1 ـ لما كانت المادة 245 من قانون العقوبات تنص على انه " لا عقوبة مطلقا على من قتل غيره أو اصابه بجراح أو ضربه أثناء استعماله حق الدفاع الشرعى عن نفسه أو ماله أو عن نفس غيره أو ماله .
(الطعن رقم 20066 لسنة 60 جلسة 1992/04/09 س 43 ع 1 ص 381 ق 56)
2 ـ لما كان الحكم المطعون فيه بيَّن واقعة الدعوى وقيام حالة الدفاع الشرعى عن النفس فى حق المطعون ضده فى قوله : بعد أن أورد مبادئ قانونية " ...... ولما كان ذلك ، وكان الثابت للمحكمة من أقوال المتهم .... ونجلته .... والشاهدة ..... ومن تحريات مباحث شرطة... التى أجراها النقيب ..... وما جاء بتقرير إدارة المعمل الجنائي بمديرية أمن ... وتقرير الصفة التشريحية للمجنى عليه والتقرير الطبى الشرعى للمتهم وكذا من ظروف الدعوى ومادياتها وملابساتها أنه فى صباح يوم الحادث ... حدثت مشادة كلامية بين المتهم .... -المطعون ضده - وزوجته .... وبين المجنى عليه .... بسبب قيام المتهم بهدم سور صغير أقامه المجنى عليه يفصل بين سكنهما وقامت الجيران وقتذاك بفض المشاجرة فتوعد المجنى عليه المتهم وبيت النية على قتله ، سيما وأنه يعتقد بأن المتهم هو السبب فى إفساد العلاقة الأسرية بينه وبين زوجته ، فأعد لذلك سلاحاً نارياً " فرد " ومطواة وتوجه مساء ذات اليوم وحوالى الساعة الحادية عشر مساءً إلى مسكن المتهم وطرق بابه ففتحت له نجلة المتهم ... البالغة من العمر ثمانى سنوات ، وما أن شاهدت المجنى عليه يحمل سلاحاً " فرد " ومطواة فى يده حتى أسرعت وأبلغت والدها المتهم بما شاهدته حيث خرج لاستطلاع الأمر ، وعندما اقترب من باب مسكنه فوجئ بالمجنى عليه يطلق عليه عياراً نارياً من الفرد الذى كان معه استقر بالحائط ولم يصبه ثم عاجله بضربه فى بطنه بالمطواة التى كانت معه ، فسقط وأثناء سقوطه أمسك المتهم بحديدة كانت موجودة فوق عداد الكهرباء بجوار باب المسكن وضرب بها المجنى عليه عدة ضربات فى أجزاء متفرقة من جسمه ثم سقط بعدها على الأرض إلا أن المجنى عليه استمر فى الاعتداء عليه بظهر السلاح الذى يحمله على رأسه وعلى ذراعه الأيمن وترك المطواة مغروسة فى بطنه وتوجه إلى زوجته .... فى غرفتها عندما سمعها تستغيث لنجدة زوجها وقام بالاعتداء عليها بجسم الفرد على رأسها بينما ظل المتهم ساقطاً على الأرض أمام باب مسكنه من الداخل وعقب ذلك خرج المجنى عليه من غرفة النوم قاصداً مغادرة المسكن فشاهد المتهم مازال على الأرض ساقطاً ولم يفارق الحياة فقام بركله بقدمه فى بطنه ، إلا أنه اختل توازنه وسقط بجوار المتهم على الأرض وعندئذ قام المتهم بانتزاع المطواة من بطنه وضرب بها المجنى عليه بيسار ظهره فأحدث به تهتك بالأحشاء الصدرية ، مما أدى إلى وفاته ، وترتيباً لما سلف فإن المتهم - المطعون ضده - كان فى ظرف يُواجه خطراً غير مشروع يهدد حياته وأسرته من جانب المجنى عليه يؤكد ذلك اتهام النيابة العامة للمجنى عليه فى الشروع فى قتل المتهم عمداً مع سبق الإصرار ، فكان لزاماً على المتهم والحال كذلك أن يدفع هذا العدوان الواقع عليه وعلى أسرته ومن ثم يكون المتهم قد استعمل حقاً مشروعاً ولا عقاب على فعله هذا عملاً بالمادة 245 من قانون العقوبات مما يتعين معه القضاء ببراءته مما نسب إليه .. " . لما كان ذلك ، وكان يبين من هذا الذى أورده الحكم أن المطعون ضده كان فى حالة دفاع شرعى عن النفس إذ فوجئ بالمجنى عليه يحضر إلى مسكنه ليلاً ويبدأ فى الاعتداء بأن أطلق صوبه عياراً من سلاح نارى كان يحرزه ، فلما لم يصبه ، عاجله بطعنه بمطواة ، وظل يضربه بظهر السلاح النارى على رأسه وذراعه الأيمن ، وهو عين ما فعله مع زوجته ، ولما تنبه إلى أنه - وهو مسجى على الأرض والمطواة لاتزال مغروسة فى بطنه - لا يزال على قيد الحياة ، ركله بقدمه فى الموضع ذاته ، وهى أفعال يتخوف أن يحدث منها الموت أو جراح بالغة ، وهذا التخوف مبنى على أسباب معقولة تبرر رد الاعتداء بالوسيلة التى تصل إلى يد المدافع . وكان من المقرر أن قيام حالة الدفاع الشرعى لا يستلزم استمرار المجنى عليه فى الاعتداء على المتهم ، وكان تقدير ظروف الدفاع الشرعى ومقتضياته أمر اعتبارى يجب أن يتجه وجهة شخصية تراعى فيه مختلف الظروف الدقيقة التى أحاطت بالمدافع وقت رد العدوان مما لا يصح معه محاسبته على مقتضى التفكير الهادئ البعيد عن تلك الملابسات، وكان تقدير الوقائع التى تستنتج منها حالة الدفاع الشرعى أو انتفاؤها متعلق بموضوع الدعوى ، لمحكمة الموضوع الفصل فيه مادام استدلالها سليماً لا عيب فيه ويؤدى إلى ما انتهت إليه ، وكانت وقائع الدعوى كما أثبتها الحكم - على النحو المار بيانه - تدل على أن المطعون ضده كان فى حالة دفاع شرعى عن النفس ، فإن ما انتهى إليه الحكم المطعون فيه من قضاء ببراءته - ترتيباً على ذلك - يكون سائغاً ومتفقاً وصحيح القانون .
(الطعن رقم 11048 لسنة 68 جلسة 2008/03/23)
3 ـ لما كان من المقرر أن الدفاع الشرعي هو استعمال القوة اللازمة لرد الاعتداء وتقدير التناسب بين تلك القوة وبين الاعتداء الذي يهدد المدافع لتقرير ما إذا كان المدافع قد التزم حدود الدفاع الشرعي فلا جريمة فيما أتاه طبقاً لنص المادة 245 من قانون العقوبات أم أنه تعدى حدوده بنية سليمة فيعامل بمقتضى المادة 251 من هذا القانون. إنما هو من الأمور الموضوعية البحتة التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها - وفق الوقائع المعروضة عليها - بغير معقب ما دامت النتيجة التي انتهت إليها تتفق منطقياً مع المقدمات والوقائع التي أثبتتها فى حكمها، وإذ كان ما أثبته الحكم فيما تقدم بيانه من أن الطاعن أخرج مسدسه من جيبه وأطلق عيارين ناريين على أفراد فريق المجني عليهما الذين كانوا يحملون العصي من شأنه أن يؤدي إلى ما ارتآه الحكم من أن الوسيلة التي سلكها الطاعن لرد الاعتداء الواقع على غيره من أفراد فريق المجني عليهما لم تكن لتتناسب مع هذا الاعتداء بل إنها زادت عن الحد الضروري والقدر اللازم لرده فإن هذا حسب الحكم لاعتبار الطاعن قد تعدى بنية سليمة حدود حق الدفاع الشرعي ومن ثم فإن ما يعيبه الطاعن على الحكم من قصور وخطأ فى تطبيق القانون لا يعدو فى حقيقته أن يكون جدلاً فى تحصيل محكمة الموضوع فهم الواقع فى الدعوى فى حدود سلطتها التقديرية وفي ضوء الفهم الصحيح للقانون وهو ما لا تقبل إثارته أمام محكمة النقض.
(الطعن رقم 4074 لسنة 56 جلسة 1986/11/20 س 37 ع 1 ص 950 ق 180)
4 ـ من المقرر أن تقدير القوة اللازمة لرد الاعتداء، لتقرير ما إذا كان المدافع قد التزم حدود الدفاع الشرعي فلا جريمة فيما أتاه طبقاً لنص المادة 245 من قانون العقوبات، أم أنه تعدى حدوده - بنية سليمة - فيعامل بمقتضى المادة 251 من هذا القانون، إنما هو من الأمور الموضوعية البحت التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها - وفق الوقائع المعروضة عليها - بغير معقب، ما دامت النتيجة التي انتهت إليها تتفق منطقياً مع المقدمات والوقائع التي أثبتتها فى حكمها. وإذ كان ما أثبته الحكم من أن الطاعن طعن المجني عليهما بالمدية فى أكثر من موضع بأكثر من طعنه رغم أنهما لم يكونا يحملان أية أسلحة من أي نوع - من شأنه أن يؤدي إلى ما ارتآه الحكم من أن الوسيلة التي سلكها الطاعن لرد الاعتداء الواقع عليه من المجني عليهما لم تكن لتتناسب مع هذا الاعتداء بل إنها زادت عن الحد الضروري والقدر اللازم لرده، فإن هذا حسب الحكم لاعتبار الطاعن قد تعدى - بنية سليمة - حدود حق الدفاع الشرعي، ومن ثم فإن ما يعيبه الطاعن على الحكم من قصور لا يعدو - فى حقيقته - أن يكون جدلاً فى تحصيل محكمة الموضوع فهم الواقع فى الدعوى فى حدود سلطتها التقديرية وفي ضوء الفهم الصحيح للقانون، وهو ما لا تقبل إثارته أمام محكمة النقض.
(الطعن رقم 778 لسنة 47 جلسة 1977/12/18 س 28 ع 1 ص 1062 ق 215)
5 ـ من المقرر أن تقدير الوقائع المؤدية إلى قيام حالة الدفاع الشرعي أو إلى انتفائها وتقدير القوة اللازمة لرد الاعتداء - لتقرير ما إذا كان المدافع قد التزم حدود هذا الدفاع فلا جريمة فيما أتاه طبقاً لنص المادة 245 من قانون العقوبات، أم أنه تعدى حدوده بنية سليمة فيعامل بمقتضى المادة 251 من هذا القانون، كل ذلك من الأمور الموضوعية البحت، التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها - وفق الوقائع المعروضة عليها - بغير معقب، ما دامت النتيجة التي انتهت إليها تتفق منطقياً مع المقدمات والوقائع التي أثبتتها فى حكمها، وإذ كان البين من مدونات الحكم المطعون فيه أن المحكمة قد أحاطت بواقعة الدعوى وألمت بكافة الظروف والملابسات التي كانت الطاعنة محفوفة بها وقت وقوعها - عن بصر وبصيرة، وكانت الأدلة التي استند الحكم إليها من شأنها أن تؤدي إلى ما رتبه عليها من اعتبار الطاعنة قد تعدت بنية سليمة حدود حق الدفاع الشرعي عن المال أثناء استعمالها إياه، تأسيساً على أن الوسيلة التي سلكتها - بطعنها المجني عليها بالسكين فى صدرها - لم تكن لتتناسب، فى تلك الظروف والملابسات، مع الاعتداء الواقع - نهاراً - على حيازتها الفعلية للشقة التي تسكنها، بما فى ذلك قيام المجني عليها بجذبها لمحاولة إخراجها منها، بل أنها زادت عن الحد الضروري والقدر اللازم لرد هذا الاعتداء، فإن ما تعيبه الطاعنة على الحكم لا يعدو - فى حقيقته - أن يكون مجادلة فى تحصيل محكمة الموضوع فهم الواقع فى الدعوى فى حدود سلطتها التقديرية وفي ضوء الفهم الصحيح للقانون، وهو ما لا تجوز إثارته أمام محكمة النقض.
(الطعن رقم 1056 لسنة 46 جلسة 1977/01/30 س 28 ع 1 ص 138 ق 30)
6 ـ الأصل أن تقدير الوقائع التي يستنتج منها قيام حالة الدفاع الشرعي أو انتفاؤها بموضوع الدعوى و لمحكمة الموضوع الفصل فيها بلا معقب ما دام استدلالها سليماً و يؤدى إلى ما انتهت ، و لما كان يبين من الحكم المطعون فيه أنه عرض لدفاع الطاعن المبنى على أنه كان فى حالة دفاع شرعي عن مال البنك الذي يقوم على حراسته و أطرحه بقوله : " إن المادة 245 من قانون العقوبات لا ترى المحكمة و بحق مجالاً لتطبيقها فى نطاق هذه الدعوى لأن مناط تطبيق هذه المادة أن يكون قد وقع فعل إيجابي يخشى منه وقوع جريمة من الجرائم التي يجوز فيها الدفاع الشرعي سواء وقع الاعتداء بالفعل أو بدر من المجني عليه بادرة اعتداء يجعل المتهم يعتقد لأسباب معقولة وجود خطر حال على نفسه أو ماله أو نفس غيره أو ماله ، أما أن يكون المجني عليه قد تخلى عن الغرارة التي كان قد حملها و حاول الفرار من الشونة متخذاً طريق خروجه من فتحة السلك التي بسور الشونة منبطحاً على بطنه فيطلق عليه المتهم عياره الناري الذي لا شك أنه موقن أنه لن يصيبه إلا فى مقتل لأن الوضع الذي كان عليه المجني عليه عند خروجه من الكوة التي بالسلك بسور الشونة لا تسمح إلا بمثل الإصابات القاتلة التي تحدثت عنها الصفة التشريحية و قد قال المتهم نفسه إنه ماله و لإطلاق أعيرة بقصد الإرهاب إنما هو أراد فريسته و هو المجني عليه فكأنه أراده حياً أو ميتاً مع العلم بأن الدفاع الشرعي لم يشرع للقصاص و الانتقام و إنما شرع لمنع الاعتداء و أن هذا الاعتداء قد عدل عنه المجني عليه و ترك ما ينوى سرقته " . فإن هذا الذي أورده الحكم فيما تقدم سائغ و يكفى لتبرير ما انتهى إليه من انتفاء حالة الدفاع الشرعي.
(الطعن رقم 925 لسنة 42 جلسة 1972/11/19 س 23 ع 3 ص 1216 ق 274)
7- ذكر المتهم بالتحقيقات وبالجلسة أنه كان بمسكنه فى فجر ليلة الحادث واسترعى انتباهه مرور دراجة بخارية يقودها ... ... ... وبعد فترة وجيزة طرق سمعه صوت كسر قفل فأطل ثانية حيث شاهد المجني عليه أمام باب متجر ... ... ... المواجه لمسكنه وعن يمينه ويساره آخران يبادلانه الإشارات وكان أحدهما يحمل بندقية، واعتقادا منه أن صاحبي المجني عليه هما ... ... ... و... ... ... اللذان قضي ببراءتهما من جناية شروع فى سرقة لعدم كفاية الأدلة وثلاثتهم من الأشقياء المعروفين، خشي أن يواجههم واستغاث فكان جوابه إطفاء نور الشارع حيث ساد الظلام المكان، وإذ اعتقد أن ذلك من تدبيرهم بهدف إنجاز السرقة أطلق من مسدسه المرخص به أربع مقذوفات صوب مكان الحادث دفاعاً عن المال، فأصاب المجني عليه مقذوفان منها وأوديا بحياته ولاذ زميلاه بالفرار. تتحقق به حالة الدفاع الشرعي وأن المتهم وهو محفوف بهذه الظروف والملابسات، وترعده فى ظلمة الفجر مواجهة ثلاثة من اللصوص مدججين بالسلاح، يكون محقاً فيما خالط نفسه واعتقده، وما بدر منه للحيلولة دون السرقة وردهم عنها بإطلاق الأعيرة النارية صوبهم دفاعاً عن المال حتى بالقتل العمد غير معاقب عليه حسبما تقضي به المادتان 245، 250/2 من قانون العقوبات، إذ أن ما قارفه المجني عليه وزميلاه هو جناية الشروع فى السرقة المعاقب عليها بالمادة 316ع.
