء أعيانها: 

ويشمل ذلك السمع والبصر والشم والذوق والكلام والجماع والإيلاد والحركة وتلحق بذلك إذهاب العقل. 

القسم الثالث: الشجاج: 

وهو اصطلاح يطلق في اللغة، وفي الفقه عند الجمهور، على جروح الوجه والرأس خاصة، وبين الفقهاء خلافات يسيرة في تحديدها وفي مسميات بعضها. 

ففي المذهب الحنفي تشمل الشجاج ما يأتي: 

1- الحارصة: وهي التي تشق الجلد ولا يظهر منها الدم. 

2 - الدامعة: وهي التي يظهر منها الدم ولا يسيل كالدمع في العين. 

3- الدامية: وهي التي يسيل منها الدم. 

4 - الباضعة: وهي التي تبضع اللحم أي تقطعه. 

5 - المتلاحمة: وهي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة فيه. 

6 - السمحاق: وهي التي تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة بين اللحم والعظم (وسميت سمحاقاً؛ لأن هذه الجلدة تسمى كذلك). 

7 - الموضحة: وهي التي تقطع الجلدة المسماة بالسمحاق، وتوضح العظم - أي: 

تظهره - ولو بقدر مغرز الإبرة، ولا تؤثر في العظم. 

8- الهاشمة: وهي التي تهشم العظم، أي: تكسره. 

9 - المنقلة: وهي التي تنقل العظم بعد كسره، أي: تحوله عن مكانه . 

10- الآمة: ويطلق عليها أيضا المأمومة، وهي التي تصل إلى أم الدماغ، وهي جلدة رقيقة تحت العظم وفوق المخ. 

11 - الدامغة: وهي التي تخرق تلك الجلدة وتصل إلى الدماغ. 

ويقصر الحنفية الشجاج في مواضع العظم من الرأس والوجه، مثل الجبهة والوجنتين والصدغين والذقن دون الخدين. 

والشجاج - عند الإمامين الشافعي وأحمد - عشرة؛ حيث يحذفان الثانية من المذهب 

الحنفي. 

وهي في مذهب مالك: الدامية، والحارصة، والسمحاق، وجميعها في الجلد على درجات، ثم الباضعة، فالمتلاحمة، فالملطأة، فالموضحة، وجميعها في اللحم على درجات، ثم المنقلة، فالأمة (المأمومة) وجميعها في العظم على درجات، ثم الدامغة، وقيل: إنها مرادفة للمأمومة. 

هذه هي الجرائم التي تسري في شأنها أحكام المشروع، وبذلك فإن هذا المشروع لا يسري في شأن جرائم الاعتداء على الإنسان التي لا تلحق به أذى من أنواع الإيذاء سالفة الذكر، كمجرد الضرب والوكز، وأنه وإن كان الإمام مالك يرى القصاص في ضربة السوط بالذات، ويرى ابن القيم القصاص في اللطم والضرب - إلا أن جمهور الفقهاء لا يرون القصاص أو الدية في مثل هذه الجرائم، طالما أنها لا تحدث بالإنسان أي أذى من أنواع الإيذاء سالفة الذكر التي تترك أثرا بجسم المجني عليه، وبرأي الجمهور أخذ المشروع؛ إذ تتعذر المائلة في مجرد الضرب والوكز، فضلا عن تفاهة مثل هذه الجرائم، مما يحسن أن يترك أمرها للتعزير وحده، المنصوص عليه في قانون العقوبات. 

هذا ويلاحظ أن المادة الأولى لم تتصد لتحديد حالات الإيذاء التي تقع تحت كل نوع من الأنواع التي بينتها هذه المادة؛ إذ سيرد هذا التحديد في موضعه من نصوص المشروع، وذلك بحسب ما يجب فيه القصاص، وما تجب فيه الدية، وإنما تجدر الإشارة إلى أن المادة الأولى في تعريفها للشجاج لم تتقيد بوجهة نظر الأحناف في وجوب أن تكون هذه الشجاج في مواضع العظم. 

المراجع: 

المذهب الحنفي: 

- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، مطبعة: الجمالية 1328 / 1910الجزء السابع ص (296) إلى (299). 

المذهب المالكي: البهجة في شرح تحفة الحكام للتسولي، مطبعة: المعاهد 1353 هـ الجزء الثاني (382) إلى (384). 

المذهب الشافعي: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين الرملي، والحاشيتان، مطبعة: مصطفى الحلبي 1357/ 1938، الجزء السابع ص (268) إلى (272). 

المذهب الحنبلي: المغني لابن قدامة على مختصر الخرقي، مطبعة: الإمام، الجزء الثامن ص (298) إلى (306). 

مادة (228): 

عقوبات جرائم الاعتداء على ما دون النفس 

1- يعاقب على الجرائم المنصوص عليها في المادة السابقة بالقصاص أو بالدية، وفقاً لأحكام هذا القانون. . 

2- وفي الحالات التي لا يعاقب الجاني فيها بالقصاص لعدم توافر الشروط المشار إليها في المادة (234) من هذا القانون، أو التي يسقط فيها القصاص - تطبق العقوبات التعزيرية الواردة في هذا القانون أو أي قانون آخر، إذا كون الفعل جريمة معاقباً عليها قانوناً، وثبت للقاضي وقوعها بأي دليل أو قرينة، وذلك مع عدم الإخلال بعقوبة الدية إن كان لها محل، وفقاً لأحكام الديات المنصوص عليها في هذا الباب. 

الإيضاح 

بينت هذه المادة العقوبتين الأصليتين اللتين قررتهما الشريعة لجرائم الاعتداء على ما دون النفس، وهما القصاص أو الدية، والجرائم الموجبة للقصاص يتعين أن تتوافر فيها شروط معينة، أشارت إليها المادة (234) من المشروع، كما أن هذه الجرائم لا تقوم إلا بالنسبة إلى أنواع محددة من أنواع الإيذاء حددتها المواد من (238) إلى (240) منه، أما ما عدا ذلك من أنواع الإيذاء التي تسري في شأنها أحكام المشروع - فإنها توجب الدية دون القصاص وفقاً لأحكام الديات المبينة في الفصل الثالث من هذا الباب. 

وقد رأى المشروع أنه في الحالات التي توقع فيها عقوبة القصاص، فلا يكون ثمة ما يدعو إلى الجمع بينها وبين العقوبة التعزيرية؛ إذ تكفي عقوبة القصاص، فهي فعالة ورادعة، على أنه قد يتخلف أحد الشروط المقررة لتوقيعها، أو قد يعفو المجني عليه عن القصاص، كما أن بعض جرائم الاعتداء على ما دون النفس لا يعاقب عليها المشروع بالقصاص أصلاً، كالشجاج التي لا قصاص فيها، وكجروح الجسد في غير الرأس والوجه، وكذلك الجرائم التي تقع بطريق الخطأ، ففي هذه الفروض جميعاً يئول الأمر إلى الدية، بل إن المجني عليه قد يعفو عن الدية أيضاً، فيفلت الجاني من عقوبتي القصاص والدية. 

إلا أن أحكام الشريعة الغراء فيما ذهب إليه فريق من الفقهاء، لا تمنع من توقيع عقوبات تعزيرية عند ثبوت الجريمة وامتناع توقيع عقوبة القصاص؛ إذ إنه وإن كان الأصل في مجال التعزير أن يكون بالنسبة إلى الجرائم التي ليس فيها عقوبات مقدرة، إلا أنه بالنسبة إلى الجرائم التي أوجبت فيها الشريعة عقوبة مقدرة، وجعلت الحق فيها للمجني عليه؛ لغلبة حق الفرد فيها، فإنه إذا عفا المجني عليه مثلا عن العقوبة المقدرة، فلا يكون ثمة ما يمنع من أن يتدخل ولي الأمر، ويقدر عقوبة تعزيرية في هذه الحالة؛ لأن الجريمة وإن كانت متعلقة بحق الفرد، إلا أنها أيضا تتضمن اعتداء على أمن الجماعة ونظامها، والواقع أن كل جريمة تمس مصلحة الجماعة إنها تمس في النهاية مصلحة الأفراد، وكل جريمة تمس مصلحة الأفراد تمس في النهاية مصلحة الجماعة، وفي هذا يقول أحد الفقهاء: «ما من حق الآدمي إلا ولله فيه حق؛ إذ من حق الله على كل مكلف ترك أذاه لغيره». (شرح الزرقاني على مختصر خليل في مذهب مالك مطبعة: محمد مصطفى 1307 هـ الجزء الثامن ص (115)). فإذا اعتبرت الشريعة بعض الجرائم ماسة بمصلحة الجماعة، فذلك لأنها تمس مصلحة الجماعة أكثر مما تمس مصلحة الفرد، وإذا اعتبرت بعض الجرائم ماسة بمصلحة الأفراد، فذلك لأنها تمس مصلحة الأفراد أكثر مما تمس مصلحة الجماعة، فإذا تنازل المجني عليه عن الحق في القصاص أو الدية، كان للجماعة أن تعاقب الجاني بالعقوبة الملائمة لظروف الجريمة والمجرم، وإذا سقط القصاص بمثل العفو أو لم يكن ممكناً لفقد شرط من شروطه، فليس ثمة ما يمنع من تعزير الجاني بجانب الدية. 

وعلى هذا فإن جعل استيفاء بعض العقوبات حقاً للأفراد، لا يسلب الجماعة حقها في فرض عقوبات أخرى على هذه الجرائم. (العقوبة لأبي زهرة، مطبعة: مخيمر ص (84) إلى (91) - التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة 1949 م، الجزء الأول ص (125) و(245)، وما بعدها - التعزير في الشريعة الإسلامية لعبد العزيز عامر 1955 م، ص (135) إلى (141)). 

وبناء على ما تقدم، فقد نصت الفقرة الثانية من المادة (228) على أنه: في الحالات التي لا يعاقب الجاني فيها بالقصاص لعدم توافر الشروط المشار إليها في المادة (234) من هذا المشروع، أو التي يسقط فيها القصاص - تطبق العقوبات التعزيرية الواردة في هذا القانون أو أي قانون آخر، إذا كون الفعل جريمة معاقبا عليها قانوناً، وثبت للقاضي وقوعها بأي دليل أو قرينة، وذلك مع عدم الإخلال بعقوبة الدية إن كان لها محل، وفقاً لأحكام الديات المنصوص عليها في هذا القانون.  

مادة (۲۳۳): 

1- إثبات جرائم الاعتداء على ما دون النفس الموجبة للقصاص يكون في مجلس القضاء بإحدى الوسيلتين الآتيتين: 

الأولى: إقرار الجاني قولا أو كتابة ولو مرة واحدة، ويشترط أن يكون الجاني بالغاً، عاقلاً، مختاراً وقت الإقرار، غير متهم في إقراره، وأن يكون إقراره صريحاً واضحاً منصباً على ارتكاب الجريمة بشروطها، ولا يقبل الرجوع عن الإقرار. 

الثانية: شهادة رجلين بالغين عاقلين عدلين مختارين غير متهمين في شهادتهما، مبصرين، قادرين على التعبير قولاً أو كتابة، وذلك عند تحمل الشهادة وعند أدائها. 

وتثبت عند الضرورة بشهادة رجل وامرأتين، أو أربع نسوة. ويفترض في الشاهد العدالة ما لم يقم الدليل على غير ذلك قبل أداء الشهادة . 

ويشترط أن تكون الشهادة بالمعاينة، لا نقلاً عن قول الغير، وصريحة في الدلالة على وقوع الجريمة بشروطها، ولا يعد المجني عليه شاهدا إلا إذا شهد لغيره. 

2- أما باقي الجرائم فيكون إثباتها وفق أحكام قانون الإجراءات الجنائية.

الإيضاح 

سار المشروع في قواعد الإثبات على النهج الذي سار عليه مشروع الجناية على النفس، ففرقت هذه المادة بين كيفية إثبات جرائم الاعتداء على ما دون النفس الموجبة للقصاص، وبين كيفية إثبات بقية الجرائم، وذلك بالنظر لخطورة الجرائم الموجبة للقصاص، واستقلالها بوسائل إثبات محددة، وأول هذه الوسائل الإقرار ولو مرة واحدة، ويشترط فيه أن يكون صادرا من عاقل، بالغ مختار وقت الإقرار، غير متهم في إقراره، فلا عبرة بإقرار المجنون، والصبي، والمكره، والمتهم في إقراره، وأن يكون صريحاً واضحاً، منصباً على ارتكاب الجريمة بشروطها. وقد اشترطت المادة أن يكون الإقرار في مجلس القضاء لما يكفله ذلك من ضمانات للمتهم، فضلا عن أن المحكمة التي تنظر النزاع أقدر على مراعاة شروط الإقرار وضوابطه، ولا يقبل الرجوع عن هذا الإقرار، أخذاً بما اتفق عليه الفقهاء، ولأن الحق هنا حق العبد، وهو مما لا يجوز الرجوع فيه (بدائع الصنائع جـ- (7) ص (233)). 

کا تثبت جرائم الاعتداء سالفة الذكر بالشهادة في مجلس القضاء أيضاً (حاشية قرة عيون الأخبار تكملة رد المحتار لمحمد علاء الدين بن عابدين الحنفي، مطبعة مصطفى الحلبي 1386/ 1966 ، الجزء السابع ص (62) وما بعدها) من رجلين بالغين، عاقلين، مختارين، مبصرين، ناطقين، غير متهمين في شهادتها. وتقبل شهادة الأخرس بكتابته متى كان يعرف الكتابة، وإذا وقعت الجريمة في مكان غير مطروق للرجال، فيثبت الاعتداء بشهادة رجل وامرأتين، أو بشهادة أربع نسوة، ولا يعد المجني عليه شاهداً إلا إذا شهد لغيره، ولا تقبل شهادة الصغير، وغير العاقل، والمكره؛ لعدم الوثوق بشهادتهم، كما أنه إذا كان الشاهد متهما في شهادته لأي سبب کالعداوة مثلاً - لا تقبل شهادته شرعاً. والمقصود بالعدل هو أن يكون الشاهد ممن يجتنبون الكبائر ويتقون في الغالب الصغائر، ظاهر المروءة والستر بين الناس (المرجع السابق ص (77) و (81)، الأم للشافعي، المطبعة الأميرية 1322هـ الجزء الخامس ص (356)). 

وافترض المشروع في الشاهد العدالة، ما لم يثبت غير ذلك. 

ولا يعزب عن البال أن للمحكمة دائماً حتى في جرائم القصاص أن تتخذ من الإجراءات ما تراه لازماً للوصول إلى الحقيقة؛ وفقا لأحكام قانون الإجراءات الجنائية، کالانتقال للمعاينة والاستعانة بالخبرة، وذلك بحكم الإحالة العامة إلى قانون الإجراءات الجنائية الواردة في المادة (233) من المشروع، مع التقيد بطبيعة الحال بوسيلة الإثبات التي رسمها المشروع بالنسبة إلى جرائم الاعتداء الموجبة للقصاص. 

وقد اشترطت المادة هذه في الشهادة أن تكون بما عاينه الشاهد لا نقلاً عن الغير، وأن تكون صريحة في الدلالة على وقوع الجريمة بشروطها. 

وأما باقي جرائم الاعتداء على ما دون النفس التي لا قصاص فيها، فقد نص في المادة على أن يكون إثباتها وفق أحكام قانون الإجراءات الجنائية. 

الفصل الثاني 

شروط القصاص 

مادة (234): 

1- كل من أتى عمداً فعلاً من أفعال الاعتداء على ما دون النفس قاصداً من ذلك إيذاء المجني عليه بأي أذى من أنواع الإيذاء التي يجرى فيها القصاص طبقاً لأحكام المواد من (238) إلى (240) - يعاقب بالقصاص متى وقع هذا الأذى بالفعل، وتوافرت الشروط المبينة في المادتين (233)، (235). 

2- ويدخل في الاعتداء الموجب للقصاص: 

(أ) امتناع الجاني بقصد الإيذاء عن القيام بواجبه المكلف به بناء على أحكام الشريعة أو القانون أو العقد، إذا كان من شأن هذا الامتناع أن يؤدي إلى إلحاق أذى بالمجني عليه مما يجري فيه القصاص، ووقع هذا الأذى نتيجة الامتناع. 

(ب) إكراه الجاني غيره على الاعتداء إكراها يجعله يخشى على النفس أو العرض، إذا وقع الاعتداء تحت تأثير هذا الإكراه. 

(ج) إكراه الغير على الإقرار على نفسه بغير الحق بجريمة حكم عليه فيها بالقصاص بناء على هذا الإقرار وحده، ونفذ الحكم. 

(د) شهادة الزور إذا أدت وحدها إلى الحكم على آخر بالقصاص ونفذ الحكم. 

الإيضاح 

حددت هذه المادة أركان جريمة الاعتداء على ما دون النفس الموجبة للقصاص وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وما حداً إلى النص على هذه الأركان هو الرغبة في تحديد الجريمة تحديداً منضبطاً، حتى لا يثور خلاف في التطبيق حول أركان هذه الجريمة، خاصة فيما يتعلق بإمكان وقوع الجريمة بطريق الترك، حيث سبقت الشريعة الإسلامية الفقه الجنائي الوضعي في هذا الشأن بعد أن ظل هذا الفقه مختلفاً متردداً في شأنها أمداً طويلاً، كذلك فإن المشروع إنها يستقي أحكامه من الشريعة الإسلامية التي ظلت مهجورة أمداً طويلاً في المجال الجنائي، وهذا يقتضي بعض التفصيل في النصوص المستمدة من الشريعة كلما اقتضى التحديد والإيضاح ذلك، حتى يتسنى للقاضي تطبيقها في يسر، وهو أمر لازم في مرحلة الانتقال من تطبيق قوانين وضعية إلى قوانين مستقاة من مصدر له العديد من مقوماته وأحكامه المستقلة، وهو الفقه الإسلامي. 

والركن المادي في جريمة الاعتداء على ما دون النفس الموجبة للقصاص - يتمثل بوجه خاص في فعل الإيذاء، ووسائل الإيذاء متعددة ولا يتسنى حصرها سلفاً، ومن هذه الوسائل ما يكون مؤذياً للبدن بطبيعته، كالضرب أياً كانت وسيلته، سواء باليد، أو بالعصا، أو بأداة جارحة، أو بالسلاح الناري متى ترتب عليه إيذاء الإنسان في جسمه أو حواسه أو منافع أعضائه، وقد تتمثل وسيلة الإيذاء في إعطاء المجني عليه مادة معينة يترتب عليها الإضرار به، أو إيجاده في ظروف تلحق به أذى جسيماً، کتركه مدة طويلة في جو شديد البرودة أو شديد الحرارة، أو الجمع بينه وبين حيوان يؤذيه، مما قد يسبب بتر عضو من أعضائه أو إطلاق صوت شديد في أذنه للذهاب بسمعه، أو تعریض عينيه لمادة كيميائية للذهاب ببصره، وقد تكون وسيلة الإيذاء غير مادية، كإلقاء نبأ أليم على شخص متهالك فيصيبه من ذلك أدى موجب للقصاص، أو الشهادة كذبا على رجل بالسرقة مما يترتب عليه قطع يده (المغني ج (8) ص (420) و (421)). والقاعدة أن ما دون النفس کالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص، فكان كالنفس في وجوب القصاص، ويشترط بطبيعة الحال في الجريمة بالترك الموجبة للقصاص أن يمتنع الجاني بقصد الإيذاء عن القيام بواجبه المكلف به - بناء على أحكام الشريعة، أو القانون، أو العقد - إذا كان من شأن هذا الامتناع أن يؤدي إلى إلحاق أذى بالمجني عليه مما يجري فيه القصاص، ووقع هذا الأذى نتيجة الامتناع. 

والمقصود بالواجب الشرعي: هو الواجب الذي يفرضه الشرع على سبيل الإلزام والوجوب، ويأمر به ويطلبه من المسلم، ولو كان من أعمال الإنسانية أو المروءة، كما يشير إلى ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيها رواه أبو سعيد الخدري: «من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له». ويقول الراوي: ثم أخذ يعد أصناف المال حتى ظننا أن ليس لنا حق في فضل أموالنا، وكان ذلك في سفر. وأن التعاون الذي أوجبه الإسلام ليوجب تلك الأفعال التي يكون فيها إنقاذ للبشرية أو دفع الأذى عنها، فيعتبر من الامتناع عن القيام بالواجب الشرعي أن يحبس الشخص الطعام أو الشراب عمن يحتاجه، فيصاب بأذی موجب للقصاص. 

ويتعين بطبيعة الحال أن تتوافر رابطة السببية بين فعل الجاني أو امتناعه، وبين وقوع الأذى بالمجني عليه، فإذا لم يكن فعل الجاني هو السبب في وقوع الأذى کما لو انقطعت السببية بخطأ المجني عليه أو خطأ الغير - فلا تكتمل الجريمة. 

على أن الأذى الذي يترتب على فعل الجاني أو امتناعه - ليس مطلقاً، بل محدداً بأنواع معينة من الإيذاء التي التقى الفقه بوجه عام على وجوب القصاص فيها متى توافرت الشروط الأخرى المبينة في المادتين (233)، (235)، وذلك مثل قلع العين أو السن، أو قطع الأطراف وما في حكمها التي يجري فيها القصاص، وقد حددت المواد من (238) إلى (240) أنواع الإيذاء التي يجري فيها القصاص مما سيلي إيضاحه. 

والجريمة الموجبة للقصاص تتطلب توافر القصد الجنائي لدى الجاني، وهذا القصد هو الذي يمثل الركن المعنوي في الجريمة، فالقصاص لا يكون إلا في العمد، ولم يكتف المشروع الراهن بمجرد تعمد الفعل، وإنما اشترط أن يتجه قصد الجاني إلى إلحاق أي أذى من أنواع الإيذاء - التي يجري فيها القصاص طبقا لأحكام المواد من (238) إلى (240) - بجسم المجني عليه، أو حواسه، أو منافعه، ولذلك فإنه لا يكفي لقيام الجريمة الموجبة للقصاص مجرد العدوان دون قصد إلحاق أذى بالجسم، أو الحواس، أو المنافع، كمجرد الضرب الذي ليس من شأنه أن يخلف أثراً بجسم المجني عليه، أو حواسه، أو منافع أعضائه . 

ولا يخفى أن وجوب توافر قصد إلحاق الأذى على النحو سالف الذكر - وهو ما يطلق عليه العمد المحض - أمر لازم في جريمة خطيرة يترتب عليها القصاص من المجني عليه، فمن لطم شخصاً مثلا فذهب سمعه أو بصره بسبب هذا اللطم - لا يسوغ أن يقتص من سمعه أو بصره، طالما أنه لم يكن يقصد إلا الضرب، خاصة وأن الضرب على هذا النحو ليس من شأنه - بحكم المألوف من الأمور - أن يترتب عليه فقد السمع أو البصر، وإذا كان القصاص ممتنعاً في مثل هذه الصورة - وهي ما يطلق عليها عمد الخطأ، أو شبه العمد - فإن للمجني عليه أن يقتضي دية عن الحاسة التي فقدها، وهذا بخلاف ما لو قصد الجاني قطع إبهام المجني عليه فقطع سبابته، فهنا يجب القصاص لاتجاه قصد الجاني إلى إلحاق أدى بالمجني عليه، مما يجري فيه القصاص (تبيين الحقائق ج(6) ص (101)، المغني جـ (8) ص (322)). 

والمشرع إذ يستلزم هذا القصد إنما يتفق مع مذهبي الشافعي وأحمد، اللذين يشترطان - بوجه عام - أن تكون الوسيلة التي استعملها الجاني في الجريمة مما يغلب عليها أن تفضي إلى النتيجة التي حدثت، على غرار منهجهما في القتل العمد الموجب للقصاص (الأم للشافعي المطبعة الأميرية 1324 هـ، والجزء السادس ص (6)، المغني ج (8) ص (218))؛ إذ إن مثل هذه الوسيلة هي التي تقطع في الأغلب على اتجاه قصد الجاني إلى إيذاء المجني عليه إيذاء خطيراً ترتبت عليه النتيجة الخطيرة الموجبة للقصاص، ومن المعلوم أن من أهم ما يثبت القصد الجنائي هو الوسيلة التي لجأ إليها الجاني في العدوان. 

هذا وتجدر الإشارة بوجه خاص إلى أنه إذا ثبت أن الجاني كان يقصد القتل، ولكن القتل لم يتم لسبب لا دخل للجاني فيه، وتخلف عن الاعتداء إيذاء المجني عليه إيذاءً موجباً للقصاص - فإنه وإن كانت هذه الصورة تكون شروعاً في قتل، إلا أنها تشكل في الآن ذاته جريمة موجبة للقصاص، ومن ثم ينبغي توقيع عقوبة القصاص إذا طلبها المجني عليه باعتبار أنها العقوبة المحددة شرعاً، والتي يتعين توقيعها متى توافرت شرائطها، وقصد القتل بطبيعة الحال أشد وأبلغ في الدلالة على خطورة الجاني من مجرد قصد إلحاق الأذى بالمجني عليه. 

وقد أدخل المشروع في الاعتداء الموجب للقصاص - علاوة على صورة الجريمة بالترك - صورة إكراه الجاني غيره على الاعتداء إكراها يجعله يخشى على النفس أو العرض، إذا وقع الاعتداء تحت تأثير هذا الإكراه، وإكراه الغير على الإقرار على نفسه بغير الحق بجريمة حكم عليه فيها بالقصاص، بناء على هذا الإقرار وحده متى نفذ الحكم، وشهادة الزور إذا أدت وحدها إلى الحكم على آخر بالقصاص ونفذ الحكم كذلك. وقد نص على هذه الصور على غرار ما سبق الأخذ به في مشروع الجناية على النفس. 

مادة (235): 

مع مراعاة أحكام المادة (230) من هذا القانون، يشترط للعقاب بالقصاص في جرائم الاعتداء على ما دون النفس ما ياتي: 

1- أن يكون الجاني بالغاً عاقلاً مختاراً. 

2- أن يكون المجني عليه مكافئاً للجاني على الأقل، وفي تطبيق هذه الشروط تعتبر الأنثى مكافئة للذكر، ويعتبر كل من الذمي والمستأمن مكافئاً للمسلم. 

3- ألا يكون المجني عليه فرعاً للجاني.

4- تحقق المماثلة وإمكان استيفاء المثل من غير حيف، وفقا لأحكام المادتين (236)، (237). 

5- أن يطلب المجني عليه القصاص وفقاً لأحكام هذا القانون. 

الإيضاح 

لا يكفي لكي تكون الجريمة موجبة للقصاص أن تتوافر فيها طرق الإثبات التي حددتها المادة (230)، وإنما يتعين أن تتوافر كذلك شروط أخرى بعضها يتعلق بالجاني، وبعضها يتعلق بالمجني عليه، وبعضها يتعلق بالمماثلة بين الجريمة وعقوبة القصاص. 

ففيما يتعلق بالشروط الواجب توافرها في الجاني، فهي أن يكون مكلفاً مختاراً، ومناط التكليف البلوغ والعقل، والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق».

واشتراط أن يكون الجاني عاقلاً يرفع المسئولية عن المجنون، على أنه يشترط أن يكون الجنون قائما وقت ارتكاب الجريمة، وقد يكون الجنون مطبقا: أي مستمراً وقد يكون متقطعا يزول عنه ثم يعود، وفي الحالتين يجب التحقق من أن حالة الجنون كانت قائمة بالفاعل وقت ارتكاب الجريمة. 

هذا ويلاحظ أن العقل قد يزول أو يتأثر لفترة مؤقتة بفعل الجاني واختياره، كان يتناول مواد مسكرة أو مخدرة ثم يرتكب الجريمة، فلا أثر لذلك على مسئوليته عن الجريمة مسئولية كاملة، حتى ولو كانت العقوبة هي القصاص، والقول بغير ذلك يفضي إلى أن من أراد أن يعصي الله شرب ما يسكره ثم يسرق، ويقتل، ويزني، ولا يلزمه عقوبة، أما إذا كان السكر أو التخدير بسبب لا يد للجاني فيه كأن يكون قد أكره عليه، أو تم عن غلط وكان من شأنه زوال الإدراك وقت ارتكاب الجريمة - فإن ذلك يمنع مسئولية الجاني، وهذا جميعه أخذاً برأي الجمهور الأعظم من الفقهاء (المغني ج(8) ص (263)). 

وقد رجح المشروع الآراء الفقهية التي اشترطت للعقاب في جرائم القصاص أن يكون 

 

الجاني مختاراً، بمعنى ألا يكون مكرهاً على ارتكاب الجريمة، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة، ومحمد، ورواية عن الشافعي استنادا للحديث الشريف: «عفي لأمتي عن الخطا، والنسيان، وما استكرهوا عليه». على أنه يتعين التشدد في تحديد الإكراه الذي يرفع المسئولية عن المكره (بفتح الراء) بأن يكون إكراها ملجئاً، يخشى منه خطر عظيم على النفس ولا يتسنى للفاعل دفعه بأية وسيلة؛ لأن جريمة الإيذاء الموجبة للقصاص جريمة خطيرة، فلا يسوغ الاعتداد بالإكراه الذي يمنع المسئولية عنها إلا إذا كان إكراها تاماً، بحيث يصير المكره (بفتح الراء) كالآلة بالنسبة للمكره (بكسر الراء)، كما هو الشأن بالنسبة للقتل. 

وأما فيما يتعلق بالشروط الواجب توافرها في المجني عليه، فأولها: أن يكون مكافئا للجاني على الأقل، وهو ما يعرف في الفقه الإسلامي بشرط التكافؤ، ومعاييره في القصاص فيما دون النفس هي ذات معاييره في القصاص في النفس، أي في جرائم القتل. 

وقد أخذ المشروع بأيسر الآراء الفقهية وأقربها إلى روح العصر، فقد اتفق العلماء - تقريباً - على التسوية بين الذكر والأنثى (بدائع الصنائع ج (7) ص (310)، المغني ج (8) ص (276) و(277))، كما أخذ بالتسوية بين المسلم والذمي، وهو رأي أبي حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى العقوبة ص (401) و(647)). وأخذ المشروع كذلك بمساواة المستأمن بالمسلم أخذاً برواية عن أبي يوسف من الأحناف (بدائع الصنائع ج (7) ص (236)، کما وردت في المغني ج (8) ص (251))، وهي تتفق مع القاعدة العامة أن العصمة تكون بايان أو أمان، كما تحقق مصلحة مهمة في هذا العصر الذي تقاربت فيه المسافات، وفشا فيه انتقال الناس من بلد إلى بلد بمقتضى جوازات سفر هي في الواقع تعد بمثابة الأمان للمستأمن الذي يدخل البلاد للإقامة بها - أياً كانت مدة الإقامة -. 

وأخذ المشروع كذلك برأي جمهور الفقهاء من عدم القصاص من الأب لابنه أو الجد 

لحفيده، وذلك استناداً إلى الحديث الشريف: «لا يقاد والد بولده». والأم في ذاك كالأب. 

(يراجع في موضوع تكافؤ المجني عليه والقاتل في الجنس والدين والحرية وفي حكم سقوط القصاص عن قاتل فرعه تبيين الحقائق ج (6) ص (105) – الجامع لأحكام القرآن للقرطبي مطبعة دار الكتاب العربي 1387/ 1967، الجزء الثاني ص (246) وما بعدها، البهجة ج- (2) ص (370) و (371)، الأم ج (6) ص (18) وما بعدها، المغني ج (8) ص (263) وما بعدها، العقوبة ص (405) وما بعدها).

هذا ويبرز في القصاص فيما دون النفس أصل مهم وهو المساواة بين الأذى الذي أوقعه الجاني بجسم المجني عليه، وبين العقوبة التي توقع على الجاني، وهذا الأصل اقتضى وجوب توافر شرطين يكاد يلتقي عليها الفقه، وهما شرط المماثلة، وشرط إمکان استيفاء المثل من غير حيف، ونظراً لأهمية هذين الشرطين فقد أفرد المشروع لكل منهما نصاً مستقلاً هما المادتان (236)، (237). 

كذلك اشترطت المادة أن يطلب المجني عليه القصاص؛ لأنه حق له، ولا يجوز توقيعه إلا بناء على طلبه، فإن لم يطلبه امتنع القصاص، وذلك دون الإخلال بتوقيع العقوبة التعزيرية؛ تطبيقا للحكم العام الوارد بالفقرة الثانية من المادة (228) من المشروع، والذي يقضي بتوقيع العقوبة التعزيرية في كل الحالات التي لا يعاقب الجاني فيها قصاصا، وذلك حتى لا يفلت من العقاب. 

وغني عن البيان أن عقوبة القصاص لا توقع إذا سقطت لأي سبب من أسباب سقوط القصاص التي سبق بيانها عند إيضاح أحكام سقوط القصاص، وهذه الأسباب ثلاثة هي: العفو، والصلح، وفوات محل القصاص، ولا يخل ذلك بمعاقبة الجاني تعزيرا، کہا لا يوقع القصاص كذلك إلا إذا ثبتت الجريمة على الوجه المبين في المادة (233). 

مادة (236): 

1- في تطبيق أحكام هذا الباب، يقصد بالمماثلة أن يكون المحل المراد القصاص فيه من الجاني مماثلا للمحل الذي وقع عليه الاعتداء في المجني عليه، وذلك من النواحي الآتية: 

(أ) من حيث الجنس والموضع، فلا يقتص إلا من نظير العضو الذي وقع عليه الأذى المتحد معه في الاسم والموضع. 

(ب) من حيث السلامة، فلا يؤخذ الصحيح بالأشل أو بالمعيب، ولا الكامل بالناقص، ولا الأصلي بالزائد. ويكون العكس إذا اختار المجني عليه ذلك، ولم يكن ثمة خطورة على الجاني، وفي هذه الحالة لا يحق للمجني عليه اقتضاء جزء من الدية مقابل الفرق. 

(ج) من حيث القدر، فيؤخذ كل المحل بكل المحل، ويؤخذ بعضه ببعضه إلا حيث لا يجوز القصاص في البعض وفقا لأحكام هذا الباب، ويحدد البعض الذي يؤخذ على أساس نسبة ما قطع من المحل. 

2- ولا يعتد في الماثلة بوجوه الاختلاف الأخرى كالصغر أو الكبر، والصحة أو 

المرض، والقوة أو الضعف، والجمال أو القبح. 

الإيضاح 

مقتضى هذا الشرط بوجه عام، ووفقا لما يستخلص من الأمثلة والفروض التي يسوقها الفقهاء وما يرد في ثناياها من أحكام - أن يكون محل القصاص من الجاني مماثلا للمحل الذي وقع عليه الاعتداء في المجني عليه، وأن يقتص من المحل بقدر الاعتداء الذي وقع، وهذا الشرط يجد أساسه في قوله تعالى:وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) (سورة المائدة: الآية: (45)). وقوله جل شأنه: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...) (سورة البقرة: الآية: (194)). ويؤخذ من تطبيقات الفقهاء أنه يمكن تحليل شرط المماثلة إلى العناصر الآتية: 

(1) المماثلة في الجنس: 

ويعبر عنه أحيانا بالمماثلة في الاسم أو في الذات، والمقصود به أن يتحد المحل الذي وقع عليه الأذى والمحل الذي يقتص منه من حيث جنس المحل، فلا تؤخذ العين إلا بالعين، ولا الأذن إلا بالأذن، ولا اليد إلا باليد، ولا السن إلا بنظيرتها تماما من حيث الاسم «الثنية بالثنية، والضرس بالضرس»، ولا الإصبع إلا بنظيرتها، فلا تؤخذ إصبع اليد إلا بنظيرتها من حيث الاسم في يد المجني عليه، فالبنصر بالبنصر، والسبابة بالسبابة، والإبهام بالإبهام... إلخ. 

(ب) المماثلة في الموضع: 

حيث يلزم أن يكون القصاص من المحل المماثل للمحل الذي وقع عليه الأذى من حيث مكانه في جسم المجني عليه، فيؤخذ اليمين باليمين، واليسار بالیسار (وذلك في كل ما فيه يمين ويسار)، والأعلى بالأعلى، والأسفل بالأسفل (وذلك في كل ما فيه أعلى وأسفل كالشفتين والأسنان، وكذلك في الموضحة من حيث موضعها في الرأس والوجه . 

(ج) المماثلة في السلامة: 

ويعبر عنه أحيانا بالمماثلة في الوصف، ومقتضاه ألا يؤخذ الصحيح بالأشل أو المعيب، وقد رئي النص على الأشل بالذات، حتى لا يفهم أن الشلل يعتبر من الأمراض التي لا يعتد بها في تقدير الماثلة وفقا للفقرة (2) من المادة، ومثال المعيب العين القائمة (وهي التي بياضها وسوادها صحيحان غير أن صاحبها لا يبصر بها، ولعلها العين التي انفصلت شبكتها)، واللسان الأخرس، والأذن المثقوبة في غير موضع الزينة، كذلك لا يؤخذ الكامل بالناقص، فلا تقطع يد كاملة الأصابع بيد ناقصتها أو بها أصبع شلاء، ولا سن كاملة بسن مكسورة، ولا أنف کامل بأنف قطع جزء منه، كما لا يؤخذ الأصلي بالزائد، فلا تقطع أصبع أصلية بأصبع زائدة، ولا تقطع سن أصلية بسن زائدة. 

على أن العكس جائز في الحالات المتقدمة، فيجوز أن يؤخذ المعيب بالصحيح، والناقص بالكامل والزائد بالأصلي، ولكن يشترط هنا شرطان: أولهما: أن يختار المجني عليه ذلك؛ لأنه يكون قد رضي بأقل من حقه، وذلك جائز، وإنها الذي لا يجوز هو أن يستوفي أكثر من حقه. والثاني: أن تؤمن الخطورة، وأنه وإن كان هذا شرطا عاما في القصاص فيما دون النفس، إلا أن هذه المادة عنيت بالإشارة إليه في هذا الخصوص لما قد يترتب أحيانا على أخذ المعيب بالصحيح من إضرار بالجاني، كالعضو الأشل مثلا؛ فقد يلحق قطعه ضرراً يخشى منه على حياة الجاني أو على أعضائه الأخرى. 

وإذا اختار المجني عليه القصاص من المعيب أو الناقص أو الزائد - فقد رأى المشروع الأخذ بمذهب الحنفية والمالكية من أنه لا يجوز للمجني عليه في هذه الحالة اقتضاء جزء من الدية مقابل الفرق بين الأعلى والأدنى، إذ إن تقدير هذا الفرق ليس أمراً متیسراً في جميع الأحوال، والمجني عليه مخير أساساً بين القصاص (إذا توافرت شروطه) وبين الدية، فله إذن أن يختار الدية أصلاً بدلاً من القصاص، فإذا أعرض عن الدية واختار القصاص رغم أن المحل المراد القصاص منه أدنى من المحل الذي وقع عليه الأذى - فلا يجوز له الجمع بين القصاص وبين جزء من الدية، إنما يعتبر أنه قد نزل عن بعض حقه في القصاص. 

(د) المماثلة في القدر: 

ويقصد به ألا يقتص من محل القصاص في الجاني إلا بقدر الأذى الذي وقع على المحل المماثل في المجني عليه، فإذا أذهب الجاني بكل المحل اقتص منه بكل المحل متى كان من المحال التي يجري فيها القصاص، وإذا أذهب بعض المحل اقتص منه بقدر ما أذهب، نزولاً على قاعدة أن ما وجب القصاص في كله وجب في بعضه، على أن المشروع قد تحفظ في القصاص من بعض المحل، فلم يطلق القاعدة وإنما قيدها بألا يكون المشروع قد نص على عدم القصاص من البعض، حيث أخذ المشروع بآراء بعض المذاهب التي لم تنجز القصاص في بعض اللسان والذكر، كما أن القاعدة هي عدم القصاص في العظم إلا في السن، وعدم القصاص في بعض الحاسة أو المنفعة، وهذه جميعها قيود ترد على قاعدة القصاص في بعض المحل. 

ويحسب الجزء الذي يؤخذ من الجاني على أساس نسبة ما قطعه إلى جملة المحل الذي قطع منه، فإذا كان القطع من الأذن مثلاً بأن قطع بعضها وكان له حد يعرف - يقطع من أذن الجاني ذات المساحة التي قطعها من أذن المجني عليه، وإنما يحسب الجزء على أساس نسبته إلى الأذن، إذ إن الأعضاء تتفاوت صغراً وكبراً مما يقتضي أن يحسب الجزء على أساس النسبة وليس على أساس المساحة. 

وأخيراً نصت الفقرة الثانية من هذه المادة على أنه لا يعتد في المماثلة بوجوه الاختلاف الأخرى، كتلك المتعلقة بالصغر أو الكبر، والصحة أو المرض، والقوة أو الضعف، والجمال أو القبح؛ لأن التفاوت من هذه النواحي هو الأغلب الأعم بين الناس؛ إذ لا يتماثل طرفان على وجه التطابق من كل وجه، ولو اعتبر التماثل من هذه النواحي لسقط القصاص في كل الحالات، وغني عن البيان أنه يستوي أن يكون التفاوت المشار إليه في ذات المحل المراد القصاص منه أم في ذات الجاني، فمثلاً توخذ عين الشاب السليمة بعين الكبير المريضة، والأنف الدقيق بالأنف الغليظ، واليد القوية باليد الضعيفة. 

مادة (۲۳۷): يشترط لإمكان استيفاء المثل من غير حيف ألا يترتب على القصاص هلاك الجاني، أو مجاوزة حدود الأذى الذي ألحقه بالمجني عليه، وذلك وفقا لما تقرره الجهة الطبية المختصة. 

الإيضاح 

هذا هو الشرط الثاني المتفرع عن الأصل العام في القصاص، وهو المساواة، وهذا يقتضي ألا يترتب على القصاص إيذاء الجاني بأكثر من الإيذاء الذي ألحقه بالمجني عليه، فإذا كان القصاص من الجاني بمثل ما أحدثه من أذى يخشى منه هلاك الجاني أو مجاوزة حدود الأذى الذي ألحقه بالمجني عليه - امتنع القصاص؛ لأن القصاص في هذه الحالة يلحق بالجاني حيفاً يخل بمبدأ المساواة في القصاص، وإذا كان الفقهاء في الأغلب يلتقون على هذا الشرط إلا أنهم اختلفوا في تطبيقه. 

يراجع في شرطي المائلة وإمكان الاستيفاء من غير حيف - على وجه الخصوص - بدائع الصنائع ج- (7) ص (297) و (298) و (308)، تبيين الحقائق ج (6) ص (111) و (112)، نهاية المحتاج ج (7) ص (237)، المغني ج(8) ص (302) وما بعدها). 

الفصل الثالث 

أنواع الإيذاء التي يجري فيها القصاص 

سبق البيان في مقام إيضاح حكم المادة (۲۳۶) التي حددت أركان جريمة الاعتداء على ما دون النفس - أنه يلزم لتوافر هذه الجريمة أن يلحق المجني عليه نوعاً معيناً من أنواع الإيذاء التي يجري فيها القصاص، فالقصاص لا يجري في أي أذى، وإنما في أنواع محددة منه وهي التي تكفلت ببيانها المواد من (238) إلى (240)، والمعيار العام الذي على أساسه تحددت أنواع الإيذاء التي يجري فيها القصاص - هو أن هذه الأنواع هي التي يتوافر فيها شرطا الماثلة، وإمكان استيفاء المثل من غير حيف، وقد رأى المشروع تحديد هذه الأنواع بالنظر إلى أن الفقهاء وإن سلموا بالشرطين المذكورين إلا أنهم اختلفوا في تطبيقها على أعضاء الجسم ومنافعه وفي الشجاج، ولذلك رأى المشروع تحديد هذه الأنواع بمراعاة الأنسب والأكثر ملاءمة، وحتى لا يترك هذا التحديد - مع أهميته القصوى - التشعب الآراء، وتباين وجهات النظر فيه، وحتى تحدد جرائم القصاص، فلا تترك لقاعدة عامة بالنظر لخطورة هذه الجرائم وجسامة العقوبة عليها. 

وأنواع الإيذاء التي يجري فيها القصاص منها ما يندرج في جرائم قطع الأطراف وما في حكمها، أو في جرائم إذهاب الحواس أو المنافع مع بقاء أعيانها، أو في جرائم الشجاج والجراح. 

مادة (238): 

لا قصاص إلا فيما يقطع من المفاصل أو فيما كان له حد معلوم ينتهي عنده، ولا في العظم إلا في السن، ولا في قطع الأطراف عموما وما في حكمها إلا بالنسبة إلى الأطراف الآتية: 

1- العين المبصرة: 

إذا قلعت بكاملها. 

2- الأنف: 

(أ) يؤخذ المارن بالمارن. 

(ب) وإذا قطع الأنف من القصبة فلا قصاص في الزائد على المارن، ويأخذ المجني 

عليه أرشا عن الزائد تقدره المحكمة. 

(ج) ولا فرق بين أشم وأخشم. 

3- الأذن: وتؤخذ أذن السميع بالأصم، ولا تؤخذ الصحيحة بالمشقوقة. 

4- السن: 

إذا قلعت قلعت نظيرتها من الجاني، وإذا كسرت کسر من نظيرتها بقدر ما كسر. 

ولا يقتص للسن إلا إذا كان المجني عليه قد أثغر، فإن لم يكن كذلك فينتظر المدة التي تحددها الجهة الطبية المختصة، ويقتص من الجاني إذا لم يظهر بدل السن بعد انقضاء هذه المدة. 

5- الشفة: 

إذا قطعت كلها، ولا قصاص في قطع بعضها. 

6- اللسان: إذا استوعبه القطع، ولا قصاص في قطع بعضه. 

7- اليد: 

(أ) إذا كان القطع من مفصل قطع بمثله من يد الجاني، ويطبق ذلك على قطع الأنامل والأصابع واليد من الكوع، أو من المرفق، أو من المنكب. 

(ب) فإذا كان القطع من غير مفصل جاز للمجني عليه أن يطلب القصاص من أول مفصل داخل في القطع، مع حقه في جزء من الدية عن الفرق تقدره المحكمة. 

8- الرجل: 

وتطبق في شأنها أحكام اليد، فالساق كالذراع، والفخد بالعضد، والقدم وأصابعها کالكف وأصابعها. 

9- الذكر: 

إذا استوعبه القطع، ولا قصاص في بعضه إلا إذا كان القطع من الحشفة. 

10- الأنثیان: 

وتؤخذ الواحدة بنظيرتها بشرط ضمان سلامة الأخرى. 

الإيضاح 

اختار المشروع التطبيقات التي ذهب إليها الجمهور في خصوص شرط إمكان استيفاء المثل من غير حيف، فنص في المادة (238) على أنه لا قصاص إلا فيما يقطع من المفاصل (كقطع الإصبع أو اليد أو الذراع من المفصل)، أو فيما كان له حد معلوم ينتهي عنده (کالأذن والسن والشفة)، ولا قصاص في العظم إلا في السن، وهذا يوافق مذهبي الحنفية والشافعية، ويقول الشافعي في كسر العظام: إنه لا يكون كسر كسر أبدا. أي أن كسر العظام لا تتأتى فيه الهائلة بحال، ولذلك قد يكون في استيفائه حيف بالجاني (العقوبة ص (457) و (458)). 

أما المالكية فإنهم يجيزون بوجه عام القصاص في العظام، وذلك حيث لا يعظم الخطر (البهجة ج (2) ص (384)). 

کما حددت المادة الأطراف وما في حكمها التي يجري فيها القصاص، ومن ثم لا يجوز القصاص في قطع غيرها. وقد راعى المشروع في هذا التحديد الأطراف التي يغلب في الفقه الإسلامي، الاتفاق على أصل القصاص فيها مع بعض خلافات طفيفة في الفروع والتفاصيل، وهي العين، والأنف والأذن، والسن، والشفة، واللسان، واليد، والرجل، والذكر، والأنثيان، ولم ير المشروع الأخذ بالقصاص في الأطراف التي اختلف الفقه في شانها مثل: الأجفان، والإليتين، والثديين، والشفرين .

