loading

موسوعة قانون العقوبات​

الأحكام

1ـ إذا كان كل ما إستند إليه الحكم فى نفى موجب الدفاع الشرعى هو قوله إن المجنى عليه ألقى الفول الذى كان قد سرقه مع آخرين من الحقل ليلاً عند ما فاجأه صاحب الحقل و زميله فى الحراسة ، و أن هذين لم يتبينا سلاحاً ظاهراً معه ، و إنهما كان فى وسعهما ، و هما إثنان ، أن يشلا حركته دون حاجة إلى إلحاق أى أذى به ، و إنه بعد أن ترك الفول المسروق لم يبق هناك خطر على المال و كذلك لم يكن ثمة شر يخشى منه على الأنفس ، و أن ضرب المجنى عليه حتى سقط و الإمعان فى إيذائه بعد سقوطه - ذلك لا يمكن تأويله إلا بأنه كان إنتقاماً لا دفاعاً مشروعاً ، فإن هذا الحكم يكون قاصراً فى بيان الأسباب التى أقيم عليها . لأنه ما دامت السرقة قد حصلت ليلاً من أكثر من شخصين ، و ما دام عدم تبين صاحب الحقل و زميله سلاحاً ظاهراً مع المجنى عليه لا ينفى إحتمال أنه كان يحمل سلاحاً ، فإن صاحب الحقل يكون فى هذه الظروف لديه أسباب معقولة تبيح له إستعمال القوة اللازمة للدفاع عن نفسه و ماله و ضبط السارق الذى وجد متلبساً بالجريمة بعد فرار زملائه . أما ما قاله الحكم عن الضرب و تكراره و تخلف عاهة عند السارق فمحله أن يكون ثابتاً أن الإصابة التى أحدثت العاهة به لم تحدث إلا بعد أن سقط على الأرض و صار عاجزاً عن الحركة . و ما دام ما أورده الحكم فى هذا الصدد ليس فيه ما يدل على ذلك فإنه يكون قاصراً أيضاً من هذه الناحية . و خصوصاً إذا كان ما وجد بالسارق من الإصابات ، عدا العاهة ، هو فقط - كما أثبته الحكم ذاته - جرحاً رضياً بالساق اليسرى و تسلخات بالساعد .

(الطعن رقم 1501 لسنة 13 جلسة 1943/11/08 س 6 ع 6 ص 328 ق 250)

2 ـ إن المادة 246 من قانون العقوبات بعد أن قننت حق الدفاع الشرعى عن النفس و المال ، جاءت المادة 247 من ذات القانون و نصت على أنه " و ليس لهذا الحق وجود متى كان من المكن الركون فى الوقت المناسب إلى الإحتماء برجال السلطة العمومية " و هو ما يعنى أن إستطاعة الإستعانة بالسلطات العمومية لحماية الحق المحدد تحول دون إباحة فعل الدفاع ، و يتضح بذلك أن للدفاع الشرعى صفة إحتياطية بإعتباره لا محل له إلا عند عجز السلطات العمومية عن حماية الحق ، و إذ كان الحكم المطعون فيه قد عرض لدفاع الطاعن و أطرح فى منطق سائغ دعواه - أنه كان فى حالة دفاع شرعى - و خلص إلى أن الثابت من أقوال الطاعن و والده التى أوردها ، و من ظروف الدعوى ، أنها كانت تسمح لهما بالتوجه إلى نقطة الشرطة المختصة و إخطارها بما علما به من توجه المجنى عليهما لإقامة القنطرة و أن الوقت و الزمان يسمح بذلك دون إهدار لحقوقهما ، و كانت وقائع الدعوى كما أوردها الحكم فى مدوناته ترشح لما إنتهى إليه فى هذا الشأن ، فإن ذلك ينطوى على إنتفاء حالة الدفاع الشرعى بجميع صوره المبينة فى القانون ، و إذ كان من المقرر أن حق قاضى الدعوى فى تقدير ما إذا كان من إستعمل القوة للدفاع عن المال فى إمكانه أن يركن فى الوقت المناسب إلى رجال السلطة ، و فى تقدير ما إذا كان ممكناً له أن يمنع الإعتداء الواقع على المال بطريقة أخرى غير القوة - هو على حسب ما يؤخذ من نص المادتين 246 ، 147 من قانون العقوبات - ما يدخل فى سلطته المطلقة - لتعلقه بتحصيل فهم الواقع فى الدعوى ، فيكفى لسلامة الحكم أن تبين المحكمة كيف كان صاحب المال فى مقدوره دفع الإعتداء بالإلتجاء للسلطة لتصل من ذلك إلى القول بأن إرتكاب صاحب المال الجناية التى وقعت منه لم يكن له مبرر ، و هو ما لم يقصر الحكم فى بيانه و تقديره ، و إذ كان تقدير الوقائع التى يستنتج منها قيام حالة الدفاع الشرعى أو إنتفاؤها يعلق بموضوع الدعوى ، و لمحكمة الموضوع وحدها الفصل فيه بلا معقب متى كان إستدلال الحكم سليماً و يؤدى إلى ما إنتهى إليه ، كما هو الحال فى الدعوى المطروحة - و من ثم فلا يقبل من الطاعن معاودة الجدل فيما خلصت إليه المحكمة فى هذا الخصوص ، و يضحى كل ما يثيره الطاعن بأسباب الطعن بصدد الدفاع الشرعى لا محل له .