(الطعن رقم 657 لسنة 47 جلسة 1978/03/20 س 29 ع 1 ص 305 ق 57)
الدفاع الشرعي
الدفاع الشرعي هو استعمال القوة اللازمة لصد خطر حال غير مشروع يهدد بالإيذاء حقاً يحميه القانون، ويتضح بذلك أن الشارع لا يلزم من يتهدده الخطر بأن يتحمله ثم يبلغ السلطات العامة لتتولى توقيع العقاب على المعتدي ، ولكنه يبيح له أن يتولى بنفسه دفع الخطر عن طريق كل فعل يكون ضرورياً وملائماً لذلك ؛ ودفع الخطر يكون بالحيلولة بين المعتدي والبدء في عدوانه أو الاستمرار فيه إن بدأه فعلاً .
والدفاع الشرعي سبب إباحة ، وليس هدفه الاجتماعي تخويل المعتدى عليه سلطة توقيع العقاب على المعتدى أو الإنتقام منه ، وإنما هدفه مجرد وقاية الحق الخطر الذي يتعرض له ، أي منع ارتكاب الجرائم أو منع التمادي فيها .
والدفاع الشرعي حق ، وهو ليس حقاً مالياً شخصياً ، إذ لا يفترض وجود مدين يقتضي منه صاحب الحق حقه ، وإنما هو حق عام يقرره الشارع في مواجهة الكافة ، ويقابله التزام الناس باحترامه وعدم وضع العوائق في طريق استعماله ولذلك يعد غير مشروع كل فعل يعوق ذلك الاستعمال ، بل أن المعتدي لو قاوم أفعال الدفاع - طالما كانت في حدود الحق - فمقاومته غير مشروعة ، لأنها اعتداء على الحق الذي يقرره القانون : ومن الفقهاء من يرون أن الدفاع الشرعي واجب ، وهم لا يعنون بذلك أنه واجب قانوني ، إذ لا يترتب على عدم الوفاء به جزاء ، وإنما يعنون بذلك أنه واجب اجتماعي يفرضه الحرص على صيانة الحقوق ذات الأهمية الاجتماعية .
وإذا كان الدفاع الشرعي يبيح أفعال الدفاع ، فهو لا يمس الصفة غير المشروعة لأفعال الاعتداء ، فيظل المعتدي - على الرغم مما ناله من إيذاء أثناء استعمال حق الدفاع - مسئولاً عن جريمته .
العلاقة بين الدفاع الشرعي وحالة الضرورة :
يفترض الدفاع الشرعي التهديد بخطر ثم دفعه عن طريق فعل يمس حق الغير ، وتفترض حالة الضرورة الوضع نفسه ، ولذلك يقول كثير من الفقهاء أن الدفاع الشرعي نوع من الضرورة ولكن الدفاع الشرعي يتميز عن حالة الضرورة بتكييفه القانوني ، ويختلف عنها في بعض شروطه :
فالدفاع الشرعي سبب إباحة ؛ أما حالة الضرورة فهي - في القانون المصرى - مجرد مانع من المسئولية ويعني ذلك أن فعل المدافع مشروع ، ولكن فعل من يوجد في حالة ضرورة غير مشروع وإن امتنعت مسئولية مرتكبه ؛ وعلى هذا النحو كان الدفاع الشرعي صورة ممتازة من صور الضرورة ويرجع هذا الفارق إلى كون الخطر في الدفاع الشرعي صادراً عن فعل غير مشروع في حين لا يصدر عن مثل هذا الفعل في حالة الضرورة ، فقد يكون ناشئاً عن قوى الطبيعة أو عن فعل لم يجرمه القانون ؛ ومن ثم كان المدافع صاحب حق في أن يدفع الجريمة التي تهدده ، إذ المعتدى أولى بأن ترتد إليه الآثار الضارة لفعله أما من يوجد في حالة ضرورة ، فليس له حق في أن يتخلص من الخطر عن طريق وضع شخص برىء فيه ، فإن فعل فمسلكه غير مشروع ، ولكن يلتمس له العذر فتمتنع مسئوليته عنه ؛ فحق المعتدى عليه يفوق - من حيث القيمة الاجتماعية - حق المعتدي ، ولكن الحقين يتساويان في حالة الضرورة وبالإضافة إلى ذلك ، فثمة فروق أخرى بين الوضعين : فالدفاع الشرعي يباح دفاعاً عن النفس والمال في حين لا محل لحالة الضرورة إلا إذا هدد الخطر النفس ويستوي في الدفاع الشرعي الخطر الجسيم والخطر غير الجسيم في حين يشترط في حالة الضرورة أن يكون الخطر جسيماً ولا يلتزم المدافع بالهرب ، في حين يتعين عليه ذلك إن كان الوسيلة للتخلص من الخطر الذي نشأت به حالة الضرورة .
تتضمن دراسة الدفاع الشرعى بیان شروطه ، وتحديد القيود التي يحصر الشارع فيها نطاقه ، وبيان أثره إذا توافرت شروطه وانحصر في نطاقه ، وفي النهاية تتناول الدراسة البحث في حكم تجاوز حدود الدفاع الشرعي .
شروط الدفاع الشرعي
تقسيم: يفترض الدفاع الشرعي فعلاً يهدد بخطر وفعلاً يواجه هذا الخطر ليصده . ويتطلب القانون شروطاً في كل منهما .
الشروط المتطلبة في الخطر
نعتقد أن الشروط التي يتطلبها القانون إنما يتطلبها في الخطر الذي يهدد المعتدى عليه، لا في الفعل الذي يصدر عنه هذا الخطر، ذلك أن فعل الدفاع يتجه إلى الخطر ليصده ، والهدف الاجتماعي للدفاع هو منع هذا الخطر من أن يتحول إلى اعتداء فعلى أما فعل الاعتداء ، فالفرض فيه أنه ارتكب فليس في الوسع إزالته ، وليس من حق المضرور منه أن ينتقم من مرتكبه ، إنما كل ما له أن يتقي خطره ، وبالإضافة إلى ذلك ، فالشروط التي يتطلبها القانون تنصرف إلى الخطر وتصدق عليه أكثر مما تتصرف إلى الفعل الذي نشأ عنه الخطر.
تعريف الخطر: الخطر اعتداء محتمل ، أي أنه اعتداء لم يتحقق ، ولكن تحققه منتظر وفق السير العادي للأمور ، ويستهدف الدفاع التعديل من هذا السير حتى لا يتحول الخطر إلى اعتداء ويستوي ألا يتحقق الاعتداء على الإطلاق أو أن يتحقق في جزء منه ، فالخطر قائم في الحالتين والدفاع منصور أما إذا تحقق الاعتداء كله فلا محل للدفاع .
فإذا لم يكن ثمة خطر على الإطلاق ، لأنه لم يرتكب فعل أو ارتكب فعل لا يهدد بخطر ، فلا محل للدفاع .
ويتوسع القانون في تحديد الخطر الذي يقوم به الدفاع الشرعي ،، فیستوی خطر يهدد المدافع نفسه وخطر يهدد غيره ويعني ذلك أن الشارع يبيح لكل شخص أن يدافع عن حقوقه ، كما يبيح له أن يدافع عن حقوق غيره ولا يتطلب القانون صلة تربط بين من يصدر عنه فعل الدفاع وصاحب الحق المعتدى عليه والدفاع جائز عن النفس وعن المال والدفاع جائز سواء أكان الخطر جسيماً أم كان غير جسيم وقد صرح القانون بذلك ، فقررت المادة 245 من قانون العقوبات أنه «لا عقوبة مطلقاً على من قتل غيره أو إصابة بجراح أو ضربة أثناء استعمال حق الدفاع الشرعي عن نفسه أو ماله أو نفس غيره أو ماله » .
والأصل أن ينشأ الخطر عن فعل إيجابي ، وبعض الحالات لا يتصور الخطر فيها ما لم يرتكب هذا الفعل ، ولكن يتصور في بعض الحالات نشوء الخطر عن امتناع ، كالأم تمتنع عن إرضاع طفلها ليهلك ، فيكون من الجائز إرغامها على الإرضاع ، أو على الأقل الالتجاء إلى الوسيلة الملائمة لإنقاذ الطفل من الهلاك وغنى عن البيان أنه لا يعتد بالخطر الناشىء عن الامتناع إلا إذا توافرت فيه الشروط التي يتطلبها القانون .
استخلاص شروط الخطر: يتطلب القانون في الخطر توافر الشروط التالية : كونه غير مشروع ، وتهديده بجريمة ضد النفس أو ضد المال مما يحدده الشارع على سبيل الحصر ، وكونه خطراً حالاً .
1- كون الخطر غير مشروع
الضابط في اعتبار الخطر غير مشروع : يعد الخطر غير مشروع إذا كان يهدد باعتداء على حق يحميه الشارع الجنائي ، أي كان يهدد بتحقق نتيجة إجرامية معينة، فمن يعمل السلاح في جسم غريمه ينشىء بفعله خطراً يهدد حق المجني عليه في الحياة ، وهو حق يحميه الشارع الجنائي ، ويهدد بتحقق الوفاة ، وهي نتيجة إجرامية تقوم بها جريمة القتل ، ولذلك يعد الخطر الذي ينشئه هذا الفعل خطراً غير مشروع ولكن ليس بشرط کی يكون الخطر غير مشروع أن يبلغ الفعل المنشيء له حد استعمال السلاح في جسم المجنى عليه ، فمجرد توجيه السلاح إلى جسمه أو التهديد به ، بل أن مجرد حمله في ظروف تجعل استعماله في الاعتداء على الحياة محتملاً ، كل هذه أفعال تنشئ خطراً غير مشروع على الحق في الحياة وتطبيقاً للضابط نفسه ، فإن توجيه الجاني قبضة يده إلى وجه المجني عليه وإن لم يصبه فعل ينشىء خطراً مهددا للحق في سلامة الجسم ، وهو لذلك خطر غير مشروع .
ومن ذلك يتضح أن الصفة غير المشروعة لا تسبغ على الفعل في ذاته ، فقد يكون مجرد عمل تحضيري لا عقاب عليه في ذاته ، أو مجرد شروع في جريمة لا يعاقب القانون على الشروع فيها ، ولكنه مع ذلك ينشئ خطراً يهدد حقاً يحميه القانون ، فيعد الخطر غير مشروع وإن كان الفعل في ذاته مشروعاً .
فالضابط في اعتبار الخطر غير مشروع يقتضي التساؤل عن النتيجة التي يحتمل أن يحققها ، والتأكد من أنه يتمثل فيها الاعتداء على حق يحميه القانون ، ويعني ذلك أن هذا الضابط يقوم على عناصر موضوعية خالصة ، إذ لا يقتضي غير دخول الاعتداء المحتمل في نطاق أحد نصوص التجريم ولا يعتمد هذا الضابط على عناصر شخصية ، فليس بشرط أن يكون المعتدي آهلاً للمسئولية الجنائية أو مستحقاً للعقاب أو عالماً بالضفة غير المشروعة للخطر الذي ينشؤه فعله .
وقد عبر القانون عن هذا الشرط بلفظ الجريمة (المادة 246 من قانون العقوبات) ، ولكنه لا يعني بذلك أن تقوم بفعل المعتدى جريمة مستجمعة كل أركانها ، بما في ذلك ركنها المعنوي ؛ وإنما يعني بالجريمة تكييفاً قانونياً منصباً على الاعتداء المحتمل ، والاعتداء المحتمل هو بعينه الخطر الحال .
أهمية هذا الضابط في تحديد نطاق الدفاع الشرعي : تترتب على اعتبار الصفة غير المشروعة للخطر شرطا للدفاع الشرعي نتيجتان : الأولى ، أنه لا محل للدفاع الشرعي إذا كان الخطر مشروعاً ؛ والثانية ، جواز الاحتجاج بالدفاع الشرعي ضد كل خطر غير مشروع فالنتيجة الأولى تعني أنه لا محل للدفاع الشرعي إذا كان الفعل المنشيء للخطر خاضعا السبب إباحة ، فكان الخطر تبعاً لذلك مشروعاً والنتيجة الثانية تعني جواز الاحتجاج بالدفاع الشرعي ضد كل خطر غير مشروع ، ولو كان من أنشأه يستفيد من سبب لامتناع المسئولية أو من سبب لامتناع العقاب أو من عذر قانونی .
إذا توافر سبب الإباحة انتفى الدفاع الشرعي : إذا كان فعل المعتدى خاضعاً لسبب إباحة فكان الخطر الناشىء عنه مشروعاً ، فلا يجوز لمن يهدده هذا الخطر أن يستعمل العنف لدرئه محتجا بالدفاع الشرعي ، ذلك أن كون الخطر مشروعاً يعني أن القانون يلزم من يتعرض له بأن يتحمله ، فلا يكون محل لأن يسمح له بالتخلص منه ، فإن صدر عنه عنف في سبيل ذلك ففعله غير مشروع .. وتطبيقاً لذلك ، فإن من يتعرض لأفعال ضرب يرتكبها أبوه في حدود حق التأديب لا يعتبر في حالة دفاع شرعي إذا قاوم هذه الأفعال ؛ ومن يتعرض لفعل صادر عن موظف عام في حدود ما يقضي به القانون لا يعد مستعملاً حق الدفاع الشرعي حين يقاومه ، مثال ذلك من يتعرض لتنفيذ أمر بالقبض أو التفتيش تتوافر فيه كل الشروط المتطلبة قانوناً، ومن يتعرض لتنفيذ حكم بالإعدام واجب التنفيذ وتطبيقاً لذلك ، فإن المتهم المتلبس بالجريمة لا يعد في حالة دفاع شرعي إذا أطلق النار على من يتعقبه القبض عليه ؛ والمحبوس طبقاً للقانون ليس له أن يحتج بالدفاع الشرعي إذا اعتدى على من يقوم بتنفيذ القانون ليتخلص من الحبس وتطبيقاً للقاعدة نفسها ، فإن من يصدر عنه اعتداء يصير به المعتدى عليه في حالة دفاع شرعي لا يجوز له أن يحتج بدوره بالدفاع الشرعي إذا قاوم الأفعال الصادرة من المعتدى عليه في حدود حقه ، فلا دفاع ضد الدفاع .
ولكن الصفة غير المشروعة لا تعد منتفية إلا إذا التزم مرتكب الفعل شروط الإباحة وقيودها ، فإن تخلف شرط أو جاوزت الإباحة حدودها ، فالفعل غير مشروع والدفاع الشرعی جائز ضده في القدر الذي يتصف فيه خطر الفعل بأنه غير مشروع، فإذا ارتكب «أ» أفعال اعتداء ضد «ب»، نقاومها متجاوزاً حدود حقه في الدفاع الشرعي ، فإن «أ» يعد في حالة دفاع شرعي حينما يقاوم «ب» في الحدود التي تجاوزت فيها أفعاله نطاق حقه في الدفاع فصارت بذلك غير مشروعة.