وفيما يلي إيضاح لبعض أحكام القصاص في الأطراف التي يغلب الاتفاق على أصل القصاص فيها، مع ملاحظة أن نصوص المشروع في هذا المقام اقتصرت على الأحكام الرئيسية والمهمة بالنسبة إلى كل طرف من هذه الأطراف، أما الفروع والتفاصيل فيمكن ردها إلى الأحكام العامة التي وردت في شرطي المائلة، وإمكان استيفاء المثل من غير حیف مثل جواز القصاص من بعض المحل، إلا حيث ينص المشروع على عدم جواز ذلك، وإذا كان ثمة فروض وتفاصيل أخرى لا يسعف هذان الشرطان في بيان حكمها فيرجع - في ذلك إلى المذهب أو المذاهب التي أشير في المذكرة إلى أخذ الحكم منها. 

1- العين: 

تؤخذ العين بالعين متى كانت مبصرة، وكان قلعها كاملا؛ لقوله تعالى: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) . وتؤخذ العين السليمة بالضعيفة خلقة أو من كبر، فتؤخذ عين الشاب بعين الشيخ المريضة، وعين الكبير بعين الصغير، ولا تؤخذ الصحيحة بالقائمة، ولكن يجوز أن تؤخذ القائمة بالصحيحة إذا اختار المجني عليه ذلك وأمنت الخطورة على ما سلف بيانه في مقام إيضاح شرط المماثلة. 

(يراجع في التفاصيل - على وجه الخصوص - حاشية الدسوقي، والمالكي على شرح المتن الكبير مطبعة عيسى الحلبي الجزء الرابع ص (255) و (256)، المغني ج(8) ص (310)). 

2- الأنف: 

ويؤخذ الأنف بالأنف؛ لقوله تعالى: (وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ ) . وقد بينت المادة أهم أحكام القصاص في الأنف، وهي أنه إذا كان القطع مقصوراً على المارن، اقتصر بقطع مارن الجاني)، والمارن هو ما لان من الأنف ونزل عن قصبته)، وهذ الحكم متفق عليه، أما إذا كان القطع من القصبة، فأبو حنيفة لا يرى القصاص في هذه الحالة، وعند أحمد والشافعي لا يجوز القصاص إلا من المارن فقط، على خلاف فيما إذا كان الجاني يستحق جزءاً من الدية يقدره القاضي يطلق عليه في الشريعة لحكومة» أو «أرشاً» غير مقدر عما کسر من القصبة، إلا أن مذهب مالك لا يشترط أن يكون القطع من المارن، وقد رأى المشروع الأخذ برأي الإمام الشافعي وقول في مذهب الإمام أحمد. هذا وقد نص المشروع على أن يؤخذ الأشم بالأخشم - الذي لا يشم - بناء على ما ذكره الفقهاء من أن حاسة الشم لا ترتبط في الأغلب بالأنف، ومن ثم يستوي أنف الأشم بأنف الأخشم، وذلك على خلاف اللسان حيث ترتبط به حاسة الذوق، والعين لأن البصر يرتبط بها. 

(بدائع الصنائع ج (7) ص (308)، البهجة ج (2) ص (384)، نهاية المحتاج ج (7) ص (277)، المغني ج (8) ص (308)). 

3- الأذن: 

وتؤخذ الأذن بالأذن؛ لقوله تعالى: وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ  وأهم ما عني المشروع بالنص عليه في خصوص الأذن - هو أخذ أذن السميع بالأصم بالنظر إلى أن السمع لا يرتبط في الأغلب بالأذن (كما هو الشأن بالنسبة للأنف فيما يتعلق بحاسة الشم)، وعدم أخذ الصحيحة بالمشقوقة باعتبارها تطبيقاً خاصاً لشرط المماثلة. 

(بدائع الصنائع ج- (7) ص (308)، نهاية المحتاج ج (7) ص (277)، المغني ج (8) ص (306)). 

4- السن: 

وتؤخذ السن بالسن؛ لقوله تعالى: وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ولأنها محدودة في ذاتها يمكن القصاص فيها من غير حيف. وأخرج النسائي عن أنس أن عمته کسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أخوها أنس بن النضر: أتكسر ثنية فلانة؟ لا، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. قال: وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش، فلما حلف أخوها وهو عم أنس - وهو الشهيد يوم أحد - رضي القوم بالعفو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره». وخرجه أبو داود أيضا (الجامع لأحكام القرآن جا (6) ص (201)). 

ويشترط للقصاص في السن أن يكون المجني عليه قد أثغر، أي سقطت رواضعه ونبتت أسنانه الدائمة، فإن لم يكن كذلك فيرجا البت في القصاص من عدمه، المدة التي تحددها الجهة الطبية المختصة، فإذا انقضت هذه المدة ولم يظهر بدل السن التي قلعت أو كسرت - اقتص من نظيرتها في الجاني. 

(بدائع الصنائع ج (7) ص (308)، المغني ج(8) ص (315)). 

5- الشفة: 

وهذه اتفق الفقهاء على القصاص فيها؛ استنادا إلى قوله تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) ولأنها تنتهي إلى حد معلوم، ويجوز في بعضها عند الثلاثة، أما أبو حنيفة فلا يجيزه، وقد أخذ المشروع برأي أبي حنيفة، ولذلك نص على أن فيها القصاص إذا قطعت كلها، ولا قصاص في قطع بعضها. 

(بدائع الصنائع ج (7) ص (308)، تبيين الحقائق ج (6) ص (112)، البهجة ج (2) ص (384)، المغني ج(8) ص (318)). 

6- اللسان والذكر: 

ذهب إلى القصاص فيها مالك والشافعي وأحمد، أما أبو حنيفة فلا يرى القصاص فيها إلا في الحشفة من الذكر، ومن أصحابه من يرى القصاص فيها إذا استوعبهما القطع، ولا قصاص في بعضهما (إلا بالنسبة للحشفة؛ فإن قطع الحشفة فيه القصاص لإمكان استيفاء المثل لأن لها حداً معلوماً)، وذلك بناء على أن كلاً منهما ينقبض وينبسط ويتعذر فيه تحديد الجزء الذي يقتص منه، وبهذا الرأي الوسط أخذ المشروع، وغني عن البيان أنه لا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس، ولكن يؤخذ لسان أو ذكر الكبير بلسان أو ذكر الصغير، واللسان أو الذكر الصحيح بالمريض؛ لأن التفاوت من هذه النواحي لا يخل بشرط الماثلة الذي سلف بيانه في المادة (236) من المشروع. 

بدائع الصنائع ج (7) ص (308)، تبيين الحقائق ج (6) ص (112)، البهجة ج (2) ص (384)، المغني ج (7) ص (308)، (309)، (317)). 

7- اليد والرجل: 

والأحكام المنصوص عليها في المشروع بشأنها لا تعدو أن تكون تطبيقاً خاصاً لما تضمنه صدر المادة (238) من أنه لا قصاص إلا فيما يقطع من المفاصل أو فيما كان له حد معلوم ينتهي عنده، ولا في العظم إلا في السن، وذلك أخذاً برأي جمهور الفقهاء .

على أنه إذا كان الكسر من عظم، كقطع اليد من نصف الكف، أو القطع من نصف الذراع أو من العضد - فيوجد في الفقه ثلاثة آراء: الأول: وهو مذهب مالك حيث يرى القصاص إذا لم تكن ثمة خطورة أو خوف، وإلا امتنع القصاص (نزولاً على أنه يرى القصاص في العظم حيث لا يعظم الخطر). والثاني: أبو حنيفة وبعض فقهاء مذهب أحمد لا يرون القصاص؛ لأن محل القطع عظم ولا قصاص في العظم. والثالث: ومقتضاه أنه يجوز أن يقتص من الجاني من أول مفصل داخل في الجناية، وهذا مذهب الشافعي وبعض فقهاء مذهب أحمد، على أن أصحاب هذا الرأي اختلفوا فيما إذا كان يجوز للمجني عليه أخذ جزء من الدية تقدره المحكمة عن الفرق بين ما قطع منه وما قطع من الجاني، فمنهم من ذهب إلى الجواز، ومنهم من قال بالمنع. وقد رأى المشروع الأخذ بالرأي الثالث، مع اقتضاء جزء من الدية عن الفرق؛ لأنه أدنى إلى تحقيق العدالة. 

(بدائع الصنائع ج- (7) ص (298)، المغني ج (8) ص (303) و (304)). 

8- الأنثيان (الخصيتان): 

ذهب الجمهور إلى القصاص فيهما، وعادة ما ينبه الفقه في القصاص من إحدى الأنثيين إلى اشتراط ضمان سلامة الأخرى؛ إذ إن إحداهما تؤثر في الأخرى وفي منافعها. وقد يكون في قطع إحداهما الإخلال بمنفعة الأخرى، ولذلك نبه المشروع إلى هذا الشرط باعتباره تطبيقاً خاصاً لشرط إمكان استيفاء المثل من غير حیف. 

نهاية المحتاج ج- (7) ص (270)، المغني ج(8) ص (309) و (310)). 

مادة (239): لا يقتص في إذهاب الحواس والمنافع مع بقاء أعيانها، إلا إذا أفقد الجاني الحاسة أو المنفعة إفقاداً كاملاً وأمكن استيفاء المثل من غير أية مجاوزة، وذلك وفقا لما تقرره الجهة الطبية المختصة. 

الإيضاح 

اتفق الجمهور على أنه متى أمكن القصاص في إذهاب الحواس والمنافع مع بقاء أعيانها - فإن القصاص يجب متى توافرت الشروط الأخرى، ويشترط أن يكون فقد الحاسة أو المنفعة فقداً كلياً، لأن هذا هو الذي قد يمكن القصاص فيه بحسب ما تقرره الجهة الطبية المختصة، أما إذا كان الفقد جزئياً - كما إذا اعتدى الجاني على المجني عليه اعتداء ترتب عليه فقد بعض سمعه، أو بعض نطقه أو ضعف بصره - فإن القصاص يمتنع؛ لأنه لا يؤمن فيه استيفاء المثل من غير حیف. 

ومثال إذهاب الحواس أو المنافع مع بقاء أعيانها - إذهاب البصر مع بقاء العين، وإذهاب النطق أو الذوق مع بقاء اللسان، وشلل الطرف مع بقاء الطرف ذاته. والقصاص في ذلك رهين بإمكان استيفاء المثل من غير أية مجاوزة، وذلك بحسب ما يقرره أهل الخبرة من الأطباء، وإلا امتنع القصاص، ويلاحظ أن الحنفية لا يرون القصاص في إذهاب الحواس والمنافع بناء على أنه لا يمكن فيها استيفاء المثل، وذلك فيما عدا البصر. 

بدائع الصنائع ج (7) ص (308)، البهجة ج (2) ص (384)، نهاية المحتاج ج (7) ص (272)، المغني ج(8) ص (311) و (312)). 

مادة (240): 

1- لا قصاص في الشجاج إلا في الموضحة، وهي الشجة التي يحدثها الجاني في وجه المجني عليه أو في رأسه، وتوضح العظم ولا تؤثر فيه. 

2- ولا قصاص في جروح الجسد. 

الإيضاح 

سبق بيان المقصود بالشجاج وأنواعها عند إيضاح حكم المادة (227) من هذا المشروع، و هي بوجه عام الجروح التي تصيب الوجه والرأس فقط، وقد صنفها البعض في أحد عشر جرحاً، وصنفها آخرون في عشرة جروح (يراجع التعليق على المادة المذكورة). وقد اتفق الفقهاء على وجوب القصاص في الموضحة، وهي الشجة التي يحدثها الجاني في وجه المجني عليه أو في رأسه وتوضح العظم ولكنها لا تؤثر فيه، أما الشجاج التي هي أخف من الموضحة - أي التي قبلها في الترتيب - فلا قصاص فيها عند الشافعي وأحمد، وفي بعضها القصاص عند الحنفية على خلاف بينهم، وفيها القصاص كذلك عند المالكية. وأما الشجاج التي هي أشد من الموضحة - أي التي بعدها في الترتيب - کالهاشمة والمنقلة - فليس فيها قصاص بمثلها في المذاهب الأربعة، ولكن يجوز عند الشافعية والحنابلة أن يطلب المجني عليه القصاص بمقدار موضحة فقط؛ لأنها أقل من حقه، وذلك على خلاف بينهم فيما إذا كان يجوز له اقتضاء الفرق بين دية الموضحة ودية الشجة التي أحدثها الجاني. 

على أن المشروع قد آثر الاقتصار على القصاص في الموضحة؛ لأن القصاص فيها اتفق عليه الأئمة الأربعة، ولم ير القصاص فيها قبلها؛ أخذا بمذهبي الشافعي وأحمد، ولم ير القصاص كذلك فيما بعدها؛ أخذا بالمذاهب الأربعة، ولم ير الأخذ بوجهة النظر التي تجيز للمجني عليه القصاص بمقدار موضحة فقط؛ ترجيحاً لمذهبي مالك والأحناف اللذين يمنعان القصاص فيها بعد الموضحة ولو بمقدار موضحة، وغني عن البيان أن للمجني عليه - في كل حالة يمتنع فيها القصاص ويبقى الحق في الدية - أن يقتضي الدية المقررة عن الشجة التي أصابته سواء كانت دية محددة أم يقدرها القاضي، وذلك وفقا لأحكام الديات، هذا بالإضافة إلى وقوع الجاني تحت طائلة العقوبات التعزيرية الواردة بهذا القانون.  

(بدائع الصنائع ج (7) ص (309)، حاشية الدسوقي ج (4) ص (251)، نهاية المحتاج ج (7) ص (269)، المغني ج (8) ص (305)). 

وأما الجراح، وهي التي خصصت اصطلاحاً بالجروح التي تصيب الجسد في غير الرأس والوجه، فقد سبق البيان أنها تنقسم إلى قسمين رئيسيين: جائفة، وهي التي تنفذ إلى الجوف، وغير جائفة. فبالنسبة إلى الجائفة فقد اتفق الأئمة الأربعة على عدم القصاص فيها، وأما بالنسبة إلى غير الجائفة فقد انقسم الرأي فيها إلى ثلاثة اتجاهات: 

الأول: الحنفية، ولا يرون القصاص فيها، وبذلك لا يكون عند الحنفية قصاص إلا في جروح الجسد. 

الثاني: الشافعية والحنابلة، ويرون القصاص فيما هو في معنى الموضحة، أو في كل جرح ينتهي إلى عظم كالساعد، والعضد، والساق، والفخذ، وأما إذا كسر العظم فلا قصاص؛ نزولاً على قاعدة أنه لا قصاص في العظم إلا في السن. 

الثالث: المالكية، ويجيزون القصاص في جروح الجسد عموماً ولو كانت في عظم؛ إذ يرون القصاص في العظم حيث لا يعظم الخطر، ويعظم الخطر بوجه خاص في كسر عظام الصدر والعنق والصلب (العمود الفقري) والفخذ. 

وقد رجح المشروع مذهب الأحناف بالنظر إلى تعذر تحقق المماثلة في جروح الجسد في الأغلب، فضلاً عن أنه لا يؤمن استيفاء المثل من غير حیف. 

(بدائع الصنائع ج (7) ص (210)، البهجة ج (2) ص (383)، نهاية المحتاج ج- (7) ص (269)، المغني ج (8) ص (305)). 

مادة (241): إذا أدت سراية الجريمة إلى قطع طرف أو ما في حكمه، أو فقد منفعة مما يجري فيه القصاص - فيتبع ما يأتي: 

(أ) إن كانت الجريمة الأصلية لا قصاص فيها، فلا قصاص كذلك في سرايتها. 

(ب) أما إذا كانت الجريمة الأصلية من جرائم القصاص، فتوقع عقوبة القصاص الخاصة بها فقط متى توافرت الشروط، ولا قصاص في سرایتها. 

(ج) ولا يخل امتناع القصاص في الحالة المنصوص عليها في البند (أ) وامتناع القصاص في السراية في الحالة المنصوص عليها في البند (ب) بحق المجني عليه في الدية، أو جزء منها عما امتنع فيه القصاص، وذلك وفقا لأحكام الديات المنصوص عليها في هذا الباب. 

ويقصد بالسراية امتداد أثر الجريمة التي وقعت على عضو معين إلى عضو آخر أو إلى منفعته. 

الإيضاح 

عرفت هذه المادة المقصود بسراية الجريمة في جرائم الاعتداء على ما دون النفس وهو امتداد أثر الجريمة التي وقعت على عضو معين إلى عضو آخر أو إلى منفعته، وقد استخلص هذا التعريف من جماع الفروض التي يعرضها فقهاء الشريعة عادة عند الكلام عن سراية الجريمة، وقصد المشروع من إيراده أن يتحدد مفهوم السراية، فلا تختلف الأنظار فيه وخاصة أنه اصطلاح لا يطرق عادة في فقه القانون الوضعي. 

وسراية الجريمة بالمعنى سالف الذكر تكون إلى عضو آخر، كما لو قطع الجاني أصبع شخص فتآكلت أصبعه الأخرى وسقطت، أو تآكلت الكف ذاتها وسقطت، وقد تكون إلى منفعة عضو آخر، كما لو كانت السراية في المثال المتقدم إلى منفعة الكف، بحيث ترتب على قطع الأصبع شلل الكف وليس سقوطها، فالسراية هنا إلى منفعة الكف، وليست إلى الكف ذاتها، أو كما لو لطم شخص آخر أو شجه في رأسه أو وجهه فأذهب سمعه أو بصره. 

وقد بينت المادة أيضاً حكم سراية الجريمة سواء كانت السراية إلى عضو أو إلى منفعة، والقاعدة الشرعية أن سراية الجريمة مضمونة، بمعنى أن الجاني يتحمل تبعنها؛ لأنها لا تعدو أن تكون أثراً ترتب على جريمته، ولئن أمكن تدخل عوامل أخرى في ترتيب هذا الأثر إلا أن الجريمة في الواقع تعتبر هي المحرك الرئيسي لهذه العوامل، بحيث لو لم تقع الجريمة ما تحركت هذه العوامل وبالتالي ما تحققت السراية. على أن الفقهاء قد اختلفوا فيها إذا كان ضمان الجاني لهذه السراية يتمثل في القصاص منه إذا كانت السراية موجبة للقصاص - لو فرض أنها وقعت مباشرة، مثال ذلك قطع الأصبع من المفصل الذي ترتب عليه تأكل الكف وسقوطها من المفصل، في هذا الفرض لو قطع الجاني الكف ابتداءً، لوجب القصاص من كفه متى توافرت الشروط، ولكن سقوط الكف في هذا المثال لم يترتب ابتداءً ومباشرة، ولكن ترتب بحكم السراية، فكيف يكون ضمان الجاني لهذه السراية؟ 

يؤخذ من جماع الفقه أنه توجد ثلاثة اتجاهات رئيسية: 

الأول: يذهب إلى أنه إذا كانت الجريمة الأصلية فيها قصاص، فإنه يجب في سرايتها كذلك، ويمثل هذا الاتجاه المذهب الحنبلي، حيث يرى أن ما وجب القصاص فيه بالجناية وجب بالسراية، أي أن كل ما يجب فيه القصاص إذا ارتكبه الجاني ابتداءً ومباشرة (كقطع اليد من المفصل) - فإنه يجب فيه القصاص إذا تحقق بطريق السراية، وبذلك تقطع يد الجاني في المثال المعروض 

وأما الاتجاه الثاني: فعلى رأسه أبو حنيفة شخصياً؛ حيث يرى أنه لا قصاص في السراية حتى لو كانت الجريمة الأصلية موجبة للقصاص، بل إن أبا حنيفة يرى عدم القصاص في هذه الحالة حتى في الجريمة الأصلية؛ بناء على أنه لا سبيل إلى استيفاء القصاص على وجه المماثلة، أي بأن تقطع أصبع الجاني فتتأكل وتسقط، ويرى أبو حنيفة أن حق المجني عليه يقتصر في هذه الحالة على الدية أو الأرش في الفعل وسرايته. 

والاتجاه الثالث: على رأسه المذهب الشافعي، ويرى أنه لا قصاص إلا في الجريمة الأصلية متى كانت موجبة للقصاص، أما بالنسبة إلى سرايتها فعلى الجاني ديتها أو أرشها، وفي مثالنا يقتص من الجاني بقطع أصبعه، وعليه أرش الكف ناقصة الأصبع التي قطعت. 

(بدائع الصنائع ج (7) ص (307)، نهاية المحتاج ج (7) ص (372) و (373)، 

المغني ج (8) ص (322)). 

وقد رأى المشروع الأخذ بالاتجاه الثالث باعتباره أكثر الاتجاهات ملاءمة وتحقيقاً للعدالة سواء بالنسبة إلى المجني عليه أم الجاني. 

كذلك انتهج المشروع ذات النظر بالنسبة إلى السراية إلى منفعة، كما لو ترتب على قطع الأصبع من المفصل شلل الكف فقط وليس سقوطه، أو كما لو ضرب الجاني شخصاً أو شجه شجة موضحة مترتب على ذلك ذهاب بصره بحكم السراية - فهنا يقتص من الجاني عن جريمته الأصلية، وفي هذا الخصوص يكون المشروع موافقا للجمهور الذي يرى وجوب القصاص في الجريمة الأصلية، وأما بالنسبة إلى سراية هذه الجريمة التي أدت إلى فقد المنفعة فلم ير المشروع القصاص فيها حتى يكون حكمه في السراية إلى منفعة متسقاً مع حكمه في السراية إلى عضو، والمشروع إذ لم ير القصاص في السراية في هذه الصورة يكون متفقا مع مذهب الأحناف، حيث لا يرون القصاص في السراية إلى منفعة (بل إن أبا حنيفة - على ما سلف بيانه - لا يرئ القصاص حتى بالنسبة إلى الجريمة الأصلية بناء على أنه لا يمكن استيفاء القصاص على وجه المماثلة، وإنما يحق للمجني عليه دية الموضحة ودية البصر، ويخالفه في هذا الخصوص صاحباه، حيث يريان القصاص في الموضحة والدية في البصر). (بدائع الصنائع ج (7) ص (207)). 

وإذا كان المشروع لم يقرر القصاص في السراية سواء كانت إلى عضو أم إلى منفعة، فإنه لم يغفل حق المجني عليه في الدية عنها، وهو ما حرص البند (جـ) من المادة (241) على النص عليه. 

الفصل الرابع 

تعدد الجرائم الموجبة للقصاص وتداخلها مع غيرها 

نواجه هنا فرضين رئيسيين: 

الفرض الأول: 

تعدد جرائم الاعتداء على ما دون النفس إذا كانت جميعها موجبة للقصاص. 

الفرض الثاني: 

تعدد الجرائم إذا كان بينها جرائم اعتداء على ما دون النفس موجبة للقصاص. 

ونوجز فيما يلي أحكام كل فرض على حدة مقتصرين على الصور الأساسية التي تقع تحت كل فرض، معالجين كل صورة في ضوء مثال للإيضاح، مع بيان الحكم الذي تخيره المشروع. 

الفرض الأول 

تعدد جرائم الاعتداء على ما دون النفس إذا كانت جميعها 

موجبة للقصاص 

قطع محال متماثلة أو مختلفة أو متداخلة 

مادة (242): إذا قطع الجاني محال متماثلة من مجني عليهم متعددين، وكانت جميعها موجبة للقصاص - عوقب بالقصاص إذا طلبوه جميعاً وتوافرت الشروط المقررة، وتجب على الجاني ديات المحال التي قطعها عدا واحدة، وتقسم هذه الديات على المجني عليهم جميعا بالتساوي، ويعاقب بالقصاص كذلك إذا طلبه أحد منهم، وفي هذه الحالة يكون لكل من الباقين الحق في دية ما قطع منه وفقا لأحكام الديات. 

مادة (243): إذا قطع الجاني محال مختلفة من مجني عليه واحد، أو من مجني عليهم متعددين وكانت جميعها موجبة للقصاص - اقتص منه بما قطع 

مادة (244): 

1- إذا قطع الجاني طرقا ثم قطع آخر يدخل فيه ما قطعه أولاً، وكان ذلك من مجني عليه واحد يكتفي بالقصاص للقطع الأكبر، إلا إذا كان فعلي الجاني على سبيل المثلة، فيقتص منه للقطعين الأصغر والأكبر، وذلك متى توافرت شروط القصاص. 

2- ويطبق هذا الحكم في حالة تعدد المجني عليهم متى طلبوا القصاص، أما إذا طلب بعضهم الدية وبعضهم القصاص، فيقتص لمن طلب القصاص، وتستحق الدية وفقا للمادة (242) ولسائر أحكام الديات المنصوص عليها في هذا الباب. 

الإيضاح 

الصورة الأولى: إذا قطع الجاني محال متماثلة من مجني عليهم متعددين: (ومثالها أن يقطع الجاني يمني رجلين)

(1) مقتضى مذهب أحمد أنه إذا طلب المجني عليها القصاص، اقتص من يمين الجاني ولا يلتزم بدية، وإذا طلب أحدهما القصاص والآخر الدية، اقتص لمن طلب القصاص، وكان للآخر دية اليد (المغني ج (8) ص (295) إلى (297)). 

(ب) ومقتضى مذهب مالك أنه إذا قطعت يده لأحدهما فقد استوفيا القصاص، وليس للآخر شيء (حاشية الدسوقي ج(4) ص (254)). 

(ج) أما عند الحنفية فللمجني عليها إذا حضراً معا أن يقطعا يمينه، ويأخذا منه دية 

يد واحدة تقسم عليها مناصفة (البدائع ج- (7) ص (299)). 

(د) وأما عند الشافعي فيفرق بين ما إذا كان القطع على التعاقب أم دفعة واحدة، فإن كان على التعاقب فيقتص من الجاني للأول وللثاني - الدية، وإن كان دفعة واحدة أقرع بينهما، فيقتص من الجاني لمن خرجت قرعته وللآخر الدية (المرجع السابق ص (299)). 

وقد أخذت المادة (242) من المشروع بمذهب الحنفية؛ لأنه يحقق العدالة. 

وعلى ذلك فإذا قطع الجاني محال متماثلة من مجني عليهم أربعة، وكانت جميعها موجبة للقصاص - عوقب بالقصاص إذا طلبه المجني عليهم الأربعة وتوافرت شروطه، وتجب على الجاني ديات المحال التي قطعها عدا واحدة، وتقسم هذه الديات على المجني عليهم جميعا بالتساوي. ويعاقب بالقصاص كذلك إذا طلبه واحد منهم، وفي هذه الحالة يكون لكل من الثلاثة الباقين الحق في دية ما قطع منه وفقا لأحكام الديات المنصوص عليها في هذا الباب. 

ويعاقب الجاني بالقصاص أيضا إذا طلبه اثنان منهم، وفي هذه الحالة يكون لمن طلبا القصاص دية واحدة تقسم عليهما مناصفة، ويكون لكل من الاثنين الآخرين الحق في دية ما قطع منه وفقا لأحكام الديات. 

الصورة الثانية: إذا قطع الجاني محال مختلفة سواء من مجني عليه واحد أو مجني عليهم متعددين. 

ومثالها أن يقطع يمنى ويسرى رجل واحد أو يمنى رجل ويسرى آخر) والرأي الذي يبدو أنه محل اتفاق أنه يقتص من الجاني لها فتقطع يمناه ويسراه متى توافرت الشروط (بدائع الصنائع ج (7) ص (300))، وهو ما أخذت به المادة (20) من المشروع. 

الصورة الثالثة: إذا قطع الجاني محال متداخلة من مجني عليه واحد، ومثالها لو قطع أصبع رجل، ثم قطع كفه التي فيها الأصبع المقطوع، وكذلك كل قطع فيه قصاص إذا كان يدخل في قطع أكبر فيه قصاص أيضا). 

(1) عند أبي حنيفة: على الجاني القصاص فيها قطع أولا، ولا قصاص في الثانية، وفيها الأرش ناقصة ما قطع أولاً (ويحالفه صاحباه، حيث يفرقان بين ما إذا كان القطع الثاني قد تم بعد برء الأول أم لا، فإذا كان بعد البرء فهما جريمتان مستقلتان يجب القصاص في الأولى والأرش في الثانية، وإن كان قبل البرء فهي جريمة واحدة والقصاص من القطع الثاني) (بدائع الصنائع ج (7) ص (301)). ويبدو أن رأي الشافعي وأحمد كالصاحبين. 

(ب) ويرى مالك: الاكتفاء بالقصاص من القطع الثاني إذ يندرج الأول فيه، وذلك إلا إذا تم القطع على سبيل المثلة، فيقتص للقطعين الأصغر فالأكبر (حاشية الدسوقي جـ (4) ص (266)، الجامع لأحكام القرآن ج (6) ص (148)، (192)) وهو ما أخذت به الفقرة الأولى من المادة. 

الصورة الرابعة: إذا قطع الجاني محال متداخلة من مجني عليهم متعددين (ومثالها لو قطع أصبع یمنی رجل، ثم قطع يمنى رجل آخر): 

(أ) يفرق الأحناف بين ما إذا جاء المجني عليها مجتمعين يطلبان القصاص، وبين ما إذا جاءا متفرقين، فإن جاءا مجتمعين يبدأ بالقصاص في الأقل (الأصبع)، ويكون للمجني عليه الثاني الخيار بين القصاص وبين أرش بده. وإن جاءا متفرقين فإن جاء صاحب اليد وصاحب الأصبع غائب، قطعت له اليد، فإن جاء صاحب الأصبع بعد ذلك أخذ أرش الأصبع، وإن جاء الأصبع وصاحب اليد غائب تقطع الأصبع، ثم إذا جاء صاحب اليد أخذ أرش بده (بدائع الصنائع ج (7) ص (300) و (301)). 

(ب) وفي مذهب مالك يقطع الأكبر فقط (في مثالنا اليد فقط)، إلا إذا كان الجاني 

يقصد المثلة فتقطع الأصبع ثم اليد (حاشية الدسوقي ج (4) ص (266)). 

(ج) أما الشافعية والحنابلة فيجعلون المعيار هو أسبقية القطع، فإن كان الجاني قد قطع الأصبع أولاً، قطعت أصبعه قصاصا، وخير صاحب اليد بين دية يده وبين القصاص مع أخذ أرش الأصبع، ومن الحنابلة من يقول بعدم الأحقية في أرش الأصبع إذا اختار صاحب اليد القصاص؛ نزولاً على قاعدة عدم الجمع بين القصاص والدية في عضو واحد. وإن كان الجاني قد قطع اليد أولا، قطعت قصاصا، ولصاحب الأصبع أرشها المغني ج (8) ص (297) و (298)). 

وقد أخذ المشروع في الفقرة الثانية من المادة (244) أيضاً برأي الإمام مالك، فأورد فيها أن الحكم المنصوص عليه في الفقرة الأولى من المادة يطبق كذلك في حالة تعدد المجني عليهم متى طلبوا القصاص، أما إذا طلب بعضهم الدية وبعضهم القصاص، فيقتص لمن طلب القصاص، وتستحق الدية وفقا للتفصيل الوارد بالمادة (242) ولسائر أحكام الديات المنصوص عليها في هذا الباب. 

الفرض الثاني 

تعدد الجرائم إذا كان بينها جرائم اعتداء على ما دون النفس 

موجبة للقصاص 

اجتماع جريمة اعتداء على ما دون النفس موجبة للقصاص مع جريمة أخرى: 

مادة (245): 

1- إذا ارتكب الجاني جريمة اعتداء على ما دون النفس، مما فيه قصاص، وأخرى معاقبا عليها بالإعدام حداً، أو قصاصاً، أو تعزيراً - فإن عقوبة الإعدام تجب عقوبة القصاص إذا طلبه المجني عليه، أما إذا طلب الدية فلا تخل عقوبة الإعدام بحقه فيها. 

2- وإذا ارتكب الجاني جريمة اعتداء على ما دون النفس مما فيه قصاص، وأخرى فيها الدية أو معاقبا عليها بغير الإعدام، فلا تخل العقوبات عن الجرائم الأخرى بعقوبة القصاص التي تقدم على غيرها عند اتحاد المحل. 

3- وتكون عقوبة القصاص أسبق في الترتيب من العقوبات المبينة في المادة (72) 

من هذا القانون.

الإيضاح 

واجهت الفقرة الأولى من هذه المادة حالة اجتماع جريمة اعتداء على ما دون النفس موجبة للقصاص، مع جريمة أخرى معاقب عليها بالإعدام سواء أكانت عقوبة الإعدام موقعة في جريمة من جرائم الحدود، أم في جريمة قتل موجبة للقصاص، أم في جريمة تعزيرية (كالو قطع الجاني يد شخص وارتكب جريمة حرابة يعاقب عليها بالإعدام حدا، أو جريمة قتل موجبة للقصاص، أو جريمة تعزيرية عقوبتها الإعدام). وقد نص المشروع على الحكم الذي سبق النص عليه في الفقرة الرابعة من المادة (79)، غير أن مجال إعمال هذا الحكم في جرائم الاعتداء على ما دون النفس أن يكون المجني عليه قد طلب القصاص، كأن طلب قطع يد الجاني، فإن إعدام الجاني للجريمة الموجبة للإعدام يجب قطع يده في هذه الحالة بحسبان أن قتل الجاني يستغرق قطع يده، ويكون الرأي القائل بعدم الاجتماع أولى بالاتباع. أما إذا كان المجني عليه قد اختار الدية دون القصاص، فإن إعدام الجاني لا يخل بحق المجني عليه في الدية عما قطع منه؛ لأن الدية حق مالي للمجني عليه لا تجبه عقوبة الإعدام على خلاف عقوبة القصاص. 

أما الفقرة الثانية من المادة فتواجه حالة اجتماع جريمة اعتداء على ما دون النفس موجبة للقصاص مع جريمة أخرى فيها الدية أو معاقب عليها بغير الإعدام، وفي هذه الصورة فإن العقوبة المقررة للجريمة الأخرى لا تخل بتوقيع عقوبة القصاص، ومثال ذلك أن يقطع الجاني يد شخص ويجرحه جائفة، ففي القطع قصاص وفي الجائفة الدية، ولا تخل إحداهما بالأخرى، أو أن يقطع الجاني يد شخص ويسرق، فمعاقبته عن السرقة لا تخل بعقوبة القصاص عن قطع اليد، وإذا كانت السرقة مما يعاقب عليها حدا يقطع يمني السارق، فلا تخل بحق المجني عليه، فله أن يطلب قطع يمناه قصاصا إذا كانت اليمني هي التي قطعت من المجني عليه، وفي هذه الحالة تقدم عقوبة القصاص على عقوبة السرقة، وهذا هو المقصود مما ورد في نهاية الفقرة الثانية من أن عقوبة القصاص تقدم على غيرها عند اتحاد المحل. 

(يراجع في تعدد الجرائم وتداخلها واتجاهات المذاهب فيها - على وجه الخصوص - 

المغني ج (8) ص (296) وما بعدها). 

وينص المشروع في الفقرة الثانية من المادة على أن تكون عقوبة القصاص الترتيب من العقوبات المبينة في المادة (72) من هذا القانون. 

الدية وما يستحق منها في جرائم الاعتداء على ما دون النفس 

مادة (257):

أحوال استحقاق الدية: 

يحكم على الجاني بالدية أو الجزء المقدر منها ، وتستحق للمجني عليه في حالات امتناع عقوبة القصاص في جرائم الاعتداء على ما دون النفس إذا وقعت عمداً ، وفي  حالة وقوع هذه الجرائم بطريق الخطأ متى ألحقت بالمجني عليه أي أذى من أنواع الإيذاء المنصوص عليها في المادة (227)، وذلك دون الإخلال بالعقوبة التعزيرية المقررة. 

الإيضاح 

الدية - حسبما يبين من المادة (228) و(257) من المشروع - عقوبة مالية مقدرة شرعا، فالصفة الغالبة للدية هي أنها عقوبة يحكم بها على الجاني عند توافر شروط استحقاقها وقدرها محدد، وتجب بصفة أصلية أحياناً ، وبدلاً عن عقوبة القصاص أحياناً أخرى، وكل هذه الخصائص من سمات العقوبة سيما وأن ثمة جرائم عمدية تمتنع فيها عقوبة القصاص، وإنما يعاقب عليها بالدية - كقطع طرف لا يجوز القصاص فيه -، ويقابل ذلك أن للدية بعض صفات التعويض عن الضرر، وفيها معنى التعويض؛ لأنها تستحق للمجني عليه عن الجريمة، وله حق التنازل عنها أو التصالح على أقل منها قدراً ، بل وعلى أكثر إذا كانت الجريمة موجبة للقصاص وليس ذلك كله من سمات العقوبة البحتة. 

والدية إما أن تستحق كاملة للمجني عليه، وإما أن يستحق له جزء مقدر منها على النحو الوارد بالمشروع، وذلك في كافة حالات امتناع عقوبة القصاص في الجريمة التي وقعت من الجاني عمدا، كما تستحق الدية أو الجزء المقدر منها للمجني عليه في جرائم الخطأ. وذلك متى ألحقت هذه الجرائم بالمجني عليه أي أذى من أنواع الإيذاء المنصوص عليها في المادة (227). ذلك بأن جرائم الخطأ ليس فيها قصاص، بل فيها الدية فحسب، وقد وردت الإشارة إلى ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ) (سورة النساء، الآية: (92)). فالعقوبة في جرائم العمد هي القصاص أو الدية، أما جرائم الخطأ فلا يجب فيها إلا الدية . وتوقيع عقوبة الدية أو الجزء المقدر منها - ويسمى «أرشا» إذا كان مقدرا بالنص، و(حكومة) إذا ترك تقديره للقاضي - لا يخل في كافة الأحوال بتوقيع العقوبة التعزيرية المقررة. 

وقد حدد المشروع الجرائم التي تجب فيها الدية سواء وقعت جريمة الاعتداء على ما 

دون النفس عمداً - في حالات امتناع عقوبة القصاص -، أو وقعت هذه الجريمة بطريق الخطأ، وسلك المشروع في تقسيم هذه الجرائم من قبل في المادة (227) منه مسلك الفقه الإسلامي في تقسيمه لأنواع الاعتداء، وصوره التي تقع بها هذه الجرائم، وذلك إلى جرائم قطع طرف وما في حكمه، وإذهاب حاسة أو منفعة وما في حكمها، وجرائم الشجاج (وهي جروح الرأس والوجه)، وجرائم الجراح (وهي جروح الجسد في غير الرأس والوجه)، وهذا التقسيم الفقهي يستند في أصله إلى نتيجة الاعتداء وأثره، فإما أن يترتب على الاعتداء قطع طرف کما ورد في النص القرآني كالعين أو الأنف أو الأذن، ويقاس عليها بطريق اللزوم باقي الأطراف كاليد والرجل واللسان والذكر، وتعد السن في حكم الطرف، وقد وردت في الآية الكريمة: ( وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ)(سورة المائدة، الآية: (45)). 

وإما أن يترتب على الاعتداء إفقاد منفعة العضو مع بقاء عينه ، كإفقاد البصر مع بقاء العين صورة، أو إفقاد الشم مع بقاء الأنف صورة ، أو إفقاد النطق مع بقاء اللسان صورة. 

وكذلك قد يكون الاعتداء إصابة في الرأس أو الوجه مما يعد من قبيل الشجاج، وقد يكشف هذا الاعتداء عن عظم ولا يمسه بادئ، وقد يهشم الاعتداء العظم أو ينقله من مكانه، وقد يصل الاعتداء إلى أم الدماغ أو إلى المخ نفسه إذا لم يمت منه المجني عليه، وقد سمى الفقهاء المسلمون هذه الصور من الاعتداء على الرأس والوجه، بالموضحة ، والهاشمة ، والمنقلة ، والأمة (أو المأمومة والدامغة)، وهذه الجرائم كلها - عدا الموضحة - أخذ مشروع القانون بوجوب الدية فيها كأصل؛ نظراً لأن القصاص فيها لا يؤمن معه الحيف فتستحق الدية أصلاً وقد قدرها الشارع في الهاشمة والمنقلة والأمة ، وقدر أقل ما في الدامغة بثلث الدية، أما الموضحة فيجوز فيها القصاص؛ لأن الإصابة فيها لها حد تنتهي إليه وهو العظم. 

وأما أن يترتب على الاعتداء جراح من جروح الجسد، وهذه الجراح أخذ المشروع 

بالدية فيها كعقوبة أصلية؛ أخذا بالأحوط في تحقيق المماثلة بن الجريمة والعقوبة، إذ قال بعض الفقهاء بوجوب القصاص في الجراح، ولكن هناك رأيا للإمام أبي حنيفة بأن القصاص في جروح الجسد غير مأمون؛ لأنه كثيرا ما لا يكون له حد ينتهي إليه کعظم أو مفصل، وتجب فيها بذلك الدية، وبهذا أخذ المشروع. 

ويلاحظ أن الصور التي أوردتها الشريعة للاعتداء على الجسد وأثره تشمل جميع صور الاعتداء التي يعاقب القانون الوضعي على مقارفتها، ولا تختلف الشريعة عن القانون إلا في مقياس العقوبة وتقديرها، فقد أخذ القانون بمقياس مدة المرض الذي يسببه الأذى إلى الجزء الرابع جانب مقاييس أخرى، واعتمدت الشريعة الإسلامية مقياسا آخر للعقوبة القدرة شرعاً هو نتيجة الاعتداء ذاته من حيث مساسه بالجسم. 

(بدائع الصنائع ج- (7) ص (308) وما بعدها، تحفة الفقهاء للسمرقندي وهي أصل بدائع الصنائع للكاساني الحنفي مطبعة: جامعة دمشق 1379 / 1959 ، الجزء الثالث من (151) وما بعدها، نهاية المحتاج ج (7) ص (299) وما بعدها - المغني ج (8) ص (302) وما بعدها). 

مادة (258):

 مقدار الدية: 

1- الدية الكاملة أربعة آلاف ومائتان وخمسون جراماً من الذهب الخالص، ويقوم جرام الذهب بالسعر المحدد وقت ارتكاب الجريمة من مصلحة دمغ المصوغات والموازين .

2- ولا يختلف مقدار الدية باختلاف جنس المجني عليه أو دينه.

3- ولا تتعدد الدية بتعدد الجناة، وتقسم عليهم بالتساوي.

4- وإذا ساهم المجني عليه في الخطأ تقسم الدية بين الجاني او الجناة وبين المجني عليه بالتساوي بقدر عددهم، ويقتطع من الدية ما يقابل حصة المجني عليه فيها. 

5- وتطبق الفقرات الثلاث السابقة على الجزء المقدر من الدية. 

الإيضاح

الدينار هو المثقال، لأنه اسم للقطعة من الذهب المضروبة المقدرة بالمثقال، فاتحادهما من حيث الوزن، والدينار عشرون قيراطا، والدرهم أربعة عشر قيراطاً ، فالدينار او المقال درهم وثلاثة أسباع درهم (حاشية رد المحتار لابن عابدين الحنفي، مطبعة: مصطفی الحلبي 1386 / 1966 ، الجزء الثاني ص (296) ، ويراجع في أن المقال هو الدينار کتاب الفقه على المذاهب الأربعة قسم العبادات، مطبعة: دار الكتب 1358 / 1939  ص  (481) - وفي أن المثقال وزن مقداره درهم وثلاثة أسباع درهم المعجم الوسيط، مطبعة: مصر 1380 / 1960  الجزء الأول ص (98 )). ولما كان الدرهم يساوي 2,975 جرام فيكون الدينار 10/ 7 × 2975 / 1000 = 4,25 جراماً ، وقد نصت المادة (258) على أن مقدار الدية الكاملة هو أربعة آلاف ومائتان وخمسون جراماً من الذهب الخالص ، ويقوم جرام الذهب بالسعر المحدد وقت ارتكاب الجريمة من مصلحة دمغ المصوغات والموازين، وقد روعي في ذلك الأخذ بنصاب الذهب، باعتبار أن الدية الكاملة ألف دينار ذهبا، وأن الدينار الذهب وزنه 4,25 جراماً من الذهب، فتكون الدية الكاملة 1000 دینار × 4,25 جم = 4250 جراماً من الذهب الخالص الذي يمكن أن يصنع عملة مضروبة ، وذلك باحتساب النصاب بالذهب ، ونظراً لتغير قيمة الذهب من وقت لآخر رأت اللجنة أن يقوم جرام الذهب بالسعر المحدد وقت ارتكاب الجريمة من مصلحة دمغ المصوغات والموازين. 

وقد نصت الفقرة الثانية من المادة على أن مقدار الدية لا يختلف بحسب جنس المجني عليه أو دينه، فالدية واحدة سواء كان المجني عليه مسلماً أو ذماً ، وقد أخذ المشروع في هذه التسوية برأي الحنفية، وعدل عن رأي المالكية والشافعية بجعل دية الذمي نصف دية المسلم، وهو رأي الحنابلة أيضا (حاشية رد المحتار ج (6) ص (554) و(574) و(570)، ويراجع في اتجاهات المذاهب المغني ج(8) ص (383) إلى (386))، كما أخذ المشروع برأي ابن علية والأصم من أن دية المرأة كدية الرجل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم أن: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» (المغني ج (8) ص (387)). ويساند هذه التسوية أن النظر يجب أن يكون إلى الاعتداء على النفس الإنسانية وهي واحدة، ولا يكون للأنصبة في الميراث، أو لمعنى المنفعة فيها وهو معنى لا يرتفع عن الجدل والخلاف. 

ونصت الفقرة الثالثة على أن الدية لا تتعدد بتعدد الجناة ، وأنها تقسم عليهم بالتساوی ، کما نصت الفقرة الرابعة على أن المجني عليه إذا ساهم في الخطأ تقسم الدية بينه وبين الجاني أو الجناة بالتساوي بقدر عدد الجميع، ثم يقتطع من الدية ما يقابل حصة المجني عليه فيها. وهذا كله يتفق مع ما جاء في باب الجناية على النفس، وغني عن البيان أن الأحكام التي أوردتها الفقرات الثانية والثالثة والرابعة تسري على الجزء المقدر من الدية مثلها تسري على الدية الكاملة ، وهو ما نصت عليه الفقرة الخامسة ؛ زيادة في تأكيده. 

هذا، وقد أخذ المشروع بتقدير الدية بالنقد المعمول به، وهو أصل في تقدير الدية إلى جانب الإبل والبقر والشياه والحلل، وقد حددت الدية بالنسبة إلى هذه الأشياء؛ حتى يسهل على أهل كل بلد أداؤها مما عندهم، وعلى هذا نص كثير من الفقهاء، والأخذ بالمعيار النقدي أضبط وأيسر وأنسب للعصر الذي نعيش فيه ومطابق للشرع الشريف؛ إذ الذهب يعد من أصول الأثمان، ولا خلاف مطلقا في تقدير الدية به. 

المذهب الحنفي: بدائع الصنائع ج (7) ص (253) وما بعدها، المذهب المالكي: حاشية العدوي، المطبعة الأميرية 1309 هـ ، الجزء الثاني ص (310) وما بعدها، المذهب الشافعي: منهاج الطالبين للنووي، وحاشية القليوبي وعميرة، مطبعة: دار إحياء الكتب العربية، الجزء الرابع ص (131) وما بعدها، المذهب الحنبلي: المغني ج(8) ص (351) وما بعدها). 

مادة (259):

ما يستحق من الدية في جرائم قطع الأطراف وما في حكمها: 

تقدر الدية أو الجزء المستحق منها في جرائم قطع الأطراف وما في حكمها على النحو الآتي: 

1- دية كاملة في جريمة قطع الأنف من المارن أو من القصبة، وثلث الدية إذا قطع أحد المنخرين أو الحاجز بينهما. 

2- دية كاملة في جريمة قطع اللسان إذا استوعبه القطع. 

3- دية كاملة في جريمة قطع الذكر كله أو حشفته. 

4- دية كاملة في جريمة كسر العمود الفقري إذا ترتب على الكسر فقد القدرة على المشي أو الجماع. 

5- دية كاملة في اليدين ، أو الرجلين أو أصابعها، أو قطع الأذنين ، أو الشفتين، أو الأنثيين، أو ثديي المرأة وفي قلع العينين، وتستحق نصف الدية إذا اقتصر القطع أو القلع على أحد العضوين .