(الطعن رقم 5092 لسنة 61 جلسة 1991/11/04 س 42 ع 1 ص 1119 ق 155)

3 ـ لما كانت المادة 246 من قانون العقوبات بعد أن قننت حق الدفاع الشرعي عن النفس والمال ، جاءت المادة 247 من ذات القانون ونصت على أنه : " وليس لهذا الحق وجود متى كان من الممكن الركون فى الوقت المناسب إلى الاحتماء برجال السلطة العمومية " ، وهو ما يعني أن استطاعة الاستعانة بالسلطات العمومية لحماية الحق المهدد تحول دون إباحة فعل الدفاع ، ويتضح بذلك أن للدفاع الشرعى صفة احتياطية باعتباره لا محل له إلا عند عجز السلطات العمومية عن حماية الحق، وإذ كان الحكم المطعون فيه قد عرض لدفاع الطاعن واطرح فى منطق سائغ دعواه أنه كان فى حالة دفاع شرعي وخلص إلى أن الثابت من ظروف الدعوى أنها كانت تسمح للطاعن وفريقه اللجوء للشرطة وإخطارها بقيام المجني عليه ومن معه بتشوين الطوب بأرضهم وأن الوقت والزمن يسمح لهم بذلك دون إهدار لحقوقهم الثابتة بالمستندات والتي تخول الشرطة التدخل لصالحهم ، وكانت وقائع الدعوى كما أوردها الحكم فى مدوناته ترشح لما انتهى إليه فى هذا الشأن ، فإن ذلك ينطوي على انتفاء حالة الدفاع الشرعي بجميع صوره المبينة فى القانون ، وإذ كان من المقرر أن حق قاضى الدعوى فى تقدير ما إذا كان من استعمل القوة للدفاع عن المال فى إمكانه أن يركن فى الوقت المناسب إلى رجال السلطة ، وفي تقدير ما إذا كان ممكناً له أن يمنع الاعتداء الواقع على المال بطريقة أخرى غير القوة , على حسب ما يؤخذ من نص المادتين 246 ، 247 من قانون العقوبات مما يدخل فى سلطته المطلقة لتعلقه بتحصيل فهم الواقع فى الدعوى ، فيكفي لسلامة الحكم أن تبين المحكمة كيف كان صاحب الحق فى مقدوره دفع الاعتداء بالالتجاء للسلطة لتصل من ذلك إلى القول بأن ارتكاب صاحب المال للجناية التي وقعت منه لم يكن مبرر ، وهو ما لم يقصر الحكم فى تبيانه أو تقديره ، وإذ كان تقدير الوقائع التي يستنتج منها قيام حالة الدفاع الشرعي أو انتفاؤها يتعلق بموضوع الدعوى ، ولمحكمة الموضوع وحدها الفصل فيه بلا معقب متى كان استدلال الحكم سليماً ويؤدي إلى ما انتهى إليه – كما هو الحال فى الدعوى المطروحة – ومن ثم فلا يقبل من الطاعن معاودة الجدل فيما خلصت إليه المحكمة فى هذا الخصوص ، ويضحى ما يثيره بصدد الدفاع الشرعي لا محل له .

(الطعن رقم 18791 لسنة 65 جلسة 2005/03/06 س 56 ص 176 ق 25)

4 ـ لما كان الحكم المطعون فيه قد إستظهر أن الطاعن حضر إلى مكان الحادث بعد أن إستقرت حيازة الحجرة سبب النزاع له ، و كانت الوقائع كما أوردها الحكم تفيد أن المجنى عليه و من معه قد حاولوا إدخال أمتعتهم إلى هذه الحجرة ، بما يؤدى إليه ذلك من منع حيازة الطاعن بها بالقوة ، و مع ذلك فقد أقام الحكم قضاءه برفض الدفع بصفة أساسية على أنه كان أحرى بالطاعن و هو محام أن يلجأ إلى رجال السلطة العامة لحماية يده ، فحمله بصفته واجباً لم يفرضه القانون على غيره ، و وضع قاعدة يترتب عليها كما يبدو من ظاهرها - تعطيل حق الدفاع الشرعى عن المال كما هو معرف به فى القانون ، بما رآه من إلزام مدعى هذا الحق بأن يتخلى عن إستعماله لرد ما يقع من إعتداء حفاظاً على ماله إكتفاء بالعمل على إسترداده بعد ضياعه مما لا يقره القانون ، و إذ كان الحكم قد أوجب على الطاعن أن يلجاء إلى رجال الشرطة ، فكان عليه أن يبين أن ظروف الزمن كانت تسمح بأن يكون الإلتجاء إلى رجال الشرطة هو سبيل صالح لرد الإعتداء قبل تمامه ، مما قصر الحكم فى بيانه . و لما كان الحكم قد إنطوى فيما ذهب إليه على فهم خاطىء لنظرية الدفاع الشرعى عن المال فوق ما شابه من قصور ، فإنه يتعين نقض الحكم بغض النظر عما أورده من أسباب أخرى لنفى حالة الدفاع الشرعى ، لما يمكن أن يحمله هذا الخطأ من التأثير على عقيدة المحكمة فيما إنتهت إليه .