ويذهب رأي إلى القول بأن المعتدى لا يتصور اعتباره في حالة دفاع شرعي ولو جاوز المعتدى عليه حدود حقه ، ذلك أنه قد وضع نفسه بخطئه في الظروف التي يتعرض فيها للخطر ؛ وبالإضافة إلى ذلك فإن دفاعه غير لازم لدرء الخطر ، إذ كان في وسعه أن يتفاداه ابتداء بألا يعتدي على غيره وهذا الرأي غير صحيح فهو يضيف إلى شروط الدفاع الشرعي شرطا لم يتطلبه القانون ، إذ ليس من هذه الشروط ألا تكون للمدافع يد في حلول الخطر به ، ولذلك كان لمن استفز غيره أن يحتج بالدفاع الشرعي إذا ترتب على استفزازه أن ارتكب خصمه أفعالاً تهدده بالخطر ؛ ثم إن المنطق لا يقبل أن من هدد غيره بضرب بسيط أو بسرقة أشياء تافهة القيمة يفقد حقه في الدفاع الشرعي إذا صدرت عن المجني عليه أفعال تهدده بالموت وفي النهاية ، نلاحظ أنه ليس بصحيح القول بأن فعل الدفاع غير لازم لدرء الاعتداء ، لأنه كان في وسع المدافع ألا يعتدي على غيره ، ذلك أن شرط اللزوم ينظر إليه بعد نشوء الخطر ، ويفترض التساؤل عما إذا كانت لدي المدافع وسيلة أخرى لدرئه ؛ أما قبل نشوء الخطر فلا محل للبحث في هذا الشرط .
يتوافر الدفاع الشرعي ولو كان المعتدي غير مسئول جنائياً : قدمنا أن الضابط في وصف الخطر بأنه غير مشروع هو ضابط موضوعی بحت ، إذ لا يقتضي غير التحقق من أن الاعتداء المحتمل هو نتيجة إجرامية يتمثل فيها الاعتداء على حق يحميه القانون ويعني ذلك أنه إذا اعتبر الخطر غير مشروع وفقا لهذا الضابط ، فلا عبرة بكون من ارتكب الفعل المنشئ له قد توافر لديه مانع من المسئولية الجنائية وتطبيقاً لذلك ، فمن يتعرض لاعتداء صادر من مجنون أو صغير لم يبلغ الثانية عشرة أو من مكره يستطيع أن يحتج بالدفاع الشرعي حينما يقاوم بالعنف الخطر الذي يتهدده والحجة التي يعتمد عليها هذا الرأي أن انعدام المشروعية فكرة موضوعية لا تعتمد - في الأصل - على عناصر شخصية ، وهي متميزة عن الأهلية للمسئولية الجنائية .
ويذهب رأي إلى القول بأن من يتعرض لاعتداء شخص غير مسئول جنائياً لا يكون له أن يحتج بالدفاع الشرعي ، وإنما يسعه أن يحتج بحالة الضرورة وحجة هذا الرأي أن فعل غير المسئول لا يوصف بأنه غير مشروع؛ وبالإضافة إلى ذلك ، فإن القانون يصف الاعتداء بأنه « جريمة » ، ولا محل لهذا الوصف إذا انتفى ركنها المعنوي لأن من ارتكب الفعل غير مسئول وهذا الرأي محل للنقد فليس صحيحاً القول بأن فعل غير المسئول لا يوصف بأنه غير مشروع ، ذلك أن عدم المشروعية فكرة موضوعية ضابطها الخضوع لنص تجريم وعدم الخضوع السبب إباحة ، ومن ثم لم تكن متوقفة على أهلية الجانى للمسئولية وإذا كان القانون يصف الاعتداء بأنه جريمة ، فإن كل ما يعنيه هو اكتسابه وصفاً إجرامياً ، أي وصفاً غير مشروع، وهو ما يتصور توافره بالنسبة لفعل غير المسئول وهذا الرأي يمكن قبوله لو كان الدفاع الشرعي نوعاً من العقاب ينزله المدافع بالمعتدى ، إذ يكون من المنطق اشتراط أهليته کی يكون جديراً بالعقاب ؛ ولكن الدفاع ليس عقاباً ، ومن ثم لا يكون محل لاشتراط هذه الأهلية وإذا كان الدفاع مجرد وقاية لحق يحميه القانون ، فيكفي أن يكون صاحب الحق غير ملزم طبقاً للقانون بتحمل الاعتداء ، ويتحقق ذلك بغير شك حينما يكون مصدر الخطر شخصا غير مسئول وفي النهاية ، نلاحظ أن حالة الضرورة لا تجدى المعتدى عليه حينما يكون الخطر المهدد للنفس غير جسيم أو حينما يهدد الخطر المال ، في حين أن الدفاع الشرعي يجديه في هاتين الحالتين .
يتوافر الدفاع الشرعي ولو كان المعتدي يستفيد من غير قانوني : إذا كان المعتدي يستفيد من عذر قانونی ، فمعنى ذلك أن فعله غير مشروع وأن القانون يعاقبه ، وإن كان يلتمس له سببا للتخفيف : فالزوج إذا فاجأ زوجته متلبسة بالزنا فحاول قتلها في الحال هي ومن يزني بها ، كان فعله غير مشروع وكان معاقباً من أجله (المادة 237 من قانون العقوبات) ؛ ونتيجة لذلك كان للزوجة وشريكها الاحتجاج بالدفاع الشرعي إذا قاوما الزوج .
دفع خطر الحيوان :
إذا استخدم الحيوان كأداة للاعتداء ، كما لو أطلق شخص على عدوه كلباً ، فلا محل للتردد في الاعتراف لمن يهدده هذا : الخطر بأنه في حالة دفاع شرعى ، ذلك أن فعل الاعتداء لا ينسب إلي الحيوان ، وإنما ينسب إلى محرضه ، وشأن الحيوان شأن أية أداة تستعمل في الاعتداء ، ويعني ذلك أن الفعل غير مشروع والخطر الناشىء عنه غير مشروع كذلك ، ومن ثم كان الدفاع الشرعي ضده جائزاً .
ولكن تدق المشكلة حينما يتعرض شخص لخطر حیوان دون أن يكون ذلك نتيجة تحريض أحد : هل يجوز للمهدد بالخطر أن يحتج بالدفاع الشرعي إذا قتل الحيوان أو أضر به (المواد 355 - 357 من قانون العقوبات) يحول دون القول بذلك أن هجوم الحيوان والخطر الناجم عنه لا يوصفان بعدم المشروعية ، لأن هذا الوصف إنما يكون نتيجة لتطبيق قواعد القانون ، وهذه القواعد لا تطبق على غير أفعال الإنسان ، ومن ثم استحال أن يوصف ذلك الخطر بأنه غير مشروع ، فلا يكون محل للدفاع الشرعي في مواجهته وغنى عن البيان أنه يجوز للمهدد بالخطر أن يحتج بحالة الضرورة إذا توافرت شروطها ، وهي لا تتطلب كون الخطر غير مشروع ، ولكنها تتطلب كونه جسيماً مهدداً للنفس دون المال يغلب ألا يكون المهدد بالخطر في حاجة إلى الاحتجاج بحالة الضرورة ، إذ لا تتوافر أركان جريمة قتل الحيوانات أو الإضرار بها إلا إذا كان ذلك بغير مقتض ، وغنى عن البيان أنه إذا كان القتل أو الإضرار لتفادي خطر ، فقد توافر المقتضي وانتفى أحد أركان الجريمة ، « ويشترط في الضرورة الملجئة للقتل أن يكون الحيوان المقتول قد كان خطراً على نفس إنسان أو ماله وأن تكون قيمة ذلك الحيوان ليست شيئاً مذكوراً بجانب الضرر الذي حصل اتقاؤه بقتله وأن يكون الخطر الذي استوجب القتل قد كان خطراً عائقاً وقت القتل وما كان يمكن اتقاؤه بوسيلة أخرى »، والاحتجاج بتوافر المقتضى يجعل المتهم في وضع أفضل مما لو احتج بحالة الضرورة ، إذ يتوافر المقتضي ولو هدد خطر الحيوان المال في حين لا تتوافر بذلك حالة الضرورة .
الخطر الوهمي :
قد يعتقد شخص أنه مهدد بخطر، فيأتي أفعال دفاع ثم يتبين أن هذا الخطر لم يكن له وجود وأن اعتقاده كان وهما ، فهل يجوز الاحتجاج بالدفاع الشرعي لإباحة أفعاله مثال ذلك أن يبصر المتهم شخصاً مقبلاً نحوه في الظلام وبيده شيء يخاله سلاحاً موجهاً إليه فيعالجه باطلاق الرصاص عليه فيجرحه أو يقتله ثم يتبين بعد ذلك أن هذا الشخص صديق للمتهم ، وأن ما يحمله لم يكن سلاحاً وإنما أداة لا ضرر منها يبدو أن القانون يعتد بالخطر الوهمي ، والدليل على ذلك قوله - في تحديد الأفعال التي تبيح القتل العمد دفاعاً عن النفس أو المال - « فعل يتخوف أن يحدث منه الموت أو جراح بالغة إذا كان لهذا التخوف أسباب معقولة » (المادتان 249، 250 من قانون العقوبات)، ويعني ذلك أنه لا يشترط كون الفعل من شأنه إحداث الموت أو الجراح البالغة ، وإنما يكفي مجرد التخوف من أن يكون له هذا الشأن وقد سلم القضاء بذلك ، فقرر في أحكام عديدة ، أنه يصح القول بقيام حالة الدفاع الشرعي ولو كان الاعتداء وهمياً ، متى كانت الظروف والملابسات تلقي في روع المدافع أن هناك اعتداءً جدياً وحقيقياً موجهاً إليه ، وكل ما يشترط للاعتداد بالخطر الوهمي أن يكون الاعتقاد بقيامه مستنداً إلى أسباب معقولة .
وهذا الرأي محل للنقد : ذلك أن أسباب الإباحة ذات طبيعة موضوعية ، ويقتضي ذلك أن تتوافر حقيقة حتى تنتج أثرها ، ولا يغني عن توافرها مجرد توهم ذلك ، وإذا قلنا إن أسباب الإباحة يتعين أن تتوافر حقيقة ، فإن ذلك يعني أن كل شروطها ينبغي أن تكون مجتمعة ، وإذا كان القانون يستلزم الخطر كشرط لقيام الدفاع الشرعي ، فمقتضى ذلك أن الخطر ينبغي أن يوجد فعلاً ، فإن كان وهمياً فمعنى ذلك أنه لا وجود له إلا في مخيلة المدافع ؛ فإن ثبت على هذا النحو انتفاؤه ، فلا محل للقول بقيام الدفاع الشرعي ولكن هذا الاعتقاد يعني وجود غلط منصب على الوقائع التي يقوم الدفاع الشرعي عليها ، وهذا الغلط ينفي القصد الجنائي ، وإذا بنى الاعتقاد على أسباب معقولة فهو ينفي الخطأ غير العمدي كذلك ، فلا يكون محل للمسئولية الجنائية ، وإن كان الفعل في ذاته غير مشروع والخطر الوهمي صورة «للغلط في الإباحة » ، وقد سبق بيان حكمها .
كون الخطر حالاً
لا محل للدفاع إلا إذا كان الخطر حالاً ، ذلك أنه الدفاع يستهدف وقاية حق يحميه القانون من خطر لا يسع السلطات العامة أن تدرأه عنه ، والوقاية تفترض أن الخطر لم يتحول بعد إلى اعتداء كامل ، لأنه إذا تحقق الاعتداء فليس للوقاية محل وكون السلطات العامة لا تستطيع درء الخطر يفترض أن الاعتداء وشيك ، إذ في هذا الفرض وحده لا يكون الوقت متسعا للتدخل على نحو فعال .
متى يكون الخطر حالاً يكون الخطر حالاً في إحدى صورتين : الأولى ، حيث يكون الاعتداء لم يبدأ بعد ، ولكنه على وشك أن يبدأ والثانية ، حيث يكون الاعتداء قد بدأ فعلاً ، ولكنه لم ينته بعد في الصورة الأولى يتجه الدفاع إلى منع المعتدي من البدء في عدوانه ؛ وفی الصورة الثانية يتجه إلى منع المعتدي من الاستمرار في عدوانه .
وحصر حلول الخطر في الحالتين السابقتين يعني استبعاده في الحالتين الآتيتين : حيث يكون الخطر مستقبلاً ؛ وحيث يكون الاعتداء قد تحقق فعلاً .
الخطر الوشيك : يفترض الخطر الوشيك أن الاعتداء لم يبدأ بعد ، ولكن صدرت عن المعتدي أفعال تجعل من المنتظر - وفق السير العادي للأمور - أن يبتدئ الاعتداء على الفور ويتضح بذلك أن الشارع لا يلزم المهدد بالخطر أن ينتظر ابتداء الاعتداء عليه حتى يباح له الدفاع ، بل يجيز له الدفاع بمجرد أن يتهدده الخطر الوشيك ؛ ويعني ذلك أن الحلول صفة في الخطر لا في الاعتداء وتطبيقاً لذلك ، فإنه إذا هدد شخص آخر بالقتل ثم أخرج مسدسه غير المعبأ وأخذ يعبئه بالطلقات ، فالمهدد بهذا الخطر يجوز له الدفاع ، على الرغم من أن الاعتداء لم يبدأ بعد، إذ أن الخطر الذي يهدده حال .
وإذا لم يكن الخطر وشيكا فهو مستقبل ، ولا ينشأ به الحق في الدفاع الشرعي ، مثال ذلك أن يهدد شخص آخر بأنه سيقتله بعد أسبوع ؛ ذلك أن الخطر المستقبل غیر محقق ، فقد لا يتحقق على الإطلاق ، ثم أن في الوسع الإلتجاء إلى حماية السلطات العامة .
ولتحديد ما إذا كان الخطر وشيكاً أو مستقبلاً يتعين افتراض شخص معتاد أحاطت به ظروف المهدد بالخطر والتساؤل عن كيفية تقديره له : هل يراه وشيكاً أم مستقبلاً ؟ فالمعيار موضوعي في أصله ، إذ قوامه الشخص المعتاد ، ولكنه يطبق بالنظر إلى ظروف واقعية معينة : فهو موضوعی حتى نتجنب التقدير المنحرف للمهدد بالخطر ، وهو واقعي لأنه لا يجوز إغفال الظروف التي أثرت على تفكير المهدد بالخطر .
الاعتداء الذي لم ينته بعد : تفترض هذه الصورة للخطر الحال أن الاعتداء قد بدأ فعلاً ولكنه لم ينته بعد ، فمازال بعض الخطر - خطر القدر من الاعتداء الذي لم ينزل بعد بالحق - قائماً ، وهو خطر حال : فالمعتدي قد ضرب المجني عليه مرة وتأهب ليوجه إليه ضربات تالية ، أو استولى على بعض ما يملكه واستعد للاستيلاء على أشياء أخرى ؛ فالدفاع بغير شك جائز لتفادي الخطر الذي يوشك أن يتحقق .
فإذا انتهى الاعتداء وتحقق كل الخطر الذي يهدد الحق انتفت عنه صفة الحلول فلا يكون للدفاع الشرعي محل ، إذ لن يدرأ خطراً ، وكل عنف يصدر عن المجنى عليه أو غيره لن يكون غير انتقام محظور على الأفراد وتطبيقاً لذلك ، فإن اعتدى شخص على آخر بالضرب ثم فر ، فتبعه المجني عليه حتى لحق به وضربه ، فلا يسعه الاحتجاج بالدفاع الشرعي.. ولا محل كذلك للدفاع الشرعي إذا استطاع المعتدى عليه انتزاع سلاح المعتدى فصار أعزل لا يصدر عنه خطر ولا محل له كذلك إذا فر الجاني متخلياً عن المسروقات ؛ أو هرب بعد أن وضع النار في المكان الذي يريد إحراقه .
والضابط في انتهاء الاعتداء هو إتمام الجاني الأفعال التي يريد ارتكابها وتحقق النتيجة الإجرامية بحيث لا يكون في وسع المعتدى عليه أن يحول دون تحققها أو إزدياد جسامتها والتحقق من انتهاء الاعتداء يقتضي الرجوع إلى الأحكام الخاصة بالجريمة لتحديد نتيجتها والتأكد من اتخاذها صورة نهائية مستقرة، فإذا كانت الجريمة قتلاً فالاعتداء يعد منتهيا بوفاة المجني عليه ؛ وإذا كانت حريقاً فالاعتداء ينتهي بمجرد وضع النار في الأماكن المراد إحراقها ؛ وإذا كانت سرقة فالاعتداء لا ينتهي إلا إذا أخرج الجاني الشيء من حيازة المجنى عليه ثم أدخله في حيازته بحيث يصبح المجنى عليه عاجزاً عن مباشرة سلطات الحيازة وتغدو هذه السلطات للجاني وحده، وتطبيقاً لذلك ، فإنه إذا وضع السارق يده على الشيء ثم حاول الخروج به من منزل المجني عليه أو تعرض لمقاومته فحاول التخلص منها ، فإن الاعتداء يعد غير منته حتى يستطيع الجاني مغادرة منزل المجني عليه أو يستطيع التغلب على المقاومة التي يتعرض لها، ويعني ذلك أن للمجنى عليه الاحتجاج بالدفاع الشرعي إذا ارتكب أفعال العنف ضد السارق قبل أن ينتهي الاعتداء على النحو السابق .
ولإنتهاء الاعتداء صورة ثانية ، حيث يقف نشاط الجاني سواء بإرادته أو جبراً عنه ، فلا يكون انتهاء الاعتداء رهنا بتحقق الركن المادي الجريمة كاملاً ، كما لو أطلق المعتدي عياراً نارياً لم يصب المجنى عليه ثم كف عن الاستمرار في نشاطه فلم يطلق عياراً ثانياً، سواء أكان ذلك اختياراً أم حال بينه وبين ذلك سبب خارج عن إرادته، وغني عن البيان أنه يتعين الاعتداد بتفكير المعتدى عليه وتصوره ، فإذا وقف النشاط الإجرامي ولكن المعتدى عليه اعتقد بناءً على أسباب معقولة أنه لم يقف ، فأتى أفعال العنف الدرء الخطر الذي توقعه فلا مسئولية عليه، وإذا كانت الجريمة مستمرة كحبس شخص دون حق ؛ أو كانت متتابعة كتوجيه ضربات متعاقبة إلى شخص ، فإن الاعتداء لا ينتهي إلا إذا انقضت حالة الاستمرار أو ارتكب الجاني آخر الأفعال المتتابعة .
الشروط المتطلبة في فعل الدفاع
يفترض الدفاع الشرعي إتيان المعتدى عليه فعلاً يدرأ به عن الحق الخطر الذي يهدده ؛ ويتوسع القانون في تحديد أفعال الدفاع ، ولكنه لا يطلق هذا التوسع ، بل يضع له الحدود التي تتمثل في صورة شروط يتطلبها فيه ونبين أولا مظاهر التوسع ثم نستخلص الشروط المتطلبة .
نوع أفعال الدفاع افترض الشارع أن الدفاع يكون عن طريق أفعال القتل أو الضرب أو الجرح ، فالمادة 245 من قانون العقوبات تقرر أنه «لا عقوبة مطلقاً على من قتل غيره أو أصابه بجراح أو ضربة أثناء استعماله حق الدفاع الشرعي ... »، ولكن الشارع لا يعني بذلك أن الدفاع محظور عن طريق أفعال أخرى : ذلك أنه قد أشار إلى الوضع الغالب ، إذ أن القتل أو الجرح أو الضرب هو الصورة المعتادة للدفاع ، ومن ثم لا يكون الشارع بالنص السابق مستبعداً ما عدا هذه الأفعال، وبالإضافة إلى ذلك ، فإنه إذا كان الشارع يسمح بهذه الأفعال الخطيرة ، فإنه من باب أولى يسمح بالأفعال الأقل خطراً وعلى هذا النحو ، فكل فعل يصلح لدرء الخطر بعد فعل دفاع ، ويباح إن توافرت له الشروط المتطلبة في القانون : فيجوز الدفاع عن طريق قتل الدابة التي يعتليها المعتدی ، أو تحطيم السلاح الذي يستعمله ، أو تمزيق ملابسه ، أو حبسه الوقت اللازم للاستعانة برجال السلطات العامة .
الدفاع عن طريق الامتناع :
الأصل في الدفاع أن يكون فعلاً إيجابياً ، ولكنه قد يكون دفاعاً سلبياً بحتاً ، كأن يتلقى المعتدى عليه الضربات على درع يحتمي به ، فيؤدي ذلك إلى تحطيم الأداة المستعملة في الضرب وقد يكون هجوماً مضاداً ، كأن يضرب المدافع المعتدي حتى يصرفه عن الاستمرار في عدوانه والإباحة في الحالتين لا تثير شكاً وقد يكون الدفاع عن طريق الامتناع إذا تعين وسيلة لدرء الخطر ، كما إذا اعتدى شخص على آخر فهاجمه كلب المعتدى عليه ، فتركه هذا الأخير حتى أصاب المعتدي بجروح .
الدفاع عن طريق الوسائل الآلية:
قد يلجأ صاحب الحق إلى وسائل تعمل تلقائياً فتصيب بالأذى من يحاول الاعتداء على حقه ، مثال ذلك أن يضع فخاً في حديقته يطبق على من يدخل فيها أو آلة في خزانته تنطلق منها النار على من يفتحها ، ويلحق بذلك استعانته بحيوان (كلب مثلاً) مدرب على مهاجمة من يقتحمون مسكنه ، فهل يجوز له الاحتجاج بالدفاع الشرعي إذا ما قتل من حاول الاعتداء على حقه أو أصيب بجراح ؟
لا شك في إباحة الدفاع عن طريق الوسائل الآلية إذا توافرت جميع شروط الدفاع الشرعي ، ومن أهمها ألا تعمل هذه الوسائل إلا إذا حل الخطر بالحق ، وأن يكون الأذى الذي تحدثه داخلاً في حدود الدفاع ، أي متناسباً مع الخطر فإذا انتفت هذه الشروط ، قامت المسئولية الجنائية طبقاً للقواعد العامة ، كما لو عملت الآلة دون أن يهدد الحق خطر، أو أحدثت أذي لا يتناسب مع الخطر .
هل يتطلب القانون نية الدفاع
هل يشترط لإباحة فعل الدفاع أن يكون المدافع مستهدفاً مجرد وقاية حقه من الخطر الذي يتهدده ؟ لو تطلب الدفاع لا ستتبع ذلك القول بأنه إذا لم يعلم المدافع بأن ثمة خطراً يتهدده فكان مبتغياً بفعله الاعتداء على حق غيره ثم ثبت أن هذا الفعل قد درأ عنه خطراً فلا يكون محل للاحتجاج بالدفاع الشرعي ، مثال ذلك أن يطلق شخص النار على عدوه فيقتله ، ثم يثبت أن هذا العدو كان متربصاً للقاتل متأهباً لإطلاق النار عليه ، وأنه إذا لم يقتله لتعرض للقتل .
نعتقد أن القانون لا يتطلب نية الدفاع : ذلك أن أسباب الإباحة ذات طبيعة موضوعية ، فإن توافرت لها شروطها ، أنتجت أثرها ، دون الاعتداد بالحالة النفسية لمن يستفيد منها ونرى من باب أولى ، أنه لا يحول دون الاحتجاج بالدفاع الشرعي أن تتوافر لدى المدافع - إلى جانب نية الدفاع - نية أخرى ، كما لو ابتغى وقاية حقه ، وابتغي في الوقت ذاته التخلص من عدوه .
استخلاص الشروط المتطلبة في فعل الدفاع : يتطلب القانون توافر شرطين في فعل الدفاع : الأول ، أن يكون لازماً، والثاني أن يكون متناسباً مع جسامة الخطر .
لزوم الدفاع
تمهيد : من الواضح أنه إذا كان المدافع يستطيع التخلص من الخطر الذي يهدد حقه عن طريق فعل لا يعد جريمة ، فإنه لا يباح له الإقدام على الفعل الذي تقوم به الجريمة؛ ذلك أن إتيان هذا الفعل ليس لازماً لدرء الخطر ، إذ كان ممكناً حماية الحق دون مساس بحق سواه واشتراط لزوم الدفاع ينطوي في الواقع على شرطين : الأول ، ثبوت أن المدافع لم يكن يستطيع التخلص من الخطر بغير الفعل الذي ارتكبه ؛ والثاني ، ثبوت اتجاه فعل الدفاع إلى مصدر الخطر .
کون المدافع لا يستطيع التخلص من الخطر بغير الفعل الذي ارتكبه : بديهي أن يكون من شروط الدفاع الشرعي كون الفعل الذي ارتكبه المدافع هو الوسيلة المتعينة لدرء الخطر ويثير البحث في هذا الشرط مشكلتين : الأولى ، هل استطاعة الركون إلى الاحتماء بالسلطات العامة تحول دون الاحتجاج بالدفاع الشرعي ؟ والثانية ، هل استطاعة الهرب من المعتدي تحول دون إباحة فعل الدفاع ؟
کون المدافع لا يستطيع التخلص من الخطر بغير الفعل الذي ارتكبه :
تنص المادة 247 من قانون العقوبات على أنه «ليس لهذا الحق وجود متى كان من الممكن الركون في الوقت المناسب إلى الاحتماء برجال السلطة العمومية »، ويعني ذلك أن استطاعة الاستعانة بالسلطات العامة لوقاية الحق المهدد تحول دون إباحة فعل الدفاع، ويتضح بذلك أن للدفاع الشرعي صفة احتياطية ، باعتباره لا محل له إلا عند عجز السلطات العامة عن حماية الحق.
ولكن استطاعة الركون إلى الاحتماء بالسلطات العامة ليست حائلاً دون الاحتجاج بالدفاع الشرعي إلا إذا كان ذلك الركون ممكناً في الوقت المناسب ، أي كان « هناك من ظروف الزمن وغيره ما يسمح بالرجوع إلى هذه السلطات قبل وقوع الاعتداء بالفعل »، أي قبل بدء الاعتداء أما إذا كان الركون إلى هذه السلطات غير متاح قبل وقوع الاعتداء ، فإن الحق في الدفاع الشرعي يظل قائماً في كل نطاقه.
استطاعة الهرب : إذا كان في وسع المهدد بالخطر أن ينجو بحقه عن طريق الهرب ، ولكنه فضل الصمود ومواجهة الخطر بأفعال الدفاع الملائمة ، فهل يكون له الاحتجاج بالدفاع الشرعي ؟ القاعدة أن له ذلك : فالدفاع حق ، والهرب مشين لأنه يدل على الجبن ، ولا يجبر صاحب حق على النزول عنه والالتجاء إلى مسلك يشينه .
ولكن الهرب قد يكون في بعض الظروف غير مشين ، ومحل ذلك أن تبرره اعتبارات تنفي عنه دلالته على الجبن وفي هذه الحالة يتعين على المهدد بالخطر أن يلجأ إليه ويحظر عليه استعمال العنف ضد المعتدي وايذاؤه في حقوقه ، إذ لم يعد الدفاع لازماً ولم تعد الوسيلة التي تصون الحق بدلاً عنه مشينة ؛ مثال ذلك أن يتعرض شخص لاعتداء صادر عن مجنون أو عن طفل أو صادر عن أب أو أم، إذ لا يكون في الهرب ما يصم بالجبن .
اتجاه فعل الدفاع إلى مصدر الخطر: لا محل لإباحة فعل الدفاع إلا إذا وجه إلى مصدر الخطر کی يكفل التخلص منه ؛ أما إذا ترك المعتدی عليه مصدر الخطر يهدده ووجه فعله إلى شخص أو شيء لا يصدر الخطر عنه ، فلا محل لاحتجاجه بالدفاع الشرعي ، لأن الفعل غير ذي جدوى في التخلص من الخطر ، فهو غير لازم لذلك : فمن يهاجمه شخص لا يجوز له أن يوجه فعل دفاعه إلى غيره ؛ ومن يهاجمه كلب لا يجوز أن يترك الكلب ويطلق النار على مالكه ؛ ومن تدخل في أرضه مواشى الغير ودوابه لا يجوز له أن يتركها ويوجه فعله إلى حائزها .
تناسب الدفاع مع جسامة الخطر
تمهيد : إذا أباح القانون فعل الدفاع فهو يبيحه فى القدر الضروري لدرء الخطر ، وما زاد على ذلك فلا ضرورة له ولا مبرر الإباحته ويعني ذلك أنه إذا كان في وسع المعتدى عليه أن يدرأ الخطر بفعل معين ، فلا يباح له أن يدرأه بفعل أشد جسامة والصعوبة التي تثيرها دراسة تناسب الدفاع مع جسامة الخطر تتعلق بتحديد معيار التناسب ، إذ أن تحديده لا يخلو من الدقة بالنظر إلى تنوع الاعتبارات التي تتعين مراعاتها للقول بالتناسب أو عدمه وعلى سبيل المثال نشير إلى أن المعتدى عليه قد لا تكون تحت تصرفه أداة تماثل ما يستعمله المعتدي ، كما أنهما قد يتفاوتان في القوة البدنية تفاوتاً كبيراً ، ثم أن المعتدى عليه قد يفزعة الاعتداء فلا يحسن لتصرفت ولا يصيب في تقديره جسامة الخطر أو جسامة الفعل الذي يدفعه به وقبل أن نضع معياراً نشير إلى الاعتبارات التي تعين على تحديده .
الاعتبارات التي تعين على تحديد معيار التناسب : لا يشترط أن يستعمل المعتدى عليه أداة مماثلة لما يستعمله المعتدى ، فقد لا تكون مثل هذه الأداة في متناول يده ؛ ثم أن التفاوت بينهما في القوة البدنية قد يجعل المعتدى عليه في حاجة إلى أداة أكثر خطورة إن كان أضعف منه بدناً ، وقد يجعل الكفاية في أداة أقل خطورة إن كان أقوى منه بدناً : « فللمدافع أن يدافع عن نفسه بالوسيلة التي يراها لازمة لرد الاعتداء والتي تختلف تبعاً لاختلاف الظروف »
ولا يجوز أن يحدد معيار مجرد للتناسب ، بل من المتعين مراعاة الظروف التي أحاطت بالمدافع وقت تعرضه للخطر وسيطرت على تفكيره ووجهت تصرفه ، ومن ثم لم يكن سائغاً محاسبته على مقتضى التفكير الهاديء المطمئن الذي لا يقوى عليه والخطر يهدده ويجعل تفكيره وتصرفه مضطربين .
ويكتفى بعض الفقهاء بالقول بأنه يشترط ألا يكون بين الاعتداء والدفاع « عدم تناسب ظاهر »، وهذا القول صحيح دون شك ، إذ لا يمكن أن تتطلب المساواة الكاملة بين الفعلين ، فثمة اختلاف يتسامح فيه، إذ تفرضه الظروف ، ولا يقوى شخص معتاد على تجنبه .
معيار التناسب : يعد فعل الدفاع متناسباً مع جسامة الخطر إذا انطوى على استخدام قدر من العنف لا يجاوز القدر الذي كان يستخدمه شخص معتاد أحاطت به ذات الظروف التي أحاطت بالمدافع فالمعيار في أصله موضوعی قوامه الشخص المعتاد ، أي الشخص الذي يقدر الأمور ويتصرف في مواجهتها على النحو المألوف المتفق مع الخبرة الإنسانية العامة ، وللقاضي أن يعتبر نفسه هذا الشخص ، فيضع نفسه موضع المدافع ويتساءل عما إذا كان يرد الخطر بالفعل الذي التجأ إليه ، أم أنه كان يلجأ إلى أفعال أقل جسامة ولكن هذا المعيار ليس موضوعياً خالصاً ، إذ لا يجوز إغفال الظروف التي أحاطت بالمدافع وجعلته يتصرف على النحو الذي تصرف به ، بل يتعين افتراض الشخص المعتاد محاطاً بذات الظروف التي أحاطت بالمدافع ؛ وهذه الظروف لا تقبل الحمر، فتتعلق على سبيل المثال بقوة المدافع البدنية ودرجة هدوء أعصابه وسنه وجنسه والمكان والزمان اللذين تعرض فيهما للاعتداء وتصف محكمة النقض معيار التناسب بناءً على ذلك بأنه معیار اعتباری وتطبيقاً لذلك ، فإنه كان المعتدى عليه أضعف من المعتدي بدناً فله أن يستعمل قدراً من العنف يزيد عما يباح له لو كان يعادله قوة أو يفوقه ؛ وإذا كان الاعتداء قد ارتكب في مكان مقفر أو في الليل فإنه يباح للمعتدى عليه قدر من العنف يزيد عما لو ارتكب في مكان مأهول أو في النهار ؛ وإذا كان الاعتداء قد أفقد المعتدى عليه اتزانه أبيح له قدر من العنف يزيد عما لو ظل محتفظاً بهدوئه .
ويخلص من ذلك أنه إذا كان المدافع يقدر حقيقة جسامة الخطر وكانت الوسيلة الملائمة لدرئه تحت تصرفه ، ولكنه التجأ إلى فعل أشد خطراً فإن التناسب يعد منتفياً مثال ذلك أن يتعرض شخص لاعتداء بالضرب ، ويكون في استطاعته ضرب المعتدى أو تحطيم الأداة التي يستعملها ويثبت أنه كان من شأن أحد هذين الفعلين درء الخطر ، ولكنه يقتله.
أثر الدفاع الشرعي
تقسيم : تتضمن دراسة أثر الدفاع الشرعي تحديد حكمه في الفعل وبيان سلطة القضاء في بحثه والتحقق من توافره .
إباحة فعل الدفاع : الأثر الذي يترتب على توافر شروط الدفاع الشرعي والتزام قيوده هو إباحة فعل الدفاع وبهذه الإباحة يصير الفعل مشروعاً ، فلا تقوم من أجله مسئولية ولا يوقع على مرتكبه عقاب ويستفيد من الإباحة كل من يساهم في فعل الدفاع ، سواء أكانت مساهمته أصلية أم كانت تبعية وبالإضافة إلى ذلك ، فاستناداً إلى إباحة القانون الدفاع عن الغير ، فإن في وسع المدافع عن غيره أن يحتج بسبب إباحة خاص به منصب على فعله مباشرة وتطبيقاً لذلك ، فمن يدرأ عن الغير الخطر ، ومن يشل حركة المعتدى فيمكن المعتدى عليه من إصابته والتخلص من خطره ، ومن يعطي المعتدى عليه سلاحاً أو تعليمات يستعين بها علی درء الخطر ، كل أولئك يستفيدون من الإباحة .
وإذا كانت إباحة فعل الدفاع لا يثير صعوبة ، فإنها قد تكون محلاً للشك إذا أصاب الفعل حق غير المعتدي ولذلك صورتان : صورة لا يتعمد فيها المعتدى عليه ذلك ؛ وصورة يتعمده فيها .
إصابة حق الغير دون عمد و نعني بذلك حالتي الغلط فی موضوع الفعل والخطأ في توجيهه ويفترض الغلط في موضوع الفعل إصابة المعتدى عليه شخصاً غير المعتدي وهو يعتقد أنه المعتدى ، مثال ذلك أن يتعرض شخص لهجوم في الظلام فيطلق النار على من يسير خلفه ظناً منه أنه من اعتدى عليه في حين أن المعتدي قد فر أما الخطأ في توجيه الفعل فيفترض محاولة المعتدى عليه إصابة المعتدي نفسه ، ولكنه لعدم دقته في إصابة هدفه يصيب شخصاً تصادف مروره في محل الاعتداء .
وحكم القانون في الحالتين واحد ، هو إباحة الفعل طالما لم يصدر عن المعتدى عليه خطأ ، فإذا ثبت أنه قد بذل كل العناية والاحتياط المفروضين عليه الإصابة المعتدي وحده ، ولكن حدثت إصابة الغير لأسباب لا سيطرة لإرادته عليها فالفعل مباح ، إذ قد توافرت كل شروط الدفاع الشرعي والتزمت قيوده أما إذا ثبت صدور خطأ عنه ، فالمعتدى عليه مسئول عن جريمة غير عمدية.
إصابة حق الغير عن عمد : قد يجد المدافع نفسه مضطراً إلى المساس بحق الغير کي يستطيع إتيان فعل الدفاع ؛ مثال ذلك أن يستولي على طلقات نارية مملوكة للغير کی يعبأ بها سلاحه ، أو أن يتلف شجرة الغير کی يحصل على عصا يستعملها في الدفاع وحكم القانون في هذه الأفعال أن الدفاع الشرعي لا يبيحها ، إذ لم توجه إلى مصدر الخطر ، أي لم توجه إلى المعتدى ، وإنما وجهت إلى شخص لا شأن له بالخطر ولكن يستطيع المدافع أن يحتج بحالة الضرورة ، إذ قد التجأ تحت ضغطها إلى إتيان هذا الفعل ، ولذلك كان متعيناً أن تتوافر شروطها ، ومن أهمها كون الخطر مهدداً للنفس وجسيماً .
سلطة القضاء في التحقق من توافر الدفاع الشرعي : يثير البحث في سلطة القضاء في التحقق من توافر الدفاع الشرعي مسائل متعددة أهمها : سلطة محكمة الموضوع في القول بتوافره ، ومدى ما لمحكمة النقض من رقابة عليها ، وكيفية تمسك المتهم بأنه كان في حالة دفاع شرعى .
سلطة محكمة الموضوع في القول بتوافر الدفاع الشرعي : التحقق من توافر شروط الدفاع الشرعي والتزام قيوده واستخلاص نتيجة ذلك بالقول بتوافره أو انتفائه ، كل ذلك بحث في موضوع الدعوى يعتمد على تحليل وقائعها ودراسة ظروفها ، ولذلك كان لمحكمة الموضوع سلطة البت فيه.
وليست محكمة الموضوع ملزمة بالبحث في حالة الدفاع الشرعي والقول في حكمها بما إذا كانت متوافرة أم غير متوافرة ، طالما لم يتمسك المتهم بهذه الحالة ، ولم تكن وقائع الدعوى كما أثبتتها المحكمة ناطقة بتوافرها مرشحة لقيامها ويعني ذلك أنه لا يقبل من المتهم النعي على الحكم بأنه لم يتحدث عن حالة الدفاع الشرعي ولم يفصل في قيامها أو انتفائها إذا كان لم يتمسك بها، وكانت وقائع الدعوى غير ناطقة بتوافرها .
رقابة محكمة النقض : سلطة محكمة الموضوع في القول بتوافر الدفاع الشرعي أو انتفائه ليست مطلقة ، بل تخضع لرقابة محكمة النقض من نواح متعددة : فلمحكمة النقض أن تراقب استنتاج محكمة الموضوع ، أي استخلاصها توافر الدفاع أو انتفاءه من وقائع الدعوى ، فإذا كانت الوقائع التي أثبتتها محكمة الموضوع لا توصل إلى النتيجة التي انتهت إليها ، كما لو كانت الوقائع ناطقة بتوافر الدفاع الشرعي ولكن المحكمة قالت بانتفائه، فإن المحكمة النقض إلغاء هذا الحكم ، لأن الاستنتاج الخاطئ يعني الخطأ في فهم تعريف الدفاع الشرعي وتحديد أركانه ، وهو خطأ في تطبيق القانون .
ولمحكمة النقض أن تراقب حكم محكمة الموضوع من حيث تسببه : فمحكمة الموضوع ملزمة بأن تبحث في الدفاع الشرعي وتقرر توافره أو انتفاءه في حالتين : الأولى ، حيث يتمسك المتهم بانه ارتكب فعله استعمالاً لحق الدفاع الشرعي ، إذ يكون ذلك دفعاً جوهرياً ، فيتعين البحث فيه بعناية وتفصيل ورفضه أو قبوله على أساس من الأدلة الصحيحة ، فإذا أغفلت محكمة الموضوع الرد عليه فحكمها قاصر التسبيب والثانية ، حيث تكون وقائع الدعوى كما أثبتها الحكم مرشحة لقيام حالة الدفاع الشرعي ، أي مؤدية إلى القول بتوافر شروطها ، فيكون متعيناً على محكمة الموضوع أن تعترف بها ، ولو لم يتمسك المتهم بذلك ، بل ولو أنكر أنه ارتكب الجريمة فلم يكن لذلك محل للدفع بها ، إذ مهما يكن دفاع المتهم فهو لا يغير شيئاً من التكييف القانوني لما صدر عنه من وقائع .
کيفية تمسك المتهم بأنه كان في حالة دفاع شرعي : التمسك المتهم بحالة الدفاع الشرعي أهميته باعتباره ينشىء التزام محكمة الموضوع بالبحث فيها والرد على الدفع بها، والتساؤل عن كيفية التمسك بالدفاع الشرعي تثير البحث في الأمور التالية : صورة هذا التمسك ، ووقته ، والعلاقة بينه وبين الاعتراف بالجريمة .
أما عن صورته ، فلا يشترط أن يكون بلفظ معين ، أي لا يشترط أن يتمسك المتهم بالدفاع الشرعي مستعملاً إسمه القانوني ، بل تكفي أية عبارة يفهم منها أن المتهم كان في هذه الحالة ، مثال ذلك قوله إنه « لم يكن معتدياً وإنه إنما كان يرد اعتداء وقع عليه من المجني عليه وفريقه »، ولكن يشترط أن يتمسك المتهم به على نحو جدي وبصورة أصلية ؛ أما إشارته إليه على سبيل الاحتياط أو مجرد الافتراض ، فلا يعد تمسكاً به في المعنى القانونی.
أما عن وقت التمسك به ، فلا يشترط أن يكون أثناء التحقيق الابتدائي : فمن أغفل ذلك عند التحقيق كان له التمسك به أمام القضاء ، ولكن يشترط التمسك بالدفاع الشرعي أمام محكمة الموضوع ، فلا يقبل ذلك أمام محكمة النقض لأول مرة ، إلا إذا كانت وقائع الدعوى كما أثبتتها محكمة الموضوع ترشح لقيام الدفاع الشرعي .
والعلاقة بين الاعتراف بالجريمة والتمسك بالدفاع الشرعي وثيقة : ذلك أن كون المتهم في حالة دفاع شرعى يعني أنه ارتكب الفعل المسند إليه ، ولكن ظروف ارتكابه له جعلته مباحا استنادا إلى الدفاع الشرعي، ومن ثم كان المنطق مقتضيا الارتباط بين الاعتراف بالجريمة والتمسك بالدفاع الشرعي ، وكان إنكار الجريمة والتمسك بالدفاع الشرعي تناقضاً في موقف المتهم، وهذا التناقض يجعل التمسك بالدفاع الشرعي غير جدی ، ويبيح المحكمة الموضوع أن تغفله في حكمها دون أن يكون معيباً ولكن يلاحظ أن القانون لم يجعل الاعتراف بالجريمة شرطاً لقيام حالة الدفاع الشرعي في ذاتها ، ومن ثم فإن أنكر المتهم الجريمة ، ولكن وقائع الدعوى كانت ناطقة بارتكابه الفعل وتوافر شروط الدفاع الشرعي ، فعلى المحكمة أن تعتبره في حالة دفاع شرعى ، فإن لم تفعل فحكمها معيب ، ذلك أن الإنكار لا يغير من الوقائع شيئاً ، ولا يمس التكييف القانوني لما صدر عن المتهم من وقائع . وعلى هذا النحو ، فأهمية الاعتراف مقتصرة على إسباغ طابع جدی علی التمسك بالدفاع الشرعي . (شرح قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ محمود نجيب حسني، الطبعة السابعة 2012 دار النهضة العربية، الصفحة : 205)
ويلاحظ أن المادة 245 عقوبات قد وردت في باب القتل والجرح والضرب ومع ذلك فالاجتماع منعقد على أن الدفاع الشرعي لا يبيح فقط تلك الجرائم وإنما تنصرف الإباحة إلى أي فعل مكون لجريمة يرتكب دفاعاً عن النفس أو المال متى توافرت شروط الدفاع الشرعي ولذلك فهو ليس سبباً خاصاً لإباحة بعض الجرائم وإنما يعتبر سبباً عاماً للإباحة وهو لا يثبت فقط لمن اعتدي عليه في نفسه أو ماله، بل يثبت لكل فرد فالدفاع الشرعي يبيح فعل الغير الذي يدفع به العدوان على نفس الغير أو ماله وذلك تأسيساً على أن الدفاع الشرعي لا يتحقق به الضرر بالمصالح المحمية جنائياً والذي تقوم عليه صفة عدم المشروعية فالحماية الجنائية المصلحة المعتدى تسقط عنها باعتدائه وبالتالي يجوز لأي فرد أن يضر بتلك المصلحة دون أن يتحقق الضرر الاجتماعي الذي هو مناط التجريم. (قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ مأمون محمد سلامة، الطبعة الأولى 2017 الجزء الثالث، الصفحة : 244)
الدفاع الشرعي هو استعمال القوة الملزمة لرد اعتداء غير مشروع يقع على النفس أو المال سواء أكان الاعتداء يهدد المدافع ذاته أم غيره من أحاد الناس والحكمة من إباحته هي الموازنة بين المصالح في المجتمع وترجيح مصلحة على أخرى ومصلحة المعتدى عليه هي الأجدر بالحماية أما مصلحة المعتدى فلم تعد جديرة بالحماية لبدئه بالعدوان على المصالح التي يحميها القانون وليس في مثل الدفاع أي اعتداء على مصلحة المجتمع وعلى ذلك فالدفاع الشرعي سبب عاماً من أسباب الإباحة يبرر استعمال القوة اللازمة والكافية لدفع خطر حال وغير مشروع يهدد بالاعتداء حقاً يحميه القانون .
يجب القيام الدفاع أن يكون الاعتداء حالاً أو على وشك الوقوع على نفس أو مال الشخص أو على نفس أو مال غيره وبالتالي لا تستلزم قيام حالة الدفاع استمرار العدوان أو وقوعه بالفعل بل يكفي أن يكون قد صدر من المعتدى فعل يخشى منه المدافع وقوع جريمة من الجرائم التي يجوز فيها الدفاع فإذا كان الاعتداء قد انتهى فلا يكون هناك وجود لحق الدفاع وكذلك إذا كان الاعتداء مستقبل أو محتملاً ولم يصبح بعد حالاً أو على وشك الوقوع ويجب ألا يكون لدى المعتدى عليه نية الاعتداء ابتداء قبل حصول الاعتداء أو لديه سبق الإصرار عليه لأن هذا ينفي الدفاع لأنه من قبيل الانتقام لا الرد فكل منهما حريص على النيل من صاحبه.
والاعتداء بناء على ما تقدم يكون حالاً أو على وشك الحلول إذا كانت الجريمة في مجرد سريانها أو كانت عند البدء في تنفيذها أو كانت في المرحلة التحضيرية السابقة مباشرة على ارتكابها والعبرة في تقدير ذلك هي بما يراه المدافع في الظروف التي كان فيها.
و إعمالاً لنص المادة 245 عقوبات يستوي أن يكون الدفاع الشرعي عن النفس أو المال أو عن نفس الغير أو ماله.
كما أنه جدير بالذكر أنه يجوز الدفاع الشرعى ولو كان حلول الخطر غير المشروع جاء نتيجة استفزاز من المعتدى عليه ذلك أن الاستفزاز لاينفي عن الخطر الصفة غير المشروعة ولا دخل له في توافر صفة الخطر المتطلبة وهي كونه حالاً كل ذلك ما لم يكن الاستفزاز قد قصد به دفع المستفز إلى الاعتداء وخلق حالة دفاع شرعى للمستفز . (موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثالث، الصفحة: 466)
أولاً : تعريف الدفاع الشرعي والحكمة من إباحته :
الدفاع الشرعي حق تخوله المبادئ القانونية العامة للمدافع الإستعمال القوة اللازمة لدرء اعتداء غير مشروع يوشك أن يقع أو للحيلولة دون إستمراره.
والحكمة من إباحته هي الموازنة بين المصالح في المجتمع وترجيح مصلحة على أخرى ومصلحة المعتدى عليه هي الأجدر بالحماية، أما مصلحة المعتدي فلم تعد جديرة بالحماية لبدئه بالعدوان على المصالح التي يحميها القانون وليس في مثل الدفاع أي اعتداء على مصلحة المجتمع.
ولذلك كان الأجدر بمشرعنا المصري عند صياغة مواد الدفاع الشرعي أن ينص عليها في القسم العام ضمن أسباب الإباحة عند التعرض للركن الشرعي للجريمة .
ثانياً : صور الدفاع :
تستخلص صور الدفاع من الهدف المبتغى من تقرير هذا الحق ويبدو من ظاهر نص المادة التي نحن بصددها أن الدفاع يكون بالقتل أو الجرح أو الضرب، غير أن المجمع عليه أن المشرع أشار إلى الصورة الغالبة التي يحدث بها الدفاع، وأن الدفاع يجوز من باب أولى بأية وسيلة أخرى تقل خطورة عنها، مثل قتل الدابة التي يركبها المعتدي أو إتلاف السلاح الذي يستعمله أو حبسه الوقت اللازم للإستعانة برجال السلطة العامة، كما يجوز الدفاع بمجرد إتخاذ سلوك سلبي، كأن يترك المدافع كلبه ليعقر المعتدي دون أن يحرضه على ذلك أو يمنعه.
وقد يلجأ صاحب الحق إلى وسائل تعمل تلقائيا فتصيب بالأذى من يحاول الإعتداء على حقه، كأن يضع فخا في حديقته يطبق على من يدخل فيها، أو يزود السور المحيط بمنزله بأسلاك شائكة أو قطع من زجاج تصيب من يحاول أن يتخطاه، أو يستعين بكلب يهاجم من يدخل مسكنه.
ويحق لغير المسئول جنائياً كالمجنون أو الصغير أن يحتج بالدفاع الشرعي إذا تعرض لإعتداء، وفي هذه الحالة يتعين تبرئته على أساس توافر سبب الإباحة ويترتب على ذلك عدم جواز مطالبته بتعويض مدني، كما لا يجوز إتخاذ تدبير إحترازي قبله، بخلاف الحال لو كان قد ارتكب جريمة وبريء منها لعدم مسئوليته الجنائية.
أفعال الدفاع وحالة الغلط في الشخص والحيدة عن الهدف :
يقتضي الدفاع الشرعي أن توجه أفعال الدفاع نحو مصدر الخطر لرده، وقد يحدث أن تصيب هذه الأفعال غير المعتدى عن غير قصد من المدافع، إما نتيجة للغلط في الشخص، وأما نتيجة للحيدة عن الهدف وكمثال للغلط في الشخص أن يكون المدافع نائماً ليلاً في حقله، فيستيقظ على أصوات ويتبين أن هناك أشخاصاً يحاولون سرقة ماشيته، فيطلق النار على شخص يعدو بالقرب منها فيرديه قتيلاً ويتضح بعد ذلك أن القتيل هو جاره الذي سمع نفس الأصوات فحضر لمطاردة اللصوص ومثال الحيدة عن الهدف أن يصوب المدافع سلاحه نحو أحد اللصوص ولكنه لا يحكم التصويب وتطيش الرصاصة فتصيب الجار.
يذهب بعض الفقهاء إلى أن للمدافع أن يحتج بحق الدفاع الشرعي في الحالتين، لأن ما أتاه كان بقصد دفع الإعتداء الذي يهدده، ولو أن أفعال الدفاع أصابت غير المعتدي ويؤسسون رأيهم على أن العبرة في نشوء الحق في الدفاع الشرعي هي بتوفر شروط حلول الخطر وشروط لزوم القوة لدفعه ومتى نشأ الحق فكل قوة مناسبة تستعمل بحسن نية لرد الإعتداء تكون مشروعة، وليس من شأن الغلط في الشخص أو الحيدة عن الهدف نفي الحق الذي نشأ ولا نفي الإباحة المترتبة على مباشرته بحسن نية.
ويرى آخرون أن حق الدفاع الشرعي لا يقوم في حالة إصابة غير المعتدي، لأن من شروط هذا الحق أن توجه القوة نحو المعتدي، وبالتالي يسأل الشخص عن فعله باعتباره مرتكباً لجريمة غير عمدية.
والرأي عندنا هو ما ذهب إليه الدكتور/ أحمد الألفي من أن الفصل في هذا الخلاف يتعين الرجوع فيه لطبيعة أسباب الإباحة، فهي موضوعية يتعين أن تتوافر كافة عناصرها، ولا يعد سبب الإباحة قائماً حقيقة إذا تخلف عنصر من العناصر المكونة له ولا شك أن من العناصر اللازمة لقيام حق الدفاع الشرعي أن توجه أفعال الدفاع نحو المصدر الحقيقي للخطر، فإذا لم توجه لهذا المصدر كنا بسبب حالة من حالات الغلط في الإباحة ولا تفترق حالة توجيه أعمال الدفاع ضد شخص لا يصدر عنه الخطر فعلاً، عن حالة توجيه هذه الأعمال نحو مصدر الخطر الوهمي الذي لا وجود له إلا في مخيلة المدافع وبالتالي فإن القصد الجنائي لا يتوافر لدى المدافع الذي يصيب الجار معتقداً أنه أحد اللصوص على خلاف الواقع وتقرير مسئوليته عن جريمة غير عمدية في المثالين يعتمد على نسبة الخطأ إليه من عدمه، فإذا كان تصرفه قد شابه إهمال أو رعونة كان مسئولاً مسئولية غير عمدية، أما إذا كان الرجل المعتاد في الظروف التي أحاطت بالمدافع ولا يمكنه تلاقي النتيجة التي حدثت فإنه لا يعد مسئولاً. (الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثالث، الصفحة : 596 )
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحات: 255 ، 256
(مادة 523)
لا جريمة إذا وقعت الأفعال المشار إليها في المواد السابقة من هذا الفصل دفاعاً عن النفس ، أو العرض ، أو المال .
وتتحقق حالة الدفاع الشرعي إذا واجه المدافع أو اعتقد بحسن نية ، وبناء على أسباب معقولة أنه يواجه خطراً حالاً أو وشيك الوقوع يهدد النفس ، أو العرض ، أو المال .
(مادة 527)
يستوي في قيام حق الدفاع الشرعي أن يكون الخطر موجهاً إلى نفس الموانع ، أو عرضه ، أو ماله ، أو نفس الغير ، أو عرضه ، أو ماله .
(مادة 528)
لا يمنع من قيام حق الدفاع الشرعي أن يكون الخطر من شخص عديم المسئولية الجنائية أو ناقصها .
الجرائم الواقعة على الأشخاص
الفصل الأول
المساس بحياة الإنسان وسلامة بدنه
المواد من (510) - (529):
أحكام مواد المشروع تتضمن بصفة عامة أحكام المواد من (230) إلى (251)، (265) من القانون القائم ، مع إستحداث بعض الأحكام على ما سببين في موضعه ، وقد رأى المشروع إبقاء المواد الخاصة بحق الدفاع الشرعي عن النفس والمال ضمن مواد هذا الفصل ؛ وذلك لأن وسائل الدفاع الشرعي - بحسب الأصل - تمس سلامة جسد المعتدي ، ومن ثم كان هذا الفصل هو الموضع المناسب لإيراد أحكامها على نحو مفصل ، بعد إذ ورد وحكمها العام في الكتاب الأول ، ومن أهم ما تضمنه هذا الفصل ما يلي :
١- المادة (512) من المشروع تضمنت الظروف المشددة للقتل ، فبعد أن نصت المادة (510) من المشروع على عقوبة الإعدام للقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، وعرفت المادة (511) سبق الإصرار والترصد وتوافرهما ، نصت المادة (512) المذكورة على عقوبة السجن المؤبد لجريمة القتل العمد بغير سبق إصرار أو ترصد ، ثم عرضت إلى الظروف المشددة التي ترفع العقوبة إلى الإعدام ، وعددتها في فقرات أربع استحدث فيها وسيلة القتل بمادة مفرقعة كظرف مشدد للجريمة ، ووقوع القتل العمد على أحد أصول الجاني أو على موظف عام أو من في حكمه ، أو مكلف بخدمة عامة أثناء تأدية الوظيفة أو الخدمة ، وإذا كان الباعث على القتل العمد دنيئاً ، أو صاحب القتل أعمال تعذيب، أو مثل بجثة المجني عليه (القتيل) .
وتكون العقوبة الإعدام أو السجن المؤبد إذا كان الغرض من القتل العمد التأهب لإرتكاب جنحة أو تسهيلها ، أو إرتكبها بالفعل ، أو مساعدة مرتكبها أو الشريك فيها على الهرب أو الإفلات من العقوبة .
2- رأى المشروع عدم وجود مبرر لتخفيض عقوبة الشريك في القتل المستوجب عقوبة الإعدام التي كانت تعرض لها المادة (235) من القانون القائم ، وذلك بأن هذا الحكم كان يخالف قاعدة أصولية إلتزمها الشارع، ألا وهي أن من إشترك في جريمة فعليه عقوبتها ، ومن ثم ترك الأمر للقاضي حسب ظروف الدعوى وملابساتها وأصول تفريد العقاب ليحدد في نطاق النص القانوني العقوبة التي يراها مناسبة.
3- المادة (513) من المشروع استحدثت حكماً ، إذ إنه متى تحقق موجبها من إجماع أولياء الدم على العفو عن الجاني أو التصالح معه طبقاً لأحكام الباب السابع من الكتاب الثاني ، عد ذلك عذراً قانونياً مخففاً من شأنه إستبدال عقوبة السجن المؤبد أو المؤقت بالعقوبة المقررة في المادتين (510)، (512) من المشروع على حسب الأحوال ، مع مراعاة أنه إذا تعدد الجناة ، فلا يشمل حكم العذر المخفف إلا من تم العفو عنه ، أو التصالح معه منهم ، وذلك تمشياً مع الحكمة من سقوط القصاص بعفو أولياء الدم ، أو تصالحهم مع الجاني ، ولئن منع العفو أو الصلح القصاص ، فإنه لا يمنع العقوبة التعزيرية، إلا أنه كان حرياً بالمشروع أن يخفف عقوبة الإعدام نزولاً على هذا العفو أو الصلح.
4 - المادة (515) في فقرتها الثانية ، استحدثت ظرفاً مشدداً لجريمة إحداث العاهة المستديمة ، وذلك برفع العقوبة إلى السجن المؤقت إذا تعمد الجاني في إحداث العاهة أو توفر قبله أي من الظروف المشار إليها في الفقرات الثلاث الأولى من المادة (515) من المشروع .
والفقرة الأخيرة من المادة تعتبر في حكم العاهة كل تشويه جسيم لا يحتمل زواله ، ومع أن التشويه لا يترتب عليه قطع أو إنفصال عضو أو بتر جزء منه أو فقد منفعة أو نقصانها أو تعطيل وظيفة إحدى الحواس بصورة كلية أو جزئية دائماً ، فإن المشروع رأى إعتبار التشويه الجسيم في حكم ذلك ، فإن يترتب على التشويه أياً كان فقد أو تعطيل شيء مما ورد ذكره في الفقرة الثالثة من المادة - فلا مشاحة في إنطباقها من باب أولى ؛ لأنها تكون هي الأصل .
5- المادة (519) من المشروع استحدثت لأول مرة في التشريع المصري عقاب التحريض على الإنتحار أو المساعدة عليه بأية وسيلة ، يستوي أن يتم الإنتحار بناء على ذلك التحريض وهذه المساعدة أم يشرع فيه ، على أنه إذا كان المنتحر لم يبلغ الثامنة عشرة أو كان ناقص الإدراك أو الإختيار - عد ذلك ظرفاً مشدداً يرفع عقوبة المحرض أو المساعد إلى السجن المؤقت ، وهذا النص مستلهم من الشريعة الإسلامية فيما حرمه المصدر الأول لها وهو القرآن الكريم ، من تحريم قتل النفس سواء تم ذلك بمعرفة الجاني أم غيره ، فكان حقيقاً بالمشروع أن يؤثم المحرض أو المساعد على ذلك .
6- المادة (520) من المشروع تعرض لجريمة القتل الخطأ ، وقد غلظ المشروع العقوبة إلى الحبس لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على عشر سنوات ، إذا توافر أي من الظروف المشددة المنصوص عليها في الفقرات الأربع من المادة ؛ وذلك لأن الإخلال الوارد في الفقرات يخالف أصول وظيفة المتهم أو مهنته أو حرفته التي يزاولها بالفعل ، وهو ما يوجب عليه من الحيطة والحذر ومراعاة دواعي السلامة - ما يحفظ حياة الآخرين كما أن وقوع الجريمة والجاني تحت تأثير سكر أو تخدير أو عقار تناوله عن حرية وإختيار - ينبئ عن الإستهتار والعبث والجنوح عن الجادة ، فكان لزاماً إعتبار ذلك ظرفاً مشدداً ، كما أن نكول الجاني عن مساعدة المجني عليه أو عن طلب المساعدة له مع القدرة على ذلك - إن دل على شيء فإنما يدل على الإستخفاف بأرواح الناس ، والقعود عن مد يد العون أو طلبها مع القدرة على الإغاثة ، فكان لزاماً إعتبار ذلك القعود والنكول ظرفاً مشدداً ، هذا إلى أنه إذا نشأ عن الفعل موت ثلاثة أشخاص على الأقل - عد ذلك أيضاً ظرفاً مشدداً له حكم الظرف السابق من حيث تغليظ العقوبة .
7- المادة (521) من المشروع تعرض لحالة الإصابة الخطأ، وقد نصت الفقرة الثانية منها على الأخذ بحكم الظروف المشددة المنصوص عليها في المادة السابقة ، بمعنى أنه إذا نشأت الإصابة مع توافر ظرف منها غلظت العقوبة ، فإن توافر ظرفان زيدت العقوبة أكثر .
واستبقى النص حالة ما إذا نشأ عن الجريمة إصابة ثلاثة أشخاص على الأقل ، أو نشأ عنها عاهة مستديمة أو تشويه جسيم لا يحتمل زواله ، کظروف مشددة لجريمة الإصابة الخطأ ، ترفع العقوبة على نحو ما أفصح عنه النص .
8- المادة (522) من المشروع وهي مستحدثة ، وتتناول بالعقاب حالتي الإمتناع العمدي والإمتناع عن خطأ ، عن القيام بإلتزام رعاية شخص عاجز عن الحصول لنفسه على مقومات الحياة بسبب سنه أو حالته الصحية أو العقلية ، أو بسبب تقييد حريته ، سواء كان منشأ هذا الإلتزام القانون أو الإتفاق أو فعل مشروع أو غير مشروع، إذا ما ترتب على إمتناعه موت المجني عليه أو إصابته ، وتكون العقوبة في حالة الإمتناع العمدي وحسب قصد الجاني ودرجة الإصابة - إحدى العقوبات المنصوص عليها في المواد (510)، (512)، (513)، (516)، (517) من المشروع، فإن كان الإمتناع عن خطأ ، يعاقب الجاني على حسب الأحوال بعقوبة من المنصوص عليه في المادتين (520)، (521) من المشروع .