6- عشر الدية في جريمة قطع الأصبع، ونصف دية الأصبع في قطع أنملة الأصبع 

الإبهام، وثلثها في سائر الأنامل في اليد أو الرجل. 

7- جزء من عشرين من الدية في جريمة قلع السن. 

الإيضاح 

وضحت هذه المادة من المشروع مقدار الدية أو الجزء المستحق منها في الجرائم التي ينتج عنها قطع الأطراف وما في حكمها، ويعبر الفقهاء المسلمون عنها أحياناً بجرائم إبانة الأطراف، وهي في معنى قطعها وإزالتها، وقد حددت هذه المادة ما يستحق من الدية عند إزالة طرف من الأطراف ، وهذا التحديد للدية قد ورد في كتب الفقه الإسلامي مستندا إلى أصوله في الشرع الشريف. 

فإذا قطع الأنف كله أو قطع من المارن (وهو ما لان من الأنف) - فإن المجني عليه يستحق دية كاملة عند امتناع القصاص، وإذا قطع أحد المنخرين أو الحاجز بينهما استحق المجني عليه ثلث الدية، أما إذا قطع أي جزء آخر فيقدر الجزء المستحق من الدية بقدره، ويقوم القاضي بتقديره بحسب جسامة الاعتداء وأثره طبقاً للمادة (263) من المشروع. 

وما ورد في المادة (259) يستند إلى اتفاق الأئمة الأربعة بالنسبة إلى الدية الكاملة إذا قطع الأنف كله، أو المارن؛ لقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «في الأنف إذا أوعب جدا الدية». أما بقية ما ورد من تقدير، فيستند إلى أن الأنف يشتمل على ثلاثة أشياء هي أجزاؤه فاستحق كل منها ثلث الدية (بدائع الصنائع ج- (7) ص (311) ، تحفة الفقهاء ج (3) ص (159) ، نهاية المحتاج ج (7) ص (310) ، المغني ج (8) ص (435) و (436)). 

وحدت المادة الدية الكاملة عند قطع اللسان كله ؛ لأنه تتعلق به منافع کاملة كالنطق والذوق، ويتفق ذلك مع قول الأئمة الأربعة ، وما روي عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود رالله عنفر؛ تأسيساً على ما ورد عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه في كتابه لعمرو بن حزم: «وفي اللسان الدية» .

(تبيين الحقائق ج (6) ص (129)، نهاية المحتاج ج (7) ص (310) ، المغني ج (8) ص (437) و (438)). 

کا تستحق الدية كاملة في قطع الذكر كله أو حشفته كلها، فالحشفة إذا استوعبها القطع تساوي الذكر. 

(الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للدردير مطبعة: دار المعارف 1974 م ، الجزء الرابع ص (387) و (390) ، نهاية المحتاج ج (7) ص (314)). 

أما عند وقوع الجريمة على العمود الفقري (الصلب) فإنه إذا كسر، وترتب على كسره فقد القدرة على المشي أو الجماع - فإن الدية تستحق كاملة؛ لأن الكسر ترتب عليه فقد منفعة كاملة تستوجب الدية الكاملة، وعند كسر الصلب وجبر الكسر بالعلاج أو نحوه فإن ذلك لا يترتب عليه الدية كاملة وإنها يقدر الجزء المستحق منها با ترتب على الإصابة من تشويه، أو فقد منفعة جزئية. 

(بدائع الصنائع ج- (7) ص (311)، تحفة الفقهاء ج (3) ص (160)، نهاية المحتاج جـ (7) ص (322) و (323)، المغني ج- (8) ص (453) و(454)). 

وكذلك فإن قطع اليدين أو الرجلين تستحق عنهما الدية كاملة باتفاق، وذلك لأن منفعتها كاملة تستوجب دية كاملة، ويلاحظ أن اليد تطلق على الذراع كله وعلى الأصابع إذا استوعبها القطع جميعا، فأقل ما يطلق عليه اليد هو الأصابع جميعها، وأكثر ما يطلق عليه اليد هو الذراع كله حتى المنكب، والرجل في ذلك كالذراع، فأقل ما يطلق عليه الرجل هو أصابعها، وأكبر ما يطلق عليه الرجل من القدم حتى أعلى الفخذ، واستند الحكم الوارد في المشروع إلى رأي الإمام مالك، وبعض الفقهاء الشافعية، وفقهاء مذهب أحمد (المغني ج (8) ص (449) و(450) و(457)). وسيأتي حكم دية الجزء الباقي من اليد أو الرجل إذا قطع الجزء الأصغر بجريمة ثم قطع الجزء الباقي من اليد أو الرجل بجريمة أخرى، ويدخل ذلك في أحكام تداخل الديات. 

وتستحق الدية كاملة أيضا في قطع الأذنين ؛ لأن فيها منفعة وجمالاً ، وقال بذلك الأئمة الأربعة ، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم: «وفي الأذن خمسون من الإبل». وفي قطع الشفتين كذلك ؛ لأن فيهما منفعة وجمالا، وذلك باتفاق أهل العلم، ولما ورد في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «وفي الشفتين الدية». وإن كان قد روي عن زید بن ثابت رضى الله عنه ، وسعيد بن المسيب، والزهري ، وأحمد بن حنبل – أن في الشفة العليا الثلث ، وفي السفلى الثلثين، وقد عدل المشروع عن ذلك؛ لأن الرأي الأول أقوى سندا وأبسط تطبيقاً. 

وقد اتفق الأئمة الأربعة كذلك على وجوب الدية كاملة في الأنثيين ، وفي ثدي المرأة وفي قلع العينين ؛ لأن إزالة هذه الأطراف فيه إفقاد منفعة كاملة ، وتستحق عنها دية كاملة، وجعل المشروع في قطع طرف واحد من الأطراف المزدوجة في الجسم كقلع عين واحدة، أو قطع أذن واحدة، أو شفة واحدة، أو ثدي واحد - نصف الدية ؛ لأن اتفاق الأئمة الأربعة الأربعة على وجوب الدية الكاملة في قطع الاثنين - يقتضي وجوب نصفها في قطع الطرف الفرد کاليد الواحدة، أو الرجل الواحدة. 

يراجع فيما تقدم بدائع الصنائع ج (7) ص (311) و (314)، تحفة الفقهاء جـ (3) ص (191)، نهاية المحتاج ج (۷) ص (۳۱۰) و(۳۱۶)، المغني ج (۸) ص (۲۷) و(451) و(455)). 

وحددت المادة الجزء المستحق من الدية عن قطع الأصبع بعشر الدية ، يستوي في ذلك إصبع اليد أو الرجل، وتستوي في ذلك كل الأصابع، أما الأنامل فإن أنملة الإبهام يستحق عنها نصف دية الأصبع، نظراً لأن في الإبهام أنملتين فقط على خلاف بقية الأصابع فهي ذات ثلاث سلامیات ، ففي أنملتها ثلث دية الأصبع (المغني ج (8) ص (456) و (457)). 

والسن يجب بقلعه جزء من عشرين من الدية، وروي ذلك في كتاب الرسول صلوات الله وسلامه عليه لعمرو بن حزم: «وفي السن خمس من الإبل». كما اتفق عليه الأئمة الأربعة، ويشترط في استحقاق الدية المقررة للسن أن يكون المجني عليه قد أثغر - أي ذهبت رواضعه ونبتت أسنانه الدائمة -، فلا يقتص من الجاني، أو تجب للمجني عليه الدية المقررة إلا إذا كان لا يرجى عودة سن المجني عليه (المغني ج (8) ص (430) وما بعدها). 

مادة (260): ما يستحق من الدية في جرائم إفقاد منافع الأعضاء مع بقاء أعيانها: تقدر الدية او الجزء المستحق منها في جرائم إفقاد منافع الأعضاء مع بقاء أعيانها على النحو الآتي: 

1- دية كاملة إذا ترتب على الجريمة فقد حاسة البصر أو السمع أو الشم، ونصف الدية إذا ترتب على الجريمة فقد حاسة البصر من إحدى العينين، أو حاسة السمع من إحدى الأذنين، أو حاسة الشم من أحد المنخرين. 

2- دية كاملة في إفقاد العقل أو إفقاد حاسة الذوق أو اللمس.

3- دية كاملة إذا نشأ عن الجريمة العجز عن الكلام أو المشي أو الجماع. 

 

الإيضاح 

وضحت هذه المادة مقدار الدية أو الجزء المستحق منها إذا ترتب على الاعتداء فقد منفعة في الجسم مع بقاء العضو الذي تتعلق به هذه المنفعة صورة، كما لو ترتب على الاعتداء ذهاب حاسة البصر مع بقاء العين ، أو ذهاب حاسة السمع مع بقاء الأذن أو ذهاب حاسة الشم أو الذوق مع بقاء الأنف أو اللسان. ويعبر القانون الوضعي عن هذه الجرائم وأثرها بأنه فقد حاسة من الحواس، وهي تعد بطبيعتها عاهة مستديمة بحكم المادة (515) من هذا القانون. 

والقاعدة المقررة أن إفقاد المنفعة إفقاداً كاملاً بالاعتداء فيه دية كاملة ، أما إفقاد الحاسة في أحد الأعضاء المزدوجة نصف الدية ، كما لو فقد إبصار عين واحدة، أو فقدت حاسة الشم من منخر واحد ، أو حاسة السمع من إحدى الأذنين، وثمة منافع وحواس متعددة تدرك بطرف واحد كالذوق والكلام بالنسبة للسان، وفي فقد هذه الحواس الدية كاملة. 

وهناك منافع أخرى يترتب فقدها على الاعتداء على الأطراف المتعلقة بها ولو لم يكن التعلق مباشراً ، فإذا اعتدى إنسان على آخر في رأسه فذهب عقل المجني عليه ، أو فقد القدرة على النطق، أو فقد القدرة الجنسية - كان في ذلك دية كاملة، وكذلك إذا ترتب على الاعتداء العجز عن المشي ، كما لو كان الاعتداء على الساقين فأبطل المشي مع بقاء الساقين صورة ، أو كان الاعتداء على الصلب وتم علاجه ولكن ترتب على الجريمة فقد القدرة الجنسية - فإن كل ذلك يستوجب دية كاملة ؛ لأن المنفعة التي فقدت كاملة. 

ويلاحظ أن الفقد الذي يستحق عنه دية كاملة يجب أن يكون فقدا كاملاً ، فإذا ترتب على الجريمة تقليل البصر في العينين أو إحداهما ، أو تقليل السمع ، أو إضعاف حاسة الشم - لا تستحق دية كاملة ، ولكن يطبق حكم المادة (263) وسيأتي ذكره فيما بعد. 

وجدير بالذكر أن المشروع قد اختار الأحكام المتفق عليها بين الفقهاء، وترك بعض مواطن الخلاف الجزئية التي تتعلق مثلا بالاعتداء على شخص لا تكتمل فيه الحاسة أو المنفعة قبل الجريمة، كالاعتداء على أعور بها يفقده بصر عينه الباقية، وقد استند المشروع في الحكم الذي أورده في خصوص التسوية في استحقاق نصف الدية بين من يعتدي على أعور، ومن يعتدي على عين واحدة لسليم البصر في العينين - إلى مذهبي الإمامين أبي حنيفة والشافعي، وتوخي في ذلك سهولة التطبيق، والوقوف عند حد النص القرآني: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) ، وإن كان الرأي المخالف يستند إلى قضاء للصحابة لم يعرف له مخالف. 

(يراجع فيها تقدم تبيين الحقائق جـ (6) ص (129) ، نهاية المحتاج جـ (7) ص (315) وما بعدها، المغني جـ (8) ص (427) و (428)، وفي الرأي المخالف حاشية الدسوقي جـ (4) ص (255) ، الشرح الصغير جـ (4) ص (357)). 

مادة (261): 

يقدر الجزء المستحق من الدية في جرائم الشجاج على النحو الآتي:

1- في جريمة إحداث موضحة يستحق جزء من عشرين من الدية.  

2- في جريمة إحداث هاشمة - وهي إصابة بالرأس أو بالوجه تهشم العظم - يستحق 

عشر الدية. 

3- في جريمة إحداث منقلة - وهي إصابة بالرأس أو بالوجه تنقل العظم - يستحق 

3 / 10 من الدية. 

4- في جريمة إحداث أمة أو مأمومة - وهي إصابة تصل إلى أم الدماغ فوق المخ - 

يستحق ثلث الدية. 

5- في جريمة إحداث دامغة - وهي إصابة تصل إلى الدماغ «المخ» - يستحق ثلث 

الدية ، وتزيد عليه المحكمة إذا نشأت عن الإصابة أضرار أخرى. 

الإيضاح 

حددت المادة الجزء المستحق من الدية في جرائم الشجاج الواردة في هذا الباب ، وقد اختار المشروع أن يكون قدر المستحق من الدية في الشجاج (جروح الرأس والوجه) - محددا بحسب ما ورد من الشارع وفي حالاته ، وترك تحديد غيره من الحالات إلى المحكمة، وراعى المشروع أن يكون ما اختاره مستنداً إلى اتفاق الأئمة عليه. 

فجريمة إحداث موضحة يستحق المجني عليه عنها جزءاً من عشرين من الدية ، والموضحة هي الجرح بالرأس أو الوجه الذي يكشف عن العظم ، ولا يمسه بسوء، ولو كان ما کشف يسيراً (ولو بقدر مغرز إبرة كما عبر الفقهاء المسلمون) - فلا يختلف أرش موضحة بكبرها وصغرها ولا ببروزها وخفائها، وهذا الجرح غالباً ما يشفى دون أي خطير يترتب عليه ، فالموضحة ليست إلا جرحاً في الرأس أو الوجه ، ومرجع ذلك بطبيعة الحال إلى الخبرة الطبية التي تحدد مآلها. وهناك الهاشمة وهي في اصطلاح الفقهاء إصابة تقع على الرأس أو الوجه وتهشم العظم ، ولا هم مقدار العظم الذي تهشمه الإصابة يسيراً كان أم كبيراً ، ويستحق في الهاشمة عشر الدية. 

أما إذا وصلت الإصابة بحيث تنقل العظم من مكانه ، أو يحتاج في تداويها إلى نقل العظم (كما ورد في تأويلها في بعض كتب الفقه) - فإنه يستحق  فيها 3 /10من الدية، وإذا وصلت الإصابة إلى أم الدماغ (وهي الجلدة التي تقي المخ تحت عظم الجمجمة ، ويطلق عليها في الطب الشرعي: الأم الجافية) - فيستحق ثلث الدية، أما إذا وصلت الإصابة إلى المخ، ويعبر عنها الشرعيون بالدامغة وهي التي تصل إلى الدماغ أي المخ - فإنه وإن كان يستحق ثلث الدية كذلك، إلا أنه يلاحظ أن وصول الإصابة إلى المخ قد يرتب دية كاملة إذا أفقد منفعة كاملة، بل قد يكون فيه قصاص إذا كان الجاني متعمداً القتل ومات المجني عليه، وراعى المشروع أن يكون المستحق الثلث ؛ لأن الثلث هو القدر الذي ورد في هذه الإصابة لمساواتها المأمومة في أرشها، وقيل فيها مع ذلك حكومة؛ لحرق جلدة الدماغ ، بينها لم يذكرها البعض، ويحتمل أنهم تركوا ذكرها لكونها لا يسلم صاحبها في الغالب، ولذلك خول المشروع المحكمة أن تحكم بها يزيد على الثلث، إذا كانت ثمة نتائج أخرى عن هذه الإصابة ، وهو احتیاط شديد يتفق مع الشرع الحنيف. 

(يراجع فيها تقدم بدائع الصنائع، ج (7) ص (316) و(317)، تبيين الحقائق ج (6) ص (132) و(133)، الشرح الصغير جـ (4) ص (352) و(382) و(383)، الوجيز في فقه الشافعي للغزالي ، مطبعة: الآداب، والمؤيد 1317 هـ  ، الجزء الثاني ص (141)، نهاية المحتاج جـ (7) ص (304) وما بعدها، المغني جـ (8) ص (463) إلى (467)). 

ولم يأخذ المشروع بما هو مختلف فيه من مقادير مستحقة من الدية في الإصابات سالفة الذكر، أو غيرها من الإصابات التي ليس هناك اتفاق على مقدار أرشها، وراعى تبسيط الأحكام؛ حتى يكون هذا أثره في العمل بالابتعاد عن الفروع أو المسائل الخلافية مع ضبط الحكم فيما اتفق عليه غالب الفقهاء، وأكثر ما اعتمد عليه المشروع في تحديد هذه المقادير ما كان مستندا إلى رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو اتفاق أهل العلم على المقدار المستحق. 

مادة (262) : يستحق ثلث الدية في الجرائم التي ينشأ عنها جرح جائف، وهو النافذ إلى التجويف الصدري أو البطنی، وإذا نفذت الجائفة من الجانب الآخر، اعتبرت جائفتين. 

الإيضاح 

أخذ المشروع بتحديد جزء من الدية يقدر بثلث الدية في حالة إحداث جرح جائف (نافذ) بالمجني عليه، وقد ورد في وصف الجرح الجائف أنه النافذ إلى التجويف البطني أو الصدري في قول المالكية ، وقال الشافعية والحنابلة: إن الجرح الجائف هو الذي يصل إلى الجوف من البطن أو الصدر أو ثغرة النحر أو الورك. وذكر ابن عبد البر أن مالكاً وأبا حنيفة والشافعي اتفقوا على أن الجائفة لا تكون إلا في الجوف، وبهذا أخذ المشروع، اكتفاء بالقدر المتفق عليه من الفقهاء الأربعة من أن الجرح الجائف ينطبق على ما ينفذ إلى التجويف البطني أو الصدري ، وللفقهاء بعد ذلك تفريعات وأوجه خلاف في بقية المواضع التي يكون الجرح فيها جائعاً لم يأخذ بها المشروع. 

ويستند تحديد مقدار الدية المستحق عن الجرح الجائف بالثلث إلى ما ورد في كتاب 

النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى عمرو بن حزم .

وأخذ المشروع برأي الجمهور من أن الجرح الجائف إذا دخل من مكان وخرج من آخر، عد بمثابة جرحين يستحق عنهما ثلثا الدية، وذلك كإطلاق رصاصة مثلا، وهو أمر شائع هذه الأيام، فقد تدخل الرصاصة من جهة وتخرج من جهة أخرى، وهذا القول يستند إلى قول الجمهور، ويخالف رأيا في ذلك لدى الشافعية يقول بأن ما يستحق هو ثلث الدية فحسب، ولكن استحقاق ثلثي الدية في هذه الحالة وأشباهها أقرب للعدل. 

تبيين الحقائق ج (6) ص (132) و(133)، الشرح الصغير جـ (4) ص (28) ، الوجیز، جـ (2) ص (142) ، نهاية المحتاج جـ (7) ص (206) وما بعدها، المغني جـ - (8) ص (468)). 

مادة (263): 

تقدر المحكمة الجزء المستحق من الدية للمجني عليه، إذا نشأ عن إحدى الجرائم المنصوص عليها في المواد الأربع السابقة - قطع جزء من العضو، أو فقد جزئي من منفعة عضو، أو جرح غير نافذ، أو أية إصابة ليس فيها جزء مقدر من الدية، ويكون تقدير الجزء المستحق من الدية بحسب جسامة الاعتداء والضرر المترتب على الجريمة، مع مراعاة النسب المحددة في هذا الباب. 

- وللمحكمة أن تستعين في تحديد الضرر برأي أهل الخبرة. 

الإيضاح 

عرض المشروع للحالات التي يكون فيها أثر الجريمة قطع جزء من العضو، أو فقدا جزئياً من منفعة عضو، أو جرحاً غير جائف (غير نافذ) في الجسد، أو جرحاً في الرأس أو الوجه لا يصل إلى ما حدد المشروع - مقدار المستحق من الدية فيه بقدر معين، وفي هذه الجرائم لا يكون قصاص بحسب أحكام المشروع ؛ إذ لا ينتهي القطع مثلاً إلى مفصل أو عظم ، ولا تكون المماثلة مأمونة ، ولذلك يئول الأمر إلى جزء من الدية يكون هو المستحق أصلا وبجانبه تعزیر الجاني. 

وقد اختار المشروع الأخذ بتقدير ما يستحق من الدية بمعرفة المحكمة برغم خلاف الفقهاء، فمنهم من يرى القصاص، ومنهم من يرى استحقاق جزء من الدية ، والذين لم پروا القصاص لاحظوا أن الجزء الذي تقع الجريمة بالقطع أو بفقد المنفعة قد يكون يسيراً أو كبيراً ، لذلك عبروا عن الجزء المستحق من الدية - وهو الأرش غير مقدر - بالحكومة أي شيء محکوم به يحكم به العارف، ومعنى ذلك أن الأمر في تقدير ما يستحق من الدية إلى الحاكم - أي القاضي - فتقدر المحكمة الجزء المستحق من الدية عند امتناع القصاص، وهذا في حالات قطع جزء من العضو مثلاً ، كقطع جزء من اللسان أو الأذن أو الأنف، أو قطع جفن من أجفان العين أو الأهداب، أو جزء لحم الإلية ، أو إزالة حواجب العينين دون أن تنبت بعد الإعتداء) ، وغير ذلك من الحالات، وقد اعتمد المشروع في ترك تقدير ما يستحق من الدية في هذه الحالات وأمثالها للمحكمة على آراء للإمام مالك فيما يتعلق بالأجفان والأهداب وثدي الرجل (ويرافقه الإمام الشافعي فيما يختص بالحاجب وثدي الرجل وأهداب العين). 

وما أخذ به المشروع في الفقرة الأولى من هذه المادة - يتفق في الجملة مع آراء لأئمة المذاهب الأربعة المذاهب الأربعة، ولا يتعارض مع من حددوا القدر الواجب باجتهادهم في بعض المواضع الأخرى التي فيها خلاف؛ إذ مبنى التحديد محاولة تقدير المستحق من الدية بقدر الجريمة بحسب أنظارهم، فرأى المشروع أن يترك تحديد القدر المستحق من الدية إلى تقدير المحكمة بحسب جسامة الاعتداء والضرر المترتب على الجريمة، مع مراعاة النسب المحددة في هذا المشروع، ومثال ذلك الجرح غير النافذ فلا يصح أن تصل المحكمة في تقدير الجزء المستحق من الدية عنه إلى ثلث الدية، وهو المستحق عن الجرح النافذ، وأجازت الفقرة الثانية من المادة للمحكمة أن تستعين بأهل الخبرة من الأطباء وغيرهم في تحديد الضرر. 

(يراجع في شأن مصدر الأحكام الواردة في النص - بدائع الصنائع ج (7) ص (223) و(324)، حاشية الدسوقي ج (4) ص (271) وما بعدها، نهاية المحتاج ج (7) ص (325) وما بعدها، المغني ج (8) ص (476) وما بعدها، ويراجع في وجوب مراعاة النسب المحددة - أي الأرش المقدر - وذلك عندما تقدر المحكمة الجزء المستحق من الدية نهاية المحتاج ج (7) ص (327)، المغني ج (8) ص (478)). 

مادة (264): تتعدد الديات أو الأجزاء المقدرة منها، إذا نشأ عن الجريمة قطع أكثر من عضو، أو فقد أكثر من منفعة، أو حدوث أكثر من شجة أو جرح، کما تتعدد كذلك إذا اجتمع نوع من هذه الجرائم مع الآخر. 

الإيضاح 

عالج نص هذه المادة من المشروع أحكام تعدد الديات، أو الأجزاء المقدرة منها عند تعدد الجرائم، فنص المشروع على أنه إذا نشأ عن الجريمة قطع أكثر من عضو، کما لو قطع الجاني يد المجني عليه وساقه ، أو ترتب على الجريمة فقد أكثر من منفعة ، كما لو ضرب شخص آخر على رأسه فذهب بصره وسمعه من تأثير الضريبة - فتتعدد الدية في هذه الحالة لكل من السمع والبصر؛ لأن لكل منهما ديته ، وكذلك تتعدد الدية إذا ترتب على الجريمة أكثر من شجة في الرأس والوجه ، كما لو أحدث الجاني بالمجني عليه شجتين برأسه، أو برأسه ووجهه، أو أكثر من جرح، فعندئذ يتعدد ما يستحقه المجني عليه من الدية بقدر عدد الشجات أو الجروح، إذا كان فيها أرش مقدر، أو كان التقدير بمعرفة القاضي. 

وهناك فرض آخر تتعدد فيه الديات، وهو اجتماع نوع من هذه الجرائم مع نوع آخر، کا لو أحدث الجاني بالمجني عليه إصابة أذهبت حاسة السمع، وأحدث له جرحاً جائفاً (نافذاً)، أو أحدث به جرحاً هشم عظامه بعد أن قطع ساقية، فهنا اجتمع على المجني عليه قطع يستحق عنه دية كاملة، ويستحق عن الجرح الذي يهشم العظم أرشه المقدر إن كان فيه أرش مقدر، وإلا يستحق ما يقدره القاضي طبقاً لحكم المادة (263). 

وهذه الأحكام في تعدد الديات تتفق مع القواعد العامة في استحقاق الديات عند قطع الأطراف أو فقد المنافع ؛ لأن الأصل تعدد ما يستحق من الدية بقدر الجناية. 

(بدائع الصنائع ج (7) ص (317)، الشرح الصغير ج (3) ص (393)، نهاية المحتاج، ج (6) ص (307)). 

مادة (365):

تداخل الديات:

لا تتعدد الديات أو الأجزاء المقدرة منها في الحالتين الآتيتين:

(أ) إذا نشأ عن الجريمة فقد عضو واحد ولو تعددت منافعه. 

(ب) إذا نشأ عن الجريمة قطع طرف يدخل في طرف آخر أكبر منه، وكانا متساويين في الدية، ثم قطع الباقي أو جزءا منه بجريمة أخرى. 

وفي الحالة الأخيرة يقدر القاضي ما يستحق للمجني عليه عن الباقي من الطرف الأكبر. 

الإيضاح 

نصت هذه المادة من المشروع على أحكام تداخل الديات أو الأجزاء المقدرة منها، أي الحالات التي لا تتعدد فيها وهي حالتان: 

الأولى: إذا نشا عن الجريمة فقد عضو واحد حتى ولو كانت منافعه متعددة، كما إذا قطع شخص لسان آخر فذهب كلامه، وذهبت حاسة الذوق التي تدرك باللسان، فيستحق في هذه الحالة دية واحدة؛ لأن الطرف المقطوع واحد، وإن كانت منافعه متعددة. 

المغني، ج (8) ص (439)). 

الثانية: حالة تداخل العضو المقطوع في أطراف أكبر منه، ومثال ذلك الذي يرد في كتب الفقه ما لو قطع شخص أصابع آخر، فهنا تستحق دية كاملة عن الأصابع كلها؛ لأن فيها الدية، فإذا وقعت على المجني عليه جناية أخرى بعد ذلك قطع فيها الجاني جزءاً من كف المجني عليه نفسه أو عضده فإن ذلك يتداخل مع الدية التي استحقت عن اليد؛ لما أن اليد تطلق على ما بين الأصابع والمنكب، فهو كله يطلق عليه اليد، والأصابع - وهي جزء من اليد أو جزء من القدم - يستحق عنها دية كاملة شرقا، وكذلك إذا وقعت جريمة أخرى قطع فيها جزء من ساق المجني عليه، سواء من الفاعل الأول، أو من شخص آخر - لم تستحق دية، وإنما يقدر القاضي ما يستحقه المجني عليه نظير الجزء المقطوع في الجناية الأخيرة، باعتبار أن المجني عليه قد اقتضى دية الرجل من قبل، وذلك حتى لا تجتمع دیتان عن طرف واحد هو اليد أو الرجل. 

بدائع الصنائع ج (7) ص (318)). 

مادة (266): 

1- في الاعتداء غير الموجب للقصاص، لا يجوز للمجني عليه الصلح على مال يجاوز الدية، أو الجزء المقدر منها بنص في هذا الباب.

2- ولا يكون للأب أو لغيره ممن ينوب عن المجني عليه أو للنيابة العامة – بحسب 

الأحوال المبينة في المادة (251) - إلا المطالبة بالدية أو الجزء المقدر منها. 

3- وفي غير الأحوال المنصوص عليها في هذا الباب، لا تجوز المطالبة أمام أية محكمة بأي تعويض عن الجرائم المعاقب عليها بالقصاص أو بالدية. 

الإيضاح 

حظرت المادة (266) من المشروع الصلح على مال يجاوز الدية، أو الجزء المقدر منها بنص في هذا الباب، في أحوال الاعتداء غير الموجب للقصاص، ومن ثم يجوز للمجني عليه أن يتصالح على مال يقل عن الدية أو الجزء المقدر منها، كما يجوز له العفو المطلق. أما من ينوب عن المجني عليه إذا لم يكن كامل الأهلية - سواء كان هو الأب أو غيره أو النيابة العامة، بحسب الأحوال المذكورة في المادة (251) من المشروع - فلا تكون له إلا المطالبة بالدية أو الجزء المقدر منها، ذلك بأن الصلح على مال يجاوز الدية المحددة أو الجزء المقدر منها بنص في هذا الباب - يتنافى مع مقصود الشارع من هذا التحديد في الاعتداء غير الموجب للقصاص، وذلك بخلاف الصلح على مال يجاوز الدية مقابل التنازل عن الحق في القصاص. 

کا نصت الفقرة الأخيرة من هذه المادة على أنه في غير الأحوال المنصوص عليها في هذا الباب - کما هو الشأن في المادتين (261) بند (5) وبند (265) (ب) - لا يجوز المطالبة أمام أية محكمة بأي تعويض عن الجرائم المعاقب عليها بالقصاص أو بالدية؛ لأنه متى حكم بالقصاص أو حكم بالدية، فليس من الجائز شرعاً الحكم بأي نوع من أنواع التعويض المنصوص عليها في القانون الوضعي. 

وقد سبق الأخذ بكافة هذه الأحكام في باب الجناية على النفس. 

مادة (267): 

1- تجب الدية أو الجزء المقدر منها في مال الجاني: 

(أ) إذا وقعت الجريمة عمداً. 

(ب) إذا وقعت الجريمة خطأ، وكانت ثابتة بإقراره، ولم تصدقه العاقلة، أو كان قد 

تصالح مع المجني عليه، أو كان ما يتحمله من الدية دون ثلثها. 

2- وتجب الدية أو الجزء المقدر منها على العاقلة في الاعتداء الواقع من المجنون، أو من به عاهة في العقل، أو من غير البالغ، وكذلك الإصابة الخطأ في غير الأحوال المبينة في الفقرة السابقة، إلا أن يكون مؤمنا من المسئولية الناشئة عنه، فتجب على المؤمن في حدود التزامه، فإن بقي منها شيء كان على العاقلة. 

مادة (268): تجب الدية حالة في مال الجاني، ومنجمة على ثلاث سنين في مال العاقلة، ومع ذلك يجوز للمحكمة أن تأمر بتقسيط الدية الواجبة في مال الجاني لمدة أقصاها ثلاث سنين، إذا قدم كفالة يقبلها المجني عليه. 

الإيضاح

تتفق الأحكام الواردة بهاتين المادتين مع ما سبق الأخذ به في مشروع الجناية على النفس. 

فقد نصت المادة (217) في البند (أ) من المشروع على أن دية الجرائم العمدية تجب - هي أو الجزء المقدر منها - في مال الجاني، وهذا لا خلاف فيه بين أكثر أهل العلم؛ لأن العاقلة لا تحمل عمدا. والأصل أن الدية تجب حالة في مال الجاني، وذلك عند الأئمة: مالك والشافعي وأحمد، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنها تجب في ثلاث سنين، وقد أخذ المشروع في المادة (268) منه بالأصل في أنها تجب في مال الجاني حالة، وجاز للمحكمة أن تأمر بدفعها مقسطة لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات، واشترط لذلك تقديم كفالة يقبلها المجني عليه، إذ الحق في الأصل حال والتقسيط عارض، فاشترط ما يقويه بقبول صاحب الحق. 

أما عن دية جرائم الخطأ، فقد اتفق الجمهور على أن العاقلة لا تحمل الدية في حالة الاعتراف والصلح کا، هو الشأن في العمد (إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الحنبلي، مطبعة المدني 1389 / 1969 ، الجزء الأول ص (471 ))، أما في الحالات الأخرى فلا خلاف بين العلماء في أنها على العاقلة وليست على الجاني، وأنها تؤدى في ثلاث سنوات، وهذا التنجيم تضمنه نص المادة (268) من المشروع. وقال الأئمة مالك والشافعي وأحمد: لا يلزم الجاني شيء من دية الخطأ. وهو ما أخذ به المشروع، أما الإمام أبو حنيفة فيعتبر الجاني واحدا من العاقلة، ويحمله نصيبه في الدية (العقوبة ص (657) و (658)). 

وقد نصت هذه المادة في البند (ب) على أن الدية - أو الجزء المقدر منها - تجب في مال الجاني، إذا وقعت الجريمة خطأ و كانت ثابتة بإقراره ولم تصدقه العاقلة، أو كان قد تصالح مع المجني عليه، أو كان ما يتحمله من الدية دون ثلثها، أخذا بها قال به الإمامان مالك وأحمد من أن العاقلة تحمل ثلث الدية أو ما يزيد عليه. أما الإمام الشافعي فقد قال: إن العاقلة تحمل الكثير والقليل. بينما ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن العاقلة تحمل نصف عشر الدية استنادا إلى تحميل العاقلة بالغرة - وهي بهذا القدر - في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

كما نصت الفقرة الثانية من المادة (267) على أن تجب الدية - أو الجزء المقدر منها - على العاقلة في غير الحالات المنصوص عليها في البندين (أ) و(ب) من الفقرة الأولى من المادة، كما تجب الدية - أو الجزء المقدر منها - على العاقلة كذلك في الاعتداء الواقع من المجنون، أو ممن به عاهة في العقل، أو من غير البالغ؛ لما هو مقرر في الفقرة الأولى من المادة (231) من أن عمد هؤلاء يعتبر في حكم الخطأ تجب فيه الدية، وهو قول الجمهور، وخالف الشافعي في رواية بالنسبة للصغير، فرأى الدية في ماله، وذلك إلا أن يكون مؤمنا من المسئولية الناشئة عن القتل الخطأ، فتجب الدية على المؤمن في حدود التزامه، فإن بقي منها شيء كان على العاقلة.

يراجع فيما تقدم بدائع الصنائع، ج (7) ص (256) و(257)، تحفة الفقهاء ج (3) 

ص (183) إلى (185)، نهاية المحتاج ج- (7) ص (350) إلى (356)، المغني ج (8) ص (356) إلى (367)). 

مادة (269): 

1- عاقلة الجاني هي الجهة التي ينتمي إليها السلطة التشريعية ، أو التنفيذية ، أو القضائية، أو القوات المسلحة، أو القطاع العام، أو النقابة ، أو الجمعية ، أو الغرفة ، أو الاتحاد ، أو أي تنظيم مهني أو حرفي. 

2- وتكون العاقلة طرقا في الدعوى الجنائية في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة ، 

كلها وجبت عليها الدية أو الجزء المقدر منها، ويتعين إعلانها بالدعوى. 

الإيضاح 

العاقلة من العقل وهو من أسماء الدية إذ تسمى به لأنها تعقل لسان المجني عليه ، وقيل سميت العاقلة لأنها تمنع الجاني - والعقل المنع - والأصل في وجوب الدية على العاقلة في الخطأ ما ورد عن النبي صلوات الله عليه وسلامه في قضائه بدية المرأة المقتولة ودية جنينها على عصبة قاتليها - فالعاقلة أصلاً كانت هي العصبة -، ولا أهمية للبعد أو القرابة في النسب ، ولا أهمية للميراث، فيكون عصبة من يرث ومن لا يرث؛ لأنه محجوب بأقرب منه ، وبالنسبة لأب الجاني وابنه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية أنها يعتبران من العاقلة. وفي رواية عن أحمد وقول للشافعي: أنها لا يدخلان وقد جعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه عنه العقل على أهل ديوان الجاني وليس على العصبات، وأهل الديوان هم المقاتلة من الرجال البالغين اعتبارا بأن النصرة صارت إليهم (الشرح الصغير ج (4) ص (397) و(398))، وقد ذهب إلى قضاء عمر رضى الله عنه أبو حنيفة ، فجعل العاقلة في أهل الديوان، فإن لم يكن الجاني من أهل الديوان فالدية تتحملها القبيلة ثم أقرب القبائل إليها على ترتيب العصبات، وفي غاية البيان عن كافي الحاكم: «بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه فرض المعاقل على أهل الديوان؛ وذلك لأنه أول من فرض الديوان وجعل العقل فيه، وكان قبل ذلك على عشيرة الرجل في أموالهم، ولم يكن ذلك منه تغييرا لحكم الشرع، بل تقريراً له ؛ لأنه عرف أن عشيرته كانوا يتحملون بطريق النصرة، فلما كان التناصر بالرايات جعل العقل عليهم، حتى لا يجب على النسوان والصبيان؛ لأنه لا يحصل بهم التناصر» (حاشية رد المحتار جـ (6) ص (650)). بينما رأى الإمامان أحمد والشافعي أن أهل الديوان لا يصبحون عاقلة، وأن العاقلة هم العصبة ؛ لأن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قضاء عمر بن الخطاب المغني جـ (8) ص (377))، وقال أحمد وأبو حنيفة : يشترك في العقل الحاضر والغائب من العصبات. وقال مالك: يقتصر العقل على الحاضر، وعن الشافعي روايتان بالانفراد والاشتراك بالنسبة للحاضر مع الغائب ! واستبعد الجمهور من العاقلة الصغير والمجنون والنساء، فلا خلاف لديهم في أنهم لا يعقلون (المرجع السابق ص (377) و (381)). 

وقد أخذ المشروع بمثل النهج الذي سار عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، حين فرض الديوان وفرض الدية على أهله ؛ تقريراً منه لحكم الشرع ! ذلك بأن التحمل من العاقلة إنها كان للتناصر، وقبل وضع الديوان كان التناصر بالقبيلة، وبعد الوضع صار الناصر بالديوان، فصار عاقلة الرجل أهل دیوانه (بدائع الصنائع جـ - (7) ص (256)، التحفة جـ (3) ص (186)). ومن ثم حددت الفقرة الأولى من المادة (269) من المشروع العاقلة - وفقاً لفكرة التناصر - حسبما سبق تحديدها في باب الجناية على النفس، بأنها الجهة التي ينتمي إليها الجاني ! وبينت هذه الجهة على سبيل المثال لا الحصر. 

وأوضحت الفقرة الثانية من المادة (269) أن العاقلة طرف في الدعوى الجنائية في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة ! وذلك في كافة الأحوال التي تجب عليها فيها الدية أو الجزء المقدر منها، ومن ثم يتعين في هذه الأحوال إعلانها كذلك بالدعوى الجنائية. 

مادة (270): 

1- في الاعتداء غير الموجب للقصاص إذا لم يكن لمن وجبت عليه الدية مال يفي بها، وجبت كلها أو ما بقي منها في بيت المال. 

 

 

2- وفي حالة وجوب الدية على العاقلة، تجب الدية في بيت المال إذا لم تكن للجاني عاقلة. 

3- کما تجب الدية في بيت المال في كافة الحالات التي لا يعرف فيها الجاني. 

4- وتسري الأحكام المتقدمة بالنسبة للدية الكاملة أو الجزء المقدر منها. 

الإيضاح 

نصت هذه المادة على أحوال تحمل بیت المال الدية - لما هو مقرر شرعاً من أنه لا يبطل دم في الإسلام - وهي لا تخرج عن ثلاثة فروض: 

(أولها): أن يكون الاعتداء غير موجب للقصاص، ولا يكون لمن وجبت عليه الدية مال يفي بها، ففي هذه الحالة تجب الدية كلها، أو الجزء الباقي منها في بيت المال. 

(ثانيها): أن تكون الدية واجبة على العاقلة وفقا لأحكام هذا المشروع، ولا يكون للجاني عاقلة. 

(ثالثها): أن يكون الجاني مجهولاً في أية حالة من الحالات التي يستحق المجني عليه فيها الدية. ففي الفرضين الأخيرين تجب الدية كلها في بيت المال، وقد نصت الفقرة الأخيرة من المادة على سريان الأحكام المتقدمة بالنسبة للدية الكاملة أو الجزء المقدر منها؛ إذ الدم لا يذهب هدراً في الإسلام، ويجب أن يقابل بالدية، ومن ناحية أخرى فإن بيت المال يرث دية من لا وارث له بحكم القاعدة الشرعية، ولذا قيل بوجوب أن يتحمل الدية المستحقة للمجني عليه الذي لا عاقلة لمن أصابه، أو لا مال عندها، وهو رأي الأحناف والشافعي ورواية عن أحمد. 

(يراجع في شأن تحديد العاقلة وأحكام تحملها وتحمل بیت المال للدية - تبيين الحقائق ج (6) ص (176) وما بعدها، حاشية الدسوقي، ج (4) ص (281) وما بعدها، الوجیز ج (2) ص (153) إلى (155)، نهاية المحتاج ج (7) ص (350) وما بعدها، المغني ج (8) ص (376) إلى (382)). 

مادة (271): إذا ثبت الاعتداء الموجب للقصاص، واختار المجني عليه الدية، أو اختارها من قام مقامه في طلب القصاص، أو تصالح أحدهما على مال - قضت | المحكمة بأداء الدية أو المال المتصالح عليه في الحال أو في الأجل الذي يقبله المجني عليه أو من قام مقامه، وحددت جلسة للتحقق من الأداء، فإذا لم يتم وطلب المجني عليه أو من قام مقامه القصاص - حكمت المحكمة به، ولا يشترط في هذه الحالة أن تكون المحكمة مشكلة من قضاة آخرين. 

الإيضاح 

لئن كان من المقرر أنه متى تم العفو عن القصاص ممن له الحق فيه، فلا يجوز له العدول عنه، إلا أن مجال إعمال هذه القاعدة هو العفو المطلق حسبما ورد بنص الفقرة الأولى من المادة (251) من المشروع، أما إذا ثبت الاعتداء الموجب للقصاص، واختار المجني عليه الدية أو اختارها من قام مقامه في طلب القصاص - وهو أبوه إذا لم يكن كامل الأهلية -، أو تصالح هذا أو ذاك على مال، فقد يماطل الجاني في دفع الدية أو الوفاء بهذا المال، وينتهي الحال إلى أن يفلت الجاني من القصاص ومن الدية، أو من القصاص ومن أداء المال المتصالح عليه، من أجل ذلك أوجبت المادة (271) على المحكمة أن تقضي بأداء الدية أو المال المتصالح عليه في الحال أو في الأجل الذي يقبله المجني عليه أو الأب، وأن تحدد جلسة للتحقق من الأداء، بحيث إذا لم يتم وطلب المجني عليه أو الأب القصاص، حكمت المحكمة به دون اشتراط أن تكون المحكمة مشكلة في هذه الحالة من قضاة آخرين. قد سبق الأخذ بهذا الحكم في باب الجناية على النفس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة:  31   .

 

 (مادة 18) 

تنتفي رابطة السببية بين السلوك والنتيجة، إذا توافر سبب کاف بذاته لإحداث النتيجة. 

وفي هذه الحالة تقتصر مسئولية الشخص عن سلوكه إذا كان معاقباً عليه مستقلاً عن 

النتيجة. 

(مادة 19) 

يتوافر العمد إذا ارتكب الجاني السلوك الإجرامي بإرادته وعلمه وبنية إحداث نتيجته، ولا عبرة في توافر العمد بالباعث على ارتكاب الجريمة، إلا إذا نص القانون على غير ذلك.

 ويتحقق العمد أيضاً إذا توقع الجاني التيجة لسلوكه، فأقدم على ارتكابه قابلاً حدوثها. 

 (مادة 20) يتوافر الخطأ غير العمدي إذا أتى الجاني السلوك دون تعمد إحداث نتيجته، وذلك على نحو لا يصدر عن الشخص المعتاد في مثل ظروفه، عند إتيانه السلوك أو لم يتوقعها، بينما كان على الشخص المعتاد في مثل ظروفه أن يتوقعها. 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الخامس  ، الصفحة / 64

ب - الْجِنَايَةُ عَلَى السَّمْعِ:

تَجِبُ الدِّيَةُ بِذَهَابِ مَنْفَعَةِ السَّمْعِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ: «وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ»، وَلأِنَّ  عُمَرَ رضي الله عنه قَضَى فِي رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلاً، فَذَهَبَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَنِكَاحُهُ وَعَقْلُهُ، بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ وَالرَّجُلُ حَيٌّ. هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَعَدَمِهِ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثامن ، الصفحة / 10

بَتْرٌ

التَّعْرِيفُ:

الْبَتْرُ لُغَةً: اسْتِئْصَالُ الشَّيْءِ بِالْقَطْعِ، يُقَالُ: بَتَرَ الذَّنَبَ أَوِ الْعُضْوَ: إِذَا قَطَعَهُ وَاسْتَأْصَلَهُ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى قَطْعِ الشَّيْءِ دُونَ تَمَامٍ، بِأَنْ يَبْقَى مِنَ الْعُضْوِ شَيْءٌ.

وَقَدِ اسْتُعْمِلَ اصْطِلاَحًا بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ قَطْعٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَيْفٌ بَتَّارٌ أَيْ قَاطِعٌ.

الْحُكْمُ الإْجْمَالِيُّ:

الْبَتْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُدْوَانًا بِجِنَايَةٍ، عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ، كَقَطْعِ الْيَدِ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ وَسَائِلِ الْعِلاَجِ بِقَطْعِ الْيَدِ الْمُصَابَةِ بِالأْكِلَةِ لِمَنْعِ السِّرَايَةِ لِلْبَدَنِ.

تَطْهِيرُ مَوْضِعِ الْبَتْرِ:

- مَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ غَسَلَ مَا بَقِيَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَإِنْ قُطِعَتْ مِنَ الْمِرْفَقِ غَسَلَ الْعَظْمَ الَّذِي هُوَ طَرَفُ الْعَضُدِ؛ لأِنَّ غَسْلَ الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلاَقِيَيْنِ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ، فَإِذَا زَالَ أَحَدُهُمَا غُسِلَ الآْخَرُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقَيْنِ سَقَطَ الْغَسْلُ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ . وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ (الْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ).

بَتْرُ الأْعْضَاءِ لِضَرُورَةٍ:

يَجُوزُ بَتْرُ عُضْوٍ فَاسِدٍ مِنْ أَعْضَاءِ الإْنْسَانِ، خَوْفًا عَلَى سَلاَمَةِ الْجِسْمِ مِنِ انْتِشَارِ الْعِلَّةِ فِي الْجَمِيعِ. وَالتَّفْصِيلُ فِي (طِبّ، وَتَدَاوٍ).

بَتْرُ الأْعْضَاءِ فِي الْجِنَايَاتِ:

بَتْرُ أَعْضَاءِ الْغَيْرِ عَمْدًا عُدْوَانًا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ فِي مَبَاحِثِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَدْ يُعْدَلُ عَنِ الْقِصَاصِ لأِسْبَابٍ مُعَيَّنَةٍ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهَا. (ر: قِصَاص - جِنَايَات).

أَمَّا بَتْرُ الْعُضْوِ خَطَأً فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ الْمُقَدَّرَةُ لِذَلِكَ الْعُضْوِ شَرْعًا أَوِ الأْرْشُ بِالاِتِّفَاقِ. وَيَخْتَلِفُ مِقْدَارُهَا بِاخْتِلاَفِ الْعُضْوِ الْمَبْتُورِ . (ر: دِيَات).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثاني عشر ، الصفحة /  277

الاِعْتِدَاءُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ :

إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا فَيُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فَضْلاً عَنْ شُرُوطِهِ فِي النَّفْسِ: الْمُمَاثَلَةُ، وَإِمْكَانُ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ .

وَيَرَى مَالِكٌ التَّعْزِيرَ أَيْضًا فِي الْجِنَايَةِ الْعَمْدَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ،  إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، أَوِ امْتَنَعَ لِسَبَبٍ أَوْ لآِخَرَ، فَيَكُونُ فِي الْجَرِيمَةِ التَّعْزِيرُ مَعَ الدِّيَةِ، أَوِ الأْرْشُ، أَوْ بِدُونِهِ، تَبَعًا لِلأْحْوَالِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى عَظْمٍ خَطَرٍ. إِذِ الْعِظَامُ الْخَطِرَةُ لاَ قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَهُ، مِثْلُ عِظَامِ الصُّلْبِ، وَالْفَخِذِ، وَالْعُنُقِ، وَمِثْلُ الْمُنَقِّلَةِ، وَالْمَأْمُومَةِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْجَائِفَةِ؛ لأِنَّهُ  لاَ يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ  وَفِي كُلِّ مَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ بِالْجِنَايَةِ مَعَ بَقَائِهِ قَائِمًا فِي الْجِسْمِ، وَبَقَاءِ جَمَالِهِ، فَ إِذَا ضَرَبَهُ عَلَى عَيْنِهِ فَذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَقِيَ جَمَالُهَا فَلاَ قَوَدَ فِيهَا. وَمِثْلُ ذَلِكَ الْيَدِ  إِذَا شُلَّتْ وَلَمْ تَبِنْ عَنِ الْجِسْمِ، فَفِي هَذِهِ وَمَا يُمَاثِلُهَا يُعَزَّرُ الْجَانِي مَعَ أَخْذِ الْعَقْلِ مِنْهُ (أَيِ الدِّيَةِ) .

وَ إِذَا لَمْ يَتْرُكِ الاِعْتِدَاءُ عَلَى الْجِسْمِ أَثَرًا: فَأَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّعْزِيرَ، لاَ الْقِصَاصَ. وَلَدَى بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ الْقِصَاصُ فِي ضَرْبَةِ السَّوْطِ، وَلَوْ لَمْ يُحْدِثْ جُرْحًا وَلاَ شَجَّةً، مَعَ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ فِي اللَّطْمَةِ، وَضَرْبَةِ الْعَصَا، إِلاَّ  إِذَا خَلَّفَتْ جُرْحًا أَوْ شَجَّةً. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ ضَرْبَةَ السَّوْطِ فِي ذَلِكَ كَاللَّطْمَةِ فِيهِ الأَْدَبُ، وَنَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ أَشْهَبَ.

وَيَرَى ابْنُ الْقَيِّمِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: الْقِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الرابع عشر ، الصفحة / 116

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ أَوْ جِنَايَةٍ عَلَى طَرَفٍ مُوجِبَيْنِ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ فَقَالاَ: هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الأْوَّلِ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الثَّانِي وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الأْوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا؛ وَلأِنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالأْنْفُسِ.

وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْلُ أَحَدِهِمْ عَنْ فِعْلِ الآْخَرِ، كَأَنْ يَضَعُوا سَيْفًا عَلَى يَدِ شَخْصٍ وَيَتَحَامَلُوا عَلَيْهِ

حَتَّى تَبِينُ يَدُهُ، فَإِنْ قَطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَانِبٍ، أَوْ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ ضَرْبَةً فَلاَ قِصَاصَ؛ لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَقْطَعِ الْيَدَ، وَلَمْ يُشَارِكْ فِي قَطْعِ جَمِيعِهَا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تُقْطَعُ الْيَدَانِ، أَوِ الأْيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ؛ لاِنْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لأِنَّ الشَّرْطَ فِي الأْطْرَافِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْقِيمَةِ بِخِلاَفِ النَّفْسِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْمُسَاوَاةُ فِي الْعِصْمَةِ.

وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لأِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لاَ يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الأْطْرَافَ لاَ تُؤْخَذُ بِطَرَفٍ وَاحِدٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَاتٌ مِنْ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَمُتِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ تَمَالُؤٌ مِنْهُمْ، فَيُقْتَصُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ فِعْلِهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزِ الْجِنَايَاتُ مَعَ عَدَمِ التَّمَالُؤِ فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ جَمِيعِ الْجِنَايَاتِ، وَأَمَّا إِنْ تَمَالَئُوا اُقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ بِقَدْرِ الْجَمِيعِ تَمَيَّزَتِ الْجِنَايَاتُ أَمْ لاَ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الخامس عشر ، الصفحة / 82

جَائِفَةٌ

التَّعْرِيفُ

الْجَائِفَةُ لُغَةً الْجِرَاحَةُ الَّتِي وَصَلَتِ الْجَوْفَ. فَلَوْ وَصَلَتْ إِلَى جَوْفِ عَظْمِ الْفَخِذِ لَمْ تَكُنْ جَائِفَةً لأِنَّ الْعَظْمَ لاَ يُعَدُّ مُجَوَّفًا.

وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَهِيَ الْجُرْحُ الَّذِي يَنْفُذُ وَيَصِلُ إِلَى جَوْفٍ، كَبَطْنٍ، وَصَدْرٍ، وَثُغْرَةِ نَحْرٍ، وَجَنْبَيْنِ، وَخَاصِرَةٍ، وَمَثَانَةٍ، وَعَجَّانٍ، وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَ مِنَ الشَّرَجِ شَيْئًا فَخَرَقَ بِهِ حَاجِزًا فِي الْبَطْنِ.

وَلَوْ نَفَذَتِ الطَّعْنَةُ أَوِ الْجُرْحُ فِي الْبَطْنِ وَخَرَجَتْ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَجَائِفَتَانِ.

وَتَحْصُلُ الْجَائِفَةُ بِكُلِّ مَا يُفْضِي إِلَى بَاطِنِ جَوْفٍ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِيفَ بِحَدِيدَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ مُحَدِّدَةٍ، وَلاَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجَائِفَةُ وَاسِعَةً أَوْ ضَيِّقَةً وَلَوْ قَدْرَ إِبْرَةٍ.

الْحُكْمُ الإْجْمَالِيُّ:

2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ. وَأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ الَّذِي فِيهِ: «وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ». وَعَلَيْهِ الإْجْمَاعُ؛ وَلأِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ فِيهَا فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قِصَاصٌ وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لاَ قَوَدَ فِي الْمَأْمُومَةِ وَلاَ الْجَائِفَةِ».

وَاتَّفَقُوا فِي الْجَائِفَةِ إِذَا نَفَذَتْ مِنْ جَانِبٍ لآِخَرَ أَنَّهَا جَائِفَتَانِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ.

وَإِنْ خَرَقَتْ جَائِفَةُ الْبَطْنِ الأْمْعَاءَ، أَوْ لَذَعَتْ كَبِدًا أَوْ طِحَالاً، أَوْ كَسَرَتْ جَائِفَةُ الْجَنْبِ الضِّلْعَ، فَفِيهَا مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَمَنْ مَاتَ بِجَائِفَةٍ فَيَتَعَيَّنُ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ عَلَى الْجَانِي (عِنْدَ مَنْ لاَ يَرَى الْقَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ) لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ: يُفْعَلُ بِهِ كَفِعْلِهِ أَيْ يُجَافُ مَعَ قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيَذْكُرُونَ أَحْكَامًا فِيمَنْ أَجَافَ شَخْصًا جَائِفَتَيْنِ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، وَفِيمَنِ الْتَحَمَتْ جَائِفَتُهُ فَفَتَحَهَا آخَرُ، وَفِيمَنْ وَسَّعَ جَائِفَةَ غَيْرِهِ فِي أَبْوَابِ الدِّيَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

3 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ دَاوَى جَائِفَةً بِدَوَاءٍ فَوَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِنْ لَمْ يَصِلِ الدَّوَاءُ إِلَى بَاطِنِ الأْمْعَاءِ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ أَدْخَلَ شَيْئًا إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ صَوْمَهُ لاَ يَفْسُدُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّوَاءُ مَائِعًا أَمْ غَيْرَ مَائِعٍ؛ لأِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصِلُ إِلَى مَدْخَلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.

4 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالرَّضَاعِ بِإِقْطَارِ اللَّبَنِ فِي الْجَائِفَةِ مَا لَمْ يَصِلِ اللَّبَنُ إِلَى الْمَعِدَةِ لِخَرْقٍ فِي الأْمْعَاءِ مَثَلاً؛ لأِنَّ وُصُولَ اللَّبَنِ إِلَى الْجَوْفِ لاَ يَحْصُلُ بِهِ التَّغَذِّي، وَالْحُرْمَةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِمَا يَنْبُتُ بِهِ اللَّحْمُ، وَيَنْشُزُ بِهِ الْعَظْمُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ الْجُوعُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْلِ الآْخَرِ إِلَى أَنَّهُ يَحْصُلُ التَّحْرِيمُ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ وَلَوْ مِنْ جَائِفَةٍ.

وَتَوَقَّفَ الْعَلاَّمَةُ الأَجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي اللَّبَنِ الْوَاصِلِ لِلْجَوْفِ مِنْ ثُقْبَةٍ فِي حِينِ رَجَّحَ الشَّيْخُ النَّفْرَاوِيُّ التَّحْرِيمَ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / السادس عشر ، الصفحة / 63

جِنَايَةٌ

عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ

التَّعْرِيف:

الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ. وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: الْجِنَايَةُ شَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصُّوا لَفْظَ الْجِنَايَةِ بِمَا حَلَّ بِنَفْسٍ أَوْ أَطْرَافٍ، وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَلَّ بِمَالٍ.

وَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كُلُّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى الأْطْرَافِ أَوِ الأْعْضَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَطْعِ، أَمْ بِالْجَرْحِ، أَمْ بِإِزَالَةِ الْمَنَافِعِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيّ:

كُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا عُدْوَانًا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا.

الْحُكْمُ الْوَضْعِيّ:

يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِاخْتِلاَفِ كَوْنِهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِذَا كَانَتْ عَمْدًا فَمُوجِبُهَا الْقِصَاصُ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهَا شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ يَأْتِي ذِكْرُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالإْجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:  ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأْنْفَ بِالأْنْفِ وَالأْذُنَ بِالأْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) ، وقوله تعالي : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ).

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ: «كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ، وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الأْنْصَارِ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم  بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لاَ: وَاللَّهِ لاَ تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  : يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأْرْشَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  : إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».

وَأَمَّا الإْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا أَمْكَنَ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلأِنَّ  مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ؛ لأِنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ فَشُرِعَ الْجَزَاءُ صَوْنًا لَهُ.

وَإِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا غَيْرَ مُسْتَجْمِعٍ لِسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فَمُوجِبُهَا الدِّيَةُ، أَوِ الأْرْشُ، أَوْ حُكُومَةُ عَدْلٍ، عَلَى حَسَبِ الأْحْوَالِ.

فَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ قِسْمَانِ: الْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ، وَالْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلدِّيَةِ وَغَيْرِهَا.

الْقِسْمُ الأْوَّلُ: الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ :

- تَكُونُ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهَا الشُّرُوطُ الآْتِيَةُ:

(1) أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عَمْدًا :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَمْدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ:

فَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَمَا كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لأِنَّ  مَا دُونَ النَّفْسِ لاَ يُقْصَدُ إِتْلاَفُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً فَاسْتَوَتِ الآْلاَتُ كُلُّهَا فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْقَصْدِ، فَكَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا مَحْضًا.

وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ يَكُونَ الْجُرْحُ نَاتِجًا عَنْ قَصْدِ الضَّرْبِ عَدَاوَةً، فَالْجُرْحُ النَّاتِجُ عَنِ اللَّعِبِ، أَوِ الأْدَبِ لاَ قِصَاصَ فِيهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَتْلِ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا، يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الطَّرَفِ أَيْضًا، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِرَاحَاتِ وَإِبَانَةِ الأْطْرَافِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَمِنْ صُوَرِ شِبْهِ الْعَمْدِ أَنْ يَضْرِبَ رَأْسَهُ بِلَطْمَةٍ أَوْ حَجَرٍ لاَ يَشُجُّ غَالِبًا لِصِغَرِهِ، فَيَتَوَرَّمُ الْمَوْضِعُ وَيَتَّضِحُ الْعَظْمُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لاَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لاَ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا، مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَصَاةٍ لاَ تُوضِحُ مِثْلُهَا، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لأِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ.

 (2) أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عُدْوَانًا :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجَانِي مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ، فَلاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ. كَأَنْ يَكُونَ الْجَانِي:

أ - غَيْرَ أَهْلٍ لِلْعُقُوبَةِ؛ لأِنَّ  الأْهْلِيَّةَ هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ.

ب - إِذَا كَانَ ارْتِكَابُ الْفِعْلِ الضَّارِّ بِحَقٍّ أَوْ شُبْهَةٍ.

فَلاَ يُقْتَصُّ مِمَّنْ أَقَامَ الْحَدَّ، أَوْ نَفَّذَ التَّعْزِيرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَتْلاً أَمْ قَطْعًا، وَلاَ مِنَ الطَّبِيبِ بِشُرُوطِهِ؛ لأِنَّ  الْغَرَضَ مِنْ فِعْلِ الطَّبِيبِ هُوَ شِفَاءُ الْمَرِيضِ لاَ الاِعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، وَلاَ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّائِلِ بِشُرُوطِهِ. وَلاَ مِمَّنِ ارْتَكَبَ الْجِنَايَةَ بِأَمْرٍ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَمَنْ قَالَ لآِخَرَ: اقْطَعْ يَدَيَّ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْكَ، فَقَطَعَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ الإْثْمِ عَلَيْهِمَا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ الْمَقْطُوعُ عَلَى إِبْرَاءِ الْقَاطِعِ، بِأَنْ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ، أَمَّا إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الإْبْرَاءِ فَلَيْسَ عَلَى الْقَاطِعِ إِلاَّ الأْدَبُ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ الأْدَبُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ اسْتِمْرَارِ الْمَقْطُوعِ عَلَى الإْبْرَاءِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ.

(3) كَوْنُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُكَافِئًا لِلْجَانِي فِي الصِّفَاتِ الآْتِيَةِ عَلَى الْخِلاَفِ وَالتَّفْصِيلِ الآْتِيَيْنِ:

أ - التَّكَافُؤُ فِي النَّوْعِ (الذُّكُورَةُ وَالأْنُوثَةُ) :

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي النَّوْعِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالإْنَاثِ بِنَفْسِ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُكَافِئَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ فِي النَّوْعِ؛ لأِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلتَّكَافُؤِ أَنْ يَكُونَ أَرْشُ كُلٍّ مِنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُسَاوِيًا لِلآْخَرِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالآْخَرُ أُنْثَى، فَلاَ قِصَاصَ؛ لأِنَّ  الْمُمَاثَلَةَ فِي الأْرُوشُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَفِي الْوَاقِعَاتِ: لَوْ قَطَعَتِ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ كَانَ لَهُ الْقَوَدُ، إِذَا رَضِيَ بِالْقَوَدِ عَنِ الأْرْشِ.

وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الشِّجَاجِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ فِي الشِّجَاجِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْحَاقُ شَيْنٍ وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ، وَفِي الطَّرَفِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَا فِيهِ.

ب - التَّكَافُؤُ فِي الدِّينِ :

- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ التَّكَافُؤِ فِي الدِّينِ :

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الأْرْشِ، وَكَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لأِنَّ  جِنَايَةَ النَّاقِصِ عَلَى الْكَامِلِ كَجِنَايَةِ ذِي يَدٍ شَلاَّءَ عَلَى صَحِيحَةٍ فِي الْجِرَاحِ، وَيَلْزَمُهُ لِلْكَامِلِ مَا فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ إِنْ بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي إِلاَّ الأْدَبُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ، فَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ، وَلاَ عَكْسَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لاَ يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ أَيْضًا كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ؛ لأِنَّهُ لاَ تُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ، فَلاَ يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، وَلاَ يُجْرَحُ بِجُرْحِهِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِ.

ج - التَّكَافُؤُ فِي الْعَدَدِ :

- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ، فَقَالاَ: هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الأْوَّلِ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الثَّانِي وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الأَْوَّلِ وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ تَعَمَّدَ؛ وَلأِنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ، فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالأْنْفُسِ.

هَذَا إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ، أَمَّا لَوْ تَمَيَّزَ: بِأَنْ قَطَعَ هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا مِنْ جَانِبٍ حَتَّى الْتَقَتِ الْحَدِيدَتَانِ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْيَدِ، وَأَبَانَهَا الآْخَرُ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ تَلِيقُ بِجِنَايَتِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ مَجْمُوعُ الْحُكُومَتَيْنِ دِيَةَ الْيَدِ.

وَالأْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْكُلِّ إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً: قَلَعَ أَحَدُهُمْ عَيْنَهُ، وَالآْخَرُ قَطَعَ يَدَهُ، وَالثَّالِثُ رِجْلَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ مَنِ الَّذِي فَقَأَ الْعَيْنَ وَقَطَعَ الرِّجْلَ أَوِ الْيَدَ، وَلاَ تَمَالُؤَ بَيْنَهُمُ، اقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ، وَقَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ وَلاَ تَمَالُؤَ بَيْنَهُمْ، فَيُقْتَصُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ كَفِعْلِهِ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ فَلاَ تُقْطَعُ الأْيْدِي بِالْيَدِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، كَالاِثْنَيْنِ إِذَا قَطَعَا يَدَ رَجُلٍ، أَوْ رِجْلَهُ، أَوْ أَذْهَبَا سَمْعَهُ أَوْ بَصَرَهُ، أَوْ قَلَعَا سِنًّا لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْجِنَايَاتِ الَّتِي عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا فِيهَا الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا، فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، بَلْ عَلَيْهِمَا الأْرْشُ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِمُ الأْرْشُ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوَاءِ، وَهَذَا؛ لأِنَّ  الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلاَ مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الأْيْدِي وَيَدٍ وَاحِدَةٍ لاَ فِي الذَّاتِ وَلاَ فِي الْمَنْفَعَةِ وَلاَ فِي الْفِعْلِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

(4) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَلِّ :

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ تَوَافُرُ التَّمَاثُلِ بَيْنَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَمَحَلِّ الْقِصَاصِ، فَلاَ يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنَ الأْصْلِ  إِلاَّ بِمِثْلِهِ، فَلاَ تُؤْخَذُ الْيَدُ إِلاَّ بِالْيَدِ؛ لأِنَّ  غَيْرَ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَلَمْ يَكُنْ مِثْلاً لَهَا، إِذْ التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ، وَكَذَا الرِّجْلُ، وَالإْصْبَعُ، وَالْعَيْنُ، وَالأْنْفُ وَنَحْوُهَا. وَكَذَا لاَ تُؤْخَذُ الأْصَابِعُ إِلاَّ بِمِثْلِهَا، فَلاَ تُؤْخَذُ الإْبْهَامُ إِلاَّ بِالإْبْهَامِ، وَلاَ السَّبَّابَةُ إِلاَّ بِالسَّبَّابَةِ، وَهَكَذَا فِي الْبَاقِي؛ لأِنَّ  مَنَافِعَ الأْصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَانَتْ كَالأْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَكَذَلِكَ لاَ تُؤْخَذُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ فِي كُلِّ مَا انْقَسَمَ إِلَى يَمِينٍ وَيَسَارٍ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالأْذُنَيْنِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ فِي الأْسْنَانِ لاَ تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ إِلاَّ بِالثَّنِيَّةِ لاِخْتِلاَفِ مَنَافِعِهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا قَوَاطِعُ، وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ، وَاخْتِلاَفُ الْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يُلْحِقُهُمَا بِجِنْسَيْنِ، وَلاَ مُمَاثَلَةَ عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الأْعْلَى وَالأْسْفَلِ مِنَ الأْسْنَانِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الأْعْلَى وَالأْسْفَلِ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا انْقَسَمَ إِلَى أَعْلَى وَأَسْفَل.

(5) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ تَتَمَاثَلَ مَنَافِعُهَا عِنْدَ الْجَانِي وَعِنْدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ فِي الأْطْرَافِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لَمْ يُؤَثِّرِ التَّفَاوُتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ؛ لأِنَّ  الاِخْتِلاَفَ فِي الْحَجْمِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي مَنَافِعِهَا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ الأْعْضَاءِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الأْعْضَاءِ وَالأْطْرَافِ.

إِمْكَانُ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ :

يَتَحَقَّقُ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَقَدْ رَوَى نَمِرُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلاً ضَرَبَ عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الْقِصَاصَ، قَالَ: خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا» وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ.

وَهَذَا مَا لَمْ يَرْضَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ مِنْ مَفْصِلٍ أَدْنَى مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَظْمِ..

أَنْوَاعُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ :

(إِذَا كَانَتْ عَمْدًا) :

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْقَطْعِ وَالإْبَانَةِ، أَوْ بِالْجُرْحِ الَّذِي يَشُقُّ، أَوْ بِإِزَالَةِ مَنْفَعَةٍ بِلاَ شَقٍّ وَلاَ إِبَانَةَ.

النَّوْعُ الأْوَّلُ - أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ بِالْقَطْعِ وَالإْبَانَةِ :

يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الأْعْضَاءِ وَالأْطْرَافِ إِذَا أَدَّتْ إِلَى قَطْعِ الْعُضْوِ أَوِ الطَّرَفِ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ الْكَلاَمِ عَلَى كُلٍّ:

1 - الْجِنَايَةُ عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْيَدُ بِالْيَدِ، وَالرِّجْلُ بِالرِّجْلِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِي الْحَجْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأْوْصَافِ، فَتُؤْخَذُ الْيَدُ الصَّغِيرَةُ بِالْكَبِيرَةِ، وَالْقَوِيَّةُ بِالضَّعِيفَةِ، وَيَدُ الصَّانِعِ بِيَدِ الأْخْرَقِ. وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ الْكَمَالُ وَالصِّحَّةُ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

أ - الْكَمَال:

- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي قَطْعِ كَامِلَةِ الأْصَابِعِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ بِنَاقِصَةِ الأْصَابِعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُؤْخَذُ كَامِلَةُ الأْصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الأْصَابِعِ، لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، فَلَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ، يَدَ مَنْ لَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لأِنَّ هَا فَوْقَ حَقِّهِ، وَلاَ ذَاتُ أَظْفَارٍ بِمَا لاَ أَظْفَارَ لَهَا؛ لِزِيَادَتِهَا عَلَى حَقِّهِ، وَلاَ بِنَاقِصَةِ الأْظْفَارِ، سَوَاءٌ رَضِيَ الْجَانِي بِذَلِكَ أَمْ لاَ؛ لأِنَّ  الدِّمَاءَ لاَ تُسْتَبَاحُ بِالإْبَاحَةِ. وَإِنْ كَانَتْ أَظْفَارُ الْمَقْطُوعَةِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ خَضْرَاءَ أَوْ رَدِيئَةٍ أُخِذَتْ بِهَا السَّلِيمَةُ؛ لأِنَّ  ذَلِكَ عِلَّةٌ وَمَرَضٌ، وَالْمَرَضُ لاَ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَصَابِعِ الْجَانِي بِعَدَدِ أَصَابِعِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْمَقْطُوعَةِ، أَوْ يَأْخُذَ دِيَتَهَا.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي طَرَفِ الْجَانِي، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ الصَّحِيحِ؛ لأِنَّ  حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ هُوَ السَّلِيمُ، وَلاَ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ فَوَاتِ السَّلاَمَةِ، وَأَمْكَنَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلاَ سَبِيلَ إِلَى إِلْزَامِ الاِسْتِيفَاءِ حَتْمًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ فَيُخَيَّرُ: إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إِلَى بَدَلِ حَقِّهِ وَهُوَ كَمَالُ الأْرْشِ، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ النُّقْصَانِ إِذَا كَانَ أُصْبُعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ فَقَالُوا: إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ رِجْلُهُ أُصْبُعًا، فَالْقَوَدُ عَلَى الْجَانِي الْكَامِلِ الأْصَابِعِ وَلاَ غَرَامَةَ عَلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الأْصْبُعُ النَّاقِصُ إِبْهَامًا. وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ بِأَنْ نَقَصَتِ الْيَدُ أُصْبُعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْكَامِلَةِ.

وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ أَوْ رِجْلُ الْجَانِي النَّاقِصَةُ أُصْبُعًا بِالْكَامِلَةِ بِلاَ غُرْمٍ عَلَيْهِ لأِرْشِ الأْصْبُعِ، إِذْ هُوَ نَقْصٌ لاَ يَمْنَعُ الْمُمَاثَلَةَ. وَلاَ خِيَارَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَيُخَيَّرُ إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْجَانِي أَوْ رِجْلُهُ أَكْثَر مِنْ أُصْبُعٍ فِي الْقِصَاصِ، وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَيَأْخُذَ أَرْشَ النَّاقِصِ.

وَأَمَّا النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الأْخْرَى، بِأَنَّهُ تُؤْخَذُ إِذَا تَسَاوَتَا فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ الْجَانِي كَالْمَقْطُوعِ مِنْ يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُمَا تَسَاوَتَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَةِ، فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَا فِي النَّقْصِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمَا الإْبْهَامَ، وَمِنَ الأْخْرَى أُصْبُعَ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ.

ب - الصِّحَّة:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُقْطَعُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ بِشَلاَّءَ وَإِنْ رَضِيَ الْجَانِي؛ لأِنَّ  الشَّلاَّءَ لاَ نَفْعَ فِيهَا سِوَى الْجَمَالِ، فَلاَ يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعٌ، وَالْوَاجِبُ فِي الطَّرَفِ الأْشَلِّ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ، وَقَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا، فَذَلِكَ لَهُ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ لاَ تُقْطَعُ يَدُ الْجَانِي إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ بِالْيَدِ الصَّحِيحَةِ؛ لأِنَّ  الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْقِصَاصِ فِيهَا. وَعَلَيْهِ الْعَقْلُ أَيِ الدِّيَةُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تُقْطَعُ إِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالْبَصَرِ، بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَلاَ تُقْطَعُ إِنْ قَالُوا: لاَ يَنْسَدُّ فَمُ الْعُرُوقِ بِالْحَسْمِ، وَلاَ يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَتَجِبُ دِيَةُ يَدِهِ.

وَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ : ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْطَعُ، لأِنَّ  الشَّلَلَ عِلَّةٌ، وَالْعِلَلُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَنِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمَا إِنِ اسْتَوَيَا فِي الشَّلَلِ، أَوْ كَانَ شَلَلُ يَدِ الْقَاطِعِ أَكْثَرَ قُطِعَتْ بِهَا بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُخَافَ نَزْفُ الدَّمِ. وَإِنْ كَانَ الشَّلَلُ فِي يَدِ الْمَقْطُوعِ أَكْثَرَ لَمْ يُقْطَعْ بِهَا.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ بَيْنَ الأْشَلَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ أَقَلَّ شَلَلاً أَمْ أَكْثَرَهُمَا، أَمْ هُمَا سَوَاءٌ؛ لأِنَّ  بَعْضَ الشَّلَلِ فِي يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلاَفَ أَرْشَيْهِمَا، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَلاَ تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ.

وَقَالَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّ شَلَلاً كَانَ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ أَرْشَ يَدِهِ شَلاَّءَ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَكْثَرَ شَلَلاً، فَلاَ قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَيْنِ :

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَيْنِ بِالْقَلْعِ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ؛ لِلآْيَةِ الْكَرِيمَةِ ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) ؛ وَلأِنَّ هَا تَنْتَهِي إِلَى مَفْصِلٍ فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهَا كَالْيَدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ، الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا  رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

وَتُؤْخَذُ عَيْنُ الشَّابِّ بِعَيْنِ الشَّيْخِ، وَعَيْنُ الصَّغِيرِ، بِعَيْنِ الْكَبِيرِ؛ لأِنَّ  التَّفَاوُتَ فِي الصِّفَةِ لاَ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَلَعَ عَيْنَهُ بِأُصْبُعِهِ لاَ يَجُوزُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ بِإِصْبَعِهِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ.

وَأَمَّا أَخْذُ الْعَيْنِ السَّلِيمَةِ بِالْمَرِيضَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالضَّعِيفَةِ الإْبْصَارِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأْرْجَحِ - إِلَى أَنَّهُ لَوْ فَقَأَ شَخْصٌ عَيْنًا حَوْلاَءَ، وَكَانَ الْحَوَلُ لاَ يَضُرُّ بِبَصَرِهِ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لاَ قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ الْحَوْلاَءِ مُطْلَقًا. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنٍ فِيهَا بَيَاضٌ يُبْصِرُ بِهَا، وَعَيْنُ الْجَانِي كَذَلِكَ فَلاَ قِصَاصَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ، وَفِي عَيْنِ الْفَاقِئِ بَيَاضٌ يُنْقِصُهَا، فَلِلرَّجُلِ أَنْ يَفْقَأَ الْبَيْضَاءَ، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ عَيْنِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ. جِنَايَةُ الأْعْوَرِ عَلَى صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ وَعَكْسُهَا :

- إِذَا قَلَعَ الأْعْوَرُ الْعَيْنَ الْيُمْنَى لِصَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ، وَيُسْرَى الْفَاقِئِ ذَاهِبَةٌ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُتْرَكُ أَعْمَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ مُغَفَّلٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ فَقَأَ أَعْوَرُ مِنْ سَالِمٍ مُمَاثَلَتَهُ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ فَقَأَ غَيْرَ مُمَاثَلَتِهِ فَنِصْفُ دِيَةٍ فَقَطْ فِي مَالِ الْجَانِي، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لاِنْعِدَامِ مَحَلِّهِ، وَإِنْ فَقَأَ الأْعْوَرُ عَيْنَيِ السَّالِمِ عَمْدًا فَالْقِصَاصُ فِي الْمُمَاثِلَةِ لِعَيْنِهِ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي لَيْسَ لَهُ مِثْلُهَا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِنْ قَلَعَ الأْعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ فَلاَ قَوَدَ، وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لأِنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمَا، فَصَارَ إِجْمَاعًا. وَلأِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الاِقْتِصَاصُ مِنْهُ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَا عَيْنَيْنِ.

وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَأَعْطَاهُ نِصْفَ دِيَةٍ.

وَإِنْ قَلَعَ الأْعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحٍ فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلاَ شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ؛ لأِنَّهُ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  : «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ».

وَإِذَا فَقَأَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ الْعَيْنَ السَّالِمَةَ مِنْ عَيْنِ أَعْوَرَ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ بِأَخْذِ نَظِيرَتِهَا مِنْ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً؛ لأِنَّ  عَيْنَهُ بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ مِثْلِهَا، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لأِنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، وَأَذْهَبَ الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ أَخْذُ يُمْنَى بِيُسْرَى، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِ نِصْفِ الضَّوْءِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوِ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الأْشَلُّ يَدًا صَحِيحَةً، وَلِعُمُومِ قوله تعالي : ) وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ).

وَلَوْ قَلَعَ الأْعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا، وَإِنْ عَفَا إِلَى الدِّيَةِ فَلَهُ جَمِيعُهَا.

أَمَّا الأْجْفَانُ، وَالأْشْفَارُ، فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا بِالدِّيَةِ وَالْمَالِكِيَّةَ بِحُكُومَةِ عَدْلٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لقوله تعالي  : (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) وَلأِنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لاِنْتِهَائِهِ إِلَى مَفْصِلٍ، وَيُؤْخَذُ جَفْنُ الْبَصِيرِ بِجَفْنِ الْبَصِيرِ وَالضَّرِيرِ، وَجَفْنُ الضَّرِيرِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لأِنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي السَّلاَمَةِ مِنَ النَّقْصِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى الأْنْفِ :

الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَارِنِ - وَهُوَ مَا لاَنَ مِنَ الأْنْفِ - مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ عِنْدَ الأْئِمَّةِ الأْرْبَعَةِ، لِلآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: ) وَالأْنْفَ بِالأْنْفِ) وَلأِنَّ  اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لأِنَّ  لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا وَهُوَ مَا لاَنَ مِنْهُ، وَإِنْ قَطَعَ الْمَارِنَ كُلَّهُ مَعَ قَصَبَةِ الأْنْفِ، فَفِي الْمَارِنِ الْقِصَاصُ، وَفِي الْقَصَبَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِذْ لاَ قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ وَلَكِنْ فِي الْمَارِنِ قِصَاصٌ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ الأْنْفُ الْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالأْقْنَى بِالأْفْطَسِ، وَأَنْفُ صَحِيحِ الشَّمِّ بِالأْخْشَمِ الَّذِي لاَ يَشُمُّ؛ لأِنَّ  ذَلِكَ لِعِلَّةٍ فِي الدِّمَاغِ، وَالأْنْفُ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ بِالْمَجْذُومِ مَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ، لأِنَّ  ذَلِكَ مَرَضٌ، فَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، يُقْطَعُ مِنْهُ مَا كَانَ بَقِيَ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، أَوْ أَخَذَ أَرْشَ ذَلِكَ.

وَفَصَّلَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: يُؤْخَذُ الأْنْفُ السَّلِيمُ بِالْمَجْذُومِ إِنْ كَانَ فِي حَالِ الاِحْمِرَارِ، وَإِنِ اسْوَدَّ فَلاَ قِصَاصَ؛ لأِنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ الْبِلَى، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَنْفُ الْقَاطِعِ أَصْغَرَ، خُيِّرَ الْمَقْطُوعُ أَنْفُهُ الْكَبِيرُ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الأْرْشَ، وَكَذَا إِذَا كَانَ قَاطِعُ الأْنْفِ أَخْشَمَ، أَوْ أَصْرَمَ الأْنْفِ، أَوْ بِأَنْفِهِ نُقْصَانٌ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَهُ، فَإِنَّ الْمَقْطُوعَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَطْعِ وَبَيْنَ أَخْذِ دِيَةِ أَنْفِهِ.

وَيُؤْخَذُ الْمَنْخِرُ الأْيْمَنُ بِالأْيْمَنِ، وَالأْيْسَرُ بِالأْيْسَرِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الْعَكْسُ، وَيُؤْخَذُ الْحَاجِزُ بِالْحَاجِزِ ؛ لأِنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لاِنْتِهَائِهِ إِلَى حَدٍّ.

وَفِي قَطْعِ بَعْضِ الْمَارِنِ الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِالأْجْزَاءِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى الأْذُنِ :

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأْذُنَ تُؤْخَذُ بِالأْذُنِ؛ لقوله تعالي :   ) وَالأْذُنَ بِالأْذُنِ). وَلأِنَّ هَا تَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ فَاصِلٍ، فَأَشْبَهَتِ الْيَدَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ أُذُنِ السَّمِيعِ وَالأْصَمِّ؛ لِتَسَاوِيهِمَا، فَإِنَّ ذَهَابَ السَّمْعِ نَقْصٌ فِي الرَّأْسِ؛ لأِنَّهُ مَحَلُّهُ، وَلَيْسَ بِنَقْصٍ فِيهَا، كَمَا نَصَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَخْذِ الأْذُنِ الشَّلاَّءِ بِغَيْرِهَا، لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهَا بِجَمْعِ الصَّوْتِ.

فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ فِي بَعْضِ الأْذُنِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ إِنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ وَتُمْكِنُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَإِلاَّ سَقَطَ الْقِصَاصُ.

وَتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمَثْقُوبَةِ؛ لأِنَّ  الثُّقْبَ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ فِي الْعَادَةِ لِلْقُرْطِ وَالتَّزَيُّنِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ كَانَتْ أُذُنُ الْقَاطِعِ مَخْرُومَةً، وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ نَاقِصَةً كَانَتْ لَهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْمَخْرُومَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَلاَ تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِهَا؛ لأِنَّ  الثُّقْبَ إِذَا انْخَرَمَ صَارَ نَقْصًا فِيهَا، وَالثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ عَيْبٌ.

أَمَّا الأْذُنُ الْمُسْتَحْشِفَةُ (الْيَابِسَةُ) فَتُؤْخَذُ بِالصَّحِيحَةِ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحَةُ تُؤْخَذُ بِهَا فِي الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّ  الْمَقْصُودَ مِنْهَا جَمْعُ الصَّوْتِ، وَحِفْظُ مَحَلِّ السَّمْعِ وَالْجَمَالِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِهَا، كَحُصُولِهِ بِالصَّحِيحَةِ بِخِلاَفِ سَائِرِ الأْعْضَاءِ. وَمُقَابِلُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمُسْتَحْشِفَةِ؛ لأِنَّ هَا نَاقِصَةٌ، فَتَكُونُ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، وَسَائِرِ الأْعْضَاءِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّسَانِ :

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ، لقوله تعالي  : ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). وَلأِنَّ  لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ كَالْعَيْنِ، وَلاَ يُؤْخَذُ لِسَانُ نَاطِقٍ بِلِسَانِ أَخْرَسَ ؛ لأِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِرِضَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ، وَلَوْ قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ لِعُسْرِ اسْتِقْصَاءِ اللِّسَانِ مِنْ أَصْلِهِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَةِ:

يَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الشَّفَةِ مُطْلَقًا لقوله تعالي :  ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). وَلأِنَّ  لَهَا حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْهُ، فَوَجَبَ كَالْيَدَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الشَّفَةِ إِذَا قَطَعَهَا جَمِيعًا؛ لِلْمُسَاوَاةِ، وَإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى السِّنِّ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى السِّنِّ إِذَا قُلِعَتْ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى السِّنِّ إِذَا كُسِرَتْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ) وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) وَلأِنَّ  «الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم  بِالْقِصَاصِ» كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَلأِنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهِ، فَإِنْ قَلَعَتْ تُقْلَعُ، وَإِنْ كَسَرَتْ تُبْرَدُ بِقَدْرِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، أَمَّا لَوْ كَانَتِ السِّنُّ بِحَالٍ لاَ يُمْكِنُ  بَرْدُهَا فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي السِّنِّ إِذَا كَسَرَهَا، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ إِلاَّ إِذَا أَمْكَنَ فِيهَا الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ يَجِبُ لأِنَّ  السِّنَّ عَظْمٌ مُشَاهَدٌ مِنْ أَكْثَرِ الْجَوَانِبِ وَلأِهْلِ الصَّنْعَةِ آلاَتٌ قَطَّاعَةٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي الضَّبْطِ فَلَمْ تَكُنْ كَسَائِرِ الْعِظَامِ.

وَلاَ اعْتِبَارَ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ؛ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ، وَتُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ بِالثَّنِيَّةِ، وَالنَّابُ بِالنَّابِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الأْعْلَى بِالأْسْفَلِ، وَلاَ الأْسْفَلُ بِالأْعْلَى، وَلاَ تُؤْخَذُ السِّنُّ الصَّحِيحَةُ بِالْمَكْسُورَةِ، وَتُؤْخَذُ الْمَكْسُورَةُ بِالصَّحِيحَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ الزَّائِدَةِ إِذَا كَانَ لِلْجَانِي زَائِدَةٌ مِثْلُهَا.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

الْجِنَايَةُ عَلَى ثَدْيِ الْمَرْأَةِ :

صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ تُقْطَعُ حَلَمَةُ الْمَرْأَةِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ؛ لأِنَّ  لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، فَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهَا، وَلاَ قِصَاصَ فِي ثَدْيَيْهَا؛ لأِنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا مَفْصِلٌ مَعْلُومٌ، فَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ: تُقْطَعُ حَلَمَةُ الْمَرْأَةِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَدَلَّ الثَّدْيُ، فَلاَ قِصَاصَ؛ لاِتِّصَالِهَا بِلَحْمِ الصَّدْرِ، وَتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ، وَالصَّحِيحُ الأْوَّلُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلاَ قِصَاصَ فِي الثَّدْيِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ، وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهَا أَنْ تَقْتَصَّ فِي الْحَلَمَةِ، وَتَأْخُذَ حُكُومَةَ الثَّدْيِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ. الْمُمَاثَلَةُ مُمْكِنَةٌ، فَإِنَّ الثَّدْيَ هَذَا الشَّاخِصَ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ مِنَ الشَّفَتَيْنِ وَالأْلْيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا.

وَتُقْطَعُ حَلَمَةُ الرَّجُلِ بِحَلَمَةِ الرَّجُلِ إِنْ أَوْجَبْنَا فِيهَا الْحُكُومَةَ أَوِ الدِّيَةَ، وَتُقْطَعُ حَلَمَةُ الرَّجُلِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ وَبِالْعَكْسِ، إِنْ أَوْجَبْنَا فِي حَلَمَةِ الرَّجُلِ الدِّيَةَ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْحُكُومَةَ، لَمْ تُقْطَعْ حَلَمَتُهَا بِحَلَمَتِهِ وَإِنْ رَضِيَتْ، كَمَا لاَ تُقْطَعُ صَحِيحَةٌ بِشَلاَّءَ، وَتُقْطَعُ حَلَمَتُهُ بِحَلَمَتِهَا إِنْ رَضِيَتْ، كَمَا تُقْطَعُ الشَّلاَّءُ بِالصَّحِيحَةِ إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَحِقُّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ سَوَاءٌ أَبْطَلَ اللَّبَنَ، أَوْ فَسَدَ، أَمْ لاَ. وَفِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةُ إِذَا بَطَلَ اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فِي انْقِطَاعِ اللَّبَنِ أَوْ فَسَادِهِ بِغَيْرِ قَطْعٍ لِلثَّدْيَيْنِ، أَوْ لِلْحَلَمَتَيْنِ الدِّيَةَ، فَإِنْ عَادَ اللَّبَنُ رُدَّتِ الدِّيَةُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ الدِّيَةَ وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ كَالْجُمْهُورِ، وَأَنَّ فِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ، وَلاَ قِصَاصَ فِيهِمَا.

الْجِنَايَةُ عَلَى الذَّكَرِ :

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي فِي الذَّكَرِ لقوله تعالي  : ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) وَلأِنَّ  لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، فَوَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالأْنْفِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ ذَكَرُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ؛ لأِنَّ  مَا وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنَ الأْطْرَافِ لَمْ يَخْتَلِفْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، كَذَلِكَ الذَّكَرُ. وَيُؤْخَذُ الْمَخْتُونُ بِالأْغْلَفِ وَعَكْسُهُ؛ لأِنَّ  الْغُلْفَةَ زِيَادَةٌ تُسْتَحَقُّ إِزَالَتُهَا فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ. وَيُؤْخَذُ ذَكَرُ الْخَصِيِّ بِذَكَرِ الْخَصِيِّ، وَذَكَرُ الْعِنِّينِ بِمِثْلِهِ؛ لِحُصُولِ الْمُسَاوَاةِ.

أَمَّا ذَكَرُ فَحْلٍ بِذَكَرِ خَصِيٍّ أَوْ عِنِّينٍ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُؤْخَذُ بِهِمَا؛ لأِنَّهُ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِمَا؛ وَلأِنَّ  الْعِنِّينَ لاَ يَطَأُ، وَلاَ يُنْزِلُ، وَالْخَصِيَّ لاَ يُولَدُ لَهُ، وَلاَ يُنْزِلُ، وَلاَ يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ فَهُمَا كَالأْشَلِّ؛ وَلأِنَّ  كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصٌ، فَلاَ يُؤْخَذُ بِهِ الْكَامِلُ، كَالْيَدِ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ غَيْرُهُمَا بِهِمَا؛ لأِنَّهُمَا عُضْوَانِ صَحِيحَانِ، يَنْقَبِضَانِ، وَيَنْبَسِطَانِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي قَطْعِ ذَكَرٍ وَلَوْ مِنْ أَصْلِهِ؛ لأِنَّهُ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ، وَجَزَمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِلُزُومِ الْقِصَاصِ فِي الذَّكَرِ إِذَا قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ قُطِعَ الذَّكَرُ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ مِنَ الْحَشَفَةِ، اقْتُصَّ مِنْهُ، إِذْ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَنَسَبَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى أَبِي يُوسُفَ. وَفِي قَطْعِ كُلِّ الْحَشَفَةِ قِصَاصٌ دُونَ خِلاَفٍ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا.

وَأَمَّا الأْنْثَيَانِ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهِمَا، لِلنَّصِّ وَالْمَعْنَى.

فَإِنْ قَطَعَ إِحْدَاهُمَا - وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ إِنَّهُ مُمْكِنٌ أَخْذُهَا مَعَ سَلاَمَةِ الأْخْرَى - جَازَ، وَتُؤْخَذُ الْيُمْنَى بِالْيُمْنَى، وَالْيُسْرَى بِالْيُسْرَى، وَإِلاَّ لَمْ تُؤْخَذْ، وَيَكُونُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِيهِمَا الْقِصَاصُ؛ لأِنَّ  ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَفْصِلٌ مَعْلُومٌ، فَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ.

- وَفِي شُفْرَيِ الْمَرْأَةِ قِصَاصٌ فِي الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ بَدَا الْعَظْمُ؛ لأِنَّ  انْتِهَاءَهُمَا مَعْرُوفٌ، فَأَشْبَهَا الشَّفَتَيْنِ، وَجَفْنَيِ الْعَيْنِ. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِمَا؛ لأِنَّ  الشُّفْرَ لَحْمٌ لاَ مَفْصِلَ لَهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ كَلَحْمِ الْفَخِذَيْنِ.

وَأَمَّا الأْلْيَتَانِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِمَا؛ لقوله تعالي  : ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) وَلأِنَّ  لَهُمَا حَدًّا يَنْتَهِيَانِ إِلَيْهِ، فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهِمَا كَالذَّكَرِ وَالأْنْثَيَيْنِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ قِصَاصَ فِيهِمَا؛ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ؛ وَلأِنَّهُمَا لَحْمٌ مُتَّصِلٌ بِلَحْمٍ فَأَشْبَهَ لَحْمَ الْفَخِذِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ).

الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّحْيَةِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ وَالْحَاجِبِ:

اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي حَلْقِ هَذِهِ الشُّعُورِ الثَّلاَثَةِ أَوْ نَتْفِهَا، وَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ؛ لأِنَّ  إِتْلاَفَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلِّهَا، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، فَلاَ تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهَا، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهَا. وَلأِنَّ هَا لَيْسَتْ جِرَاحَاتٍ فَلاَ تَدْخُلُ فِي قوله تعالي : ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ إِذَا لَمْ تَنْبُتْ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ أَوْ حُكُومَةِ عَدْلٍ، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِيفَائِهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ).

الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَظْمِ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلي الله عليه وسلم  أَنَّهُ قَالَ: «لاَ قِصَاصَ فِي عَظْمٍ» وَلِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ، فَلاَ يُؤْمَنُ فِيهِ التَّعَدِّي.

وَمَنَعَ الْقِصَاصَ فِي الْعِظَامِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ أَقْرَبَ مَفْصِلٍ إِلَى مَوْضِعِ الْكَسْرِ، وَيَأْخُذَ حُكُومَةً لِلْبَاقِي.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَعْظُمُ خَطَرُهُ كَائِنًا مَا كَانَ، كَكَسْرِ عَظْمِ الصَّدْرِ، وَالرَّقَبَةِ، وَالظَّهْرِ، وَالْفَخِذِ، فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا، وَفِيهَا حُكُومَةٌ.

الْجِرَاح:

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ قَدْ لاَ تَكُونُ بِالْقَطْعِ وَالإْبَانَةِ، بَلْ بِالْجُرْحِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: الْجِرَاحُ الْوَاقِعَةُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَتُسَمَّى الشِّجَاجُ، وَالْجِرَاحُ الْوَاقِعَةُ عَلَى سَائِرِ الْبَدَنِ.