(الطعن رقم 216 لسنة 33 جلسة 1963/04/09 س 14 ع 2 ص322 ق 65)

شرح خبراء القانون

نصت المادة 247 من قانون العقوبات على أنه "وليس لهذا الحق وجود متى كان من الممكن الركون في الوقت المناسب إلى الاحتماء برجال السلطة العمومية وهذا الشرط مستقل عن شرط حلول الخطر فمن المتصور أن يكون الخطر حالاً ومع ذلك يمكن تدارك الضرر بالاحتماء برجال السلطة العامة إذا كانوا على مقربة من المهدد بالخطر وعندئذٍ لاتكون حالة الدفاع الشرعي قائمة استعمال الحق في الدفاع بحيث ينتفي هذا الحق إذا كان في وسع الجاني الهرب من خطر الاعتداء والرأي المتفق عليه هو أن الهرب فعل يشين الإنسان ويهبط بكرامته.

وبالتالي فإنه ليس على الإنسان المهدد في نفسه أو ماله أن يهرب ليتفادى العدوان حتى ولو كان ذلك مستطاعاً لكن من المتفق عليه من ناحية أخرى أنه إذا كان الجاني مجنوناً فإن الهرب منه وفي مواجهته لايعتبر جبناً لا يوصم فاعله بالعار.

يثار بحث ما إذا كان الهروب ممكناً أم غير ممكن بحسب ظروف الحال وفقاً لتصرف الإنسان العاقل من أوساط الناس لو وجد في نفس الظروف.

ويلاحظ أنه لا مجال لإباحة فعل الدفاع إلا إذا وجه إلى مصدر الخطر کی يكفل التخلص منه أما إذا ترك المعتدي مصدر الخطر يهدده ووجه فعله إلى شخص أو شئ لايصدر الخطر عنه فلا محل لاحتجاجه بالدفاع الشرعي لأن الفعل غير ذي جدوى في التخلص من الخطر فهو غير لازم لذلك فمن يهاجمه شخص لايجوز له أن يوجه فعل دفاعه إلى غيره ومن يهاجمه كلب لايجوز أن يترك الكلب ويطلق النار على مالكه ومن تدخل في أرض مواشي الغير ودوابه لا يجوز له أن يتركها ويوجه فعله إلى حائزها.(موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثالث،  الصفحة: 473)

نصت المادة التي نحن بصددها على أنه "وليس لهذا الحق وجود متى كان من الممكن الركون في الوقت المناسب إلى الاحتماء برجال السلطة العمومية". وهذا الشرط مستقل عن شرط حلول الخطر، فمن المتصور أن يكون الخطر حالاً ومع ذلك يمكن تدارك الضرر بالاحتماء برجال السلطة العامة إذا كانوا على مقربة من المهدد بالخطر وعندئذٍ لا تكون حالة الدفاع الشرعي قائمة، على أن ذلك يقتضي أن يكون لدى المهدد بالخطر من الوقت ما يكفي لاتخاذ ذلك الإجراء قبل إيقاع الضرر، فالشخص الذي يشاهد لصاً يحاول اجتياز سور منزل غير مكلف بالتوجه إلى نقطة البوليس، وإنما له أن يدفع السرقة لأن الإلتجاء إلى البوليس في هذه الحالة لا يسعف في درء الجريمة، ولكن عليه أن يستعين برجل البوليس إذا كان على مقربة منه. (الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثالث، الصفحة : 627)

الفقه الإسلامي

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة: 256

(مادة 529)

في جميع الأحوال لا تقوم لحق الدفاع الشرعي قائمة ، إذا لم يكن من المتعذر الإلتجاء في الوقت المناسب إلى الجهات العامة ، أو دفع الخطر بوسيلة أخرى . 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثامن والعشرون ، الصفحة / 103

صِيَالٌ

التَّعْرِيفُ:

الصِّيَالُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ صَالَ يَصُولُ، إِذَا قَدِمَ بِجَرَاءَةٍ وَقُوَّةٍ، وَهُوَ: الاِسْتِطَالَةُ وَالْوُثُوبُ وَالاِسْتِعْلاَءُ عَلَى الْغَيْرِ.

وَيُقَالُ: صَاوَلَهُ مُصَاوَلَةً، وَصِيَالاً، وَصِيَالَةً، أَيْ: غَالَبَهُ وَنَافَسَهُ فِي الصَّوْلِ، وَصَالَ عَلَيْهِ، أَيْ: سَطَا عَلَيْهِ لِيَقْهَرَهُ، وَالصَّائِلُ: الظَّالِمُ، وَالصَّئُولُ: الشَّدِيدُ الصَّوْلِ، وَالصَّوْلَةُ: السَّطْوَةُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا، وَصَؤُلَ الْبَعِيرُ: إِذَا صَارَ يَقْتُلُ النَّاسَ وَيَعْدُو عَلَيْهِمْ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الصِّيَالُ الاِسْتِطَالَةُ وَالْوُثُوبُ عَلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ .

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْبُغَاةُ:

الْبَغْيُ: الظُّلْمُ وَالاِعْتِدَاءُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ.

وَالْبُغَاةُ هُمْ: قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، خَالَفُوا الإْمَامَ الْحَقَّ بِخُرُوجٍ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الاِنْقِيَادِ لَهُ، أَوْ مَنْعِ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ، بِشَرْطِ شَوْكَةٍ لَهُمْ، وَتَأْوِيلٍ لاَ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ .

ب - الْمُحَارِبُ.

وَهُوَ: قَاطِعُ الطَّرِيقِ لِمَنْعِ سُلُوكٍ، أَوْ أَخْذِ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ وَالصَّائِلُ أَعَمُّ مِنْهُ، لأِنَّهُ يَشْمَلُ الْحَيَوَانَ وَغَيْرَهُ .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

- الصِّيَالُ حَرَامٌ، لأِنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْغَيْرِ، لقوله تعالى : ( وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )  وَقَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم:  «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» .

دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الصَّائِلُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، عَاقِلاً أَوْ مَجْنُونًا، بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا، مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ.

وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ) وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )  فَالاِسْتِسْلاَمُ لِلصَّائِلِ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ لِلتَّهْلُكَةِ، لِذَا كَانَ الدِّفَاعُ عَنْهَا وَاجِبًا. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ )  وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»  وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَشَارَ بِحَدِيدَةٍ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - يُرِيدُ قَتْلَهُ - فَقَدْ وَجَبَ دَمُهُ» .

وَلأِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا، وَلأِنَّهُ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ، كَالْمُضْطَرِّ لأِكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِلُ كَافِرًا، وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَجَبَ الدِّفَاعُ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْكَافِرُ مَعْصُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْصُومٍ، إِذْ غَيْرُ الْمَعْصُومِ لاَ حُرْمَةَ لَهُ، وَالْمَعْصُومُ بَطَلَتْ حُرْمَتُهُ بِصِيَالِهِ، وَلأِنَّ الاِسْتِسْلاَمَ لِلْكَافِرِ ذُلٌّ فِي الدِّينِ، وَفِي حُكْمِهِ كُلُّ مَهْدُورِ الدَّمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَمَنْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْجِنَايَاتِ.

كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الْبَهِيمَةِ الصَّائِلَةِ، لأِنَّهَا تُذْبَحُ لاِسْتِبْقَاءِ الآْدَمِيِّ، فَلاَ وَجْهَ لِلاِسْتِسْلاَمِ لَهَا، مِثْلُهَا مَا لَوْ سَقَطَتْ جَرَّةٌ وَنَحْوُهَا عَلَى إِنْسَانٍ وَلَمْ تَنْدَفِعْ عَنْهُ إِلاَّ بِكَسْرِهَا.

أَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِلُ مُسْلِمًا غَيْرَ مَهْدُورِ الدَّمِ فَلاَ يَجِبُ دَفْعُهُ فِي الأْظْهَرِ، بَلْ يَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّائِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَسَوَاءٌ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَنُّ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُ «لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: كُنْ كَابْنِ آدَمَ»  يَعْنِي هَابِيلَ - وَلِمَا وَرَدَ عَنِ الأْحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: خَرَجْتُ بِسِلاَحِي لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ، فَاسْتَقْبَلَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ نُصْرَةَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلاَهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قِيلَ: فَهَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟  قَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ»  وَلأِنَّ عُثْمَانَ رضى الله عنه تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَ إِمْكَانِهِ، وَمَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ نَفْسَهُ، وَمَنَعَ حُرَّاسَهُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْهُ - وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ يَوْمَ الدَّارِ - وَقَالَ: مَنْ أَلْقَى سِلاَحَهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ رضى الله عنهم فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.

وَمُقَابِلُ الأْظْهَرِ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الصَّائِلِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَ آدَمِيٍّ، لقوله تعالى : ( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) .

وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِلُ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُمَا؛ لأِنَّهُمَا لاَ إِثْمَ عَلَيْهِمَا كَالْبَهِيمَةِ.

وَاسْتَثْنَى الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَسَائِلَ مِنْهَا:

أ - لَوْ كَانَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ عَالِمًا تَوَحَّدَ فِي عَصْرِهِ، أَوْ خَلِيفَةً تَفَرَّدَ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَى قَتْلِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَيَجِبُ دَفْعُ الصَّائِلِ.

ب - لَوْ أَرَادَ الصَّائِلُ قَطْعَ عُضْوِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ لاِنْتِفَاءِ عِلَّةِ الشَّهَادَةِ.

قَالَ الأْذْرَعِيُّ رحمه الله: وَيَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ عُضْوٍ عِنْدَ ظَنِّ السَّلاَمَةِ، وَعَنْ نَفْسٍ ظَنَّ بِقَتْلِهَا مَفَاسِدَ فِي الْحَرِيمِ وَالْمَالِ وَالأْوْلاَدِ.

ج - قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ دَفْعَ الصَّائِلِ بِغَيْرِ قَتْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ وَإِلاَّ فَلاَ .

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَنِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْفِتْنَةِ، لقوله تعالى : ( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) وَلأِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا.

أَمَّا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ»  وَلأِنَّ عُثْمَانَ رضى الله عنه تَرَكَ الْقِتَالَ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ غَيْرَهُ قِتَالَهُمْ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لأَنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ .

قَتْلُ الصَّائِلِ وَضَمَانُهُ:

إِنْ قَتَلَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ الصَّائِلَ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ وَنَحْوِهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - بِقِصَاصٍ وَلاَ دِيَةٍ وَلاَ كَفَّارَةٍ وَلاَ قِيمَةٍ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ.

أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ الصَّائِلُ مِنْ قَتْلِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.

وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فِي ضَمَانِ الصَّائِلِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ يَضْمَنُ الْبَهِيمَةَ الصَّائِلَةَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ لِغَيْرِهِ، لأِنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ لإِحْيَاءِ نَفْسِهِ، كَالْمُضْطَرِّ إِلَى طَعَامِ غَيْرِهِ إِذَا أَكَلَهُ.

وَمِثْلُ الْبَهِيمَةِ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَيَضْمَنُهُمَا إِذَا قَتَلَهُمَا، لأِنَّهُمَا لاَ يَمْلِكَانِ إِبَاحَةَ أَنْفُسِهِمَا، وَلِذَلِكَ لَوِ ارْتَدَّا لَمْ يُقْتَلاَ.. لَكِنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ قَاتِلِ الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ الصَّائِلَيْنِ الدِّيَةُ لاَ الْقِصَاصُ؛ لِوُجُودِ الْمُبِيحِ، وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي حَقِّ قَاتِلِ الْبَهِيمَةِ فَهُوَ الْقِيمَةُ .

وَيُدْفَعُ الصَّائِلُ بِالأْخَفِّ فَالأْخَفِّ إِنْ أَمْكَنَ ، فَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِكَلاَمٍ أَوِ اسْتِغَاثَةٍ بِالنَّاسِ حَرُمَ الضَّرْبُ، أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِضَرْبٍ بِيَدٍ حَرُمَ بِسَوْطٍ، أَوْ بِسَوْطٍ حَرُمَ بِعَصًا، أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِقَطْعِ عُضْوٍ حَرُمَ دَفْعُهُ بِقَتْلٍ، لأِنَّ ذَلِكَ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ فِي الأْثْقَلِ مَعَ إِمْكَانِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِالأْخَفِّ.

وَعَلَيْهِ فَلَوِ انْدَفَعَ شَرُّهُ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَأَنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ، أَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، أَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ أَوْ خَنْدَقٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرْبُهُ، وَإِنْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً عَطَّلَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ كُفَى شَرُّهُ وَلأِنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الدَّفْعُ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ غَلَبَةُ ظَنِّ الْمَصُولِ عَلَيْهِ، فَلاَ يَكْفِي تَوَهُّمُ الصِّيَالِ، أَوِ الشَّكُّ فِيهِ، فَإِنْ خَالَفَ التَّرْتِيبَ الْمَذْكُورَ، وَعَدَلَ إِلَى رُتْبَةٍ - مَعَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ بِمَا دُونَهَا - ضَمِنَ، فَإِنْ وَلَّى الصَّائِلُ هَارِبًا فَاتَّبَعَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ، وَقَتَلَهُ ضَمِنَ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ، وَكَذَا إِنْ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَمِينَهُ ثُمَّ وَلَّى هَارِبًا فَضَرَبَهُ ثَانِيَةً وَقَطَعَ رِجْلَهُ مَثَلاً فَالرِّجْلُ مَضْمُونَةٌ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ، فَإِنْ مَاتَ الصَّائِلُ مِنْ سِرَايَةِ الْقَطْعَيْنِ فَعَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لأِنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ وَفِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ.

وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا مِنْهَا:

أ - لَوْ كَانَ الصَّائِلُ يَنْدَفِعُ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا وَنَحْوِهِمَا، وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ لاَ يَجِدُ إِلاَّ السَّيْفَ فَلَهُ الضَّرْبُ بِهِ، لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إِلاَّ بِهِ، وَلَيْسَ بِمُقَصِّرٍ فِي تَرْكِ اسْتِصْحَابِ السَّوْطِ وَنَحْوِهِ.

ب - لَوِ الْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا، وَاشْتَدَّ الأْمْرُ عَنِ الضَّبْطِ فَلَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا لَدَيْهِ، دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ.

ج - إِذَا ظَنَّ الْمَصُولُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّائِلَ لاَ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْلِ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا إِنْ خَافَ أَنْ يَبْدُرَهُ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَسْبِقْ هُوَ بِهِ فَلَهُ ضَرْبُهُ بِمَا يَقْتُلُهُ، أَوْ يَقْطَعُ طَرَفَهُ. وَيُصَدَّقُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ فِي عَدَمِ إِمْكَانِ التَّخَلُّصِ بِدُونِ مَا دَفَعَ بِهِ، لِعُسْرِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ.

د - إِذَا كَانَ الصَّائِلُ مُهْدَرَ الدَّمِ - كَمُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ وَزَانٍ مُحْصَنٍ - فَلاَ تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي حَقِّهِ بَلْ لَهُ الْعُدُولُ إِلَى قَتْلِهِ، لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ .

الْهَرَبُ مِنَ الصَّائِلِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْهَرَبِ مِنَ الصَّائِلِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَهْرُبَ أَوْ يَلْتَجِئَ إِلَى حِصْنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ حَاكِمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقِتَالُ، لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ بِالأْهْوَنِ فَالأْهْوَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الأْشَدِّ مَعَ إِمْكَانِ الأْسْهَلِ وَلأِنَّهُ أَمْكَنَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ إِضْرَارِ غَيْرِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِوُجُوبِ الْهَرَبِ أَنْ يَكُونَ بِلاَ مَشَقَّةٍ، فَإِنْ كَانَ بِمَشَقَّةٍ فَلاَ يَجِبُ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الصَّائِلُ مَعْصُومَ الدَّمِ، فَلَوْ صَالَ عَلَيْهِ مُرْتَدٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ لَمْ يَجِبِ الْهَرَبُ وَنَحْوُهُ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ.

فَإِنْ لَمْ يَهْرُبْ - حَيْثُ وَجَبَ الْهَرَبُ - فَقَاتَلَ وَقَتَلَ الصَّائِلَ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، فِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الأْوْجَهُ، وَلَزِمَتْهُ الدِّيَةُ فِي الْقَوْلِ الآْخَرِ لَهُمْ أَيْضًا.

وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الْهَرَبِ عَلَيْهِ؛ لأِنَّ إِقَامَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَائِزَةٌ، فَلاَ يُكَلَّفُ الاِنْصِرَافُ.

وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ إِنْ تَيَقَّنَ النَّجَاةَ بِالْهَرَبِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ . 

الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ:

لاَ يَخْتَلِفُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الأْطْرَافِ إِذَا صَالَ عَلَيْهَا صَائِلٌ - عَنْ قَوْلِهِمْ فِي الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ إِذَا كَانَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ مَعْصُومَ الدَّمِ، بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا.

وَاسْتَدَلُّوا فِي وُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ وَأَطْرَافِهِ بِنَفْسِ الأْدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدِّفَاعَ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ - إِذَا كَانَ آدَمِيًّا مُحْتَرَمًا - حُكْمُهُ كَحُكْمِ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَجِبُ حَيْثُ يَجِبُ، وَيَنْتَفِي حَيْثُ يَنْتَفِي، إِذْ لاَ يَزِيدُ حَقُّ غَيْرِهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ، وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ - عِنْدَهُمْ - إِذَا أَمِنَ الْهَلاَكَ عَلَى نَفْسِهِ، إِذْ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَهُ بَدَلاً عَنْ رُوحِ غَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي قِتَالِ الْحَرْبِيِّينَ وَالْمُرْتَدِّينَ فَلاَ يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِالْخَوْفِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا أَصَحُّ الطُّرُقِ عِنْدَهُمْ. 

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ آخَرَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

أَوَّلُهُمَا: يَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الأْطْرَافِ قَطْعًا، لأِنَّ لَهُ الإْيثَارَ بِحَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:  «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ - أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

ثَانِيهِمَا: لاَ يَجُوزُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ، لأِنَّ شَهْرَ السِّلاَحِ يُحَرِّكُ الْفِتَنَ، وَخَاصَّةً فِي مَجَالِ نُصْرَةِ الآْخَرِينَ، وَلَيْسَ الدِّفَاعُ عَنِ الْغَيْرِ مِنْ شَأْنِ آحَادِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَظِيفَةُ الإْمَامِ وَوُلاَةِ الأْمُورِ.

وَيَجْرِي هَذَا الْخِلاَفُ فِي الْمَذْهَبِ بِالنِّسْبَةِ لآِحَادِ النَّاسِ، أَمَّا الإْمَامُ وَغَيْرُهُ - مِنَ الْوُلاَةِ - فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى نَفْسِ الْغَيْرِ اتِّفَاقًا .

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الأْطْرَافِ فِي غَيْرِ فِتْنَةٍ، وَمَعَ ظَنِّ سَلاَمَةِ الدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ عَنْهُ، وَإِلاَّ حَرُمَ الدِّفَاعُ .

دَفْعُ الصَّائِلِ عَنِ الْعِرْضِ:

- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى بُضْعِ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِ أَهْلِهِ، لأِنَّهُ لاَ سَبِيلَ إِلَى إِبَاحَتِهِ، وَمِثْلُ الزِّنَا بِالْبُضْعِ فِي الْحَكَمِ مُقَدِّمَاتُهُ فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ حَتَّى لَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِ الصَّائِلِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. بَلْ إِنْ قُتِلَ الدَّافِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:  «مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .

وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِ وَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى - وَهُوَ مَنْعُ الْفَاحِشَةِ - وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:  «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» .

إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَرَطُوا لِوُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنْ عِرْضِهِ وَعِرْضِ غَيْرِهِ: أَنْ لاَ يَخَافَ الدَّافِعُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَوْ عَلَى مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ أَعْضَائِهِ.

أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمَصُولُ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ الزِّنَا بِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا إِنْ أَمْكَنَهَا ذَلِكَ، لأِنَّ التَّمْكِينَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ، وَفِي تَرْكِ الدَّفْعِ نَوْعُ تَمْكِينٍ، فَإِذَا قَتَلَتِ الصَّائِلَ - وَلَمْ يَكُنْ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْلِ - فَلاَ تَضْمَنُهُ بِقِصَاصٍ وَلاَ دِيَةٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً أَضَافَ نَاسًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَأَرَادَ امْرَأَةً عَلَى نَفْسِهَا، فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضى الله عنه: وَاللَّهِ لاَ يُودَى أَبَدًا وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:  «مَنْ قُتِلَ دُونَ عِرْضِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .

وَفِي الْمُغْنِي: لَوْ رَأَى رَجُلاً يَزْنِي بِامْرَأَتِهِ - أَوْ بِامْرَأَةِ غَيْرِهِ - وَهُوَ مُحْصَنٌ فَصَاحَ بِهِ، وَلَمْ يَهْرُبْ وَلَمْ يَمْتَنِعْ عَنِ الزِّنَا حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلاَ دِيَةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رضى الله عنه - بَيْنَمَا هُوَ يَتَغَدَّى يَوْمًا إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ يَعْدُو وَمَعَهُ سَيْفٌ مُجَرَّدٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، فَجَاءَ حَتَّى قَعَدَ مَعَ عُمَرَ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا قَتَلَ صَاحِبَنَا مَعَ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا يَقُولُ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: إِنَّهُ ضَرَبَ فَخِذَيِ امْرَأَتَهُ بِالسَّيْفِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ فَقَدْ قَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فَقَطَعَ فَخِذَيِ امْرَأَتَهُ فَأَصَابَ وَسَطَ الرَّجُلِ فَقَطَعَهُ بِاثْنَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ .

- وَإِذَا قَتَلَ رَجُلاً، وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَأَنْكَرَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضى الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ بَيْتَهُ، فَإِذَا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلٌ، فَقَتَلَهَا وَقَتَلَهُ، قَالَ عَلِيٌّ: إِنْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَإِلاَّ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ، وَلأِنَّ الأْصْلَ عَدَمُ مَا يَدَّعِيهِ، فَلاَ يَسْقُطُ حُكْمُ الْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.

إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْبَيِّنَةِ.

فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ، لِخَبَرِ عَلِيٍّ السَّابِقِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ «سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضى الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِي بِأَرْبَعِهِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ». الْحَدِيثَ .

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَكْفِي شَاهِدَانِ، لأِنَّ الْبَيِّنَةَ تَشْهَدُ عَلَى وُجُودِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ عَلَى الزِّنَا .

وَكَذَا لَوْ قَتَلَ رَجُلاً فِي دَارِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ هَجَمَ عَلَى مَنْزِلِهِ، فَأَنْكَرَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَقْتُولُ مَعْرُوفًا بِالشَّرِّ وَالسَّرِقَةِ، قُتِلَ صَاحِبُ الدَّارِ قِصَاصًا ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مَعْرُوفًا بِالشَّرِّ وَالسَّرِقَةِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِلِ فِي الْقِيَاسِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فِي الاِسْتِحْسَانِ، لأِنَّ دَلاَلَةَ الْحَالِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ لاَ الْمَالِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَلاَ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ يَحْضُرُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَيَكْفِي فِي الْبَيِّنَةِ قَوْلُهَا: دَخَلَ دَارَهُ شَاهِرًا السِّلاَحَ، وَلاَ يَكْفِي قَوْلُهَا: دَخَلَ بِسِلاَحٍ مِنْ غَيْرِ شَهْرٍ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ عَدَاوَةٌ فَيَكْفِي ذَلِكَ لِلْقَرِينَةِ .

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ يُعْرَفُ بِفَسَادٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُمْ رَأَوْا هَذَا مُقْبِلاً إِلَى هَذَا بِالسِّلاَحِ الْمَشْهُورِ فَضَرَبَهُ هَذَا، فَقَدْ هُدِرَ دَمُهُ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْهُ دَاخِلاً دَارَهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سِلاَحًا، أَوْ ذَكَرُوا سِلاَحًا غَيْرَ مَشْهُورٍ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ بِذَلِكَ، لأِنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ لِحَاجَةٍ، وَمُجَرَّدُ الدُّخُولِ لاَ يُوجِبُ إِهْدَارَ دَمِهِ.

وَإِنْ تَجَارَحَ رَجُلاَنِ، وَادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا قَائِلاً: إِنِّي جَرَحْتُهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِي، حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا جَرَحَهُ، لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى الآْخَرِ مَا يُنْكِرُهُ، وَالأْصْلُ عَدَمُهُ .

وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، شَهَادَة).

دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى الْمَالِ:

- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى الْمَالِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ» . وَاسْمُ الْمَالِ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ. فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى مَالِهِ إِلاَّ بِالْقَتْلِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .

وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ. فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْخَانِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ رَأَى رَجُلاً يَسْرِقُ مَالَهُ فَصَاحَ بِهِ وَلَمْ يَهْرُبْ، أَوْ رَأَى رَجُلاً يَثْقُبُ حَائِطَهُ، أَوْ حَائِطَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالسَّرِقَةِ فَصَاحَ بِهِ وَلَمْ يَهْرُبْ حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، وَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ .

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِلْوُجُوبِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى أَخْذِهِ هَلاَكٌ، أَوْ شِدَّةُ أَذًى، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ الدَّفْعُ اتِّفَاقًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنِ الْمَالِ، لأِنَّهُ يَجُوزُ إِبَاحَتُهُ لِلْغَيْرِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَا رُوحٍ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَرَهْنٍ وَإِجَارَةٍ فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْهُ، قَالَ الإْمَامُ الْغَزَالِيُّ: وَكَذَا إِنْ كَانَ مَالَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، أَوْ وَقْفٍ أَوْ مَالاً مُودَعًا، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَخْشَ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ عَلَى بُضْعٍ، وَعَلَيْهِ فَإِذَا رَأَى شَخْصًا يُتْلِفُ حَيَوَانَ نَفْسِهِ إِتْلاَفًا مُحَرَّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ الدِّفَاعُ عَنْهُ، مِنْ بَابِ الأْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ الصَّائِلَ عَلَى الْمَالِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِقِصَاصٍ وَلاَ دِيَةٍ وَلاَ كَفَّارَةٍ وَلاَ قِيمَةٍ، لأِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالأْدِلَّةِ السَّابِقَةِ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، وَبَيْنَ الأْمْرِ بِالْقِتَالِ وَالضَّمَانِ مُنَافَاةٌ، قَالَ تَعَالَى: ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»  وَقَالَ أَيْضًا: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».

وَيُسْتَثْنَى عِنْدَهُمْ مِنْ جَوَازِ الدِّفَاعِ عَنِ الْمَالِ صُورَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: لَوْ قَصَدَ مُضْطَرٌّ طَعَامَ غَيْرِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لِمَالِكِهِ دَفْعُهُ عَنْهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا مِثْلَهُ، فَإِنْ قَتَلَ الْمَالِكُ الصَّائِلَ الْمُضْطَرَّ إِلَى الطَّعَامِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَالأْخْرَى: إِذَا كَانَ الصَّائِلُ مُكْرَهًا عَلَى إِتْلاَفِ مَالِ غَيْرِهِ، فَلاَ يَجُوزُ دَفْعُهُ عَنْهُ، بَلْ يَلْزَمُ الْمَالِكَ أَنْ يَقِيَ رُوحَهُ بِمَالِهِ، كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمُضْطَرُّ طَعَامَهُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعُ الْمُكْرَهِ.

قَالَ الأْذْرَعِيُّ: وَهَذَا فِي آحَادِ النَّاسِ، أَمَّا الإْمَامُ وَنُوَّابُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الدِّفَاعُ عَنْ أَمْوَالِ رَعَايَاهُمْ .

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلاَ مَالِ غَيْرِهِ، وَلاَ حِفْظِهِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالْهَلاَكِ، لأِنَّهُ يَجُوزُ بَذْلُهُ لِمَنْ أَرَادَهُ مِنْهُ ظُلْمًا. وَتَرْكُ الْقِتَالِ عَلَى مَالِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْقِتَالِ عَلَيْهِ.

وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِهِ.

أَمَّا دَفْعُ الإْنْسَانِ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِ الطَّالِبِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ مَعَ ظَنِّ سَلاَمَةِ الدَّافِعِ وَالصَّائِلِ، وَإِلاَّ حُرِّمَ الدِّفَاعُ.

قَالُوا: وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعُونَةُ غَيْرِهِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهِ مَعَ ظَنِّ السَّلاَمَةِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»  ، وَلأِنَّهُ لَوْلاَ التَّعَاوُنُ لَذَهَبَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ وَأَنْفُسُهُمْ، لأِنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ إِذَا انْفَرَدُوا بِأَخْذِ مَالِ إِنْسَانٍ - وَلَمْ يُعِنْهُ غَيْرُهُ - فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْكُلِّ، وَاحِدًا وَاحِدًا .