9- المادة (526) من المشروع تعرض لحالة مجاوزة حق الدفاع الشرعي بحسن نية ، وقد اعتبر المشروع قیام حسن النية مع هذا التجاوز عذراً قانونياً يوجب على القاضي توقيع العقوبة المخففة الواردة في النص ، وكان نص المادة (251) من القانون القائم يعتبر هذا التجاوز حسن النية عذراً قضائياً يجيز تخفيف العقوبة ، وأخيراً أجاز النص للمحكمة العفو عن المتهم .
10- خلت نصوص هذا الفصل من حكم مماثل لحكم المادة (237) من القانون القائم، وذلك إكتفاء بوجود حكم مماثل لها في شأن الجناية على النفس الوارد ، ضمن جرائم الحدود والقصاص في الكتاب الثاني من هذا المشروع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثامن والعشرون ، الصفحة / 103
صِيَالٌ
التَّعْرِيفُ:
الصِّيَالُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ صَالَ يَصُولُ، إِذَا قَدِمَ بِجَرَاءَةٍ وَقُوَّةٍ، وَهُوَ: الاِسْتِطَالَةُ وَالْوُثُوبُ وَالاِسْتِعْلاَءُ عَلَى الْغَيْرِ.
وَيُقَالُ: صَاوَلَهُ مُصَاوَلَةً، وَصِيَالاً، وَصِيَالَةً، أَيْ: غَالَبَهُ وَنَافَسَهُ فِي الصَّوْلِ، وَصَالَ عَلَيْهِ، أَيْ: سَطَا عَلَيْهِ لِيَقْهَرَهُ، وَالصَّائِلُ: الظَّالِمُ، وَالصَّئُولُ: الشَّدِيدُ الصَّوْلِ، وَالصَّوْلَةُ: السَّطْوَةُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا، وَصَؤُلَ الْبَعِيرُ: إِذَا صَارَ يَقْتُلُ النَّاسَ وَيَعْدُو عَلَيْهِمْ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الصِّيَالُ الاِسْتِطَالَةُ وَالْوُثُوبُ عَلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبُغَاةُ:
الْبَغْيُ: الظُّلْمُ وَالاِعْتِدَاءُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ.
وَالْبُغَاةُ هُمْ: قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، خَالَفُوا الإْمَامَ الْحَقَّ بِخُرُوجٍ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الاِنْقِيَادِ لَهُ، أَوْ مَنْعِ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ، بِشَرْطِ شَوْكَةٍ لَهُمْ، وَتَأْوِيلٍ لاَ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ .
ب - الْمُحَارِبُ.
وَهُوَ: قَاطِعُ الطَّرِيقِ لِمَنْعِ سُلُوكٍ، أَوْ أَخْذِ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ وَالصَّائِلُ أَعَمُّ مِنْهُ، لأِنَّهُ يَشْمَلُ الْحَيَوَانَ وَغَيْرَهُ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
- الصِّيَالُ حَرَامٌ، لأِنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْغَيْرِ، لقوله تعالى : ( وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) وَقَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» .
دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الصَّائِلُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، عَاقِلاً أَوْ مَجْنُونًا، بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا، مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ) وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) فَالاِسْتِسْلاَمُ لِلصَّائِلِ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ لِلتَّهْلُكَةِ، لِذَا كَانَ الدِّفَاعُ عَنْهَا وَاجِبًا. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ) وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَشَارَ بِحَدِيدَةٍ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - يُرِيدُ قَتْلَهُ - فَقَدْ وَجَبَ دَمُهُ» .
وَلأِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا، وَلأِنَّهُ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ، كَالْمُضْطَرِّ لأِكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِلُ كَافِرًا، وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَجَبَ الدِّفَاعُ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْكَافِرُ مَعْصُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْصُومٍ، إِذْ غَيْرُ الْمَعْصُومِ لاَ حُرْمَةَ لَهُ، وَالْمَعْصُومُ بَطَلَتْ حُرْمَتُهُ بِصِيَالِهِ، وَلأِنَّ الاِسْتِسْلاَمَ لِلْكَافِرِ ذُلٌّ فِي الدِّينِ، وَفِي حُكْمِهِ كُلُّ مَهْدُورِ الدَّمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَمَنْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْجِنَايَاتِ.
كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الْبَهِيمَةِ الصَّائِلَةِ، لأِنَّهَا تُذْبَحُ لاِسْتِبْقَاءِ الآْدَمِيِّ، فَلاَ وَجْهَ لِلاِسْتِسْلاَمِ لَهَا، مِثْلُهَا مَا لَوْ سَقَطَتْ جَرَّةٌ وَنَحْوُهَا عَلَى إِنْسَانٍ وَلَمْ تَنْدَفِعْ عَنْهُ إِلاَّ بِكَسْرِهَا.
أَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِلُ مُسْلِمًا غَيْرَ مَهْدُورِ الدَّمِ فَلاَ يَجِبُ دَفْعُهُ فِي الأْظْهَرِ، بَلْ يَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّائِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَسَوَاءٌ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَنُّ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُ «لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: كُنْ كَابْنِ آدَمَ» يَعْنِي هَابِيلَ - وَلِمَا وَرَدَ عَنِ الأْحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: خَرَجْتُ بِسِلاَحِي لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ، فَاسْتَقْبَلَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ نُصْرَةَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلاَهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قِيلَ: فَهَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ» وَلأِنَّ عُثْمَانَ رضى الله عنه تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَ إِمْكَانِهِ، وَمَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ نَفْسَهُ، وَمَنَعَ حُرَّاسَهُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْهُ - وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ يَوْمَ الدَّارِ - وَقَالَ: مَنْ أَلْقَى سِلاَحَهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ رضى الله عنهم فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
وَمُقَابِلُ الأْظْهَرِ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الصَّائِلِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَ آدَمِيٍّ، لقوله تعالى : ( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) .
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِلُ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُمَا؛ لأِنَّهُمَا لاَ إِثْمَ عَلَيْهِمَا كَالْبَهِيمَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَسَائِلَ مِنْهَا:
أ - لَوْ كَانَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ عَالِمًا تَوَحَّدَ فِي عَصْرِهِ، أَوْ خَلِيفَةً تَفَرَّدَ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَى قَتْلِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَيَجِبُ دَفْعُ الصَّائِلِ.
ب - لَوْ أَرَادَ الصَّائِلُ قَطْعَ عُضْوِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ لاِنْتِفَاءِ عِلَّةِ الشَّهَادَةِ.
قَالَ الأْذْرَعِيُّ رحمه الله: وَيَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ عُضْوٍ عِنْدَ ظَنِّ السَّلاَمَةِ، وَعَنْ نَفْسٍ ظَنَّ بِقَتْلِهَا مَفَاسِدَ فِي الْحَرِيمِ وَالْمَالِ وَالأْوْلاَدِ.
ج - قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ دَفْعَ الصَّائِلِ بِغَيْرِ قَتْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ وَإِلاَّ فَلاَ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَنِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْفِتْنَةِ، لقوله تعالى : ( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) وَلأِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا.
أَمَّا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ» وَلأِنَّ عُثْمَانَ رضى الله عنه تَرَكَ الْقِتَالَ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ غَيْرَهُ قِتَالَهُمْ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لأَنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ .
قَتْلُ الصَّائِلِ وَضَمَانُهُ:
إِنْ قَتَلَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ الصَّائِلَ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ وَنَحْوِهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - بِقِصَاصٍ وَلاَ دِيَةٍ وَلاَ كَفَّارَةٍ وَلاَ قِيمَةٍ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ الصَّائِلُ مِنْ قَتْلِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فِي ضَمَانِ الصَّائِلِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ يَضْمَنُ الْبَهِيمَةَ الصَّائِلَةَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ لِغَيْرِهِ، لأِنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ لإِحْيَاءِ نَفْسِهِ، كَالْمُضْطَرِّ إِلَى طَعَامِ غَيْرِهِ إِذَا أَكَلَهُ.
وَمِثْلُ الْبَهِيمَةِ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَيَضْمَنُهُمَا إِذَا قَتَلَهُمَا، لأِنَّهُمَا لاَ يَمْلِكَانِ إِبَاحَةَ أَنْفُسِهِمَا، وَلِذَلِكَ لَوِ ارْتَدَّا لَمْ يُقْتَلاَ.. لَكِنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ قَاتِلِ الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ الصَّائِلَيْنِ الدِّيَةُ لاَ الْقِصَاصُ؛ لِوُجُودِ الْمُبِيحِ، وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي حَقِّ قَاتِلِ الْبَهِيمَةِ فَهُوَ الْقِيمَةُ .
وَيُدْفَعُ الصَّائِلُ بِالأْخَفِّ فَالأْخَفِّ إِنْ أَمْكَنَ ، فَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِكَلاَمٍ أَوِ اسْتِغَاثَةٍ بِالنَّاسِ حَرُمَ الضَّرْبُ، أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِضَرْبٍ بِيَدٍ حَرُمَ بِسَوْطٍ، أَوْ بِسَوْطٍ حَرُمَ بِعَصًا، أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِقَطْعِ عُضْوٍ حَرُمَ دَفْعُهُ بِقَتْلٍ، لأِنَّ ذَلِكَ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ فِي الأْثْقَلِ مَعَ إِمْكَانِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِالأْخَفِّ.
وَعَلَيْهِ فَلَوِ انْدَفَعَ شَرُّهُ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَأَنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ، أَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، أَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ أَوْ خَنْدَقٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرْبُهُ، وَإِنْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً عَطَّلَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ كُفَى شَرُّهُ وَلأِنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الدَّفْعُ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ غَلَبَةُ ظَنِّ الْمَصُولِ عَلَيْهِ، فَلاَ يَكْفِي تَوَهُّمُ الصِّيَالِ، أَوِ الشَّكُّ فِيهِ، فَإِنْ خَالَفَ التَّرْتِيبَ الْمَذْكُورَ، وَعَدَلَ إِلَى رُتْبَةٍ - مَعَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ بِمَا دُونَهَا - ضَمِنَ، فَإِنْ وَلَّى الصَّائِلُ هَارِبًا فَاتَّبَعَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ، وَقَتَلَهُ ضَمِنَ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ، وَكَذَا إِنْ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَمِينَهُ ثُمَّ وَلَّى هَارِبًا فَضَرَبَهُ ثَانِيَةً وَقَطَعَ رِجْلَهُ مَثَلاً فَالرِّجْلُ مَضْمُونَةٌ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ، فَإِنْ مَاتَ الصَّائِلُ مِنْ سِرَايَةِ الْقَطْعَيْنِ فَعَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لأِنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ وَفِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ.
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا مِنْهَا:
أ - لَوْ كَانَ الصَّائِلُ يَنْدَفِعُ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا وَنَحْوِهِمَا، وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ لاَ يَجِدُ إِلاَّ السَّيْفَ فَلَهُ الضَّرْبُ بِهِ، لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إِلاَّ بِهِ، وَلَيْسَ بِمُقَصِّرٍ فِي تَرْكِ اسْتِصْحَابِ السَّوْطِ وَنَحْوِهِ.
ب - لَوِ الْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا، وَاشْتَدَّ الأْمْرُ عَنِ الضَّبْطِ فَلَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا لَدَيْهِ، دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ.
ج - إِذَا ظَنَّ الْمَصُولُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّائِلَ لاَ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْلِ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا إِنْ خَافَ أَنْ يَبْدُرَهُ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَسْبِقْ هُوَ بِهِ فَلَهُ ضَرْبُهُ بِمَا يَقْتُلُهُ، أَوْ يَقْطَعُ طَرَفَهُ. وَيُصَدَّقُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ فِي عَدَمِ إِمْكَانِ التَّخَلُّصِ بِدُونِ مَا دَفَعَ بِهِ، لِعُسْرِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ.
د - إِذَا كَانَ الصَّائِلُ مُهْدَرَ الدَّمِ - كَمُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ وَزَانٍ مُحْصَنٍ - فَلاَ تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي حَقِّهِ بَلْ لَهُ الْعُدُولُ إِلَى قَتْلِهِ، لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ .
الْهَرَبُ مِنَ الصَّائِلِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْهَرَبِ مِنَ الصَّائِلِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَهْرُبَ أَوْ يَلْتَجِئَ إِلَى حِصْنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ حَاكِمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقِتَالُ، لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ بِالأْهْوَنِ فَالأْهْوَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الأْشَدِّ مَعَ إِمْكَانِ الأْسْهَلِ وَلأِنَّهُ أَمْكَنَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ إِضْرَارِ غَيْرِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِوُجُوبِ الْهَرَبِ أَنْ يَكُونَ بِلاَ مَشَقَّةٍ، فَإِنْ كَانَ بِمَشَقَّةٍ فَلاَ يَجِبُ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الصَّائِلُ مَعْصُومَ الدَّمِ، فَلَوْ صَالَ عَلَيْهِ مُرْتَدٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ لَمْ يَجِبِ الْهَرَبُ وَنَحْوُهُ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَهْرُبْ - حَيْثُ وَجَبَ الْهَرَبُ - فَقَاتَلَ وَقَتَلَ الصَّائِلَ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، فِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الأْوْجَهُ، وَلَزِمَتْهُ الدِّيَةُ فِي الْقَوْلِ الآْخَرِ لَهُمْ أَيْضًا.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الْهَرَبِ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ إِقَامَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَائِزَةٌ، فَلاَ يُكَلَّفُ الاِنْصِرَافُ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ إِنْ تَيَقَّنَ النَّجَاةَ بِالْهَرَبِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ .
الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ:
لاَ يَخْتَلِفُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الأْطْرَافِ إِذَا صَالَ عَلَيْهَا صَائِلٌ - عَنْ قَوْلِهِمْ فِي الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ إِذَا كَانَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ مَعْصُومَ الدَّمِ، بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا.
وَاسْتَدَلُّوا فِي وُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ وَأَطْرَافِهِ بِنَفْسِ الأْدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدِّفَاعَ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ - إِذَا كَانَ آدَمِيًّا مُحْتَرَمًا - حُكْمُهُ كَحُكْمِ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَجِبُ حَيْثُ يَجِبُ، وَيَنْتَفِي حَيْثُ يَنْتَفِي، إِذْ لاَ يَزِيدُ حَقُّ غَيْرِهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ، وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ - عِنْدَهُمْ - إِذَا أَمِنَ الْهَلاَكَ عَلَى نَفْسِهِ، إِذْ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَهُ بَدَلاً عَنْ رُوحِ غَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي قِتَالِ الْحَرْبِيِّينَ وَالْمُرْتَدِّينَ فَلاَ يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِالْخَوْفِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا أَصَحُّ الطُّرُقِ عِنْدَهُمْ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ آخَرَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أَوَّلُهُمَا: يَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الأْطْرَافِ قَطْعًا، لأِنَّ لَهُ الإْيثَارَ بِحَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ - أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
ثَانِيهِمَا: لاَ يَجُوزُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ، لأِنَّ شَهْرَ السِّلاَحِ يُحَرِّكُ الْفِتَنَ، وَخَاصَّةً فِي مَجَالِ نُصْرَةِ الآْخَرِينَ، وَلَيْسَ الدِّفَاعُ عَنِ الْغَيْرِ مِنْ شَأْنِ آحَادِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَظِيفَةُ الإْمَامِ وَوُلاَةِ الأْمُورِ.
وَيَجْرِي هَذَا الْخِلاَفُ فِي الْمَذْهَبِ بِالنِّسْبَةِ لآِحَادِ النَّاسِ، أَمَّا الإْمَامُ وَغَيْرُهُ - مِنَ الْوُلاَةِ - فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى نَفْسِ الْغَيْرِ اتِّفَاقًا .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الأْطْرَافِ فِي غَيْرِ فِتْنَةٍ، وَمَعَ ظَنِّ سَلاَمَةِ الدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ عَنْهُ، وَإِلاَّ حَرُمَ الدِّفَاعُ .
دَفْعُ الصَّائِلِ عَنِ الْعِرْضِ:
- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى بُضْعِ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِ أَهْلِهِ، لأِنَّهُ لاَ سَبِيلَ إِلَى إِبَاحَتِهِ، وَمِثْلُ الزِّنَا بِالْبُضْعِ فِي الْحَكَمِ مُقَدِّمَاتُهُ فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ حَتَّى لَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِ الصَّائِلِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. بَلْ إِنْ قُتِلَ الدَّافِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .
وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِ وَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى - وَهُوَ مَنْعُ الْفَاحِشَةِ - وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» .
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَرَطُوا لِوُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنْ عِرْضِهِ وَعِرْضِ غَيْرِهِ: أَنْ لاَ يَخَافَ الدَّافِعُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَوْ عَلَى مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ أَعْضَائِهِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمَصُولُ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ الزِّنَا بِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا إِنْ أَمْكَنَهَا ذَلِكَ، لأِنَّ التَّمْكِينَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ، وَفِي تَرْكِ الدَّفْعِ نَوْعُ تَمْكِينٍ، فَإِذَا قَتَلَتِ الصَّائِلَ - وَلَمْ يَكُنْ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْلِ - فَلاَ تَضْمَنُهُ بِقِصَاصٍ وَلاَ دِيَةٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً أَضَافَ نَاسًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَأَرَادَ امْرَأَةً عَلَى نَفْسِهَا، فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضى الله عنه: وَاللَّهِ لاَ يُودَى أَبَدًا وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ عِرْضِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .
وَفِي الْمُغْنِي: لَوْ رَأَى رَجُلاً يَزْنِي بِامْرَأَتِهِ - أَوْ بِامْرَأَةِ غَيْرِهِ - وَهُوَ مُحْصَنٌ فَصَاحَ بِهِ، وَلَمْ يَهْرُبْ وَلَمْ يَمْتَنِعْ عَنِ الزِّنَا حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلاَ دِيَةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رضى الله عنه - بَيْنَمَا هُوَ يَتَغَدَّى يَوْمًا إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ يَعْدُو وَمَعَهُ سَيْفٌ مُجَرَّدٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، فَجَاءَ حَتَّى قَعَدَ مَعَ عُمَرَ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا قَتَلَ صَاحِبَنَا مَعَ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا يَقُولُ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: إِنَّهُ ضَرَبَ فَخِذَيِ امْرَأَتَهُ بِالسَّيْفِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ فَقَدْ قَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فَقَطَعَ فَخِذَيِ امْرَأَتَهُ فَأَصَابَ وَسَطَ الرَّجُلِ فَقَطَعَهُ بِاثْنَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ .
- وَإِذَا قَتَلَ رَجُلاً، وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَأَنْكَرَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضى الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ بَيْتَهُ، فَإِذَا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلٌ، فَقَتَلَهَا وَقَتَلَهُ، قَالَ عَلِيٌّ: إِنْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَإِلاَّ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ، وَلأِنَّ الأْصْلَ عَدَمُ مَا يَدَّعِيهِ، فَلاَ يَسْقُطُ حُكْمُ الْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْبَيِّنَةِ.
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ، لِخَبَرِ عَلِيٍّ السَّابِقِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ «سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضى الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِي بِأَرْبَعِهِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ». الْحَدِيثَ .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَكْفِي شَاهِدَانِ، لأِنَّ الْبَيِّنَةَ تَشْهَدُ عَلَى وُجُودِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ عَلَى الزِّنَا .
وَكَذَا لَوْ قَتَلَ رَجُلاً فِي دَارِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ هَجَمَ عَلَى مَنْزِلِهِ، فَأَنْكَرَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَقْتُولُ مَعْرُوفًا بِالشَّرِّ وَالسَّرِقَةِ، قُتِلَ صَاحِبُ الدَّارِ قِصَاصًا ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مَعْرُوفًا بِالشَّرِّ وَالسَّرِقَةِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِلِ فِي الْقِيَاسِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فِي الاِسْتِحْسَانِ، لأِنَّ دَلاَلَةَ الْحَالِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ لاَ الْمَالِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَلاَ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ يَحْضُرُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَيَكْفِي فِي الْبَيِّنَةِ قَوْلُهَا: دَخَلَ دَارَهُ شَاهِرًا السِّلاَحَ، وَلاَ يَكْفِي قَوْلُهَا: دَخَلَ بِسِلاَحٍ مِنْ غَيْرِ شَهْرٍ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ عَدَاوَةٌ فَيَكْفِي ذَلِكَ لِلْقَرِينَةِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ يُعْرَفُ بِفَسَادٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُمْ رَأَوْا هَذَا مُقْبِلاً إِلَى هَذَا بِالسِّلاَحِ الْمَشْهُورِ فَضَرَبَهُ هَذَا، فَقَدْ هُدِرَ دَمُهُ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْهُ دَاخِلاً دَارَهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سِلاَحًا، أَوْ ذَكَرُوا سِلاَحًا غَيْرَ مَشْهُورٍ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ بِذَلِكَ، لأِنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ لِحَاجَةٍ، وَمُجَرَّدُ الدُّخُولِ لاَ يُوجِبُ إِهْدَارَ دَمِهِ.
وَإِنْ تَجَارَحَ رَجُلاَنِ، وَادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا قَائِلاً: إِنِّي جَرَحْتُهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِي، حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا جَرَحَهُ، لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى الآْخَرِ مَا يُنْكِرُهُ، وَالأْصْلُ عَدَمُهُ .
وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، شَهَادَة).
دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى الْمَالِ:
- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى الْمَالِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ» . وَاسْمُ الْمَالِ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ. فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى مَالِهِ إِلاَّ بِالْقَتْلِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ. فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْخَانِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ رَأَى رَجُلاً يَسْرِقُ مَالَهُ فَصَاحَ بِهِ وَلَمْ يَهْرُبْ، أَوْ رَأَى رَجُلاً يَثْقُبُ حَائِطَهُ، أَوْ حَائِطَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالسَّرِقَةِ فَصَاحَ بِهِ وَلَمْ يَهْرُبْ حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، وَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِلْوُجُوبِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى أَخْذِهِ هَلاَكٌ، أَوْ شِدَّةُ أَذًى، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ الدَّفْعُ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنِ الْمَالِ، لأِنَّهُ يَجُوزُ إِبَاحَتُهُ لِلْغَيْرِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَا رُوحٍ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَرَهْنٍ وَإِجَارَةٍ فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْهُ، قَالَ الإْمَامُ الْغَزَالِيُّ: وَكَذَا إِنْ كَانَ مَالَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، أَوْ وَقْفٍ أَوْ مَالاً مُودَعًا، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَخْشَ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ عَلَى بُضْعٍ، وَعَلَيْهِ فَإِذَا رَأَى شَخْصًا يُتْلِفُ حَيَوَانَ نَفْسِهِ إِتْلاَفًا مُحَرَّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ الدِّفَاعُ عَنْهُ، مِنْ بَابِ الأْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ الصَّائِلَ عَلَى الْمَالِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِقِصَاصٍ وَلاَ دِيَةٍ وَلاَ كَفَّارَةٍ وَلاَ قِيمَةٍ، لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالأْدِلَّةِ السَّابِقَةِ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، وَبَيْنَ الأْمْرِ بِالْقِتَالِ وَالضَّمَانِ مُنَافَاةٌ، قَالَ تَعَالَى: ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» وَقَالَ أَيْضًا: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
وَيُسْتَثْنَى عِنْدَهُمْ مِنْ جَوَازِ الدِّفَاعِ عَنِ الْمَالِ صُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لَوْ قَصَدَ مُضْطَرٌّ طَعَامَ غَيْرِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لِمَالِكِهِ دَفْعُهُ عَنْهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا مِثْلَهُ، فَإِنْ قَتَلَ الْمَالِكُ الصَّائِلَ الْمُضْطَرَّ إِلَى الطَّعَامِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَالأْخْرَى: إِذَا كَانَ الصَّائِلُ مُكْرَهًا عَلَى إِتْلاَفِ مَالِ غَيْرِهِ، فَلاَ يَجُوزُ دَفْعُهُ عَنْهُ، بَلْ يَلْزَمُ الْمَالِكَ أَنْ يَقِيَ رُوحَهُ بِمَالِهِ، كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمُضْطَرُّ طَعَامَهُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعُ الْمُكْرَهِ.
قَالَ الأْذْرَعِيُّ: وَهَذَا فِي آحَادِ النَّاسِ، أَمَّا الإْمَامُ وَنُوَّابُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الدِّفَاعُ عَنْ أَمْوَالِ رَعَايَاهُمْ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلاَ مَالِ غَيْرِهِ، وَلاَ حِفْظِهِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالْهَلاَكِ، لأِنَّهُ يَجُوزُ بَذْلُهُ لِمَنْ أَرَادَهُ مِنْهُ ظُلْمًا. وَتَرْكُ الْقِتَالِ عَلَى مَالِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْقِتَالِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِهِ.
أَمَّا دَفْعُ الإْنْسَانِ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِ الطَّالِبِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ مَعَ ظَنِّ سَلاَمَةِ الدَّافِعِ وَالصَّائِلِ، وَإِلاَّ حُرِّمَ الدِّفَاعُ.
قَالُوا: وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعُونَةُ غَيْرِهِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهِ مَعَ ظَنِّ السَّلاَمَةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» ، وَلأِنَّهُ لَوْلاَ التَّعَاوُنُ لَذَهَبَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ وَأَنْفُسُهُمْ، لأِنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ إِذَا انْفَرَدُوا بِأَخْذِ مَالِ إِنْسَانٍ - وَلَمْ يُعِنْهُ غَيْرُهُ - فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْكُلِّ، وَاحِدًا وَاحِدًا .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني والأربعون ، الصفحة / 268
قَتْلُ الْهِرَّةِ الصَّائِلَةِ:
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَتِ الْهِرَّةُ فِي الدَّفْعِ عَنْ حَمَامٍ وَنَحْوِهِ فَهَدَرٌ؛ لِصِيَالِهَا، وَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَ قَتْلُهَا طَرِيقًا لِدَفْعِهَا، وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهَا بِدُونِهِ كَالصَّائِلِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ قَتْلُهَا طَرِيقًا لِدَفْعِهَا بِأَنْ أَمْكَنَ دَفْعُهَا بِضَرْبٍ أَوْ زَجْرٍ فَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهَا، بَلْ يَدْفَعُهَا بِالأَْخَفِّ فَالأَْخَفِّ كَدَفْعِ الصَّائِلِ، فَلَوْ كَانَتِ الْهِرَّةُ صَغِيرَةً مَثَلاً وَلاَ يُفِيدُ مَعَهَا الدَّفْعُ بِالضَّرْبِ الْخَفِيفِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ دَفْعُهَا بِأَنْ يُخْرِجَهَا مِنَ الْبَيْتِ وَيُغْلِقَهُ دُونَهَا، أَوْ بِأَنْ يُكَرِّرَ دَفْعَهَا عَنْهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهَا وَلاَ ضَرْبُهَا ضَرْبًا شَدِيدًا.
وَيَشْمَلُ حُكْمُ وُجُوبِ دَفْعِ الْهِرَّةِ بِالأْخَفِّ فَالأْخَفِّ كَالصَّائِلِ مَا لَوْ خَرَجَتْ أَذِيَّتُهَا عَنْ عَادَةِ الْقِطَطِ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِ هَذِهِ الْعَادَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَالَ الدَّمِيرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي فِيهِ الْخِلاَفُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، كَمَا فِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ.
وَلَوْ صَارَتِ الْهِرَّةُ ضَارِيَةً مُفْسِدَةً فَهَلْ يَجُوزُ قَتْلُهَا فِي حَالِ سُكُونِهَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا - وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ - لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّ ضَرَاوَتَهَا عَارِضَةٌ وَالتَّحَرُّزَ عَنْهَا سَهْلٌ، وَجَوَّزَ الْقَاضِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَتْلَهَا مُطْلَقًا؛ أَيْ سَوَاءٌ فِي حَالِ صِيَالِهَا أَوْ حَالِ سُكُونِهَا، وَسَوَاءٌ أَمْكَنَ دَفْعُهَا بِدُونِ الْقَتْلِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ؛ لأِنَّهَا قَدْ تَعُودُ وَتُتْلِفُ مَا دُفِعَ عَنْهَا مَعَ التَّغَافُلِ عَنْهُ؛ وَلأِنَّهَا - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - لاَ يُكَفُّ شَرُّهَا إِلاَّ بِالْقَتْلِ.
وَاعْتَمَدَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ حَيْثُ أَفْتَى بِقَتْلِ الْهِرِّ إِذَا خَرَجَ أَذَاهُ عَنِ الْعَادَةِ وَتَكَرَّرَ مِنْهُ وَاخْتَارَهُ الأْذْرَعِيُّ: فِي هِرٍّ مُهْمَلٍ لاَ مَالِكَ لَهُ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَأَلْحَقَهُ الْقَاضِي بِالْفَوَاسِقِ الْخَمْسَةِ.
وَالْوَجْهُ جَوَازُ الدَّفْعِ كَذَلِكَ فِي الْهِرَّةِ الْحَامِلِ، بَلْ وُجُوبُهُ وَلاَ نَظَرَ لِكَوْنِهَا حَامِلاً أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ، وَإِنْ قُلْنَا أَنَّهُ يُعْلَمُ الْحَمْلُ؛ لأِنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ حَيَاتَهُ، وَتَيَقَّنَّا إِضْرَارَهَا لَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا فَرُوعِيَ.
وَسُئِلَ الْبُلْقِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ وِلاَدَةِ هِرَّةٍ فِي مَحَلٍّ وَتَأْلَفُ ذَلِكَ الْمَحَلَّ بِحَيْثُ تَذْهَبُ وَتَعُودُ إِلَيْهِ لِلإْيوَاءِ فَهَلْ يَضْمَنُ مَالِكُ الْمَحَلِّ مُتْلَفَهَا؟ وَأَجَابَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ وَإِلاَّ ضَمِنَ ذُو الْيَدِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ ذَبْحَ الْهِرَّةِ إِذَا كَانَتْ مُؤْذِيَةً بِسِكِّينٍ حَادٍّ وَيُكْرَهُ ضَرْبُهَا وَفَرْكُ أُذُنِهَا، وَفِي الْقُنْيَةِ: يَجُوزُ ذَبْحُ الْهِرَّةِ لِنَفْعٍ مَا وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْهِرِّ إِذَا خَرَجَتْ إِذَايَتُهُ عَنْ عَادَةِ الْقِطَطِ وَتَكَرَّرَتْ إِذَايَتُهُ، فَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ إِذَايَتُهُ عَنْ عَادَةِ الْقِطَطِ، وَوَقَعَتِ الإْذَايَةُ مِنْهُ فَلْتَةً فَلاَ يُقْتَلُ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (صِيَال ف 5).