أَوَّلاً - الشِّجَاج:

الشِّجَاجُ أَقْسَامٌ: أَشْهَرُهَا مَا يَلِي:

1 - الْحَارِصَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ قَلِيلاً، نَحْوَ الْخَدْشِ، وَلاَ يَخْرُجُ الدَّمُ، وَتُسَمَّى الْحَرْصَةُ أَيْضًا.

2 - الدَّامِيَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي مَوْضِعَهَا مِنَ الشَّقِّ وَالْخَدْشِ، وَلاَ يَقْطُرُ مِنْهَا دَمٌ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ اللُّغَةِ، وَتَأْتِي بَعْدَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الدَّامِعَةُ وَهِيَ مَا يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالدَّامِيَةُ مَا تُخْرِجُ الدَّمَ وَتُسِيلُهُ، وَتَأْتِي عِنْدَهُمْ بَعْدَ الدَّامِعَةِ، وَهِيَ: الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ كَالدَّمْعِ وَلاَ تُسِيلُهُ.

وَالدَّامِيَةُ تُسَمَّى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْبَازِلَةَ؛ لأِنَّ هَا تَبْزُلُ الْجِلْدَ أَيْ تَشُقُّهُ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (بَازِلَةٌ).

3 - الْبَاضِعَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ، أَيْ تَقْطَعُهُ، وَقِيلَ: الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: بَاضِعَةٌ).

4 - الْمُتَلاَحِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ، وَلاَ تَبْلُغُ الْجِلْدَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَتُسَمَّى اللاَّحِمَةُ أَيْضًا.

5 - السِّمْحَاقَ: وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ الْجِلْدَةَ الَّتِي بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الشَّجَّةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْمِلْطَى، وَالْمِلْطَاةَ، وَاللاَّطِئَةَ.

6 - الْمُوضِحَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ السِّمْحَاقَ وَتُوضِحُ الْعَظْمَ.

7 - الْهَاشِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ أَيْ تَكْسِرُهُ سَوَاءٌ أَوْضَحَتْهُ أَمْ لاَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

8 - الْمُنَقِّلَةُ: بِتَشْدِيدِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا، أَوْ كَسْرِهَا، وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعَظْمَ وَتَنْقُلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ سَوَاءٌ أَوْضَحَتْهُ وَهَشَّمَتْهُ أَمْ لاَ.

9 - الْمَأْمُومَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ أُمَّ الرَّأْسِ وَهِيَ خَرِيطَةُ الدِّمَاغِ الْمُحِيطَةُ بِهِ، وَيُقَالُ لَهَا الآْمَّةُ أَيْضًا (انْظُرْ مُصْطَلَحَ آمَّةٌ).

10 - الدَّامِغَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ الْخَرِيطَةَ، وَتَصِلُ الدِّمَاغَ.

فَهَذِهِ الأْقْسَامُ الْعَشَرَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَذُكِرَ فِيهَا أَلْفَاظٌ أُخْرَى تُؤَوَّلُ إِلَى هَذِهِ الأْقْسَامِ.

وَتُتَصَوَّرُ جَمِيعُ هَذِهِ الشِّجَاجِ فِي الْجَبْهَةِ كَمَا تُتَصَوَّرُ فِي الرَّأْسِ، وَكَذَلِكَ تُتَصَوَّرُ مَا عَدَا الْمَأْمُومَةَ وَالدَّامِغَةَ فِي الْخَدِّ، وَفِي قَصَبَةِ الأْنْفِ، وَاللَّحْيِ الأْسْفَلِ.

وَالتَّسْمِيَاتُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا تَكَادُ تَكُونُ مَحَلَّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ خِلاَفٌ يَسِيرٌ فِي تَرْتِيبِهَا، فَمَرَدُّهُ الاِخْتِلاَفُ فِي تَحْدِيدِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

33 - وَأَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الشِّجَاجِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ فِي الْمُوضِحَةِ، لقوله تعالي  : ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) وَلِتَيْسِيرِ ضَبْطِهَا وَاسْتِيفَاءِ مِثْلِهَا؛ لأِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْهِيَ السِّكِّينَ إِلَى الْعَظْمِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ، وَقَدْ قَضَى عليه السلام  فِي الْمُوضِحَةِ بِالْقِصَاصِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمُوضِحَةِ مَا لَهُ بَالٌ وَاتِّسَاعٌ، فَيُقْتَصُّ وَإِنْ ضَاقَ كَقَدْرِ مَغْرَزِ إِبْرَةٍ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، وَهِيَ الْهَاشِمَةُ، وَالْمُنَقِّلَةُ، وَالآْمَّةُ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا بَعْدَهَا؛ لأِنَّ  كَسْرَ الْعَظْمِ وَتَنَقُّلَهُ لاَ يُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهَا.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلاَحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ - إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ أَيْضًا.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :  ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) وَلأِنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا قَبْلَهَا

بِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْجِرَاحَةِ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ مِثْلُ مَا فَعَلَ.

وَاسْتَثْنَى الشُّرُنْبُلاَلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ السِّمْحَاقَ فَلاَ يُقَادُ فِيهَا كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْحَارِصَةِ مُطْلَقًا، وَفِي الْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلاَحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالدَّامِيَةُ كَالْحَارِصَةِ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ كَالْبَاضِعَةِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مُطْلَقًا.

وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَارِصَةَ، وَالدَّامِيَةَ، وَالدَّامِغَةَ؛ لأِنَّ  الْحَارِصَةَ وَالدَّامِيَةَ لاَ يَبْقَى لَهُمَا أَثَرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالشَّجَّةُ الَّتِي لاَ يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ، لاَ حُكْمَ لَهَا فِي الشَّرْعِ. وَالدَّامِغَةُ لاَ يَعِيشُ مَعَهَا عَادَةً، فَلاَ مَعْنَى لِبَيَانِ حُكْمِ الشَّجَّةِ.

ثَانِيًا - الْجِرَاحَاتُ الْوَاقِعَةُ عَلَى سَائِرِ الْبَدَنِ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  قَالَ: «لاَ قَوَدَ فِي الْمَأْمُومَةِ، وَلاَ فِي الْجَائِفَةِ، وَلاَ فِي الْمُنَقِّلَةِ».

وَلأِنَّ هَا جِرَاحٌ لاَ تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ فِيهَا، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قِصَاصٌ، كَكَسْرِ الْعِظَامِ.

وَالْجَائِفَةُ هِيَ الَّتِي تَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ، وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي تَنْفُذُ فِيهَا الْجِرَاحَةُ إِلَى الْجَوْفِ هِيَ الصَّدْرُ وَالظَّهْرُ، وَالْبَطْنُ، وَالْجَنْبَانِ، وَالدُّبُرُ، وَلاَ تَكُونُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَلاَ فِي الرَّقَبَةِ جَائِفَةٌ؛ لأِنَّ  الْجُرْحَ لاَ يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ مَا وَصَلَ مِنَ الرَّقَبَةِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَوْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَابِ فِطْرُهُ، تَكُونُ جَائِفَةً؛ لأِنَّهُ لاَ يُفْطِرُ إِلاَّ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ.

أَمَّا غَيْرُ الْجَائِفَةِ فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، لاَ قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَأَمَّا الْمُوضِحَةُ الَّتِي تُوضِحُ عَظْمَ الصَّدْرِ فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهَا وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الأْصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحَةِ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ بِشَرْطِ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَظْمٍ وَلاَ تَكْسِرَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ لاَ قِصَاصَ فِيهَا، بَلْ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ إِذَا أَوْضَحَتِ الْعَظْمَ وَكَسَرَتْهُ، وَإِذَا بَقِيَ لَهَا أَثَرٌ، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ مَا أَنْفَقَ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقْتَصُّ مِنْ جِرَاحِ الْجَسَدِ وَإِنْ كَانَتْ هَاشِمَةً، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: فِي جِرَاحِ الْجَسَدِ مِنَ الْهَاشِمَةِ وَغَيْرِهَا الْقَوَدُ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَعْظُمَ الْخَطَرُ كَعَظْمِ الصَّدْرِ، وَالْعُنُقِ، وَالصُّلْبِ، وَالْفَخِذِ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ بِالْمِسَاحَةِ طُولاً، وَعَرْضًا، وَعُمْقًا، إِنِ اتَّحَدَ الْمَحَلُّ.

النَّوْعُ الثَّالِث:

إِبْطَالُ الْمَنَافِعِ بِلاَ شَقٍّ وَلاَ إِبَانَةٍ :

قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِعْتِدَاءِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْجَرْحِ زَوَالُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ مَعَ بَقَائِهِ قَائِمًا، كَمَنْ يَلْطِمُ شَخْصًا عَلَى وَجْهِهِ أَوْ يَجْرَحُهُ فِي رَأْسِهِ، فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ ذَهَابُ الْبَصَرِ أَوِ السَّمْعِ، مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ سَلِيمًا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي ذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ فِي الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالشَّمِّ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ اتِّفَاقًا، وَفِي الْبَطْشِ وَالذَّوْقِ وَالشَّمِّ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ؛ لأِنَّ  لَهَا مَحَالَّ مَضْبُوطَةً، وَلأِهْلِ الْخِبْرَةِ طُرُقٌ فِي إِبْطَالِهَا. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي، فَإِنَّهُ يَجْرِي عِنْدَهُمُ الْقِصَاصُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْقِصَاصُ إِلاَّ فِي زَوَالِ الْبَصَرِ دُونَ سِوَاهُ؛ لأِنَّ  فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصًا فِي الشَّرِيعَةِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى الاِعْتِدَاءُ إِلَى ذَهَابِ الْعَقْلِ، أَوِ السَّمْعِ، أَوِ الْكَلاَمِ، أَوِ الشَّمِّ، أَوْ لُزُومِهِ، أَوِ الْجِمَاعِ، أَوْ مَاءِ الصُّلْبِ، أَوْ إِلَى شَلَلِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي :

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ الْمُوجِبَةُ لِلدِّيَةِ أَوْ غَيْرِهَا :

إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً، أَوْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهَا الشُّرُوطُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ فَتَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ، أَوْ حُكُومَةُ عَدْلٍ، عَلَى حَسَبِ الأْحْوَالِ، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: لأِنَّ هَا لاَ تَخْلُوا إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْقَطْعِ وَإِبَانَةِ الأْطْرَافِ، أَوْ بِالْجُرْحِ، أَوْ بِإِزَالَةِ الْمَنَافِعِ.

النَّوْعُ الأْوَّلُ: إِبَانَةُ الأْطْرَافِ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَدَنِ الإْنْسَانِ مِنْهُ إِلاَّ وَاحِدًا كَاللِّسَانِ وَالأْنْفِ، وَالذَّكَرِ، وَالصُّلْبِ، وَغَيْرِهَا، فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَالأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنْ رَسُول اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  قَالَ: «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الأْنْفِ الدِّيَةُ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ».

لأِنَّ  إِتْلاَفَ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الأْعْضَاءِ كَإِذْهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَإِذْهَابُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كَإِتْلاَفِ النَّفْسِ، فَإِتْلاَفُ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الأْعْضَاءِ كَإِتْلاَفِ النَّفْسِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الأْنْفَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: الْمَنْخِرَيْنِ، وَالْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا، فَفِي الأْنْفِ الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهَا. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمَا خُلِقَ فِي الإْنْسَانِ مِنْهُ شَيْئَانِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْعَيْنَيْنِ وَالأْذُنَيْنِ، وَالْمَنْخِرَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ، وَالأْنْثَيَيْنِ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَالأْلْيَتَيْنِ وَغَيْرِهَا، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَازِمٍ فِي كِتَابِهِ: وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ...»

وَلأِنَّ  فِي إِتْلاَفِهِمَا إِذْهَابَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأِنَّ  فِي إِتْلاَفِ إِحْدَاهُمَا إِذْهَابَ نِصْفِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَيْنِ الأْعْوَرِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِيهَا نِصْفَ الدِّيَةِ وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ مُغَفَّلٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم  : «وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي إِتْلاَفِ عَيْنِ الأْعْوَرِ دِيَةً كَامِلَةً وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَقَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ؛ لأِنَّ  عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهم قَضَوْا فِي عَيْنِ الأْعْوَرِ بِالدِّيَةِ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا؛ وَلأِنَّ  قَلْعَ عَيْنِ الأْعْوَرِ تَضْمَنَّ إِذْهَابَ الْبَصَرِ كُلِّهِ، فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ أَذْهَبَهُ مِنَ الْعَيْنَيْنِ.

وَمَا خُلِقَ فِي الإْنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ، وَهُوَ أَجْفَانُ الْعَيْنَيْنِ وَأَهْدَابُهَا. 

وَمَا فِيهِ مِنْهُ عَشَرَةٌ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُهَا، فَفِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ أَيْضًا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إِصْبَعٍ وَإِصْبَعٍ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم  : «فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ مِنَ الإْبِلِ» وَالأْصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، فَالْخِنْصَرُ وَالإْبْهَامُ سَوَاءٌ، وَفِي كُلِّ سُلاَمَى مِنَ السُّلاَمِيَّاتِ الثَّلاَثِ ثُلُثُ دِيَةِ الأْصْبُعِ مَا عَدَا الإْبْهَامَ فَإِنَّهَا مَفْصِلاَنِ، وَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ دِيَةِ الإْصْبَعِ.

وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسٍ يَزِيدُ عَلَى الدِّيَةِ إِلاَّ الأْسْنَانُ فَإِنَّ فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسًا مِنَ الإْبِلِ، أَيْ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَالأْصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلي الله عليه وسلم  أَنَّهُ قَالَ: «فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ» وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ سِنٍّ وَسِنٍّ؛ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

- وَأَمَّا إِزَالَةُ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ، وَالْحَاجِبَيْنِ إِذَا لَمْ يَنْبُتْ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِيهَا الدِّيَةَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ؛ لأِنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ، فَوَجَبَ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَأُذُنِ الأْصَمِّ، وَأَنْفِ الأْخْشَمِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةَ عَدْلٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لأِنَّهُ إِتْلاَفُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ).

النَّوْعُ الثَّانِي: الْجِرَاح:

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الْمُوضِحَةِ إِذَا كَانَتْ فِي الْوَجْهِ أَوِ الرَّأْسِ خَمْسًا مِنَ الإْبِلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَلَيْسَ فِي جِرَاحَاتِ غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإْبِلِ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ كِتَابُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْمَعْرُوفُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ ذَلِكَ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ فِي الدَّامِغَةِ مَا فِي الْمَأْمُومَةِ؛ لأِنَّ هَا أَبْلَغُ مِنَ الْمَأْمُومَةِ، وَلاَ يَسْلَمُ صَاحِبُهَا فِي الْغَالِبِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بَيْنَ الشِّجَاجِ؛ لأِنَّهُ لاَ يَعِيشُ مَعَهَا، وَلَيْسَ لَهَا حُكْمٌ.

وَأَمَّا الْهَاشِمَة: فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِهَا:

فَقَدَّرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِعُشْرِ الدِّيَةِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْهَاشِمَةَ تُرَادِفُ الْمُنَقِّلَةَ.

وَقَدَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأْصَحِّ - وَالْحَنَابِلَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِعَشْرٍ مِنَ الإْبِلِ إِنْ كَانَتْ مَعَ إِيضَاحٍ أَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ بِشَقٍّ لإِخْرَاجِ عَظْمٍ أَوْ تَقْوِيمِهِ، فَإِنْ لَمْ تُوضِحْ فَخَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ وَقِيلَ: حُكُومَةٌ.

وَأَمَّا مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ مِنَ الشِّجَاجِ وَهِيَ الْحَارِصَةُ وَالسِّمْحَاقُ وَمَا بَيْنَهُمَا فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِتَوْقِيفٍ، وَلاَ لَهُ قِيَاسٌ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْحُكُومَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ).

النَّوْعُ الثَّالِثُ: إِبْطَالُ الْمَنَافِعِ :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ بِإِزَالَةِ الْعَقْلِ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لأِنَّهُ أَكْبَرُ الْمَعَانِي قَدْرًا، وَأَعْظَمُ الْحَوَاسِّ نَفْعًا، وَبِإِبْطَالِ السَّمْعِ مِنَ الأْذُنَيْنِ أَوِ الْبَصَرِ مِنِ الْعَيْنَيْنِ، أَوِ الشَّمِّ مِنَ الْمَنْخِرَيْنِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَبِإِبْطَالِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ إِحْدَى الأْذُنَيْنِ، أَوِ الْعَيْنَيْنِ، أَوِ الْمَنْخِرَيْنِ، نِصْفُ الدِّيَةِ، مِنْ إِحْدَاهَا.

وَكَذَلِكَ بِإِبْطَالِ الصَّوْتِ، وَالذَّوْقِ، وَالْمَضْغِ، وَالإْمْنَاءِ وَالإْحْبَالِ، وَالْجِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَذَاقَ مُشْتَمِلٌ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْحَلاَوَةِ، وَالْمَرَارَةِ، وَالْحُمُوضَةِ، وَالْعُذُوبَةِ، وَالْمُلُوحَةِ، فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِ أَقْسَامِهَا خُمُسُهَا.

وَفِي شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ).

د - حَبْسُ الْجَانِي عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ بِالْجُرْحِ وَنَحْوِهِ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ :

مَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ جِرَاحَةً لاَ يُسْتَطَاعُ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالأْرْشِ، وَعُوقِبَ وَأُطِيلَ حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً ثُمَّ يُخَلَّى عَنْهُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي فَقْءِ الْعَيْنِ.

رَابِعًا: الْجِنَايَةُ عَلَى الْحَاجِبِ :

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى شَعْرِ الْحَاجِبِ إِذَا لَمْ يَنْبُتْ الدِّيَةَ، وَفِي أَحَدِ الْحَاجِبَيْنِ نِصْفَ الدِّيَةِ، قَالُوا: لأَِنَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ إِتْلاَفًا لِلْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ وَإِتْلاَفًا لِلْمَنْفَعَةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ الْحَاجِبَ يَرُدُّ الْعَرَقَ عَنِ الْعَيْنِ وَيُفَرِّقُهُ.

وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ كَوْنِ الْحَاجِبِ كَثِيفًا أَوْ خَفِيفًا، جَمِيلاً أَوْ قَبِيحًا، أَوْ كَوْنِهِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ؛ لأَِنَّ سَائِرَ مَا فِيهِ الدِّيَةُ مِنَ الأَْعْضَاءِ لاَ يَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَالُ بِذَلِكَ. وَقَالُوا: إِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْحَاجِبَيْنِ بِذَهَابِهِمَا عَلَى وَجْهٍ لاَ يُرْجَى عَوْدُهُمَا بِإِتْلاَفِ مَنْبَتِ الشَّعْرِ، فَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهُمَا فِي مُدَّةٍ انْتَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِنْ عَادَ الشَّعْرُ قَبْلَ أَخْذِ الدِّيَةِ لَمْ تَجِبْ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ أَخْذِهَا رُدَّتْ.

وَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ فِي شَعْرِ الْحَاجِبِ؛ لأَِنَّ إِتْلاَفَهُ يَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلِّهِ - مَنْبَتِهِ - وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فَلاَ تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ، فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى شَعْرِ الْحَاجِبِ إِنْ لَمْ يَنْبُتْ حُكُومَةً، وَأَنَّ الشُّعُورَ لاَ قَوَدَ فِيهَا قَطْعًا، وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ فِيمَا شَأْنُهُ الزِّينَةُ مِنْهَا، فَإِنْ نَبَتَ الشَّعْرُ وَعَادَ لِهَيْئَتِهِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ إِلاَّ الأَْدَبُ فِي الْعَمْدِ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثامن عشر ، الصفحة / 68

حُكُومَةُ عَدْلٍ

التَّعْرِيفُ:

الْحُكُومَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ الثُّلاَثِيِّ (حَكَمَ) وَاسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ (غَيْرِ الثُّلاَثِيِّ)، وَمِنْ مَعَانِيهَا رَدُّ الظَّالِمِ عَنِ الظُّلْمِ قَالَ الأْزْهَرِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى حَدِيثِ: «فِي أَرْشِ الْجِرَاحَاتِ الْحُكُومَةُ» .

مَعْنَى الْحُكُومَةِ فِي أَرْشِ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا دِيَةٌ مَعْلُومَةٌ أَنْ يُجْرَحَ الإْنْسَانُ فِي بَدَنِهِ مِمَّا يَبْقَى شَيْنُهُ وَلاَ يَبْطُلُ الْعُضْوُ فَيَقْتَاسُ (يُقَدِّرُ) الْحَاكِمُ أَرْشَهُ .وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَقَدْ أَطْلَقُوهُ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي يُقَدِّرُهُ عَدْلٌ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَالِ .قَالَ ابْنُ عَاشِرٍ: اتَّفَقَتِ الأْنْقَالُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكُومَةِ الاِجْتِهَادُ وَإِعْمَالُ الْفِكْرِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِي .

وَسَبَبُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْحُكُومَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ أَوْ مُحَكَّمٍ مُعْتَبَرٍ، وَمِنْ ثَمَّ لَوِ اجْتَهَدَ فِيهِ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ .

قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: أَلْفَاظُ الْمُدَوَّنَةِ يَأْتِي فِيهَا تَارَةً لَفْظُ الْحُكُومَةِ، وَتَارَةً لَفْظُ الاِجْتِهَادِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا مُتَرَادِفَيْنِ.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الأْرْشُ:

الأْرْشُ هُوَ الْمَالُ الْوَاجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى بَدَلِ النَّفْسِ وَهُوَ الدِّيَةُ.

وَالأْرْشُ أَعَمُّ مِنْ حُكُومَةِ الْعَدْلِ لأِنَّهُ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ فِي جِنَايَةٍ جَاءَ فِيهَا نَصٌّ بِسَهْمٍ مُعَيَّنٍ، وَالْوَاجِبُ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مُقَدَّرٌ مِنْ الشَّارِعِ، فَحُكُومَةُ الْعَدْلِ هِيَ نَوْعٌ مِنَ الأْرْشِ .

ب - الدِّيَةُ:

الدِّيَةُ: هِيَ بَدَلُ النَّفْسِ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ

بِأَسْبَابِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى أَرْشُ مَا دُونَ النَّفْسِ بِالدِّيَةِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدِّيَةِ وَحُكُومَةِ الْعَدْلِ، أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي الْغَالِبِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، أَمَّا حُكُومَةُ الْعَدْلِ فَتَجِبُ بِالاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، كَمَا أَنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا، وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ فِي الشَّرْعِ وَيُتْرَكُ أَمْرُ تَقْدِيرِهَا لِلْحَاكِمِ.

الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِحُكُومَةِ الْعَدْلِ:

مَا يَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ:

الأْصْلُ أَنَّ مَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْجِنَايَاتِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ فَفِيهِ الْحُكُومَةُ، لأِنَّ الأْصْلَ فِي الْجِنَايَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ اعْتِبَارُهَا بِإِيجَابِ الْجَابِرِ أَوِ الزَّاجِرِ مَا أَمْكَنَ .

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ عِنْدَ الاِسْتِدْلاَلِ عَلَى وُجُوبِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَالِ: لأِنَّ هَذِهِ (الْجِنَايَاتِ) لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا فَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ

النَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .

هَذَا وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْحُكُومَةِ مَا عُرِفَتْ نِسْبَةُ أَرْشِهِ إِلَى أَرْشٍ مُقَدَّرٍ فِي الشَّرْعِ كَأَنْ كَانَ بِقُرْبِهِ مُوضِحَةٌ أَوْ جَائِفَةٌ فَعِنْدَئِذٍ وَجَبَ الأْكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِ وَالْحُكُومَةِ .

وَيَخْرُجُ مِنَ الْحُكُومَةِ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْجُرْحِ الَّذِي فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مَقِيسًا عَلَيْهِ كَالأْلْيَتَيْنِ وَالثَّدْيَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ .

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ (ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).

شُرُوطُ حُكُومَةِ الْعَدْلِ:

لَمْ يَذْكُرِ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا مَحْدُودَةً لِوُجُوبِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ إِلاَّ أَنَّهُ أَمْكَنَ بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِهِمُ اسْتِخْلاَصُ الشُّرُوطِ الآْتِيَةِ:

أ - أَلاَّ يَكُونَ لِلْجِنَايَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ:

يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ لِلْجِنَايَةِ الْمُرَادُ تَقْدِيرُهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ بِنَاءً عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ

 الاِجْتِهَادُ فِي تَقْدِيرِ أَرْشِ شَجَّةٍ، أَوْ جِرَاحَةٍ، أَوْ إِزَالَةِ مَنْفَعَةِ عُضْوٍ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي الشَّرْعِ.

ب - أَلاَّ تَبْلُغَ الْحُكُومَةُ أَرْشَ الْعُضْوِ:

الْحُكُومَةُ الَّتِي تَجِبُ فِي جُرْحٍ أَصَابَ عُضْوًا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لاَ يَبْلُغُ بِهَا ذَلِكَ الأْرْشَ الْمُقَدَّرَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَلاَّ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعُضْوِ مَعَ بَقَائِهِ مَضْمُونَةً بِمَا يُضْمَنُ بِهِ الْعُضْوُ نَفْسُهُ .

قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ نَظَرَ: إِنْ لَمْ تَبْلُغِ الْحُكُومَةُ أَرْشَ ذَلِكَ الْعُضْوِ وَجَبَتْ بِكَمَالِهَا، وَإِنْ بَلَغَتْهُ نَقَصَ الْحَاكِمُ شَيْئًا مِنْهُ بِالاِجْتِهَادِ. وَبِهَذَا يَقُولُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ .بِنَاءً عَلَى هَذَا أَنَّ حُكُومَةَ الأْنْمُلَةِ الْعُلْيَا يَجْرَحُهَا، أَوْ يَقْلَعُ ظُفُرَهَا يَنْقُصُ عَنْ أَرْشِ الأْنْمُلَةِ.

وَالْجِنَايَةُ عَلَى الأْصْبُعِ وَعَلَى الرَّأْسِ لاَ تَبْلُغُ حُكُومَتُهَا أَرْشَ الْمُوضِحَةِ، وَعَلَى الْبَطْنِ لاَ تَبْلُغُ أَرْشَ الْجَائِفَةِ، وَحُكُومَةُ جُرْحِ الْكَفِّ لاَ تَبْلُغُ دِيَةَ الأْصَابِعِ الْخَمْسِ، وَكَذَا حُكُومَةُ قَطْعِ الْكَفِّ

الَّتِي لاَ أُصْبُعَ عَلَيْهَا وَكَذَا حُكْمُ الْقَدَمِ .

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ عَلَى عُضْوٍ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَالظَّهْرِ وَالْكَتِفِ وَالْفَخِذِ فَيَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ حُكُومَتُهَا دِيَةَ عُضْوٍ مُقَدَّرٍ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَنْقُصُ عَنْ دِيَةِ النَّفْسِ .

ج - أَنْ يَكُونَ التَّقْوِيمُ بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ:

يُشْتَرَطُ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ الْحُكُومَةِ بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ وَبُرْئِهِ لاَ قَبْلَهُ، لأَِنَّ الْجُرْحَ قَدْ يَسْرِي إِلَى النَّفْسِ أَوْ إِلَى مَا يَكُونُ وَاجِبُهُ مُقَدَّرًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ لاَ الْحُكُومَةُ .

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُقَوَّمَ بِتَقْدِيرِ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ لأِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى فَرْضِ الْحُرِّ رَقِيقًا بِصِفَاتِهِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ لِمِقْدَارِ النَّقْصِ وَيُؤْخَذُ بِنِسْبَتِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِرُّ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ مِنَ الْمُقَوِّمِينَ . 

قَالَ الْكَاسَانِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ طَرِيقَةِ الْكَرْخِيِّ لِتَقْدِيرِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ: تُقَرَّبُ هَذِهِ الْجِنَايَةُ إِلَى أَقْرَبِ جِنَايَةٍ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَنْظُرُ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ أَطِبَّاءِ الْجِرَاحَاتِ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ هَاهُنَا فِي قِلَّةِ الْجِرَاحَاتِ وَكَثْرَتِهَا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَأْخُذُ الْقَاضِي بِقَوْلِهِمَا، وَيَحْكُمُ مِنَ الأْرْشِ بِمِقْدَارِهِ مِنْ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ الْمُقَدَّرَةِ .

د - أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي أَوِ الْمُحَكَّمُ بِالْحُكُومَةِ:

يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْحُكُومَةِ الْقَاضِي أَوِ الْمُحَكَّمُ بِشَرْطِهِ - وَهُوَ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ - بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْ أَطِبَّاءِ الْجِرَاحَاتِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَتِ الْحُكُومَةُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِ الْقَاضِي أَوِ الْمُحَكَّمِ لَمْ تُعْتَبَرْ .

كَيْفِيَّةُ تَقْدِيرِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ:

يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِمَعْرِفَةِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ أَنْ يَتِمَّ تَقْوِيمُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِتَقْوِيمِ الْعَبِيدِ كَمَا فِي تَقْوِيمِ سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، فَيُقَوَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِصِفَاتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لَوْ كَانَ عَبْدًا وَيُنْظَرُ كَمْ نَقَصَتِ الْجِنَايَةُ مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ قُوِّمَ بِعَشَرَةٍ دُونَ الْجِنَايَةِ وَبِتِسْعَةٍ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَالتَّفَاوُتُ الْعُشْرُ فَيَجِبُ لَهُ عَلَى الْجَانِي عُشْرُ دِيَةِ النَّفْسِ .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى تَقْرِيبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ إِلَى أَقْرَبِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَيَنْظُرُ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ أَطِبَّاءِ الْجِرَاحَاتِ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ هَاهُنَا فِي قِلَّةِ الْجِرَاحَاتِ وَكَثْرَتِهَا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَيَأْخُذُ الْقَاضِي بِقَوْلِهِمَا وَيَحْكُمُ مِنَ الأْرْشِ بِمِقْدَارِهِ مِنْ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ الْمُقَدَّرَةِ .

وَاسْتَدَلَّ لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِالأْثَرِ الْمَنْقُولِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه  وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قُطِعَ طَرَفُ لِسَانِهِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه  فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ (أَلِفٌ، ب، ت، ث.) فَكُلَّمَا قَرَأَ حَرْفًا أَسْقَطَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَمَا لَمْ يَقْرَأْهُ أَوْجَبَ الدِّيَةَ بِحِسَابِ ذَلِكَ .

فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ حُكُومَةَ الْعَدْلِ فِي الَّذِي قُطِعَ طَرَفُ لِسَانِهِ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ وَلَمْ يَعْتَبَرْ بِالْعَبِيدِ .

وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ مِثْلُ ذَلِكَ .

وَنَقَلَ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الْخُلاَصَةِ: إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي وَجْهٍ وَرَأْسٍ فَحِينَئِذٍ يُفْتَى بِهِ، وَلَوْ فِي غَيْرِهِمَا أَوْ تَعَسَّرَ عَلَى الْمُفْتِي يُفْتِي بِقَوْلِ الطَّحَاوِيِّ - وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - مُطْلَقًا لأِنَّهُ أَيْسَرُ .

وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: يَنْظُرُ الْمُفْتِي فِي هَذَا، إِنْ أَمْكَنَهُ الْفَتْوَى بِالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ - بِأَنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ يُفْتِي بِالثَّانِي.

وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ يُفْتِي بِالْقَوْلِ الأْوَّلِ - وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - لأِنَّهُ أَيْسَرُ. وَكَانَ الْمَرْغِينَانِيُّ يُفْتِي بِهِ .

وَمَحَلُّ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الصَّدْرِ أَوِ الْفَخِذِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ مُقَدَّرَ فِيهِ اعْتُبِرَتِ الْحُكُومَةُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ قَطْعًا .

وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلاً ثَالِثًا فِي كَيْفِيَّةِ تَقْدِيرِ الْحُكُومَةِ، فَقَدْ قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَالأْصَحُّ أَنَّهُ يُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ أَقَلِّ شَجَّةٍ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُهُ مِثْلَ نِصْفِ شَجَّةٍ لَهَا

أَرْشٌ، أَوْ ثُلُثُهَا، وَجَبَ نِصْفُ أَوْ ثُلُثُ أَرْشِ تِلْكَ الشَّجَّةِ، وَإِنْ كَانَ رُبْعًا فَرُبْعٌ.

وَيَرَى الشُّرُنْبُلاَلِيُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ قَوْلاً ثَالِثًا، وَالأْشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِقَوْلِ الْكَرْخِيِّ .

وَقِيلَ: تُقَدَّرُ الْجِنَايَةُ بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ، وَبِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ .

قَالَ الْقُهُسْتَانِيُّ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا بَقِيَ لِلْجِرَاحَةِ أَثَرٌ وَإِلاَّ فَعِنْدَهُمَا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَدْرُ مَا أَنْفَقَ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ حُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي الأْلَمِ .

وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَا بَرِئَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ - مِمَّا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِمَّا لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ الشَّارِعُ شَيْئًا - فَإِنَّهُ لاَ شَيْءَ فِيهِ عَلَى الْجَانِي مِنْ عَقْلٍ وَتَعْزِيرٍ وَأُجْرَةِ طَبِيبٍ .

وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ عَرَفَةَ - فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجُرْحِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ - الْقَوْلَ بِأَنَّ عَلَى الْجَانِي أُجْرَةَ الطَّبِيبِ وَثَمَنَ الدَّوَاءِ سَوَاءٌ أَبَرِئَ عَلَى شَيْنٍ أَمْ لاَ مَعَ الْحُكُومَةِ فِي الأْوَّلِ .أَمَّا مَا قَدَّرَ الشَّارِعُ فِيهِ شَيْئًا فَالْوَاجِبُ الْمُقَدَّرُ، بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ أَمْ لاَ .إِلاَّ مُوضِحَةَ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فَإِنَّهَا إِذَا بَرِئَتْ عَلَى شَيْنٍ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِيهَا عَلَى ثَلاَثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:

الأَْوَّلُ: دَفْعُ دِيَتِهَا وَمَا حَصَلَ بِالشَّيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

الثَّانِي: دَفْعُ دِيَتِهَا وَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا مُطْلَقًا، وَهَذَا مَا يَقُولُ بِهِ أَشْهَبُ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْمَشْهُورِ.

الثَّالِثُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّيَةِ إِذَا كَانَ أَمْرًا مُنْكَرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا فَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا.

وَهَذَا مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْ مَالِكٍ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / التاسع عشر، الصفحة / 89

الْخَرَسُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ :

 

15 - اللِّسَانُ آلَةُ الْكَلاَمِ، وَالاِعْتِدَاءُ عَلَى الإِْنْسَانِ بِمَا يُفْقِدُهُ النُّطْقَ وَيَجْعَلُهُ أَخْرَسَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَطْعِ اللِّسَانِ، أَوْ بِضَرْبٍ يُؤَدِّي إِلَى ذَهَابِ الْكَلاَمِ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ.

وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَفِي مُوجِبِ ذَلِكَ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَدِيَةٌ).

الْجِنَايَةُ عَلَى لِسَانِ الأَْخْرَسِ :

16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ فِي لِسَانِ الأَْخْرَسِ حُكُومَةَ عَدْلٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ لِعَدَمِ فَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ حُكُومَةُ عَدْلٍ تَشْرِيفًا لِلآْدَمِيِّ؛ لأَِنَّ اللِّسَانَ جُزْءٌ مِنْهُ. وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَذْهَبَ بِقَطْعِهِ الذَّوْقُ، وَإِلاَّ فَفِيهِ الدِّيَةُ.

وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: إِنَّ فِيهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  صلي الله عليه وسلم قَضَى فِي الْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا إِذَا طُمِسَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ إِذَا قُطِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ إِذَا نُزِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا » .

وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ كَانَتْ عَمْدًا مِنْ نَاطِقٍ .

فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مِنْ أَخْرَسَ عَلَى أَخْرَسَ عَمْدًا، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِذَا أُمِنَتِ السِّرَايَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلْمُمَاثَلَةِ وَالتَّكَافُؤِ، وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ أَصْلاً فِي اللِّسَانِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / العشرون، الصفحة / 224

دَامِغَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1 - الدَّامِغَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ دَمَغَهُ أَيْ أَصَابَ دِمَاغَهُ، وَشَجَّهُ حَتَّى بَلَغَتِ الشَّجَّةُ الدِّمَاغَ، وَالدَّامِغَةُ مِنَ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الدِّمَاغَ وَلاَ حَيَاةَ مَعَهَا غَالِبًا .

وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالُوا: هِيَ الَّتِي تَخْرِقُ خَرِيطَةَ الدِّمَاغِ (الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ السَّاتِرَةَ لِلْمُخِّ) وَتَصِلُ إِلَيْهِ. وَهِيَ مُذَفِّفَةٌ غَالِبًا. وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشِّجَاجِ لِلْمَوْتِ بَعْدَهَا عَادَةً، فَتَكُونُ عِنْدَهُ قَتْلاً لاَ شَجًّا .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ.

2 - الدَّامِغَةُ مِنَ الشِّجَاجِ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا إِنْ لَمْ تُفْضِ إِلَى الْمَوْتِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِالْمِثْلِ لِعِظَمِ خَطَرِهَا وَخَشْيَةِ السِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَوِي فِي الْحُكْمِ فِيهَا عَمْدُهَا وَخَطَؤُهَا. وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

وَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ قِيَاسًا عَلَى الْمَأْمُومَةِ (الآْمَّةِ) لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عيله وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ، وَفِيهِ: فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» .

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ عَلَى الْجَانِي أَرْشُ مَأْمُومَةٍ وَحُكُومَةُ عَدْلٍ، لأَِنَّ خَرْقَ الْجِلْدِ جِنَايَةٌ بَعْدَ الْمَأْمُومَةِ فَوَجَبَ لأَِجْلِهَا حُكُومَةٌ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ مُوضِحَةً، لأَِنَّهُ يَقْتَصُّ بَعْضَ حَقِّهِ، وَلأَِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْجِنَايَةِ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهَا، وَيَأْخُذُ الأَْرْشَ فِي الْبَاقِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهِ فَانْتَقَلَ إِلَى الْبَدَلِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنِ الاِسْتِيفَاءُ إِلاَّ مِنْ وَاحِدَةٍ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهُ أَرْشُ الْبَاقِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، لأَِنَّهُ جُرْحٌ وَاحِدٌ فَلاَ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ قِصَاصٍ وَدِيَةٍ.

ثُمَّ إِنَّ الْحُكْمَ بِثُلُثِ الدِّيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا عَاشَ الْمَشْجُوجُ، أَمَّا إِذَا مَاتَ بِهَا فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَفِيهَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَفِيهَا دِيَةُ نَفْسٍ كَامِلَةً .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الحادي والعشرون، الصفحة / 64

الاِعْتِدَاءُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ

مُوجِبَاتُ الدِّيَةِ فِي الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ، وَهِيَ إِبَانَةُ الأَْطْرَافِ، وَإِتْلاَفُ الْمَعَانِي، وَالشِّجَاجُ وَالْجُرُوحُ.

الْقِسْمُ الأْوَّلُ: إِبَانَةُ الأْطْرَافِ: (قَطْعُ الأْعْضَاءِ):

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ مَا لاَ نَظِيرَ لَهُ فِي بَدَنِ الإْنْسَانِ كَالأْنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ وَالصُّلْبِ إِذَا انْقَطَعَ الْمَنِيُّ، وَمَسْلَكِ الْبَوْلِ، وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ دِيَةً كَامِلَةً.

وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ كَالْعَيْنَيْنِ وَالأْذُنَيْنِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ وَالْحَاجِيَيْنِ إِذَا ذَهَبَ شَعْرُهُمَا نِهَائِيًّا وَلَمْ يَنْبُتْ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَالْحَلَمَتَيْنِ، وَالأْنْثَيَيْنِ، وَالشُّفْرَيْنِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَالأْلْيَتَيْنِ إِذَا تَلِفَتَا مَعًا فَفِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ: وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإْنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، كَأَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ وَالأْجْفَانِ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْهُ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فَفِي جَمِيعِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ، وَمَا فِي الأْصَابِعِ مِنَ الْمَفَاصِلِ (السَّلاَمِيَّاتِ) فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ الأُصْبُعِ، وَنِصْفُ دِيَةِ الأْصْبُعِ فِيمَا فِيهَا مَفْصِلاَنِ وَهِيَ الإْبْهَامُ خَاصَّةً، وَفِي جَمِيعِ الأْسْنَانِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَالأْصْلُ فِيهِ مَا وَرَدَ فِي «الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ صلى الله عليه وسلم  إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ وَفِي الأْنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ».

فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ وَارِدًا فِي الْبَاقِي دَلاَلَةً؛ لأِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ.

وَالأْصْلُ فِي الأْعْضَاءِ أَنَّهُ إِذَا فُوِّتَ جِنْسُ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالاً مَقْصُودًا فِي الآْدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ؛ لأِنَّ فِيهِ إِتْلاَفَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، إِذِ النَّفْسُ لاَ تَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِتْلاَفُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالإْتْلاَفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الآْدَمِيِّ تَعْظِيمًا لَهُ كَمَا قَالَ الزَّيْلَعِيُّ.

وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

أَوَّلاً - دِيَةُ مَا لاَ نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ مِنَ الأْعْضَاءِ.

أ - دِيَةُ الأْنْفِ:

الأْنْفُ إِذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ قُطِعَ الْمَارِنُ مِنْهُ (وَهُوَ مَا لاَنَ مِنَ الأْنْفِ وَخَلاَ مِنَ الْعَظْمِ) فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: «وَإِنَّ فِي الأْنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ». وَلأِنَّ فِيهِ جَمَالاً وَمَنْفَعَةً زَالَتَا بِالْقَطْعِ فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ.

ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: فِي قَطْعِ كُلٍّ مِنْ طَرَفَيِ الْمَارِنِ الْمُسَمَّيَيْنِ بِالْمَنْخِرَيْنِ، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ تَوْزِيعًا لِلدِّيَةِ عَلَيْهَا.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَاجِزِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفِيهِمَا دِيَةٌ؛ لأِنَّ الْجَمَالَ وَكَمَالَ الْمَنْفَعَةِ فِيهِمَا دُونَ الْحَاجِزِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَا نَقَصَ مِنَ الأْنْفِ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَالنَّقْصُ يُقَاسُ مِنَ الْمَارِنِ، لاَ مِنَ الأْصْلِ.

ب - دِيَةُ اللِّسَانِ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ اللِّسَانِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ إِذَا اسْتُوعِبَ قَطْعًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم. وَوَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: «وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ» وَلأِنَّ فِيهِ جَمَالاً وَمَنْفَعَةً. أَمَّا الْجَمَالُ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  سُئِلَ عَنِ الْجَمَالِ فَقَالَ: فِي اللِّسَانِ» وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَإِنَّ بِهِ تُبَلَّغُ الأْغْرَاضُ وَتُسْتَخْلَصُ الْحُقُوقُ وَتُقْضَى الْحَاجَاتُ وَتَتِمُّ الْعِبَادَاتُ، وَالنُّطْقُ يَمْتَازُ بِهِ الآْدَمِيُّ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَبِهِ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الإْنْسَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:  ( خَلَقَ الإْنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) وَكَذَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ بَعْضِهِ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْكَلاَمِ؛ لأِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لِتَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ حَصَلَ بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ الْكَلاَمِ.

وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْكَلاَمِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضٍ، تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، فَمَا نَقَصَ مِنَ الْحُرُوفِ وَجَبَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ، وَقِيلَ: تُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ دُونَ الشَّفَةِ وَالْحَلْقِ، فَتُسْتَثْنَى مِنْهَا الْحُرُوفُ الشَّفَوِيَّةُ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْبَاءُ، وَالْمِيمُ، وَالْفَاءُ، وَالْوَاوُ، وَحُرُوفُ الْحَلْقِ وَهِيَ سِتَّةٌ هِيَ: الْهَمْزَةُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالْحَاءُ، وَالْغَيْنُ، وَالْخَاءُ، فَتَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَرْفًا تَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ فَإِنْ مَنَعَ جُمْلَةَ الْكَلاَمِ فَفِيهِ الدِّيَةُ. وَقَالُوا أَيْضًا: الدِّيَةُ فِي الْكَلاَمِ لاَ فِي اللِّسَانِ، فَإِنْ قُطِعَ مِنْ لِسَانِهِ مَا يَنْقُصُ مِنْ حُرُوفِهِ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يُحْتَسَبُ فِي الْكَلاَمِ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ، فَرُبَّ حَرْفٍ أَثْقَلُ مِنْ حَرْفٍ فِي النُّطْقِ، وَلَكِنْ بِالاِجْتِهَادِ فِيمَا نَقَصَ مِنَ الْكَلاَمِ.

قَطْعُ لِسَانِ الأْخْرَسِ وَالصَّغِيرِ:

- لاَ دِيَةَ فِي قَطْعِ لِسَانِ الأْخْرَسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بَلْ تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْكَلاَمُ، وَلاَ كَلاَمَ فِيهِ فَصَارَ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ.

وَهَذَا إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِقَطْعِهِ الذَّوْقُ، وَإِلاَّ تَجِبُ الدِّيَةُ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ إِزَالَةِ الْمَنَافِعِ، أَمَّا إِذَا قُطِعَ لِسَانَ الصَّغِيرِ الَّذِي لاَ يَتَكَلَّمُ لِصِغَرِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لأِنَّ ظَاهِرَهُ السَّلاَمَةُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ لأِنَّهُ لاَ يُحْسِنُ الْكَلاَمَ، فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ كَالْكَبِيرِ وَيُخَالِفُ الأْخْرَسَ، فَإِنَّهُ عُلِمَ أَنَّهُ أَشَلُّ؛ وَلأِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي سَائِرِ أَعْضَاءِ الصَّغِيرِ فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ لِسَانِهِ، وَإِنْ بَلَغَ حَدًّا يَتَكَلَّمُ مِثْلُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَقُطِعَ لِسَانُهُ لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ؛ لأِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْكَلاَمِ فَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي لِسَانِ الأْخْرَسِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي لِسَانِ الصَّغِيرِ ظُهُورُ أَثَرِ نُطْقٍ بِتَحْرِيكِهِ لِبُكَاءٍ وَمَصِّ ثَدْيٍ وَنَحْوِهِمَا؛ لأِنَّهَا أَمَارَاتٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى سَلاَمَةِ اللِّسَانِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَحُكُومَةٌ؛ لأِنَّ سَلاَمَتَهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنَةٍ، وَالأْصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.

وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ج - دِيَةُ الذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ تَمَامِ الْحَشَفَةِ (رَأْسِ الذَّكَرِ) كَمَا تَجِبُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ مِنْ أَصْلِهِ؛ لأِنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِ الذَّكَرِ مِنْ لَذَّةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَأَحْكَامِ الْوَطْءِ، وَالإْيلاَدِ، وَاسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ وَنَحْوِهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالْحَشَفَةُ أَصْلٌ فِي مَنْفَعَةِ الإْيلاَجِ وَالدَّفْقِ، وَالْقَصَبَةُ كَالتَّابِعِ لَهَا.

وَإِذَا قُطِعَ بَعْضُ الْحَشَفَةِ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَيُقَاسُ مِنَ الْحَشَفَةِ لاَ مِنْ أَصْلِ الذَّكَرِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ بِقِسْطِهِ مِنْ كُلِّ الذَّكَرِ؛ لأِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِكَمَالِ الدِّيَةِ. قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَخْتَلَّ مَجْرَى الْبَوْلِ، فَإِنِ اخْتَلَّ وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْبَوْلُ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأْمْرَيْنِ مِنْ قِسْطِ الدِّيَةِ وَحُكُومَةِ فَسَادِ الْمَجْرَى. أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الْبَوْلُ وَفَسَدَ مَسْلَكُهُ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ عَلَى السَّوَاءِ، سَوَاءٌ أَقَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ أَمْ لَمْ يَقْدِرْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِعُمُومِ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  لأِهْلِ الْيَمَنِ «وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ» وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّغِيرِ: إِنْ عُلِمَتْ صِحَّتُهُ بِحَرَكَةٍ لِلْبَوْلِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

أَمَّا ذَكَرُ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ تَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَلأِنَّ ذَكَرَ الْخَصِيِّ سَلِيمٌ قَادِرٌ عَلَى الإْيلاَجِ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ الإْيلاَدُ، وَالْعُنَّةُ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الذَّكَرِ؛ لأِنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْقَلْبِ وَالْمَنِيَّ فِي الصُّلْبِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تَكْمُلُ دِيَتُهُمَا لأِنَّ مَنْفَعَتَهُ الإْنْزَالُ وَالإْحْبَالُ وَالْجِمَاعُ وَقَدْ عُدِمَ ذَلِكَ فِيهِمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهُمَا، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ فِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: لُزُومُ الدِّيَةِ، وَقِيلَ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْ بَعْضِ النِّسَاءِ فَفِيهِ الدِّيَةُ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ.

د - دِيَةُ الصُّلْبِ:

صُلْبُ الرَّجُلِ إِذَا انْكَسَرَ وَذَهَبَ مَشْيُهُ أَوْ جِمَاعُهُ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. وَكَذَلِكَ إِذَا انْكَسَرَ وَاحْدَوْدَبَ وَانْقَطَعَ الْمَاءُ، فَلَمْ يَنْجَبِرْ وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ جِمَاعُهُ وَلاَ مَشْيُهُ؛ لِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: «مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ»؛ وَلأِنَّهُ عُضْوٌ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُ، وَفِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، فَوَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَالأْنْفِ.

وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي كَسْرِ الصُّلْبِ وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ مَنَافِعُهُ مِنَ الْمَشْيِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْمَاءُ.

هـ - دِيَةُ إِتْلاَفِ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ:

تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِتْلاَفِ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ، وَفِي إِفْضَاءِ الْمَرْأَةِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ رَفْعُ مَا بَيْنَ مَدْخَلِ ذَكَرٍ وَدُبُرٍ، فَيَصِيرُ مَسْلَكُ جِمَاعِهَا وَغَائِطِهَا وَاحِدًا. وَقِيلَ: الإْفْضَاءُ رَفْعُ مَا بَيْنَ مَدْخَلِ ذَكَرٍ وَمَخْرَجِ بَوْلٍ، فَيَصِيرُ سَبِيلُ جِمَاعِهَا وَبَوْلِهَا وَاحِدًا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ بِهِ تَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لأِنَّهُ يَمْنَعُهَا مِنَ اللَّذَّةِ، وَلاَ تُمْسِكُ الْوَلَدَ وَلاَ الْبَوْلَ إِلَى الْخَلاَءِ؛ وَلأِنَّ مُصِيبَتَهَا أَعْظَمُ مِنَ الْمُصَابَةِ بِالشُّفْرَيْنِ، كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ فِي الإْفْضَاءِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي الإْفْضَاءِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَضَى فِيهِ بِذَلِكَ،

وَقَالُوا: إِنِ اسْتَطْلَقَ بَوْلُهَا مَعَ الإْفْضَاءِ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.

ثَانِيًا - الأْعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا اثْنَانِ:

الأْذُنَانِ:

- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ فِي اسْتِيصَالِ الأْذُنَيْنِ قَلْعًا أَوْ قَطْعًا كَمَالَ الدِّيَةِ، وَفِي قَلْعِ أَوْ قَطْعِ إِحْدَاهُمَا نِصْفَهَا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ وَالأْوْزَاعِيُّ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «فِي الأْذُنِ خَمْسُونَ مِنَ الإْبِلِ» وَلأِنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، وَفِي قَلْعِهِمَا أَوْ قَطْعِهِمَا تَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ،

وَسَوَاءٌ أَذْهَبَ السَّمْعَ أَمْ لَمْ يُذْهِبْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ سَمِيعًا أَمْ أَصَمَّ؛ لأِنَّ الصَّمَمَ نَقْصٌ فِي غَيْرِ الأْذُنِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي دِيَتِهِمَا.

وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ مُخَرَّجٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ فِي الأْذُنَيْنِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِلاَّ إِذَا ذَهَبَ السَّمْعُ فَفِيهِ دِيَةٌ اتِّفَاقًا. وَثَالِثُ الأْقْوَالِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ أَنَّ فِي الأْذُنَيْنِ حُكُومَةً مُطْلَقًا. قَالَ الْمَوَّاقُ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.

الْعَيْنَانِ:

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ فَقْءِ الْعَيْنَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ كَبِيرَةً أَمْ صَغِيرَةً، صَحِيحَةً أَمْ مَرِيضَةً، سَلِيمَةً أَمْ حَوْلاَءَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ.»

وَلأِنَّ فِي تَفْوِيتِ الاِثْنَيْنِ مِنْهُمَا تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، فَيَجِبُ فِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي تَفْوِيتِ أَحَدِهِمَا تَفْوِيتُ النِّصْفِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ.

هَذَا فِي الْعُيُونِ الْمُبْصِرَةِ، أَمَّا الْعَيْنُ الْعَوْرَاءُ فَلاَ دِيَةَ فِي قِلْعِهَا بَلْ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي قَلْعِ الْعَيْنِ السَّلِيمَةِ مِنَ الأْعْوَرِ.

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ فِي قَلْعِ عَيْنِ الأْعْوَرِ السَّلِيمَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَقَتَادَةُ وَإِسْحَاقُ؛ لأِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهم قَضَوْا فِي عَيْنِ الأْعْوَرِ بِالدِّيَةِ، وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا وَلأِنَّ قَلْعَ عَيْنِ الأْعْوَرِ يَتَضَمَّنُ إِذْهَابَ الْبَصَرِ كُلِّهِ، فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَهُ مِنَ الْعَيْنَيْنِ؛ لأِنَّ السَّلِيمَةَ الَّتِي عَطَّلَهَا بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْ غَيْرِهِ. 

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلُ مَسْرُوقٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ: إِذَا قَلَعَ عَيْنَ الأْعْوَرِ الأْخْرَى فَفِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم :  «وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإْبِلِ» .

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :  «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» يَقْتَضِي أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلِعَتْ عَيْنُ شَخْصٍ وَوَجَبَتْ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ ثُمَّ قُلِعَتِ الثَّانِيَةُ، فَقَالِعُ الثَّانِيَةِ قَالِعُ عَيْنِ أَعْوَرَ، فَلَوْ وَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لَوَجَبَ فِيهِمَا دِيَةٌ وَنِصْفُ دِيَةٍ.

الْيَدَانِ:

 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَوُجُوبِ نِصْفِهَا فِي قَطْعِ إِحْدَاهُمَا؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الإْبِلِ»؛ وَلأِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً ظَاهِرًا وَمَنْفَعَةً كَامِلَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِنْ جِنْسِهِمَا غَيْرُهُمَا، فَكَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْعَيْنَيْنِ.

وَيَجِبُ فِي قَطْعِ الْكَفِّ تَحْتَ الرُّسْغِ مَا يَجِبُ فِي الأْصَابِعِ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  قَالَ فِي الأْصَابِعِ: «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنَ الإْبِلِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا قُطِعَتِ الأْصَابِعُ وَحْدَهَا أَوْ قُطِعَتِ الْكَفُّ الَّتِي فِيهَا الأْصَابِعُ. وَهَذَا فِي الْيَدِ السَّلِيمَةِ، أَمَّا الْيَدُ الشَّلاَّءُ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ دِيَةَ فِي قَطْعِهَا بَلْ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ تَفُتِ الْمَنْفَعَةُ بِالْقَطْعِ، وَلاَ تَقْدِيرَ فِيهَا، فَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ ثُلُثَ دِيَتِهَا؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ إِذَا قُطِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا» وَحَدُّ الْيَدِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ مِنَ الرُّسْغِ أَوِ الْكُوعِ؛ لأِنَّ اسْمَ الْيَدِ عِنْدَ الإْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:  ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وَالْوَاجِبُ قَطْعُهُمَا مِنَ الْكُوعِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا قَطَعَ مَا فَوْقَ الْكُوعِ أَيْ: مِنْ بَعْضِ السَّاعِدِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْمَنْكِبِ: فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ قَطَعَهَا مَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ مِنَ الْمِرْفَقِ أَوِ الْمَنْكِبِ فَفِي الْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لِلْكَفِّ. وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ فَهُوَ تَبَعٌ لِلأْصَابِعِ إِلَى الْمَنْكِبِ، فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ مِثْلَ أَنْ يَقْطَعَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ أَوْ نِصْفِ السَّاعِدِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأِنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ إِلَى الْمَنْكِبِ بِدَلِيلِ قوله تعالي : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) وَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ مَسَحَ الصَّحَابَةُ إِلَى الْمَنَاكِبِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْيَدُ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَفِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يُسَمَّى يَدًا، فَإِذَا قَطَعَهَا مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ فَمَا قَطَعَ إِلاَّ يَدًا وَاحِدَةً، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ فِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ فَلاَ يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: فِي الْيَدَيْنِ سَوَاءٌ مِنَ الْمَنْكِبِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْكُوعِ دِيَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي الأْصَابِعِ، وَأَمَّا إِنْ قَطَعَ الأْصَابِعَ أَوْ مَعَ الْكَفِّ فَأُخِذَتِ الدِّيَةُ ثُمَّ حَصَلَتْ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا بَعْدَ إِزَالَةِ الأْصَابِعِ فَحُكُومَةٌ، سَوَاءٌ أَقْطَعَ الْيَدَ مِنَ الْكُوعِ، أَمِ الْمِرْفَقِ، أَمِ الْمَنْكِبِ.

وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ دِيَةِ الأْصَابِعِ فِي مَوْضِعِهَا.

الأْنْثَيَانِ:

- الأْنْثَيَانِ وَالْبَيْضَتَانِ فِي قَطْعِهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ» وَلأِنَّ فِيهِمَا الْجَمَالَ وَالْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَكُونُ بِهِمَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ، وَفِي الأْنْثَيَيْنِ الدِّيَةَ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ.

وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيُسْرَى وَالْيُمْنَى فَتَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الأْنْثَيَيْنِ وَالذَّكَرَ مَعًا تَجِبُ دِيَتَانِ. وَكَذَا لَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ ثُمَّ قَطَعَ الأْنْثَيَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . أَمَّا إِذَا قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ ثُمَّ قَطَعَ ذَكَرَهُ فَفِيهِ دِيَةٌ لِلأْنْثَيَيْنِ، وَحُكُومَةٌ لِلذَّكَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الذَّكَرِ قَبْلَ قَطْعِهِ، فَهُوَ ذَكَرُ خَصِيٍّ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دِيَتَانِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ قُطِعَتِ الأْنْثَيَانِ مَعَ الذَّكَرِ فَفِي ذَلِكَ دِيَتَانِ، وَإِنْ قُطِعَتَا قَبْلَ الذَّكَرِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ قُطِعَ الذَّكَرُ قَبْلَهُمَا أَوْ بَعْدَهُمَا فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لاَ ذَكَرَ لَهُ فَفِي أُنْثَيَيْهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لاَ أُنْثَيَيْنِ لَهُ فَفِي ذَكَرِهِ الدِّيَةُ.

اللَّحْيَانِ:

اللَّحْيَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ تَنْبُتُ عَلَيْهِمَا الأْسْنَانُ السُّفْلَى، وَمُلْتَقَاهُمَا الذَّقَنُ، وَقَدْ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ فِي اللَّحْيَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ كَالأُذُنَيْنِ.

وَعَلَّلُوا وُجُوبَ الدِّيَةِ فِيهِمَا بِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالاً وَمَنْفَعَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَسَائِرِ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ، وَإِنْ قَلَعَهُمَا بِمَا عَلَيْهِمَا مِنْ أَسْنَانٍ وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا وَدِيَةُ الأْسْنَانِ، وَلَمْ تَدْخُلْ دِيَةُ الأْسْنَانِ فِي دِيَتِهِمَا، بِخِلاَفِ دِيَةِ الأْصَابِعِ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْيَدِ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ اللَّحْيَيْنِ يُوجَدَانِ قَبْلَ وُجُودِ الأْسْنَانِ فِي الْخِلْقَةِ وَيَبْقَيَانِ بَعْدَ ذَهَابِهَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّحْيَيْنِ وَالأْسْنَانِ يَنْفَرِدُ بِاسْمِهِ، وَلاَ يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي اسْمِ الآْخَرِ، بِخِلاَفِ الأْصَابِعِ وَالْكَفِّ، فَإِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَشْمَلُهُمَا، وَأَنَّ الأْسْنَانَ مَغْرُوزَةٌ فِي اللَّحْيَيْنِ وَلاَ تُعْتَبَرُ جُزْءًا مِنْهُمَا بِخِلاَفِ الْكَفِّ مَعَ الأْصَابِعِ؛ لأِنَّهُمَا كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ.

وَاسْتَشْكَلَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِيجَابَ الدِّيَةِ فِي اللَّحْيَيْنِ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا خَبَرٌ، وَالْقِيَاسُ لاَ يَقْتَضِيهِ؛ لأِنَّهُمَا مِنَ الْعِظَامِ الدَّاخِلَةِ فَيُشْبِهَانِ التَّرْقُوَةَ وَالضِّلْعَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لاَ دِيَةَ فِي السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ، وَهِيَ عِظَامٌ فِيهَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ.

وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ اللَّحْيَيْنِ مِنَ الْوَجْهِ فَيَتَحَقَّقُ الشِّجَاجُ فِيهِمَا، فَيَجِبُ فِيهِمَا مُوجِبُهَا خِلاَفًا لِمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْوَجْهِ؛ لأِنَّ الْمُوَاجَهَةَ لاَ تَقَعُ بِهِمَا.

وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

الثَّدْيَانِ:

- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ فِي قَطْعِ ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي ثَدْيِ الْمَرْأَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ، وَلأِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً وَمَنْفَعَةً فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.

كَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ الثَّدْيَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ؛ لأِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْكَامِلَةَ وَجَمَالَ الثَّدْيِ بِهِمَا كَمَنْفَعَةِ الْيَدَيْنِ وَجَمَالِهِمَا بِالأْصَابِعِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي حَلَمَتَيْهِمَا إِذَا بَطَلَ اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ، وَإِلاَّ وَجَبَتْ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ الشَّيْنِ. قَالُوا: وَكَذَا تَلْزَمُ الدِّيَةُ كَامِلَةً إِنْ بَطَلَ اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الْحَلَمَتَيْنِ، فَالدِّيَةُ عِنْدَهُمْ لِفَسَادِ اللَّبَنِ لاَ لِقَطْعِ الْحَلَمَتَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ فِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ الْعَجُوزِ حُكُومَةً كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ.

وَهَذَا فِي ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَمَّا ثَدْيَا الرَّجُلِ فَفِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ) إِذْ لَيْسَ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، بَلْ مُجَرَّدُ جَمَالٍ،

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ.

الأْلْيَتَانِ:

- الأْلْيَتَانِ هُمَا مَا عَلاَ وَأَشْرَفَ مِنْ أَسْفَلِ الظَّهْرِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْفَخِذَيْنِ، وَفِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ إِذَا أُخِذَتَا إِلَى الْعَظْمِ الَّذِي تَحْتَهُمَا، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْجَمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الرُّكُوبِ وَالْقُعُودِ. وَهَذَا إِذَا أُخِذَتَا إِلَى الْعَظْمِ وَاسْتُؤْصِلَ لَحْمُهُمَا حَتَّى لاَ يَبْقَى عَلَى الْوَرِكِ لَحْمٌ. أَمَّا بَعْضُ اللَّحْمِ فَإِذَا عُرِفَ قَدْرُهُ فَبِقِسْطِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَالْحُكُومَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِي أَلْيَتَيِ الرَّجُلِ حُكُومَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي أَلْيَتَيِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ أَشْهَبُ: فِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لأِنَّهُمَا أَعْظَمُ عَلَيْهَا مِنْ ثَدْيَيْهَا.

الرِّجْلاَنِ:

- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ الرِّجْلَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَأَنَّ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ وَحَدُّ الْقَطْعِ هُنَا هُوَ مَفْصِلِ الْكَعْبَيْنِ.

وَالْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا قُطِعَ أَكْثَرُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ إِلَى أَصْلِ الْفَخِذِ مِنَ الْوَرِكِ أَوِ الرُّكْبَةِ، كَالْخِلاَفِ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ فَوْقَ الْكُوعَيْنِ فِي وُجُوبِ حُكُومَةِ عَدْلٍ مَعَ الدِّيَةِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (ر: ف 43)، وَرِجْلُ الأْعْرَجِ كَرِجْلِ الصَّحِيحِ، كَمَا أَنَّ يَدَ الأْعْسَمِ كَيَدِ الصَّحِيحِ.

الشَّفَتَانِ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الشَّفَتَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ» وَلأِنَّهُمَا عُضْوَانِ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا، فِيهِمَا جَمَالٌ ظَاهِرٌ وَمَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَإِنَّهُمَا طَبَقٌ عَلَى الْفَمِ تَقِيَانِ مَا يُؤْذِيهِ، وَيَسْتُرَانِ الأْسْنَانَ، وَيَرُدَّانِ الرِّيقَ، وَيُنْفَخُ بِهِمَا، وَيَتِمُّ بِهِمَا الْكَلاَمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَتَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ  رضي الله عنهما. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، يَجِبُ فِي الشَّفَةِ الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي السُّفْلَى الثُّلُثَانِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيُّ؛ لأِنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعْظَمُ؛ لأِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَدُورُ وَتَتَحَرَّكُ، وَتَحْفَظُ الرِّيقَ، وَالطَّعَامَ، وَالْعُلْيَا سَاكِنَةٌ.

الْحَاجِبَانِ وَاللِّحْيَةُ وَقَرَعُ الرَّأْسِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي إِتْلاَفِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ إِذَا لَمْ يَنْبُتَا الدِّيَةَ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي شَعْرِ اللِّحْيَةِ إِذَا لَمْ يَنْبُتِ الدِّيَةُ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهما؛ لأِنَّ فِيهِ إِذْهَابَ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، وَفِيهِ إِذْهَابَ مَنْفَعَةٍ، فَإِنَّ الْحَاجِبَ يَرُدُّ الْعَرَقَ عَنِ الْعَيْنِ وَيُفَرِّقُهُ، وَهُدْبُ الْعَيْنِ يَرُدُّ عَنْهَا وَيَصُونُهَا.

وَأَمَّا اللِّحْيَةُ فَلأِنَّ فِيهَا جَمَالاً كَامِلاً؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:  «إِنَّ مَلاَئِكَةَ سَمَاءِ الدُّنْيَا تَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ.»

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا حُلِقَ فَلَمْ يَنْبُتْ دِيَةً كَامِلَةً. وَنَقَلَ الْمُوصِلِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي اللِّحْيَةِ إِذَا كَانَتْ كَامِلَةً يَتَجَمَّلُ بِهَا. أَمَّا إِذَا كَانَتْ طَاقَاتٍ مُتَفَرِّقَةً لاَ يَتَجَمَّلُ بِهَا فَلاَ شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ وَلاَ يَتَجَمَّلُ بِهَا وَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا مِمَّا تَشِينُهَا فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ إِلاَّ بِذَهَابِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُرْجَى عَوْدُهُ مِثْلَ أَنْ يَقْلِبَ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً حَارًّا فَيَتْلَفَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ، فَيَنْقَلِعَ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لاَ يَعُودُ، وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ إِلَى مُدَّةٍ انْتُظِرَ إِلَيْهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجِبُ فِي إِتْلاَفِ الشُّعُورِ غَيْرُ الْحُكُومَةِ؛ لأِنَّهُ إِتْلاَفُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ الْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ غَيْرُ الْحُكُومَةِ، كَإِتْلاَفِ الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ وَالْيَدِ الشَّلاَّءِ.

الشُّفْرَانِ:

- الشُّفْرَانِ بِالضَّمِّ هُمَا اللَّحْمَانِ الْمُحِيطَانِ بِفَرْجِ الْمَرْأَةِ الْمُغَطِّيَانِ لَهُ، وَفِي قَطْعِهِمَا أَوْ إِتْلاَفِهِمَا إِنْ بَدَا الْعَظْمُ مِنْ فَرْجِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَفِي إِتْلاَفِ أَوْ قَطْعِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَضَى فِي شُفْرَيِ الْمَرْأَةِ بِالدِّيَةِ. وَلأِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً وَمَنْفَعَةً مَقْصُودَةً، إِذْ بِهِمَا يَقَعُ الاِلْتِذَاذُ بِالْجِمَاعِ. وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنِ الرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَلاَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَالْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَلَمْ نَجِدْ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

الأْعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ:

أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ وَأَهْدَابُهُمَا:

- الأْشْفَارُ هِيَ حُرُوفُ الْعَيْنِ الَّتِي يَنْبُتُ عَلَيْهَا الشَّعْرُ، وَالشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَيْهَا هُوَ الْهُدْبُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ قَلْعِ أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ الأْرْبَعَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي أَحَدِهَا رُبْعَ الدِّيَةِ، وَهَذَا إِذَا أُتْلِفَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لاَ يُرْجَى عَوْدُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْجَمَالُ عَلَى الْكَمَالِ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ دَفْعُ الأْذَى وَالْقَذَى عَنِ الْعَيْنِ، وَتَفْوِيتُ ذَلِكَ يُنْقصُ الْبَصَرَ، وَيُورِثُ الْعَمَى، فَإِذَا وَجَبَ فِي الْكُلِّ الدِّيَةُ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَجَبَ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَفِي الاِثْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّلاَثَةِ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ.

وَلَوْ قَطَعَ أَوْ قَلَعَ الْجُفُونَ مَعَ الأْهْدَابِ وَالأْشْفَارِ تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأِنَّ الأْشْفَارَ مَعَ الْجُفُونِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْمَارِنِ مَعَ الْقَصَبَةِ.

وَلَوْ قَلَعَ أَوْ قَطَعَ الأْهْدَابَ وَحْدَهَا دُونَ الأْشْفَارِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَجِبُ فِيهَا دِيَةُ مِثْلِ قَطْعِ الأْشْفَارِ؛ لأِنَّ فِيهَا جَمَالاً وَنَفْعًا، فَإِنَّهَا تَقِي الْعَيْنَيْنِ وَتَرُدُّ عَنْهُمَا، وَتُجَمِّلُهُمَا تُحَسِّنُهُمَا، فَوَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ كَمَا تَجِبُ فِي حَلَمَتَيِ الثَّدْيِ وَالأْصَابِعِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فِي قَطْعِ الأْهْدَابِ وَحْدَهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ كَسَائِرِ الشُّعُورِ؛ لأِنَّ الْفَائِتَ بِقَطْعِهَا الزِّينَةُ وَالْجَمَالُ دُونَ الْمَقَاصِدِ الأْصْلِيَّةِ وَهَذَا إِذَا فَسَدَ مَنْبَتُهَا، وَإِلاَّ فَالتَّعْزِيرُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ دِيَةَ فِي قَلْعِ أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ، وَلاَ فِي أَهْدَابِهِمَا، بَلْ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ مُطْلَقًا، قَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَ فِي أَشْفَارِ الْعَيْنِ وَجُفُونِهَا إِلاَّ الاِجْتِهَادُ. أَيْ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ عَشَرَةٌ:

أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ قَلْعِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ الْعَشَرَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَفِي قَطْعِ كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ أَيْ عَشَرَةٌ مِنَ الإْبِلِ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الإْبِلِ». وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ مِنَ الإْبِلِ لِكُلِّ أُصْبُعٍ» وَلأِنَّ فِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ أَوِ الْمَشْيِ، فَتَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَأَصَابِعُ كُلٍّ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ، فَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَدِيَةُ كُلِّ أُصْبُعٍ مَقْسُومَةٌ عَلَى أَنَامِلِهَا (سُلاَمِيَّاتِهَا)، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ ثَلاَثُ أَنَامِلَ إِلاَّ الإْبْهَامَ فَإِنَّهَا أُنْمُلَتَانِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنَ الأْصَابِعِ غَيْرِ الإْبْهَامِ ثُلُثُ دِيَةِ الأْصْبُعِ وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ، وَفِي الإْبْهَامِ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، وَالأْصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لإِطْلاَقِ الْحَدِيثِ.

أَمَّا الأْصْبُعُ الزَّائِدَةُ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ)؛ لِعَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ فِيهَا، وَالتَّقْدِيرُ لاَ يُصَارُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّوْقِيفِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِي إِتْلاَفِ الأْصْبُعِ الزَّائِدَةِ فِي يَدٍ أَوْ رِجْلٍ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً عَلَى التَّصَرُّفِ قُوَّةَ الأْصَابِعِ الأْصْلِيَّةِ عُشْرُ الدِّيَةِ إِنْ أُفْرِدَتْ بِالإْتْلاَفِ، وَإِنْ قُطِعَتْ مَعَ الأْصَابِعِ الأْصْلِيَّةِ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا.

وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَةِ الأْصْبُعِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى رِوَايَةِ إِيجَابِ الثُّلُثِ فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ.

مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ: دِيَةُ الأْسْنَانِ:

- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ أَوْ خَمْسُونَ دِينَارًا؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ». وَالأْسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لإِطْلاَقِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: «وَالأْسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ» وَلأِنَّ الْكُلَّ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ فِيهِ، كَالأْيْدِي وَالأْصَابِعِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ فَفِي الآْخَرِ زِيَادَةُ جَمَالٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ تَزِيدُ دِيَةُ الأَسْنَانِ كُلِّهَا عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ بِثَلاَثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأِنَّ الإْنْسَانَ لَهُ اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ سِنًّا، فَإِذَا وَجَبَ فِي الْوَاحِدَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ يَجِبُ فِي الْكُلِّ مِائَةٌ وَسِتُّونَ مِنَ الإْبِلِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَزِيدُ عَلَى دِيَةٍ إِنْ اتَّحَدَ الْجَانِي وَاتَّحَدَتِ الْجِنَايَةُ، كَأَنْ أَسْقَطَهَا بِشُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ بِضَرْبٍ أَوْ ضَرَبَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ انْدِمَالٍ؛ لأِنَّ الأْسْنَانَ جِنْسٌ مُتَعَدِّدٌ فَأَشْبَهَ الأْصَابِعَ، فَإِنْ تَخَلَّلَ الاِنْدِمَالُ بَيْنَ كُلِّ سِنٍّ وَأُخْرَى أَوْ تَعَدَّدَ الْجَانِي فَإِنَّهَا تَزِيدُ قَطْعًا. وَهَذَا فِي قَلْعِ الأْسْنَانِ الأْصْلِيَّةِ الْمَثْغُورَةِ (الدَّائِمَةِ). وَلَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ فَتَحَرَّكَتْ أَوْ تَغَيَّرَتْ إِلَى السَّوَادِ أَوِ الْحُمْرَةِ أَوِ الْخُضْرَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَفِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ وَتَحَرَّكَتْ يَنْتَظِرُ مُضِيَّ حَوْلٍ؛ لأِنَّهُ مُدَّةٌ يَظْهَرُ فِيهَا حَقِيقَةُ حَالِهَا مِنَ السُّقُوطِ وَالتَّغَيُّرِ وَالثُّبُوتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَضْرُوبُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ إِلَى السَّوَادِ أَوْ إِلَى الْحُمْرَةِ أَوْ إِلَى الْخُضْرَةِ فَفِيهَا الأْرْشُ تَامًّا؛ لأِنَّهُ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، وَذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ كَذَهَابِ الْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إِلَى الصُّفْرَةِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الأْسْنَانِ بِقَلْعٍ أَوِ اسْوِدَادٍ أَوْ بِهِمَا، أَوْ بِحُمْرَةٍ بَعْدَ بَيَاضٍ، أَوْ بِصُفْرَةٍ إِنْ كَانَا عُرِفَا كَالسَّوَادِ فِي إِذْهَابِ الْجَمَالِ، وَإِلاَّ فَعَلَى حِسَابِ مَا نَقَصَ، كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِاضْطِرَابِهَا جِدًّا بِحَيْثُ لاَ يُرْجَى ثُبُوتُهَا، وَفِي الاِضْطِرَابِ الْخَفِيفِ الأْرْشُ بِقَدْرِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَكْمُلُ دِيَةُ السِّنِّ بِقَلْعِ كُلِّ سِنٍّ أَصْلِيَّةٍ تَامَّةٍ مَثْغُورَةٍ غَيْرِ مُتَقَلْقِلَةٍ.

فَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي السِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ، وَلَوْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَاتَّخَذَ سِنًّا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ عَظْمٍ طَاهِرٍ فَلاَ دِيَةَ فِي قَلْعِهَا، وَإِنْ قُلِعَتْ قَبْلَ الاِلْتِحَامِ لَمْ تَجِبِ الْحُكُومَةُ لَكِنْ يُعَزَّرُ الْقَالِعُ، وَإِنْ قُلِعَتْ بَعْدَ تَشَبُّثِ اللَّحْمِ بِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا لِلْمَضْغِ وَالْقَطْعِ فَلاَ حُكُومَةَ أَيْضًا عَلَى الأَظْهَرِ، وَتَكْمُلُ دِيَةُ السِّنِّ بِكَسْرِ مَا ظَهَرَ  مِنْهَا وَإِنْ بَقِيَ السِّنْخُ بِحَالِهِ. وَلَوْ قَلَعَ السِّنَّ مِنَ السِّنْخِ وَجَبَ أَرْشُ السِّنِّ فَقَطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ قَلَعَ سِنَّ صَغِيرٍ لَمْ يُثْغِرْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا، فَإِنْ عَادَتْ فَلاَ دِيَةَ وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ شَيْنٌ. وَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْعَوْدُ وَلَمْ تَعُدْ وَفَسَدَ الْمَنْبَتُ تَجِبُ الدِّيَةُ. وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا وَكَانَتْ مُتَقَلْقِلَةً (مُتَحَرِّكَةً) فَإِنْ كَانَ بِهَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ بِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَبَطَلَتْ مَنْفَعَتُهَا فَفِيهَا الْحُكُومَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً حَرَكَةً يَسِيرَةً لاَ تُنْقِصُ الْمَنَافِعَ فَلاَ أَثَرَ لَهَا وَتَجِبُ الدِّيَةُ.

وَلَوْ تَزَلْزَلَتْ سِنٌّ صَحِيحَةٌ بِجِنَايَةٍ ثُمَّ سَقَطَتْ بَعْدَهَا لَزِمَ الأْرْشُ، وَإِنْ ثَبَتَتْ وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي كُلِّ سِنٍّ مِمَّنْ قَدْ أَثْغَرَ خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ سَوَاءٌ أُقْلِعَتْ بِسَخَنِهَا أَوْ قَطَعَ الظَّاهِرَ مِنْهَا فَقَطْ، وَسَوَاءٌ أَقَلَعَهَا فِي دَفْعَةٍ أَوْ دَفَعَاتٍ، وَإِنْ قَلَعَ مِنْهَا السِّنْخَ فَقَطْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَلاَ يَجِبُ بِقَلْعِ سِنِّ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُثْغِرْ شَيْءٌ فِي الْحَالِ، لَكِنْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا، فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْيَأْسُ مِنْ عَوْدِهَا وَجَبَتْ دِيَتُهَا، وَإِنْ عَادَتْ فَصِيرَةً أَوْ شَوْهَاءَ أَوْ أَطْوَلَ مِنْ أَخَوَاتِهَا أَوْ صَفْرَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ، أَوْ خَضْرَاءَ فَحُكُومَةٌ؛ لأِنَّهَا لَمْ تَذْهَبْ بِمَنْفَعَتِهَا فَلَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا، وَوَجَبَتِ الْحُكُومَةُ لِنَقْصِهَا، وَإِنْ جَعَلَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَكَانَ السِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ سِنًّا أُخْرَى فَثَبَتَتْ لَمْ يُسْقِطْ دِيَةَ الْمَقْلُوعَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجْعَلْ مَكَانَهَا شَيْئًا. ثُمَّ إِنْ قُلِعَتِ السِّنُّ الْمَجْعُولَةُ فَفِيهَا حُكُومَةٌ لِلنَّقْصِ، وَإِنْ قَلَعَ سِنَّهُ فَرَدَّهُ فَالْتَحَمَ فَلَهُ أَرْشُ نَقْصِهِ فَقَطْ وَهُوَ حُكُومَةٌ، ثُمَّ إِنْ أَبَانَهَا أَجْنَبِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَتْ دِيَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَتَقَدَّمْ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا.

دِيَةُ الْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ:

الأْصْلُ فِي دِيَةِ الْمَعَانِي - فَضْلاً عَمَّا وَرَدَ فِي بَعْضِهَا مِنْ نُصُوصٍ - أَنَّهُ إِذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ، أَوْ أَزَالَ جَمَالاً مَقْصُودًا فِي الآْدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ؛ لأِنَّ فِيهِ إِتْلاَفَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، إِذِ النَّفْسُ لاَ تَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِتْلاَفُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالإْتْلاَفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الآْدَمِيِّ تَعْظِيمًا لَهُ.

وَهَذَا الأَصْلُ كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الأْعْضَاءِ مُطَبَّقٌ كَذَلِكَ فِي إِذْهَابِ الْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ مِنَ الأْعْضَاءِ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي الظَّاهِرِ. وَمِمَّا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مِنَ الْمَعَانِي الْعَقْلُ وَالنُّطْقُ وَقُوَّةُ الْجِمَاعِ وَالإْمْنَاءُ فِي الذَّكَرِ وَالْحَبَلُ فِي الْمَرْأَةِ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ.

وَهَذَا إِذَا أُتْلِفَتِ الْمَعَانِي دُونَ إِتْلاَفِ الأْعْضَاءِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا. فَإِنْ تَلِفَ الْعُضْوُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعًا فَفِي ذَلِكَ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ أَتْلَفَهُمَا بِجِنَايَتَيْنِ مُنْفَرِدَتَيْنِ تَخَلَّلَهُمَا الْبُرْءُ فَدِيَةُ كُلِّ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ بِحَسَبِ الْحَالَةِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - الْعَقْلُ:

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي إِذْهَابِ الْعَقْلِ؛ لأِنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَعَانِي قَدْرًا وَأَعْظَمِهَا نَفْعًا، فَإِنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الإْنْسَانُ وَيَعْرِفُ حَقَائِقَ الأْشْيَاءِ، وَيَهْتَدِي إِلَى مَصَالِحِهِ، وَيَتَّقِي مَا يَضُرُّهُ، وَيَدْخُلُ فِي التَّكْلِيفِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ.»

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ أَذْهَبَ عَقْلَهُ تَمَامًا بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَإِنْ نَقَصَ عَقْلُهُ نَقْصًا مَعْلُومًا بِالزَّمَانِ وَغَيْرِهِ، مِثْلَ إِنْ صَارَ يَجِنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا فَعَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِثْلَ أَنْ صَارَ مَدْهُوشًا، أَوْ يَفْزَعُ مِمَّا لاَ يُفْزَعُ مِنْهُ وَيَسْتَوْحِشُ إِذَا خَلاَ، فَهَذَا لاَ يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ، فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ.

وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَتَقْدِيرُ الْجِنَايَةِ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ الْقَاضِي مُسْتَعِينًا بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ.

ب - قُوَّةُ النُّطْقِ:

- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ فِي إِذْهَابِ قُوَّةِ النُّطْقِ دِيَةً فَإِذَا فَعَلَ بِلِسَانِهِ مَا يُعْجِزُهُ عَنِ النُّطْقِ بِالْكَمَالِ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَإِنْ عَجَزَ عَجْزًا جُزْئِيًّا بِأَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى نُطْقِ بَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضِهَا فَالدِّيَةُ تُقْسَمُ بِحِسَابِ الْحُرُوفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَسَمَ الدِّيَةَ عَلَى الْحُرُوفِ، فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُرُوفِ أُسْقِطَ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَلْزَمَهُ بِحِسَابِهِ مِنْهَا.

وَقِيلَ: تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ حُرُوفِ الْحَلْقِ السِّتَّةِ وَالْحُرُوفِ الشَّفَوِيَّةِ الْخَمْسَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي دِيَةِ اللِّسَانِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يُقَدَّرُ نَقْصُ النُّطْقِ بِالْكَلاَمِ اجْتِهَادًا مِنَ الْعَارِفِينَ، لاَ بِقَدْرِ الْحُرُوفِ، لاِخْتِلاَفِهَا بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ. 

وَتَجِبُ هَذِهِ الدِّيَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النُّطْقِ، وَإِنْ كَانَ اللِّسَانُ بَاقِيًا.

ج - قُوَّةُ الذَّوْقِ:

- الذَّوْقُ قُوَّةٌ مُثَبَّتَةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى جُرْمِ اللِّسَانِ، تُدْرَكُ بِهِ الطُّعُومُ لِمُخَالَطَةِ الرُّطُوبَةِ اللُّعَابِيَّةِ الَّتِي فِي الْفَمِ، وَوُصُولِهَا إِلَى الْعَصَبِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي إِتْلاَفِ حَاسَّةِ الذَّوْقِ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ كَلاَمَهُ وَذَوْقَهُ مَعًا فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ؛ لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الإْنْسَانِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: يَبْطُلُ الذَّوْقُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى اللِّسَانِ أَوِ الرَّقَبَةِ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَالْمُدْرَكُ بِالذَّوْقِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: الْحَلاَوَةُ وَالْحُمُوضَةُ وَالْمَرَارَةُ وَالْمُلُوحَةُ وَالْعُذُوبَةُ. وَالدِّيَةُ تَتَوَزَّعُ عَلَيْهَا.

فَإِذَا أَبْطَلَ إِدْرَاكَ وَاحِدَةٍ وَجَبَ خُمُسُ الدِّيَةِ، وَإِذَا أَبْطَلَ إِدْرَاكَ اثْنَتَيْنِ وَجَبَ خُمُسَا الدِّيَةِ وَهَكَذَا. وَلَوْ نَقَصَ الإْحْسَاسَ فَلَمْ يُدْرِكِ الطُّعُومَ عَلَى كَمَالِهَا فَالْوَاجِبُ الْحُكُومَةُ.

د - السَّمْعُ وَالْبَصَرُ:

- تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِذْهَابِ قُوَّةِ السَّمْعِ أَوْ قُوَّةِ الْبَصَرِ إِذَا ذَهَبَتِ الْمَنْفَعَةُ بِتَمَامِهَا، عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. وَلَوْ أَذْهَبَ الْبَصَرَ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوِ السَّمْعَ مِنْ إِحْدَى الأْذُنَيْنِ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. أَمَّا لَوْ أَذْهَبَ بَعْضَ الْبَصَرِ أَوْ بَعْضَ السَّمْعِ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوِ الأْذُنَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ بِحِسَابِ مَا ذَهَبَ إِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي نُقْصَانِ السَّمْعِ أَوِ الْبَصَرِ حُكُومَةٌ مُطْلَقًا.

وَلَوْ أَزَالَ أُذُنَيْهِ وَسَمْعَهُ تَجِبُ دِيَتَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأِنَّ مَحَلَّ السَّمْعِ غَيْرُ مَحَلِّ الْقَطْعِ، فَالسَّمْعُ قُوَّةٌ أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ فِي الصِّمَاخِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَ بَصَرَهُ فَتَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأِنَّ الْبَصَرَ يَكُونُ بِهِمَا.

هـ - قُوَّةُ الشَّمِّ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِتْلاَفِ الشَّمِّ كَامِلاً؛ لأِنَّهُ حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةٍ، فَكَانَتْ فِيهِ الدِّيَةُ كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْمَشَامِّ الدِّيَةُ».

وَإِنْ نَقَصَ الشَّمُّ بِأَنْ عَلِمَ قَدْرَ الذَّاهِبِ وَجَبَ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَجَبَتْ حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِالاِجْتِهَادِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الشَّمِّ بَلْ فِيهِ حُكُومَةٌ.

و - اللَّمْسُ:

اللَّمْسُ قُوَّةٌ مُثْبَتَةٌ عَلَى سَطْحِ الْبَدَنِ تُدْرَكُ بِهِ الْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَالنُّعُومَةُ وَالْخُشُونَةُ وَنَحْوُهَا عِنْدَ الْمُمَاسَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ فِي إِذْهَابِ هَذِهِ الْقُوَّةِ دِيَةً كَامِلَةً قِيَاسًا عَلَى الشَّمِّ. وَلَمْ نَجِدْ لِبَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ كَلاَمًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

ز - قُوَّةُ الْجِمَاعِ وَالإْمْنَاءِ:

صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى قُوَّةِ الْجِمَاعِ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ كَامِلاً بِإِفْسَادِ إِنْعَاظِهِ، وَلَوْ مَعَ بَقَاءِ الْمَنِيِّ وَسَلاَمَةِ الصُّلْبِ وَالذَّكَرِ، أَوِ انْقَطَعَ مَاؤُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالضَّرْبِ عَلَى الصُّلْبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأِنَّ الْجِمَاعَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ جَمَّةٌ، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ بِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ يَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ مِنَ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ.

وَلاَ تَنْدَرِجُ فِي إِتْلاَفِ الْجِمَاعِ أَوِ الإْمْنَاءِ دِيَةُ الصُّلْبِ وَإِنْ كَانَتْ قُوَّةُ الْجِمَاعِ فِيهِ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ. فَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَأَبْطَلَهُ وَأَبْطَلَ جِمَاعَهُ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِتْلاَفَ قُوَّةِ حَبَلِ الْمَرْأَةِ فَيَكْمُلُ فِيهِ دِيَتُهَا لاِنْقِطَاعِ النَّسْلِ.

تَدَاخُلُ الدِّيَاتِ وَتَعَدُّدُهَا:

الأَصْلُ أَنَّ الدِّيَةَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ وَإِتْلاَفِ الأْعْضَاءِ أَوِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ إِذَا لَمْ تُفِضْ إِلَى الْمَوْتِ. فَإِنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ مَعًا وَلَمْ يَمُتِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ تَجِبُ دِيَتَانِ.

وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَعَقْلَهُ وَجَبَ ثَلاَثُ دِيَاتٍ، وَهَكَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي رَجُلٍ رَمَى آخَرَ بِحَجَرٍ فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَبَصَرُهُ وَسَمْعُهُ وَكَلاَمُهُ فَقَضَى فِيهِ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ وَهُوَ حَيٌّ؛ لأِنَّهُ أَذْهَبَ مَنَافِعَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دِيَةٌ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ دِيَاتُهَا كَمَا لَوْ أَذْهَبَهَا بِجِنَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.

أَمَّا إِذَا أَفَضَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى الْمَوْتِ فَتَتَدَاخَلُ دِيَاتُ الأْطْرَافِ وَالْمَعَانِي فِي دِيَةِ النَّفْسِ فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ.

- وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الأْصْلِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا الْبُرْءُ وَالاِنْدِمَالُ وَكَانَتْ مِنْ جَانٍ وَاحِدٍ تَتَدَاخَلُ مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ.

فَإِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً قَبْلَ الْبُرْءِ لاَ يَجِبُ عَلَى الْجَانِي إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَطَعَ سَائِرَ أَعْضَائِهِ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً، أَوْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى الأْطْرَافِ إِلَى النَّفْسِ فَمَاتَ مِنْهَا.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَتَدَاخَلُ الأْعْضَاءُ فِي مَنَافِعِهَا، وَالْمَنَافِعُ فِي الأْعْضَاءِ إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِ الْمَحَلِّ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً أَمْ بِدَفَعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا الْبُرْءُ. فَإِذَا قَطَعَ أَنْفَهُ وَأَذْهَبَ شَمَّهُ لاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا أَذْهَبَ بَصَرَهُ ثُمَّ فَقَأَ عَيْنَيْهِ لاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَكَذَا. وَسَوَاءٌ أَحَصَلَتِ الْجِنَايَتَانِ مَعًا أَمْ بِالتَّرَاخِي بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ.

وَهَذَا إِذَا اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالأْطْرَافِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي الأْطْرَافِ بِالْقَطْعِ وَإِتْلاَفِ الْمَعَانِي فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَى الْجِنَايَتَيْنِ انْدِمَالٌ.

وَإِذَا طَرَأَ الْبُرْءُ وَالاِنْدِمَالُ بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى الأْطْرَافِ، أَوْ عَلَى طَرَفٍ وَمَعْنًى مِنْ نَفْسِ الطَّرَفِ تَتَعَدَّدُ الدِّيَاتُ. فَإِذَا قَطَعَ أَنْفَهُ وَانْدَمَلَ ثُمَّ أَتْلَفَ شَمَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَتَانِ. وَإِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَلَمْ يَسْرِ إِلَى النَّفْسِ وَانْدَمَلَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَتَانِ، وَهَكَذَا.

أَمَّا إِنِ اخْتَلَفَتِ الْجِنَايَةُ صِفَةً، بِأَنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَمْدًا وَالأْخْرَى خَطَأً، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَحَلُّ الْجِنَايَتَيْنِ وَاحِدًا، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى طَرَفٍ أَوْ مَعْنًى لَكِنَّهَا سَرَتْ إِلَى طَرَفٍ أَوْ مَعْنًى آخَرَ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَفُرُوعٍ أُخْرَى مِنْ نَوْعِهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، بَيَانُ ضَوَابِطِهِ فِيمَا يَلِي:

- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً فَبَرِئَتْ يَدُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا فَبَرَأَتْ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالأْمْرَيْنِ جَمِيعًا.

جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَفَتْحِ الْقَدِيرِ: الأْصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجِرَاحَاتِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ تَتْمِيمًا لِلأْوَّلِ لأِنَّ الْقَتْلَ فِي الأْعَمِّ يَقَعُ بِضَرَبَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ وَفِي اعْتِبَارِ كُلِّ ضَرْبَةٍ بِنَفْسِهَا بَعْضُ الْحَرَجِ إِلاَّ أَنْ لاَ يُمْكِنَ الْجَمْعُ فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الأْوَّلَيْنِ لاِخْتِلاَفِ حُكْمِ الْفِعْلَيْنِ وَفِي الآْخَرَيْنِ لِتَخَلُّلِ الْبُرْءِ، وَهُوَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ وَقَدْ تَجَانَسَا بِأَنْ كَانَا خَطَأَيْنِ يَجْمَعُ بِالإْجْمَاعِ لإِمْكَانِ الْجَمْعِ وَاكْتُفِيَ بِدِيَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَقَالَ الْمُوصِلِيُّ الْحَنَفِيُّ: مَنْ شَجَّ رَجُلاً فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ دَخَلَ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ؛ لأِنَّ الْعَقْلَ إِذَا فَاتَ فَاتَتْ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الأْعْضَاءِ فَصَارَ كَمَا إِذَا شَجَّهُ فَمَاتَ، وَأَمَّا الشَّعْرُ فَلأِنَّ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ لِفَوَاتِ بَعْضِ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ نَبَتَ سَقَطَ الأْرْشُ، وَالدِّيَةُ تَجِبُ بِفَوَاتِ جَمِيعِ الشَّعْرِ، وَقَدْ تَعَلَّقَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ فَيَدْخُلُ الْجُزْءُ فِي الْكُلِّ كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَهُ فَشُلَّتْ يَدُهُ .

وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلاَمُهُ لَمْ تَدْخُلْ، وَيَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مَعَ ذَلِكَ، لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَضَى فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ؛ وَلأِنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الأْعْضَاءِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ لاَ تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الأْعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ، بِخِلاَفِ الْعَقْلِ فَإِنَّ مَنْفَعَتَهُ تَتَعَدَّى إِلَى جَمِيعِ الأْعْضَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ تَدْخُلُ فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْكَلاَمِ دُونَ الْبَصَرِ؛ لأِنَّ السَّمْعَ وَالْكَلاَمَ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَاعْتَبَرَهُ بِالْعَقْلِ، أَمَّا الْبَصَرُ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ فَلاَ يُلْتَحِقُ بِهِ.

وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: الْجِنَايَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ فَأَتْلَفَتْ شَيْئَيْنِ، وَأَرْشُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ، دَخَلَ الأْقَلُّ فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوَيْنِ لاَ يَدْخُلُ، وَيَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْشُهُ سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ لِلأْوَّلِ الْقِصَاصُ إِنْ كَانَ عَمْدًا وَأَمْكَنَ الاِسْتِيفَاءُ، وَإِلاَّ فَكَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ زُفَرُ لاَ يَدْخُلُ أَرْشُ الأْعْضَاءِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ؛ لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلاَ يَتَدَاخَلاَنِ كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ.

- يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: تَتَعَدَّدُ الدِّيَةُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ إِلاَّ الْمَنْفَعَةَ بِمَحَلِّهَا، فَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَلَ قِيَامُهُ وَقُوَّةُ ذَكَرِهِ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ أَمْرُ النِّسَاءِ لَمْ يَنْدَرِجْ، وَوَجَبَتْ دِيَتَانِ، كَمَا أَنَّ مَنْ شَجَّ رَجُلاً مُوضِحَةً فَذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتَانِ بِجَانِبِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ.

أَمَّا إِذَا ذَهَبَتِ الْمَنْفَعَةُ بِمَحَلِّهَا فَتَنْدَرِجُ الْجِنَايَتَانِ، فَتَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَمَحَلِّهَا مَعًا.

وَكَذَا إِذَا جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَأَذْهَبَ ذَوْقَهُ وَنُطْقَهُ أَوْ فَعَلَ بِهِ مَا مَنَعَ بِهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا، أَوْ هُمَا مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ إِذَا ذَهَبَ كُلُّهُ بِضَرْبَةٍ أَوْ بِضَرَبَاتٍ فِي فَوْرٍ. وَأَمَّا بِضَرَبَاتٍ بِغَيْرِ فَوْرٍ فَتَتَعَدَّدُ بِمَحَلِّهَا الَّذِي لاَ تُوجَدُ إِلاَّ بِهِ. فَإِنْ وُجِدَتْ بِغَيْرِهِ وَبِهِ وَلَوْ أَكْثَرَهَا، كَأَنْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَأَقْعَدَهُ وَذَهَبَتْ قُوَّةُ الْجِمَاعِ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ لِمَنْعِ قِيَامِهِ، وَدِيَةٌ لِعَدَمِ قُوَّةِ الْجِمَاعِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا فِي الصُّلْبِ.

وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الأْذُنِ وَالأْنْفِ، فَقَدْ نَقَلَ أَكْثَرُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ فِي الشَّمِّ دِيَةً وَيَنْدَرِجُ فِي الأْنْفِ كَالْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ مَعَ الأْذُنِ. وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَاعِدَةِ: إِنَّ الْمَنْفَعَةَ لاَ تَتَعَدَّدُ بِمَحَلِّهَا، كَمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ خَلِيلٍ: (وَتَعَدَّدَتِ الدِّيَةُ بِتَعَدُّدِهَا إِلاَّ الْمَنْفَعَةَ بِمَحَلِّهَا)، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، كَمَا قَالَ الْبُنَانِيِّ.

وَقَالَ الزَّرْقَانِيُّ: وَلاَ يَشْمَلُ قَوْلُهُ (بِمَحَلِّهَا) الأْذُنَ وَالأْنْفَ، وَإِنِ اقْتَضَاهُ كَلاَمُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ، بَلْ فِي قَطْعِ الأْذُنِ أَوِ الأْنْفِ غَيْرِ الْمَارِنِ حُكُومَةٌ، وَالدِّيَةُ فِي السَّمْعِ وَالشَّمِّ؛ لأِنَّ السَّمْعَ لَيْسَ مَحَلُّهُ الأْذُنَ، وَالشَّمَّ لَيْسَ مَحَلُّهُ الأْنْفَ بِدَلِيلِ تَعْرِيفَيْهِمَا.

- أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمِنْهَاجِ: إِذَا أَزَالَ الْجَانِي أَطْرَافًا تَقْتَضِي دِيَاتٍ كَقَطْعِ أُذُنَيْنِ، وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ، وَلَطَائِفَ (مَعَانِي) تَقْتَضِي دِيَاتٍ، كَإِبْطَالِ سَمْعٍ، وَبَصَرٍ وَشَمٍّ، فَمَاتَ سِرَايَةً مِنْهَا، وَكَذَا مِنْ بَعْضِهَا وَلَمْ يَنْدَمِلِ الْبَعْضُ كَمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ، وَاعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ إِذَا كَانَ قَبْلَ الاِنْدِمَالِ لِلْبَعْضِ الآْخَرِ فَدِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَسَقَطَ بَدَلُ مَا ذَكَرَهُ؛ لأِنَّهَا صَارَتْ نَفْسًا، أَمَّا إِذَا مَاتَ بِسِرَايَةِ بَعْضِهَا بَعْدَ انْدِمَالِ بَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا لَمْ يَدْخُلْ مَا انْدَمَلَ فِي دِيَةِ النَّفْسِ قَطْعًا، وَكَذَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا خَفِيفًا لاَ مَدْخَلَ لِلسِّرَايَةِ فِيهِ ثُمَّ أَجَافَهُ (أَصَابَهُ بِجَائِفَةٍ) فَمَاتَ بِسِرَايَةِ الْجَائِفَةِ قَبْلَ انْدِمَالِ ذَلِكَ الْجُرْحِ فَلاَ يَدْخُلُ أَرْشُهُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، أَمَّا مَا لاَ يُقَدَّرُ بِالدِّيَةِ فَيَدْخُلُ أَيْضًا كَمَا فُهِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ بِالأْوْلَى، وَكَذَا لَوْ حَزَّهُ الْجَانِي أَيْ قَطَعَ عُنُقَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَبْلَ انْدِمَالِهِ مِنَ الْجِرَاحَةِ يَلْزَمُهُ لِلنَّفْسِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الأْصَحِّ الْمَنْصُوصِ؛ لأِنَّ دِيَةَ النَّفْسِ وَجَبَتْ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ مَا عَدَاهَا فَيَدْخُلُ فِيهَا بَدَلُهُ كَالسِّرَايَةِ. وَالثَّانِي تَجِبُ دِيَاتُ مَا تَقَدَّمَهَا؛ لأِنَّ السِّرَايَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ بِالْقَتْلِ فَأَشْبَهَ انْقِطَاعَهَا بِالاِنْدِمَالِ. وَمَا سَبَقَ هُوَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْفِعْلِ الْمَجْنِيِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُخْتِلَفًا كَأَنْ حَزَّ الرَّقَبَةَ عَمْدًا وَالْجِنَايَةُ الْحَاصِلَةُ قَبْلَ الْحَزِّ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ عَكْسَهُ كَأَنْ حَزَّهُ خَطَأً وَالْجِنَايَاتُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ فَلاَ تَدَاخُلَ لِشَيْءٍ مِمَّا دُونَ النَّفْسِ فِيهَا فِي الأْصَحِّ، بَلْ يَسْتَحِقُّ الطَّرَفَ وَالنَّفْسَ لاِخْتِلاَفِهِمَا وَاخْتِلاَفِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ عَمْدًا، أَوْ قَطَعَ هَذِهِ الأْطْرَافَ عَمْدًا ثُمَّ حَزَّ الرَّقَبَةَ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ وَعَفَا الأْوَّلُ فِي الْعَمْدِ عَلَى دِيَتِهِ وَجَبَتْ فِي الأْولَى دِيَةُ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ وَدِيَةُ عَمْدٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ دِيَتَا عَمْدٍ وَدِيَةُ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ مُقَابِلُ الأْصَحِّ تَسْقُطُ الدِّيَاتُ فِيهِمَا، وَلَوْ حَزَّ الرَّقَبَةَ غَيْرُهُ أَيِ الْجَانِي الْمُتَقَدِّمِ تَعَدَّدَتْ، أَيِ الدِّيَاتُ؛ لأِنَّ فِعْلَ الإْنْسَانِ لاَ يَدْخُلُ فِي فِعْلِ غَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ كُلًّا مِنْهُمَا مَا أَوْجَبَتْهُ جِنَايَتُهُ. 

- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْدَمِلَ جِرَاحُهُ، وَصَارَ الأْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ أَوْ كَوْنِ الْفِعْلِ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأِنَّهُ قَاتِلٌ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْجُرْحِ، فَدَخَلَ أَرْشُ الْجِرَاحَةِ فِي أَرْشِ النَّفْسِ، كَمَا لَوْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ دِيَةُ الأْطْرَافِ الْمَقْطُوعَةِ وَدِيَةُ النَّفْسِ؛ لأِنَّهُ لَمَّا قَطَعَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ بِقَتْلِهِ صَارَ كَالْمُسْتَقِرِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ.

وَإِنْ قَطَعَ الْجَانِي بَعْضَ أَعْضَائِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ بَرِئَتِ الْجِرَاحُ، مِثْلُ إِنْ قَطَعَ الْجَانِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَبَرِئَتْ جِرَاحَتُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ فَقَدِ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْقَطْعِ بِالْبُرْءِ وَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ عَفَا وَأَخَذَ ثَلاَثَ دِيَاتٍ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَأَخَذَ دِيَتَيْنِ، دِيَةً لِلْيَدَيْنِ وَدِيَةً لِلرِّجْلَيْنِ؛ لأِنَّ كُلَّ جِنَايَةٍ مِنْ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا، كَمَا قَالَ الْبُهُوتِيُّ. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لاَ تَدَاخُلَ بَعْدَ الاِنْدِمَالِ عِنْدَهُمْ لاَ فِي النَّفْسِ وَلاَ فِي الأْعْضَاءِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى الذَّوْقِ:

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي وُجُوبِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ، فِي إِذْهَابِ الذَّوْقِ بِالْجِنَايَةِ؛ لأِنَّهُ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ فَأَشْبَهَ الشَّمَّ.

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ - إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي ذَهَابِ الذَّوْقِ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ، وَقَالُوا: لأِنَّ لَهُ مَحَلًّا مَضْبُوطًا، وَلأِهْلِ الْخِبْرَةِ طُرُقًا فِي إِبْطَالِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي، إِلاَّ الْبَصَرَ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأِنَّ إِتْلاَفَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلِّهَا، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فَلاَ تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (دِيَة، جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الثاني والعشرون ، الصفحة /  188

جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى النَّفْسِ:

إِذَا قَتَلَ مُرْتَدٌّ مُسْلِمًا عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، اتِّفَاقًا.

أَمَّا إِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا فَيُقْتَلُ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ،؛ لأِنَّهُ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الذِّمِّيِّ، إِذِ الْمُرْتَدُّ مُهْدَرُ الدَّمِ وَلاَ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَلاَ مُنَاكَحَتُهُ، وَلاَ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ.

وَلاَ يُقْتَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الآْخَرُ لِلشَّافِعِيِّ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الإْسْلاَمِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ.

وَإِذَا قَتَلَ الْمُرْتَدُّ حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا خَطَأً وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلاَ تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالدِّيَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا عِصْمَةُ الدَّمِ لاَ الإْسْلاَمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّهُ قَدْ حَلَّ دَمُهُ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لأِنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَأْخُذُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مِمَّنْ جَنَى فَكَمَا يَأْخُذُ مَالَهُ يَغْرَمُ عَنْهُ. وَهَذَا إِنْ لَمْ يَتُبْ. فَإِنْ تَابَ فَقِيلَ: فِي مَالِهِ، وَقِيلَ: عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: عَلَى مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ.

جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لاَ فَرْقَ فِي جِنَايَةِ الْمُرْتَدِّ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا، وَلاَ يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِزِيَادَتِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالإْسْلاَمِ الْحُكْمِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ. وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِيهِ أَيْضًا.

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لاَ يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ وَلاَ يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ؛ لأِنَّ أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ فِي حَقِّهِ بَاقِيَةٌ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالإْسْلاَمِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَنَا: أَنَّهُ كَافِرٌ فَيُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ كَالأْصْلِيِّ.

وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: الأْظْهَرُ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ بِالذِّمِّيِّ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ. بَلِ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الذِّمِّيِّ لأِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فَأَوْلَى أَنْ يُقْتَلَ بِالذِّمِّيِّ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الخامس والعشرون ، الصفحة / 252

مَا يَجِبُ بِإِذْهَابِ السَّمْعِ بِجِنَايَةٍ:

السَّمْعُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لاَ تَفُوتُ مَنْفَعَتُهَا بِالْمُبَاشَرَةِ لَهَا بِالْجِنَايَةِ، بَلْ تَفُوتُ تَبَعًا لِمَحَلِّهَا أَوْ لِمُجَاوِرِهَا. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا زَالَ السَّمْعُ بِسِرَايَةٍ مِنْ جِنَايَةٍ لاَ قِصَاصَ فِيهَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، كَأَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ مِمَّا يَتَعَذَّرُ مِنْهُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ كَالْهَاشِمَةِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ تَكَافُؤٌ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَوْلَهُ: «إِنَّ عَوَامَّ أَهْلِ الْعِلْمِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي السَّمْعِ دِيَةً». وَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالأْوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الشَّامِ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «لاَ أَعْلَمُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ خِلاَفًا لَهُمْ».

وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ - رضي الله عنه - أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: وَفِي السَّمْعِ دِيَةٌ».

وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلاً رَمَى رَجُلاً بِحَجَرٍ فَذَهَبَ سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ وَلِسَانُهُ وَنِكَاحُهُ، فَقَضَى عُمَرُ رضي الله عنه بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، وَالرَّجُلُ حَيٌّ؛ لأِنَّ السَّمْعَ حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِنَفْعٍ فَكَانَ فِيهَا الدِّيَةُ.

أَمَّا إِذَا ذَهَبَ بِجِنَايَةٍ فِيهَا الْقِصَاصُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ، فَيُقْتَصُّ مِنْهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ. فَإِنْ ذَهَبَ بِهِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ أُذْهِبَ بِمُعَالَجَةٍ لأِنَّ لِلسَّمْعِ مَحِلًّا مَضْبُوطًا، وَلأِهْلِ الْخِبْرَةِ طُرُقٌ فِي إِبْطَالِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَلَكِنْ قَالُوا: إِذَا لَمْ يَبْطُلْ بِالْقِصَاصِ فَلاَ يَبْطُلُ بِالْمُعَالَجَةِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْجَانِي أَوْ عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ قِصَاصَ فِي إِبْطَالِ السَّمْعِ لِتَعَذُّرِ الاِقْتِصَاصِ فِيهِ. وَالتَّفْصِيلُ فِي (الْقِصَاص) (وَالدِّيَة) (وَالْجِنَايَةُ فِي مَا دُونَ النَّفْسِ). وَبَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ مُصْطَلَحِ السَّمْعِ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ (اسْتِمَاع) (وَأُذُن).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / السادس والعشرون ، الصفحة / 171

الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَتَيْنِ:

الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَتَيْنِ إِذَا كَانَتْ عَمْدًا يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ. (ر: قِصَاصٌ).

أَمَّا إِذَا كَانَتْ خَطَأً فَفِي قَطْعِ كِلْتَا الشَّفَتَيْنِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ».

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ؛ لأِنَّ الْعُضْوَيْنِ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِمَا دِيَةٌ فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ فِي الشَّفَةِ الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي السُّفْلَى الثُّلُثَانِ؛ لأِنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعْظَمُ، لأِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَحَرَّكُ وَتَحْفَظُ الرِّيقَ وَالطَّعَامَ.

وَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي قَطْعِ الشَّفَتَيْنِ تَجِبُ كَذَلِكَ فِي إِذْهَابِ مَنَافِعِهِمَا، بِأَنْ ضَرَبَ الشَّفَتَيْنِ فَأَشَلَّهُمَا، أَوْ تَقَلَّصَتَا فَلَمْ تَنْطَبِقَا عَلَى الأْسْنَانِ.

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي: (دِيَاتٌ).

الْجِنَايَةُ عَلَى حَاسَّةِ الشَّمِّ:

الْجِنَايَةُ عَلَى حَاسَّةِ الشَّمِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. فَإِنْ كَانَ عَمْدًا كَمَنْ شَجَّ إِنْسَانًا فَذَهَبَ شَمُّهُ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا فَعَلَ، فَإِنْ ذَهَبَ بِذَلِكَ شَمُّهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبِ الشَّمُّ فُعِلَ بِالْجَانِي مَا يُذْهِبُ الشَّمَّ بِوَاسِطَةِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِذْهَابُ الشَّمِّ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ سَقَطَ الْقَوَدُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ.

وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجِبُ الدِّيَةُ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُضْرَبَ الْجَانِي ضَرْبًا يَذْهَبُ بِهِ حَاسَّةُ الشَّمِّ فَلَمْ يَكُنِ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مُمْكِنًا فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَهُوَ مُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَإِنْ كَانَ إِبْطَالُ حَاسَّةِ الشَّمِّ نَتِيجَةَ ضَرْبٍ أَوْ جُرْحٍ وَقَعَ خَطَأً، أَوْ كَانَ الضَّرْبُ عَمْدًا لَكِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً إِذَا كَانَ إِبْطَالُ الشَّمِّ مِنَ الْمَنْخِرَيْنِ؛ لأِنَّهُ حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةٍ فَكَانَ فِيهَا الدِّيَةُ كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا وَلأِنَّ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي الْمَشَامِّ الدِّيَةُ».

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ لأِنَّهُ ضَعِيفُ النَّفْعِ.

وَإِذَا زَالَ الشَّمُّ مِنْ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ نَقَصَ الشَّمُّ وَجَبَ بِقِسْطِهِ مِنَ الدِّيَةِ إِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ وَإِلاَّ فَحُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِالاِجْتِهَادِ.

وَمَنِ ادَّعَى زَوَالَ الشَّمِّ امْتُحِنَ فِي غَفَلاَتِهِ بِالرَّوَائِحِ الْحَادَّةِ الطَّيِّبَةِ وَالْمُنْتِنَةِ - فَإِنْ هَشَّ لِلطَّيِّبِ وَعَبَسَ لِغَيْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي بِيَمِينِهِ لِظُهُورِ كَذِبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.

وَإِنْ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِالرَّوَائِحِ الْحَادَّةِ وَلَمْ يَبِنْ مِنْهُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.

زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيَحْلُفُ لِظُهُورِ صِدْقِهِ، وَلاَ يُعْرَفُ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِ.

وَإِنِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نَقْصَ شَمِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ لاَ يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ، وَيَجِبُ لَهُ مِنَ الدِّيَةِ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ.

وَإِنْ ذَهَبَ شَمُّهُ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ أَخْذِ الدِّيَةِ سَقَطَتْ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِهَا رَدَّهَا لأَِنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَهَبَ. وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُ شَمِّهِ إِلَى مُدَّةٍ انْتُظِرَ إِلَيْهَا.

هَذَا إِذَا ذَهَبَ الشَّمُّ وَحْدَهُ.

أَمَّا إِنْ قَطَعَ أَنْفَهُ فَذَهَبَ بِذَلِكَ شَمُّهُ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لأَِنَّ الشَّمَّ فِي غَيْرِ الأَْنْفِ فَلاَ تَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الآْخَرِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِيهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَنْدَرِجُ الشَّمُّ فِي الأْنْفِ كَالْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنِ.

إِثْبَاتُ شُرْبِ الْمُسْكِرِ بِشَمِّ الرَّائِحَةِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ الشُّرْبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ بِشَمِّ رَائِحَةِ الْخَمْرِ فِي فَمِ الشَّارِبِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (أَشْرِبَةٌ).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثامن والعشرون ، الصفحة / 175

ضَرْبٌ

التَّعْرِيفُ:

1 - يُطْلَقُ الضَّرْبُ لُغَةً عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: الإْصَابَةُ بِالْيَدِ أَوِ السَّوْطِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا، يُقَالُ: ضَرَبَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِالسَّوْطِ يَضْرِبُهُ ضَرْبًا: عَلاَهُ بِهِ، وَالسَّيْرُ فِي الأْرْضِ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ أَوِ الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَصِيَاغَةُ النُّقُودِ، وَطَبْعُهَا، وَتَضْعِيفُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِالآْخَرِ  وَمَعَانٍ أُخْرَى، مِنْهَا ضَرْبُ الدُّفِّ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلضَّرْبِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.

 الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - التَّأْدِيبُ:

2 - التَّأْدِيبُ مَصْدَرُ أَدَّبَهُ تَأْدِيبًا: إِذَا عَاقَبَهُ عَلَى إِسَاءَتِهِ بِالضَّرْبِ، أَوْ بِغَيْرِهِ.

ب - التَّعْزِيرُ:

3 - التَّعْزِيرُ: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلاَ كَفَّارَةٌ غَالِبًا . 

ج - الْقَتْلُ:

4 - الْقَتْلُ إِزْهَاقُ الرُّوحِ بِالضَّرْبِ أَوْ بِغَيْرِهِ

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الضَّرْبِ بِاخْتِلاَفِ الْمَعَانِي الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا:

فَالضَّرْبُ بِالسَّوْطِ أَوِ الْيَدِ، أَوْ بِغَيْرِهِمَا: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ سَبَبِهِ، وَتَعْتَرِيهِ الأْحْكَامُ التَّالِيَةُ: فَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا، كَضَرْبِ الْبَرِيءِ، وَتَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا، كَضَرْبِ شَارِبِ الْمُسْكِرِ، وَالزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ لإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا، وَضَرْبِ الْقَاذِفِ بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَبِدُونِ طَلَبِهِ - أَيْضًا - عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَضَرْبِ ابْنِ عَشْرِ سِنِينَ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ، وَنَحْوِهَا.

وَتَارَةً يَكُونُ جَائِزًا كَضَرْبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ لِحَقِّهِ، كَالنُّشُوزِ وَغَيْرِهِ، وَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصَّبِيَّ لِلتَّعْلِيمِ، وَضَرْبِ السُّلْطَانَ مَنِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا لاَ حَدَّ فِيهِ، وَلاَ كَفَّارَةَ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْوُجُوبِ وَالْجَوَازِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حُدُود ف 31، تَأْدِيب ف 8 تَعْزِير ف 14). 

أَدَاةُ الضَّرْبِ:

6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الضَّرْبَ فِي الْحُدُودِ يَكُونُ بِالسَّوْطِ إِلاَّ حَدَّ الشُّرْبِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ، كَمَا يُضْرَبُ أَيْضًا بِالنِّعَالِ وَالأْيْدِي وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ» .

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ السَّوْطُ، وَقَالُوا: يُفْهَمُ مِنْ إِطْلاَقِ الْجَلْدِ الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ، «وَلأِنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَلْدٌ فِي الْخَمْرِ» . كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِجَلْدِ الزَّانِي، فَكَانَ بِالسَّوْطِ مِثْلَهُ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ضَرَبُوا بِالسَّوْطِ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.

أَمَّا الضَّرْبُ لِلتَّعْزِيرِ، أَوِ التَّأْدِيبِ فَيَكُونُ بِالسَّوْطِ وَالْيَدِ، وَأَمَّا ضَرْبُ الصَّبِيِّ فِي التَّأْدِيبِ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ الضَّرْبُ بِسَوْطٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ بِيَدٍ، وَلاَ يُجَاوِزُ ثَلاَثًا، وَكَذَا: الْمُعَلِّمُ وَالْوَصِيُّ  «لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِمِرْدَاسٍ الْمُعَلِّمِ: إِيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ فَوْقَ الثَّلاَثِ، فَإِنَّكَ إِنْ ضَرَبْتَ فَوْقَ  ثَلاَثٍ اقْتَصَّ اللَّهُ مِنْكَ» .

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (شُرْب، وَحُدُود ف 31، وَتَعْزِير ف 14 وَتَأْدِيب ف 8).

صِفَةُ سَوْطِ الضَّرْبِ:

7 - يَكُونُ سَوْطُ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ وَسَطًا بَيْنَ قَضِيبٍ، وَعَصًا، وَرَطْبٍ، وَيَابِسٍ، لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلاً اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ فَقَالَ: دُونَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رَكِبَ بِهِ وَلاَنَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ».

وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ يَكُونُ وَسَطًا، لاَ شَدِيدًا فَيَقْتُلُ، وَلاَ ضَعِيفًا فَلاَ يَرْدَعُ، لأِنَّ الْمَقْصُودَ تَأْدِيبُهُ، لاَ قَتْلُهُ .

كَيْفِيَّةُ الضَّرْبِ:

8 - يُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى الأْعْضَاءِ، فَلاَ يُجْمَعُ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ، وَيَتَّقِي الْمَقَاتِلَ، كَالْوَجْهِ، وَالرَّأْسِ، وَالنَّحْرِ، وَالْفَرْجِ.

وَأَشَدُّ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ: ضَرْبُ الزَّانِي، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ الْقَذْفِ، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ الشُّرْبِ، ثُمَّ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: أَشَدُّ الضَّرْبِ: ضَرْبُ التَّعْزِيرِ؛ لأِنَّهُ خُفِّفَ عَدَدًا فَلاَ يُخَفَّفُ وَصْفًا، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ الزِّنَا لِثُبُوتِهِ بِالْكِتَابِ، ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ لِثُبُوتِهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ الْقَذْفِ لِضَعْفِ سَبَبِهِ لاِحْتِمَالِ صِدْقِ الْقَاذِفِ  وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّهَا وَاحِدٌ؛ لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَأْنُهُ أَمَرَ بِجَلْدِ الزَّانِي، وَالْقَاذِفِ أَمْرًا وَاحِدًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الزَّجْرُ فَيَجِبُ تَسَاوِيهَا فِي الصِّفَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُود ف 31، وَتَعْزِير ف 14).

ضَرْبُ الزَّوْجَةِ:

9 - يَجِبُ فِي ضَرْبِ الزَّوْجَةِ لِلنُّشُوزِ أَوْ لِغَيْرِهِ: أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلاَ مُدْمٍ، وَأَنْ يَتَوَقَّى الْوَجْهَ، وَالأْمَاكِنَ الْمُخِيفَةَ، وَلاَ يَضْرِبَهَا إِلاَّ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّهِ كَالنُّشُوزِ، فَلاَ يَضْرِبُهَا لِحَقِّ اللَّهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، كَتَرْكِ الصَّلاَةِ.

(ر: نُشُوز ) .

ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ:

10 - ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْمَنُوطَةِ بِالإْمَامِ فَلَيْسَ لِلأْفْرَادِ ضَرْبُهَا، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَخَاطِرِ الْغِشِّ، وَمَنَعَ الإْمَامُ أَحْمَدُ مِنَ الضَّرْبِ بِغَيْرِ إِذْنِ الإْمَامِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَرَاهِم ف 7).

ضَرْبُ الدُّفِّ:

11 - يَجُوزُ ضَرْبُ الدُّفِّ لِعُرْسٍ وَخِتَانٍ وَعِيدٍ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لإِِظْهَارِ الْفَرَحِ  لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رضى الله عنها -: قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:  « أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ الدُّفُوفَ» .

وَعَنْ «عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأْنْصَارِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟، فَإِنَّ الأْنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ»  وَحَدِيثُ: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ»  «وَعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها -: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى: تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ» .

وَالتَّفْصِيلُ فِي: (لَهْو، وَلِيمَة، عُرْس).

ضِلْعٌ

التَّعْرِيفُ:

1 - الضِّلْعُ - بِفَتْحِ اللاَّمِ وَسُكُونِهَا - لُغَتَانِ بِمَعْنَى: مَحْنِيَّةِ الْجَنْبِ. وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَجَمْعُهَا: أَضْلُعٌ وَأَضَالِعُ وَأَضْلاَعٌ وَضُلُوعٌ وَهِيَ عِظَامُ الْجَنْبَيْنِ .

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالضِّلْعِ:

الْجِنَايَةُ عَلَى الضِّلْعِ:

2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ - بِمَا فِيهَا الضِّلْعُ - لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لاَ قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ»  وَلِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ لأِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ، فَلاَ يُؤْمَنُ فِيهِ التَّعَدِّي .

(ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 31).

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مُوجَبِ كَسْرِ الضِّلْعِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الصَّحِيحِ - وَأَحْمَدُ - فِي رِوَايَةٍ - إِلَى أَنَّ كَسْرَ الضِّلْعِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ، لأِنَّهُ كَسْرُ عَظْمٍ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كَكَسْرِ عَظْمِ السَّاقِ .

وَقَدْ قَيَّدَ الإْمَامُ مَالِكٌ وُجُوبَ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي كَسْرِ الضِّلْعِ إِذَا بَرَأَ عَلَى عَثَلٍ  وَإِذَا بَرَأَ عَلَى غَيْرِ عَثَلٍ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ .

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ عِنْدَهُمْ كَمَا قَالَ السُّيُوطِيُّ - أَنَّهُ يَجِبُ فِي كَسْرِ الضِّلْعِ جَمَلٌ  لِمَا رَوَى أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ رضى الله عنه عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي التَّرْقُوَةِ بِجَمَلٍ وَفِي الضِّلْعِ بِجَمَلٍ .

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي كَيْفِيَّةِ تَقْدِيرِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ وَشُرُوطِهَا يُنْظَرُ: (حُكُومَةُ عَدْلٍ وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).

ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:

وَتَتَحَقَّقُ فِي الأْطْرَافِ، وَالْجِرَاحِ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، وَفِي الشِّجَاجِ.

- أ - أَمَّا الأْطْرَافُ:

فَحُدِّدَتْ عُقُوبَتُهَا بِالْقِصَاصِ بِالنَّصِّ، فِي قوله تعالى: ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأْنْفَ بِالأَنْفِ وَالأْذُنَ بِالأْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ) .

وَزَادَ مَالِكٌ عَلَى ذَلِكَ التَّعْزِيرَ بِالتَّأْدِيبِ، لِيَتَنَاهَى النَّاسُ .

فَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، بِسَبَبِ الْعَفْوِ أَوِ الصُّلْحِ أَوْ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ، كَانَ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ وَالأْرْشِ، وَهُوَ: اسْمٌ لِلْوَاجِبِ مِنَ الْمَالِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ .

(ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).

  - ب - وَأَمَّا الْجِرَاحُ

فَخَاصَّةٌ بِمَا كَانَ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، فَإِذَا كَانَتْ جَائِفَةً، أَيْ بَالِغَةَ الْجَوْفِ، فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا اتِّفَاقًا، خَشْيَةَ الْمَوْتِ.

وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ جَائِفَةٍ، فَفِيهَا الْقِصَاصُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ مَنَعُوا الْقِصَاصَ فِيهَا مُطْلَقًا لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ .

فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ:

فَفِي الْجَائِفَةِ يَجِبُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، لِحَدِيثِ: «فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الْعَقْلِ» .

وَفِي غَيْرِ الْجَائِفَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَثَمَنُ الأْدْوِيَةِ .

وَلِلتَّفْصِيلِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (جِرَاح، وَحُكُومَةُ عَدْلٍ).

- ج - وَأَمَّا الشِّجَاجُ، وَهِيَ مَا يَكُونُ مِنَ الْجِرَاحِ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ  فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهَا:

فَفِيهِ الأْرْشُ مُقَدَّرًا، كَمَا فِي الْمُوضِحَةِ، لِحَدِيثِ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُوضِحَةِ، خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ» .

وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِشَيْءٍ» . فَتَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.

وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ وَرَدَ التَّقْدِيرُ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَفِيمَا دُونَهَا، كَمَا وَرَدَ فِيمَا فَوْقَهَا فَيُعْمَلُ بِهِ .

لِلتَّفْصِيلِ: (ر: مُصْطَلَحَ: شِجَاج، دِيَات، حُكُومَةُ عَدْلٍ).

طَرَفٌ

التَّعْرِيفُ:

1 - الطَّرَفُ - بِفَتْحَتَيْنِ - لُغَةً: جُزْءٌ مِنَ الشَّيْءِ وَجَانِبُهُ وَنِهَايَتُهُ .

وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ الطَّرَفَ عَلَى كُلِّ عُضْوٍ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ. فَالأْطْرَافُ هِيَ النِّهَايَاتُ فِي الْبَدَنِ كَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ.

(ر: أَعْضَاء ف 2).

 الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْعُضْوُ:

2 - الْعُضْوُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ كُلُّ عَظْمٍ وَافِرٍ بِلَحْمِهِ سَوَاءٌ: أَكَانَ مِنْ إِنْسَانٍ، أَمْ حَيَوَانٍ.

وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ الْعُضْوَ عَلَى الْجُزْءِ الْمُتَمَيِّزِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ بَدَنِ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ كَاللِّسَانِ، وَالأْنْفِ، وَالإْصْبَعِ.

فَالْعُضْوُ أَعَمُّ مِنَ الطَّرَفِ، إِذْ كُلُّ طَرَفٍ عُضْوٌ وَلَيْسَ كُلُّ عُضْوٍ طَرَفًا.

(ر: أَعْضَاء ف 1)

الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّرَفِ:

الْجِنَايَةُ عَلَى الطَّرَفِ:

3 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْمَشْهُورِ، وَإِسْحَاقُ): أَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الأْطْرَافِ السَّلِيمَةِ: كَالرَّجُلَيْنِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْحُرَّيْنِ، وَالْعَبْدَيْنِ .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ بَيْنَ طَرَفَيْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، أَوْ فِي طَرَفَيْ عَبْدَيْنِ فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوِهِمَا، لاِنْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الأْطْرَافِ، لأِنَّهَا يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الأْمْوَالِ فَيَثْبُتُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيمَةِ .

وَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الأْطْرَافِ إِلاَّ بِمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ فِي النَّفْسِ وَهُوَ الْعَمْدُ الْمَحْضُ فَلاَ قَوَدَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَلاَ فِي الْخَطَأِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الأْطْرَافِ (ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).

أَمَّا إِذَا وُجِدَ مَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فَتَجِبُ الدِّيَةُ.

4 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى قَوَاعِدَ مُحَدَّدَةٍ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَتَوْزِيعِهَا عَلَى الأْطْرَافِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ - مَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِنْسَانِ مِنْ شَيْئَيْنِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ كَأَجْفَانِ الْعَيْنَيْنِ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ.

وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإْنْسَانِ مِنْهُ عَشْرَةُ أَشْيَاءَ كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فَفِي جَمِيعِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ.

وَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ مِنَ الأْصَابِعِ مِمَّا فِيهِ مَفْصِلاَنِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَمِمَّا فِيهِ ثَلاَثَةُ مَفَاصِلَ ثُلُثُ عُشْرِ الدِّيَةِ: أَيْ يَنْقَسِمُ عُشْرُ الدِّيَةِ عَلَى الْمَفَاصِلِ، كَانْقِسَامِ دِيَةِ الْيَدِ عَلَى الأْصَابِعِ .

(ر: دِيَاتُ فِقَرِهِ 34).

ب - الدِّيَةُ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ وَإِتْلاَفِ الأْطْرَافِ إِذَا لَمْ تُفِضْ إِلَى الْمَوْتِ، فَإِنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ مَعًا - وَلَمْ يَمُتْ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ - تَجِبُ دِيَتَانِ.

أَمَّا إِذَا أَفْضَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى الْمَوْتِ فَتَتَدَاخَلُ دِيَاتُ الأْطْرَافِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ.
(ر: دِيَات ف 70، وَتَدَاخُل ف 19).

بَيْعُ أَطْرَافِ الآْدَمِيِّ:

5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ بَيْعِ الآْدَمِيِّ الْحُرِّ وَبُطْلاَنِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْحُرِّ بَاطِلٌ، وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ يَصِحُّ  لأِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَالاً، وَالْمَالُ اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا مِمَّا هُوَ غَيْرُنَا، فَالآْدَمِيُّ خُلِقَ مَالِكًا لِلْمَالِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَالاً وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْمَالِ مُنَافَاةٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا )  قَالَ السَّرْخَسِيُّ: ثُمَّ لأَجْزَاءِ الآْدَمِيِّ مِنَ الْحُكْمِ مَا لِعَيْنِهِ .

فَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَطْرَافَ الآْدَمِيِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ مِنْ حَيْثُ الأَصْلُ، وَلاَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ.

وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي حُرْمَةِ بَيْعِ أَجْزَاءِ الآْدَمِيِّ، إِلاَّ فِي لَبَنِ الْمَرْأَةِ إِذَا حُلِبَ، فَأَجَازَ بَعْضُهُمْ بَيْعَهُ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي تَعْلِيلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ: إِنَّ اللَّبَنَ جُزْءٌ مِنَ الآْدَمِيِّ وَالآْدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحْتَرَمٌ وَمُكَرَّمٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالاِحْتِرَامِ ابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .

الاِنْتِفَاعُ بِأَطْرَافِ الْمَيِّتِ:

6 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِأَطْرَافِ الْمَيِّتِ، وَأَجَازُوا التَّدَاوِي بِأَطْرَافِ مَا سِوَى الْخِنْزِيرِ وَالآْدَمِيِّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُطْلَقًا .

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَفِي مَذْهَبِهِمْ بَعْضُ السِّعَةِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِأَجْزَاءِ الآْدَمِيِّ وَأَطْرَافِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا، فَأَجَازُوا لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَ لَحْمِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُضْطَرُّ إِلاَّ مَيِّتًا مَعْصُومًا فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ (الشِّيرَازِيُّ) وَالْجُمْهُورُ، وَالثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ: الصَّحِيحُ الْجَوَازُ، لأِنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ آكَدُ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لاَ لِوُجُوبِ صِيَانَتِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَيْسَ بِشَيْءٍ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / التاسع والعشرون ، الصفحة / 237

عَاهَة

التَّعْرِيفُ:

الْعَاهَةُ لُغَةً: الآْفَةُ، يُقَالُ: عِيهَ الزَّرْعُ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ - فَهُوَ مَعْيُوهٌ.

وَعَاهَ الْمَالُ يَعِيهِ: أَصَابَتْهُ الْعَاهَةُ - أَيِ الآْفَةُ - وَأَرْضٌ مَعْيُوهَةٌ: ذَاتُ عَاهَةٍ، وَأَعَاهُوا وَأَعْوَهُوا وَعَوَّهُوا: أَصَابَتْ مَاشِيَتَهُمْ أَوْ زَرْعَهُمُ الْعَاهَةُ.

وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى الْعَاهَةِ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْمَرَضُ:

الْمَرَضُ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: السَّقَمُ نَقِيضُ الصِّحَّةِ، وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ: الْمَرَضُ حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْلِ، وَالآْلاَمُ وَالأْوْرَامُ أَعْرَاضٌ عَنِ الْمَرَضِ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ فَيُخْرِجُهُ عَنْ حَالَةِ الاِعْتِدَالِ الْخَاصِّ.

وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَرَضِ وَالْعَاهَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، يَجْتَمِعَانِ فِيمَا نَزَلَ بِالإْنْسَانِ مِنِ اضْطِرَابِ شَأْنِهِ أَنَّهُ يَزُولُ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي شَخْصِهِ أَمْ كَانَ فِي الْمَالِ، يَقُولُ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: أَمْرَضَ الرَّجُلُ إِذَا وَقَعَ فِي مَالِهِ عَاهَةٌ.

وَتَنْفَرِدُ الْعَاهَةُ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْقَى، كَالأْقْطَعِ فِي حَدٍّ مَثَلاً، فَهِيَ عَاهَةٌ لَيْسَتْ بِسَبَبِ مَرَضٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا فِي الشَّرِيعَةِ.

ب - الْعَيْبُ:

الْعَيْبُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: الشَّيْنِ، وَبِمَعْنَى الْوَصْمَةِ، وَبِمَعْنَى الْعَاهَةِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعْنَى الأْخِيرِ كَثِيرًا، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الإْنْسَانِ أَمِ الْحَيَوَانِ أَمِ الزَّرْعِ أَمْ غَيْرِهَا.

فَالْعَيْبُ أَعَمُّ مِنَ الْعَاهَةِ.

ج - الْجَائِحَةُ:

الْجَائِحَةُ: كُلُّ شَيْءٍ لاَ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ لَوْ عُلِمَ بِهِ كَسَمَاوِيٍّ كَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَالْجَرَادِ وَالْمَطَرِ.

وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَاهَةِ وَالْجَائِحَةِ عَلاَقَةُ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ، فَالْجَائِحَةُ سَبَبٌ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْعَاهَاتِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْعَاهَةُ ذَاتُهَا.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الحادي والثلاثون ، الصفحة / 41

د - جِنَايَةُ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ عَلَى الأَْعْوَرِ:

لاَ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ؛ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، بَلْ تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ بِالاِجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الذَّاهِبِ ضَوْءُهَا حُكُومَةٌ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، بِهَذَا يَقُولُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ).

وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه  أَنَّهُ قَالَ: فِي عَيْنِ الأْعْوَرِ الَّتِي لاَ يُبْصِرُ بِهَا مِائَةَ دِينَارٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: فِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِيهَا نِصْفُ دِيَتِهَا.

وَإِذَا قَلَعَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ عَيْنَ الأْعْوَرِ الْمُبْصِرَةَ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ أَخْذِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ مِنْ مَالِ الْجَانِي.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ مِنْ مِثْلِهَا وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لأِنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ وَأَذْهَبَ الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ؛ إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ أَخْذُ يَمِينٍ بِيُسْرَى، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِ نِصْفِ الضَّوْءِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَيْنَ الأْعْوَرِ السَّلِيمَةَ يَجِبُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الأْصَحِّ أَنَّ الْخَطَأَ وَالْعَمْدَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.

هـ - جِنَايَةُ الأْعْوَرِ عَلَى صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِذَا فَقَأَ أَعْوَرٌ مِنْ سَالِمٍ مُمَاثِلَتَهُ السَّالِمَةَ يُقْتَصُّ مِنْهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ مَعْقِلٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» فَفِي الْعَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَالْقِصَاصُ مِنْ صَحِيحِ الْعَيْنِ وَالأْعْوَرِ كَهَيْئَتِهِ بَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ، وَتُؤْخَذُ الْقَائِمَةُ بِالصَّحِيحَةِ إِذَا رَضِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُخَيِّرُونَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً، بِمَعْنَى أَنَّ

 

لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الْجَانِي السَّالِمَةَ فَيُصَيِّرُهُ أَعْمَى أَوْ يَتْرُكَ الْقِصَاصَ وَيَأْخُذَ مِنَ الْجَانِي دِيَةَ مَا تَرَكَهُ

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا قَلَعَ الأْعْوَرُ عَيْنَ الصَّحِيحِ فَلاَ قَوَدَ وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ  رضي الله عنهما، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ.

وَإِنْ فَقَأَ الأْعْوَرُ مِنَ السَّالِمِ غَيْرَ الْمُمَاثِلَةِ لِعَيْنِهِ السَّلِيمَةِ بِأَنْ فَقَأَ مِنَ السَّالِمِ مُمَاثِلَةَ الْعَوْرَاءِ فَتَلْزَمُ الْجَانِيَ نِصْفُ دِيَةٍ فَقَطْ وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ الْمُمَاثِلِ، بِهَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْيُمْنَى بَيْضَاءَ فَأَذْهَبَ الْعَيْنَ الْيُمْنَى مِنْ رَجُلٍ آخَرَ فَالْمَفْقُوءَةُ يُمْنَاهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ عَيْنَهُ النَّاقِصَةَ إِذَا كَانَ يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ بِأَنْ يُبْصِرَ شَيْئًا قَلِيلاً وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ عَيْنِهِ.

وَإِنْ فَقَأَ الأْعْوَرُ عَيْنَيِ السَّالِمِ عَمْدًا بِالْقَوَدِ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْقَأَ الْمُمَاثِلَةَ مِنَ الْجَانِي فَيُصَيِّرُهُ أَعْمَى لِبَقَاءِ سَالِمَتِهِ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ يَأْخُذُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِي بَدَلَ مَا لَيْسَ لَهَا مُمَاثِلُهُ، وَلَمْ يُخَيَّرْ سَالِمُ الْعَيْنَيْنِ فِي الْمُمَاثِلَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ الْقِصَاصُ أَوْ أَخْذُ الدِّيَةِ لِئَلاَّ يَلْزَمَ عَلَيْهِ أَخْذُ دِيَةٍ وَنِصْفٍ، وَهُوَ خِلاَفُ مَا وَرَدَ عَنِ الشَّارِعِ  صلى الله عليه وسلم، بِهَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ.

وَيَرَى الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلاَ شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ؛ لأِنَّهُ قَدْ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ، فَإِنِ اخْتَارَ الدِّيَةَ فَلَهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» وَلأِنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرِ الْقِصَاصُ فَلَمْ تَتَضَاعَفِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَطَعَ الأْشَلُّ يَدَ صَحِيحٍ أَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ أَوْ يَدُ الْقَاطِعِ أَنْقَصَ.

جِنَايَةُ الأْعْوَرِ عَلَى الأْعْوَرِ:

لَوْ قَلَعَ الأْعْوَرُ الْعَيْنَ السَّلِيمَةَ لِمِثْلِهِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا، وَإِنْ عَفَا إِلَى الدِّيَةِ فَلَهُ جَمِيعُهَا.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثالث والثلاثون ، الصفحة / 261

أَسْبَابُ الْقِصَاصِ:

- أَسْبَابُ الْقِصَاصِ هِيَ: الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالْجُرْحُ وَالشِّجَاجُ وَإِزَالَةُ مَعَانِي الأْعْضَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي: 

الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:

- الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ سَبَبُهُ الْقَتْلُ الْعَمْدُ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ سَوْفَ يَأْتِي تَفْصِيلُهَا.

شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

- لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ شُرُوطٌ فِي الْقَاتِلِ، وَالْمَقْتُولِ، وَفِعْلِ الْقَتْلِ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إِلاَّ بِتَوَفُّرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، كَمَا يَلِي:

أ - التَّكْلِيفُ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاتِلِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، أَيْ عَاقِلاً بَالِغًا عِنْدَ الْقَتْلِ، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا جُنُونًا مُطْبِقًا عِنْدَ الْقَتْلِ.

فَإِذَا قَتَلَهُ عَاقِلاً ثُمَّ جُنَّ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دَفَعَهُ الْقَاضِي لِلْوَلِيِّ عَاقِلاً ثُمَّ جُنَّ اقْتُصَّ مِنْهُ، وَإِنْ جُنَّ قَبْلَ دَفْعِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ بَدَلاً مِنْهُ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ إِذَا جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ؛ لأِنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُخَاطَبًا حَالَةَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْقَضَاءِ وَيَتِمُّ بِالدَّفْعِ، فَإِذَا جُنَّ قَبْلَ الدَّفْعِ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْوُجُوبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ.

فَإِنْ كَانَ يَجِنُّ وَيُفِيقُ، فَإِنْ قَتَلَ فِي إِفَاقَتِهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْبِقًا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ غَيْرَ مُطْبِقٍ قُتِلَ قِصَاصًا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إِلَى حِينِ إِفَاقَتِهِ ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ.

فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مَجْنُونًا جُنُونًا مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مَجْنُونٌ جُنُونًا مُطْبِقًا فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لأِنَّهُ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الإْفَاقَةِ، أَوْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ حَالَ جُنُونِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ عَنْهُ، ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَصْحُوَ؛ لاِحْتِمَالِ رُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ.

وَمِثْلُ الْجُنُونِ: النَّوْمُ وَالإْغْمَاءُ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

أَمَّا السَّكْرَانُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِمُحَرَّمٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ لِعُذْرٍ كَالإْكْرَاهِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُقُوعِ طَلاَقِهِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ.

ب - عِصْمَةُ الْقَتِيلِ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مَعْصُومَ الدَّمِ، أَوْ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ.

فَإِذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ - كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ - لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ قِصَاصٌ مُطْلَقًا.

فَإِذَا كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ سَائِرِهِمْ، كَالْقَاتِلِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَاصَّةً، فَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا؛ لأِنَّهُ غَيْرُ مُهْدَرِ الدَّمِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ وَلِيُّ الدَّمِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ؛ لأِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّهِ.

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَتْ عِصْمَتُهُ مُؤَقَّتَةً كَالْمُسْتَأْمَنِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قَاتِلُهُ؛ لأِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَصُونُ الدَّمِ فِي حَالِ أَمَانِهِ فَقَطْ، وَهُوَ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي الأْصْلِ، لأِنَّهُ حَرْبِيٌّ، فَلاَ قِصَاصَ فِي قَتْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُهُ مُسْتَأْمَنًا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيُقْتَلُ بِهِ لِلْمُسَاوَاةِ لاَ اسْتِحْسَانًا، وَقِيلَ: لاَ يُقْتَلُ عَلَى الاِسْتِحْسَانِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْلِ. 

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْعِصْمَةِ التَّأْبِيدُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُقْتَلُ قَاتِلُ الْمُسْتَأْمَنِ، لقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) .

ج - الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي أَوْصَافٍ اعْتَبَرُوهَا، فَلاَ يُقْتَلُ الأْعْلَى بِالأْدْنَى، وَلَكِنْ يُقْتَلُ الأْدْنَى بِالأْعْلَى وَبِالْمُسَاوِي.

وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُقْتَلُ عِنْدَهُمُ الْمُسْلِمُ وَلاَ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيِّ، لاَ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَلْ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ.

إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِي الأْوْصَافِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا لِلْمُكَافَأَةِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الإْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ. أَوْ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ أَزْيَدَ مِنَ الْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ أَزْيَدَ مِنَ الْقَتِيلِ فِيهِمَا فَلاَ قِصَاصَ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْقَصَ مِنَ الآْخَرِ فِي أَحَدِهِمَا، كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ وَلَوْ حُرًّا، وَلاَ حُرٌّ بِرَقِيقٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ زَائِدَ إِسْلاَمٍ، فَيُقْتَلُ حُرٌّ كِتَابِيٌّ بِرَقِيقٍ مُسْلِمٍ كَمَا سَيَأْتِي تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الإْسْلاَمِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْتَلُ الْكَافِرُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ؛ لأِنَّ الْحُرَّ لاَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ، كَمَا لاَ يُقْتَلُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْكَافِرِ؛ لأِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا، فَإِذَا قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ حُرٌّ مَنْ نِصْفُهُ عَبْدٌ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ.

وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ الْقِنُّ بِالْمُكَاتَبِ، وَيُقْتَلُ الْمُكَاتَبُ بِهِ، وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ - وَالْعَكْسُ - لأِنَّ الْكُلَّ عَبِيدٌ.

وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا.

وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لاَ بُدَّ فِي الْقَوَدِ مِنَ الْمُكَافَأَةِ فِي الْحَالاَتِ الثَّلاَثِ: حَالَةُ الرَّمْيِ وَحَالَةُ الإْصَابَةِ وَحَالَةُ الْمَوْتِ، وَمَتَى فُقِدَ التَّكَافُؤُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ الَّذِي فِيهِ مَالٌ إِذَا زَالَتِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، أَوْ عُدِمَتْ قَبْلَ السَّبَبِ وَحَدَثَتْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْمُسَبَّبِ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِهَا وَقْتَ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ وَقْتُ الإِْصَابَةِ فِي الْجُرْحِ وَوَقْتُ التَّلَفِ فِي الْمَوْتِ، وَلاَ يُرَاعَى فِيهِ وَقْتُ السَّبَبِ وَهُوَ الرَّمْيُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ خِلاَفًا لأَشْهَبَ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الإْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ هُنَا الْقَتْلَ غِيلَةً، وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: إِلاَّ الْغِيلَةَ - بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ الْقَتْلُ لأِخْذِ الْمَالِ - فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، بَلْ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَوَقْتُ الْمُسَاوَاةِ الْمُشْتَرَطِ عِنْدَهُمْ هُوَ وَقْتُ الْقَتْلِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ.. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُقْتَصُّ مِنْهُ.. لأِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ فَكَانَ الاِعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالِ وُجُوبِهَا دُونَ حَالِ اسْتِيفَائِهَا كَالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لاَ يُقْتَلَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الأْوْزَاعِيِّ.

وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْلُ غِيلَةً وَغَيْرَهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ دُونَ السُّلْطَانِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الإْسْلاَمِ وَالأْمَانِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالأْصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا بِذِمِّيٍّ لِخَبَرِ: «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ».

وَلأِنَّهُ لاَ يُقَادُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالإْجْمَاعِ، فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى.. وَيُقْتَلُ ذِمِّيٌّ بِهِ أَيِ الْمُسْلِمِ لِشَرَفِهِ عَلَيْهِ، وَيُقْتَلُ أَيْضًا بِذِمِّيٍّ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا، وَمُعَاهَدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمَجُوسِيٍّ وَعَكْسُهُ؛ لأِنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّسْخَ شَمِلَ الْجَمِيعَ.

وَالأْظْهَرُ: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِذِمِّيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمُعَاهَدٍ سَوَاءٌ عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الإْسْلاَمِ أَمْ لاَ؛ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ، بَلِ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الذِّمِّيِّ لأِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ. وَالثَّانِي: لاَ يُقْتَلُ بِهِ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الإْسْلاَمِ فِي الْمُرْتَدِّ، وَالأْظْهَرُ أَيْضًا: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِمُرْتَدٍّ لِتَسَاوِيهِمَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، وَالثَّانِي: لاَ؛ لأِنَّ الْمَقْتُولَ مُبَاحُ الدَّمِ، لاَ ذِمِّيٌّ بِمُرْتَدٍّ فِي الأْظْهَرِ، وَالثَّانِي يُقْتَلُ بِهِ أَيْضًا، وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالزَّانِي الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ كَمَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَلاَ يُقْتَلُ زَانٍ مُحْصَنٌ بِهِ لاِخْتِصَاصِهِ بِفَضِيلَةِ الإْسْلاَمِ، وَلِخَبَرِ: «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، وَلاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ وَإِنْ قَلَّ، لقوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَعَبْدُهُ وَعَبْدُ غَيْرِهِ.

وَيُقْتَلُ قِنٌّ وَمُدَبَّرٌ وَمُكَاتَبٌ وَأُمُّ وَلَدٍ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ لِكَافِرٍ وَالْقَاتِلُ لِمُسْلِمٍ لِلتَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ، وَاسْتُثْنِيَ الْمُكَاتَبُ إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لاَ يُقْتَلُ بِهِ كَمَا لاَ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِهِ.

وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَوْ قَتَلَ مِثْلَهُ أَيْ مُبَعَّضًا، سَوَاءٌ ازْدَادَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَقْتُولِ أَمْ لاَ، لاَ قِصَاصَ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ وَجَبَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ أَتَسَاوَيَا أَمْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ فَلاَ قِصَاصَ قَطْعًا؛ لاِنْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ.

وَالْفَضِيلَةُ فِي شَخْصٍ لاَ تُجْبِرُ النَّقْصَ فِيهِ، فَلاَ قِصَاصَ وَاقِعٌ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَحُرٍّ ذِمِّيٍّ؛ لأِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ لاَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَلاَ تُجْبَرُ فَضِيلَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَقِيصَتَهُ.

 

وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ فِي وَصْفَيِ الأْصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الْمُسَاوَاةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَقْتَ الْقَتْلِ، وَهُوَ وَقْتُ انْعِقَادِ سَبَبِ الْقِصَاصِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ، الَّذِي قَتَلَ كَافِرًا مُكَافِئًا لَهُ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ لِتَكَافُئِهِمَا حَالَةَ الْجِنَايَةِ؛ لأِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُقُوبَاتِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَلاَ نَظَرَ لِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ أَوْ نَحْوُهُ ذِمِّيًّا أَوْ نَحْوَهُ وَأَسْلَمَ الْجَارِحُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِسِرَايَةِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لاَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِي الأْصَحِّ، لِلتَّكَافُؤِ حَالَةَ الْجَرْحِ.

د - أَنْ لاَ يَكُونَ الْقَاتِلُ حَرْبِيًّا:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا، حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم  وَالصَّحَابَةِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ عَدَمِ الْقِصَاصِ مِمَّنْ أَسْلَمَ كَوَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ وَلِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ بِمَا هُدِرَ بِهِ دَمُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قِصَاصًا، وَيُقْتَلُ لإِهْدَارِ دَمِهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ الْقَتْلُ وَالْقِصَاصُ. 

هـ - أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُتَعَمِّدًا الْقَتْلَ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَجِبُ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «الْعَمْدُ قَوَدٌ»، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ فِي جِنَايَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْجِنَايَةُ لاَ تَتَنَاهَى إِلاَّ بِالْعَمْدِ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قَتْلُ عَمْدٍ ف 1).

و - أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا:

- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإْكْرَاهَ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْمُكْرَهِ، فَإِذَا قَتَلَ غَيْرَهُ مُكْرَهًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَلَزِمَ الْقِصَاصُ الْمُكْرَهَ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا اخْتِيَارَ الإْيثَارِ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى مُكْرَهٍ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ الأْخْرَى وَهَلْ يَجِبُ  الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؟

فِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19).

أَمَّا الإْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ فَلاَ أَثَرَ لَهُ وَيُقْتَصُّ مَعَهُ مِنَ الْقَاتِلِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19 - 24).

ز - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْتُولُ جُزْءَ الْقَاتِلِ أَوْ مِنْ فُرُوعِهِ:

- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ مُطْلَقًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «لاَ يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ»؛ وَلأِنَّهُ كَانَ سَبَبَ حَيَاتِهِ فَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ، وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ هُنَا كُلُّ الأْصُولِ مِنَ الذُّكُورِ وَالإْنَاثِ مَهْمَا بَعُدُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الأْمُّ وَالْجَدَّاتُ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنَ الأْبِ كُنَّ أَمْ مِنَ الأْمِّ، كَمَا يَدْخُلُ الأْجْدَادُ وَإِنْ عَلَوْا مِنَ الأْبِ كَانُوا أَوْ مِنَ الأْمِّ؛ لِشُمُولِ لَفْظِ الْوَالِدِ لَهُمْ جَمِيعًا.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الأْمَّ تُقْتَلُ بِالاِبْنِ خِلاَفًا لِلأْبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالأْبِ فَلاَ تُقْتَلُ بِالاِبْنِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأْبَ إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ قُتِلَ بِهِ إِذَا كَانَ قَصَدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ وَاضِحًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَضَابِطُهُ أَنْ لاَ يَقْصِدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ، فَإِنْ قَصَدَهُ كَأَنْ يَرْمِيَ عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، أَوْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْقِصَاصُ.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَالِدِ النَّسَبِيِّ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: أَمَّا الْوَالِدُ مِنَ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ مِنَ الرَّضَاعِ لِعَدَمِ الْجُزْئِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

ح - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَمْلُوكًا لِلْقَاتِلِ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ قُتِلَ بِهِ، أَمَّا السَّيِّدُ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً مَمْلُوكَيْنِ لَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ بِهِمَا، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : «لاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدِهِ».

وَمِثْلُ الْمَمْلُوكِ هُنَا مَنْ لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَوْ كَانَ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ؛ لأِنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ.

كَمَا لاَ يُقْتَلُ الْمَوْلَى بِمُدَبَّرِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَمُكَاتَبِهِ؛ لأِنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ حَقِيقَةً.

ط - أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشِرًا:

- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى سَوَاءٍ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ الأْخْرَى.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً، فَلَوْ قَتَلَهُ بِالسَّبَبِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْحَافِرِ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ إِذَا شَهِدَ بِالْقَتْلِ فَاقْتُصَّ مِنَ الْقَاتِلِ بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الشَّهَادَةِ، أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا لِثُبُوتِ حَيَاةِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ عِنْدَهُمْ.

ي - أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ قَدْ حَدَثَ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ:

- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لإِطْلاَقِ الآْيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالأْحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لأِنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مَكَانًا، فَكَانَ كَالْمُحَارِبِ لاَ عِصْمَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ تَاجِرَانِ مُسْلِمَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ أَيْضًا.

ك - الْعُدْوَانُ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَجِبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُدْوَانٌ، وَالْعُدْوَانُ يَعْنِي تَجَاوُزَ الْحَدِّ وَالْحَقِّ، فَإِذَا قَتَلَهُ بِحَقٍّ أَوْ بِإِذْنِ الْقَتِيلِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُخَرَّجُ الْقَتْلُ قِصَاصًا، أَوْ حَدًّا، أَوْ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ، أَوْ دِفَاعًا عَنِ الْمَالِ كَقَتْلِ السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ، أَوْ تَأْدِيبًا، أَوْ تَطْبِيبًا فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الأْحْوَالِ كُلِّهَا لاَ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِذْن ف 39 وَ 58 وَ 60، وَتَأْدِيب ف 11، وَتَطْبِيب ف 7، وَصِيَال ف 6)

ل - أَنْ لاَ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِلِ:

لَوْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِلِ، كَأَنْ وَرِثَ الْقِصَاصَ عَلَيْهِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِلْجُزْئِيَّةِ، لأِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفَرْعُ أَحَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ 

لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ كُلُّهُ؛ لأِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ.

م - أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقِصَاصِ مَعْلُومًا:

- وَهَذَا شَرْطٌ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ مَجْهُولاً لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لأِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبٌ لِلاِسْتِيفَاءِ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ فَتَعَذَّرَ الإْيجَابُ.

ن - أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْقَاتِلِ شَرِيكٌ فِي الْقَتْلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ:

- إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ أَحَدِ الْمُشَارِكِينَ فِي الْقَتْلِ لأِيِّ سَبَبٍ كَانَ غَيْرِ الْعَفْوِ عَنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأِنَّ الْقَتْلَ وَاحِدٌ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ مُوجِبُهُ بِتَغَيُّرِ الْمُشَارِكِينَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَبًا أَوْ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ.. سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ.

أَمَّا إِذَا قَتَلَ اثْنَانِ رَجُلاً، فَعَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ كَالأْوَّلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي.

هَذَا مَا دَامَ الْوَلِيُّ الْعَافِي وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيلِ أَوْلِيَاءٌ فَعَفَا أَحَدُهُمْ، سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلْبَاقِينَ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا قَتَلَ إِنْسَانٌ رَجُلَيْنِ، فَعَفَا وَلِيُّ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، سَقَطَ حَقُّ الأْوَّلِ وَبَقِيَ حَقُّ الثَّانِي فِي الْقِصَاصِ عَلَى حَالِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَعَمَّدَا قَتْلَهُ، أَوِ الْكَبِيرُ فَقَطْ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْكَبِيرِ؛ لاِحْتِمَالِ أَنَّ ضَرْبَ الصَّغِيرِ هُوَ الْقَاتِلُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ أَنَّهُ مَاتَ بِضَرْبِ الْكَبِيرِ، وَيُقْسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ فَيُقْتَلُ الْكَبِيرُ.

وَلاَ قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَهَلْ يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ سَبْعٍ، أَوْ جَارِحٍ نَفْسَهُ جُرْحًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا، أَوْ شَرِيكِ حَرْبِيٍّ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، وَإِلاَّ اقْتُصَّ مِنَ الشَّرِيكِ. أَوْ شَرِيكِ مَرَضٍ، بِأَنْ جَرَحَهُ ثُمَّ مَرِضَ مَرَضًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يُدْرَ أَمَاتَ مِنَ الْجُرْحِ أَمْ مِنَ الْمَرَضِ؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْقِصَاصُ، وَفِي غَيْرِهِ لاَ يُوجَدُ تَرْجِيحٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْقَسَامَةُ وَيَثْبُتُ الْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ، وَكُلُّ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرَضُ قَبْلَ الْجُرْحِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَارِحِ اتِّفَاقًا، وَقَالَ: وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الثَّلاَثُ الأْوَلُ فَالْقَوْلاَنِ فِيهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكٍ مُخْطِئٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَيُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ مَنِ امْتَنَعَ قَوَدُهُ لِمَعْنًى فِيهِ إِذَا تَعَمَّدَا جَمِيعًا، فَلاَ يُقْتَلُ شَرِيكُ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ عَمْدٍ؛ لأِنَّ الزُّهُوقَ حَصَلَ بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُهُ وَالآْخَرُ يَنْفِيهِ، فَغَلَبَ الْمُسْقِطُ.

وَيُقْتَلُ شَرِيكُ الأْبِ فِي قَتْلِ وَلَدِهِ، وَعَلَى الأْبِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً، وَفَارَقَ شَرِيكُ الأْبِ شَرِيكَ الْمُخْطِئِ بِأَنَّ الْخَطَأَ شُبْهَةٌ فِي فِعْلِ الْخَاطِئِ وَالْفِعْلاَنِ مُضَافَانِ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ كَمَا لَوْ صَدَرَا مِنْ وَاحِدٍ، وَشُبْهَةُ الأْبُوَّةِ فِي ذَاتِ الأْبِ لاَ فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَذَاتُ الأْبِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ ذَاتِ الأْجْنَبِيِّ، فَلاَ تُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا، وَكَانَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ أَبًا لِلْقَتِيلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الأْبِ وَحْدَهُ، وَوَجَبَ عَلَى الآْخَرِينَ، لأِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَاتِلٌ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ مُنْفَرِدًا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ قِصَاصَ عَلَى الأْبِ وَلاَ عَلَى شُرَكَائِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ الْقَتْلَ مِنْهُمْ جَمِيعًا، فَلاَ يَخْتَلِفُ وَصْفُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الآْخَرِ، وَمَا دَامَ قَدْ سَقَطَ عَنْ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ.

وَمِثْلُ الأَبِ هُنَا كُلُّ مَنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ فِي السَّبَبِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، كَالذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ، فَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَعَاقِلٌ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمْ جَمِيعًا فِي الأْصَحِّ؛ لأِنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَقَطْ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ.

قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يُقْتَلُونَ بِالْفَرْدِ الَّذِي تَمَّ التَّوَاطُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَتَلَ سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلاً، وَقَالَ: لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوَاطُؤ ف 7).

وَلِيُّ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلاً؛ لأِنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ فَكَانَ الْجَزَاءُ حَقَّهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ، فَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ، انْتَقَلَ الْقِصَاصُ إِلَى الْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الاِشْتِرَاكِ بَيْنَهُمْ، كُلٌّ مِنْهُمْ حَسَبَ حِصَّتِهِ فِي التَّرِكَةِ، يَسْتَوِي فِيهِمُ الْعَاصِبُ وَصَاحِبُ الْفَرْضِ، وَالذَّكَرُ وَالأْنْثَى، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا مَاتَ مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، أَوْ مَاتَ لاَ عَنْ تَرِكَةٍ فَالْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا شَيْئًا؛ لأِنَّ فِيهِمْ قُوَّةَ الإْرْثِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ زَائِدٌ عَنِ الدَّيْنِ لَوَرِثُوهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَاصِ هُوَ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ لاَ يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ، وَيَحْصُلُ لِوَرَثَتِهِ، فَكَانَ حَقًّا لَهُمُ ابْتِدَاءً، وَثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ لاَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِيهِ حَقًّا حَتَّى يَسْقُطَ بِعَفْوِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لِعَصَبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الذُّكُورِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَصَبَةً بِالنَّسَبِ كَالاِبْنِ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَالْوَلاَءِ، فَلاَ دَخْلَ فِيهِ لِزَوْجٍ وَلاَ أَخٍ لأِمٍّ أَوْ جَدٍّ لأِمٍّ، يُقَدَّمُ فِيهِ الاِبْنُ ثُمَّ ابْنُ الاِبْنِ، وَيُقَدَّمُ الأْقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَاتِ عَلَى الأْبْعَدِ، إِلاَّ الْجَدُّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَعَ الإْخْوَةِ بِخِلاَفِ الأْبِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَصَبَةِ هُنَا الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ لاِشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِيهِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهُ عَصَبَتُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ:

الأْوَّلُ: أَنْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، كَالْبِنْتِ وَالأْخْتِ.

وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ، فَإِنْ سَاوَاهُنَّ فَلاَ قِصَاصَ لَهُنَّ، كَالْبِنْتِ مَعَ الاِبْنِ، وَالأْخْتِ مَعَ الأْخِ، فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، وَالْحَقُّ فِيهِ لِلاِبْنِ وَحْدَهُ، وَلِلأْخِ وَحْدَهُ.

وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْوَارِثَةُ مِمَّنْ لَوْ ذُكِّرَتْ عُصِّبَتْ، كَالْبِنْتِ وَالأْخْتِ الشَّقِيقَةِ أَوْ لأِبٍ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ وَالْجَدَّةُ لأِمٍّ وَالأْخْتُ لأِمٍّ.. فَلاَ قِصَاصَ لَهُنَّ مُطْلَقًا.

فَإِذَا كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَارِثٌ مِنَ النِّسَاءِ، وَعَصَبَتُهُ مِنَ الرِّجَالِ أَبْعَدُ مِنْهُنَّ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَهُنَّ وَلِلْعَصَبَةِ الأْبْعَدِ مِنْهُنَّ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الأْوْلِيَاءِ الْمُنْفَرِدِينَ وَالْمُتَعَدِّدِينَ تَوْكِيلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَكَالَةٌ).

وَلِلأْبِ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَنِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِوِلاَيَتِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا غَيْرُ الأْبِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النَّفْسِ كَالأْخِ وَالْعَمِّ فَلَهُ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لأِبِي يُوسُفَ. أَمَّا الْوَصِيُّ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَنِ الْقَاصِرِ الْمَشْمُولِ بِوِصَايَتِهِ؛ لأِنَّ الْوِصَايَةَ عَلَى الْمَالِ فَقَطْ وَلَيْسَ الْقِصَاصُ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لاَ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَمَّنْ يَلِي عَلَيْهِ، أَبًا أَوْ غَيْرَهُ.

فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ وَلاَ عَصَبَةٌ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِوِلاَيَتِهِ الْعَامَّةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ:  لاَ وِلاَيَةَ لِلسُّلْطَانِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: حَقُّ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ.

طَرِيقَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِمِثْلِ الطَّرِيقَةِ وَالآْلَةِ الَّتِي قَتَلَ بِهَا، لقوله تعالى : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقَةُ مُحَرَّمَةً، كَأَنْ يَثْبُتَ الْقَتْلُ بِخَمْرٍ فَيُقْتَصَّ بِالسَّيْفِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِلِوَاطٍ أَوْ بِسِحْرٍ فَيُقْتَصَّ بِالسَّيْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَا فِي الأْصَحِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْخَمْرِ بِإِيجَارِهِ مَائِعًا كَخَلٍّ أَوْ مَاءٍ، وَفِي اللِّوَاطِ بِدَسِّ خَشَبَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ آلَتِهِ وَيُقْتَلُ بِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْعُنُقِ مَهْمَا كَانَتِ الآْلَةُ وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي قَتَلَ بِهَا، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم  «لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ»، وَالْمُرَادُ بِالسَّيْفِ هُنَا السِّلاَحُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ السِّكِّينُ وَالْخَنْجَرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.

- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإْمَامِ فِيهِ لِخَطَرِهِ؛ وَلأِنَّ وُجُوبَهُ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ لاِخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَالاِسْتِيفَاءِ، لَكِنْ يُسَنُّ حُضُورُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ لاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ الْوَلِيُّ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إِذْنِ السُّلْطَانِ جَازَ، وَيُعَزَّرُ لاِفْتِئَاتِهِ عَلَى الإْمَامِ.

اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

يُشْتَرَطُ لاِسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ أَنَّ لَهُ طَلَبَ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءَهُ، فَإِنْ طَلَبَهُ أُجِيبَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ وَاحِدًا أُجِيبَ إِلَيْهِ إِذَا طَلَبَهُ مُطْلَقًا، وَإِذَا كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أُجِيبُوا إِلَيْهِ إِذَا طَلَبُوهُ جَمِيعًا، فَإِذَا أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْقِصَاصُ - كَمَا تَقَدَّمَ -

فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ قَاصِرًا، أَوْ كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ بَعْضُهُمْ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ نَاقِصَ الأْهْلِيَّةِ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي الظَّاهِرِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ الصَّغِيرُ حَتَّى يَكْبَرَ، وَالْمَجْنُونُ حَتَّى يُفِيقَ؛ لأِنَّهُ رُبَّمَا يَعْفُو فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ؛ لأِنَّ الْقِصَاصَ عِنْدَهُمْ يَثْبُتُ لِكُلِّ الْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الاِشْتِرَاكِ؛ وَلأِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي، فَحَقُّهُ التَّفْوِيضُ إِلَى خِيرَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَلاَ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ غَيْرِهِ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُحْبَسُ الْقَاتِلُ حَتَّى الْبُلُوغِ وَالإْفَاقَةِ، وَلاَ يُخَلَّى بِكَفِيلٍ؛ لأِنَّهُ قَدْ يَهْرُبُ فَيَفُوتُ الْحَقُّ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ يَكُونُ لِكَامِلِي الأْهْلِيَّةِ وَحْدَهُمْ حَقُّ طَلَبِ الْقِصَاصِ، لأِنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كَامِلاً - عِنْدَهُ - عَلَى سَبِيلِ الاِسْتِقْلاَلِ، فَإِذَا طَلَبُوهُ أُجِيبُوا إِلَيْهِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالآْخَرِينَ نَاقِصِي الأْهْلِيَّةِ؛ لأِنَّ عَفْوَهُمْ لاَ يَصِحُّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْتَظَرُ صَغِيرٌ لَمْ يَتَوَقَّفِ الثُّبُوتُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُنْتَظَرُ مَجْنُونٌ مُطْبِقٌ لاَ تُعْلَمُ إِفَاقَتُهُ بِخِلاَفِ مَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا فَتُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ.

فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الأْوْلِيَاءِ كَامِلِي الأْهْلِيَّةِ غَائِبًا انْتُظِرَتْ عَوْدَتُهُ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأِنَّ لَهُ الْعَفْوَ فَيَسْقُطُ بِهِ الْقِصَاصُ؛ وَلأِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي كَمَا سَبَقَ.

زَمَانُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

- إِذَا ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِشُرُوطِهِ جَازَ لِلْوَلِيِّ اسْتِيفَاؤُهُ فَوْرًا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ لأِنَّهُ حَقُّهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُعَدُّ مُسْتَحِقًّا لَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا جَرَحَهُ جُرْحًا نَافِذًا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ؛ لأِنَّهُ رُبَّمَا شُفِيَ مِنْ جُرْحِهِ فَلاَ قِصَاصَ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِذَا مَاتَ ثَبَتَ الْقِصَاصُ فَيُسْتَوْفَى فَوْرًا.

وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُعَافًى أَوْ مَرِيضًا، وَسَوَاءٌ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ بَارِدًا أَوْ حَارًّا؛ لأِنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْمَوْتُ، وَلاَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَوْتِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا كَانَ امْرَأَةً حَامِلاً يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ حَتَّى تَلِدَ، حِفَاظًا عَلَى سَلاَمَةِ الْجَنِينِ وَحَقِّهِ فِي الْحَيَاةِ، بَلْ إِنَّهَا تُنْظَرُ إِلَى الْفِطَامِ أَيْضًا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا لإِرْضَاعِهِ، فَإِذَا ادَّعَتِ الْحَمْلُ وَشَكَّ فِي دَعْوَاهَا أُرِيَتِ النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ حَامِلٌ أُجِّلَتْ، ثُمَّ إِنْ ثَبَتَ حَمْلُهَا حُبِسَتْ حَتَّى تَلِدَ وَإِنْ قُلْنَ: غَيْرُ حَامِلٍ اقْتُصَّ مِنْهَا فَوْرًا.

مَكَانُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

لَيْسَ لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مَكَانٌ مُعَيَّنٌ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا الْتَجَأَ الْجَانِي إِلَى الْحَرَمِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَجَّبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ قُتِلَ فِيهِ، فَإِنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ أُخْرِجَ مِنْهُ وَقُتِلَ خَارِجَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُخْرَجُ مِنْهُ وَلاَ يُقْتَلُ فِيهِ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ عَنْهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ بِنَفْسِهِ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ.

هَذَا مَا دَامَتِ الْجِنَايَةُ وَقَعَتْ خَارِجَ الْحَرَمِ فِي الأْصْلِ، فَإِذَا كَانَتْ وَقَعَتْ فِي الْحَرَمِ أَصْلاً، جَازَ الاِقْتِصَاصُ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ وَخَارِجَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. 

مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ:

يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ بِأُمُورٍ، هِيَ:

أ - فَوَاتُ مَحَلِّ الْقِصَاصِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ؛ لأِنَّ الْقَتْلَ لاَ يَرِدُ عَلَى مَيِّتٍ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ قَدْ حَصَلَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ بِقَتْلِ آخَرَ لَهُ بِحَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا إِذَا قَتَلَ الْقَاتِلُ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ مَعَ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ الأْوَّلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي لأِوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الأْوَّلِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ لأِوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الأْوَّلِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ الثَّانِي.

الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:

أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِشُرُوطِهِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأْنْفَ بِالأْنْفِ وَالأْذُنَ بِالأْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .

وَرَوَى أَنَسٌ رضى الله تعالى عنه «أَنَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارَةٍ لَهَا، فَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الأْرْشَ فَأَبَوْا، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ، فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ  لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ قَالَ: فَعَفَا الْقَوْمُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».

وَلأِنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ بِالْقِصَاصِ، فَكَانَ كَالنَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ.

أَسْبَابُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:

لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَسْبَابٌ هِيَ: إِبَانَةُ الأْطْرَافِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الأَطْرَافِ، وَإِذْهَابُ مَعَانِي الأْطْرَافِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا وَالْمَقْصُودُ بِهَا الْمَنَافِعُ، وَالشِّجَاجُ وَهِيَ الْجِرَاحُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَالْجِرَاحُ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 13 - 32) وَمُصْطَلَحِ (جِرَاح ف 8 - 10) وَمُصْطَلَحِ (شِجَاج ف 4 - 11).

شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:

- يُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شُرُوطٌ هِيَ: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عَمْدًا، وَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عُدْوَانًا، وَالتَّكَافُؤُ فِي الدِّينِ، وَالتَّكَافُؤُ فِي الْعَدَدِ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَلِّ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَإِمْكَانُ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 4 - 11).

أَثَرُ السِّرَايَةِ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:

سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لأِنَّهَا أَثَرُ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ مَضْمُونَةٌ وَكَذَلِكَ أَثَرُهَا، ثُمَّ إِنْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ كَأَنْ يَجْرَحَ شَخْصًا عَمْدًا فَصَارَ ذَا فِرَاشٍ (أَيْ مُلاَزِمًا لِفِرَاشِ الْمَرَضِ) حَتَّى يَحْدُثَ الْمَوْتُ، أَوْ سَرَتْ إِلَى مَا لاَ يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالإْتْلاَفِ، كَأَنْ يَجْنِيَ عَلَى عُضْوٍ عَمْدًا فَيَذْهَبُ أَحَدُ الْمَعَانِي كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَنَحْوِهِمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ بِلاَ خِلاَفٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (سِرَايَة ف 4).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الرابع والثلاثون ، الصفحة /  246

كَسْرٌ

التَّعْرِيفُ:

مِنْ مَعَانِي الْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ: قَوْلُهُمْ كَسَرَ الشَّيْءَ: إِذَا هَشَّمَهُ وَفَرَّقَ بَيْنَ أَجْزَائِهِ، وَالْكَسْرُ مِنَ الْحِسَابِ جُزْءٌ غَيْرُ تَامٍّ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَاحِدِ كَالنِّصْفِ وَالْخُمُسِ.

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَالَ الْجُرْجَانِيِّ: الْكَسْرُ فَصْلُ الْجِسْمِ الصُّلْبِ بِدَفْعِ دَافِعٍ قَوِيٍّ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ جِسْمٍ فِيهِ.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْقَطْعُ:

الْقَطْعُ إِبَانَةُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْجِرْمِ مِنْ بَعْضٍ فَصْلاً.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ فَصْلُ الْجِسْمِ بِنُفُوذِ جِسْمٍ آخَرَ فِيهِ. فَالْكَسْرُ أَعَمُّ وَالْقَطْعُ أَخَصُّ.

ب - الْجُرْحُ:

الْجُرْحُ مِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا: أَثَّرَ فِيهِ بِالسِّلاَحِ.

فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْكَسْرِ.

ج - الشَّجَّةُ:

الشَّجَّةُ: الْجُرْحُ فِي الْوَجْهِ، وَالرَّأْسِ خَاصَّةً، وَلاَ يَكُونُ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْجِسْمِ.

فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْكَسْرِ.

الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَسْرِ:

حُكْمُ كَسْرِ الْعَظْمِ:

كَسْرُ عَظْمِ مَحْقُونِ الدَّمِ بِالإْسْلاَمِ أَوِ الذِّمَّةِ أَوِ الْعَهْدِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا مَحْظُورٌ، كَحُرْمَةِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِجْمَاعًا.

مَا يَجِبُ فِي كَسْرِ عَظْمِ الآْدَمِيِّ:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ فِي كَسْرِ السِّنِّ عَمْدًا، إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقِصَاصِ، وَأُمِنَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَكْسُورِ، أَوِ انْقِلاَعِ السِّنِّ، أَوِ اسْوِدَادِ مَا بَقِيَ مِنْهُ، أَوِ احْمِرَارِهِ،  لقوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأْنْفَ بِالأْنْفِ وَالأْذُنَ بِالأْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ)، فَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ مِنَ الزِّيَادَةِ فَلاَ قَوَدَ، وَيَجِبُ فِيهِ الأْرْشُ؛ لأِنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ (ر: أَرْشٌ، ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَاهَا مِنَ الْعِظَامِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ لاَ قَوَدَ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ؛ لِعَدَمِ وُثُوقِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهَا. (ر: قِصَاصٌ).

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجْرِي فِيهَا الْقَوَدُ كَسَائِرِ جِرَاحَاتِ الْجِسْمِ، إِلاَّ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ مِنْهَا، كَعَظْمِ الصَّدْرِ، وَالصُّلْبِ، وَعِظَامِ الْعُنُقِ وَالْفَخِذِ، أَمَّا مَا لاَ خَطَرَ فِي إِجْرَاءِ الْقِصَاصِ فِيهِ فَفِيهِ الْقَوَدُ، كَالزَّنْدَيْنِ، وَالذِّرَاعَيْنِ، وَالْعَضُدَيْنِ، وَالسَّاقَيْنِ، وَنَحْوِهَا.

دِيَةُ كَسْرِ الْعَظْمِ:

 ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ، وَهِيَ مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ أَوِ الْمُحَكَّمُ بِشَرْطِهِ. (ر: حُكُومَةُ عَدْلٍ ف 4).

وَاسْتَثْنَوْا مِنْهَا السِّنَّ، فَفِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ لِلنَّصِّ (ر: سِنٌّ. ف 10).

وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: التَّرْقُوَتَيْنِ، وَالزَّنْدَيْنِ، وَالضِّلْعَ، فَفِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ،  قَالُوا: وَكَانَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وُجُوبَ الْحُكُومَةِ فِي الْعِظَامِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا خَالَفْنَاهُ لآِثَارٍ وَرَدَتْ فِي هَذِهِ الأْعْظُمِ، وَمَا عَدَاهَا يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَيَجِبُ فِي الزَّنْدَيْنِ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ، وَفِي كَسْرِ السَّاقِ بَعِيرَانِ، وَفِي السَّاقَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَفِي الْفَخِذِ بَعِيرَانِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَجِبْ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ قِصَاصٌ، وَبَرِئَ وَعَادَ الْعُضْوُ لِهَيْئِهِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ بَرِئَ وَفِيهِ اعْوِجَاجٌ فَفِيهِ الْحُكُومَةُ، (ر: دِيَاتٌ ف 63 - ف 68، حُكُومَةُ عَدْلٍ ف 4).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الخامس والثلاثون ، الصفحة /  352

أَثَرُ تَغَيُّرِ اللَّوْنِ فِي الْجِنَايَةِ

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ بِتَغَيُّرِ اللَّوْنِ فِي الْجِنَايَةِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ جَنَى عَلَى سِنِّ شَخْصٍ وَلَمْ تُقْلَعْ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ لَوْنُهَا، فَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إِلَى السَّوَادِ أَوْ إِلَى الْحُمْرَةِ أَوْ إِلَى الْخُضْرَةِ فَفِيهَا الأْرْشُ تَامًّا، لأَنَّهُ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، وَذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ بِمَنْزِلَةِ ذَهَابِ الْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إِلَى الصُّفْرَةِ فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ، لأِنَّ الصُّفْرَةَ لاَ تُوجِبُ فَوَاتَ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ نُقْصَانَهَا فَتُوجِبُ حُكُومَةَ الْعَدْلِ، وَقَالَ زُفَرُ فِي الصُّفْرَةِ الأْرْشُ تَامًّا كَمَا فِي السَّوَادِ، لأِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْجَمَالَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الصُّفْرَةُ كَثِيرَةً حَتَّى تَكُونَ عَيْبًا كَعَيْبِ الْحُمْرَةِ وَالْخُضْرَةِ فَفِيهَا عَقْلُهَا تَامًّا، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَهُمْ جَمِيعًا، وَلَوْ سَقَطَتِ السِّنُّ بِالْجِنَايَةِ فَنَبَتَتْ مَكَانَهَا سِنٌّ أُخْرَى مُتَغَيِّرَةٌ بِأَنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ خَضْرَاءَ أَوْ صَفْرَاءَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَتَغَيَّرَتْ بِالضَّرْبَةِ لأِنَّ النَّابِتَ قَامَ مَقَامَ الذَّاهِبِ، فَكَأَنَّ الأْولَى قَائِمَةً وَتَغَيَّرَتْ.

وَالظُّفُرُ إِذَا جَنَى عَلَيْهِ شَخْصٌ فَقَلَعَهُ فَنَبَتَ مَكَانَهُ ظُفُرٌ آخَرُ: فَإِنْ نَبَتَ أَسْوَدَ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِمَا أَصَابَ مِنَ الأْلَمِ بِالْجِرَاحَةِ الأْولَى.

وَلَوْ حَلَقَ شَخْصٌ رَأْسَ رَجُلٍ شَعَرُهُ أَسْوَدُ فَنَبَتَ الشَّعَرُ أَبْيَضَ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّعَرِ الزِّينَةُ، وَالزِّينَةُ مُعْتَبَرَةٌ فَلاَ يَقُومُ النَّابِتُ مَقَامَ الْفَائِتِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ شَيْءَ فِيهِ، لأَِنَّ الشَّيْبَ لَيْسَ بِعَيْبٍ، بَلْ هُوَ جَمَالٌ وَكَمَالٌ فَلاَ يَجِبُ بِهِ أَرْشٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ جَنَى عَلَى سِنٍّ وَكَانَتْ بَيْضَاءَ فَتَغَيَّرَ لَوْنُهَا إِلَى السَّوَادِ فَفِيهَا خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ وَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهَا إِلَى الْحُمْرَةِ أَوْ إِلَى الصُّفْرَةِ فَإِنْ كَانَتِ الْحُمْرَةُ أَوِ الصُّفْرَةُ كَالسَّوَادِ فِي إِذْهَابِ الْجَمَالِ فَفِيهَا خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ كَالتَّغَيُّرِ إِلَى السَّوَادِ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْحُمْرَةُ أَوِ الصُّفْرَةُ كَالسَّوَادِ فِي إِذْهَابِ الْجَمَالِ فَفِيهَا بِحِسَابِ مَا نَقَصَ، وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنِ اصْفَرَّتِ السِّنُّ فَفِيهَا بِقَدْرِ شَيْنِهَا لاَ يَكْمُلُ عَقْلُهَا حَتَّى تَسْوَدَّ لاَ بِتَغَيُّرِهَا، وَقَالَ أَصْبَغُ: فِي اخْضِرَارِهَا أَكْثَرُ مِمَّا فِي احْمِرَارِهَا وَفِي احْمِرَارِهَا أَكْثَرُ مِمَّا فِي اصْفِرَارِهَا.

وَمَنْ أَطْعَمَتْ زَوْجُهَا مَا اسْوَدَّ بِهِ لَوْنُهُ فَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَيْهَا الدِّيَةُ قِيَاسًا عَلَى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ تَسْوِيدِ السِّنِّ، وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِنَّ هُنَاكَ فَارِقًا بَيْنَ الأْمْرَيْنِ، وَذَلِكَ لأِنَّ الشَّأْنَ فِي السِّنِّ الْبَيَاضُ وَأَمَّا الآْدَمِيُّ فَفِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ الأْسْوَدُ.

وَمَنْ ضَرَبَ إِنْسَانًا أَوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلاً اسْوَدَّ بِهِ جَسَدُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ غَيْرَ أَسْوَدَ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَرَصِ فَفِيهِ الدِّيَةُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ ضَرَبَ شَخْصٌ سِنَّ غَيْرِهِ فَاصْفَرَّتْ أَوِ احْمَرَّتْ وَجَبَتْ فِيهَا الْحُكُومَةُ لأِنَّ مَنَافِعَهَا بَاقِيَةٌ، وَإِنَّمَا نَقَصَ بَعْضُ جَمَالِهَا، فَوَجَبَ فِيهَا الْحُكُومَةُ، فَإِنْ ضَرَبَهَا فَاسْوَدَّتْ فَقَدْ قَالُوا فِي مَوْضِعٍ: تَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ، وَقَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: تَجِبُ الدِّيَةُ، وَلَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلاَفِ حَالَيْنِ، فَالَّذِي قَالَ تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ إِذَا ذَهَبَتِ الْمَنْفَعَةُ، وَالَّذِي قَالَ تَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ إِذَا لَمْ تَذْهَبِ الْمَنْفَعَةُ.

وَذَكَرَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتَارَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الطَّرِيقُ الأْوَّلُ.

وَإِنْ قَلَعَ شَخْصٌ سِنَّ غَيْرِهِ فَنَبَتَ مَكَانَهَا سِنٌّ صَفْرَاءُ أَوْ خَضْرَاءُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْحُكُومَةُ لَنَقَصَانِ الْكَمَالِ وَإِنْ لَطَمَ رَجُلاً أَوْ لَكَمَهُ أَوْ ضَرَبَهُ بِمُثَقَّلٍ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ أَثَرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَرْشٌ لأِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ نَقْصٌ فِي جَمَالٍ وَلاَ مَنْفَعَةٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَرْشٌ، وَإِنْ حَصَلَ بِهِ شَيْنٌ بِأَنِ اسْوَدَّ أَوِ اخْضَرَّ وَجَبَتْ فِيهِ الْحُكُومَةُ لِمَا حَصَلَ بِهِ مِنَ الشَّيْنِ، فَإِنْ قَضَى فِيهِ بِالْحُكُومَةِ ثُمَّ زَالَ الشَّيْنُ سَقَطَتِ الْحُكُومَةُ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنٍ فَابْيَضَّتْ ثُمَّ زَالَ الْبَيَاضُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنِ اعْتَدَى عَلَى غَيْرِهِ فَقَلَعَ ظُفُرَهُ فَعَادَ أَسْوَدَ فَفِيهِ خَمْسٌ دِيَةُ الأْصْبُعِ نَصًّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: فِي تَسْوِيدِ سِنٍّ وَظُفُرٍ وَتَسْوِيدِ أَنْفٍ وَتَسْوِيدِ أُذُنٍ بِحَيْثُ لاَ يَزُولُ التَّسْوِيدُ دِيَةُ ذَلِكَ الْعُضْوِ كَامِلَةً لإِذْهَابِ جَمَالِهِ.

لَكِنِ ابْنُ قُدَامَةَ فَصَّلَ فِي تَسْوِيدِ السِّنِّ فَقَالَ: حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: تَجِبُ دِيَتُهَا كَامِلَةً وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَشُرَيْحٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَالنَّخَعِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ، لأَِنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ فَكَمَلَتْ دِيَتُهَا.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ أَذْهَبَ مَنْفَعَتَهَا مِنَ الْمَضْغِ عَلَيْهَا وَنَحْوِهِ فَفِيهَا دِيَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ نَفْعُهَا فَفِيهَا حُكُومَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي.

أَمَّا إِنِ اصْفَرَّتِ السِّنُّ أَوِ احْمَرَّتْ لَمْ تَكْتَمِلْ دِيَتُهَا، لأِنَّهُ لَمْ يَذْهَبِ الْجَمَالُ عَلَى الْكَمَالِ وَفِيهَا حُكُومَةٌ، وَإِنِ اخْضَرَّتِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَتَسْوِيدِهَا لأِنَّهُ يَذْهَبُ بِجَمَالِهَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لاَ يَجِبَ فِيهَا إِلاَّ حُكُومَةٌ، لأِنَّ ذَهَابَ جَمَالِهَا بِتَسْوِيدِهَا أَكْثَرُ فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ غَيْرُهُ كَمَا لَوْ حَمَّرَهَا.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: مَنْ جَنَى عَلَى سِنٍّ صَغِيرٍ فَقَلَعَهُ وَلَمْ يَعُدْ، أَوْ عَادَ أَسْوَدَ وَاسْتَمَرَّ أَسْوَدَ، أَوْ عَادَ أَبْيَضَ ثُمَّ اسْوَدَّ بِلاَ عِلَّةٍ فَفِيهَا خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، وَإِنْ عَادَ السِّنُّ أَبْيَضَ ثُمَّ اسْوَدَّ لِعِلَّةٍ فَفِيهَا حُكُومَةٌ لأَِنَّهَا أَرْشُ كُلِّ مَا لاَ مُقَدَّرَ فِيهِ.

وَمَنْ ضَرَبَ وَجْهَ إِنْسَانٍ فَاسْوَدَّ الْوَجْهُ وَلَمْ يَزُلْ سَوَادُهُ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ، لأِنَّهُ فَوَّتَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ فَضَمِنَهُ بِدِيَتِهِ كَقَطْعِ أُذُنِ الأْصَمِّ، وَإِنْ زَالَ السَّوَادُ يَرُدُّ مَا أَخَذَهُ لِزَوَالِ سَبَبِ الضَّمَانِ، وَإِنْ زَالَ بَعْضُهُ وَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ وَرَدَّ الْبَاقِيَ.

وَإِنْ صَارَ الْوَجْهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ فَفِيهِ حُكُومَةٌ كَمَا لَوْ سَوَّدَ بَعْضَهُ، لأِنَّهُ لَمْ يُذْهِبِ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ.