1 ـ مجرد الامتناع عن الرد - إن صح - فإنه لا يترتب عليه تحقق وقوع جريمة خيانة الأمانة ، متى كان سبب الامتناع راجعاً إلى وجوب تصفية الحساب بين الطرفين ، لأن محل ذلك أن يكون هناك حساب حقيقى مطلوب تصفيته توصلاً لإثبات وقوع مقاصة تبرأ بها الذمة ،أما إذا كان الحساب بينهما قد صفى بما يفيد مديونية المتهم بمبلغ محدد، فامتناعه عن رده يعتبر اختلاس .
(هيئة عامة )(الطعن رقم 37456 لسنة 77 جلسة 2009/04/21 س 54 ص 30 ق 4)
2- لما كان الظاهر من مطالعة نص المادة 341 من قانون العقوبات أنه يشترط لقيام جريمة خيانة الأمانة أن يكون موضوعها مالاً منقولاً مملوكاً لغير الجاني ، إذ هدف المشرع بالعقاب على الجريمة شأنها شأن السرقة والنصب حماية ثروة الغير المنقولة . فإذا كان المال مملوكاً للفاعل ، كما إذا كان من تلقاه بشيكات ذكر اسمه فيها كمستفيد - كما هو الحال فى الدعوى المطروحة - فلا تقوم الجريمة قبله - حتى ولو كان معتقداً أن المال فى ملكية غيره - وتكون يده على هذا المال يد مالك ، وله وحده - فى حدود القانون - حق استعماله واستغلاله والتصرف فيه ، وإذ التزم الحكم المطعون فيه هذا النظر - بما لقاضي الموضوع من سلطة الفصل فى ملكية الفاعل للمال باعتبارها مسألة موضوعية يستقل بتقديرها - بما مفاده أن المدعي بالحق المدني قد أصدر شيكات بنكية ذكر اسم المستفيد بها وهو المطعون ضده وأن الأخير استلمها بصفته الشخصية وبما مؤداه أنه لم يستلمها على سبيل الأمانة بأية صورة من الصور الواردة بمادة الاتهام 341 من قانون العقوبات ، يكون قد أصاب صحيح القانون ، ولا يغير من هذا النظر ما ذهبت إليه النيابة العامة - الطاعنة - من تعويلها على قيام المطعون ضده من توقيعه على إيصالات باستلامه تلك الشيكات الصادرة لصالحه ، فإنه لا يعدو أن يكون تقريراً بتلقيه مالاً تعود ملكيته إليه لا يسلبه حقاً مقرراً له ، ويكون ما تنعاه فى خصوص هذا الأمر غير مقبول .
(الطعن رقم 22155 لسنة 4 جلسة 2014/10/28)
3- لما كان الطاعن دين - فى الدعوى الماثلة - بجريمة التبديد المؤثمة بنص المادة 341 من قانون العقوبات، وكان البين من الصورة الرسمية لمحضر تحقيق نيابة .... الكلية - المرفقة بملف الطعن - أن وكيل المدعي بالحق المدني- الخاص- حضر وأقر بتصالحه مع الطاعن عن الجريمة التي دين بها ، ومن ثم يتعين الحكم بانقضاء الدعوى الجنائية صلحاً عملاً بنص المادة 18 مكرراً " أ " المضافة بالقانون رقم 74 لسنة 1998 والمستبدلة بالقانون رقم 145 لسنة 2006 ، ولا يغير من ذلك كون الحكم المطعون فيه - المندمج فى الحكم الغيابي الاستئنافي- لم يفصل إلا فى شكل الاستئناف بقضائه بسقوط الحق فيه ؛ ذلك أن المادة 18 مكرراً " أ " - آنفة الذكر - أجازت للمجني عليه ولوكيله الخاص الصلح فى الجنح المنصوص عليها - فيها - على سبيل الحصر ، ورتبت أثره بانقضاء الدعوى الجنائية فى أي مرحلة كانت عليها الدعوى وبعد صيرورة الحكم باتاً ، دون أن يكون لهذا الصلح أثر على حقوق المضرور من الجريمة فى الدعوى المدنية التابعة للدعوى الجنائية .
(الطعن رقم 17200 لسنة 4 جلسة 2014/10/15)
4- لما كان البين من محاضر جلسات المحاكمة أن الطاعن لم يدفع بعدم اختصاص المحكمة نوعياً بنظر الدعوى واختصاص محكمة الأسرة بنظرها ، ومن ثم فليس له أن ينعى على المحكمة قعودها عن الرد على دفاع لم يثير أمامها ، وفوق ذلك فإنه لما كانت المادة 215 من قانون الإجراءات الواردة فى الفصل الأول من الباب الأول بالكتاب الثاني والمعنون باختصاص المحاكم الجنائية فى المواد الجنائية قد نصت على أنه : " تحكم المحكمة الجزئية فى كل فعل يعد بمقتضى القانون مخالفة أو جنحة ... " وكان الفعل المقدم به الطاعن للمحاكمة يخضع للنموذج الإجرامي الوارد تحت نص المادة 341 من قانون العقوباتوالمتمثل فى جنحة التبديد ، الأمر الذى تكون معه المحاكم الجنائية هي المختصة بنظر الدعوى محل الاتهام ، ويكون منعى الطاعن فى هذا الشأن غير سديد .
(الطعن رقم 13812 لسنة 4 جلسة 2014/04/28 س 65 )
5- لما كان الحكم المطعون فيه قد عرض لدفاع الطاعن بأن العلاقة التي تربطه بالمجنى عليهم علاقة مدنية ، وأنه تسلم المبالغ موضوع الدعوى لتوظيفها فى تجارة قطع السيارات واطرحه بقوله ".. أقر المتهم بتحقيقات النيابة العامة من أنه استلم المبالغ النقدية محل إيصالات الأمانة من المجنى عليهم ، وذلك لتشغيلها لحسابهم ، إلا أنه لم يقم بتسليمها لهم عند طلبهم لتلك المبالغ النقدية ، وبذلك نجد أن أركان جريمة التبديد ثابتة قبل المتهم من تسلم المال موضوع إيصالات الأمانة بموجب عقد من عقود الأمانة وهو عقد الوكالة ، وهذا العقد من العقود المذكورة على سبيل الحصر فى المادة 341 من قانون العقوبات واختلسها لنفسه ، وبهذا يكون الركن المادي قد اكتمل أما بشأن الضرر فذلك ثابت من عدم توصيل المال المسلم إلى المتهم إلى مالكه حين طلبه ، ومن جماع ما تقدم تكون التهمة ثابتة قبل المتهم ثبوتاً يقينياً لدى المحكمة بما يكفى لمعاقبته وفقاً لنص المادة 341 من قانون العقوبات ، وأن ما أثاره دفاع المتهم من مدنية العلاقة فلم يثبت وجود أية علاقة مدنية بين المتهم والمجنى عليه ، وأن ما دفع به المتهم يعد درباً من دروب الدفاع تلتفت عنه المحكمة " ، وهذا الذى أورده الحكم يكفى فى الرد على دفاع الطاعن فى هذا الشأن ويسوغ به اطراحه ، ذلك أنه من المقرر أنه إذا اتفق شخص مع آخر على شراء بضاعة شركة بينهما للاتجار فيها وتسلم منه مبلغاً من المال لهذا الغرض ولم يشتر هذه البضاعة ولم يرد المبلغ إلى صاحبه عند طلبه عُد مبدداً ، لأن تسلمه المبلغ من شريكه إنما كان بصفته وكيلاً عنه لاستعماله فى الغرض الذى اتفق كلاهما عليه فيده تعتبر يد أمين ، فإذا تصرف فى المبلغ المسلم إليه بهذه الصفة وأضافه إلى ملكه فهو مبدد خائن للأمانة تنطبق عليه المادة 341 عقوبات .
(الطعن رقم 37037 لسنة 3 جلسة 2013/03/21)
6- لما كان البين من الاطلاع على الحكم الابتدائي المؤيد لأسبابه بالحكم الغيابي الاستئنافي الذي اندمج فيه الحكم المطعون فيه أن المدعي بالحقوق المدنية أقام الدعوى المباشرة ضد الطاعنة بوصف أنها أصدرت له شيكاً لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب وطلب عقابها بالمادتين 336 ، 337 من قانون العقوبات وإلزامها بأن تؤدي له تعويضاً مؤقتاً ، ومحكمة أول درجة قضت غيابياً بحبس الطاعنة ستة أشهر مع الشغل وإلزامها بأن تؤدي للمدعي بالحقوق المدنية مبلغ ... تعويضاً مؤقتاً وبنت ما انتهت إليه من إدانة المتهمة - الطاعنة - والقضاء بالتعويض على أن الأخيرة أصدرت للمدعي بالحقوق المدنية شيكاً لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب وقد أصابه من ذلك ضرر ، وأن ارتكاب المتهمة لهذه الجريمة ثابت من الشيك المقدم من المدعي بالحقوق المدنية ومن إفادة البنك بعدم وجود رصيد للمتهمة ، فعارضت الطاعنة وقضي فى المعارضة برفضها موضوعاً وتأييد الحكم المعارض فيه ، فاستأنفت ، وقضت محكمة ثاني درجة غيابياً بقبول الاستئناف شكلاً وفي الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف ، فعارضت ، وقضي فى معارضتها باعتبارها كأن لم تكن . لما كان ذلك ، ولئن كان قد أثبت فى ديباجة الحكم الغيابي الاستئنافي- الذي اندمج فيه الحكم المطعون فيه - أن الواقعة التي طرحت على المحكمة الاستئنافية هي اختلاس الطاعنة لمبلغ نقدى سلم إليها على سبيل الأمانة الأمر المنطبق عليه نص المادة 341 من قانون العقوبات إلا أن الحكم المذكور أورد فى مدوناته ما نصه . " وحيث إن الحكم المستأنف فى محله للأسباب الواردة به والتي تأخذ بها هذه المحكمة فيتعين تأييده " . لما كان ذلك ، وكان إذا ذكرت التهمة فى الحكم الاستئنافي بصيغة مخالفة بالمرة للصيغة التي ذكرت فى الحكم الابتدائي ولم تذكر المحكمة الاستئنافية عند تأييدها الحكم الابتدائي سوى قولها : " إن الحكم المستأنف فى محله " ، فإن مجيء حكمها بهذا الوضع يجعله من جهة خالياً من بيان الأسباب المستوجبة للعقوبة ويوقع من جهة أخرى اللبس الشديد فى حقيقة الأفعال التي عاقبت المحكمة الطاعنة عليها ، فإن الحكم المطعون فيه يكون معيباً بما يوجب نقضه والإعادة .
(الطعن رقم 21296 لسنة 67 جلسة 2007/02/28 س 58 ص 182 ق 37)
7- لما كان ما أثبته الحكم كافياً لتفهم واقعة الدعوى وظروفها حسبما تبينتها المحكمة وتتوافر به كافة الأركان القانونية للجريمة التى دان الطاعن بها ويكشف عن بيان ماهية ونوع العقد الذى تم تسليم المبلغ المشار إليه إلى الطاعن وكونه من العقود المشار إليها فى المادة 341 من قانون العقوبات ويفصح عن اطمئنان المحكمة لأدلة الإثبات القائمة فى الدعوى ، فإن ذلك يحقق حكم القانون ، إذ لم يرسم القانون شكلاً خاصاً يصوغ فيه الحكم بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة والظروف التى وقعت فيها ، ومن ثم فإن ما يثيره الطاعن فى هذا الصدد لا يكون سديداً .
(الطعن رقم 11602 لسنة 66 جلسة 2005/05/16 س 56 ص 320 ق 49)
8- لما كان الحكم الابتدائى المؤيد لأسبابه بالحكم المطعون فيه برر قضاءه ببراءة المطعون ضده بقوله أنه لما كان الثابت من الإيصال المرفق بحافظة مستندات المدعى بالحقوق المدنية أن المتهم تسلم منه مبلغ مقداره عشرة آلاف جنيه بصفة أمانة لرده عند الطلب ...... ويبين من عبارات الإيصال أن الشئ المودع لدى المتهم وهو النقود من المثليات ولم ينص فى الإيصال على رد المبلغ بذاته وأن الإيصال لا يعد من العقود الواردة فى المادة 341 من قانون العقوبات وأن الدين الثابت به دين مدنى . الأمر الذى تقضى معه المحكمة ببراءة المتهم . لما كان ذلك ، ولئن كان من المقررأن لمحكمة الموضوع وهى بصدد البحث فى تهمة التبديد المنسوبة إلى المتهم تفسير العقد الذى بموجبه تسلم المتهم المبلغ من المدعى بالحقوق المدنية مستندة فى ذلك لظروف الدعوى وملابساتها إلى جانب نصوص ذلك العقد ، إلا أنه لما كان يبين من مدونات الحكم المطعون فيه أنه أثبت أن المطعون ضده تسلم بموجب الإيصال موضوع الجريمة مبلغ مقداره عشرة آلاف جنيه من المدعى بالحقوق المدنية بصفة أمانة لرده عند الطلب . لما كان ذلك ، وكان الحكم قد قضى بتبرئة المطعون ضده من تهمة تبديد المبلغ الذى تسلمه على سبيل الوديعة بمقولة أن الثابت من عبارات الإيصال أن الشئ المودع لديه وهو مبلغ النقود من المثليات ولم ينص فى الإيصال على رده بذاته وأن الإيصال لا يعد عقداً من عقود الأمانة الواردة فى المادة 341 من قانون العقوبات ، وكان هذا القول من المحكمة غير سديد ، إذ أنه لا يؤثر فى أن تسليم الشئ موضوع الإيصال كان على سبيل الوديعة مجرد ورود الوديعة على مبلغ من النقود ، ينوب بعضها عن بعض مادام أن المطعون ضده لم يكن مأذوناً له فى استعمال هذا المبلغ من النقود , ومن ثم فإذا ما انتهى الحكم إلى أن مبلغ النقود لا يصلح محلاً للوديعة وإلى أن الإيصال موضوع الجريمة لا يعد عقداً من عقود الأمانة الواردة فى المادة 341 من قانون العقوبات يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون خطأ حجبه عن بحث موضوع الدعوى وتقدير أدلتها ، مما يتعين معه نقض الحكم المطعون فيه والإعادة .
(الطعن رقم 11687 لسنة 66 جلسة 2005/02/21 س 56 ص 150 ق 20)
9- لما كان الثابت بالأوراق ومدونات الحكم المطعون فيه , بما لا ينازع فيه الطاعن – المدعي بالحقوق المدنية – ثبوت عدم تحصيل البنك الذي يمثله المطعون ضده لقيمة الشيكين اللذين ظهرهما له المدعي بالحقوق المدنية لتحصيل قيمتهما وإيداعه فى حسابه فإن ذلك وأن جاز أن يكون أساساً لدعوي التعويض إذا أثبت المدعي بالحقوق المدنية الخطأ فى جانب البنك والضرر فى جانبه وعلاقة السببية بينهما ويظل حقه فى هذا التعويض ثابتاً طبقاً للقواعد العامة فى المادة 217 من القانون المدني حتي ولو اشترط البنك عدم المسئولية فى هذا الشأن وذلك فى حالتي الغش والخطأ الجسيم إلا أن ذلك الخطأ من جانب البنك الذي يمثله المطعون ضده لا تقوم به جريمة خيانة الأمانة – علي ما سلف بيانه – لأن تلك الجريمة لا تقوم إلا بحصول العبث بملكية المال المسلم إلي المتهم بمقتضي عقد من عقود الائتمان الواردة حصراً فى المادة 341 من قانون العقوبات ومن بين هذه العقود عقد الوكالة سواء كانت بأجر أو بغير أجر . لما كان ذلك ، وكان الثابت من الأوراق علي – ما سلف بيانه – أن الأوراق قد خلت مما يشكل جريمة خيانة الأمانة , وان حقيقة العلاقة بين الطاعن – المدعي بالحقوق المدنية – والبنك الذي يمثله المطعون ضده هي علاقة تجارية فإن الحكم المطعون فيه إذ قضي ببراءة المطعون ضده ورفض الدعوى المدنية يكون قد أصاب صحيح القانون ، ولا يغير من ذلك ، ولا يؤثر فى سلامة الحكم القاضي ببراءة المطعون ضده ورفض الدعوى المدنية أن يكون قد انطوي علي بعض التقريرات القانونية الخاطئة فى مدوناته مادامت لم تمس جوهر قضاءه وكانت النتيجة التي خلص اليها صحيحة وتتفق والتطبيق القانوني السليم – علي ما سلف بيانه – وتقضي هذه المحكمة – محكمة النقض – بتصحيح تلك الأسباب عملاً بالحق المخول لها بمقتضي المادة 40 من القانون رقم 57 لسنة 1959 فى شأن حالات وإجراءات الطعن بالنقض .
(الطعن رقم 7109 لسنة 67 جلسة 2004/05/09 س 55 ع 1 ص 480 ق 65)
10- لما كان البين من الحكم الابتدائى المؤيد لأسبابه بالحكم المطعون فيه أنه اعتبر الدعوى خالية من الدليل والتفت عن الصورة الضوئية لقائمة المنقولات المقدمة من المجنى عليها لما قاله من أنها لا تعتبر حجة فى الإثبات لما كان ذلك وكان عدم وجود أصل القائمة عند المحاكمة لا ينفى وقوع الجريمة المنصوص عليها فى المادة 341 من قانون العقوبات متى قام الدليل على سبق وجودها مستوفية شرائطها القانونية وللمحكمة أن تكون عقيدتها فى ذلك بكافة طرق الإثبات غير مقيدة بقواعد الإثبات فى القانون المدنى فيحق لها أن تأخذ بالصورة الضوئية كدليل فى الدعوى إذا ما اطمأنت إلى مطابقتها للأصل لما كان ما تقدم وكان يبين من الأوراق أن المطعون ضده لم يجحد الصورة الضوئية لقائمة المنقولات المقدمة من المجنى عليها ولم ينازع فى صحتها واستيفائها لكافة شرائطها . ولما كان اطراح المحكمة للصورة الضوئية وعدم اعتبارها دليلاً يمكن الأخذ به مبناه خطأ فى فهم مدى سلطتها فى تقدير الأدلة وقد حجبها ذلك عن بحث مبلغ مطابقة هذه الصورة للأصل . واستيفائها شرائطها القانونية . لما كان ما تقدم فإنه يتعين نقض الحكم المطعون فيه والإعادة .
(الطعن رقم 24045 لسنة 65 جلسة 2004/02/18 س 55 ع 1 ص 179 ق 21)
11- لما كان من المقرر أنه لا تصح إدانة متهم بجريمة خيانة الأمانة إلا إذا اقتنع القاضى بأنه تسلم المال بعقد من عقود الأمانة الواردة على سبيل الحصر فى المادة 341 من قانون العقوبات ، وأن العبرة فى القول بثبوت قيام عقد من هذه العقود فى صدد توقيع العقاب إنما هى بحقيقة الواقع بحيث لا يصح تأثيم إنسان ولو بناءً على اعترافه بلسانه أو بكتابته متى كان ذلك مخالفاً للحقيقة .
(الطعن رقم 14184 لسنة 67 جلسة 2003/12/21 س 54 ص 1256 ق 176)
12- من المقرر أنه إذا اتفق شخص مع آخر على شراء بضاعة شركة بينهما للاتجار فيها وتسلم منه مبلغاً من المال لهذا الغرض ولم يشتر هذه البضاعة و لم يرد المبلغ إلى صاحبه عند طلبه عد مبدداً لأن تسلمه المبلغ من شريكه إنما كان بصفته وكيلاً عنه لاستعماله فى الغرض الذى اتفق كلاهما عليه فيده تعتبر يد أمين فإذا تصرف فى المبلغ المسلم إليه بهذه الصفة وأضافه إلى ملكه فهو مبدد خائن للأمانة تنطبق عليه المادة 341 من قانون العقوبات . لما كان ذلك ، وكان الحكم المطعون فيه قد خالف هذا النظر - إذ أقام قضاءه بالبراءة على أن استلام المطعون ضده للماشية محل التداعى وإن كان بمقتضى عقد شركة مع المجنى عليه إلا أن عقد الشركة هذا لا يعد من عقود الأمانة الواردة لا يعد خيانة أمانة لأن هذا العقد لا يعد من عقود الأمانة الواردة على سبيل الحصر فى المادة 341 من قانون العقوبات -فإنه يكون قد أخطأ التطبيق الصحيح للقانون مما يعيبه و يوجب نقضه ، و لما كان هذا الخطأ فى القانون قد حجب المحكمة عن تناول موضوع الدعوى تناولاً صحيحاً فإنه يتعين أن يكون مع النقض الإعادة .
(الطعن رقم 28421 لسنة 64 جلسة 2003/06/07 س 54 ص 738 ق 96)
13- لما كان الحكم الابتدائي المؤيد لأسبابه بالحكم المطعون فيه أقام قضاءه ببراءة المطعون ضدهم ورفض الدعوى المدنية على خلو الأوراق من وجود عقد من العقود المنصوص عليها فى المادة 341 من قانون العقوبات دون أن يعرض أي من الحكمين لما أبداه الطاعن بمذكرته المقدمة بجلسات المرافعة - بدرجتي المحاكمة - من طلب إثبات العقد بالبينة لوجود المانع الأدبي الذي حال دون حصوله على دليل كتابي يشهد بوجوده، وإذ كان تقدير قيام المانع من الحصول على سند بالكتابة هو من المسائل التي يفصل فيها قاضي الموضوع، فإنه كان لزاما على محكمة الموضوع أن تحقق قيام هذا المانع إثباتا ونفيا، فإن ثبت لديها قيامه وجب عليها أن تتيح للخصوم إثبات ونفي وجود العقد بأركانه بكافة وسائل الإثبات دون أن تلقي بالا لما دفع المطعون ضدهم من عدم جواز إثبات العقد بغير الكتابة، أما إذا لم يثبت لديها قيام المانع من الحصول على سند بالكتابة فإن مرد الأمر يكون لقبول المطعون ضدهم الصريح أو الضمني، أو عدم قبولهم لإثبات العقد بغير الكتابة، ولا يعترض على ذلك بأن المحكمة الاستئنافية لا تجري تحقيقا فى الجلسة وأنها تبني قضاءها على ما تسمعه من الخصوم وما تستخلصه من الأوراق المعروضة عليها إذ أن حقها فى هذا النطاق مقيد بوجوب مراعاة مقتضيات حق الدفاع بل إن القانون أوجب عليها طبقا للمادة 413 من قانون الإجراءات الجنائية أن تسمع بنفسها أو بواسطة أحد القضاة - تندبه لذلك - الشهود الذين كان يجب سماعهم أمام محكمة أول درجة وتستوفي كل نقص فى إجراءات التحقيق، كما لا يرد على ذلك بما هو مقرر من أن المحكمة فى جريمة خيانة الأمانة فى حل من التقيد بقواعد الإثبات المدنية عند القضاء بالبراءة إذ أن هذا القول مشروط بأن تكون أحاطت فى حكمها بالدعوى وظروفها وأدلتها وفطنت لدفاع الخصوم فيها وحققته أو تناولته برد سائغ. لما كان ما تقدم، فإن محكمة الموضوع بدرجتيها وقد أغفلت طلب الطاعن إثبات وجود العقد بأركانه بالبينة لقيام المانع الأدبي من الحصول على سند بالكتابة يشهد له. دون أن تعرض له فى حكمها برد ينفي لزومه، تكون قد أخلت بحق الطاعن فى الدفاع مما يتعين معه نقض الحكم المطعون فيه والإعادة فى خصوص الدعوى المدنية.
(الطعن رقم 5705 لسنة 65 جلسة 2001/05/28 س 52 ع 1 ص 537 ق 96)
14- لما كانت المحكمة قد وقفت عند حد ما تنص عليه المادة 341 من قانون العقوبات التي طلب المدعي بالحق المدني إعمالها على الرغم من عدم انطباقها على واقعة الدعوى كما حصلتها المحكمة وهي فى هذا الخصوص بيع بالتقسيط ينطبق عليه أحكام القانون رقم 100 لسنة 1957 فى شأن بعض البيوع التجارية والتي حظرت المادة 42 منه على المشتري بدون إذن سابق من البائع أن يتصرف بأي نوع من أنواع التصرفات فى السلعة موضوع التقسيط قبل الوفاء بثمنها وهو ما عاقبت المادة 45 من ذات القانون على محاكمته بعقوبة الحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تجاوز مائة جنيه أو إحدى العقوبتين وهو ما كان يتعين على المحكمة إسباغه على واقعة الدعوى بغض النظر عن المادة التي طلب المدعي بالحقوق المدنية تطبيقها. لما كان ذلك، وكان من المقرر أنه وإن كان لمحكمة الموضوع أن تقضي بالبراءة متى تشككت فى صحة إسناد التهمة إلى المتهم أو لعدم كفاية أدلة الثبوت غير أن ذلك مشروط بأن يشتمل حكمها على ما يفيد أنها محصت الدعوى وأحاطت بظروفها وبأدلة الثبوت التي قام الاتهام عليها عن بصر وبصيرة وأن تكون الأسباب التي تستند إليها فى قضائها لها معينها الصحيح من الأوراق ومن شأنها أن تؤدي إلى ما رتب عليها. لما كان ذلك، وكان هذا الخطأ الذي تردت فيه المحكمة قد أسلمها إلى فساد استدلال حكمها على عناصر الدعوى، فإن الحكم المطعون فيه يكون معيباً بما يوجب نقضه.
(الطعن رقم 6411 لسنة 62 جلسة 2001/01/10 س 52 ع 1 ص 118 ق 16)
15- من المقرر أن الرهن الذي قصده الشارع فى خيانة الأمانة المعاقب عليها بالمادة 341 من قانون العقوبات التي أعملها الحكم المطعون فيه هو الرهن الحيازي دون الرهن الرسمي، والمتعاقد فى عقد الرهن الحيازي كما عرفته المادة 1096 من القانون المدني الذي يتصور ارتكابه خيانة الأمانة هو المرتهن الذي يتسلم الشئ المرهون بناء على عقد الرهن فيصير فى حيازته الناقصة ويلتزم بالمحافظة عليه ورده عيناً إلى الراهن بعد استيفاء حقه، فيستولى عليه مدعياً ملكيته لنفسه منكراً ملكية الراهن له، فلا يتصور وقوع هذه الجريمة من المدين الراهن الذي ظل الشئ المرهون فى حيازته هو ثم تصرف فيه باعتباره مالكاً له. وكانت المادة 323 مكرراً من قانون العقوبات قد اعتبرت فى حكم السرقة اختلاس الأشياء المنقولة الواقع ممن رهنها ضماناً لدين عليه أو آخر، يستوي فى ذلك أن يكون الشئ المر هون قد انتقل إلى حيازة الدائن أو ظل الشيء المرهون فى حيازة الراهن وسواء كانت لضمان لدين عليه أو على آخر دون أن يؤثر فى ذلك معنى السرقة كما هو متعارف عليه إذ له فى هذه الجريمة مدلول آخر خاص به. لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه قد دان الطاعنين دون أن يبين سنده فى إدانتهما بالمادة 341 من قانون العقوبات، مع أن الشئ المرهون إلى حيازة الدائن المرتهن البنك كما لم يعرض لدلالة ما انتهى إليه من اختلاس الطاعنين للشئ المرهون من غيرهما فى مدى توافر أركان الجريمة المعاقب عليها بالمادة 323 مكرراً من قانون العقوبات، فإنه يكون فوق فساده فى الاستدلال معيباً بالقصور.
(الطعن رقم 19198 لسنة 64 جلسة 2000/11/23 س 51 ص 769 ق 152)
16- من المقرر أنه لا تصح إدانة متهم بجريمة خيانة الأمانة إلا إذا اقتنع القاضى بأنه تسلم المال بعقد من عقود الأمانه الواردة على سبيل الحصر فى المادة 341 من قانون العقوبات ، وأن العبرة فى القول بثبوت قيام عقد من هذه العقود فى صدد توقيع العقاب إنما هى بالواقع بحيث لا يصح تأثيم انسان ولو بناء على أعترافه بلسانه أو بكتابته متى كان ذلك مخالفاً للحقيقة .
(الطعن رقم 8431 لسنة 64 جلسة 2000/05/09 س 51 ص 467 ق 86)
17- لما كان الحكم المطعون فيه صدر بجلسة ......................... بإدانة الطاعن بمقتضى المادة 341 من قانون العقوبات عن جريمة التبديد . وكان القانون رقم 174 لسنة 1998 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية وقانون العقوبات الصادر بتاريخ 20 من ديسمبر سنة 1998 بعد صدور الحكم المطعون فيه قد نص فى المادة الثانية منه على إضافة المادة 18 مكرراً (أ) إلى قانون الإجراءات الجنائية التي تتضمن النص على أن للمجني عليه ولوكيله الخاص فى الجنحة المنصوص عليها فى المادة 341 من قانون العقوبات أن يطلب إلى النيابة العامة أو المحكمة بحسب الأحوال إثبات صلحه مع المتهم ويترتب على الصلح انقضاء الدعوى الجنائية ولو كانت مرفوعة بطريق الادعاء المباشر لما كان ذلك، وكان النص آنف الذكر، وإن كان ظاهره إجرائي، إلا أنه يقرر قاعدة موضوعية مفادها تقييد حق الدولة فى العقاب بتقريره إنقضاء الدعوى الجنائية للصلح بدلا من معاقبة المتهم، وهو ما يتحقق به معنى القانون الأصلح فى مفهوم المادة الخامسة من قانون العقوبات، ما دام قد أنشأ له وضعاً أفضل، ومن ثم فإنه يسري من يوم صدوره على واقعة الدعوى، طالما لم تنته بحكم بات، وكان الثابت من الشهادة الرسمية المستخرجة من واقع دفتر المطالبة والمقدمة من الطاعن وفق أسباب الطعن انه سدد الدين المحجوز من أجله كاملا، بما يتحقق به معنى الصلح والذي قصدته المادة 18 مكرر (أ) سالفة الذكر. لما كان ما تقدم، وكان المتهم قد بادر إلى إثبات صلحه مع المجني عليه على السياق المتقدم فإنه يتعين إعمال موجبه بالتقرير بانقضاء الدعوى الجنائية به .
(الطعن رقم 25421 لسنة 64 جلسة 1999/05/30 س 50 ص 343 ق 80)
18- لما كان من المقرر أنه لا تصح إدانة متهم بجريمة خيانة الأمانة الا إذا اقتنع القاضى بأنه تسلم المال بعقد من عقود الائتمان الواردة على سبيل الحصر فى المادة 341 من قانون العقوبات وكانت العبرة فى القول بثبوت قيام عقد من هذه العقود فى صدد توقيع العقاب إنما هى بحقيقة الواقع بحيث لا يصح تأثيم إنسان ولو بناء على اعترافه بلسانه , وبكتابته متى كان ذلك مخالفاً للحقيقة , ولما كان مؤدى دفاع الطاعن أن العلاقة التى تربطه بالمدعى بالحقوق المدنية ليس مبناها الإيصال المقدم وإنما حرره ضمانا لفض النزاع بينه وبين عمه . لما كان ذلك , وكان هذا الدفاع وقد أثبت بمحاضر الجلسات أمام محكمة أول درجة وأصبح واقعا مسطوراً بأوراق الدعوى , قائماً مطروحاً على محكمة ثانى درجة وأن لم يعاود المدافع عن الطاعن إثارته أمامها ، ذلك بأن من المسلم به أن المحكمة متى رأت أن الفصل فى الدعوى يتطلب تحقيق دليل بعينه فإن عليها تحقيقه ما دام ذلك ممكنا ، وهذا بغض النظر عن مسلك المتهم فى شأن هذا الدليل , لأن تحقيق أدلة الإدانة فى المواد الجنائية لا يصح أن يكون رهنا بمشيئة المتهم فى الدعوى , فإن هى استغنت عن هذا الدليل فعليها أن تبين علة ذلك بشرط الاستدلال السائغ وهو ما افتقده الحكم المطعون فيه مما يتعين معه نقضه .
(الطعن رقم 46403 لسنة 59 جلسة 1996/12/26 س 47 ع 1 ص 1448 ق 208)
19- ما كان الحكم الابتدائى الذى اعتنق أسبابه الحكم المطعون فيه قد استظهر أن الطاعنين تسلما من المجنى عليها الماشية المبينة بالأوراق على أساس مشاركتهما لها فى استغلالها ، بيد أنهما أنكرا عليها حقها فى الماشية وأبيا ردها إليها ، وكان هذا الذى أورده الحكم على المساق المتقدم تتوافر به جريمة خيانة الأمانة كما هى معرفة به فى القانون . لما هو مقرر من أن يد الشريك على مال شريكه تعتبر يد وكيل . فإذا تصرف فى المال المسلم إليه بهذه الصفة وأضافه إلى ملكه عد مبدداً خائناً للأمانة تنطبق عليه المادة 341 من قانون العقوبات .
(الطعن رقم 6573 لسنة 60 جلسة 1996/10/13 س 47 ع 1 ص 1008 ق 142)
20- لما كان الثابت من مدونات الحكم النهائى الصادر فى الجنحة رقم 000000.المقامة بالطريق المباشر من الطاعنة أن الدعوى الجنائية رفعت على المطعون ضده لأنه فى يوم 0000 بدد منقولاتها المبينة وصفا وقيمة بقائمة أعيان الجهات المؤرخة 1984/7/30 والبالغ قيمتها 3876 جنيه " ومنها الحلى موضوع النزاع " وقضت المحكمة ببراءته مما أسند إليه وبرفض الدعوى المدنية قبله على أساس ما ورد بأسباب الحكم من أن الطاعنة سلمت الحى الذهبية إلى المطعون ضده لأجل بيعها وإنفاقها فى علاجه بعد أن وعدها بشراء غيرها إثر شفائه ولم يرده إليها وبذلك لم تكن حيازته لها بمقتضى عقد من عقود الأمانة الواردة فى المادة 341 من قانون العقوبات لما كان ذلك فإن ما تقدم بطريق اللزوم أن المطعون ضده تسلم من الطاعنة المصاغ وإذ كان هذا بذاته هو الأساس الذى أقيمت عليه الدعوى المدنية الراهنة، فإن الحكم الجنائي السالف ذكره يكون قد فصل بقضائه فصلا لازما فى واقعة هى الأساس المشترك بين الدعويين الجنائية والمدنية فيجوز فى شأن هذه الواقعة حجية الشىء المحكوم فيه أمام المحكمة المدنية فتتقيد به هذه المحكمة ويمتنع عليها أن تخالفه أو تعيد بحثه لما كان ما تقدم فإنه ما كان يجوز للحكم المطعون فيه بعد أن صدر الحكم الجنائي على هذا يعود إلى بحث مسألة تسلم المطعون ضده حلى الطاعنة ثم ينفى هذا التسلم، وإذ فعل ذلك فإنه يكون قد خالف حجية الحكم الجنائي السابق عليه وأخطأ فى تطبيق القانون.
(الطعن رقم 1290 لسنة 60 جلسة 1994/12/15 س 45 ع 2 ص 1610 ق 300)
21- إن القصد الجنائي فى جريمة خيانة الامانة لا يتحقق بمجرد تصرف المتهم فى الشئ المسلم إليه أو خلطه بماله و إنما يتطلب ذلك ثبوت نية تملكه اياه و حرمان صاحبه منه . و إن العبرة فى ثبوت قيام عقد من عقود الائتمان هى بحقيقة الواقع . لما كان ذلك و كان الحكم الابتدائى المؤيد لاسبابه بالحكم المطعون فيه قد استدل على توافر أركان الجريمة فى حق الطاعن بما أثبته من تسلمه المنقولات الخاصة بالمجنى عليها بموجب عقد من عقود الائتمان و أن عدم ردها إليها عند مطالبتها بها يعد اختلاسا و قد خلت مدوناته من بيان الاساس الذى استمد منه واقعة تسلمه لهذه المنقولات استلاما فعليا ، و إذ كانت المجنى عليها - المدعية بالحقوق المدنية شهدت أمام محكمة أول درجة بغير ذلك . كما شهد الشاهد أن الموقعان على قائمة الاعيان بأنهما لم يشهدا واقعة تسلم الطاعن للاعيان الثابتة بالقائمة . لما كان ذلك فإن الحكم فيما تقدم يكون قد خلا من بيان ركن التسليم و لم يستظهر القصد الجنائي و هو عماد جريمة خيانة الامانة ، و من ثم فإنه يكون قد تعيب بالقصور فى التسبيب بما يبطله .
(الطعن رقم 8422 لسنة 58 جلسة 1989/03/09 س 40 ص 384 ق 63)
22- لا يلزم فى الوديعة أن يكون التسليم حقيقاً بل يكفي التسليم الاعتباري إذا كان المودع لديه حائزاً للشيء من قبل ، و كان ما استخلصه على نحو ما سلف بيانه من أن العلاقة بين الطاعن و المجني عليه يحكمها عقد من عقود الائتمان ( عقد الوديعة ) هو استخلاص سائغ و يلتئم مع حقيقة الواقع فى الدعوى و من ثم فإن قضاءه بإدانة الطاعن عن جريمة التبديد يكون صحيحاً فى القانون و لا يكون ما يثيره فى هذا الشأن سوى مناقشة فى موضوع الدعوى و تقدير أدلة الثبوت فيها مما لا يقبل إثارته أمام محكمة النقض .
(الطعن رقم 4859 لسنة 56 جلسة 1987/03/29 س 38 ع 1 ص 505 ق 82)
23- لا يصح إدانة متهم بجريمة خيانة الأمانة إلا إذا اقتنع القاضي بأنه تسلم المال بعقد من عقود الائتمان الواردة على سبيل الحصر فى المادة 341 من قانون العقوبات و العبرة فى ثبوت قيام هذه العقود فى صدد توقيع العقاب إنما هو بحقيقة الواقع .
(الطعن رقم 4859 لسنة 56 جلسة 1987/03/29 س 38 ع 1 ص 505 ق 82)
24- لا تصح إدانة متهم بجريمة خيانة الأمانة إلا إذا إقتنع القاضى بأنه تسلم المال بعقد من عقود الإئتمان الواردة على سبيل الحصر بالمادة 341 من قانون العقوبات و كانت العبرة فى القول بثبوت قيام عقد من هذه العقود فى صدد توقيع العقاب إنما هى بالواقع بحيث لا يصح تأثيم شخص و لو بناء على إعترافه بلسانه أو بكتابته متى كان ذلك مخالفاً للحقيقة و لما كان مؤدى دفاع الطاعن أن العلاقة التى تربطه بالمجنى عليه هى علاقة تجارية و ليس مبناها الإيصال المقدم ، و كان الدفاع على هذه الصورة يعد دفاعاً جوهرياً لتعلقه الدليل المقدم فى الدعوى بحيث إذا صح لتغير به وجه الرأى فى الدعوى فإن المحكمة إذ لم تفطن لفحواه و تقسطه حقه و تعنى بتحقيقه بلوغاً إلى غاية الأمر فيه فإن حكمها يكون معيباً بالقصور .
(الطعن رقم 1203 لسنة 54 جلسة 1985/02/14 س 36 ص 256 ق 42)
25- القانون فى مادة خيانة الأمانة لا يعاقب على الإخلال بتنفيذ عقد الإئتمان فى ذاته ، و إنما يعاقب على البعث بملكية الشئ المسلم بمقتضاه و إن المناط فى وقوع تلك الجريمة هو ثبوت أن الجاني قد إختلس الشئ الذى سلم له و لم يستعمله فى الأمر المعين الذى أراده المجنى عليه بالتسليم .
(الطعن رقم 1775 لسنة 53 جلسة 1984/03/22 س 35 ص 317 ق 67)
26- إذا كان الثابت أن الطاعن قد نفذ إلتزامه الذى حرر الشيك تأميناً له - و هو ما لم يفطن إليه الحكم المطعون فيه - فإن الحكم إذ لم يستظهر مدى توافر أركان عقد الوديعة وفقاً للمادة 718 و ما بعدها من القانون المدنى و إقدام المطعون ضده على عمل من أعمال التملك على الشئ المودع لديه و هو ما يرشح لقيام جريمة خيانة الأمانة المنصوص عليها فى المادة 341 سالفة الذكر . لما كان ذلك فإن الحكم المطعون فيه يكون معيباً بالقصور فى التسبيب الذى جره إلى الخطأ فى تطبيق القانون الأمر الذى يوجب نقضه فى خصوص الدعوى المدنية - و لما كان هذا الخطأ قد حجب المحكمة عن أن توفى فى الدعوى حقها من الناحية الموضوعية ، فإنه يتعين أن يكون مع النقض الإعادة بغير حاجة إلى بحث أوجه الطعن الأخرى .
(الطعن رقم 1775 لسنة 53 جلسة 1984/03/22 س 35 ص 317 ق 67)
27- القصد الجنائي فى جريمة التبديد يتحقق بانصراف نية الجاني إلى إضافة المال الذي سلمه إلى ملكه واختلاسه لنفسه، والبحث فى توفره مما يدخل فى سلطة محكمة الموضوع التقديرية التي تنأى عن رقابة محكمة النقض متى كان استخلاصها سليماً مستمداً من أوراق الدعوى.
(الطعن رقم 699 لسنة 47 جلسة 1978/01/16 س 29 ع 1 ص 66 ق 12)
28- إذا كانت الواقعة التى أورد الحكم أدلة ثبوتها فى حق المتهم هى أنه تسلم نقودا من المجنى عليه ليقوم نيابة عنه بشراء منقولات منزل الزوجية فلم يفعل واستبقى المبلغ فى ذمته ولم يرده حين طالبه به من سلمه إليه ، فإن هذه الواقعة تتوافر فيها جميع العناصر القانونية لجريمة الإختلاس المنصوص عليها فى المادة 341 من قانون العقوبات ، أما ما ذهب إليه المتهم من نفى صفة الوكالة عنه وقوله " إن أقصى ما يتصور فى تكييف هذا العقد أنه تبرع لحساب الزوجة أو أنه عقد من نوع خاص " فجدل بعيد عن حقيقة طبيعة العقد الذى تم بين الطرفين وعن تكييفه القانونى الصحيح الذى انتهى إليه الحكم .
(الطعن رقم 698 لسنة 29 جلسة 1959/06/01 س 10 ع 2 ص 595 ق 132)
29- حيث إنه من المقرر أن الاختلاس لا يمكن أن يعد تبديدا معاقبا عليه إلا إذا كانت حيازة الشيء قد انتقلت إلى المختلس بحيث تصبح يد الحائز يد أمانة ثم يخون هذه الأمانة باختلاس الشيء الذي أؤتمن عليه وأن الشرط الأساسي فى عقد الوديعة كما هو معرف فى القانون المدني هو أن يلتزم المودع لديه برد الوديعة بعينها للمودع وأنه إن انتفى هذا الشرط معه معنى الوديعة. لما كان ذلك, وكان الحكم المطعون فيه قد استند فى قضائه بالبراءة ورفض الدعوى المدنية إلى عدم توافر أركان الجريمة فى حق المطعون ضده حيث إن الأخير لم يتسلم المنقولات الخاصة بالطاعن بعقد من عقود الأمانة إذ أن صدورقراربإزالة العقارالمملوك للمطعون ضده والمتواجد به الشقة التي بها المنقولات المملوكة للطاعن لايفيد استلام المطعون ضده لها مما يكون معه الحكم قد أصاب صحيح القانون.
(الطعن رقم 19404 لسنة 64 جلسة 2002/02/05 س 53 ص 221 ق 40)
30- لما كان لا يشترط فى التسليم باعتباره عنصراً فى جريمة خيانة الأمانة أن يكون حاصلاً من ذات المجني عليه، وإنما يستوي أن يكون حاصلاً منه أو من شخص آخر قام بالتسليم لحسابه، وكان الطاعن لا ينازع فى أنه تسلم المال محل الجريمة بناء على عقد من عقود الأمانة، فإنه لا جدوى مما يثيره من أن المال لم يسلم إليه من شخص المجني عليه لأن ذلك بفرض صحته غير مؤثر فى قيام الجريمة.
(الطعن رقم 589 لسنة 59 جلسة 1990/12/27 س 41 ع 1 ص 1114 ق 201)
31- لما كان رد منقولات الزوجية إلى الزوجة قبل التاريخ الذي تدعي بحصول تبديدها فيه من شأنه أن ينفي وقوع الجريمة , وكان الحكم الابتدائي المؤيد لأسبابه بالحكم المطعون فيه بالرغم من أنه أشار فى مدوناته أن المدعية بالحق المدني استلمت منقولاتها على النحو المبين بالمحضر رقم ........... لسنة 1992 إداري مركز ....... إلا أنه لم يعن ببحث هذا المحضر ولم يقل كلمته فيه , ولم يعن بتمحيص دفاع الطاعن المؤسس عليه بالرغم من أنه يعد جوهريا - فى صورة الدعوى - إذ يترتب عليه لو ثبت قيام الطاعن برد المنقولات قبل التاريخ الذي تدعي المجني عليها حصول التبديد فيه انتفاء الجريمة , فإن الحكم يكون فوق قصوره فى التسبيب معيباً بالإخلال بحق الدفاع .
(الطعن رقم 377 لسنة 64 جلسة 1999/02/25 س 50 ص 143 ق 31)
32- المحكمة فى جريمة خيانة الأمانة فى حل من التقيد بقواعد الإثبات المدنية عند القضاء بالبراءة لأن القانون لا يقيدها بتلك القواعد إلا عند الإدانة فى خصوص إثبات عقد الأمانة إذا زاد موضوعه عن النصاب المحدد فى القانون احتياطا لمصلحة المتهم حتى لا تقرر مسئوليته وعقابه إلا بناء على الدليل المعتبر فى القانون ولا كذلك البراءة لانتفاء موجب تلك الحيطة وإسلاسا لمقصود الشارع فى ألا يعاقب بريء مهما توافر فى حقه من ظواهر الأدلة.
(الطعن رقم 8431 لسنة 64 جلسة 2000/05/09 س 51 ص 467 ق 86)
33- إن جريمة التبديد لا تتحقق إلا بتوافر شروط من بينها أن يكون الشيء المبدد غير مملوك لمرتكب الاختلاس، فلا عقاب على من بدد ماله لأن مناط التأثيم هو المساس والعبث بملكية المال الذي يقع الاعتداء عليه من غير صاحبه، ولم يستثن الشارع من ذلك إلا حالة اختلاس المال المحجوز عليه من مالكه، فاعتبرها جريمة خاصة نص عليها فى المادة 342 من قانون العقوبات، وهو استثناء جاء على خلاف الأصل العام المقرر فلا يمتد حكمه إلى ما يجاوز نطاقه، كما لا يصح القياس عليه إذ لا جريمة ولا عقوبة بغير نص فى القانون.
(الطعن رقم 507 لسنة 48 جلسة 1978/10/16 س 29ع 1 ص 695 ق 137)
34- لما كان يبين من الاطلاع على محضر جلسة المحاكمة الاستئنافية أن الطاعنة قدمت مستندات تمسكت بدلالتها على ملكيتها للأنقاض موضوع التهمة وانتفاء القصد الجنائي لديها، وتمسكت فى دفاعها بأن المدعية بالحق المدني - المطعون ضدها - لم تقدم سند ملكيتها وأن المحامي العام سلم الأنقاض للطاعنة، كما تضمن محضر تلك الجلسة أن المدافع عن الطاعنة قدم حافظة بها عقد إيجار محرر بين الطاعنة والمطعون ضدها تدليلاً على فساد دعوى هذه الأخيرة وبطلان منازعتها للطاعنة فى الملكية. لما كان ذلك، وكان يبين من الحكم الابتدائي المؤيد لأسبابه بالحكم المطعون فيه أنه دان الطاعنة لمجرد أنها تصرفت فى الأنقاض التي أودعت لديها على سبيل الأمانة للمحافظة عليها، دون أن يفصل فى النزاع على ملكيتها، ودون أن يعرض لمستندات الطاعنة ولا دفاعها القائم عليها بدعوى انتفاء القصد الجنائي لديها، وذلك بالرغم من أنه قد أشار إليه فى مدوناته، لما كان ذلك، وكان مجرد إخلال الطاعنة بما فرضه عليها عقد الوديعة من التزامها بالمحافظة على الأنقاض التي تركت فى حوزتها لحين الفصل فى النزاع على الملكية لا يفيد بذاته ارتكابها جريمة التبديد، بل لابد أن يثبت أن مخالفتها لهذا الأمر قد أملاه عليها سوء القصد ونجم عنه ضرر بالمجني عليها.
(الطعن رقم 507 لسنة 48 جلسة 1978/10/16 س 29 ع 1 ص695 ق 137)
35- الأصل فى المحاكمات الجنائية أن العبرة فى الإثبات هي باقتناع القاضي بناء على التحقيقات التي يجريها بنفسه واطمئنانه إلى الأدلة التي عول عليها فى قضائه بإدانة المتهم أو براءته، فقد جعل القانون من سلطته أن يأخذ من أية بينه أو قرينة يرتاح لها دليلاً لحكمه إلا إذا قيده القانون بدليل معين ينص عليه كما هو الشأن بالنسبة لإثبات عقد الأمانة فى جريمة خيانة الأمانة حيث يتعين التزام قواعد الإثبات المقررة فى القانون المدني. أما واقعة الاختلاس أو نفي حصوله فإنها واقعة مادية يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات بما فيها البينة رجوعاً إلى الأصل وهو مبدأ حرية اقتناع القاضي الجنائي - لما كان ذلك - وكان الحكم المطعون فيه قد حجب نفسه عن مناقشة أقوال شاهد الطاعن وبيان دلالتها فى نفي جريمة خيانة الأمانة المسندة إليه بدعوى أنه لا يجوز للطاعن أن يثبت بشهادة الشهود ما يخالف الإقرار الموقع عليه منه بوجود عجز فى عهدته والمقدم من المجني عليه ورتب على ذلك قبول الدفع بعدم جواز الإثبات بالبينة - لتجاوز قيمة العجز موضوع الدعوى لنصاب الإثبات بها فإنه يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون.
(الطعن رقم 127 لسنة 44 جلسة 1974/02/24 س 25 ع 1 ص183 ق 40)
36- يشترط لقيام جريمة خيانة الأمانة أن يكون الشيء المبدد قد سلم إلى المتهم بمقتضى عقد من عقود الائتمان المبينة بالمادة 341 من قانون العقوبات. لما كان ذلك وكان الحكم الابتدائي المؤيد لأسبابه والمكمل بالحكم المطعون فيه أثبت واقعة الدعوى نقلا عن بلاغ المدعي بالحق المدني وأقواله بمحضر جمع الاستدلالات بما مؤداه أنه تصرح له بصرف 17 طناً و100 كيلو حديد وقد سلم إذن الصرف إلى الطاعن بوصفه صاحب محل تجارة حديد ومبلغ ألف جنيه خصماً من ثمن الحديد إلا أن الطاعن أخذ يماطله فى التسليم فبادر بشكواه متهما إياه باختلاس كمية الحديد وقدم إقرارا منسوبا إلى الطاعن يفيد أن هناك كمية من الحديد مقدارها 110 طناً و100 كيلو تصرح بصرفها للمدعي بالحق المدني، وأشار الحكم إلى أن الطاعن نفى - عند سؤاله إنه استلم أي نقود من المدعي بالحق المدني. وانتهى إلى ثبوت جريمة التبديد فى حق الطاعن تأسيساً على أن تسليم مقررات مواد البناء إلى التجار يتم لحساب المستهلكين الذين يصرح لهم بصرف هذه المقررات من الجهة الحكومية فتظل المقررات مودعة لدى التجار لحين طلبها من ذوي الشأن مما مفاده أن العلاقة بين الطاعن والمدعي بالحق المدني كانت على سبيل الوديعة بالنسبة لكمية الحديد المأذون له بصرفها مما يضحى معه الطاعن خائنا للأمانة لامتناعه عن تسليمه إياها. وكان البين من الأوراق أن المتهم دفع تهمة التبديد بأن الواقعة ليست وديعة وأن كمية الحديد المدونة بالإيصال قد استلمت ودفع ثمنها إلى المحافظة وأصبح مالكا لها وأن العلاقة بينه وبين المدعي بالحقوق المدنية علاقة بيع وشراء تسري عليه القيود التموينية فى كيفية توزيع الحديد بالسعر الرسمي مما يتنافى مع كون الحديد سلم إليه كوديعة لمصلحة المجني عليه، لما كان ذلك، وكان الحكم لم يعن باستظهار حقيقة الواقعة والعلاقة التي جعلت المجني عليه يطالب المتهم بالحديد المصرح له به مع ما هو ظاهر من بيان الحكم للواقعة أن المجني عليه لم يثبت قيامه بدفع ثمن الحديد وأن الإذن المسلم له كان خاليا من اسم المتهم فإنه يكون معيباً بالقصور الذي يعجز هذه المحكمة عن مراقبة صحة تطبيق القانون على واقعة الدعوى كما صار بيانها مما يتعين معه نقضه والإحالة بغير حاجة إلى بحث الوجه الآخر للطعن.
(الطعن رقم 592 لسنة 49 جلسة 1979/10/01 س 30 ع 1 ص 742 ق 156)
37- لما كان الحكم المطعون فيه قد إقتصر على القول بأن الطاعن إستولى على منقولات زوجته المجنى عليها المبينة بالقائمة و بنى على ذلك إدانته بجريمة التبديد دون أن يثبت قيام القصد الجنائي لديه و هو إنصراف نيته إلى إضافة المال الذى تسلمة إلى ملكه و إختلاسه لنفسه ، و كان ما أورده الحكم على ما سلف بيانه لا تتوافر به أركان جريمة التبديد كما هى معرفة به فى القانون فإن الحكم يكون مشوباً بالقصور مما يعيبه و يستوجب نقضه .
(الطعن رقم 1747 لسنة 52 جلسة 1982/10/28 س 33 ص 827 ق 169)
38- لما كان البين من أسباب الطعن أن المدعى بالحقوق المدنية أسس دعواه أمام المحكمة المدنية على المطالبة بقيمة نصيبه فى الشركة كما أسس دعواه المدنية أمام المحكمة الجنائية على المطالبة بتعويض مؤقت عن الضرر الفعلى الناتج عن جريمة تبديد نصيبه فى الماشية موضوع عقد الشركة ، و قد إنتهى الحكم المطعون فيه إلى القضاء له بهذا التعويض بإعتباره ناشئاً عن الجريمة التى دان الطاعن بها فإنه يكون قد إلتزم صحيح القانون لإختلاف الدعويين موضوعاً و سبباً ، و لا على المحكمة إن هى إلتفتت عن الرد على الدفع المبدى من الطاعن فى مذكرته - على فرض تضمينه لها - بعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها فى الدعوى رقم 91 لسنة 1979 مدنى مستأنف طنطا ، ما دام أنه - بهذه المثابة - يعتبر دفاعاً قانونياً ظاهر البطلان .
(الطعن رقم 617 لسنة 54 جلسة 1984/12/23 س 35 ص 940 ق 209)
39 ـ لما كان عدم تقديم أصل الإيصال لا ينفي الجريمة المنصوص عليها فى المادة 341 من قانون العقوبات فلها أن تأخذ بالصورة الشمسية كدليل فى الدعوى متى اطمأنت إلى صحتها ، ومن ثم فإن النعي على الحكم ارتكانه لصورة الإيصال لا يكون مقبولاً .
(الطعن رقم 31668 لسنة 4 جلسة 2015/05/21)
جريمة خيانة الأمانة
الشرط المفترض : استلام المال بناء على أحد عقود الأمانة :
تفترض هذه الجريمة بداية أن يكون المال مسلماً من قبل إلى الجاني، وهذا التسليم إما بواسطة مالك الشيء أو شخص آخر باسمه أو بناء على أوامره فإذا سلم شخص إلى آخر شيكاً ليصرفه وقبض هذا الأخير قيمة الشيك واحتفظ بها لنفسه يكون قد ارتكب خيانة الأمانة ففي هذا المثال كان موضوع الجريمة هو قيمة الشيك وقد استلمها الجاني من البنك بناء على أمر من صاحب الشيك وهو المجني عليه ويشترط لذلك أن يثبت أن الذي استلم الشيك لم يستلمه بصفته الشخصية وإنما استلمه بناء على أحد عقود الأمانة.
ومن ناحية أخرى فلا يشترط أن يكون التسليم إلى الجاني مباشرة بل يكفي أن يكون التسليم إلى شخص آخر وكيل عنه أو يعمل لحسابه أو باسمه فإذا أرسل شخص ابنه إلى صاحب محل ليستعير منه بعض أدوات المحل فسلمها هذا الأخير إلى الابن الذي سلمها بدوره إلى والده فإنه إذا احتفظ الوالد بالأدوات أنفسه بنية تملكها يرتكب خيانة الأمانة ولو أن المال لم يسلم إليه مباشرة .
وغني عن البيان أن المسلم إليه الشيء ليس هو مالك الشيء ولكن إذا كان مالكاً للشيء ثم زالت عنه ملكيته وسلم الشيء بعد ذلك فإنه قد تقع منه جريمة خيانة الأمانة مثال ذلك من يشتري أشياء من أحد المحلات ثم يودعها لدى البائع فترة من الوقت فيعمد هذا الأخير لبيعها لآخر فإن البائع في هذا المثال يرتبك خيانة الأمانة مع أنه كان من قبل مالكاً للشي.
ويستوي في التسليم أن يكون حقيقياً أو رمزياً والتسليم الرمزي يكون بتسليم مفتاح الحرز الذي يحتوي على الأشياء أو بتغيير صفة الحائز كما في المثال السابق حيث تغيرت صفة بائع الأشياء من مالك إلى مودع لديه رغم أن الأشياء كانت في حوزته لم تخرج منها بعد.
عقود الأمانة :
يجب أن يكون تسليم المال بناء على أحد العقود وأن يكون من شأن هذا العقد نقل الحيازة الناقصة للمال أي التي تخول صاحبها حقاً شخصياً قبل المالك لتمكينه من الانتفاع به في أوجه معينة يخوله حقاً عينياً مباشراً على الشيء فإذا كان العقد ناقلاً للملكية فلا تقع الجريمة ويجب تحديد العقد الذي تسلم المتهم بمقتضاء الشيء المدعي تبديده حتى يتسنى لمحكمة النقض مراقبة ما إذا كان يدخل ضمن عقود الائتمان المبينة بالمادة 341 عقوبات أو لا فإذا أثبت الحكم واقعة تسليم المال دون تحديد العقد الذي تسلم بموجبه هذا المال ولم يورد مضمونه ووجه استدلاله به على ثبوت التهمة كان قاصراً.
والعقود التي أوردها القانون هي الوديعة والإجارة وعارية الاستعمال والرهن والوكالة.
يترتب على التحديد الحصري لعقود الأمانة عدم جواز القياس عليها إعمالاً لمبدأ عدم القياس في مواد التجريم وذلك بالنظر إلى أن هذه العقود شرط مفترض التوافر التجريم وتطبيقاً لذلك حكم أنه لا تقع الجريمة إذا كان مبنى التسليم هو عارية الاستهلاك أو عقد البيع كما إذا امتنع البائع عن تسليم المبيع رغم قبض الثمن أو عقد المصارفة أو الحساب الجاري أو عقد القرض أو المقايضة.
تكييف العقد:
من المقرر في القانون أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني ومن ثم فحقيقة التكييف القانوني لا يتحدد وفقاً للوصف الذي يعطيه المتعاقدان لاتفاقهما بل العبرة بحقيقة الواقع وما يسبغه القانون على هذا الواقع من أوصاف وعلى ذلك فإذا أقرض شخص آخر مبلغاً من النقود ثم حصل منه على إيصال أمانة بقيمة هذا المبلغ وبين الطرفان في الإيصال أن المبلغ قد سلم إلى المقترض على سبيل الأمانة أو الوديعة فإن ذلك لا يغير من حقيقة الواقع وهو أن اتفاق الطرفين كان قرضاً وإن أسبغ عليه وصف عقد الوديعة توصلاً إلى ترتيب جزاء جنائي فيما لو أخل المقترض بتعهده برد المبلغ إلى المقترض وهو كذب لا يجوز أن يغير من صحيح القانون وعلى القاضي الجنائي أن يعطي للاتفاق بين الخصوم تكييفه القانوني السليم دون عبرة بما أضفاه عليه الطرفان من أوصاف وإذا يجب على القاضي أن يبين العناصر الضرورية التي استمد منها تكييفه القانوني حتى يسمح لمحكمة النقض بمراقبة صحة هذا التكييف ومع ذلك فإن خطأ قاضي الموضوع في تحديد طبيعة العقد لا يترتب عليه نقض الحكم إذا ثبت من الوقائع التي بينها الحكم أن العقد في تكييفه القانوني الصحيح هو أيضاً من عقود الأمانة التي ذكرت على سبيل الحصر.
ومن المسائل التي تعرض كثيراً في العمل عقود البيع بالتقسيط التي ينص فيها البائع على عدم انتقال الملكية إلى المشتري إلا بعد دفع الثمن كاملاً وقد يذكر البائع في العقد أن الأشياء سلمت إلى المشتري على سبيل الإجارة أو عارية الاستعمال رغم أنه في حقيقته يحد بيعاً ولا جدال في هذه الحالة أن العبرة هي حقيقة الواقع لا بالوصف الذي اتفق عليه الطرفان أي أن العقد بعد بيعاً ولكن في بعض الأحوال يسلم الشيء إلى من يريد الشراء على سبيل التجريب تمهيداً لشرائه فيما لو راقه الشيء وفي هذه الحالة لا يمكن القول بأننا بصدد عقد بیع بل الصحيح أن الشيء قد سلم على سبيل عارية الاستعمال أو الوديعة فإن تصرف فيه المشتري قبل انعقاد البيع يعد مرتكباً لجريمة خيانة الأمانة وقد قضى أن تسليم البضاعة إلى الغير وتخويله حق بيعها على أن يرد ثمنها في حالة البيع أو يعيدها بذاتها إذا لم يتمكن من بينها ينطوي على عقد بيع معلق على شرط واقف وبالتالي فهو ليس من عقود الأمانة.
أثر العقد الباطل :
متى ثبت وجود الاتفاق بين الطرفين امتنع البحث في مدى صحته أو بطلانه وفقا للقانون المدني وقد أكدنا من ذاتية قانون العقوبات وأنه لا يعتمد على الأحكام الموضوعية للقوانين الأخرى في تحديد شروط التجريم وفي صدد جريمة خيانة الأمانة لابد من توافر العقد ابتداء لكن المفهوم الجنائي للعقد لا يساير المفهوم المدني له فقانون العقوبات يعاقب على خيانة الأمانة لما تدل عليه من خطورة مرتكبها بعد أن اتحه قصده إلى اغتصاب الأمانة التي عهد بها إليه وعند التحقق من هذه الخطورة الإجرامية وما تقتضيه حماية المصلحة الاجتماعية من مواجهتها يقف قانون العقوبات ولا يشترط أكثر من وجود العقد لا صحته وفي هذا الصدد يكفي مجرد الوجود الظاهري للعقد فعندئذ يتحقق التسليم على سبيل الحيازة الناقصة أي الأمانة يؤيد ذلك أن قانون العقوبات لا يعاقب على الإخلال المدني بتنفيذ العقد أو المساس بالمصلحة الخاصة بأحد طرفي العقد وإنما يعاقب على العبث بملكية الشيء المسلم على سبيل الأمانة ويتدخل لحماية المصلحة العامة التي تترتب على هذا الفعل وتطبيقاً لذلك قضي أنه إذا أرادت امرأة أن تتخذ منزلاً للدعارة السرية وتعلمها أن مالكة المنزل لا تقبل تأجيرة لهذا الغرض لجأت إلى شخص وكاشفته بحقيقة أمرها ليستأجر المسكن بأسمه لتتخذه هي لتنفيذ غرضها ودفعت له مبلغا من المال على ذمة الأجرة فلم يستأجر المسكن واختلس المبلغ لنفسه فهذا الفعل يكون جريمة خيانة الأمانة وذلك رغم بطلان عقد الوكالة الذي بموجبه تسلم المال من المجني عليها.
إثبات العقد :
لما كان عقد الأمانة هو من الشروط المفترضة التي تسبق قيام الجريمة فإنه كثيراً ما ينازع المتهم في وجود هذا العقد وتبدو دقة الموضوع في أن هذا العقد هو من العقود المدنية التي تخضع في إثباتها لقواعد القانون المدني وتقتضي هذه الأحكام استلزام الدليل الكتابي متى جاوزت قيمة العقد خمسمائة جنيه أو كان غير محدد القيمة طبقاً للمادة 60 من قانون الإثبات المعدلة بالقانون رقم 23 لسنة 1992 ثم بالقانون رقم 18 لسنة 1999 فلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجود العقد أو انقضائه ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك وطبقاً للمادة 62 من قانون الإثبات يجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بالكتابة.
وقد استقر قضاء النقض على أن أحكام الإثبات في المواد المدنية ليست من النظام العام بل هي مقررة لمصلحة الخصوم فقط ومن ثم فإذا كان المتهم لم يتمسك أمام المحكمة قبل سماع الشهود بعدم جواز الإثبات بالبينة في ذلك مما يعد منه تنازلاً عن حقه في المطالبة بالإثبات بالكتابة يمنعه فيما بعد من التمسك بهذا الدفع ويلاحظ أن للنيابة أن تتصرف في الدعوى الجنائية بالحفظ أو بعدم وجود وجه لإقامتها إذا دفع المتهم عند سؤاله بهذا الدفع ففي هذه الحالة إذا تخلف الشرط المفترض في الجريمة لا تقع قانوناً.
1. الوديعة :
هي عقد يلتزم به شخص أن يتسلم شيئا من آخر على أن يتولى حفظ الشيء وعلى أن يرده عینا (المادة 717 مدني) وجوهر الوديعة هو في التزام المودع لديه بحفظها وردها بذاتها، فإذا ثبت أن صاحب المال قد حول المودع لديه حق التصرف في المال فإن العقد لا يعد وديعة بل قرضاً أو عارية استهلاك.
والأصل في الوديعة أن تكون تعاقدية لكنها قد تكون قضائية أو قانونية أما الوديعة القضائية فصورها الحراسة القضائية على الأموال المتنازع عليها فمصدرها الحكم القضائي والوديعة القانونية مصدرها القانون كالحراسة على الأموال المحجوزة عليها فالقانون يعهد إلى الحارس بالمحافظة على هذه الأشياء وقد نصت المادة 733 من القانون المدني على أن يحدد الاتفاق أو الحكم القضائي بالحراسة ما على الحارس وما له من حقوق وسلطة وإلا تنطبق أحكام الوديع وأحكام الوكالة بالقدر الذي لا تتعارض فيه مع الأحكام المشار إليها في المادة نفسها.
ومن هذا القبيل المال المودع لدى المورث والذي يتسلمه الوارث بعد وفاته، فقد قضي أنه إذا تسلم الوارث شيئاً كأن قد سلم إلى مورثه على سبيل الوديعة قبل وفاته وهو عالم بذلك فإن وجود هذا الشيء لديه يعد على سبيل الوديعة بحكم القانون بحيث إذا اختلسه أو بلده كان خائناً للأمانة.
2- الإجارة :
الإيجار عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم (المادة 558 مدني) ويستوي أن يرد الإيجار على عقار أو منقول كل ما يشترط في حالة ورود الإيجار على عقار أن تقع جريمة خيانة الأمانة على منقول مثال ذلك تبديد المستأجر لمسكن مفروش شيئاً من أثاث المسكن وتبديد المستأجر أرضاً زراعية شيئاً من أدوات الزراعة أو الماشية أو أحد أشجارها باقتلاعها وبيعها.
ولا يحول دون انعقاد الإيجار ألا يكون المستأجر قد دفع الأجرة بعد ومتى أبرم الاتفاق على مبدأ الأجرة فلا يحول دون وقوع الجريمة ألا تكون قد حددت بعد وهنا نود التنبيه إلى أن جريمة خيانة الأمانة لا تقع بمجرد الإخلال بأحد التزامات المستأجر فقانون العقوبات لا يقف إلا عند التزام واحد فحسب هو الالتزام برد الأعيان المؤجرة أكثر من ذلك فإنه في هذه الحالة لا تقع جريمة خيانة الأمانة بمجرد الإخلال بهذا الالتزام سواء بالإتلاف أو بالامتناع عن دفع الأجرة أو بإساءة الاستعمال الإجرامي وإنما لابد من وقوع نشاط إجرامي معين يتحقق به المعنى المقصود من خيانة الأمانة وكذلك الشأن إذا استخدم المستأجر حق حبس العين المؤجرة حتى يسترد المصروفات الضرورية التي أنفقها على حفظ الشيء (المادة 246/ 2 من القانون المدني).
3- عارية الاستعمال :
هي عقد يلتزم به المعير أن يسلم المستعير شيئاً غير قابل للاستهلاك ليستعمله بلا عوض لمدة معينة أو في غرض معين على أن يرده بعد الاستعمال المادة 635 مدني ويلاحظ من هذا التعريف أن المحل الذي ترد عليه عارية الاستعمال هو شيء غير قابل للاستهلاك ويتعين رده بذاته سواء كان مثلياً أو قيمياً هذا بعكس الحال في عارية الاستهلاك فإن المحل الذي ترد عليه قابل للاستهلاك باستعماله ومن ثم فتسليمه للمستعير يكون ملحوظاً فيه نقل الملكية وبالتالي فلا يلتزم المستعير برد هذا الشيء بذاته بل يتعين رد شيء آخر من نوعه ومقداره وصفته ومن قبيل ذلك عقد القرض الذي يلتزم فيه المقرض بأن ينقل إلى المقترض مبلغاً من النقود أو أي شيء مثلي آخر على أن يرد إليه المقترض عند نهاية القرض شيئاً مثله في مقداره ونوعه وصفته (المادة 538 مدني).
وعقد القرض على هذه الصورة ليس من عقود الأمانة التي حددها القانون ومن ثم فلا تقع الجريمة إذا لم يرد المقرض المبلغ الذي اقترضه ولو انطوى عدم الرد منذ تاريخ العقد.
وللمستعير حق حبس الشيء حتى يرد له المعير ما يكون قد أنفقه للمحافظة عليه من مصروفات (المادة 637 مدني) لأنه يستعمل حقاً مقرراً بمقتضى القانون ولكن لا يجوز للمستعير أن يدفع بالمقاصة بينه ما يتعين عليه رده وما يكون دائناً به للمعير (المادة 364 مدني).
4- الرهن :
الرهن نوعان : أحدهما رسمي والآخر حيازي: وقد قصد المشرع الرهن الحيازي دون الرسمي إذ في حالة الرهن الرسمي يظل الشيء المرهون تحت يد الراهن وفي حيازته بخلاف الرهن الحيازي فإن الشيء ينتقل من يد المالك الراهن إلى حيازة الدائن المرتهن أو إلى أجنبي يعينه المتعاقدان.
والرهن من العقود العينية التي لا تنعقد إلا بتسليم العين المرهونة ومن ثم فلا تقع جريمة خيانة الأمانة إذا لم يكن الشيء المرهون قد سلم بعد إلى الدائن المرتهن أو إلى الأجنبي الذي اختاره المتعاقدان دون إخلال بتكييف الواقعة سرقة إذا انتزع الشيء من حيازة مالكه.
ويلاحظ أن الدائن المرتهن يتولد له حق عيني على الشيء المرهون بخلاف عقود الأمانة الأخرى فكل ما للحائز هو حق شخصي قبل مالك الشيء ومع ذلك فإن حق الرهن لا يولد سوى حيازة ناقصة على الشيء والحائز هو وحده الذي يتصور منه وقوع جريمة خيانة الأمانة فإذا كان الشيء المرهون مثلاً مسلماً إلى شخص ثلاث اختاره المتعاقدان ثم استولى الدائن على الشيء فإنه يعد سارقاً بخلاف ما إذا استولى عليه هذا الشخص الثالث فإنه يعد خائناً للأمانة أما إذا استولى المالك على هذه الأشياء فالأصل أنه لا جريمة في الأمر مادام الفعل قد وقع من المالك ولكن صيانة للرهن من عبث الراهنين أورد الشارع جريمة خاصة نص عليها في المادة 323 مكرراً هي اختلاس الراهن الشيء المرهون وجعلها في حكم السرقة.
وقد يقع الرهن الحيازي على عقار أو منقول ولكن في صدد جريمة خيانة الأمانة يجب أن يرد على منقول فإذا ورد على عقار يجب أن تقع خيانة الأمانة على أداوت منقولة توجد في هذا العقار أو على أجزاء منه تصبح أشياء منقولة بعد انتزاعها منه ولكن إن تصرف الحائز في العقار قد تقع منه جريمة النصب عن طريق التصرف في ملك الغير.
وقد يرد الرهن على نقود وعندئذ يتصور وقوع جريمة خيانة الأمانة إذا كان ملحوظاً وقت الرهن ألا يتصرف الحائز في هذه النقود وأن يردها بذاتها كما لو كانت نقوداً ذهبية أو عملة أجنبية مثلاً أما إذا كان ملحوظاً وقت الرهن أن للحائز حق التصرف في هذه النقود على أن يردها بعد انقضاء الرهن فلا تقع جريمة خيانة الأمانة مثال ذلك التأمين الذي يقبضه صاحب المسكن من المستأجر والتأمين الذي يقبضه صاحب العمل من العامل.
5- الوكالة :
الوكالة عقد بمقتضاه يلتزم الوكيل بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل (المادة 699 مدني). وأهم ما نود التنبيه إليه في صدد جريمة خيانة الأمانة أن موضوع الوكالة هو القيام بعمل قانوني هذا بخلاف الحال في عقدي المقاولة والعمل فإن موضوعها هو القيام بعمل مادي ولا يشترك في الوكالة أن تكون بأجر بل يستوي أن تكون بأجر أو مجاناً .
ومصدر الوكالة ليس دائماً العقد بل قد يكون نص القانون كما في حالة الولي أو الوصي أو حكم القضاء كما في حالة وكيل التفليسة وهنا يثور التساؤل عما إذا كانت الوكالة غير التعاقدية تصلح عنصراً مفترضاً في جريمة خيانة الأمانة والإجابة عن ذلك أن الوكالة واحدة إذ تنتج الآثار القانونية نفسها أياً كان مصدرها هذا ولم يرد بنص المادة 341 عقوبات شيء عن ذكر العقود وكل ما ورد هو التكييف القانوني لسند التسليم أياً كان مصدره .
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحالة من حالات التسليم تفترض أمرين:
1- أن الشيء قد سلم على سبيل الحيازة الناقصة من أجل أداء عمل مادي بشأنه سواء بتصنيعه أو إصلاحه مثلاً.
2- أن خيانة الأمانة ترد على هذا الشيء فيما لو اختلسه من استلمه أو بلده أو استعمله فالأجرة التي يتقاضاها مقابل أداء هذا العمل المادي ليست هي محل الجريمة فيما لو أخذ الأجرة مقدماً دون أداء هذا العمل.
المال :
مال منقول :
عبرت المادة 341 عقوبات عن المال المنقول ببعض أمثلته وهي المبالغ والأمتعة والبضائع والنقود والتذاكر والكتابات المشتملة على تمسك أو مخالصة وهو أسلوب غير دقيق.
إذا فكل ما يشترط هو أن يكون المال منقولاً ويستوي في ذلك أن تكون له قيمة مادية أو اعتبارية عند صاحبه.
أن يكون المال مملوكاً للغير:
يشترط في هذه الجريمة كغيرها من جرائم الاعتداء على المال أن يكون المال مملوكاً لغير الحالي فلا جريمة إذا كان المال مملوكاً للجاني.
الركن المادي :
عناصره :
حدد القانون الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة في قوله «كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعه أو بضائع أو غير ذلك إضراراً بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها».
وظاهر النص يفيد أن الركن المادي يتكون من عنصرين أولهما هو خيانة الأمانة في صورة التبديد أو الاختلاس أو الاستعمال والآخر هو الضرر.
فالجاني في جريمة خيانة الأمانة هو دائماً حائز للشيء ولكنها حيازة لحساب المالك ومن ثم فيقتضي الركن المادي لهذه الجريمة تغيير الحيازة وجعلها كاملة لصالح الحائز نفسه لا ناقصة لحساب المالك أي أن تغيير الحيازة يقتضي أن يظهر الحائز على الشيء بمظهر المالك فهنا وهنا فقط تتحقق خيانة الأمانة أما إذا حبس الأمين الشيء المسلم إليه دون الظهور عليه بوصف المالك فلا يكون خائناً للأمانة مثال ذلك الوكيل الذي يحبس عنده بعض المستندات حتى يدفع له الموكل أجره كاملاً ومن يطيل الانتفاع بالشيء أو يحتفظ به أكثر من المدة المقررة في هذه الأمثلة تحقق لدينا استمرار الحيازة الناقصة رغم إرادة المالك الذي يريد استرداد حيازته لكن لم يرد على الحيازة أي تغيير أي لم يرد الحائز جعلها حيازة كاملة ومن ثم فلا تقع جريمة خيانة الأمانة حقيقة إن عدم رد الشيء إلى مالكه رغم طلبه قد يستفاد منه أن الحائز قد انتوى تملكه أي خان الأمانة لكن الركن المادي في هذه الحالة لن يكون هو استمرار الحيازة بل إن هذا الاستمرار مجرد مظهر کاشف لتغيير الحيازة ومن ناحية أخرى فإن إساءة الحيازة الناقصة بسوء استعمال الشيء المسلم على سبيل الأمانة لا يتوافر به الركن المادي مادام سوء لاستعمال لا يكشف عن تغيير الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة مثال ذلك من يستأجر أحد الأفلام لعرضه بشروط معينة فيخالف هذه الشروط فذلك لا يعد خيانة للأمانة.
والخلاصة، فإن الركن المادي لخيانة الأمانة يتحقق بتغيير الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة.
نية التملك :
أن نية التملك عنصر في الركن المادي لخيانة الأمانة لأنه لا يمكن تصور النتيجة في هذه الجريمة (وهي تغيير الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة) بغير نية التملك وغني عن البيان أن نية التملك لا تكفي وحدها لتغيير الحيازة بل لابد من صدور فعل مادي يعبر به الجاني عن تغيير التملك ومن هنا كانت هذه النية شرطاً مهما في خيانة الأمانة أو هي بعبارة أخرى شرط لتغيير الحيازة ولو تمثل ذلك في مجرد بقاء الشيء الذي تسلمه تحت يده ومن هنا يتضح أن جريمة خيانة الأمانة تقع بفعل مركب يجمع بين العنصر المادي والعنصر المعنوي.
تتمثل هذه النية في اتجاه إرادة الأمين على الشيء إلى أن يصير مالكاً له ولا صعوبة في هذا التحديد إذا كان موضوع الأمانة شيئاً معيناً بذاته فإن هذه النية تكون واضحة من الأفعال التي يأتيها الجاني على الشيء والتي لا تصدر إلا عن مالكه.
أما مجرد التأخير في رد الشيء أو الامتناع عن رده إلى حين فلا تتوافر به نية التملك فقد قضت محكمة النقض أنه لا يتحقق به الركن المادي لجريمة التبديد ما لم يكن مقروناً بانصراف نية الجاني إلى إضافة المال الذي تسلمه إلى ملکه واختلاسه لنفسه إضراراً بصاحبه.
(3) نقض 21 نوفمبر سنة 1993 مجموعة الأحكام، س 44 ، رقم 159 ص 1037 .
الاختلاس لا يقتضي خروج الشيء من الحوزة المادية للجاني وإنما يتحقق بكل فعل من شأنه أن يفضح نية الجاني في تملك الشيء حين يظهر الجاني على الشيء بمظهر المالك فيكشف بذلك عن نية تغيير الحيازة مثال ذلك إذا عرض شخص ما اؤتمن عليه للبيع فهو أمر يدل على أنه جعل الشيء الذي يعرضه ملكاً له.
يتحقق التبديد في أوضح صور تغيير الحيازة وذلك بفعل يخرج به الجاني الشيء المبدد من حوزته المادية ويتحقق ذلك بالتصرف فيه على نحو لا يمكن صدوره إلا عن مالك الشيء ويستوي أن يكون التصرف قانوناً (كالبيع والهبة والمقايضة والرهن) أو مادياً (كاستهلاك الشيء) أما الإتلاف فهو في رأينا لا يعد تبديداً لأنه لا ينطوي على تغيير في الحيازة فالجاني في الإتلاف لا يهدف إلى تملك الشيء وإنما إلى تدميره ولا تتوافر نية التملك بمجرد تصرف المتهم في الشيء المسلم إليه أو خلطه بماله وإنما يتطلب ذلك ثبوت نية تملكه إياه وحرمان صاحبه منه.
الاستعمال :
عبر المشرع المصري بالاستعمال عن الصورة الثالثة من صور الركن المادي في خيانة الأمانة.
الركن المعنوي :
القصد الجنائي:
هذه الجريمة عمدية يشترط فيها توافر القصد الجنائي والذي يقتضي تحقيق عنصرين هما الإرادة والعلم.
الإرادة
يتعين أن تتجه إرادة الأمين إلى تغيير الحيازة من ناقصة إلى كاملة وهنا يلاحظ أن نية التملك يفترضها وقوع الركن المادي لهذه الجريمة ويقف دور الركن المعنوي بالنسبة إلى هذه النية على البحث في مدى وجود الإرادة قانوناً فالنية إرادة تتجه إلى غرض معين أي هي إرادة متخصصة ودور الركن المعنوي هنا يقتصر على البحث في وجود إرادة هذه النية ابتداء فإذا كانت إرادة الأمين مشوبة بالإكراه أو معيبة بالغلط فإنها لا تتوافر ويلاحظ أن تعييب الإرادة بالغلط يدخل في العنصر الثاني من القصد وهو العلم.
وضرب بعض الفقهاء مثلاً على عدم توافر الإرادة بملاك الأشياء المسلمة بحادث فجائي أو بقوة قاهرة كالحريق أو السرقة أو الضياع وقد أكدت محكمة النقض هذا المعني بالنسبة إلى فقد الأشياء المسلمة على سبيل الأمانة ولكننا نرى أنه في هذه الأمثلة لم تقع الجريمة لا بسبب تخلف القصد الجنائي وإنما بسبب عدم وقوع الركن المادي أصلاً أي تغيير الحيازة فأين هو الفعل الذي أتاه الجاني عند حرق الشيء المسلم إليه أو سرقته أو فقده منه.
العلم :
في هذا العنصر يحقق القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة أهمية أكبر فيتعين أن يحيط المتهم علماً بأن الأشياء التي غير حيازته عليها كانت مسلمة إليه بناء على أحد عقود الأمانة المذكورة على سبيل الحصر وأنها مملوكة للغير فلا جريمة إذا تصرف في الشيء معتقداً أنه ضمن محتويات التركة وكذلك الأمر إذا اعتقد المستعير أن الشيء قد سلم إليه على سبيل الهبة أو بناء على عقد بیع.
تمام الجريمة والعقاب عليها :
تمام الجريمة :
يكشف التحليل المتقدم لصور الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة أن هذه الجريمة تتم متى أظهر الأمين نيته في تملك الشيء ولما كان اتجاه النية إلى التملك أمراً لا يحتمل التجزئة فلا يتصور الشروع في هذه الجريمة ولا يقال بأن ضبط الجاني في أثناء التصرف في الشيء المسلم إليه على سبيل الأمانة يعد شروعاً وذلك لأن الفعل الذي ضبط عنده الجاني وهو العرض للبيع مثلاً يكشف عن نية الجاني في تملك الشيء ولما كان مجرد الاحتفاظ بالشيء مع نية تملكه تقع به جريمة خيانة الأمانة تامة في صورة الاختلاس فإنه لا يتصور الشروع في هذه الجريمة فهي إما أن تقع كاملة و لا تقع على الإطلاق .
وللقاضي مطلق التقدير في إثبات تاریخ تمام الجريمة فيجوز أن تثبت الجريمة بامتناع الأمين عن رد الأمانة أو ظهور عجز المتهم عن رده إلا إذا قام دليل على خلاف ذلك إذ يغلب في هذه الجريمة أن يغير الجاني حيازته دون أن يكون هناك من الأعمال المادية الظاهرة ما يدل على ذلك. فإذا ثبت للقاضي أن تغيير الحيازة قد وقع في تاريخ سابق وجب الاعتداد بهذا التاريخ وقد يثبت للقاضي أيضاً أن امتناع الأمين عن الرد أو عجزه عن ذلك ليس مبعثه توافر نية التملك بل لسبب آخر الأمر الذي يحول دون وقوع الجريمة.
وخيانة الأمانة جريمة وقتية تتم وتنتهي بمجرد تغيير الحيازة أما استمرار الجاني في وضع يده على المال فليس إلا أثرا للركن المادي ولا يغير من الطبيعة الوقتية للجريمة .
عقوبة هذه الجريمة هي الحبس ويجوز أن تضاف عليه غرامة لا تتجاوز مائة جنيه ولم ينص القانون على ظروف مشددة للجريمة ولم يجز توقيع عقوبة الوضع تحت مراقبة الشرطة على من يحكم عليه بوصفه عائداً في جريمة خيانة الأمانة بخلاف سياسة المشرع في السرقة والنصب ولذلك قضت محكمة النقض أن قانون العقوبات وإن نص على جعل السرقة والنصب وخيانة الأمانة جنحاً متماثلة من حيث العود لكن نتيجة ذلك قاصرة على تشديد العقوبة الأصلية أما مراقبة البوليس فهي عقوبة إضافية لا تطبق إلا حيث ينص عليها القانون فلا يحكم بها على العائد الذي يدان لجريمة خيانة الأمانة.
جواز الصلح في الجريمة: فطبقاً للمادة 18 مكرراً من قانون الإجراءات الجنائية للمجني عليه أو لوكيله الخاص ولورثته أو وكيلهم الخاص إثبات الصلح مع المتهم أمام النيابة العامة أو المحكمة بحسب الأحوال ويجوز الصلح فى أية حالة كانت عليها الدعوى وبعد صيرورة الحكم باتاً فإذا تم الصلح أثناء قيام الدعوى الجنائية ترتب عليه انقضاؤها ولو كانت مرفوعة بغير الادعاء المباشر وإذا كان الصلح أثناء تنفيذ العقوبة تأمر النيابة العامة بوقف تنفيذها ولا أثر للصلح على حقوق المضرور من الجريمة.(الوسيط في قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الطبعة السادسة 2016 الكتاب الثاني ، الصفحة:749)
ويستفاد من النص السابق أن الأركان المكونة لجريمة خيانة الأمانة تتمثل في الآتي:
أولاً: وجود المال في حيازة الجاني بناء علي عقد من عقود الأمانة المنصوص عليها.
ثانياً: سلوك إجرامي تتمثل في اختلاس أو استعمال أو تبديد ونتيجة ضرر مترتبة عليه.
ثالثاً: ركن معنوي يقوم على القصد الجنائي .
وجود المال في حيازة الجاني بناء على عقد من عقود الأمانة وجود المال في حيازة الجاني. التسليم : أن جريمة خيانة الأمانة تفترض أن المال موضوع السلوك الإجرامي متواجد في حوزة الجاني وذلك على خلاف جريمة السرقة ودخول المال في حيازة الجاني يفترض بدوره حدوث تسليم من قبل المجني عليه للجاني بقصد نقل الحيازة الناقصة التي تسمح للحائز بمباشرة الحقوق المترتبة على عقد الأمانة دون المكنات الأخرى المقررة للمالك.
ولذلك يخرج من نطاق جريمة خيانة الأمانة:
أولاً: التسليم المقصود به نقل الحيازة الكاملة كما في حالة التسليم بناء على عقد بيع أو هبة.
ثانياً: التسليم المقصود به نقل مجرد اليد العارضة أو المادية تحت بصر وإشراف المالك كما في حالة التسليم للمعاينة المادية في حضور المسلم فإذا اختلس من له اليد العارضة المال المسلم له كنا بصدد جريمة سرقة وليس خيانة أمانة.
وكذلك الحال بالنسبة لكل أنواع التسليم الذي لا ينقل الحيازة وإنما يبقيها على ذمة صاحب الشيء كما هو الحال في التسليم الحاصل إلى الخادم أو العامل وكان الغرض منه مجرد القيام بعمل مادي مما يدخل في نطاق عمل المستلم باعتباره خادماً أو عاملاً كتنظيف الشيء أو نقله من مكان إلى آخر فالاختلاس الذي يقع منه في هذه الحالة يعد سرقة وليس خيانة أمانة.
ولكن إذا كان المال قد سلم إلى الخادم أو العامل على سبيل الأمانة وبالتالي نقل الحيازة الناقصة وليس مجرد اليد العارضة فالاختلاس يعتبر خيانة أمانة وليس سرقة.
وتطبيقاً لذلك قضى بأنه إذا كانت الواقعة الثابتة بالحكم أن المتهم طلب إلى المجني عليه أثناء سيرهما معاً في الطريق أن يسلمه السوارين اللذين معه مخافة أن يسقطا منه فأجابه إلى طلبه ولما وصلا إلى محطة السكة الحديد أخبره المتهم أنه يريد التكلم بالتليفون فاطمأن إليه وتركه يدخل المحطة بمفرده وانتظر هو خارجها ولما يئس من حضوره عاد لمنزله فالوصف الصحيح لهذه الواقعة هو أن تسلم المتهم السوارين كان على سبيل الوديعة وأن اختلاسه لهما هو خيانة أمانة ومن الخطأ اعتبار ما وقع من المتهم سرقة لأن ترك المجني عليه للمتهم يذهب بمفرده ومعه السواران إلى داخل المحطة يتم به انتقال الحيازة فيهما لانقطاع صلة المجني عليه بهما من الناحيتين المادية والمعنوية مما ينتفي معه الاختلاس في السرقة (نقض19/2/1940 -552
وإذا اشترط في عقد البيع أن الملكية تبقى للبائع حتى يجربه المشتري فإن وجود المبيع عند المشتري في فترة التجربة إنما يكون على سبيل الوديعة فإذا هو تصرف فيه فإنه يكون قد خان الأمانة (نقض 15/11/1940 -503).
وعلى ذلك فالتسليم الذي تقوم عليه جريمة خيانة الأمانة هو الذي به تنتقل الحيازة الناقصة دون الحيازة الكاملة التي لا تثبت إلا للمالك.
والتسليم يقع من حائز المال الذي قد يكون مالكاً للشيء كما قد يكون مجرد حائز حيازة ناقصة كالمودع لديه الذي يسلم الشيء المودع لآخر لإعادته إلى مالكه وكالوكيل الذي يسلم الأوراق التي في حوزته لآخر لتوصيلها إلى الموكل وكالمستعير الذي يضع المال وديعة لدى آخر إلى حين رد الإعارة.
صور التسليم :
التسليم في صورته العادية والمألوفة إنما يكون فعلياً ينقل الشيء مادياً من حيازة شخص إلى آخر ولكن قد يكون التسليم رمزياً ينصب ليس على الشيء في مادياته وإنما على شيء آخر يعد رمز للحيازة.
ومثال التسليم الرمزي تسليم مفتاح السيارة وتسليم سند الشحن والتسليم الرمزي يقيد قانوناً انتقال حيازة الأشياء إلى حائز الرمز.
وأخيراً يكون التسليم اعتبارياً في الأحوال التي يكون المودع لديه الشيء حائزاً للشيء من قبل ولذلك قضى بأنه إذا كان الثابت من الحكم أن يبيع المنقولات محل الدعوى قد تم وتعين المبيع انتقلت ملكيته إلى المشتري ولكنه بقي في حيازة البائع على سبيل الوديعة لإتمام بعض الأعمال فيه فإنه إذا تصرف البائع فيه بطريق الغش كان مستحقاً للعقاب (نقض 14/3/1950 ص 554-18-1239-27-835).
كما قضى بأنه لا يلزم في الوديعة أن يكون تسليم حقيقياً بل يكفي التسليم الاعتباري إذا كان المودع لديه حائزاً من قبل الشيء.
2- أن يكون تسليم المال بناء على عقد من عقود الأمانة :
يلزم لقيام جريمة خيانة الأمانة أن يكون تسليم المال إلى الجاني إنما يستند إلى عقد من عقود الأمانة المنصوص عليها في المادة 341 عقوبات .
والعقود النصوص عليها هي الوديعة والإجارة وعارية الاستعمال والرهن والوكالة والاستعمال.
(الاستصناع).
ويلاحظ على خطة المشرع الجنائي في تحديد تلك العقود ما يأتي:
أولاً: أن التحديد السابق لعقود الأمانة إنما ورد على سبيل الحصر وليس على سبيل المثال.
ولذلك فلا يجوز القياس على العقود السابقة وإلا أصطدمنا بقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات فلا يجوز قياس عارية الاستهلاك عارية الاستعمال ولا قياس عقد المصارفة أو الحساب الجاري على الوديعة كذلك لا يدخل في عقود الأمانة عقد القرض أو المقايضة ولذلك يتعين على المحكمة أن تبين في حكمها العقد الذي تم بناء عليه تسليم الشيء موضوع الجريمة وهي في مجال تحديدها للواقعة المستوجبة للعقوبة (نقض س18). - ثانيا: أن العبرة في عقود الأمانة هي بحقيقة الواقع وليس بما يصبغه المتعاقدان على العقد من أوصاف فالمحكمة ملزمة بأن تمحص العلاقة المدنية التي تم التسليم بناء عليها وتعطيها الوصف القانوني الصحيح دون ما نظر إلى ما وصفها به المتعاقدان ذلك أن بعض الناس قد يلجأون إلى إعطاء العقد وصفا من أوصاف عقود الأمانة بغية ضمان الوفاء بالالتزامات الناشئة عنه بالتخويف بالجزاء الجنائي.
ونظراً لأن المحكمة الجنائية ملزمة بإعطاء الواقعة المستوجبة للعقاب وصفها القانوني الصحيح فيتعين عليها تكييف العقد التكييف القانوني السليم بنا على ما تستخلصه من واقعة الدعوى.
ويجب على المحكمة أن تبين في حكمها العناصر التي استقت منها تكييف العقد بأنه من عقود الأمانة ومع ذلك إذا أخطأت المحكمة في التكييف وتكشف لمحكمة النقض أن العلاقة بين الطرفين تندرج تحت عقد آخر من عقود الأمانة فلا مجال لنقض الحكم ولذلك قضى بأن اعتبار الحكم بالمال المختلس سلم للمتهم على سبيل عارية الاستعمال لا على سبيل الإجارة لا يؤثر في صحته إذ أن كلا من هذين العقدين هو من عقود الأمانة ويتوافر به ركن الائتمان. (نقض س 20 -616).
البيوع بالتقسيط ومشكلة تكييفها :
أثارت البيوع بالتقسيط خلافاً في الفقه والقضاء حيث يلجأ المتعاقدان إلى وصفها في بعض الأحيان بالإيجار لتنقلب إلى عقد بيع عند سداد آخر قسط ولذلك أطلق على مثل تلك البيوع البيوع الإيجارية وقد جرى الفقه والقضاء على تغليب وصف البيع على الإيجار وبالتالي استبعادها من نطاق خيانة الأمانة إذا تصرف المشتري في الشيء المباع قبل سداد كل الأقساط وقد اعتبرها المشرع المدني بيوعاً بنص المادة 430 مدني.
ولكن أجاز المشرع المدني في هذه البيوع أن يشترط البائع وقف نقل الملكية للمشتري على سداد آخر قسط ومعنى ذلك أن يد المشتري على الشيء قبل تحقق الشرط الواقف تعتبر يد أمين وليست يد مالك.
ويعتبر المشتري مودعاً لديه إلى حين سداد الثمن كاملاً ومعنى ذلك أنه إذا تصرف في الشيء قبل سداد الثمن كاملاً ارتكب جريمة خيانة الأمانة ولكن نظراً لأن المادة 430 مدني فقرة ثالثة تقضي بأنه في حالة الوفاء بكل الأقساط تنتقل الملكية إلى المشتري ويرتد تاريخها إلى وقت البيع فإن المشتري لا يكون مرتكباً للجريمة إذا استمر في وفائه بالأقساط حتى آخر قسط منها بالرغم من تصرفه السابق في الشيء المبيع.
ومع ذلك فهو يعتبر مرتكباً لجريمة أخرى نص عليها القانون رقم 100 لسنة 1957 في شأن البيوع التجارية والذي حظر في المادة 43 منه على المشتري أن يتصرف بأي نوع من أنواع التصرفات في السلعة موضوع التقسيط قبل الوفاء بثمنها بدون إذن البائع ورتب على مخالفة هذا الحكم سند قبة المشتري بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تجاوز مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين وذلك بدون إخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها قانوناً.
ومعنى ذلك أن المشترى بالتقسيط إذا توافرت في حقه جريمة خيانة الأمانة لتصرفه في المال المشترى بالتقسيط قبل أداء ثمنه كاملاً وأمتناعه عن سداد باقي الأقساط فإنه يعاقب بمقتضى المادة 341 عقوبات باعتبارها العقوبة الأشد.
أما في حالة الحصول المسبق على إذن البائع بالتصرف في الشيء فإن امتناع المشتري عن تكملة باقي الأقساط لا يشكل جريمة تبديد.
إذا تغير سند حيازة الحائز كأثر إبدال عقد الأمانة بعقد آخر فإن الأمر لا يخلو من فرضين:
الفرض الأول :
حيث يستبدل عقد الأمانة بعقد أمانة آخر کاستبدال الإجارة بالوديعة وعارية الاستعمال بالوديعة فهذا الاستبدال لا قيمة له قانوناً مادام العقد الجديد لا يغير من وصف الحيازة الناقصة ويدخل في زمرة عقود الأمانة المنصوص عليها.
الفرض الثاني :
أن يستبدل عقد الأمانة بعقد آخر ينقل الحيازة الكاملة للشيء كالمبيع مثلاً وهنا يكون للاستبدال أثره في نفي جريمة خيانة الأمانة إذا ما تصرف الحائز في الشيء بناء على العقد الجديد.
أما إذا كان تصرفه سابقاً على العقد الجديد فإن جريمة خيانة الأمانة تكون قد وقعت ثلمة استناداً إلى عقد الأمانة الأول ولا قيمة لرضاء المجني عليه اللاحق على تمام الجريمة.
ولكن يشترط في استبدال العقد السابق على التصرف في الشيء أن يكون استبدالاً حقيقياً غير مشوب بالصورية وإلا يكون معلقاً على شرط واقف.
ثالثاً - حكم العقد الباطل :
أن جريمة خيانة الأمانة منبتة الصلة بالإخلال بتنفيذ الالتزامات الناشئة عن العقد فالمشرع لا يعاقب على الإخلال بتنفيذ عقد الأمانة ذاته وإنما يعاقب على العبث بملكية الشيء المسلم بمقتضاه.
ولذلك يكفي لتوافر أركان جريمة خيانة الأمانة أن يكون الشيء المختلس قد سلم للجاني بناء على عقد من عقود الأمانة بغض النظر عما إذا كان القانون المدني يرتب على العقد آثاره القانونية أم أنه لا يرتب عليه أي أثر نظراً لبطلانه أو عدم مشروعيته إذ يكفي أن يكون هناك الحد الأدنى للشروط التي ينعقد بها العقد شكلاً ولو كان العقد فاسداً أو باطلاً غير منتج الآثاره إذ أن الغاية التي يتوخاها المشرع الجنائي تختلف عن تلك التي يتوخاها المشرع المدني.
ويترتب على ذلك أن المصالح التي يحميها المشرع الجنائي مختلفة عن تلك التي يحميها المشرع المدني.
وتطبيقاً لذلك قضت محكمة النقض بأن عدم مشروعية العقد أو بطلانه لا يعفي المؤتمن من رد ما تسلمه من المال بمقتضاه ولذلك إذا كانت نية الجاني وقت التسليم غير متفقة مع ما قصده المجني عليه من التسليم فلا تأثير لذلك في قيام جريمة خيانة الأمانة متى ثبت أن الجاني اختلس الشيء الذي سلم له ولم يستعمله في الأمر المعين الذي إرادة المجني عليه بالتسليم (31/3/1938-552 ).
رابعاً - إثبات عقد الأمانة ونفيه :
إن إثبات عقد الأمانة الذي تم التسليم بناء عليه يخضع للقواعد المقررة في القانون المدني ذلك أن إثبات المسائل الأولية غير الجنائية اللازمة للفصل في الدعوى الجنائية وإن اختص القاضي الجنائي بالفصل فيها إلا أنه مقيد في إثباتها بالقواعد المقررة في قوانينها.
وهذا هو ما نص عليه المشرع صراحة في قانون الإجراءات الجنائية (م 225 إجراءات).
وعلى ذلك متى تطلب القانون المدني في إثبات عقد الأمانة بليلاً معيناً تعين اتباعه والتزم القاضي باستخلاص عقيدته عن طريقه ولا يجوز له طرح هذا الدليل إلا بالطرق المنصوص عليها في القانون المدني وللأسباب المحددة فيه.
ولذلك قضى بأنه إذا كان عقد الائتمان الذي تفرعت عنه واقعة الاختلاس أو التبديد غير ثابت مدنياً فلا يجوز بطبيعة الحال إثباته أمام المحكمة الجنائية إلا بنفس الطريقة التي يجوز إثباته بها أمام المحكمة المدنية لأن واقعة الائتمان هي في ذاتها واقعة مدنية صرف فضلاً عن أنها تغایر واقعة الاختلاس أو التبديد وسابقة عليها في الترتيب ( 16/2/939 -560).
ترتيباً على ما سبق فإذا كان العقد لا يجوز إثباته وفقاً لقواعد القانون المدني إلا بطريق الكتابة فلا يجوز إثباته بالبينة إلا في الأحوال التي يجيزها القانون المدني من ذلك مثلاً حالة قيام مانع أدبي من شأنه أنه يحول دون الحصول على الكتابة عند وجوبها فيجوز الإثبات بالبينة وقيام هذا المانع يدخل في نطاق الوقائع فتقديره متروك لقاضي الموضوع بلا رقابة عليه من محكمة النقض وأذن فإذا رأت المحكمة من ظروف الدعوى أن علاقة القرابة بين الخصمين هي التي منعت أحدهما من أخذ سند من الآخر بالوديعة التي ائتمنه عليها فأجازت له الإثبات بالبينة فلا تصح مناقشتها في ذلك (27/5/1940 - 561 ).
وقاعدة تقيد القاضي الجنائي في إثبات عقود الأمانة بقواعد الإثبات المدنية إنما روعي فيه مصلحة المتهم حتى لا تتقرر مسئوليته الجنائية وعقابه إلا بناء على الدليل المعتبر قانوناً (نقض س25 - 433 س - 20 -573 ).
أما بالنسبة لنفي عقد الأمانة وبالتالي نفي المسئولية الجنائية بالنسبة للمتهم فإن العبرة هي بحقيقة الواقع وللقاضي الجنائي حريته التامة في تكوين عقيدته دون التقيد بدليل معين وعلى هذا استقر قضاء النقض فقد استقر قضاؤها على أنه لا تصح إدانة متهم بجريمة خيانة الأمانة إلا إذا أقتنع القاضي أنه تسلم المال بعقد من عقود الائتمان الواردة على سبيل الحصر إلا أن العبرة في القول بثبوت هذه العقود في صدد توقيع العقاب إنما هي بالواقع بحيث لا يصح تأثيم إنسان ولو بناء على اعترافه بلسانه أو بكتابته متى كان مخالفاً للحقيقة نقض3/6/1943 - 564 س 20- 1176 س 21 س 23 - 130 س 26 - 497 - س 27 -835.
كما قضى بأن رد الشيء المختلس هو واقعة مادية يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات ومخالفة ذلك خطأ في تطبيق القانون (س 21 -101 -25 - 183 ) .
عقود الأمانة :عقود الأمانة المنصوص عليها هي ستة عقود:
الوديعة - الإجارة - عارية الاستعمال-الرهن-الوكالة والاستعمال (الاستصناع).
أولاً : الوديعة:
الوديعة هي عقد رضائي يلتزم به شخص أن يتسلم شيئاً من آخر على أن يتولى حفظ هذا الشيء وعلى أن يرده عيناً (مادة 718 مدني) ولذلك فإن المناط في اعتبار العقد وديعة هو التزام المودع لديه برد الوديعة بعينها (س 27 -97 ).
وإذا كان العقد يلزم المودع لديه برد الأشياء بعينها فهو وديعة ولا يجدي في ذلك عدم بيان المنقولات بياناً كافياً إذ لا يجوز الاحتجاج بهذا لاعتبارها من المثليات التي يكون للمودع لديه رد مثلها أو قيمتها (قارن نقض - س 20- 616).
وإذا نص في العقد على رد قيمة الشيء إذا فقد لا يكفي وحده للقول بأن تسلمه لم يكن على سبيل الوديعة متى كان النص على رد القيمة يكون عند العقد مما يرشح أن يكون عيناً ما دام الشيء موجوداً (نقض7/6/1949 - 553 - س 20 - 1434).
ولذلك فإذا تصرف الزوج في منقولات الزوجة المسلمة إليه على سبيل الوديعة يعتبر مرتكباً جريمة خيانة الأمانة ولو كان هناك نص صريح على رد القيمة في حالة الفقد أو التلف.
وقد قضى بأن الشرط الأساسي في عقد الوديعة هو أن يلتزم المودع لديه برد الوديعة بعينها للمودع وإذن فمتى كان الثابت بالحكم أن المتهم والمجني عليه قد اتفقا على أن يتبادلا ساعتيهما وأن تسليم أولهما ساعة الثاني كان تنفيذاً لهذا الاتفاق فإن التسليم على هذه الصورة يكون مبنياً على عقد معاوضة وليس من العقود المنصوص عليها في المادة 341 عقوبات4/5/1954 - 553 -س 37 - 97 ) .
وإذا كان الشيء المودع مبلغاً من المال أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال ولا يكون المودع لديه مأذوناً له باستعماله فيعتبر مبدداً إذا امتنع عن رده.
وتطبيقاً لذلك قضى بأنه متى كان الثابت من وقائع الدعوى أن جمعية تكونت من ثلاثة عشر شخصاً يدفع كل منهم خمسين قرشاً يومياً على أن تجمل مائة وخمسين جنيهاً كل عشرين يوماً وقد عهد إلى المتهم بأمانة صندوقها إلا أنه لم يقم بسداد ما يستحقه أحد الأعضاء عند حلول ميعاده وكانت الوقائع على النحو السالف بیانه دالة على قيام علاقة وكالة بالأجر بين أعضاء الجمعية وبين المتهم يقوم بموجبها بالتحصيل والتوزيع هذا فضلاً عن أنه يعتبر بهذه المثابة مودعاً لديه يحتفظ بالمال المتحصل الفترة المقررة الحساب من يستحقه من أعضاء الجمعية فإن الحكم إذ خالف هذا النظر وقضى ببراءته تأسيساً على أن المال لم يسلم إليه بعقد من عقود الأمانة يكون قد أخطأ في القانون (س 20 - 1444).
أما إذا كان الشيء المودع نقوداً أو شيئا يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذوناً له في استعماله اعتبر العقد فرضاً (م 725 مدني) ولذلك امتنع عن رده فلا يكون مبدداً.
والودائع الاضطرارية يسري عليها القواعد العامة لعقد الوديعة وهي تختلف عنه فقط في الإثبات إذ يجوز إثباتها بكافة الطرق مهما بلغت قيمتها، كما سبق وأن رأينا.
ويقصد بالودائع الاضطرارية تلك التي تدفع إليها ظروف طارئة لا تسمح بأخذ سند كتابي أو كانت مما يجري عليه التعامل اليومي كما هو الشأن في ودائع النزلاء بالفنادق ودور الضيافة وقد حكم بأنه إذا سلم شخص إلى آخر له به صلة عمل عند مبيتهما معاً في غرفة واحدة بإحدى القرى ما معه من النقود ليحفظه لديه إلى الصباح فأخذها المستلم وفر فعمله هذا يعتبر خيانة أمانة.
ومتى ثبت أن إيداع المجني عليه نقوده لدى الجاني إيداعاً اضطرارياً وألجأته إليه ظروف طارئة فمن الجائز إثبات حصوله بالبينة ( 20/5/135-561 ) .
والحراسة تأخذ حكم الوديعة وهي قد تكون عقدية أو قانونية أو قضائية ولذلك إذا بدد الحارس المنقولات أو ريعها فإنه يرتكب خيانة الأمانة.
وغني عن البيان أن التعليم الاعتباري يأخذ حكم التسليم الفعلي وذلك إذا كان المال في حيازة المودع لديه من قبل.
ثانياً - الإجارة:
الإيجار هو عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم (558 مدني)، وعقد الإيجار كما ينصب على منقول فهو ينصب أيضاً على عقار ويلتزم المستأجر برد الشيء المؤجر بعينه في نهاية مدة الإيجار ولكن إذا تصرف المستأجر في الشيء قبل نهاية المدة فتقع أيضاً جريمة التبديد وذلك أن الجريمة تقع بالامتناع عن الرد في نهاية المدة ما لم يثبت أنها وقعت في تاريخ سابق وتطبيقاً لذلك قضت محكمة النقض بأنه ولئن ساغ القول بأن امتناع الأمين عن رد الأمانة بعد مطالبته بذلك يعد مبدأ لمدة سقوط الدعوى فإن هذا لا يكون إلا إذا كان حصول التبديد يقم عليه دليل أما إذا ثبت لدى القاضي من ظروف الدعوى وقرائنها أن الاختلاس قد واقع بالفعل في تاريخ معين فإن الجريمة تكون قد وقعت في هذا التاريخ ويجب اعتباره مبدأ لمدة سقوطها بغض النظر عن المطالبة. (4559-س 26-26-28 -818 ).
والإيجار في ذلك يختلف عن الوديعة أو أي عقد آخر من عقود الأمانة وإذا كان موضوع العقد هو عقار فيمكن أن تقع جريمة التبديد بفصل أجزاء منه والتصرف فيها تصرف المالك باعتبارها منقولاً.
وإذا نص في العقد على دفع قيمة الشيء في حالة عدم رده لا ينفي أن نية العاقدين قد انصرفت إلى اعتبار العقد إيجاراً - س 19 -464).
واستخلاص هذه النية هو أمر موضوعي تستقل به محكمة الموضوع.
ويجب أن ينصب العقد على شيء معين وليس على مثليات وإلا اعتبر فرضاً.
ويكفي أن تستخلص المحكمة أن نية المتعاقدين قد انصرفت إلى الإيجار حتى ولو كانت المنقولات بياناً كافياً يجعلها من المثليات التي يكون له للمستأجر أن يرد مثلها أو قيمتها في نهاية العقد مادام العقد يلزمه بردها في نهاية مدته وأنه لا يتضمن معنى يعطيه حق التصرف فيها (س 20-616 ).
ثالثاً - عارية الاستعمال :
عارية الاستعمال هي عقد يلتزم به المعير أن يسلم المستعير شيئاً غير قابل للاستهلاك ليستعمله بلا عوض لمدة معينة أو غرض معين على أن يرده بعد الاستعمال (653 مدني). .
والذي يميز عارية الاستعمال عن الإيجار هو الأجرة وعموماً فكلاهما من عقود الأمانة ولذلك قضى بأن اعتبار الحكم للمال المختلس سلم للطاعن على سبيل عارية الاستعمال لا على سبيل الإيجارة لا يؤثر في صحته إذ أن كلا من هذين العقدين هو من عقود الأمانة ويتوافر به ركن الائتمان (س 20-616).
وإذا كان الشيء قابلاً للاستهلاك فإن إعارته تنتقل به الحيازة الكاملة ولذلك يخرج العقد من نطاق عقود الأمانة.
رابعاً : الرهن الحيازي :
الرهن الحيازي هو عقد به يلتزم شخص ضماناً لدين عليه أو على غيره أن يسلم إلى الدائن أو إلى أجنبي يعينه المتعاقدان شيئاً يرتب عليه الدائن حقاً عينيا يخوله حبس الشيء لحين استيفاء الدين أو أن يتقدم الدائنين العاديين والدائنين التاليين له في المرتبة في اقتضاء تقه من ثمن هذا الشيء في أي يد يكون (م 1096 مدني)
ولا يجوز الاتفاق على أن يصبح الدائن مالكاً المال عند عدم السداد ولكن يجوز له أن يطلب من القاضي الترخيص له في بيع الشيء المرهون بالمزاد العلني أو بسعره في البورصة أو السوق كما يجوز له أن يطلب من القاضي أن يأمر بتمليكه الشيء وفاء للدين على أن يحسب عليه بقيمته بحسب تقدير الخبراء (م 1121مدني)
ومادام لم يصدر حكم من القاضي فإن تصرف الدائن المرتهن في الشيء يعد خيانة أمانة.
خامساً- الوكالة:
الوكالة هي عقد بمقتضاه يلتزم الوكيل بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل (699 مدني) وقد تكون الوكالة بمقابل كما قد تكون بدون مقابل والمقابل قد يأخذ شكل الأجر المنتظم كما قد يأخذ شكل العمولة.
والأعمال القانونية موضوع الوكالة تندرج تحت حصر فمن يعطي الآخر ورقة مالية كبيرة لإبدالها بأوراق صغيرة وخرج هذا الأخير ليبحث له عن الأوراق الصغيرة على شرط رد هذا المقابل أو إعادة الورقة بذاتها إليه فخرج ولم يعد بها إلى صاحبها فهذا السلوك تتحقق به خيانة الأمانة وذلك على اعتبار أنه اختلس مالاً سلم إليه بصفته وكيلاً مجاناً بقصد استعماله في أمر معين لمنفعة المالك (21/11/1932 -554 س 18-818 - س 21 753 .
ومن أتفق مع آخر على شراء منقولات شركة بينهما وتسلم منه مبلغاً من المال لهذا الغرض ولم يشتر مواشي ولم يرد المبلغ إلى صاحبه عند طلبه منه عد مبدداً لأن تسلمه المبلغ من شريكه إنما كان بوصفه وكيلاً عنه لاستعماله في الغرض الذي اتفق كلاهما عليه (س۱۸-۸۱۸س-27-632 ).
سادساً : استعمال الشيء لمنفعة المالك أو لغيره :
ويدخل تحت هذا المصطلح عقود الاستصناع كتسليم الترزي قطعة من القماش لحياكتها وتسليم النجار أخشاباً لعمل أثاث وتسليم جلود لصانع الأحذية الصنع حذاء كما يدخل فيها أيضاً تسليم الشيء لإصلاحه أو لتنظيفه.
ولذلك قضى بأن استهلاك المتهم لوقود السيارة المسلمة إليه لتنظيفها باستعمالها في نقل الركاب لحسابه دون إذن المالك يعتبر تبديداً يندرج تحت المادة 341 عقوبات.
ويستوي أن يكون الاستصناع أو الاستعمال لمنفعة المالك بأجر أو بدون أجر فمن يسلم صديقاً جهاز راديو لإصلاحه بوصفه فنياً في الكهرباء يمتنع عن رده إياه يكون مبدداً.
الركن المادية السلوك الإجرامي والنتيجة غير المشروعة صور السلوك الإجرامي:
إذا كانت جريمة الأمانة تفترض أن هناك تسليماً المال على سبيل الحيازة الناقصة فإن السلوك الإجرامي المكون للجريمة إنما يتمثل في أي سلوك يحول به الجاني حيازته الناقصة إلى حيازة كاملة أو تامة.
ويتحقق ذلك السلوك إذا سيطر الجاني على الشيء سيطرة المالك وجمد بذلك حق هذا الأخير عليه أما بالامتناع عن رده دون مبرر قانوني وأما بالتصرف فيه تصرفاً يخرجه به من حوزته إلى الغير أو يتصرف فيه تصرفاً لا يصدر إلا عن مالك الشيء بالرغم من بقائه في حوزته.
وبعبارة واحدة يمكن القول بأن السلوك الإجرامي في خيانة الأمانة إنما يتمثل في استحواذ الجاني على الشيء إضرارا بمالكه أو بمن له الحق عليها.
فجريمة خيانة الأمانة تتحقق بكل فعل يدل على أن الأمين اعتبر المال الذي أؤتمن عليه مملوكاً له يتصرف فيه تصرف المالك ولا يشترط لتحققها خروج المال بالفعل من حيازة الأمين بناء على التصرف الذي أوقعه .(19/2/1945 -551 )
أولاً : الاختلاس :
يقصد بالاختلاس في خيانة الأمانة سيطرة الجاني على الشيء سيطرة المالك دون أن يخرجه من حوزته ويأخذ الاختلاس هنا شكل الامتناع عن رد الشيء إلى صاحبه عند طلبه أو عند انتهاء سبب الجيازة فالسلوك الإجرامي في حالة الاختلاس المعنى في خيانة الأمانة هو سلوك سلبي.
غير أن الامتناع عن الرد بوصفه سلوكاً سلبياً لا يتحقق به اختلاس إلا إذا رافقته نية خاصة وهذه النية الخاصة هي نية التملك أو نية إضافة الشيء إلى ملكه.
ومن الامتناع عن الرد وتوافر النية الخاصة يتحقق سلوك الاختلاس ولذلك إذا توافر الامتناع عن الرد دون توافر النية الخاصة وهي نية إضافة الشيء إلى مالكه ينتفي السلوك الإجرامي في خيانة الأمانة.
فالتأخير في رد الشيء أو الامتناع عن رده لا يتحقق به الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة ما لم يكن مقروناً بانصراف نية الجاني إلى إضافة المال الذي تسلمه إلى ملكه واختلاسه بذلك لنفسه إضرار بصاحبة ولذلك
قضى بأنه إذا كان الثابت بالحكم أن الطاعن يبرر امتناعه عن رد المنقولات منذ البداية بما تمسك به من حقه في حبسها إلى أن يفصل في دعوى فسخ الخطبة لما يتوقف على الفصل فيها من تحديد العلاقة بين الطرفين بصدد استرداد ما قدمه من شبكة وهدايا وما أنفقته من مصروفات أخرى وأنه ما هدف بقعوده عن الرد فترة قام بعدها بتسليم المنقولات إلا حفظ حق له ما يبرره قانوناً فإن الحكم إذ دانه بجريمة خيانة الأمانة يكون قد أخطأ 23/3/1964 - 202 - س 28 - 390 - س 29 - 2793 ).
ثانياً: الاستعمال:
يقصد بسلوك الاستعمال المكون لخيانة الأمانة ذلك الاستعمال الذي فيها معنی تضييع المال على صاحبه ومثال ذلك أن يؤتمن شخص على أوراق اختراع معين فيصور نسخة منها ويعطيها لآخر أو أن يؤتمن صاحب جراج على سيارة أثناء فترة سفر صاحبها فيقوم بتأجيرها لمكتب تأجير سيارات للغير فترة غياب صاحبها أو يقوم کواء ملابس بتأجير ملابس سلمت له لكيها فهنا نجد أن المال قد استعمل من قبل الأمين استعمالاً لا يملكه سوی المالك نظراً لما فيه احتمال ضياعه أو هلاكه على صاحبه أما الاستعمال الذي يقتصر على الانتفاع بالشيء دون خطر الهلاك أو الإتلاف فلا تقوم به جريمة خيانة الأمانة. .
ومثال ذلك أن يقوم ميكانيكي السيارات باستخدام السيارة بعد إصلاحها في قضاء مصلحة خاصة به أو أن يقوم من عهد إليه بتنظيف السيارة باستعمالها في نقل الركاب لحسابه إلا أنه في المثالين الأخيرين تتحقق جريمة خيانة بالنسبة لاستهلاك الوقود فقط.
والاستعمال المكون للجريمة يفترض أن هناك نية رد الشيء وإلا إذا توافرت به نية التملك فإنه يكون اختلاساً أو تبديداً وإنما يكتفي فيه بنية الغش وهذه النية تتوافر متى تحقق علم الجاني بأن من شأن سلوكه في الاستعمال أن يجعل التزامه برد الشيء بحالته التي تسلمه بها صعباً أو مستحيلاً.
ثالثاً : التبديد :
يقصد بالتبديد السلوك الذي يأتيه الأمين على المال بالتصرف فيه بما يخرجه عن حوزته نهائياً تصرفاً لا يصدر إلا عن مالك.
ومثال ذلك بيع المنقول أو استهلاكه أو هبته إلى الغير كذلك يندرج تحت التبديد التصرف في المنقول برهنه حتى ولو كانت لدى الأمين نية إرجاعه بعد الاستعمال على ما يسدد به الدين ذلك أن الرهن يعتبر تصرفاً في المنقول لا يصدر إلا من مالك.
يستوي أن يكون التبديد بالتصرف في الشيء لمنفعة تعود على الأمين أو الغير أو كان إضراراً بمالكه ولذلك يندرج تحت التبديد إتلاف المال عمداء وفي هذه الحالة تتعدد جريمة خيانة الأمانة مع جريمة الإتلاف تعدداً معنوياً يطبق في شأنه العقوبة المقررة للجريمة الأشد. .
كذلك يمكن أن تتعدد جريمة خيانة الأمانة مع جريمة النصب تعدداً معنوياً في صورة التصرف في منقول مملوك للغير.
الموضوع المادي للسلوك : مال منقول مملوك للغير:
يشترط في الشيء موضوع الجريمة أن يكون مالاً منقولاً ويقصد بالمال كل ما كان له قيمة بالنسبة لصاحبه يستوي أن تكون هذه القيمة مادية أي مالية أو أن تكون له مجرد قيمة معنوية بالنسبة لصاحبه.
فإذا فقد الشيء أية قيمة مالية أو معنوية فلا يصلح موضوعاً للجريمة ولذلك قضى بأن لا يعد أمانة اختلاس تقریر ثبت عدم جديته مرفوع من أعضاء لجان حزب إلى مدير إدارة هذه اللجان إذا ثبت أن هذا التقرير ليس بورقة جدية ذات حرمة ولا يمكن اعتبارها متاعاً للحزب يحرص عليه وأنها أنشئت لفرض خاص لا ارتباط له بأعمال الحزب وإنما هي أثر خدعة وأداة غش ألبست ثوب ورقة لها شأن (31/3/1932 -551 ).
ومن ناحية أخرى قضى بأنه إذا كانت المحكمة قد أدانت المتهم في جريمة تبديد مبلغ سلم إليه على سبيل الوديعة معتمدة في ذلك على ورقة وقعها المتهم جاء بها أنه تسلم هذا المبلغ من المجني عليه بصفة أمانة يردها له عند طلبه وعلى ما قرره المجني عليه في هذا الصدد فإنها لا تكون قد أخطأت ولا يؤثر في ذلك مجرد ورود الوديعة على نقود تتعين بالقيمة دون العين ما دام أنه لا يبين من الحكم أن المجني عليه قصد بالعقد (الورقة) إعطاء المودع لديه حق التصرف فيها. .(1950/1/2 - 551 )
النتيجة غير المشروعة : الضرر:
تتوافر جريمة خيانة الأمانة إذا وقع السلوك الإجرامي المتمثل في الاختلاس أو الاستعمال أو التبديد للشيء المؤتمن عليه إضراراً بمالكه أو صاحبه أو واضع اليد عليه ومؤدى ذلك أن الضرر يعتبر عنصراً من عناصر الركن المادي للجريمة يلزم توافره والتحقق منه.
ولا يشترط في الضرر أن يكون مالياً بل يكفي الضرر الأدبي أو المعنوي ومن ناحية أخرى أن يكون محتمل الوقوع.
وتطبيقاً لذلك قضى بأنه متى ثبت أن هناك عجزاً في أكياس السماد التي سلمت إلى مشتريها من الجمعية الزراعية فلا يجدي في دفع التهمة القول بأن ركن الضرر غير متوفر في الجريمة متى حصلت الجمعية الزراعية على كامل حقها إذ هذا القول مردود بأنه يكفي لتحقق الجريمة أن يلحق بالمشترين من الجمعية الزراعية ضرر حتى يتعدى الضرر إليها أيضاً 15/1/11252 -556 والضرر المشترط لخيانة الأمانة قد يلحق مالك الشيء أو صاحبه أو حتى مجرد واضع اليد في الأموال التي يكون فيها من قام بالتسليم ليس مالكاً وإنما حائزاً حيازة ناقصة أو مجرد واضع يد فالمستأجر لسيارة الذي يسلمها إلى صاحب جراج فيبددها إنما يلحق الضرر المستأجر لذا كان عقد الإيجار ينص على ردها أو دفع قيمتها عند عدم الرد وكذلك الحال بالنسبة لواضع اليد الذي يلتزم بدفع قيمة الشيء في حالة فقده- إذا كان هو الذي قام بتسليمه إلى الأمين.
هل يتصور الشروع في جريمة خيانة الأمانة :
إن الرأي السائد في الفقه والقضاء هو أن الشروع غير متصور وفقاً البنيان القانوني لجريمة خيانة الأمانة وذلك لأن الواقعة الإجرامية فيها يتحقق بتغيير نية الجاني وتحويل حيازته للمال من حيازة ناقصة إلى حيازة كاملة والسيطرة عليه سيطرة المالك ولا يشترط لتحققها خروج المال بالفعل من حيازة الأمين بناء على التصرف الذي أوقفه كما قضى بأن الاختلاس متى أضاف المختلس إلى ملكه الشيء الذي سلم إليه وتصرف فيه على اعتبار أنه مملوك له ولا يمنع من تحقق جريمة الاختلاس أن يكون بعض الشيء المختلس قد ضبط في الشارع قبل الوصول به إلى منزل المتهم 29/4/1946 -551.
والواقع أن قابلية أي جريمة للشروع فيها من عدمه لا علاقة لها بنية الجاني أو إرادته لأن القصد الجنائي في الشروع هو ذاته القصد الجنائي للجريمة التامة.
ولذلك فإن معيار الشروع إنما يدور حول السلوك الإجرامي والنتيجة المترتبة عليه فإذا كانت الواقعة الإجرامية قابلة للتجزئة أو التبعيض فإن الشروع متصور أما إذا كانت الواقعة أما أن تقع كاملة أو لا تقع على الإطلاق لأن ما يمكن وقوعه منها هو مجرد أعمال تحضيرية فلا يتصور الشروع.
والمشكلة في جريمة خيانة الأمانة أن أي مظهر خارجي للنية يكفي لقيام الجريمة تامة حتى ولو كانت الظروف لا تسمح للجاني بالسيطرة الكاملة عليه إذ أن الجريمة تتم بالسيطرة المادية على الشيء مع وجود النية حتى ولو كان لا يستطيع التصرف فيه.
فالتصرف التالي للنية ليس هو السلوك الإجرامي الذي وقع من قبل بقدر ما هو دليل على وجود النية.
القصد الجنائي
القصد الجنائي العام:
جريمة خيانة الأمانة جريمة عمدية يقوم الركن المعنوي فيها على القصد الجنائي ولذلك ينبغي توافر العلم والإرادة.
فالعلم
يتصرف إلى العناصر المكونة للواقعة الإجرامية فيجب أن يعلم الجاني أنه تسلم الشيء تسليماً ناقلاً للحيازة الناقصة فإذا كان الجاني يعتقد أن تسليم المال على سبيل الحيازة الكاملة ويتصرف فيه على هذا الأساس فإن القصد الجنائي ينتفي ولذلك قضى بأن تمسك المتهم بأنه تسلم السيارة بوصفه مالكاً لا حارساً قضائياً عليها من شأنه أن يغير وجه الرأي في الدعوى إذا ثبت صحة هذا الدفاع لما ينبنى عليه من انتفاء ركن من أركان الجريمة.
والإدارة :
هي العنصر الثاني من عناصر القصد وبه يكتمل وجوده فيجب أن تتجه إرادة الجاني إلى السلوك المتمثل في الاختلاس أو الاستعمال أو التبديد للشيء موضوع السلوك وإلى ما يترتب عليه من ضرر محقق أو ضرر محتمل ولذلك فإن القصد الجنائي يتوافر متى انصرفت إرادة الجاني إلى إضافة الشيء إلى ملكه بالتصرف فيه تصرف المالك إضراراً بصاحبه.
أن القصد الجنائي لا يتوافر إلا إذا انصرفت نية الجاني إلى تلك الشيء أي التصرف فيه تصرف المالك ويذهب الفقه إلى اعتبار هذه النية قصداً خاصاً يوجد إلى جانب القصد العام.
غير أن نية التملك لا تعتبر قصداً خاصاً وإنما هي عنصر نفسي للسلوك فلا يتصور وقوع اختلاس أو تبديد إلا إذا كانت نية الجاني قد انصرفت إلى السيطرة عليه سيطرة المالك ولذلك قد تتوافر نية التملك ولا يتوافر القصد الجنائي كما هو الشأن في حالة المقاصة أو تصفية الحساب.
ففي هذه الفروض تتجه نية الجاني إلى الامتلاك ولكن لا يتوافر القصد الجنائي القائم على إرادة تحقيق السلوك والنتيجة المترتبة عليه والمتمثلة في الإضرار بالمالك أو صاحب الشيء أو واضع اليد عليه.
ولذلك فإن القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة يقوم على إرادة تضييع المال على صاحبه فمجرد التصرف في الشيء لا يتحقق به القصد الجنائي.
وتطبيقاً لذلك قضت محكمة النقض بأن القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة يتحقق بتصرف الحائز فى المال المسلم إليه على وجه الأمانة بنية إضاعته على ربه ولو كان هذا التصرف بتغيير الحيازة الناقصة إلى ملكية كاملة مع بقاء عين ما تسلمه تحت يده (س 19-562 ).
وغني عن البيان أن تقدير توافر القصد الجنائي هو أمر موضوعي تستقل به محكمة الموضوع (س 19-562)
العقوبة العقوبة الأصلية المقررة لجريمة خيانة الأمانة هي الحبس من أربع وعشرين ساعة إلى ثلاث سنوات ويجوز الحكم بالغرامة التي لا تتجاوز مائة جنيه وذلك إلى جانب عقوبة الحبس.
وبالرغم من أن خيانة الأمانة تعتبر من مجموعة جرائم الأموال بالنسبة للعود المتكرر والعود البسيط في الأحوال التي يتطلب فيها المشرع التماثل وبالتالي فهي متماثلة مع السرقة والنصب في هذا الصدد إلا أن المشرع لم ينص على عقوبة تكميلية كالوضع تحت مراقبة البوليس في حالة العود كما فعل بالنسبة للسرقة والنصب وعلى ذلك فالتشديد في حالة العود يخضع للقواعد العامة المقررة في شان العود للجريمة وفقا لنصوص المواد 49 وما بعدها من قانون العقوبات.
ويلاحظ أن المشرع لم ينص على عقوبة للشرع في خيانة الأمانة ونظراً لأن خيانة الأمانة جنحة فلا يعاقب على الشروع فيها إلا بنص خاص ويبدو أن المشرع تأثر بالسائد في الفقه والقضاء من أن جريمة خيانة الأمانة تتم بمجرد تغيير النية من حيازة ناقصة إلى حيازة كاملة دون حاجة إلى مظهر خارجي إذ أن الاختلاس كسلوك للجريمة يتحقق بتغيير النية والمال تحت حوزة المتهم ومن ثم فلا يتصور الشروع في خيانة الأمانة.
قيود تحريك الدعوى :
جرى قضاء النقض على إعمال قید تحريك الدعوى المنصوص عليه في المادة 312 في شأنه السرقة بين الأصول والفروع والأزواج على خيانة الأمانة لتوافر الحكمة ولذلك لا عقاب ولا يمكن تحريك ورفع الدعوى إلا بناء على شكوى من المجني عليه فقد قضت صراحة محكمة النقض بأن المادة 312 عقوبات تضع قيداً على حق النيابة العامة في تحريك الدعوى يجعله متوقفاً على شكوى المجني عليه وإذ كان هذا القيد الوارد في باب السرقة علته المحافظة على كيان الأسرة فإنه يكون من الواجب أن يمتد أثره إلى الجرائم التي تشترك مع السرقة فيما تقوم عليه من الحصول على المال بغير حق كجرائم النصب وخيانة الأمانة في غير إسراف في التوسع فإذا كانت الزوجة الشاكية قد نسبت إلى زوجها المتهم تبديد منقولاتها وملابسها ثم تنازلت عند النظر في الدعوى وقبل الفصل فيها نهائياً عن شكواها التي تتمثل - في الدعوى التي رفعتها ضده بالطريق المباشر فإنه يتعين عملاً بالمادة 312 أن يقضي ببراءته من التهمة. (10/11/1958 -559 ).
طبيعة جريمة خيانة الأمانة وزمان ارتكابها والتقادم فيها
طبيعة الجريمة وزمان ارتكابها وبدء حساب المدة المسقطة للتقادم:
أن جريمة خيانة الأمانة من الجرائم الوقتية وليست من الجرائم المستمرة فاستمرار حيازة الجاني بعد تغيير نيته هو أثر للجريمة وليس عنصراً من عناصر تكوينها ولذلك فهي تتم في اللحظة التي وقع فيها الاختلاس أو التبديد أيهما أسبق.
فمن يختلس الأمانة ويحاول بيعها بعد ذلك فإن تاريخ ارتكاب الجريمة هو تاريخ اختلاسها وليس تاریخ تبديدها إلا إذا لم يمكن معرفة تاريخ الاختلاس فيؤخذ سلوك التبديد على أنه وقت ارتكاب الجريمة.
والحال كذلك حتى في الفروض التي تقوم فيها الجريمة على الاستعمال فهي تعتبر قد وقعت كاملة بأول فعل من أفعال الاستعمال ولو استمر الاستعمال بعد ذلك.
والقاعدة السابقة في تحديد زمان ارتكاب الجريمة تطبق حتي في الأحوال التي يتمنع فيها الأمين عن رد الأمانة أما في تاريخ معين أو عند طلبها فالجريمة لا تقع عند عجز الأمين عن الرد وإنما في التاريخ الذي حدث فيه الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال كل ما هنالك أنه إذا تعذر معرفة تاريخ السلوك الإجرامي فيعتبر تاریخ عجز الأمين عن الرد هو تاريخ وقوع الجريمة.
ومن ناحية أخرى لا عبرة بتاريخ الإيداع أو التسليم والمبدأ السابق في حساب زمان وقوع الجريمة هو ما عنته محكمة النقض حين قضت بأن ميعاد سقوط الدعوى في جريمة خيانة الأمانة لا يبدأ من تاريخ إيداع الشيء المختلس بل من تاريخ طلبه وظهور عجز المودع لديه عن رده 16 / 2 / 1942 ص 560 ) .
فتاريخ العجز عن الرد لا يلجأ إليه إلا إذا تعذر إثبات وقوع السلوك الإجرامي في تاريخ سابق. (س17-1031 -س 20 -616-س26-26-س28 -818)
ولا عبرة بعلم المجني عليه بتاريخ ارتكاب الجريمة فتاريخ وقوع الجريمة يتحدد بتاريخ ارتكاب الواقعة المكونة لها بغض النظر عن علم أو جهل المجنى عليه به س 27 -952 ) إذ أن علم المجني عليه بالجريمة لا يعتد به المشرع إلا بالنسبة للحقوق المتعلقة بشخصه كما هو الشأن في الحق في الشكوى الذي يسقط بثلاثة أشهر من تاريخ علم المجني عليه بالجريمة.
أما بالنسبة للآثار الأخرى فإن العبرة هي بحقيقة الواقع وحتى في الشكوى يسقط ولو لم يعلم المجني عليه بالجريمة إلا بعد سقوط الدعوى بالتقادم.
بدء حساب مدة التقادم :
تحسب مدة تقادم الدعوى الجنائية من اليوم التالي من تاريخ ارتكاب الجريمة بغض النظر عن علم المجني عليه بوقوعها ومن هذا التاريخ يسقط الحق في إقامة الدعوى إذا انقضى ثلاث سنوات دون اتخاذ أي إجراء قاطع للتقادم.
وجريمة خيانة الأمانة ليست مستثناة من هذه القاعدة على حد تعبير محكمة النقض وإذا ساغ القول بأن عجز الأمين عن رد الأمانة يعد مبدأ السقوط الدعوى فذلك لا يرجع إليه إلا إذا لم يقم دليل على حصول التبديد من قبل فإذا دفع لدى المحكمة أن تبديد الأمانة حصل في تاريخ معين وأن الدعوى العمومية عنه قد سقطت فيجب عليها أن تحقق هذا الدفع ثم ترتب على ما يظهر لها النتيجة التي تقتضيها.
أما إغفال تحقيق هذا الدفع بحجة أن المجني عليه لم يكن يعلم بوقوع التبديد في ذلك التاريخ فموجب لنقض الحكم (4/5/1936 - 560 ).
كما قضى أيضاً بأن جريمة خيانة الأمانة جريمة وقتية تقع وتنتهي بمجرد اختلاس المال المسلم أو تبديده فمدة سقوط الدعوى الجنائية فيها يجب أن يكون مبدؤها من هذا الوقت ولئن ساغ القول بأن امتناع الأمين عن رد الأمانة بعد مطالبته بذلك يعد مبدأ لمدة سقوط الدعوى العمومية فإن هذا لا يكون إلا إذا كان حصول التبديد قبل ذلك لم يقم عليه دليل أما إذا ثبت لدى القاضي من ظروف الدعوى وقرائنها أن الاختلاس قد وقع بالفعل في تاریخ معين فإن الجريمة تكون قد وقعت في هذا التاريخ ويجب اعتباره مبدأ لمدة سقوطها بغض النظر عن المطالبة ( 8/6/1942 - 559 ).(قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ مأمون محمد سلامة، الطبعة الأولى 2017 الجزء الثاني، الصفحة: 264)
خيانة الأمانة :
تعريف خيانة الأمانة هي استيلاء شخص علی منقول يحوزه بناء على عقد مما حدده القانون عن طريق خيانة الثقة التي أودعت فيه بمقتضى هذا العقد وذلك بتحويله صفته من حائز لحساب مالكه إلى مدع لملكيته.
وقد نصت على خيانة الأمانة المادة 341 من قانون العقوبات فى قولها « كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعة أو بضائع أو نقوداً أو تذاكر أو كتابات أخرى مشتملة على تمسك أو مخالصة أو غير ذلك إضراراً بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها وكانت الأشياء المذكورة لم تسلم إلا على وجه الوديعة أو الإجارة أو على سبيل عارية الاستعمال أو الرهن أو كانت سلمت له بصفة كونه وكيلاً بأجرة أو مجاناً بقصد عرضها للبيع أو بيعها أو استعمالها في أمر معين لمنفعة المالك لها أو غيره يحكم عليه بالحبس ويجوز أن يزاد عليه غرامة لا تتجاوز مائة جنيه مصرى.
ويحدد التعريف السابق لخيانة الأمانة العناصر التي تفترضها : تفترض هذه الجريمة أن المنقول قد سلم إلى المتهم تسليماً نقل إليه حيازته الناقصة وذلك بناء على أحد العقود التي حددها القانون على سبيل الحصر وهي عقود تفترض ثقة من سلم المنقول فيمن تسلمه : فهو يحوزه نيابة عنه ولحسابه وعليه أن يرده عينا أو يرد ما يماثله في بعض الحالات ولكنه يستغل وجوده في حيازته فيدعيه لنفسه جاحداً بذلك حق من تسلمه منه وخائناً بذلك للثقة التي وضعها فيه .
الفروق بين جريمة خيانة الأمانة وجريمتي السرقة والنصب :
تفترض خيانة الأمانة انتزاعا لحيازة الشيء من يد المجنى عليه بل تفترض أن الشيء كان من قبل في حيازة المتهم بناء على سبب مشروع وأنه قد سلم إليه تسليماً صحيحاً صادراً عن إرادة معتبرة قانوناً وتختلف خيانة الأمانة في ذلك عن السرقة التي تفترض انتزاع حيازة الشيء « باختلاسه » من المجني عليه وتختلف خيانة الأمانة كذلك عن النصب الذي يفترض تسليماً معيباً للشيء لأنه صادر عن إرادة أفسدها التدليس والغلط الذي انبني عليه .
ويقوم الركن المادي لخيانة الأمانة بفعل يكشف عن إرادة المتهم تحويل صفته على الشيء من أمين عليه لحساب صاحب الحق عليه إلى مغتصب لملكيته وقد عبر الشارع عن هذا الفعل بأنه «اختلاس أو استعمال أو تبديد » وهذا الفعل هو الذي يقابل « الاختلاس » في السرقة ، « والتدليس » في النصب .
الحقوق والمصالح المعتدي عليها بارتكاب خيانة الأمانة : تقع خيانة الأمانة اعتداء على حق ملكية المنقولات ذلك أن المتهم يجحد حق المالك ويعبر عن جحوده بفعله ويدعي لنفسه هذا الحق .
ولكن الاعتداء لا يقتصر على حق الملكية وإنما ينال كذلك الثقة القائمة بين المتهم والمجني عليه بناء على العلاقة القانونية التي تربط بينهما وهي ثقة رآها الشارع جديرة بالحماية كي يسود حسن النية في التعامل .
من يتصورارتكابه جريمة خيانة الأمانة على خلاف السرقة والنصب التي يتصور أن يرتكبهما أي شخص فإن خيانة الأمانة لا يتصور أن يرتكبها غير شخص مرتبط بصاحب الحق على الشيء (أي المجنى عليه) بعلاقة تعاقدية من قبيل ما حدده القانون وهذه العلاقة هي التي توفر مفترضات ارتكاب الجريمة فبناء عليها يحوز المتهم الشيء فيتاح له خيانة الثقة في شأنه أما من لا يرتبطون به بمثل هذه العلاقة فلا تتاح لهم وسيلة ارتكاب الجريمة وعلى هذا النحو فإن جريمة خيانة الأمانة تدرج بين « جرائم ذوي الصفة الخاصة » وتطبيقاً لذلك لا يعد شخص فاعلاً لجريمة خيانة الأمانة ما لم يرتبط بالمجني عليه بالعلاقة السابقة أما غيره ممن يسهمون في الجريمة فهم شركاء فيها فحسب إذ لا يتوافر لديهم عنصر في صفة الفاعل.
تقسيم الدراسة: تقتضي دراسة خيانة الأمانة بيان أركانها ثم تحديد عقوبتها ويتعين في النهاية البحث في الجرائم التي ألحقها الشارع بها.
أركان خيانة الأمانة :
بيان أركان خيانة الأمانة تتطلب جريمة خيانة الأمانة موضوعاً هو المال الذي يسلم إلى المتهم تسليماً ناقلاً للحيازة الناقصة بناء على أحد العقود التي نص القانون عليها وتقتضي بعد ذلك ركناً مادياً قوامه أحد الأفعال التي حددها القانون وما يترتب عليه من ضرر حال أو محتمل وتتطلب في النهاية ركناً معنوياً هو القصد الجنائي الذي يفترض نية المتهم أن يسلك إزاء الشيء مسلك المالك .
موضوع خيانة الأمانة :
عناصر موضوع خيانة الأمانة : موضوع خيانة الأمانة كما قدمنا هو المال الذي سلمه المجني عليه إلى المتهم وعهد إليه أن يحوزه لحسابه کي يحفظه له أو يستعمله على وجه معين ولكنه استولى عليه خيانة لهذه الثقة .
ويتضح بذلك أن ثمة شروطاً يتطلبها الشارع في موضوع خيانة الأمانة : فيتعين أن يكون مالاً منقولاً ذا طبيعة قانونية وأن يكون مملوكاً لغير المتهم ويتعين أن يكون قد سلم إليه تسليماً ناقلاً للحيازة الناقصة بناء على عقد من العقود التي حددها الشارع على سبيل الحصر .
وبعض هذه الشروط مشترك بين خيانة الأمانة من ناحية وبين السرقة والنصب من ناحية أخرى والبعض الآخر تنفرد به خيانة الأمانة .
خطة الدراسة: نحدد أولاً الشروط المشتركة بين موضوع خيانة الأمانة وموضوع السرقة أو النصب ثم نبحث في اشتراط تسليمه تسليماً ناقلاً للحيازة الناقصة ثم اشتراط كون هذا التسليم بناء على أحد العقود التي نص عليها القانون .
کون موضوع خيانة الأمانة مالاً مادياً منقولاً مملوكاً للغير :
تمهيد عبر الشارع عن موضوع خيانة الأمانة بأنه « مبالغ أو أمتعة أو بضائع أو نقود أو تذاكر أو كتابات أخرى مشتملة على تمسك أو مخالصة أو غير ذلك » . ولم يحدد الشارع في هذا النص الشروط المتطلبة في موضوع خيانة الأمانة وإنما اقتصر على ذكر أمثله له ومن هذه الأمثلة تستخلص الشروط التي يتطلبها الشارع فيه فجميعها تشير إلى أشياء لها صفة المال المادي المنقول وقول الشارع بعد ذلك إن الجريمة ترتكب « إضراراً بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها » يستخلص منه أن المال يتعين أن يكون مملوكاً لغير المتهم .
اشتراط أن يكون موضوع خيانة الأمانة مالاً مادياً : هذا الشرط تشترك فيه خيانة الأمانة مع السرقة والنصب وهو في حقيقته متفرع إلى شرطين : كونه مالاً وكونه ذا طبيعة مادية .
فالشق الأول يعلله أن خيانة الأمانة اعتداء على حق مالي ، هو على وجه التحديد حق الملكية ، ومن ثم يتعين أن يكون موضوعها مالاً والمال هو «كل شيء يصلح محلا لحق عیني » ويعد كذلك « كل شيء نافع للإنسان ومن ثم يصلح أن يكون هدفاً لاستئثار بعض الناس به وإنشائهم الحقوق عليه .
والشق الثاني أي اشتراط كون المال ذا طبيعة مادية يعلله أن خيانة الأمانة اعتداء على الملكية وهذا الحق يرد على مال ذي طبيعة مادية وبالاضافة إلى ذلك فإن هذه الجريمة تفترض تسليماً يرد على موضوعها فينقل حيازته والتسليم يفترض في صورته الأصلية عملاً مادياً يخرج به الشيء من حيازة ليصير في حيازة أخرى وتطبيقاً لهذا الشرط فإنه إذا ائتمن شخص آخر على سر علمي ذي أهمية صناعية أو على خبر ذي أهمية سياسية فأفشاه وأضر بذلك من ائتمنه عليه وجنى لنفسه عن ذلك مغنماً فهو لا يرتكب خيانة الأمانة .
ولكن تستوي صور مادة الشيء : فلا تفرقة بين الأجسام الصلبة والسوائل والغازات فجميعها تصلح موضوعاً لخيانة الأمانة وتصلح القوى والطاقات وبصفة خاصة القوة الكهربائية موضوعاً لخيانة الأمانة وتطبيقاً لذلك فإن من أودعت لديه بطارية مشحونة بالكهرباء فاستهلك جزءاً منها دون أن يكون مصرحاً له بذلك يرتكب خيانة الأمانة .
فإذا ثبت أن للشيء صفة المال ذی الطبيعة المادية فإنه يستوي لدى القانون نوع قيمته ومقدارها ويستوي لديه أن تكون حيازته مشروعة أو غير مشروعة .
قيمة المال : يستوي أن تكون للمال قيمة مادية أو أن تكون قيمته معنوية فحسب ويتضح ذلك من قول الشارع في تحديد موضوع الجريمة مبالغ أو أمتعة أو بضائع أو نقوداً أو تذاكر أو كتابات أخرى مشتملة على تمسك أو مخالصة ثم أردف ذلك بعبارة أو غير ذلك فقد أشار أولاً إلى أموال ذات قيمة مادية ومن ثم تكون عبارة أو غير ذلك منصرفة إلى الأموال غير ذات القيمة المادية وتطبيقاً لذلك فإن خطاباً عادياً أو صورة فوتوغرافية تصلح موضوعاً لهذه الجريمة على الرغم من أن أياً منهما لا يثبت التزاماً أو مخالصة له قيمة مادية وإذا ثبت أن للمال قيمة مادية فسواء لدى القانون مقدارها فالشيء ذو القيمة الضئيلة كمبلغ قليل من النقود أو السند الذي يثبت التزاماً ذا قيمة ضئيلة يصلح موضوعاً لهذه الجريمة وتطبيقاً لذلك قضى بأنه يصلح موضوعاً لخيانة الأمانة صورة الحكم التنفيذية على الرغم من أنه يمكن استخراج صور أخرى عند الحاجة وورقة تثبت عقداً مطعوناً في صحته أو تكييفه .
لا تشترط مشروعية حيازة المال : إذا ثبتت للشيء صفة المال صلح موضوعاً لخيانة الأمانة ولو كانت حيازته بالنسبة للمجنى عليه غير مشروعة ذلك أن حظر القانون حيازة بعض الأفراد للمال لا يعني حظر هذه الحيازة على الدولة أو أفراد قد يرخص لهم بها ومؤدي ذلك أن المال يصلح في ذاته محلاً لحيازة وهذه الحيازة جديرة بحماية القانون فإذا ائتمن شخص آخر على أسلحة غير مرخص بها أو على مخدرات أو على مال متحصل من جريمة فبدده ارتكب بذلك خيانة الأمانة وقد قضى تطبيقاً لذلك بأنه «يجوز تبديد عقد مزور كما يجوز تبديد عقد صحيح ».
اشتراط أن يكون موضوع خيانة الأمانة منقولاً: تطلب الشارع هذا الشرط ضمنا ، ذلك أن كل ما ذكره من أمثلة أشار به إلى منقولات وليست علة هذا الشرط أن خيانة الأمانة غير متصورة إزاء العقارات ولكن علته تقدیر الشارع أن مالك العقار في غير حاجة إلى الحماية التي يسديها نص خيانة الأمانة باعتبار أن له تتبع ماله الذي لا يمكن إخفاؤه عنه وله كذلك إبطال التصرفات التي ترد عليه أما مالك المنقول فهو الذي يحتاج إلى هذه الحماية.
ويتعين في تحديد مدلول « المنقول » الرجوع إلى القواعد التي سلف تفصيلها في السرقة فهو « كل مال يمكن تغيير موضعه أي رفعه من موضعه وجعله في موضع آخر سواء أصابه بذلك تلف أو لم يصبه » وتطبيقاً لذلك فإن العقار بالتخصيص كتمثال وضعه مالك المبني فيه لتجميله أو مواشي أو آلات زراعية وضعها فيها مالك الأرض الزراعية لاستغلالها تعتبر منقولات وتصلح موضوعاً لخيانة الأمانة بل أن أجزاء العقار بطبيعته تعتبر منقولات إذا انفصلت عنه ولو كان انفصالها بفعل المتهم كأحجار أو مواسير انتزعت من مبنى أو رمال أو معادن استخرجت من أرض ويصلح موضوعاً لخيانة الأمانة سند يثبت حقاً عينياً عقارياً .
وبناء على هذا الشرط فإن مستأجر المبنى الذي يرفض الخروج منه على الرغم من انقضاء أجل عقده ويصر على البقاء فيه ويرفض فی الوقت ذاته أداء الأجرة بل ويدعي ملكيته ويحاول التصرف فيه بالبيع مثلاً لا يرتكب خيانة الأمانة .
اشتراط أن يكون موضوع خيانة الأمانة مملوكاً لغير المتهم: هذا الشرط مستخلص من كون خيانة الأمانة اعتداء على حق الملكية وهذا الاعتداء لا ينسب إلى المتهم ما لم يثبت أن المال الذي انصب عليه فعله مملوك لشخص سواه أما إذا كان مملوكاً له أو غير مملوك لأحد فهذا الاعتداء غير متصور وقد أشار الشارع إلى هذا الشرط ضمناً بتطلبه أن يرتكب الفعل إضراراً بمالكيها أي مالكي الأشياء التي تقع الجريمة عليها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها وتطبق في تحديد هذا الشرط ذات القواعد التي سلف تفصيلها في السرقة.
ويفسر هذا الشرط أنه لا يعد خائناً للأمانة من تسلم شيئاً بناء عقد بيع أو مقايضة أو قرض ثم تصرف فيه ولو أخل بالتزامات فرضها عليه العقد كما لو اشترى شخص سيارة كبيرة بثمن بخس ومقسط واشترط عليه بائعها أن يخصصها لنقل سكان منطقة نظير أجور اتفق عليها ولكنه باعها بثمن معجل وهرب به ذلك أن السيارة قد صارت ملكه بعقد البيع ومن ثم لا تصلح موضوعاً لخيانة أمانة تنسب إليه وتطبيقاً لهذا الشرط لا يرتكب خيانة الأمانة المقترض الذي لا يرد ما اقترضه لو كان عالماً وقت تسلمه مبلغ القرض أنه لن يستطيع السداد عند حلول الأجل بل أنه إذا تسلم شخص شيئاً بناء على عقد من عقود الأمانة التي حددها القانون ولكنه كان تسليماً ناقلاً للملكية إليه فلا تنسب إليه خيانة الأمانة في شأنه ولو خالف الإلتزامات التي فرضت عليه بمقتضى العقد وتطبيقاً لذلك فإنه إذا سلم شخص وكيلاً عنه مبلغاً من النقود أتعاباً له نظير الجهود التي سوف يبذلها فأنفق الوكيل النقود على نفسه ثم لم يقم بالأعمال التي كلف بها وكان ملحوظاً في هذه النقود أن تكون المقابل لها فإنه لا يرتكب بذلك خيانة الأمانة ذلك أن النقود سلمت إليه لكي تكون ملكاً له وقد صارت كذلك فما يصدر عنه في شأنها لا تقوم به خيانة الأمانة .
تسليم المال موضوع خيانة الأمانة تسليما ناقلاً للحيازة الناقصة :
أهمية التسليم في تحديد عناصر جريمة خيانة الأمانة : صرح الشارع بهذا الشرط فنص على أن الأشياء المذكورة لم تسلم له أي المتهم إلا على وجه الوديعة وأشار بعد ذلك إلى أن هذه الأشياء كانت سلمت له بصفة كونه وكيلاً بأجرة أو مجاناً .
وأهمية التسليم في خيانة الأمانة أن الفعل الذي تقوم به وهو خيانة الثقة في شأن شيء مملوك للغير والاستيلاء عليه جحوداً لحق مالكه لا يتصور إلا إذا كان في حيازة مشروعة للمتهم قبل ارتكابه فعله وهو لا يكون في حيازته إلا إذا كان قد سلم إليه وبالإضافة إلى ذلك فإن خيانة الأمانة هي اعتداء على الملكية دون الحيازة ولا يتصور أن يعتدي شخص على ملكية غيره دون أن يعتدي في الوقت ذاته على حيازته إلا إذا كان المال موضوع هذه الملكية في حيازته بسبب مشروع قبل ارتكابه فعله ويتضح من هذه الوجهة فارق بين السرقة وخيانة الأمانة فبينما ينتفي الاختلاس الذي تقوم به السرقة بالتسليم الناقل للحيازة فإن التسليم الناقل للحيازة الناقصة شرط لقيام خيانة الأمانة .
إذا لم يصدر تسليم فلا قيام لخيانة الأمانة لا تقوم خيانة الأمانة باعتداء شخص على ملكية غيره إذا لم يكن موضوع الملكية قد سبق تسليمه إليه وتطبيقا لذلك فإن مستأجر الأرض الزراعية الذي التزم بناء على عقده بأن يترك في الأرض القش المتخلف عن الزراعة لتسميدها ولكنه باعه واستولی لنفسه على ثمنه لا يرتكب خيانة الأمانة لأن هذا القش لم يكن مسلماً له من قبل ولا يرتكب هذه الجريمة كذلك المدين الذي يفي بجزء من الدين ويحصل من دائنه على إبراء من كل الدين نظير تعهده بدفع الباقي سداداً لديون مستحقة على الدائن ولكنه لا يفعل ذلك ولا يرتكبها ناشر کتاب يذكر في حسابه لمؤلفه أنه طبع منه عدداً من النسخ أقل من الحقيقة ولا يؤدي إليه غير ثمن العدد الذي ذكره .
ماهي التسليم وشروطه و لا يختلف التسليم من حيث ماهيته عن التسليم الذي ينفي الاختلاس في السرقة : فهو عمل قانوني ناقل للحيازة قوامه إرادتان انعقدتا على تغيير الحيازة ومظهره مناولة مادية للشيء من المسلم إلى المتسلم ويشترط في هذا التسليم شرطان : أن يكون صادراً عن إرادة صحيحة أي معتبرة قانوناً وأن يكون ناقلاً للحيازة الناقصة .
فإذا توافر هذان الشرطان فسواء أن يصطحب التسليم بمظهره المادي فيتخذ صورة المناولة المادية أو أن يكون تسليماً حكمياً فحسب وسواء أن يصدر من المجني عليه نفسه أو من شخص آخر لحسابه وسواء أن يكون التسليم للمتهم نفسه أو لشخص يمثله .
صدور التسليم عن إرادة صحيحة تفترض خيانة الأمانة أن التسليم نقل إلى المتهم الحيازة الناقصة للشيء فهو يحوزه لحساب ويعنی ذلك أنه قد صدر عن إرادة صحيحة واتجهت إلى نقل الحيازة .
و أما إذا كانت الإرادة معيبة لخضوعها للإكراه فإن استيلاء المتسلم على الشيء تقوم به جريمة السرقة وإذا كانت الإرادة معيبة للتدليس قامت بالاستيلاء على الشيء المسلم جريمة النصب.
کون التسليم ناقلاً للحيازة الناقصة : تفترض خيانة الأمانة أن التسليم نقل إلى المتهم الحيازة الناقصة للشيء فهو يحوزه لحساب صاحب الحق عليه ويعتبر نفسه نائباً عنه وقد أشار الشارع إلى هذا الشرط في قوله بالنسبة للوكيل إن تسلمه الأشياء كان « بقصد عرضها للبيع أو استعمالها في أمر معين لمنفعة المالك لها أو غيره » . وبالإضافة إلى ذلك فإن العقود التي افترض الشارع أن التسليم كان بناء عليها من شأنها كأصل عام نقل الحيازة الناقصة وهذا الشرط مستخلص في النهاية من طبيعة جريمة خيانة الأمانة فالمتهم لا تنسب إليه خيانة الثقة إلا إذا كان يحوز الشيء نيابة عن صاحب الحق عليه ثم تنكر لهذه الصفة .
أما إذا كان التسليم ناقلاً للحيازة الكاملة فلا وجود لصفة النيابة عن صاحب الحق بل للحائز صفة أصيلة على الشيء ومن ثم فسلوكه إزاءه لا ينطوي على خيانة لثقة أودعت فيه وإنما هو ممارسة الحق اكتسبه عليه وقد أسلفنا أن من تسلم شيئاً بناء على بيع أو مقايضة أو قرض لا يرتكب خيانة الأمانة حين يتصرف في الشيء إذ أن التسليم نقل إليه حيازته الكاملة وإذا كان التسليم قد نقل إلى متسلم الشيء اليد العارضة عليه فحسب فإن استيلاءه عليه لا يعتبر خيانة للأمانة وإنما هو سرقة .
التسليم الحكمي :
التسليم الحكمي عمل قانونی متجرد عن مظهر مادي يعبر عنه ويتمثل في مناولة مادية وإنما يتحقق بمجرد تغيير النية أي مجرد انعقاد إرادتين على نقل سلطات الحيازة على الشيء من شخص آخر .
ويفترض التسليم الحكمي أن شخصاً كان يحوز شیئاً حيازة كاملة ثم طرأ سبب اقتضى أن يعتبر نفسه حائزاً حيازة ناقصة لحساب شخص آخر صار بناء على ذلك السبب هو الحائز للشيء حيازة كاملة ويعني ذلك في تعبير آخر أنه قد انعقدت إرادة من كان حائزاً حيازة كاملة وإرادة شخص آخر على أن يصير الثاني هو الحائز حيازة كاملة ويتحول لأول مرة إلى حائز لحسابه دون أن يصطحب ذلك بمناولة للشيء من الأول إلى الثاني في هذا الوضع يرتكب الأول خيانة الأمانة إذا ما جحد حق الثاني فإذا باع شخص منقولاً معيناً بذاته إلى آخر ولم يسلمه له فالمشتري قد صار بناء على عقد البيع مالكاً للشيء وحائزاً له حيازة كاملة أما بقاؤه في يد البائع فإنما يكون باعتباره وديعة الديه أو باعتباره وكيلاً أو مقاولاً لإجراء عمل كلفه به المشتري إزاءه ويعني ذلك أنه قد صار يحوزه حيازة ناقصة كنائب عن المشتري وقد تحقق ذلك بتسليم حکمي ارتبط بعقد البيع وتطبيقاً لذلك فإنه إذا اختلس البائع الشيء أو بدده إضراراً بالمشتري فهو يرتكب خيانة الأمانة .
جواز صور التسليم من غير المجني عليه وجواز صدوره إلى غير المتهم الأصل أن يصدر التسليم من المجني عليه باعتباره صاحب الحق على شيئاً إلى المتهم فيخوله على الشيء حيازة ناقصة ولكن القانون لا يعنيه تحديد الأشخاص الذين يتحقق فيما بينهم وإنما يكتفي بوجود الشيء في حيازة المتهم لحساب شخص سواه وفي تعبير آخر يكفي أن المتهم قد جعل بأية وسيلة كانت حائزاً للشيء حيازة ناقصة وهذا الوضع يتحقق بصدور التسليم من غير المجنى عليه ولكن لحسابه ويتحقق كذلك بصدوره إلى غير المتهم ولكن لحسابه.
وتطبيقاً لذلك فإن الوكيل يرتكب خيانة الأمانة إذا تسلم من الغير مبالغ لحساب موكله فبددها ذلك أنه يحوز هذه المبالغ حيازة ناقصة لحساب موكله على الرغم من أنه لم يتسلمها منه ولذلك قيل إنه سواء تسليم الشیء « بناء على الوكالة »، وهو التسليم الصادر من الغير لحساب الموكل وتسليم الشیء « على سبيل الوكالة » وهو التسليم الصادر من الموكل نفسه إلى وكيله ويرتكب جريمة خيانة وارث الوديع إذا بدد الشيء الذي كان مودعاً لدى مورثه على الرغم من أنه لم يتسلمه من المجني عليه .
ويرتكب هذه الجريمة كذلك الوصي أو القيم بالنسبة الأموال الخاضع للوصاية أو القوامة ومدير الشركة بالنسبة لأموالها التي يحوزها بهذه الصفة.
ولا يشترط أن يسلم الشيء للمتهم نفسه وإنما يكفي أن يسلم لحسابه وتطبيقاً لذلك فإن المستعير الذي لم يتسلم الشيء المعار بنفسه وإنما تسلمه عنه خادمه والصيرفي الذي تسلم موظفوه ودائع الناس لديه يرتكبان خيانة الأمانة إذا بدا الأموال التي صارت في حيازتهم لحساب الغير .
التسليم بناء على عقد من العقود التي نص القانون عليها :
تمهيد : حدد الشارع على سبيل الحصر العقود التي يتعين أن يكون التسليم بناء عليها فتطلب أن يكون التسليم « على وجه الوديعة أو الإجارة أو على سبيل عارية الاستعمال أو الرهن أو كانت سلمت له (أي للمتهم) بصفة كونه وكيلاً بأجره أو مجاناً بقصد عرضها أو بيعها أو استعمالها في أمر معين لمنفعة المالك لها أو عيره .
وهذه العقود هي : الوديعة والإيجار والعارية والرهن والوكالة والمقاولة وعقد الخدمات المجانية والعقود الستة الأولى مسماة والعقد الأخير غير مسمی .
نعرض أولاً مجموعة من القواعد العامة تسري على العقود التي نص عليها القانون ثم نفصل الأحكام الخاصة بكل عقد منها ونشير في النهاية إلى أهم العقود التي تخرج عن نطاق هذا الحصر التشريعي وقد تثور في شأنها بعض الصعوبات .
القواعد العامة التي تسري على العقود التي نص عليها القانون
تمهيد : تتعلق هذه القواعد بذكر الشارع هذه العقود على سبيل الحصر واتساع الحصر التشريعي لبعض المراكز القانونية غير التعاقدية ومدى سلطة القاضي الجنائي في القول بوجود العقد وتحديد تكييفه وحكم بطلان العقد والأثر الذي يترتب على استبداله والقواعد الخاصة بإثباته.
الحصر التشريعي لعقود الأمانة :
بیان الشارع عقود الأمانة على سبيل الحصر: نص الشارع على عقود الأمانة على سبيل الحصر ويترتب على هذا الحصر أنه لا يجوز اللقاضي أن يضيف إلى هذه العقود على سبيل القياس عقداً لم يرد فيما بينها وعلة هذا الحصر تقدير الشارع أن هذه العقود دون سواها هي التي تخول أحد أطرافها ثقة الآخر وتنصبه أميناً على ما يسلمه إليه من مال ومن ثم يكون جحوده حقه خيانة للأمانة التي عهد بها إليه .
النتائج المترتبة على بيان عقود الأمانة على سبيل الحصر: بعض هذه النتائج موضوعی وبعضها إجرائی .
فمن الوجهة الموضوعية لا تقوم جريمة خيانة الأمانة إذا كان ما يربط بين المتهم والمجني عليه عقداً لم ينص الشارع عليه ولو تم بناء عليه تسلیم ناقل للحيازة الناقصة وتطبيقاً لذلك فإن الصيرفي الذي يتسلم مالاً بناء على عقد الحساب الجاري أو في نطاق اعتماد مفتوح أو على سبيل الوديعة الناقصة فيبدد ما تسلمه لا يرتكب خيانة الأمانة وإذا فسخ عقد لم ينص القانون عليه فصار من تسلم شيئاً بناء عليه ملتزما برده ولكنه بدده فإنه لا يرتكب بذلك خيانة الأمانة وقد أسلفنا أن من تسلم مالاً بناء على بيع أو مقايضة أو قرض فتصرف فيه إخلالاً بالتزامات فرضها العقد عليه لا يرتكب خيانة الأمانة فبالإضافة إلى ما قدمناه من تعليل لعدم قيام هذه الجريمة فثمة تعليل آخر هو أن التسليم لم يكن بناء على أحد العقود التي نص عليها القانون وتطبيقاً لذلك قضى بأنه إذا كلف شخص خادمه بأن يبيع له حيواناً فاستبدل به حیواناً آخر لم يقبله المخدوم فباعه الخادم ف لا يرتكب بذلك خيانة الأمانة وقضى كذلك بأن أخ الأمين الذي تعهد بسداد ما في ذمة أخيه المتوفي لا يرتكب خيانة الأمانة إذا لم يسدد ما تعهد به ولا يرتكب هذه الجريمة المقترض إذا لم يرد مبلغ القرض عند حلول الأجل.
أما النتائج المترتبة على الحصر التشريعي لعقود الأمانة من حيث الإجراءات الجنائية فترد إلى أمرين : يلتزم قاضي الموضوع إذا أدان المتهم بأن يحدد العقد الذي تسلم الشيء بناء عليه كي تستطيع محكمة النقض أن تتحقق من أن هذا العقد هو أحد العقود التي نص القانون عليها فإن أغفل بيان ذلك كان حكماً قاصراً ويترتب على هذا الحصر كذلك أنه إذا دفع بأن العقد الذي يربط بينه وبين المجني عليه لا يدخل في عداد العقود التي نص عليها القانون كان دفعه جوهرياً وتعين على القاضي أن يمحصه ويرد عليه قبولاً أو رفضاً وإلا كان حكمه قاصراً .
الاختصاص بالفصل في وجود العقد وتحديد تكييفه القانوني :
اختصاص القاضي الجنائي بالفصل في وجود العقد وتحديد تكييفه القانوني : الفصل في وجود عقد بين المتهم والمجني عليه وتحديد تكييفه والقول بدخوله في عداد العقود التي نص عليها القانون والفصل فيما إذا كان ما يزال موجوداً حتى لحظة اقتراف المتهم فعله والبت في الدفوع التي تثار في هذا الشأن كل ذلك من اختصاص القاضى الجنائي ذلك أن هذا العقد مجرد عنصر في خيانة الأمانة فشأنه شأن سائر عناصرها من حيث وجوب فصل القاضي الجنائي فيه وهذه القاعدة تطبيق للمبدأ الذي يقرر أن « القاضي المختص بالدعوى يختص كذلك بجميع المسائل المتفرعة عنها ولو كانت في الأصل خارجه عن اختصاصه » ، وأن « قاضي الدعوى هو قاضي الدفع » (المادة 221 من قانون الإجراءات الجنائية) وبناء على ذلك لا يجوز للقاضي الجنائي أن يعتبر الفصل في وجود العقد وتحديد تكييفه « مسألة أولية » ويوقف النظر في الدعوى ريثما تفصل المحكمة المدنية في وجود العقد أو تكييفه بل لا يجوز له ذلك ولو كانت ثمة دعوی مطروحة على القضاء المدني في شأن هذا العقد.
القواعد التي يطبقها القاضي الجنائي على العقد على القاضي الجنائي حين يبحث في وجود العقد وتكييفه والدفوع التي يحتج بها المتهم في شأنه أن يطبق قواعد القانون المدني المختصة بهذا العقد فالموضوع في ذاته « مدني » ومن ثم تحكمه القواعد المدنية المختصة به وبالإضافة إلى ذلك فإنه لا توجد في قانون العقوبات قواعد خاصة بالعقود حتى يثور البحث في تطبيقها وفي النهاية فإن الحكم الجنائي له حجيته على القضاء المدني ومن ثم يقضي المنطق بأن يطبق القواعد التي كان القضاء المدنی يطبقها لو عرض الموضوع عليه .
ونشير - فيما يلي - إلى أهم الدفوع التي قد يدفع بها المتهم مسئوليته عن خيانة الأمانة .
الدفع بوجود حساب بين المتهم والمجنى عليه : قد يدفع المتهم بوجود حساب بينه وبين المجني عليه ويستخلص من ذلك أنه لم يعد مديناً له وأنه بناء على ذلك لا يسأل عن اختلاس أو تبديد وهذا الدفع يجب أن تمحصه المحكمة وترد عليه وإلا كان حكمها قاصراً .
ومؤدي ذلك أن مجرد الدفع بوجود الحساب لا ينبني عليه البراءة وإنما تلتزم المحكمة بفحص الحساب ولا تقضي بالبراءة إلا إذا ثبت أن ذمة المتهم غير مشغولة بشيء إزاء المجنى عليه ولكن يتعين الإلتزام المحكمة بفحص الحساب المدعي به أن يكون الدفع جدياً ويقتضي ذلك أن يكون هناك حساب حقیقي مطلوب تصفيته توصلاً لإثبات مقاصة تبرأ بها الذمة .
الدفع بالمقاصة: الدفع بالمقاصة هو في حقيقته خلاصة الدفع بوجود الحساب بين المتهم والمجنى عليه فالمتهم يدفع بوجود الحساب لكي يخلص من ذلك إلى أن الدين الذي يدعيه المجني عليه في ذمته يقابله دین له قبله وأنه بناء على ذلك قد انقضى حق المجني عليه بالمقاصة بين الدينين فإذا ثبت دفع المتهم على هذا النحو تعينت براءته ويلاحظ أن هذا الدفع لا يكون له محل إلا إذا كان موضوع كل من الدينيين نقوداً أو مثليات متحدة في النوع والجودة وكان كل منهما خالياً من النزاع مستحق الأداء صالحاً للمطالبة به قضاء المادة 362 من القانون المدني ويعني ذلك أنه إذا كان موضوع التزام المتهم مالاً قيمياً فليس لدفعه بالمقاصة محل وكذلك لا يكون لهذا الدفع محل إذا كان موضوع التزامه نقوداً أو مالاً مثلياً ولم تتحقق الشروط السابقة .
ويشترط لينتج هذا الدفع أثره شرطان : أن يكون من شأن المقاصة براءة ذمة المتهم إطلاقاً وهو ما يفترض أن حقه قبل المجني عليه يعادل أو يجاوز حق المجني عليه إزاءه أما إذا كان أقل وإن يكن بقدر ضئيل فمسئولية المتهم عن خيانة الأمانة لا تنتفي ويشترط كذلك ألا يكون إدعاء المتهم المقاصة في حالة حظر الشارع الدفع بها وقد حظرت المادة 364 من القانون المدني الدفع بالمقاصة في الأحوال الآتية « (أ) إذا كان أحد الدينين شيئاً نزع دون حق من يد مالكه وكان مطلوباً رده (ب) إذا كان أحد الدينين شيئاً مودعاً أو معاراً عارية استعمال وكان مطلوباً رده (ج) إذا كان أحد الدينين حقاً غير قابل للحجز ». وأهم هذه الحالات أنه إذا كان المتهم بخيانة الأمانة وديعاً أو مستعيراً فلا يقبل منه الدفع بالمقاصة.
الدفع بالحق في حبس المال موضوع خيانة الأمانة : قد يدفع المتهم خيانة الأمانة بأن له حق حبس الشيء الذي يحوزه لحساب المجني عليه حتی يحصل على حقه قبله فإذا ثبت ذلك فرفضه رد الشيء لا يعد خيانة أمانة وإنما يعتبر استعمالاً لحق قرره القانون له (المادة 60 من قانون العقوبات) وتطبيقاً لذلك فإن من تسلم الشيء لإصلاحه له أن يحبسه حتى يؤدي إليه أجر إصلاحه وللوكيل أن يحبس المستندات التي تسلمها من موكله حتى يدفع إليه أتعابه وللمودع عنده حبس الشيء المودع حتى يؤدي المودع النفقات الضرورية التي أنفقها عليه لصيانته .
بطلان العقد :
بطلان العقد لا يحول دون قيام جريمة خيانة الأمانة قد يثبت بطلان العقد الذي يربط بين المتهم والمجني عليه والذي تسلم الأول بناء عليه مال الثاني وأسباب البطلان عديدة فقد تكون نقص الأهلية أو عيب الرضاء أو عدم مشروعية المحل أو السبب ومن تطبيقات خيانة الأمانة في حالة العقد الباطل أن يسلم شخص آخر مالاً على سبيل الوكالة كي يستأجر له مكاناً يستغله في القمار أو الدعارة فيبدد هذا المال أو أن يؤسس شخصان شركة باطلة فيبدد أحدهما أموال الشركة إضراراً بشريكه أو أن يودع شخص لدى آخر أسلحة غير مرخص بها أو بضائع مهربة فيبددها .
قد يقال أن العقد الباطل لا ينتج أثراً فيعتبر كأنه غير موجود ويوصف التسليم بأنه لم يكن بناء على عقد ومن ثم لا تقوم خيانة الأمانة ولكن هذه الحجة غير صحيحة ذلك أن علة العقاب على خيانة الأمانة ليست ضمان الوفاء بالإلتزام المتولد عن العقد حتى يكون لبطلانه تأثير على وجود هذا الالتزام وإنما حماية حق ملكية محله المال الذي سلم بناء على هذا العقد وهذا الحق يظل واجب الاحترام جديراً بالحماية على الرغم من بطلان العقد وقد أقرت محكمة النقض هذا الرأي فاعتبرت الجريمة متحققة باختلاس المتهم مالاً سلم إليه لاستئجار منزل للدعارة السرية.
وقد انتقد بعض الفقهاء هذا الرأي بحجة أنه يعني تعارضابين القانون الجنائي والقانون المدني وأنه يدفع إلى تنفيذ عقد غير مشروع (وقد يكون مخالفاً للنظام العام أو الآداب) وبالإضافة إلى ذلك فإن حماية القانون الجنائي لا يجوز أن تسبغ إلا على المالك الشرعي ولا يوصف المجني عليه بذلك إلا إذا كان حقه ثمرة عقد صحيح وهذا النقد في غير محله فمن ناحية لا تعارض بين القانون الجنائي والقانون المدني ذلك أن الأول يحمي حق الملكية في حين يحمي الثاني العقد ومن ناحية ثانية فإن ملكية المجني عليه لا توصف بعدم المشروعية ذلك أن مصدرها (أي سبب اكتسابها) ليس العقد الباطل وإنما واقعة قانونية سابقة عليه ولم يكن العقد سوی مناسبة لوجود شيء في الحيازة الناقصة لغير مالكه.
التجديد :
تأثير تجديد التزام المتهم على مسئوليته عن جريمة خيانة الأمانة قد يدفع المتهم بخيانة الأمانة مسئوليته بأن التزامه المتولد عن عقد الأمانة قد جدد وحل محله التزام جديد يختلف عنه في مصدره (المادة 352 من القانون المدنی) فما تأثير هذا الدفع على مسئوليته.
يسبق عقد الأمانة ارتكاب الفعل الذي تقوم به الجريمة ولكن شرط استيفاء الجريمة كيانها أن يظل العقد قائماً إلى لحظة ارتكاب الفعل حتی يصدق على المتهم أنه أخل بالثقة والأمانة المتولدين عن هذا العقد أما إذا انقضت العلاقة التعاقدية قبل ارتكاب الفعل وحلت محلها علاقة تعاقدية أخرى غير داخلة في نطاق الحصر التشريعي فقد انقضت العلاقة التي تفترضها خيانة الأمانة وعلى هذا النحو فإن أثر التجديد على خيانة الأمانة أنه يحول دون ارتكابها إذا ترتب عليه زوال صفة المتهم كحائز بناء على أحد العقود التي يحددها القانون وصيرورته حائزا بناء على سبب آخر فإذا استبدل بعقد الوكالة عقد قرض كما لو اتفق الموكل مع وكيله على اعتبار النقود التي حصلها لحسابه بمثابة قرض يرده في أجل معين ثم لم يف بالتزامه فهو لا يرتكب خيانة الأمانة والحكم ذاته قرره إذا استبدل بعقد الإيجار عقد بیع كما لو باع المؤجر المال إلى المستأجر ثم لم يدفع الثمن المتفق عليه أما إذا استبدل بعقد الأمانة عقد أمانة أخر فإن ذلك لا يحول دون قيام خيانة الأمانة ذلك أن جميع عناصرها متحققة وقت ارتكاب الفعل ومثال ذلك أن يستبدل بعقد الإيجار عقد عارية كما لو اتفق المتعاقدان على أن يظل المستأجر ينتفع بالمال ولكن بدون أجر إذ يتحول إلى مستعير ويرتكب خيانة الأمانة إذا بدد هذا المال .
شروط التجديد :
يشترط لينتج التجديد أثره في الحيلولة دون ارتكاب الجريمة أن يتوافر شرطان أن يكون حقيقياً وأن يكون سابقاً على الفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة.
يتعين أن يكون التجديد حقيقيا : يراد باشتراط أن يكون التجديد حقيقياً أن يتضمن انقضاء العقد السابق بكل ما تولد عنه من حقوق والتزامات وإحلال العقد الجديد محله بما يترتب عليه من حقوق والتزامات إذ بذلك يصدق عليه تعريف التجديد الذي نصت عليه المادة 352 من القانون المدني أما إذا أبقى الطرفان على عقد الأمانة و على الالتزامات المتولدة عنه واقتصرا على التعديل من كيفية الوفاء بها فإن ذلك لا يحول دون ارتكاب خيانة الأمانة والقاعدة أن التجديد لا يفترض وإذا ثار في شأنه شك ظل العقد السابق قائماً (المادة 354 من القانون المدنی) وتطبيقاً لذلك فإنه إذا بدد الوكيل مال موكله ثم اتفقا على أن يحرر سنداً بالمبلغ الذي بدده فليس ذلك تجديداً وليس من شأنه أن تتحول صفة الوكيل إلى صفة مقترض وإنما تتمثل في التوقيع على السند محاولة من جانب الموكل التأكيد حقه أو تسهيل حصوله عليه بمنحه وكيله أجلاً لسداده أو تمكينه من سداده على أقساط ومن ثم لا مساس لذلك بأركان خيانة الأمانة.
ويتطلب التجديد في جميع الحالات رضاء طرفي العقد السابق فلا يتصور أن يكون عمل إرادة منفردة وتطبيقاً لذلك فإن ما يصدر عن المتهم من تعهد بدفع مبلغ من النقود إلى المجني عليه معادل لما كان ملتزماً به تجاهه بناء على عقد الأمانة لا يمس أركان جريمته.
يتعين أن يكون التجديد سابقاً على ارتكاب الفعل: علة هذا الشرط أن يثبت أنه وقت ارتكاب الفعل لم يكن للعلاقة التعاقدية التي تفترضها خيانة الأمانة وجود أما إذا كان التجديد لاحقاً على الفعل فمؤدي ذلك أنه قد تحقق في وقت كانت أركان الجريمة قد توافرت ومن ثم لا يجوز أن يكون له مفعول إزاء أثر قانوني ترتب بالفعل.
اتساع الحصر التشريعي لبعض المراكز القانونية غير التعاقدية :
تمهيد : قد لا يربط بين المتهم والمجنى عليه عقد من العقود التي نص عليها القانون وإنما تقوم بينهما مع ذلك علاقة قانونية تفرض على المتهم التزامات إزاء المجني عليه تماثل الإلتزامات التي يفرضها عقد الأمانة أي أنها تضع كلا من الطرفين في ذات المركز القانوني الذي كانت تضعه فيه العلاقة التعاقدية التي نص عليها القانون فهل يرتكب المتهم خيانة الأمانة إذا ما اختلس أو بدد المال الذي يحوزه بناء على هذه الصفة مثال ذلك الحارس القضائي أو الحارس القانوني الذي يعين لإدارة مال شخص طبيعي أو معنوي وضع تحت الحراسة ومثال ذلك أيضاً الولي أو الوصي أو القيم أو ناظر الوقف أو مدير الشركة إذا ما استولى أحدهم على المال الذي يحوزه بناء على هذه الصفة .
اتساع الحصر التشريعي لهذه المراكز غير القانونية استقر الفقه والقضاء على شمول الحصر التشريعي هذه المراكز ذلك أنها تماثل تماماً المراكز التي تتولد عن العقود التي نص القانون عليها فهي مثلها تفترض ثقة في شخص وتفترض تسلمه مالاً يكون أميناً عليه والعبرة هي بفحوي المركز وما يرتبط به من صفات ويتولد عنه من حقوق والتزامات وليست العبرة بمصدره وكيفية نشوئه ونستطيع بناء على ذلك القول بأن القانون لا يفترض بالضرورة وجود علاقة تعاقد وإنما يكتفي بوجود سند قانوني أو قضائي أساسه الثقة ومن شأنه تسلم شخص مالاً لحساب آخر بحيث يلتزم برده عيناً أو القيام بعمل معين في شأنه وعلى هذا النحو فإن ضابط تشبيه المركز غير التعاقدي بالعقد هو أن تتولد عنه حقوق والتزامات مماثلة لما يتولد عن العقد وقد أقر الشارع هذا التوسع فلم يصف التسليم بأنه بناء على عقد وديعة أو عقد وكالة وإنما قال على وجه الوديعة أو بصفة كونه أى المتهم وكيلاً بأجرة أو مجاناً وهذان التعبيران يسمحان بدخول الوديعة غير التعاقدية والوكالة غير التعاقدية في نطاق النص .
وقد طبق القضاء هذا التوسع في حالتي الوديعة والوكالة :
وتطبيقاً لذلك فإن الحارس الاتفاقي والحارس القضائي والحارس المعين بناء على نص قانوني أو قرار إداري والولي والوصي والقيم وناظر الوقف ومدير الشركة ومصفيها ووكيل دائني المفلس كل أولئك يسألون عن خيانة الأمانة إذا اختلس أحدهم أو بدد المال الذي سلم إليه بناء على هذه الصفة .
إثبات عقد الأمانة :
التمييز بين إثبات عناصر جريمة خيانة الأمانة وإثبات عقد الأمانة : إثبات جميع أركان جريمة خيانة الأمانة وعناصر كل ركن : يخضع لمبدأ الاقتناع القضائي الذي يعني أن القاضي أن يقبل جميع أدلة الإثبات بما في ذلك البينة والقرائن أي أنه لا وجود لدليل يحظر عليه الأخذ به ولا وجود لدليل يفرض عليه الأخذ به ولكن يستثنى من هذا الأصل العام إثبات عقد الأمانة إذ يخضع لقواعد الإثبات المدنية .
إثبات أركان جريمة خيانة الأمانة وعناصرها : يجوز إثبات هذه الأركان والعناصر بجميع طرق الإثبات أياً كانت قيمة الشیء موضوع الجريمة فيجوز إثبات ارتكاب فعل الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال بجميع الطرق ويجوز كذلك إثبات حصول الضرر وإثبات القصد الجنائي بجميع الطرق بل أن واقعة تسليم الشيء يجوز إثباتها بجميع الطرق .
إثبات عقد الأمانة :
القاعدة أن إثبات عقد الأمانة يخضع لقواعد الإثبات التي قررها القانون المدني وعلة هذه القاعدة أن وجود العقد في ذاته مسألة مدنية فيقتضي المنطق أن يخضع إثباته القواعد المدنية فالجريمة ليست في وجود العقد حتى يخضع إثباته للقواعد الجنائية وإنما الجريمة في الإخلال به في صورة الاعتداء على ملكية المال الذي سلم بناء عليه وعلى هذا النحو فقد تقرر الأصل التالي كيفية الإثبات ترتبط بنوع الموضوع المطروح على القضاء لا بنوع القضاء المطروح عليه الموضوع فإذا كانت المسألة مدنية خضع إثباتها للقواعد المدنية ولو كانت معروضة على القضاء الجنائي ويعلل هذه القاعدة كذلك أنه إذا خول الشارع القضاء الجنائي أن يفصل في حقوق مدنية فإن ذلك لا يخول صاحب الحق أن يصل إلى حقه بغير الطريق الذي كان يسلكه أمام القضاء ذي الاختصاص الأصلى ويعللها في النهاية أن قضاء القاضي الجنائي له حجيته على القاضي المدني ومن ثم تعين ألا يكتسبها إلا إذا استند إلى ذات وسائل الإثبات التي يقررها القانون المدني وتطبق هذه القاعدة ولو لم يكن في الدعوى مدع مدني .
تطلب الدليل الكتابي :
نصت المادة 60 من قانون الإثبات على أنه في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على خمسمائة جنيه أو كان غير محدد القيمة فلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده أو انقضائه ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك والعبرة في تحديد قيمة التصرف هي بوقت صدوره المادة 60 الفقرة الثانية أي وقت التعاقد وليست بوقت النظر في الدعوى وتطبيقاً لذلك فإنه إذا كانت قيمة المال موضوع عقد الأمانة لا تزيد على خمسمائة جنيه وقت التعاقد ولكنها صارت تزيد على ذلك عند النظر في الدعوى فإن الإثبات بالبينة يكون حائزاً .
وقاعدة اشتراط الدليل الكتابي إذا جاوزت قيمة التصرف خمسمائة جنيه لا تتعلق بالنظام العام ومن ثم يجوز الاتفاق على ما يخالفها (المادة 60 من قانون الإثبات) . ويجوز الاتفاق على ما يخالف هذه القاعدة وقت التعاقد أو وقت نظر الدعوى ويجوز أن يكون الاتفاق في معنى عدم تطلب الدليل الكتابي على الرغم من أن قيمة التصرف تزيد على خمسمائة جنيه ويجوز أن يكون في معنى اشتراط الدليل الكتابي على الرغم من أن قيمة التصرف لا تزيد على خمسمائة جنيه وقد يستفاد قبول المدين ضمناً النزول عن اشتراط الدليل الكتابي أثناء نظر الدعوى من عدم اعتراضه على الإثبات بالبينة الذي تقدم به خصمه ويستفاد من باب أولى من مساهمته في هذا الإثبات بمناقشته شهود الإثبات أو طلبه شهود نفي.
الحالات التي لا يشترط فيها الدليل الكتابي على الرغم من تجاوز قيمة العقد خمسمائة جنيه: أهم هذه الحالات أن يكون العقد تجارياً وقد حرصت على الإشارة إلى هذا الاستثناء المادة 60 من قانون الإثبات (فی صدر فقرتها الأولى) وذلك مع ملاحظة أن القانون تطلب الإثبات بالكتابة بالنسبة لعقود شركات المساهمة وشركات التضامن والتوصية.
ومن هذه الحالات كذلك أن يوجد مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على الدليل الكتابي أو أن يفقد المجني عليه سنده الكتابي بسبب أجنبي لا يد له فيه المادة 63 من قانون الإثبات والفصل في وجود المانع وما يترتب عليه من جواز الإثات بالبينة من شأن قاضي الموضوع .
ومن هذه الحالات كذلك أن يوجد مبدأ ثبوت بالكتابة فقد نصت المادة 62 من قانون الإثبات على أنه يجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بالكتابة إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة وكل كتابة تصدر من الخصم ويكون من شأنها أن تجعل وجود التصرف المدعي قريب الاحتمال تعتبر مبدأ ثبوت الكتابة ويتضح من هذا النص أن مبدأ الثبوت بالكتابة يفترض وجود كتابة وصدورها عن المتهم نفسه أو عن ممثله القانوني وأن يكون من شأنها جعل وجود عقد الأمانة قريب الاحتمال ومن أمثلة ما اعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة اعتراف المتهم الضمني بوجود العقد واعترافه المنطوي على تناقض فيما بين أجزائه وأقواله في محضر الاستدلال أو التحقيق الابتدائي .
الحالات التي يشترط فيها الدليل الكتابي على الرغم من عدم تجاوز قيمة العقد خمسمائة جنيه : أهم هذه الحالات عدم جواز الإثبات شهادة الشهود « فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابی » (المادة 61 من قانون الإثبات الفقرة أ) فإذا أثبت العقد استلام المتهم المال المودع لديه أو المؤجر له أو أثبت تسلم الوكيل مبلغاً محدداً فلا يجوز إثبات ما يخالف ذلك أو يجاوزه عن طريق شهادة الشهود ولكن يقيد من هذا الأصل أنه إذا كان العقد المكتوب يتضمن احتيالاً على القانون كما لو كان عقداً صورياً منطوياً على غش يخفى عقداً حقيقياً فإنه يجوز إثبات العقد الحقيقي بجميع الطرق .
وذلك « لاختلاط الغش بالصورية حتى صارت هذه أداة الغش ».
عدم تقيد المحكمة باشتراط الدليل الكتاب عند قضائها بالبراءة : قضت محكمة النقض بأن « المحكمة في جريمة خيانة الأمانة في حل من القيد بقواعد الإثبات المدنية عند القضاء بالبراءة لأن القانون لا يقيدها بتلك القواعد إلا عند الإدانة في خصوص إثبات عقد الأمانة إذا زاد موضوعه على « عشرين جنيهاً » احتياطياً لمصلحة المتهم حتى لا تتقرر مسئوليته وعقابه إلا بناء على الدليل المعتبر في القانون ولا كذلك البراءة لانتفاء موجب تلك الحيطة وإسلاساً المقصود الشارع في ألا يعاقب بريء مهما توافر في حقه من ظواهر الأدلة.
إثبات العقد عن طريق الإقرار: إذا أقر المتهم بوجود عقد الأمانة كان إقراره حجه عليه وأعفى الادعاء من إثبات العقد والإقرار حجة أياً كانت قيمة العقد (المادتان 103 ، 104 من قانون الإثبات) وتطبق القواعد المدنية في شأن الإقرار أمام القضاء الجنائي سواء من حيث أركانه أو حيث أثره فمن حيث تعريفه وأركانه لا يعتبر الإقرار دليل إثبات كامل إلا إذا صدر أمام القضاء أي أثناء جلسة المحاكمة ومن ثم لا يعتبر إقراراً ما يصدر عن المتهم في محضر التحقيق الابتدائي أو محضر الاستدلال وليست للإقرار حجية إلا في خصوص الدعوى التي صدر فيها ومن حيث أثره فهو حجة قاطعة على المتهم فيعتبر العقد ثابتاً دون حاجة إلى تقديم دليل آخر .
وباعتباره حجة قاطعة لا يجوز الرجوع فيه ولكن يجوز باعتباره تعبيراً عن إرادة الطعن فيه للغلط أو التدليس أو الإكراه.
والإقرار غير قابل للتجزئة كأصل عام ولكنه يقبلها « إذا انصب على وقائع متعددة وكان وجود واقعة منها لا يستلزم حتماً وجود الوقائع الأخرى » : فإذا أقر المتهم أنه تسلم الشيء وأضاف إلى ذلك أنه تسلمه على سبيل الشراء أو أقر أنه تسلم النقود ولكن على سبيل القرض أو أقر أنه تسلم الشيء وأنه بعد ذلك رده أو أقر أنه تسلم النقود وأنه بعد ذلك استعملها في الغرض الذي حدده له المجني عليه فلا يجوز تجزئة هذا الإقرار وأخذ المتهم باعترافه بواقعة التسليم ورفض ما أضافه إلى ذلك من تحديد السند التسليم أو لواقعة أعقبته تفترض حتما واقعة التسليم ، ذلك أنه لا رد إلا بعد تسليم سابق ولا استعمال المال في غرض معين إلا بعد سبق تسليمه أما إذا أقر المتهم أنه تسلم النقود من المجني عليه وأضاف إلى ذلك أنه صار بعد ذلك دائناً له على نحو انقضى به الدينان بالمقاصة فإنه يجوز تجزئة هذا الإقرار والأخذ بشقه الخاص بتسليم المال واعتبار ذلك ثابتاً في حق المتهم ورفض شقه الخاص بدائنيته للمجني عليه وما يستتبعه ذلك من انقضاء حق المجني عليه.
إثبات العقد عن طريق اليمين :
هل يجوز إثبات عقد الأمانة عن طريق اليمين اليمين إما حاسمة وإما متممة وصورة اليمين الحاسمة في دعوى خيانة الأمانة أن يعوز المجني عليه الدليل الكتابي على عقد الأمانة فيوجه إلى المتهم اليمين ويحتكم بذلك إلى دينه وضميره فإذا حلف بأنه لا وجود للعقد اعتبرت الجريمة غير متوافرة الأركان أما إذا نكل عن اليمين اعتبر العقد قائماً وقضى بإدانته إذا توافرت سائر أركان جريمته وصورة اليمين المتممة أن يوجد دليل غير كامل على عقد الأمانة فيسعى القاضي إلى تكملته عن طريق اليمين مثال ذلك أن يوجد مبدأ ثبوت فيسعى القاضي إلى تكملته عن طريق اليمين المتممة يوجهها إلى المجني عليه بالكتابة ثم لا يوجد دليل يكمله کشهادة منصبة مباشرة على العقد أو المتهم أيهما يوحي بثقة أكثر في تقديره .
لا نرى ما يحول بين المجني عليه الذي لا يحوز دليلاً على عقد الأمانة وبين أن يوجه اليمين الحاسمة إلى المتهم فلا وجود لقاعدة تحظر عليه ذلك ثم أن موضوع الإثبات (أى العقد) مدني بحت ومن ثم يخضع إثباته للقواعد المدنية ومن بينهما جواز توجيه اليمين الحاسمة ولكن محكمة النقض الفرنسية رفضت ذلك وعللت رفضها بأنه لا يجوز توجيه اليمين أمام القضاء الجنائي وهذه الحجة غير صحيحة فما يمتنع توجيهه هو اليمين التي يكون موضوعها الفعل الإجرامي إذ لا يجوز وضع المتهم في الحرج إما أن يحنث في يمينه وإما أن يعترف بجريمته إذ يعتبر ذلك نوعاً من الإكراه على الاعتراف ولكن ذلك غير متحقق في الفرض الذي نعالجه فموضوع اليمين ليس الفعل الإجرامي ولكنه عقد مدني وقد أجمع الفقه والقضاء على وجوب معالجته من حيث الإثبات كما يعالج أي موضوع مدني وليس ثمة ما يحول كذلك دون أن يوجه القاضي اليمين المتممة إلى المتهم أو المجني عليه ليستكمل الدليل الذي توافر لديه كي يصل إلى اقتناع في شأن وجود العقد أو عدم وجوده و أوضح فروض توجيه اليمين المتممة أن يوجد مبدأ ثبوت بالكتابة على وجود العقد ولا توجد شهادة أو قرينة تكمل هذا المبدأ فيستكمل القاضي عن طريق اليمين المتممة اقتناعه تبعاً لما إذا حلف أو نكل من وجهت إليه هذه اليمين.
القواعد الخاصة بعقود الأمانة :
تمهيد : هذه العقود كما حددها الشارع هي : الوديعة والايجار والعارية والرهن والوكالة والمقاولة وعقد الخدمات المجانية والعقود الخمسة الأولى ذكرها الشارع بأسمائها في المادة 341 من قانون العقوبات أما العقدان الأخيران فمستخلصان من قول الشارع أن الأشياء سلمت إلى المتهم لاستعمالها في أمر معين لمنفعة المالك لها أو غيره .
ونشير فيما يلي إلى القواعد الخاصة بهذه العقود ذات الأهمية من الوجهة الجنائية أي القواعد التي من شأنها الفصل فيما إذا كانت أركان جريمة خيانة الأمانة متوافرة أو غير متوافرة.
1- الوديعة :
مدلول الوديعة في جريمة خيانة الأمانة : مدلول الوديعة في خيانة الأمانة هو ذات مدلولها في القانون المدني وقد عرفت المادة 718 من القانون المدني الوديعة في قولها « الوديعة عقد يلتزم به شخص أن يتسلم شيئاً من آخر على أن يتولى حفظ هذا الشيء وعلى أن يرده عيناً وأهم خصائص الوديعة أنها عقد رضائي والأصل فيها أنها من عقود التبرع وهي عقد ملزم لجانب واحد .
2-الإيجار :
مدلول الإيجار في جريمة خيانة الأمانة لا يختلف مدلول عقد الإيجار في جريمة خيانة الأمانة من مدلوله في القانون المدني وقد عرفته المادة 558 من القانون المدني في قولها الإيجار عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم ويتميز عقد الإيجار بأنه يرد على الانتفاع بالشيء وأنه عقد ثنائي وأنه ملزم للجانبين وأنه عقد معاوضة وأنه عقد مستمر وأنه لا ينشیء إلا التزامات وحقوق شخصية .
3- العارية :
مدلول العارية في خيانة الأمانة: مدلول العارية في خيانة الأمانة هو ذات مدلولها في القانون المدني وقد عرفتها المادة 635 من القانون المدني في قولها العارية عقد يلتزم به المعير أن يسلم المستعير شيئاً غير قابل للاستهلاك ليستعمله بلا عوض لمدة معينة أو في غرض معين على أن يرده بعد الاستعمال.
والعارية - من حيث خصائصها - عقد رضائی وهي عقد ملزم للجانبين وهي من عقود التبرع.
والمتعاقد الذي يتصور ارتكابه خيانة الأمانة هو المستعير .
والزامات المستعير التي تتولد عن العارية هي : استعمال الشيء على الوجه الواجب المادة 639 من القانون المدني والمحافظة عليه المادة 641 من القانون المدني ورده عيناً عند انتهاء العارية (المادة 643 من القانون المدني) والتزام المستعير برد الشيء المعار عيناً عند انتهاء العارية هو الذي يعنيناً في خيانة الأمانة إذ يرتكب المستعير هذه الجريمة إذا اختلس الشيء المعار أو بدده أي رفض أو عجز عن رده .
4- الرهن :
مدلول الرهن في خيانة الأمانة الرهن الذي يعنيه الشارع فی خيانة الأمانة هو الرهن الحيازی دون الرهن الرسمي وقد عرفت المادة 1099 من القانون المدني الرهن الحيازي في قولها « الرهن الحيازی عقد يلتزم به شخص ضماناً لدين عليه أو على غيره أن يسلم إلى الدائن أو إلى أجنبي يعينه المتعاقدان شيئاً يرتب عليه للدائن حقاً عينياً يخول حبس الشيء لحين استيفاء الدين وأن يتقدم على الدائنين العاديين والدائنين التالين له في المرتبة في اقتضاء حقه من ثمن هذا الشيء في أي يد يكون وعقد الرهن الحيازی عقد رضائي وملزم للجانين وهو عقد تابع وغير قابل للتجزئة .
والمتعاقد الذي يتصور ارتكابه خيانة الأمانة هو المرتهن الذي يتسلم الشيء المرهون بناء على عقد الرهن فيصير في حيازته الناقصة ويلتزم بالمحافظة عليه ورده عيناً إلى الراهن بعد استيفائه كل حقه ولكنه يستغل وجود الشيء المرهون في حيازته ويستولى عليه مدعياً ملكيته لنفسه وجاحداً حق ملكية الراهن ولا يبرر هذا الفعل من جانب المرتهن أن الراهن لم يوف له حقه ذلك أن القانون قد أبطل شرط التملك عند عدم الوفاء وشرط البيع دون إجراءات (المادة 1052 من القانون المدنی).
والإلتزامات التي يرتبها عقد الرهن على عاتق المرتهن هي : الالتزام بالمحافظة على الشيء المرهون (المادة 1103 من القانون المدنی) والإلتزام باستثماره (المادة 1104 من القانون المدني) والإلتزام بإدارته المادة 1106 من القانون المدني) والإلتزام برده عيناً (المادة 1107) . والإلتزام الأخير هو الذي يعنيناً في خيانة الأمانة إذ يرتكب المرتهن هذه الجريمة إذا اختلس الشيء المرهون أو بدده أما الإلتزامات الأخرى المترتبة على عقد الرهن فلا تقوم خيانة الأمانة عند الإخلال بأحدها فإذا قصر المرتهن في المحافظة على الشيء المرهون فأضير أو هلك أو غير من طريقة استغلاله دون رضاء الراهن خلافاً لما قضت به المادة 1106 من القانون المدني فلا يرتكب خيانة الأمانة .
5- الوكالة :
مدلول الوكالة في خيانة الأمانة : نص الشارع على عقد الوكالة كأحد عقود الأمانة بقوله في المادة 341 من قانون العقوبات « أو كانت (أي الأموال موضوع خيانة الأمانة) سلمت له (أي للمتهم) بصفة كونه وكيلاً بأجرة أو مجاناً بقصد عرضها للبيع أو بيعها أو استعمالها في أمر معين المنفعة المالك لها أو غيره » وللوكالة في خيانة الأمانة ذات مدلولها في القانون المدني وقد عرفتها المادة 699 من هذا القانون في قولها « الوكالة عقد بمقتضاه يلتزم الوكيل بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل » والوكالة عقد رضائي ما لم يكن التصرف القانوني محل الوكالة شكلياً فيتعين أن تكون بدورها شكلية والأصل في الوكالة أنها من عقود التبرع ولكن يجوز أن تكون بأجر والوكالة عقد ملزم للجانبين وأخص ما يميز الوكالة أن محلها « عمل قانوني » ذلك أنه إذا كان ما كلف به شخص الحساب آخر هو « عمل مادي » فالعقد الذي يربط بينهما هو عقد مقاولة أو عقد عمل وتتميز الوكالة بتغليب الاعتبار الشخصي في اختيار الوكيل وفي قبول الوكيل الوكالة عن الموكل والوكالة عقد غير لازم من حيث جواز عزل الوكيل وجواز تنحيه والأصل في الوكالة أنها عقد ولكن يجوز أن تكون قانونية كوكالة الولي أو قضائية كوكالة الوصي أو القيم .
و المتعاقد الذي يتصور ارتكابه خيانة الأمانة هو الوكيل والإلتزامات التي يرتبها عقد الوكالة على عاتقه هي : تنفيذ الوكالة في حدودها المرسومة (المادة 703 من القانون المدني) وبذل العناية الواجبة في تنفيذ الوكالة (المادة 704 من القانون المدني) وتقديم حساب عنها إلى الموكل (المادة 705 من القانون المدني) ورد ما للموكل في يده والإلتزام الأخير هو ما يعنينا في خيانة الأمانة ذلك أن الوكيل يرتكب هذه الجريمة إذا اعتدى على ملكية الأشياء التي سلمت له بصفته وكيلاً لكي يستعملها في مصلحة موكله ولحسابه أو کي يسلمها إلى الموكل فيما بعد ويعني ذلك أن فعله يجب أن يتخذ صورة استيلائه على الشيء الذي أؤتمن عليه لحساب موكله أما إذا أخل بالتزام آخر تولد عن الوكالة ولم يكن متضمناً هذا الاستيلاء فهو لا يرتكب خيانة الأمانة كما لو تقاعس عن القيام بالعمل الذي كلف به ولو كان دافعه إلى ذلك الإضرار بموكله أو لم يبذل فيه القدر من العناية الذي تطلبه القانون أو لم يقدم الحساب إلى موكله أو جاوز نطاق وكالته وتطبيقاً لذلك فإن الوكيل الذي يبيع شيئاً بأقل من الثمن الذي حدده له موكله أو يشتري لحسابه شيئاً بأكثر من الثمن الذي عينه له لا يرتكب خيانة الأمانة ولا يرتكب هذه الجريمة كذلك الوكيل الذي يهمل في المحافظة على المال الذي تسلمه لحساب موكله فيفضي ذلك إلى الإضرار به أو هلاكه ولا يرتكب هذه الجريمة الوكيل الذي قدم إلى موكله كشف حساب غير صحيح فترتب على ذلك أن تقاضي منه أجراً يزيد عما يستحقه .
المقاولة والخدمات المجانية :
تمهيد : تضمن نص المادة 341 من قانون العقوبات أن الأشياء موضوع خيانة الأمانة قد سلمت له « بصفة كونه وكيلاً بأجرة أو مجاناً بقصد عرضها للبيع أو بيعها أو استعمالها في أمر معين لمنفعة المالك لها أو غيره » وبالرجوع إلى الأصل الفرنسي لهذا النص نلاحظ أنه قد ورد فيه لفظ « عامل » عقب لفظ « وكيلاً » ، بحيث تكون الترجمة الدقيقة للنص هي سلمت له « بصفة كونه وكيلاً أو عاملاً بأجرة أو مجاناً بقصد عرضها للبيع أو استعمالها في أمر معين لمنفعة المالك لها أو غيره .
وقد قدمنا أن أحد عقود الأمانة التي تفترضها خيانة الأمانة هو الوكالة وقد ورد النص عليه صراحة في المادة 341 من قانون العقوبات وأخص ما يميز هذا العقد أن محله « عمل قانوني » ، وقد ذكر الشارع مثالاً لما يمكن أن يكون محلاً له من عمل قانوني فأشار إلى « العرض للبيع أو البيع ». وذكر الشارع بعد ذلك حالة « العامل » هي إشارة إلى حالة متميزة عن الوكالة أي أنها نص على عقد جديد تقوم بمناسبته خيانة الأمانة وإشارة الشارع عقب ذلك إلى أن المتهم يكلف « باستعمال الأشياء التي تسلمها في أمر معين لمنفعة المالك لها أو غيره » هي إشارة إلى عمل مادي لا يصلح أن يكون محلاً للوكالة ومؤدي ذلك أنه بالإضافة إلى عقود الأمانة التي سلفت الإشارة إليها نص الشارع على عقد جديد تقوم الجريمة بالاستيلاء على شيء سلم بناء عليه ويثور التساؤل حول تحديد هذا العقد .
ذهب رأي إلى أن هذا العقد هو « عقد العمل » وهذا القول محل نظر فعقد العمل يفترض علاقة تبعية بين العامل ورب العمل ويفترض كذلك تقاضي العامل أجراً عن عمله والحالات التي أراد الشارع فی إجماع الفقه والقضاء أن يعاقب عليها كخيانة للأمانة كتسليم قمح إلى طحان الطحنه أو قماش إلى خياط ليصنع منه ثوباً أو جهاز إلى فني لإصلاحه لا تتوافر فيها للعلاقة بين مسلم الشيء ومتسلمه عناصر عقد العمل إذ لا وجود لصلة التبعية التي يفترضها هذا العقد وإذا أعطى شخص جهازاً يملكه إلى صديق له لإصلاحه دون مقابل من أجر فإن العلاقة بينهما ينقصها عنصر ثان من عناصر عقد العمل وهو « الأجر .
نعتقد أن الشارع قد أشار بالعبارات السابقة التي تضمنها نص المادة 341 من قانون العقوبات إلى عقدين : عقد مسمی هو « عقد المقاولة » إذا كان ثمة أجر متفق عليه نظير العمل الذي التزم أحد المتعاقدين بأدائه وعقد غير مسمی هو « عقد الخدمات المجانية » إذا كان العمل الذي التزم به المتعاقد بغير مقابل وقد أقرت محكمة النقض هذا التفسير.
3- العقود التي لا تحسب بين عقود الأمانة :
تمهيد : قدمنا أن الشارع قد نص على عقود الأمانة علی سبيل الحصر في المادة 341 من قانون العقوبات والنتيجة الحتمية لذلك أن كل عقد لم يرد النص عليه صراحة بين عقود الأمانة لا يحسب من بينها أياً كان وجه الشبه بينه وبين أحدها ونقتصر على الإشارة إلى أهم عقدين قد يثور في الأذهان الشك حول ما إذا كانا يولدان التزامات تقوم بالإخلال بها جريمة خيانة الأمانة وهذان العقدان هما البيع والقرض .
الركن المادي لخيانة الأمانة :
تمهيد: عبر الشارع في المادة 341 من قانون العقوبات عن الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة بقوله « كل من اختلس أو استعمل أو بعد مبالغ أو أمتعة إضراراً بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها » وقد أشار الشارع بألفاظ « إختلس أو استعمل أو بدد » إلى الفعل الذي تقوم به الجريمة وأشار بلفظ « إضراراً » إلى الضرر الذي يترتب على الفعل وتقوم به النتيجة الإجرامية ويعني ذلك أن الركن المادي لخيانة الأمانة يتطلب فعلاً ونتيجة وعلاقة سببية تربط بينهما.
المطلب الأول
الفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة :
النظرية العامة للفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة : على الرغم من تنوع الصور التي يتخذها الفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة إذ قد يكون اختلاساً أو تبديداً أو استعمالاً فإنها تجتمع في إطار نظرية عامة جوهرها فكرة « تغيير المتهم نوع حيازته » : فالفرض أن المتهم كان يحوز الشيء المملوك لغيره حيازة ناقصة يعترف فيها بحقوق المجني عليه ويسلم له بسلطاته على الشيء ويقر بأن ذلك الشيء موجود في حيازته على نحو مؤقت کي يؤدى عليه أو بواسطته عملاً معيناً بتصريح من المجني عليه ولكنه وجه إرادته إلى تغيير نوع حيازته إلى حيازة كاملة فجحد حقوق المجني عليه وأنكر سلطاته على الشيء وقرر الاحتفاظ به لنفسه سالكاً إزاءه مسلك المالك وقد عبرت محكمة النقض عن هذه الفكرة في قولها « إن جريمة خيانة الأمانة تتحقق بكل فعل يدل على أن الأمين اعتبر المال الذي أؤتمن عليه مملوكاً له يتصرف فيه تصرف المالك.
ويتضح بذلك أن جوهر الفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة في هذا « الاتجاه الإرادي » هو « إرادة تغيير نوع الحيازة من ناقصة إلى كاملة »، بما يفترضه ذلك بالضرورة من إدعاء سلطات المالك على الشيء وإهدار سلطات المالك الشرعي ويعني ذلك أن جوهره ظاهرة نفسية قوامها الاتجاه الإرادي السابق ولكن الفعل لا يقوم بظاهرة نفسية فحسب بل لابد له من ماديات تعبر عن هذه الظاهرة وتتيح له أن يحتل مكانه بين عناصر الركن المادي للجريمة وقد اجتهد الشارع في تحديدها بالألفاظ الثلاثة التي استخدمها في نص خيانة الأمانة .
ما يخرج عن نطاق الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة : يترتب على التحديد السابق للفعل الإجرامي في خيانة الأمانة أن هذه الجريمة لا تقوم بالفعل الذي يصدر عن حائز الشيء حيازة ناقصة ولا يكشف عن إرادته تغيير نوع حيازته وإنما يكون في نطاق صفته كحائز حيازة ناقصة مفترضاً الإعتراف بحقوق المجني عليه وسلطاته على الشيء ولا يغير من هذا الحكم كونه أضر بالمجنى عليه أو حقق لمرتكبه نفعاً وعلى سبيل المثال فإن تأخر المودع عنده في رد الشيء المودع لديه واستعمال المستعير الشيء على نحو خارج على الوجه والحد المنصوص عليهما في العقد أو المستفادين من العرف وإهمال المستأجر أو المرتهن في المحافظة على الشيء حتى أصيب بضرر أو هلك كل هذه أفعال لا تقوم بها خيانة الأمانة لأنها لا تتضمن إدعاء ملكية الشيء ولا تعني جحوداً لحق مالكه وقد عبرت محكمة النقض عن هذه القاعدة في قولها التأخير في رد الشيء أو الامتناع عن رده إلى حين لا يتحقق به الركن المادي لجريمة التبديد أي خيانة الأمانة ما لم يكن مقروناً بإنصراف نية الجاني إلى إضافة المال الذي تسلمه إلى ملكه واختلاسه لنفسه إضراراً بصاحبه .
صور الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة : حدد الشارع صوراً ثلاثة للفعل الإجرامي في خيانة الأمانة هي الاختلاس والتبديد والاستعمال.
الاختلاس : الإختلاس فعل يباشر به المتهم سلطاته على الشيء لا تدخل إلا في نطاق سلطات المالك فهو سلوك إزاء الشیء مسلك المالك ومن ثم كان بالضرورة كاشفاً عن نية تغيير الحيازة ولا يجاوز الاختلاس ذلك إلى إخراج المتهم الشيء من حيازته وذلك هو الفرق بينه وبين التبديد .
وأبرز صور الاختلاس أن ينكر المتهم وجود الشيء في حيازته کي يتخلص من التزامه برده ويحتفظ به لنفسه وسواء في ذلك أن ينكر أنه سبق أن تسلم شيئاً وقد يصطحب ذلك بإنكاره وجود العقد الذي يربط بينه وبين المجني عليه أو أن يعترف بوجود هذا العقد ولكن ينكر أنه تسلم شيئاً بناء عليه ويدخل في هذا المدلول أن يدعي أن الشيء قد هلك أو سرق کي يتخلص من التزامه برده .
ومن أهم صور الاختلاس كذلك أن يصدر عن المتهم فعل يكشف عن نظرته إلى الشيء على أنه ملكه فهو فعل لا يصدر إلا من المالك مثال ذلك أن يؤتمن شخص على قطعة من قماش فيصنع لنفسه منها رداء أو يؤتمن على جوهرة فيضعها في خاتم بإصبعه أو يؤتمن علی سند فيطالب لنفسه بالحق الثابت فيه .
ومن تطبيقات الاختلاس في القضاء عرض الشيء للبيع وانتفاع الموصي بأطيان القاصر بدون مقابل ورفع أحد الورثة دعوى بإسمه شخصياً بناء على سند سلم إليه ليرفع بناء عليه دعوى بإسم الورثة جميعاً واحتجاز المتهم العقد لنفسه بدون مقتض وبغير أن يزعم لنفسه حقاً فی احتباسه وامتناع المتهم عن رد النقود المودعة لديه عند الطلب .
التبديد :
التبديد فعل يخرج به المتهم الشيء من حيازته على نحو يفقد به المجني عليه الأمل في استرداده أو على الأقل يضعف إلى حد بعيد هذا الأمل وهذا الفعل يكشف بجلاء عن نية تغيير الحيازة ويتضمن التبديد بالضرورة اختلاساً إذ يفترض فعلا لا يصدر إلا من المالك .
ويتحقق التبديد بالتصرف القانوني في الشيء أو التصرف المادي فيه .
فيعتبر مبدداً - عن طريق التصرف القانوني - من يؤتمن على شيء فيبيعه أو يقايض عليه أو يهبه أو يرهنه أو ينشیء عليه حق انتفاع وقد قضى تطبيقاً لذلك بأنه إذا سلم وكيل الدائن سند الدين إلى المدين نظير مال تقاضاه منه كان مبدداً له وإذا سلم الوكيل الشيء الذي يحوزه لحساب موكله إلى شخص لبيعه كان مبدداً له كذلك ولكن من يؤجر الشيء الذي أؤتمن عليه أو يعيره أو يودعه لدى غيره لا يرتكب تبديداً ذلك أن التصرف يفترض تعديلاً ينال من الحقوق العينية على الشيء وهو ما لم يتحقق في المجالات السابقة.
ويتحقق التبديد بالتصرف المادي في الشيء سواء كان تصرفاً كلياً أو جزئياً ويعني التصرف الكلي إعدام الكيان المادي للشيء بحيث يختفي بالنسبة للمجني عليه أو يصير غير صالح للغرض المعد له حسب تخصيصه مثال ذلك أن يؤتمن شخص على حصان فيقتله أو على سند فيجزىء مادته قطعاً صغيرة أو على كتب فيضرم النار فيها أو على طعام فيلتهمه أما التصرف المادي الجزئي فيعني إدخال التعديل على الكيان المادي للشيء على نحو يؤدي إلى تشويهه وتغيير معالمه بحيث تنقص قيمته أو على الأقل تقل منفعته مثال ذلك أن يؤتمن شخص على لوحة فنية فيمحو توقيع راسمها فيقلل بذلك من قيمتها أو يؤتمن على كمية من دقيق فيضيف إليه ماء فيقلل من صلاحيته ليصنع منه الخبز أو يؤتمن على كتاب فينتزع منه بعض صفحاته .
الاستعمال :
يعني الاستعمال كصورة للفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة – الفعل الذي يستخدم به المتهم الشيء استخداماً لا يجوز أن يصدر إلا من المالك ويكشف في صورة قاطعة عن تغير نيته إذ قد صار ينظر إليه نظرته إلى شيء يملكه أما الفعل الذي يستخدم به المتهم الشيء استخداماً يجوز أن يصدر عن المالك أو عن غيره ولا يكشف بالتالي عن نية تملك الشيء فلا تقوم به خيانة الأمانة ولو كان مخالفاً للعقد الذي يربط بين حائز الشيء ومالكه .
ومن تطبيقات الاستعمال الذي تقوم به خيانة الأمانة أن يسلم مؤلف ناشراً أصول کتاب کي يطبع منه عدداً محدداً من النسخ فيطبع عدداً أكبر ذلك أنه قد استعمل الأصول استعمالاً لا يجوز أن يصدر عن غير المالك ويكشف عن أنه أصبح ينظر إليها نظرة المالك إلى شيء يملكه ومن هذه التطبيقات كذلك أن تسلم إلى شخص ألواح منقوشة عليها العلامة التجارية لأحد التجار ويطلب إليه أن يستخرج منها عدداً معيناً من النسخ فيستخرج عدداً أكبر ويبيعه لتجار آخرين أو أن يطلب شخص من مهندس مقاول أن يعد له مشروع رسم لمبنى يريد إقامته على أن يتولى تنفيذه فيقدم إليه الرسم ولكن المتهم ينقل منه صورة ويرده إليه معلناً عدم موافقته عليه ويعهد إلى مقاول آخر بتنفيذه وأبرز تطبيقات الاستعمال أن يستخدم المتهم الشيء استخداماً يخرج به عن تخصيصه الذي اتفق عليه ويفوت هذا التخصيص كلياً أو جزئياً مثال ذلك مدير الشركة الذي ينفق بعض أموالها في مصالحه الخاصة أو يقرر لنفسه مكافآت لا يستحقها أو يحصل على قروض دون أن يقدم التأمينات التي يفرضها نظام الشركة أو ينشىء شركة يكون صاحب المصلحة الأساسية فيها ويخولها مزايا على حساب الشركة التي يديرها وإضراراً بها.
الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة إذا كان موضوعها مالاً مثلياً لا تختلف طبيعة الفعل الإجرامي باختلاف ما إذا كان موضوع خيانة الأمانة مالاً قيمياً أو مالاً مثلياً فتحكمه ذات النظرية العامة ويستند إلی ذات الأساس المشترك بين صور الفعل التي نص عليها القانون فهو دائما نشاط مادي يعبر عن إرادة تغيير الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة وأهم الأموال المثلية النقود وتبديد النقود يكون بإنفاقها ولو كان في صورة إقراضها وبالنسبة لما عدا النقود من المثليات فإن تبديدها يكون ببيعها أو المقايضة عليها أو هبتها أو استهلاكها كما لو أؤتمن شخص على كمية من الغلال فطحنها وصنع لنفسه منها خبزاً تناوله أو بمجرد إفناء مادتها كما لو عرض هذه الغلال للطيور فالتهمتها .
وعلى الرغم من ذلك فثمة فارق لا يمكن إنكاره بين نوعي الأموال وهو فارق يتعلق ببيان الحد الذي يبدأ عنده مجال النشاط الذي يجرمه القانون .
فإذا كان المال قيمياً فالأمر واضح فمجرد الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال يحقق جميع عناصر الفعل إذ يكشف هذا السلوك عن إرادة تغيير الحيازة في صورة قاطعة وهو يرتب ضرراً يصيب المجنى عليه يتمثل على أي الأحوال في تهديده ملكيته بالخطر واحتمال ضياعها.
أما إذا كان المال مثلياً - وخاصة إن كان نقوداً - فإنه يثير التردد أن المجني عليه ليست له مصلحة في أن يرد إليه ماله عيناً فالفرض أن وحدات هذا المال تتماثل تماماً وبالإضافة إلى ذلك فإنه إذا رد إليه مالاً من ذات نوع وصفة ومقدار ماله بمجرد طلبه فلا ضرر على الإطلاق قد أصابه وليس من المعقول أن يحظر الشارع على متسلم المال المثلي أن يخلطه بماله أو يتصرف فيه إذا كان لديه من أمثال هذا المال الكثير وكان في وسعه إرضاء المتعاقد الآخر بمجرد طلبه ذلك فهذا السلوك لا خطر منه على المجتمع ولا علة للعقاب عليه بل على العكس من ذلك قد تكون المصلحة في إجازته باعتباره يسهم في النشاط الاقتصادي لذلك نعتقد أن متسلم المال المثلي لا يرتكب خيانة الأمانة إذا خلط المال الذي تسلمه بماله أو تصرف فيه طالما أن في ملكيته وحيازته مال من ذات نوعه وصفته ومقداره بحيث يستطيع أن يرد إلى من تعاقد معه مثل ماله بمجرد أن يطالبه بذلك واللحظة التي يبدأ فيها النشاط الإجرامي هي اللحظة التي تقل فيها الأموال المثلية التي يملكها ويحوزها عما تسلمه ولكن إذا ارتكب المتهم هذا النشاط ثم استطاع إبراء ذمته عند مطالبته فلم يثبت أنه قد ترتب على الفعل ضرر فإن الركن المادي لخيانة الأمانة لا يكون بذلك مستوفياً عناصره إذ الضرر عنصر جوهري فيه ويمثل النتيجة التي يفترضها.
المطلب الثاني :
الضرر :
موضع الضربين عناصر الركن المادي لخيانة الأمانة يعد الضرر النتيجة الإجرامية في خيانة الأمانة فهو الأثر الذي يترتب على الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال ويتمثل فيه الإعتداء على الملكية والثقة التي أودعها المجني عليه في المتهم فإذا لم يترتب على الفعل ضرر فلا عقاب قط خاصة وأن الشروع في خيانة الأمانة غير متصور وقد عبر الشارع عن الضرر في قوله إن الاختلاس أو الاستعمال أو التبديد قد ارتكب إضراراً بمالكيها أي مالكي الأشياء موضوع الجريمة أو أصحابها أو واضعي اليد عليها .
القواعد العامة في الضرر: تقوم خطة الشارع على التوسع في تحديد مدلول الضرر الذي تفترضه خيانة الأمانة : فلا يفرق بين ضرر مادي وضرر معنوي ولا يفرق بين ضرر حال وضرر محتمل وسواء أن يكون الضرر جسيماً أو يسيرا وسواء أن يصيب المالك أو غيره ممن لهم على الشيء حقوق وسواء أن يكون المضرور شخصاً طبيعياً أو شخصاً معنوياً وسواء أن يكون المضرور معيناً أو غير معيناً ولا أهمية لكون المتهم نال كسباً بفعله أو لم يجن شيئاً .
فالضرر المعنوي وهو ما لا يصيب الذمة المالية وإنما يصيب السمعة والمكانة يضعه الشارع على قدم المساواة مع الضرر المادي خاصة وأنه يغلب أن تكون له آثاره المنعكسة على المركز المالي للمجني عليه وتطبيقاً لذلك فقد اعتبر مسئولاً عن خيانة الأمانة عامل كان مكلفاً بتوصيل الألبان إلى عملاء الشركة التي يعمل فيها فخلطها بالماء وسلم كلا منهم المقدار الذي طلبه وورد إلى الشركة ثمن الألبان التي استلمها واستولی لنفسه على ثمن القدر الزائد نتيجة الخلط بالماء فعلى الرغم من أن الشركة لم يصبها ضرر مادي إذ قد ورد إليها ثمن كمية الألبان التي سلمتها فقد أصابها ضرر معنوي تمثل في فقدها ثقة عملائها عندما يكتشفون هذا الغش وينسبونه إلى الشركة .
والضرر المحتمل يكفى لقيام الجريمة ويراد به ضرر غير محقق ويتمثل في خطر يهدد ثروة المجني عليه ويحتمل في المستقبل تحوله إلى ضرر محقق وتطبيقاً لذلك فإن الوكيل الذي يتسلم نقوداً للقيام بعمل معين لحساب موكله فيؤديه بغير مقابل أو بمقابل قليل ولكن عن طريق غير مشروع ويستولى على ما تسلمه من نقود يحدث بفعله ضرراً محتملاً بموكله إذ هو معرض للرجوع عليه حينما يكتشف هذا الغش ويفسر الإكتفاء بالضرر المحتمل كيف تعتبر خيانة الأمانة متحققة بمجرد اختلاس الشيء على الرغم من بقائه في حيازة المتهم وبقاء كيانه المادي وقيمته دون مساس وعلى الرغم من رده بعد وقت يسير من اختلاسه ذلك أنه قبل رده كان ثمة احتمال في أن يتصرف فيه المتهم أو يتلفه فيضيع على المجني عليه حقه وقد قضى تطبيقاً لذلك بتحقق الجريمة ولو حصل المجني عليه على ماله عن طريق المتهم أو غيره وتحققها بتبديد سند الوصية على الرغم من تنفيذها فيما بعد.
والضرر اليسير كاف لقيام الجريمة كما لو كانت قيمة الشيء الذي انصب الفعل عليه قليلة .
ولا يحول دون قيام الجريمة أن الشيء غير مملوك لمن تعاقد معه المتهم كما لو بدد الوديع شيئاً تسلمه من مستأجره فالضرر الذي يصيب المستأجر - باعتباره يلتزم بالتعويض إزاء المالك - يكفي لقيام الجريمة في هذا المثال أصاب الضرر حائز الشيء حيازة ناقصة ويكفى لقيام الجريمة أن يصيب الضرر صاحب اليد العارضة على الشيء كما لو أودع صاحب اليد العارضة الشيء لدى شخص فبدده وذلك ما عناه الشارع بقوله إن الفعل ارتكب « إضراراً بمالكيها (أي مالكي الأشياء موضوع الجريمة) أي أصحابها (أي من لهم حيازتها أو واضعي اليد عليها (أي أصحاب اليد العارضة عليها) » ويكشف ذلك عن ملاحظة هامة هي أن شخصية المضرور غير ذات اعتبار في تحديد أركان خيانة الأمانة فلا يشترط أن ينال الضرر مالك الشيء وإنما يكفي أن ينال أي شخص له حق أو سلطة أو وضع إزاء الشيء.
ولا يحول دون قيام الجريمة أن مالك المال موضوع خيانة الأمانة لم يتعين بعد بل وكان حقه عليه احتمالياً فحسب وتطبيقاً لذلك فإن من يجمع تبرعات لحساب منكوبي كارثة ثم يستولى عليها لنفسه يرتكب خيانة الأمانة على الرغم من أن الأشخاص الذين سوف توزع عليهم هذه التبرعات لم يتحددوا بعد ذلك أنه يكفي وجود أشخاص أياً كانوا سيصيبهم الضرر من جراء فعل المتهم.
ولا يتطلب الشارع أن ينال المتهم کسب من جراء فعله فتأثير الفعل على ذمة المتهم غير ذي اعتبار في خيانة الأمانة ويفسر كذلك كيف تعتبر الجريمة متحققة بإتلاف الشيء على الرغم من أن هذا الفعل لا ينال المتهم بكسب.
صورة الضرر إذا كان موضوع خيانة الأمانة مالاً مثلياً : قدمنا أنه إذا كان موضوع خيانة الأمانة مالاً مثلياً فإن خلط المتهم المال الذي أؤتمن عليه أو تصرفه فيه لا يقوم به فعل الاختلاس أو التبديد طالما أن في ملكيته وحيازته مال من ذات نوعه وصفته ومقداره بحيث يستطيع أن يرد إلى المجني عليه مثل ماله بمجرد أن يطالبه بذلك على أنه إذا ثبت ارتكاب هذا الفعل فإن الجريمة لا تقوم مع ذلك إذا لم يتوافر الضرر ولو في صورته الاحتمالية ولذلك يكون من الأهمية تحديد صورة هذا الضرر .
لا تثور صعوبة إذا قطعت الظروف بضياع حق المجني عليه كما لو هرب المحصل بالنقود التي حصلها لحساب موكله أو أعلن أنه لن يسلمها له أو صدرت عنه أكاذيب استهدف بها التخلص من التزامه.
وفي غير هذه الحالات تدعو الحاجة إلى تحديد ضابط لمعرفة متى يمكن القول بتحقق الضرر على النحو الذي تقوم به الجريمة ونرى أن ذلك يقتضي مطالبة المتهم بإبراء ذمته وللمطالبة صورة عديدة وكلها سواء في التمهيد لإثبات الضرر فقد تتخذ صورة « الإنذار » في مدلوله القانوني وقد تتخذ صورة محرر أياً كان وقد تكون شفوية فإذا لم يبرىء المتهم ذمته خلال وقت معقول يعقب المطالبة تحقق الضرر وتمت الجريمة ولكن ذلك لا يعني أن الجريمة لا تقوم إلا إذا حصلت المطالبة فإذا ثبت ارتكاب الفعل الذي تقوم به الجريمة وتحقق الضرر أو احتماله على الرغم من أنه لم تصدر عن المجني عليه مطالبة فقد توافرت للجريمة عناصرها.
الركن المعنوي الخيانة الأمانة :
تمهيد: خيانة الأمانة جريمة عمدية ومن ثم يتخذ ركنها المعنوي صورة القصد الجنائي وعلى الرغم من أن الشارع لم يصرح بتطلب القصد فهو مستفاد من طبيعة هذه الجريمة وكونها اعتداء على الملكية وإخلالاً بثقة موضوعة في المتهم وتقاربها في الأحكام مع السرقة والنصب وهما عمدیتان بطبيعتهما وكون الأفعال التي تفترضها أي الاختلاس والتبديد والاستعمال لا تتصور بغير علم بماهيتها وإرادة متجهة إليها .
وأهمية تطلب القصد في خيانة الأمانة أنها لا تقوم عند انتفائه ولو توافر لدى المتهم خطأ جسيم كما لو أهمل الوكيل في القيام بالعمل المكلف به أو صدر عنه في تنفيذه خطأ فاحش فضاع على الموكل ماله.
نوع القصد المتطلب في خيانة الأمانة تجري محكمة النقض على تعريف القصد الجنائي في خيانة الأمانة بأنه «لا يتحقق إلا إذا ثبت أن الجاني تصرف في الشيء المسلم إليه كما لو كان مالكاً له مع تعمد ذلك التصرف وأن هذا التصرف قد حصل منه إضراراً بحقوق المالك لهذا الشيء .
ويستخلص من هذا التعريف - وهو ما يكاد ينعقد عليه إجماع الفقه - أن خيانة الأمانة تتطلب قصداً خاصاً قوامه « نية تملك الشيء » موضوع هذه الجريمة والقصد الخاص يقوم على أساس من القصد العام .
ويفترض القصد العام علماً وإرادة منصرفين إلى عناصر الجريمة .
ونحدد - فيما يلي - عناصر القصد العام ثم نتبع ذلك ببيان فحوى نية التملك .
علم المتهم أن الشيء مملوك لغيره وأنه في حيازته الناقصة فحسب يفترض القصد العام علم المتهم بتوافر موضوع للجريمة ينصب عليه فعله وتجتمع له الشروط التي تطلبها القانون فيه .
وأهم ما يتعين إحاطة العلم به هو ملكية الشيء ونوع حيازته :
فيتعين أن يعلم المتهم أن المال مملوك لغيره أما إذا جهل ذلك لأنه خلط بينه وبين المال الذي يملكه فاعتقد حين يتصرف فيه أنه يتصرف في مال يملكه فإن القصد لا يتوافر لديه .
ويتعين أن يعلم المتهم أنه يحوز الشيء حيازة ناقصة فيعلم أنه ملتزم « برده عيناً أو رد مثله أو استعماله في أمر معين في مصلحة المجني عليه » أما إذا كان يعتقد أنه يحوزه حيازة كاملة وأن له عليه حقوقاً أصيلة وأنه غير ملتزم بتقديم حساب إلى غيره عن حيازته له فإن القصد لا يتوافر لديه فإذا اعتقد المودع عنده أن الشیء قد وهب له فتصرف فيه ظاناً أنه ملكه أو اعتقد وارث المستعير أو المستأجر أن الشيء المعار أو المؤجر ملك لمورثه وأن ملكيته قد انتقلت إليه بالإرث فإن القصد لا يتوافر لديه.
علم المتهم بماهية فعله يجب أن يعلم المتهم بماهية فعله وأثره المحتمل على ملكية المجني عليه وحيازته فيعلم بما ينطوي عليه من تغيير لنوع الحيازة وتحويل لها من ناقصة إلى كاملة أما إذا جهل المتهم ذلك كما لو أعار الشيء الذي يحوزه إلى شخص معتقداً أنه سيبقيه في حيازته لحساب مالكه ولكن هذا الشخص كان منتوياً منذ البداية تبديده وفعل ذلك فإن القصد لا يتوافر لدى المتهم .
توقع المتهم الضرر الحالي أو المحتمل الذي يترتب على فعله : الضرر - كما قدمنا - هو النتيجة الإجرامية في خيانة الأمانة ومن ثم فإنه يتعين أن يشمله توقع المتهم أما إذا لم يتوقعه فلا يتوافر القصد لديه ولو كان في استطاعته ومن واجبه توقعه فاستطاعة التوقع ووجوبه لا يقوم بهما القصد وإنما يقوم بهما الخطأ فحسب وهو غير كاف لتوافر خيانة الأمانة .
ويعدل الشارع الضرر المحتمل بالضرر الحال ومن ثم يكفي لتوافر القصد أن يتوقع المتهم احتمال أن يترتب على فعله ضرر : فمن أودعت لديه سندات لحاملها واشترط عليه ردها عينا فرهنها ضماناً لدين في ذمته وتوقع احتمال أن يعجز عن سداد دينه فيعرضها الدائن للبيع للحصول على حقه من ثمنها فيضار بذلك مالكها يعد القصد متوافراً لديه أما إذا لم يرد إلى خاطره هذا الاحتمال فكان واثقاً من قدرته على سداد الدين واسترداد السندات لتكون رهن طلب مالكها ولكنه عجز عن السداد الأسباب لم يتوقعها فبيعت هذه السندات وضاعت على مالكها فإن القصد لا يعد متوافراً لديه.
إرادة ارتكاب الفعل وتحقيق النتيجة، يقتضي القصد وفقاً للقواعد العامة في تحديده - أن يثبت اتجاه إرادة المتهم إلى ارتكاب الفعل الذي تقوم به الجريمة وإلى تحقيق نتيجته أي أن تتجه إلى ارتكاب فعل الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال وأن تتجه كذلك إلى إنزال الضرر ولو في صورته الاحتمالية – بالمجني عليه أو غيره .
ولما كان الفقه الحديث يسوي بين القصد المباشر والقصد الاحتمالی فإنه يكفي لتوافر القصد أن يتوقع المتهم احتمال الضرر فيقبل هذا الاحتمال.
وتطبيقا لذلك فإنه إذا عيب الشيء أو أتلف بفعل صدر عن إهمال وعدم احتياط أو كان المتهم قد استعمل الشيء في صورة منافية لتخصيصه أو للغرض المتفق عليه فهلك دون أن تتجه إرادته إلى اهلاكه أو يقبل ذلك فإن القصد لا يتوافر لديه ومن باب أولى فإن القصد لا يتوافر لدى المتهم إذا سرق الشيء من حوزته ولو باهماله أو صدر قرار إداري بالاستيلاء عليه وانتقلت حيازته وملكيته إلى الدولة .
نية تملك الشئ موضوع خيانة الأمانة : يقوم بهذه النية « القصد الخاص » في خيانة الأمانة وقد أكدت محكمة النقض أهمية هذه النية فقالت « من المقرر أن القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة لا يتحقق بمجرد تصرف المتهم في الشيء المسلم إليه أو خلطه بماله وإنما يتطلب فوق ذلك ثبوت نية تملكه إياه وحرمان صاحبه منه.
ولا تختلف هذه النية في عناصرها عن نية التملك في السرقة والنصب : فهي تعنى إرادة السلوك إزاء الشيء كما يسلك مالكه أي إرادة الحلول محل المالك في سلطانه على الشيء فالمتهم يريد أن يباشر السلطات التي ينطوي عليها حق الملكية بإسمه ولحسابه غير معترف للمالك بالحقوق والسلطات التي كان سند حيازته يفرض عليه الاعتراف بها.
فإذا انتفت هذه النية فلا يتوافر القصد : فإذا كان المستعير لا يستهدف بتأخره في رد الشيء غير أن يطيل أمد انتفاعه به أو كان المستأجر لا يعني باستعمال الشيء في غير ما اتفق عليه سوى أن يحصل منه على أكبر قدر من الانتفاع فكانت إرادة كل منهما متجهة إلى مجرد الإخلال بالإلتزام التعاقدي دون أن تجاوز ذلك إلى حرمان المالك من حقه والحلول محله على الشيء فإن القصد لا يتوافر بذلك.
وإذا كان موضوع خيانة الأمانة مالاً مثلاً فإن نية التملك تفترض علم المتهم بالضرر (ولو كان محتملاً) الذي قد ينزل بالمجني عليه وتفترض اتجاه إرادته إلى ذلك أو قبوله ومثال ذلك أن ينفق الوكيل النقود التي سلمت إليه لحساب موكله في شئونه الخاصة عالماً بإعساره وأنه لن يتوافر لديه مال لايفاء الموكل حقه ويتوقع تبعاً لذلك عجزه عن إبراء ذمته تجاههه فتتجه إرادته إلى ذلك نكاية فيه أو يقبل ذلك لأنه لا تعنيه مصالح موكله ولا يعبأ بفقد ثقته فيه وتطبيقاً لذلك فإنه إذا قرر الوكيل أن يستغل الأموال التي تسلمها لحساب موكله في مضاربات بالبورصة آملاً أن يسترد هذه الأموال مضافاً إليها أرباحها فيرد إلى الموكل ماله ويحتفظ لنفسه بالأرباح أو يسلم إلى الموكل جزءاً من الأرباح أو كلها بالإضافة إلى ماله ولكن نتيجة المضاربة جاءت خاسرة فضاع رأس المال ولم يستطع أن يرده إلى الموكل فإن الوكيل يسأل عن خيانة الأمانة لأنه توقع بالنظر إلى طبيعة عمليات المضاربة في البورصة احتمال الخسارة (أى الضرر المحتمل) ولو كان هذا الاحتمال قليلاً فقبله وأقدم على هذا التصرف في أموال موكله ولكن إذا خلط الوكيل أموال موكله بأمواله الخاصة التي تفوقها ثم أودعها جميعاً باسمه في مصرف متين المركز وكان منتوياً أن يسحب أموال الموكل بمجرد طلبه لها ويردها إليه ولم يتوقع احتمال إفلاس المصرف ولكن هذا المصرف أفلس فلم يستطع إبراء ذمته لدى مطالبته بذلك فإن القصد لا يتوافر لديه .
عقوبة خيانة الأمانة :
مقدار العقوية : حدد الشارع عقوبة خيانة الأمانة فجعلها الحبس بین حديه العامين وأجاز أن تضاف إليه غرامة لا تتجاوز مائة جنيه المادة 341 من قانون العقوبات ولم ينص القانون على ظروف مشددة لخيانة الأمانة ولم يقرر القانون جواز توقيع عقوبة الوضع تحت مراقبة البوليس لمن يحكم عليه باعتباره عائداً في جريمة خيانة الأمانة فخالف بذلك خطته بالنسبة للسرقة والنصب (المادتان 320، 336 من قانون العقوبات) ولم يتضمن القانون نصا خاصا بالشروع في خيانة الأمانة وتفسير ذلك ما قدمناه من عدم تصور هذا الشروع.
ويسري على جريمة خيانة الأمانة القيد الذي يرد على الدعوى الجنائية إذا ربطت بين المتهم والمجني عليه صلة الأبوة أو البنوة أو الزوجية وهو القيد الذي نصت عليه المادة 312 من قانون العقوبات في شأن السرقة وذلك لتوافر علته في خيانة الأمانة.
السلطة التقديرية للقاضي في تحديد عقوبة خيانة الأمانة :
خول الشارع للقاضی سلطة تقديرية واسعة لتحديد هذه العقوبة : فبالإضافة إلى إطلاقه الحبس المقرر لخيانة الأمانة بين حديه العامين فقد أجاز أن تضاف إليه الغرامة وثمة اعتبارات يتعين على القاضي أن يراعيها في تحديد هذه العقوبة فعليه أن يضع في اعتباره مدى توثق العلاقة بين المتهم والمجني عليه ومقدار ما أودعه فيه من ثقة ومدى ما ينطوي عليه فعله من إخلال بهذه الثقة فكلما إزدادت العلاقة توثقاً إزداد ما ينطوي عليه الفعل من إخلال وكان ذلك اعتباراً يميل بالعقوبة إلى التشديد وعلى سبيل المثال فالوكيل العام يستحق - عند خيانة الأمانة - عقوبة أشد مما يستحقه الوكيل الخاص والوكيل الذي ترجع وكالته إلى عهد سابق بكثير على الفعل الإجرامي يستحق عقوبة أشد مما يوقع على شخص عين وكيلاً قبل ارتكابه الفعل بوقت يسير والوكيل الذي تربطه بموكله علاقة عمل تفرض عليه التزامات ويتقاضي في الغالب أجراً نظير قيامه بأعبائها يستحق عقوبة أشد مما يوقع على الوكيل ذي العلاقة العارضة بموكله أو الوكيل المجاني ويجدر بالقاضي أن يميل بالعقاب إلى التشديد إذا بذل المتهم عقب فعله جهوداً لإخفاء جريمته ووضع بذلك العقبات أمام المجني عليه لاسترداد حقوقه قبله كما لو هرب بما حصله من مال لحسابه أو أدخل التشويه على دفاتره کي لا تكتشف خيانته ويتصل بهذا الاعتبار أنه إذا صدرت عن المتهم أساليب الاستبقاء الوضع المخالف للقانون الذي أنشأه بجريمته والاحتفاظ لنفسه بثمراتها كان ذلك حاملاً على الإرتفاع بالعقاب كما لو اشترى بالنقود التي اؤتمن عليها مالاً ليس من اليسير إعادة بيعه كقطعة من أرض أو مجوهرات أو سندات إسمية وعلى القاضي أن يضع في اعتباره كذلك مقدار الأضرار التي أصابت المجنى عليه بالجريمة فيرتفع بالعقاب إذا كان الضرر حالاً أو اتخذ نطاقاً متسعاً أو كان تعويضه عيناً مستحيلاً أو عسيراً وفي مقابل ذلك فإن القاضي يميل بالعقوبة إلى التخفيف إذا بادر المتهم إلى رد الشيء أو إلى أداء ثمنه أو تسلیم شیء يحل محله أو تعويض المجني عليه عما أصابه من أضرار أو بادر في حالة الأشياء المثلية إلى تسوية حسابه مع المجني عليه بعد ارتكابه الجريمة ويميل القاضي كذلك إلى تخفيف العقاب إذا كانت قيمة الشيء قليلة إذ يعني ذلك تضاؤل الضرر أو كان القصد احتمالياً .
بيانات حكم الإدانة:
يتعين أن يتضمن حكم الإدانة إثباتاً لتوافر عناصر الجريمة : فيثبت ارتكاب المتهم فعل اختلاس أو تبديد أو استعمال ويحدد الشيء أو الأشياء التي انصب عليها ويثبت تسليم هذه الأشياء إلى المتهم بناء على أحد عقود الأمانة التي نص عليها القانون ويثبت حصول ضرر أو احتماله ويثبت توافر القصد الجنائي والأصل أنه إذا أغفل الحكم أحد هذه البيانات كان قاصراً ويقتضي ذلك أن يسرد الحكم وقائع الدعوى في صورة مفصلة واضحة كي تستطيع محكمة النقض أن تراقب قوله بتوافر عناصر الجريمة وإذا دفع المتهم بعدم توافر أحد هذه العناصر كما لو دفع بأن العقد الذي يربط بينه وبين المجني عليه ألا يدخل في عداد العقود التي نص عليها القانون أو دفع بعدم توافر القصد لديه كان دفعه جوهرياً فإذا لم يرد الحكم عليه كان قاصراً.
ويجوز إثبات فعل الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال بجميع طرق الإثبات والقول بتوافره من شأن قاضي الموضوع فلا يخضع فيه الرقابة محكمة النقض أما إثبات عقد الأمانة فالمرجع فيه إلى قواعد الإثبات المدنية على ما سبق تفصيله ويلتزم القاضي بتحديد التكييف القانوني للعلاقة بين المتهم والمجني عليه والقول بأنه يقوم بها أحد عقود الأمانة ولا يتقيد القاضي في تحديد هذا التكييف بما أسبغه المتعاقدان على العلاقة بينهما ويخضع هذا التكييف لرقابة محكمة النقض وعلى سبيل المثال فإذا كيف القاضي العقد بأنه وديعة واستند إلى هذا التكييف في إدانة المتهم فلمحكمة النقض أن تقرر أن التكييف الصحيح للعقد أنه قرض وتنقض بناء على ذلك الإدانة وإذا لم يشر الحكم إلى العلاقة بين المتهم والمجني عليه وحقيقة تكييفها كان قاصراً إذا لا يتيح لمحكمة النقض أن تتحقق من سند التسليم ودخوله في عداد العقود التي نص عليها القانون وإذا بين القاضي تكييف العقد على سبيل التخيير بأنه قال إنه قد يكون إيجاراً وقد يكون عارية أو قال إنه قد يكون إيجاراً أو بيعاً فالحكم غير معيب إذا كان العقدان داخلين في نطاق الحصر التشريعي كما في المثال الأول ويكون معيباً إذا كان أحد العقدين اللذين تردد القاضي بينهما لا يدخل في نطاق الحصر التشريعي كما في المثال الثاني وإذا لم يحدد القاضی تكييف العقد ولكنه سرد وقائع الدعوى في تفصيل ووضوح على نحو أتاح المحكمة النقض أن تستظهر بنفسها تكييف العقد ودخوله في نطاق الحصر التشريعي فإن الحكم لا يكون عليه مطعن .
ويتعين أن يثبت الحكم حصول الضرر ولو في صورته الإحتمالية فإن غفل عن ذلك أو ذكر من البيانات ما يستخلص منه انتفاء الضرر أو يثير التردد حول ما إذا كان قد حصل ضرر أو لم يحصل كما لو ذكر أن الوكيل قد أبرأ ذمته لدى مطالبته أو ذكر أنه لم يثبت أن الوكيل قد استعمل النقود التي حصلها لحساب موكله في غير الأغراض التي حددت في الوكالة كان الحكم معيباً ولكن لا يعيب الحكم أنه لم يصرح بحصول الضرر ولكن كان سرده للوقائع من الوضوح بحيث يستخلص منه حصوله والقول بتوافر الضرر موضوعي فلا يخضع القاضي في قوله بتحققه أو انتفائه الرقابة محكمة النقض ولا يشترط أن يبين الحكم اسم الشخص الذي أصابه الضرر ومن ثم لا يعيب الحكم خطؤه في ذكر هذا الاسم ولا يشترط أن يثبت الحكم أن الضرر أصاب مالك المال إذ لم يتطلب القانون ذلك ومن ثم كان كافياً أن يذكر الحكم أن الضرر أصاب شخصاً له على المال صفة يعتد بها القانون .
ويتعين أن يثبت الحكم توافر القصد الجنائي لدى المتهم فإذا غفل عن بيانه ولم تكن الوقائع التي سردها دالة على توافره كان قاصراً ويكون حكم الإدانة معيباً كذلك إذا سرد وقائع تقطع بانتفاء القصد أو تثير الشك حول توافره ولكن لا يشترط أن ينص على القصد في الحكم بعبارة صريحة مستقلة بل يكفي أن يكون مستفاداً من ظروف الواقعة المبينة به أن الجاني ارتكب الفعل المكون للجريمة عن عمد وبنية حرمان المجني عليه من الشيء المسلم إضراراً به »والقول بتوافر القصد الجنائي أو انتفائه يدخل في نطاق سلطة قاضي الموضوع فلا يخضع فيه لرقابة محكمة النقض.(شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتور/ محمود نجيب حسني، دار النهضة العربية، الصفحة: 1269)
من هذا النص يمكن أن نستخلص تعريفاً لخيانة الأمانة بأنها اختلاس أو استعمال أو تبديد مال منقول مملوك للغير سلم إلى الجاني بناء على عقد من عقود الأمانة المحددة حصراً وذلك إضراراً بمالكه أو صاحبه أو واضع اليد عليه مع توافر القصد الجنائي.
تحديد أركان الجريمة :
من التعريف السابق لخيانة الأمانة يمكن أن نستخلص لها أركاناً أربعة :
الركن الأول : محل الجريمة وهو المال المنقول المملوك للغير المسلم إلى الجاني بناء على أحد عقود محددة.
الركن الثاني : الركن المادي ويتخذ صورة اختلاس أو استعمال أو تبديد محل الجريمة.
الركن الثالث : الإضرار بمالك الشيء أو صاحبه أو واضع اليد عليه.
الركن الرابع : الركن المعنوي ويتخذ صورة القصد الجنائي.
وسوف نبحث كل ركن من هذه الأركان في فصل ونخصص فصلاً أخيراً لدراسة تمام الجريمة والعقاب عليها.
محل الجريمة
تحديد محل الجريمة :
يتضح من نص المادة 341 الخاص بجريمة خيانة الأمانة أن محل هذه الجريمة يجب أن يتحقق فيه أمور ثلاثة :
أولاً : أن يكون مالاً منقولاً مملوكاً للغير.
ثانياً : أن يكون المنقول المملوك للغير قد سلم إلى الجاني قبل وقوع الجريمة.
ثالثاً : أن يكون التسليم قد تم بناء على عقد من عقود الأمانة التي حددها النص على سبيل الحصر.
أن يكون محل الجريمة مالاً منقولاً :
ما يجب أن يكون محل الجريمة مالاً أو شيئاً يمكن أن يكون محلًا بر الحق من الحقوق المالية بأن يكون قابلاً للتملك وله قيمة ويستوي أن تكون قيمة كبيرة أو ضئيلة مادية أو معنوية كخطابات عائلية أو غرامية أو صور تذكارية وقد قضى تطبيقاً لذلك بأن جريمة خيانة الأمانة تقوم ولو كان محلها عقداً مجرداً من القيمة المادية أو القانونية مادامت له قيمة لدى صاحبه .
ويجب أن يكون محل الجريمة مالاً منقولاً فلا تقع جريمة خيانة الأمانة على عقار وبناء على ذلك فإنه إذا تصرف المستأجر في العقار المؤجر له لا تقع بفعله جريمة خيانة الأمانة وإن كان يمكن أن يسأل عن جريمة نصب إذا توافرت شروطها.
ويستند اشتراط كون محل الجريمة منقولاً إلى نص المادة 341 التي ضربت أمثلة للأشياء التي تقع عليها الجريمة وكلها أشياء منقولة فذكرت « مبالغ أو أمتعة أو بضائع أو نقوداً أو تذاكر أو كتابات أخرى مشتملة على تمسك أو مخالصة أو غير ذلك » ويفسر موقف المشرع من قصر وقوع جريمة خيانة الأمانة على المنقول دون العقار اكتفاؤه بالنسبة للعقار بما لصاحبه من حق في تتبعه في أي يد يكون .
يقتضى شرط المال المنقول أن يكون لمديل الجريمة كيان مادي وقابل للحيازة ويترتب على ذلك ألا تصاح الحقوق محلاً لخيانة الأمانة وإن كانت الأوراق التي تثبت هذه الحقوق تصلح محلاً لها ويستوي في حيازة المال أن تكون مشروعة أو غير مشروعة فمن ائتمن على مادة مخدرة أو سلاح غير مرخص فبدده اعتبر خائناً للأمانة .
أن يكون المنقول مملوكاً للغير :
لا تقع جريمة خيانة الأمانة إلا على مال مملوك لغير الجاني .
ويلاحظ أن انتفاء وقوع الجريمة لكون المتهم مالكاً للشيء يفترض أن تكون ملكية الشيء خالصة له فإن كان له شريك فيها اعتبر فعله حينئذ اعتداء على حق الغير في ملكية الشيء فتقع الجريمة.
وإذا ثبتت ملكية الغير للمال تقع جريمة خيانة الأمانة سواء كان المالك معلوماً أو مجهولاً معيناً أو غير معين وعلى ذلك فإذا جمع شخص بعض التبرعات لحساب جماعة معينة ثم بدد هذه التبرعات أو بعضها تقع بفعله جريمة خيانة الأمانة على الرغم من كون المالك غير معين بالذات .
سبق تسليم المال إلى الجاني:
يجب أن يكون المال قد سبق تسليمه إلى الجاني ويتضح بهذا الشرط مدى الاختلاف البين بين التسليم في كل من جريمة السرقة وجريمة النصب وجريمة خيانة الأمانة فبينما يكون توافره مانعاً من قيام السرقة فإنه يكون عنصر النتيجة في جريمة النصب ويعتبر عنصراً لابد من توافره لقيام جريمة خيانة الأمانة فتنتفي خيانة الأمانة بانتفاء التسليم .
وبناء على ذلك لا تقع الجريمة من الناشر الذي يذكر للمؤلف عدداً من النسخ أقل مما طبعه ليستولی لنفسه على الفرق بين العددين لانتفاء وقوع التسليم السابق كذلك لا يرتكب خيانة الأمانة المدين الذي يدفع جزءاً من الدين ويتعهد الدائن بدفع الباقي سداداً لبعض حساباته ثم لا يفي بهذا الالتزام .
والتسليم يكون عادة من المجني عليه إلى الجاني ولكن قد يقوم به شخص آخر غير المجنى عليه فالوكيل كما يرتكب جريمة خيانة الأمانة إذا بدد الأموال التي تسلمها من الموكل نفسه فإنه يرتكبها إذا اختلس الأموال التي يتسلمها من العملاء لحساب الموكل فيستوي في وقوع الجريمة أن يكون تسليم المال إلى الجاني من المجني عليه نفسه أو من غيره كذلك يستوي في وقوعها أن يكون تسليم المال إلى الجاني نفسه أو إلى من ينوب عنه كوكيله أو خادمه أو شريكه.
والتسليم قد يكون حقيقياً أي عن طريق مادي بالمناولة يداً بيد وقد يكون اعتباراً وذلك بتغير صفة الحائز مثال ذلك البائع الذي يبيع منقولاً معيناً بذاته ولا يتسلم المشتري الشيء المبيع ولكنه يتركه على سبيل الوديعة لدى البائع .
نقل الحيازة الناقصة إلى الجاني :
يجب أن يكون التسليم بقصد نقل حيازة الشيء الناقصة أو المؤقتة إلى الجاني بحيث يكون متسلم الشیء ملتزماً برده إلى صاحبه وهذا الشرط مستخلص من طبيعة العقود التي نصت عليها المادة 341 على سبيل الحصر فكلها عقود يترتب عليها نقل الحيازة الناقصة فحسب ويترتب على ذلك أن المسلم لا يرتكب جريمة خيانة الأمانة إذا كان التسليم بقصد نقل الحيازة الكاملة أي بقصد نقل ملكية الشيء إليه ولو كان ذلك بناء على عقد من عقود الأمانة فالوكيل الذي يقبض الأجر دون أن يؤدي عمله لا يرتكب جريمة خيانة الأمانة إذا تصرف في هذا الأجر والصانع الذي تسلم أجره مقدماً لا يرتكب جريمة خيانة الأمانة إذا تصرف في هذا الأجر ولو كان الاتفاق على أن يشتري منه المواد التي سيتولى صناعتها فلم ينفذ هذا الاتفاق إذ أن النقود قد سلمت إليه بقصد نقل الملكية كذلك لا تقع جريمة خيانة الأمانة ممن سلم إليه الشيء لمجرد وضع يده العارضة عليه فاختلسه وإنما تقوم بفعله جريمة السرقة على النحو الذي تقدم بيانه.
حصر عقود الأمانه :
عقد الوديعة :
تعرف المادة 718 من القانون المدني الوديعة بأنها : « عقد يلتزم به شخص أن يتسلم شيئاً من آخر على أن يتولى حفظ هذا الشيء وعلى أن يرده عيناً »
ويتضح من هذا التعريف أنه يشترط لوجود عند الوديعة أمران : الأول : أن يكون الشیء قد سلم إلى المودع لديه بقصد حفظه أي بقصد تقل حيازته المؤقتة إليه ويترتب على ذلك أنه إذا كان المال لم يسلم إليه لحفظه وإنما لمجرد معاينته تحت إشراف صاحبه ورده في الحال فلا نكون بصدد عقد وديعة فإذا اختلس المتهم المال عن فعله سرقة لا خيانة أمانة.
الثاني : أن يكون الاتفاق قد تم بين المتعاقدين على أن يرد المودع لديه الشي ذاته ، سواء أكان هذا الشيء قيمياً أو مثلياً.
ولا صعوبة في الأمر إذا كان الشيء المودع من الأشياء القيمية فهذه الأشياء معينة بذاتها ولا يقوم بعضها مقام بعض فإذا لم يردها المودع لديه بذاتها اعتبر خائناً للأمانة ولو رد شيئاً يساويها في القيمة ولا ينفي قیام عقد الوديعة أن يكون المودع قد اشترط على المودع لديه أن يرد قيمة الشيء في حالة فقده إذ أن ذلك يعني أن الرد يكون عيناً مادام الشیء موجوداً .
أما الأشياء المثلية كالنقود والغلال فالحكم بالنسبة إليها يتوقف على إرادة المتعاقدين : فإذا كان الاتفاق بين المتعاقدين على رد الشيء المثلي نفسه تقع الجريمة إذا تصرف فيه المودع لديه مثال ذلك الأسهم والسندات غير الاسمية إذ يجب على المودع لديه أن يردها بذاتها كذلك قد يكون الشيء المثلي مبلغاً من النقود الورقية أو المعدنية فالأصل أن المودع لديه يلتزم بردها بذاتها ولكن إذا لم يكن لهذه النقود بالذات قيمة معينة لدى صاحبها كما لو كانت لها قيمة تذكارية خاصة لديه فإن الجريمة لا تقع إذا تصرف فيها المودع لديه طالما أنه كان يحتفظ لديه بكمية من النقود تعادلها في القيمة وردها عند طلبها.
أما إذا كان المودع قد أجاز للمودع لديه صراحة أو ضمناً التصرف في الشيء على أن يرد قيمته أو ما يماثله فإن العقد عندئذ يصبح عقد قرض وينتفي عنه تكييف الوديعة .
الإيجار :
الإيجار عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم (المادة 558 من القانون المدنی) وتعتبر الأجرة ركناً من أركان عقد الإيجار سواء كانت محددة أو غير محددة مادام هناك اتفاق عليها وهي التي تميزه عن عارية الاستعمال التي تكون بغير مقابل ويستوي أن يكون الشيء المؤجر عقاراً أو منقولاً طالما أن الفعل المادي المكون لجريمة خيانة الأمانة قد وقع على منقول فمستأجر المسكن المفروش الذي يختلس شيئاً من المفروشات يعتبر خائناً للأمانة .
عارية الاستعمال :
تعرف المادة 653 من القانون المدني عارية الاستعمال بأنها « عقد يلتزم به المعير أن يسلم المستعير شيئاً غير قابل للاستهلاك ليستعمله بلا عوض لمدة معينة أو في غرض معين على أن يرده بعد الاستعمال » . وتتميز عارية الاستعمال عن عارية الاستهلاك بأن الأولى ترد على شيء غير قابل للاستهلاك ولذلك يلتزم المستعير برده عيناً أما عارية الاستهلاك فهي ترد على شيء مما يهلك بالاستعمال ولذلك يلتزم المستعير برد شيء مثل الذي اقترضه .
اولاً: ينطبق نص المادة 341 إلا على التصرف في شيء سلم بناء على عارية الاستعمال فإذا كان قد سلم بناء على عقد قرض أي عارية استهلاك فلا تقع الجريمة باستهلاك الشيء ولو لم يرد المقترض مثله عند نهاية القرض بل ولو كان سيء النية ينوي عدم الرد منذ وقت التعاقد.
ولا يشترط أن يكون الشيء موضوع عارية الاستعمال غير قابل للاستهلاك بطبيعته بل يكفي أن تكون إرادة المتعاقدين قد انصرفت إلى رد الشيء بذاته ولو كان بحسب طبيعته مثلياً أي قابلاً للاستهلاك كأن يستعير شخص حبوباً من نوع ممتاز لعرضها ثم ردها بعد انتهاء العرض .
الرهن :
الرهن المقصود في نص المادة 341 من قانون العقوبات هو الرهن الحيازي دون الرهن الرسمى والرهن الحيازي قد يقع على عقار وقد يقع على منقول ويتضمن نقل حيازة الشيء المؤقتة إلى الدائن المرتهن أما الرهن الرسمي فهو يقع على العقار دون المنفول وتظل حيازة المرهون للراهن فلا تنتقل إلى الدائن المرتهن .
ويلتزم الدائن المرتهن في الرهن الحيازي برد الشيء المرهون إلى الراهن بعد أن يستوفی کامل حقه (المادة 1107 من القانون المدنی) وبناء على ذلك فإنه إذا تصرف الدائن المرتهن في الشيء المرهون بأن باعه أو عرضه للبيع أو رهنه بإسمه لشخص ثالث عد فعله خيانة أمانة ويقرر القانون المدني استثناء للدائن إذا لم يستوف حقه أن يطلب من القاضي الترخيص له في بيع الشيء المرهون بالمزاد العلني أو في البورصة أو السوق كما يجوز له أيضاً أن يطلب من القاضي أن يأمر بتمليكه الشيء وفاء للدين على أن يحسب عليه بقيمته بحسب تقدير الخبراء (م 1121 مدني).
الوكالة :
عرف القانون المدني في المادة 999 الوكالة بأنها : « عقد بمقتضاه يلتزم الوكيل بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل » فإذا اختلس الوكيل أو بدد الأشياء أو المبالغ المسلمة إليه بمقتضی عقد الوكالة عد مرتكباً لجريمة خيانة الأمانة.
ولا يعاقب المشرع الوكيل بنص المادة 341 عن أي إخلال بالتزام من الإلتزامات الناشئة عن عقد الوكالة وإنما الذي يعني القانون الجنائي هو إخلال الوكيل بالتزامه بتقديم المال الذي تحت يده بحكم الوكالة فحسب أما باقي التزامات الوكيل فلا يترتب على الإخلال بها غير المسئولية المدنية ويستوي عند تطبيق المادة 341 أن تكون الوكالة تبرعية أو بأجر .
وخيانة الأمانة من الوكيل هي أكثر صور خيانة الأمانة وقوعاً فی العمل فيعتبر خائناً للأمانة الوكيل الذي يبدد الشيء الذي سلم إليه لبيعه الحساب الموكل أو ثمن هذا الشيء بعد بيعه أو الأموال التي حصلها من الغير - كالمستأجرين - لحساب الموكل كذلك يرتكب جريمة خيانة الأمانة الوكيل الذي يعهد إليه الموكل ببيع شیء فيبيعه بأكثر من ثمن المثل ويحتفط بالفرق بين الثمنين لنفسه ولو كان المشتري قد دفع المبلغ الزائد لمصلحة الوكيل شخصياً أو الذي يسلمه الموكل مبلغاً لشراء شیء فيشتريه بثمن أقل ويستولى على الفرق بل إن الوكيل يعتبر خائناً للأمانة إذا اختلس أو بدد مبلغاً دفع إليه لحساب الموكل ولو كان غير مستحق له.
ويعتبر الوكيل بالعمولة وكيلاً فيرتكب جريمة خيانة الأمانة إذا اختلس لنفسه الأشياء المسلمة ولم يسدد ثمنها عند مطالبته به.
كذلك اعتبر القضاء الشريك وكيلاً عن باقي الشركاء بالنسبة الأموال الشركة المسلمة إليه بصفته شريكاً فإذا أبي ردها إليهم اعتبر مبدداً .
وقد حكم باعتبار الشريك في استغلال مطحن مبدداً لاختلاسه بعض المال المشترك كذلك اعتبر مبدداً الشريك في استغلال حديقة وورشة طوب ولو كان التبديد قد حدث في فترة التصفية.
الركن المادي :
صور الركن المادي :
عبر المشرع عن الركن المادي في جريمة خيانة الأمانة في المادة 341 بقوله : « كل من اختلس أو استعمل أو بدد .. إلخ » . ويتبين من هذه العبارة أن الركن المادي يتخذ في خيانة الأمانة إحدى صور ثلاثة :
الاختلاس :
يقصد بالاختلاس كل فعل يعبر به الأمين عن إضافته الشیء إلى ملكه دون أن يخرج من حيازته فقد سبق القول بأن الشیء یکون فی الحيازة الناقصة للأمين فإذا قام بفعل يدل على أنه قد غير حيازته للشيء من ناقصة إلى كاملة منكراً بذلك حق مالكه عليه دون أن يخرجه من حيازته عد فعله اختلاساً مثال ذلك من اؤتمن على حلية فأخذ منها جوهرة جمل بها خاتمه أو عهد إليه بقطعة قماش فصنع منها بذلة لنفسه أو أؤتمن علی ملابس لكيها أو على ساعة ليصلحها فرفض ردها أو عرضها للبيع أو أدعي سرقتها.
التبديد :
يقصد بالتبديد كل فعل يخرج به الأمين الشيء المسلم إليه من حيازته باعتباره مالكا له كأن يكون موضوع عقد الأمانة نقوداً فيصرفها أو طعاماً فيأكله أو ساعة فيتصرف فيها بالبيع أو الهبة أو الرهن.
ويتضح من هذا التحديد أن التبديد يتضمن الاختلاس ويزيد عليه فإخراج الشيء من حيازة الأمين نهائياً يتضمن أولاً أنه قد غير نيته عليه من نية الحيازة الناقصة إلى نية الحيازة الكاملة أي التملك – وهذا هو الاختلاس - ثم أضاف إلى ذلك إخراج الشيء من حيازته نهائياً مما يحول دون إمكانه رد الشيء إلى صاحبه ولذلك كان يكفي أن ينص المشرع على الاختلاس مادام لفظ التبديد لا يضيف جديداً إلى النص.
ويلاحظ أن إخراج الشيء من حيازة الأمين لا يكفي وحده لتوافر التبديد وإنما يجب أن يكون ذلك مصحوباً بنية التصرف فيه تصرف المالك ويترتب على ذلك أنه لا يعد تبديداً مجرد تسليم الأمين الشيء المؤتمن عليه إلى غيره ما لم يثبت أنه قصد من وراء ذلك التصرف فيه.
ويعتبر إتلاف الشيء المسلم على سبيل الأمانة تبديداً مادام الأمين قد تعمد ذلك إذ أنه يدل بفعله على أنه يتصرف في الشيء باعتباره مالكاً.
الاستعمال :
أثار النص على الاستعمال كصورة من صور الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة بعض اللبس والتساؤل ومثار التساؤل أن هذا اللفظ لا يحتمل إلا أحد معنيين.
إما المعنى العادي للاستعمال وهو مجرد الانتفاع بالشيء دون نية تملكه والأخذ بهذا المعنى في مجال خيانة الأمانة يعني توقيع عقوبتها على الأمين الذي يستعمل المال المؤتمن عليه وهو أمر غير مقبول لتعارضه مع الأساس الذي يستند إليه العقاب في جرائم الاعتداء على الأموال وهو حماية حق الملكية بينما لا يمثل استعمال الشيء اعتداء عليها.
وإما أن يقصد بالاستعمال الاستعمال المصحوب بنية التملك والأخذ بهذا المعنى يعتبر تزيداً من المشرع إذ يعتبر داخلاً في نطاق الاختلاس أو التبديد.
ولعل المقصود من النص هو نوع معين من الاستعمال تنتهك به الملكية ويثير إدراجه تحت لفظ الاختلاس أو التبديد بعض التردد ولذلك أراد المشرع بذلك أن يحسم الأمر ويعتبر مثل هذا النوع الخاص من الاستعمال بمثابة اعتداء على الملكية جرمه في صورة خيانة الأمانة باعتبار أن الشيء يكون في الحيازة الناقصة لمن يستعمله من ذلك أن يسلم مؤلف أصل مؤلفه إلى ناشر ليتولى طبع عدد معين من النسخ فيطبع سراً عدد أكبر من العدد المتفق عليه ويستولي على ثمن الفرق بين النسخ أو أن يسلم مهندس رسمه الهندسي إلى مقاول لتنفيذه فيصوره ويبيع هذه الصور دون علم صاحب الرسم أو أن يستعمل الوكيل النقود المؤتمن عليها بمقتضى عقد الوكالة على أمل تمكنه من الرد عند المطالبة أو حلول الأجل ثم يتعذر الرد في ذلك الوقت كذلك يصلح النص لتوقيع العقاب في الحالة التي يسيء فيها الأمين استعمال الشيء المؤتمن علیه عمداً إذ يصبح ذلك منه بمثابة الإتلاف.
ركن الضرر
تحديد المقصود بالضرر :
عبر المشرع عن ركن الضرر في المادة 341 من قانون العقوبات بقوله : « كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو ... إضراراً بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها ... إلخ » . فلا يكتفي المشرع بوقوع الفعل المادي المكون للجريمة ، ولا أن يقع على شيء منقول مملوك للغير وإنما يجب أن يرتكب الفعل إضراراً بالمجني عليه .
ويستوي في الضرر أن يكون مادياً أو معنوياً .
كذلك يستوي أن يكون الضرر فادحاً أو أن يكون ضرراً يسيراً وسواء حقق المتهم فائدة أو لم يحقق بل إن الجريمة تقع ولو كان الضرر قد حاق بكل من المجني عليه والجاني كما إذا أؤتمن شخص على مبلغ من النقود فلعب به القمار وخسره.
والبحث في حصول الضرر أو عدم حصوله مسألة موضوعية يفصل فيها نهائياً قاضي الموضوع ولا يدخل حكمه في ذلك تحت رقابة محكمة النقض.
تحديد المضرور من الجريمة :
حرص المشرع على أن يمد نطاق العقاب إلى الحالات التي يكون المال قد سلم فيها إلى الجاني من شخص آخر غير المالك ولذلك نص على توقيع العقاب إذا وقعت الجريمة على الأشياء المسلمة « إضراراً بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها » ولفظ « أصحابها » لفظ غير دقيق إذا يقصد به المشرع لفظ « حائزیها » فتقع جريمة خيانة الأمانة سواء نال الضرر مالك الشيء أو حائزه أو واضع اليد عليه وعلى ذلك تقع الجريمة إذا بدد المستأجر المال المسلم إليه من المودع لديه فهنا تقع الجريمة إضراراً بالمودع لديه وهو حائز الشيء وليس مالكه كذلك تقع الجريمة ممن يبدد شيئاً استعاره من الخادم لاستعماله فهنا يقع الفعل إضراراً بالخادم وهو مجرد واضع يد على الشيء الذي يملکه سیده.
وليس بشرط لتحقق ركن الضرر أن يكون المضرور معيناً فتقع الجريمة بمجرد كون الأمين غير مالك للأشياء التي اختلسها إضراراً بمن ائتمنه عليها وعلى ذلك تقع الجريمة إذا جمع شخص تبرعات لمساعدة منكوبي إحدى الكوارث ثم بدد هذه الأموال قبل تحديد مستحقيها كذلك تقع بتبديد الأمين مالاً مفقوداً أودع لديه.
جريمة خيانة الأمانة جريمة عمدية فالركن المعنوي فيها يتخذ صورة القصد الجنائي ولا يكفي لتحقق هذا الركن أن يتوافر القصد العام وإنما يجب أن يتحقق إلى جانب ذلك القصد الخاص.
القصد العام :
يقوم القصد العام على العلم والإرادة فيجب أن يتوافر لدى الجاني العلم المحيط بعناصر الجريمة وأن تتجه إرادته إلى ارتكاب الفعل المكون لها و إلى تحقيق نتيجته.
العلم :
يجب أن ينصرف علم الجاني وقت ارتكاب فعل الاختلاس أو الاستعمال أو التبديد إلى أن فعله يقع على شيء مملوك للغير فإذا كان يعتقد حينئذ أنه يتصرف في مال مملوك له لا تقع بفعله الجريمة فلا يرتكب جريمة خيانة الأمانة من يتصرف في مال كان مودعاً لدى مورثه اعتقاداً منه بأنه كان مملوكاً لمورثه وأنه قد آلت إليه ملكيته بالميراث.
ويجب أن ينصرف علمه إلى أن الشيء الذي يتصرف فيه موجود في حيازته الناقصة وأنه قد سلم إليه بناء على عقد من عقود الأمانة فإذا كان يعتقد أنه يتصرف في مال انتقلت إليه حيازته الكاملة عن طريق عقد نقل إليه الملكية كما إذا اعتقد المودع لديه أنه قد تسلم المال على سبيل الهبة أو القرض فإنه لا يسأل عن جريمة خيانة الأمانة.
ويجب أن يعلم بأن من شأن فعله الإضرار بالمجني عليه ضرراً محققاً أو محتملاً فمجرد توقع الضرر يكفي لتوافر القصد الجنائي ولو لم تتجه نية الجاني إليه أي أنه يشترط العلم بالضرر أو توقعه دون اشتراط نية الإضرار.
الإرادة :
يجب أن تتجه إرادة الجاني إلى القيام بفعل الاختلاس أو الاستعمال أو التبديد فإذا لم تتجه إرادة المتهم إلى ذلك وإنما هلك المال نتيجة إهمال وعدم احتياط انتفت الجريمة لانتفاء القصد الجنائي إذ لا يكفي لقيامها توافر الخطأ كذلك يجب أن تتجه إرادة الجاني إلى الإضرار بالمجنى عليه ويعدل هذه الإرادة مجرد قبول الجاني احتمال وقوع الضرر بالمجني عليه.
القصد الخاص :
لا يكفى لقيام جريمة خيانة الأمانة أن يتوافر القصد العام وإنما يجب أن يتحقق إلى جانبه قصد خاص يتمثل في نية التملك ويقصد بذلك أن تتجه نية الجاني إلى تغيير حيازته من حيازة ناقصة إلى حيازة كاملة مع إنكار حق صاحبه عليه أي إنصراف نية الجاني إلى إضافته إلى ملكه واختلاسه لنفسه فإذا انتفت هذه النية لا تقوم الجريمة لانتفاء القصد مهما أخل الجاني بالإلتزامات الناشئة عن عقد الأمانة.
إثبات القصد :
يخضع إثبات القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة للقواعد العامة في الإثبات في المواد الجنائية وإن كان يثير أحياناً بعض الصعوبات ويستخلص قاضي الموضوع توافر القصد من فعل الجاني فهو يتحقق كما قضت محكمة النقض بتصرف الحائز فى المال المسلم إليه على سبيل الأمانة بنية إضاعته على ربه ولو كان هذا التصرف بتغيير حيازته الناقصة إلى ملكية كاملة مع بقاء عين ما تسلمه تحت يده وقد يكون فعل الجاني إلا بذاته على قيام القصد وأوضح ما يكون ذلك عندما يتخذ الفعل صورة التبديد إذ يعتبر التصرف في الشيء بالبيع أو الهبة أو المقايضة كافياً للقول بتوافر القصد.
أما إذا لم يصدر من الجاني فعل يدل على قيام القصد فلا يجوز استنتاج وجوده من مجرد تسليم الأشياء إلى الأمين و عدم رده لها .
ويلاحظ أن الجريمة لا تقع على الرغم من امتناع الأمين عن الرد إذا و كان يستند في امتناعه إلى سبب مشروع كحق الحبس الذي تقرره له المادة 246 من القانون المدني التي تجيز له الامتناع عن الرد حتى يستوفي ما أنفقه على الشيء وكوجود المقاصة إذا توافرت شروطها .
وبديهي أن القصد الجنائي يجب أن يكون معاصراً لفعل الاختلاس أو الاستعمال أو التبديد ولا يشترط لبيان القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة أن يتحدث عنه الحكم بعبارة صريحة مستقلة بل يكفي أن يكون مستفاداً من ظروف الواقعة أن الجاني قد ارتكب الفعل المكون للرجريمة عن عمد وبنية وحرمان المجني عليه من الشيء المسلم إضراراً به.
تمام الجريمة :
جريمة خيانة الأمانة جريمة وقتية فهي تتم وتنتهي بمجرد توافر الأركان السابق تحديدها فلا يشترط لقيامها حصول المطالبة برد الأمانة المدعي بتبديدها وإنما تتحقق - كما ذكرت محكمة النقض - بكل فعل يدل على أن الأمين اعتبر المال الذي أؤتمن عليه مملوكاً له يتصرف فيه تصرف المالك ولا يشترط لتحققها خروج المال بالفعل من حيازة الأمين بناء على التصرف الذي أوقعه فالجريمة تتم بمجرد تغيير نية الحيازة ويبدأ منذ هذا الوقت التقادم المسقط للدعوى الجنائية ولا قيمة لاستمرار بقاء الشيء المختلس في حيازة الخائن إذ لا يعدو ذلك أن يكون أثراً من آثار الجريمة.
والعبرة في تحديد تاريخ وقوع الجريمة هي بالتاريخ الفعلي للتبديد أو الاستعمال أو الاختلاس فإذا لم يكن هذا التاريخ معروفاً لاسيما وأن الاختلاس يتم بمجرد تغيير الأمين حيازته للشيء من الحيازة الناقصة إلى الحيازة الكاملة بنية التملك دون أن يكون هناك عمل مادي ظاهر يدل على هذه النية أعتير تاريخ وقوع الجريمة هو تاريخ امتناع الأمين عن رد الأمانة أو عجزه عن ردها بعد مطالبته بذلك.
العقوبة :
يقرر المشرع الجريمة خيانة الأمانة عقوبة الحبس ويجوز أن يزاد عليه غرامة لا تتجاوز مائة جنيه مصري كذلك يجوز تشديد العقوبة في حالة العود ولم ينص المشرع على جواز توقيع عقوبة مراقبة البوليس في حالة العود كما فعل بالنسبة لكل من جريمتي السرقة والنصب فلا يجوز القياس عليها فمراقبة البوليس عقوبة تكميلية لا يجوز الحكم بها إلا حيث ينص عليها القانون.(شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، الدكتورة/ فوزية عبد الستار، الطبعة الرابعة 2017 دار النهضة العربية، الصفحة: 992)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحات: 286 ، 287
(مادة 587)
يعاقب بالحبس كل من أعطى بسوء نية شيكاً ليس له مقابل وفاء كاف وقائم وقابل للصرف ، أو إذا إسترد بعد إعطائه كل المقابل أو بعضه ، بحيث لا يفي الباقي بقيمته ، أو أمر المسحوب عليه بعدم صرفه ، أو كان قد تعمد تحريره أو توقيعه بصورة تمنع من صرفه .
ويعاقب بذات العقوبة من ظهر لغيره شیكاً أو سلمه إليه ، وهو يعلم بعدم وجود مقابل يفي بقيمته ، أو أنه غير قابل للصرف .
ويعاقب أيضاً بذات العقوبة أو بغرامة لا تجاوز ثلاثمائة جنيه من يحمل غيره على أن يعطيه أو يظهر له أو يسلمه شیكاً ، وهو يعلم عدم وجود مقابل له يفي بقيمته ، أو أنه غير قابل للصرف .
ويجوز في الحالة الأخيرة إعفاء من أعطى الشيك أو ظهره أو سلمه من العقوبة، إذا رأت المحكمة محلاً لذلك.
(مادة 588)
يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين المسحوب عليه الشيك ، إذا قرر عمداً وعلى خلاف الحقيقة عدم وجود رصيد قابل للصرف ، أو وجود رصيد أقل من القائم لديه فعلاً .
(مادة 589)
تسري أحكام المادتين السابقتين على الشيكات البريدية .
(مادة 593)
يعاقب بالحبس كل من حاز مالاً منقولاً مملوكاً لغيره بناء على عقد وديعة ، أو عارية أو إيجار ، أو رهن ، أو وكالة ، أو أي عقد آخر يلزمه بالمحافظة على المال ورده عيناً ، أو بإستعماله في أمر معين لمنفعة مالكه أو غيره ، أو حازه بناء على نص في القانون أو حكم قضائي ، استولى عليه بنفسه ، أو تصرف فيه كمالك له أو أتلفه عمداً .
ويعتبر في حكم المال المنقول السندات المثبتة لحق أو المبرئة للذمة من حق، وكذلك الأوراق المثبتة لحالة قانونية أو إجتماعية ، والأوراق ذات القيمة الإعتبارية أو الأدبية .
ويعتبر في حكم الوكيل الشريك الحائز للمال المشترك ، والفضولي الحائز لمال غيره .
ولا يبدأ سريان تقادم الدعوى الجنائية في هذه الجريمة ، إلا من تاريخ علم المجني عليه بالواقعة وبمرتكبها ، ما لم يبدأ التحقيق فيها قبل ذلك .
(مادة 594)
يسرى حكم المادة (584) من هذا القانون على الجرائم المنصوص عليها في المادة السابقة .
خيانة الأمانة
المادتان (593) ، (594) :
تقابل المادة (593) من المشروع في عمومها المادة (341) من القانون القائم بعد ضبط صياغتها وإضافة أحكام مستحدثة إليها على ما سوف يجيء بعد :
1- المادة (593) من المشروع تتضمن فوق الحالات التي يشملها نص المادة (341) من القانون القائم ، وهي تتطلب أن يكون تسليم المال بناء على عقد من عقود الأمانة الواردة حصراً ، أضافت إليها المادة من المشروع كافة صور حيازة المنقول بناء على أي عقد يلزم الحائز بالمحافظة على المنقول ورده عيناً ، أو كانت حيازته له بناء على سند من نص القانون أو حكم قضائي متى استولى عليه أو تصرف فيه كمالك ، وأضافت إلى ذلك أيضاً القيام بإتلاف هذا المنقول عمداً ، وهي صورة إختلف الفقه في إعتبارها من صور التبديد ما بين معتبر لها من صوره وما بين مستبعد لها من هذا النطاق ، فحسم المشروع هذه الصورة ، وإنحاز إلى جانب من ارتأى من الفقه أنه من صور التبديد .
وفي بيان ما يعتبر مالاً منقولاً بين المشروع ما يعتبر كذلك في عبارات واضحة بعيدة عن الغموض واللبس ، إذ إعتبر في حكم المال المنقول المستندات المثبتة لحق أو المبرئة للذمة من حق كذلك الأوراق المثبتة لحالة قانونية أو إجتماعية ، والأوراق ذات القيمة الإعتبارية والأدبية .
هذا وإعتبر المشروع في الفقرة الثالثة من المادة الشريك في المال المشترك في حكم الوكيل ، وبداهة أنه يشترط أن يكون حائزاً لهذا المال بوصفه شریكاً ، فيه وهو ما يفصح عنه النص صراحة، كما يعتبر كذلك أيضاً الفضولي الحائز لمال غيره .
وإذا كان القضاء ويسايره في ذلك الفقه - نزولاً على القواعد العامة في تقادم الجريمة - يحتسب مدة تقادم جريمة خيانة الأمانة تبدأ من يوم وقوع الجريمة ، إلا أنه بالنظر إلى إرتباط الجاني في الغالب بالمجني عليه بعلاقة تمكنه في معظم الأحوال من إخفاء جريمته - فقد حسم المشروع الأمر ، فاستحدث في الفقرة الأخيرة من المادة (593) من المشروع نصاً يقضي بتراخي سريان التقادم إلى اليوم الذي يعلم فيه المجني عليه بالواقعة ومرتكبها - ما لم يبدأ التحقيق فيها قبل ذلك - ومن ثم يكون أي الأمرين المذكورين يحدث أولاً- مجرياً السريان تقادم الدعوى الجنائية في الجريمة .
2- المادة (594) من المشروع نصت صراحة على سريان حكم القيد الوارد في المادة (584) من المشروع على جرائم المادة السابقة.
هذا وقد استتبع تبويب هذا الفصل إستبعاد الجرائم التي كانت لا تدخل في عداد خيانة الأمانة ، كإختلاس المنقولات المحجوز لدى مالكها لتعيينه حارساً عليها إلى الموضع المناسب لها من المشروع، وكذلك الأمر بالنسبة لإختلاس الخصم لما سلمه إلى المحكمة أثناء التحقيق من سندات أو أوراق .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس ، الصفحة / 236
أَوَّلاً: الأْمَانَةُ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الَّذِي يُوجَدُ عِنْدَ الأْمِينِ:
لِلأْمَانَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى عِدَّةُ أَحْكَامٍ إِجْمَالُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - الأْصْلُ إِبَاحَةُ أَخْذِ الْوَدِيعَةِ وَاللُّقَطَةِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ الأْخْذُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْحِفْظِ وَالأْدَاءِ، لقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).
وَقَدْ يَعْرِضُ الْوُجُوبُ لِمَنْ يَثِقُ فِي أَمَانَةِ نَفْسِهِ وَخِيفَ عَلَى اللُّقَطَةِ أَخْذُ خَائِنٍ لَهَا، وَعَلَى الْوَدِيعَةِ مِنَ الْهَلاَكِ أَوِ الْفَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ الإْيدَاعِ، لأِنَّ مَالَ الْغَيْرِ وَاجِبُ الْحِفْظِ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « حُرْمَةُ مَالِ الْمُؤْمِنِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ ».
وَقَدْ يَحْرُمُ الأْخْذُ لِمَنْ يَعْجِزُ عَنِ الْحِفْظِ، أَوْ لاَ يَثِقُ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضُ الْمَالِ لِلْهَلاَكِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي الْوَدِيعَةِ وَاللُّقَطَةِ.
ب - وُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الأْمَانَةِ عَامَّةً، وَدِيعَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: حِفْظُ الأْمَانَةِ يُوجِبُ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ، وَالْخِيَانَةُ تُوجِبُ الشَّقَاءَ فِيهِمَا، وَالْحِفْظُ يَكُونُ بِحَسَبِ كُلِّ أَمَانَةٍ، فَالْوَدِيعَةُ مَثَلاً يَكُونُ حِفْظُهَا بِوَضْعِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا. وَالْعَارِيَةُ وَالشَّيْءُ الْمُسْتَأْجَرُ يَكُونُ حِفْظُهُمَا بِعَدَمِ التَّعَدِّي فِي الاِسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَبِعَدَمِ التَّفْرِيطِ. وَفِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ بِعَدَمِ مُخَالَفَةِ مَا أُذِنَ فِيهِ لِلْمُضَارِبِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَهَكَذَا.
ج - وُجُوبُ الرَّدِّ عِنْدَ الطَّلَبِ لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : « أَدِّ الأْمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ».
د - وُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْجُحُودِ أَوِ التَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ.
هـ - سُقُوطُ الضَّمَانِ إِذَا تَلِفَتِ الأْمَانَةُ دُونَ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْعَارِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَالْعَارِيَّةُ عِنْدَهُمْ مَضْمُونَةٌ.
و - التَّعْزِيرُ عَلَى تَرْكِ أَدَاءِ الأْمَانَاتِ كَالْوَدَائِعِ وَأَمْوَالِ الأْيْتَامِ وَغَلاَّتِ الْوُقُوفِ، وَمَا تَحْتَ أَيْدِي الْوُكَلاَءِ وَالْمُقَارَضِينَ وَشَبَهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ وَفُرُوعٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ (وَدِيعَة، وَلُقَطَة، وَعَارِيَّة، وَإِجَارَة، وَرَهْن، وَضَمَان، وَوَكَالَة).
ثَانِيًا: الأْمَانَةُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ:
3 -تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الأْمَانَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى لاِخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالاً فِيمَا يَأْتِي:
أ - بَيْعُ الأْمَانَةِ كَالْمُرَابَحَةِ، وَالْمُرَابَحَةُ تُعْتَبَرُ بَيْعَ أَمَانَةٍ، لأِنَّ الْمُشْتَرِيَ ائْتَمَنَ الْبَائِعَ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الثَّمَنِ الأْوَّلِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلاَ اسْتِحْلاَفٍ، فَتَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنِ الْخِيَانَةِ وَالتُّهْمَةِ، لأِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا ».
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فَفِي الْجُمْلَةِ يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَقِيلَ: بِحَطِّ الزِّيَادَةِ عَلَى أَصْلِ رَأْسِ الْمَالِ وَنِسْبَتِهَا مِنَ الرِّبْحِ مَعَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ.هَذَا مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ يُنْظَرُ فِي (بَيْع - مُرَابَحَة - تَوْلِيَة - اسْتِرْسَال).
ب - اعْتِبَارُ الأْمَانَةِ شَرْطًا فِيمَنْ تَكُونُ لَهُ وِلاَيَةٌ وَنَظَرٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ كَالْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، فَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ صِفَةَ الأْمَانَةِ فِي الْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَأَنَّهُ يُعْزَلُ لَوْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ، أَوْ يُضَمُّ إِلَيْهِ أَمِينٌ فِي بَعْضِ الأْحْوَالِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. كَذَلِكَ مَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ كَالْقَاضِي، فَالأْصْلُ اعْتِبَارُ الأْمَانَةِ فِيهِ.وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: قَضَاء، وَصِيّ).
ج - مَنْ يَتَرَتَّبُ عَلَى كَلاَمِهِ حُكْمٌ كَالشَّاهِدِ: فَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّاهِدِ الْعَدَالَةَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وقوله تعالى (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَقُّفِ عَنْ نَبَأِ الْفَاسِقِ، وَالشَّهَادَةُ نَبَأٌ فَيَجِبُ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَاعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْخِيَانَةَ مِنَ الْفِسْقِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : « لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ ».
د - الْحَلِفُ بِالأْمَانَةِ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِالأْمَانَةِ مَعَ إِضَافَتِهَا إِلَى اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ يَمِينًا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ.
أَمَّا الْحَلِفُ بِالأْمَانَةِ فَقَطْ دُونَ إِضَافَةٍ إِلَى لَفْظِ الْجَلاَلَةِ، فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ، فَإِنْ أَرَادَ بِالأْمَانَةِ صِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَالْحَلِفُ بِهَا يَمِينٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِالأْمَانَةِ مَا فِيقوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الأْمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ) أَيِ التَّكَالِيفَ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ. وَيَكُونُ الْحَلِفُ بِهَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ لأِنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَاسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ: « مَنْ حَلَفَ بِالأْمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا ».
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يَأْتِي ذِكْرُ الأْمَانَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأْبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ: كَالْبَيْعِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَالإْجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْوَقْفِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالأْيْمَانِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْقَضَاءِ. وَقَدْ سَبَقَتِ الإْشَارَةُ إِلَى ذِكْرِ ذَلِكَ إِجْمَالاً.
كَذَلِكَ يَأْتِي ذِكْرُ الأْمَانَةِ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ بِاعْتِبَارِهَا شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الْحَاضِنِ وَالْحَاضِنَةِ، وَفِي بَابِ الْحَجِّ فِي الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ بِالنِّسْبَةِ لِسَفَرِ الْمَرْأَةِ، وَفِي بَابِ الصِّيَامِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُخْبِرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / العشرون ، الصفحة / 185
الْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ:
فَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الْخَائِنِ وَالسَّارِقِ وَالْغَاصِبِ، بِأَنَّ الْخَائِنَ هُوَ الَّذِي خَانَ مَا جُعِلَ عَلَيْهِ أَمِينًا، وَالسَّارِقُ مَنْ أَخَذَ خِفْيَةً مِنْ مَوْضِعٍ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا قِيلَ كُلُّ سَارِقٍ خَائِنٌ دُونَ عَكْسٍ، وَالْغَاصِبُ مَنْ أَخَذَ جِهَارًا مُعْتَمِدًا عَلَى قُوَّتِهِ.
الأْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخِيَانَةِ:
خِيَانَةُ الأْمَانَةِ حَرَامٌ : لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ».
وَقَدْ عَدَّ الذَّهَبِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ، الْخِيَانَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ قَالَ: الْخِيَانَةُ قَبِيحَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ بَعْضٍ، إِذْ مَنْ خَانَكَ فِي فَلْسٍ لَيْسَ كَمَنْ خَانَكَ فِي أَهْلِكَ.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس والأربعون ، الصفحة / 5
وَكَالَة
التَّعْرِيفُ:
1- الْوَكَالَةُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ: الْحِفْظُ، وَمِنْهُ الْوَكِيلُ، فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْحَافِظِ، وَمِنْهُ التَّوَكُّلُ، يُقَالُ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، أَيْ فَوَّضْنَا أُمُورَنَا.
وَالتَّوْكِيلُ: تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إِلَى الْغَيْرِ، وَسُمِّيَ الْوَكِيلُ وَكِيلاً؛ لأِنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ الأْمْرُ .
وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ، «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
فَعَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: إِقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَ نَفْسِهِ - تَرَفُّهًا أَوْ عَجْزًا - فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: نِيَابَةُ ذِي حَقٍّ - غَيْرِ ذِي إِمْرَةٍ وَلاَ عِبَادَةٍ - لِغَيْرِهِ فِيهِ، غَيْرَ مَشْرُوطٍ بِمَوْتِهِ .
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: تَفْوِيضُ شَخْصٍ مَا لَهُ فِعْلُهُ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ إِلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ .
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: اسْتِنَابَةُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مِثْلَهُ فِيمَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ- النِّيَابَةُ:
3- النِّيَابَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَابَ الشَّيْءُ نَوْبًا: قَرُبَ، وَنَابَ عَنْهُ نِيَابَةً قَامَ مَقَامَهُ .
وَالنِّيَابَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: قِيَامُ الإْنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْلِ أَمْرٍ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَكَالَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ إِنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ .
ب- الْوِلاَيَةُ:
3-الْوِلاَيَةُ فِي اللُّغَةِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ: الْقُدْرَةُ، وَالنُّصْرَةُ، وَالتَّدْبِيرُ.
وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِكِفَايَتِهِ.
وَوَلِيُ الْمَرْأَةِ: الَّذِي يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، وَلاَ يَدَعُهَا تَسْتَبِدُّ بِهِ دُونَهُ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْوِلاَيَةُ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْوِلاَيَةِ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نِيَابَةٌ، وَلَكِنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، أَمَّا الْوِلاَيَةُ فَنِيَابَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَوْ إِجْبَارِيَّةٌ.
ج- الإْيصَاءُ:
4-الإْيصَاءُ فِي اللُّغَةِ، مَصْدَرُ أَوْصَى، يُقَالُ: أَوْصَى فُلاَنًا، وَأَوْصَى إِلَيْهِ: جَعَلَهُ وَصِيَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرِهِ وَمَالِهِ وَعِيَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: إِقَامَةُ الإْنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالإْيصَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَلَكِنَّ الْوَكَالَةَ تَكُونُ أَثْنَاءَ الْحَيَاةِ، أَمَّا الإْيصَاءُ فَبَعْدَ الْوَفَاةِ.
د- الْقِوَامَةُ:
5-الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِيَامُ عَلَى الأْمْرِ أَوِ الْمَالِ، أَوْ وِلاَيَةُ الأْمْرِ .
وَاسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْقِوَامَةِ فِي مَعَانٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، مِنْهَا:
وِلاَيَةٌ يُفَوِّضُهَا الْقَاضِي إِلَى شَخْصٍ رَاشِدٍ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ لِمَصْلَحَةِ الْقَاصِرِ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِهِ الْمَالِيَّةِ.
وَمِنْهَا: وِلاَيَةٌ يَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجُ عَلَى زَوْجَتِهِ .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْقَوَامَةِ، أَنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، أَمَّا الْقِوَامَةُ فَقَدْ تَكُونُ قَضَائِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً.
مَشْرُوعِيَّةُ الْوَكَالَةِ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ وَمَشْرُوعَةٌ .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالإْجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْقُرْآنُ: فَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) . وَذَاكَ كَانَ تَوْكِيلاً، وَقَدْ قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِلاَ نَكِيرٍ .
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) .. فَهَذِهِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الرَّأْيِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْحَكَمَ وَكِيلٌ عَنِ الزَّوْجَيْنِ .
أَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا مَا وَرَدَ «عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَجَاءَ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ» .
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
«وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بَعَثَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً فَأُرْبِحَ فِيهَا دِينَارًا فَاشْتَرَى أُخْرَى مَكَانَهَا، فَجَاءَ بِالأْضْحِيَّةِ وَالدِّينَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ، فَقَالَ: ضَحِّ بِالشَّاةِ وَتَصَدَّقْ بِالدِّينَارِ» . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي شِرَاءِ الأْضْحِيَّةِ وَتَقْسِيمِهَا وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَالِ .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: «أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ» .
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، وَأَنَّ لِلإْمَامِ أَنْ يُوكِلَ وَيُقِيمَ عَامِلاً عَلَى الصَّدَقَةِ فِي قَبْضِهَا وَدَفْعِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَإِلَى مَنْ يُرْسِلُهُ إِلَيْهِ بِأَمَارَةٍ .
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلاَلٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلاَلٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا» .
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي النِّكَاحِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ .
أَمَّا الإْجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا مُنْذُ عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلأِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِعْلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا .
قَالَ قَاضِي زَادَهْ: لأِنَّ الإْنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الأْحْوَالِ، بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ رَجُلاً ذَا وَجَاهَةٍ لاَ يَتَوَلَّى الأْمُورَ بِنَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُوكِلَ غَيْرَهُ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّوْكِيلُ لَزِمَ الْحَرَجُ، وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالنَّصِّ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .
أَرْكَانُ الْوَكَالَةِ:
7-ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الْوَكَالَةِ هِيَ: الصِّيغَةُ، وَالْعَاقِدَانِ (الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ، وَمَحَلُّ الْعَقْدِ) الْمُوَكَّلُ فِيهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْوَكَالَةِ هُوَ: الإْيجَابُ وَالْقَبُولُ، لأِنَّ وُجُودَ هَذَا الرُّكْنِ يَسْتَلْزِمُ بِالضَّرُورَةِ وُجُودَ الرُّكْنَيْنِ الآْخَرَيْنِ، وَهَذَا طِبْقًا لِلْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الْعَقْدِ .
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).
الرُّكْنُ الأْوَّلُ: الصِّيغَةُ:
8 - الصِّيغَةُ هِيَ الإْيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَيُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ التَّرَاضِي الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الأْخْرَى.
وَالْوَكَالَةُ عَقْدٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ فَافْتَقَرَ إِلَى رِضَاهُمَا.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي تَعْرِيفِ الصِّيغَةِ وَحَقِيقَتِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَحْكَامِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صِيغَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا، وَعَقْد ف 6 - 27).
أَوَّلاً: الإْيجَابُ:
تَعْرِيفُهُ:
9- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الإْيجَابَ هُوَ مَا صَدَرَ مِنَ الْمَالِكِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَالإْيجَابُ هُنَا كُلُّ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُوَكِّلِ وَيَدُلُّ عَلَى إِذْنِهِ بِالتَّوْكِيلِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإْيجَابَ هُوَ مَا صَدَرَ أَوَّلاً مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى رَغْبَتِهِ فِي إِنْشَاءِ الْعَقْدِ .
بِمَ يَتَحَقَّقُ الإْيجَابُ:
يَتَحَقَّقُ الإْيجَابُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْوَكَالَةِ سَوَاءٌ بِاللَّفْظِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَوْ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِالإْشَارَةِ مِنَ الأْخْرَسِ أَوْ بِغَيْرِهَا.
أ- الإْيجَابُ بِاللَّفْظِ:
10 - يَتَحَقَّقُ الإْيجَابُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى الْوَكَالَةِ كَوَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، أَوْ: أَنْتَ وَكِيلِي فِيهِ.
كَمَا يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الإْذْنِ بِالتَّوْكِيلِ، كَأَنْ يَأْمُرَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ؛ أَيْ يَقُولَ لَهُ: أَذِنْتُ لَكَ فِي فِعْلِهِ، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ فِعْلَ كَذَا، أَوْ: أَنَبْتُكَ فِيهِ، أَوْ أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِيهِ .
وَذَلِكَ «لأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم وَكَّلَ عُرْوَةَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيَّ فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ،» وَلأِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) . وَلأِنَّ أَيَّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الإْذْنِ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ الْمُوَكِّلِ: وَكَّلْتُكَ .
وَلأِنَّ الشَّخْصَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَالرِّضَا يَكُونُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ عِبَارَةٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا .
وَالإْيجَابُ بِاللَّفْظِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُضُورِ الْوَكِيلِ مُشَافَهَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي غِيَابِ الْوَكِيلِ مُرَاسَلَةً.
الْمَسْأَلَةُ الأْولَى: الإْيجَابُ بِاللَّفْظِ عِنْدَ حُضُورِ الْوَكِيلِ مُشَافَهَةً:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الإْيجَابُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ بِلَفْظِ: وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ كَذَا، أَوْ: أَنَبْتُكَ فِيهِ، أَوْ: أَذِنْتُ لَكَ فِيهِ، أَوْ: أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِي كَذَا، أَوْ: أَنْتَ وَكِيلِي فِيهِ .
كَمَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الإْيجَابَ يَتَحَقَّقُ بِلَفْظِ الأْمْرِ، مِثْلَ: بِعْهُ، أَوْ: أَعْتِقْهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِانْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الأْلْفَاظِ، حَيْثُ قَالُوا: الْوَكَالَةُ لاَ تَخْتَصُّ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا كَوَكَّلْتُكَ وَأَشْبَاهِهِ، رَوَى بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَحْبَبْتُ أَنْ تَبِيعَ دَارِي هَذِهِ، أَوْ: هَوَيْتُ، أَوْ: رَضِيتُ، أَوْ: شِئْتُ، أَوْ: أَرَدْتُ، فَذَاكَ تَوْكِيلٌ وَأَمْرٌ بِالْبَيْعِ .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: سَأُوَكِّلُكَ، لَمْ يَصِحَّ، لأِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أُوَكِّلُكَ، لأِنَّهُ مَوْعِدٌ.
كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ عَوَّلْتُ عَلَيْكَ، فَلاَ يَصِحُّ عَقْدُ الْوَكَالَةِ، لاِحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَوِّلاً عَلَى رَأْيِهِ أَوْ مَعُونَتِهِ أَوْ نِيَابَتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: قَدِ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، أَوِ اسْتَكْفَيْتُ، أَوْ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنَ الأْلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ، لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهَا إِلاَّ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهَا أَحَدَ الأْلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي التَّوْكِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الإْيجَابُ بِاللَّفْظِ فِي غِيَابِ الْوَكِيلِ مُرَاسَلَةً:
12-صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الإْيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَنْعَقِدُ بِالرِّسَالَةِ.
وَصُورَةُ التَّوْكِيلِ بِالرِّسَالَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهَا الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لآِخَرَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ لِفُلاَنٍ وَلْيَبِعْهُ، أَوْ يَقُولَ: اذْهَبْ إِلَى فُلاَنٍ وَأَخْبِرْهُ أَنْ يَبِيعَ مَالِي الْفُلاَنِيَّ الَّذِي عِنْدَهُ، وَبَاعَ الآْخَرُ الْمَالَ بَعْدَ بُلُوغِ هَذَا الْخَبَرِ إِلَيْهِ، كَانَتِ الْوَكَالَةُ وَالْبَيْعُ صَحِيحَيْنِ.
كَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ أَحَدٌ شَخْصًا غَائِبًا بِأَمْرٍ مَا فَبَلَّغَهُ أَحَدٌ خَبَرَ الْوَكَالَةِ وَقَبِلَ الآْخَرُ، انْعَقَدَتِ الْوَكَالَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْبِرُ عَادِلاً أَمْ مَسْتُورَ الْحَالِ، أَمْ كَانَ غَيْرَ عَادِلٍ، وَسَوَاءٌ أَأَعْطَى الْخَبَرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَمْ أُخْبِرَ بِهِ رِسَالَةً مِنْ طَرَفِ الآْمِرِ، وَسَوَاءٌ أَصَدَّقَ الْغَائِبُ هَذَا الْخَبَرَ أَمْ كَذَّبَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَكِيلاً فِي الأْحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ .
ب- الإْيجَابُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ:
مِنْ صُوَرِ إِيجَابِ الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ مَا يَأْتِي:
الصُّورَةُ الأْولَى: الْكِتَابَةُ:
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإْيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَتَحَقَّقُ بِالْخَطِّ أَوِ الْكِتَابَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، لأِنَّ الْكِتَابَةَ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى.
وَمَثَّلَ الْحَنَفِيَّةُ بِذَلِكَ بِمَا لَوْ أَرْسَلَ أَحَدٌ لآِخَرَ غَائِبٍ كِتَابًا مُعَنْوَنًا وَمَرْسُومًا بِتَوْكِيلِهِ إِيَّاهُ بِأَمْرٍ مَا، وَقَبِلَ الآْخَرُ الْوَكَالَةَ، انْعَقَدَتْ .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَقْد ف 13).
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الإْشَارَةُ:
14 -ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ إِشَارَةَ الأْخْرَسِ الْمَفْهُومَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي تَحَقُّقِ إِيجَابِ الْوَكَالَةِ بِهَا .
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ الاِعْتِدَادِ بِالإْشَارَةِ. (ر: إِشَارَة ف 5، عَقْد ف 15).
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْفِعْلُ:
15- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الإْيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَتِمُّ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَى الإْذْنِ .
حَيْثُ دَلَّ كَلاَمُ الْقَاضِي عَلَى انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِفِعْلٍ دَالٍّ كَبَيْعٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّيْخِ فِيمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إِلَى قَصَّارٍ أَوْ خَيَّاطٍ، وَهُوَ أَظْهَرُ، كَالْقَبُولِ .
وَبِهَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِانْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِالْفِعْلِ، فَقَدْ قَالَ الْخِرَشِيُّ: الْوَكَالَةُ لاَ تَخْتَصُّ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ .
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: مَا يَدُلُّ فِي الْعَادَةِ عَلَى اعْتِبَارِهِ إِيجَابًا:
16- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الإْيجَابَ فِي الْوَكَالَةِ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِمُوجِبِ الْعَادَةِ كَتَصَرُّفِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ فِي مَالِهَا وَهِيَ عَالِمَةٌ سَاكِتَةٌ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَكَالَةِ.
وَكَمَا إِذَا كَانَ رَيْعٌ بَيْنَ أَخٍ وَأُخْتٍ وَكَانَ الأْخُ يَتَوَلَّى كِرَاءَهُ وَقَبْضَهُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ دَفَعَ لأِخْتِهِ مَا يَخُصُّهَا فِي الْكِرَاءِ، قَالَ ابْنُ نَاجِي عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ: لأِنَّهُ وَكِيلٌ بِالْعَادَةِ .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَكُونُ السُّكُوتُ إِيجَابًا فِي الْوَكَالَةِ، فَلَوْ رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ، لَمْ يَكُنْ وَكِيلاً عَنْهُ بِسُكُوتِهِ، وَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ، لأِنَّهُ لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ .
ثَانِيًا: الْقَبُولُ:
الْقَبُولُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِغَيْرِ اللَّفْظِ.
أ- الْقَبُولُ بِاللَّفْظِ:
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ يَتَحَقَّقُ بِاللَّفْظِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لآِخَرَ: قَدْ وَكَّلْتُكَ بِهَذَا الأْمْرِ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: قَبِلْتُ، أَوْ قَالَ كَلاَمًا آخَرَ غَيْرَ لَفْظِ قَبِلْتُ، مُشْعِرًا بِالْقَبُولِ، فَإِنَّ الْقَبُولَ يَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ الْوَكَالَةُ .
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ قَبُولَ الْوَكِيلِ لَفْظًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الرَّدِّ، فَلَوْ رَدَّ الْوَكِيلُ الْوَكَالَةَ بَعْدَ الإْيجَابِ بِأَنْ قَالَ: لاَ أَقْبَلُ أَوْ لاَ أَفْعَلُ، فَلاَ يَبْقَى حُكْمِ الإْيجَابِ، وَلاَ تَنْعَقِدُ الْوَكَالَةُ، وَإِنْ قَبِلَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُجَدِّدِ الإْيجَابَ وَالْقَبُولَ .
ب- الْقَبُولُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِالْقَبُولِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ، وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الصُّورَةُ الأْوْلَى: الْقَبُولُ بِالْفِعْلِ:
18- لِلْفُقَهَاءِ فِي قَبُولِ الْوَكَالَةِ بِالْفِعْلِ ثَلاَثَةَ آرَاءٍ:
الأْوَّلُ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي أَصَحِّ الأَْوْجُهِ - وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقَبُولَ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَ الْوَكِيلُ مَا أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِفِعْلِهِ لأِنَّ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ سِوَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَلأِنَّ الْوَكَالَةَ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ فَجَازَ الْقَبُولُ فِيهِ بِالْفِعْلِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ.
وَجَاءَ فِي شَرْحِ مَجَلَّةِ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: يَكُونُ الإْيجَابُ صَرَاحَةً وَالْقَبُولُ دَلاَلَةً، فَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمِ الْوَكِيلُ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى إِيجَابِ الْمُوَكِّلِ، وَحَاوَلَ إِجْرَاءَ ذَلِكَ الأْمْرِ الْمُوكَّلِ بِهِ، فَيَكُونُ قَدْ قَبِلَ الْوَكَالَةَ دَلاَلَةً وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ صَحِيحًا .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَبُولَ لاَ يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْلِ وَلاَ بُدَّ لِتَحَقُّقِهِ مِنَ اللَّفْظِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ أَمْرٍ كَقَوْلِهِ: بِعْ وَاشْتَرِ، يَتِمُّ الْقَبُولُ بِالْفِعْلِ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّفْظُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الإْيجَابُ بِصِيغَةِ عَقْدٍ، كَوَكَّلْتُكَ، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ فَلاَ بُدَّ فِي الْقَبُولِ مِنَ اللَّفْظِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْلِ إِلْحَاقًا لِصِيَغِ الْعَقْدِ بِالْعُقُودِ وَالأْمْرِ بِالإْبَاحَةِ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَبُولُ بِالْكِتَابَةِ:
19 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَبُولَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ الْمُعَنْوَنَةِ .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَبُولُ بِالإْشَارَةِ:
20 - يَصِحُّ الْقَبُولُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ بِإِشَارَةِ الأْخْرَسِ الْمَعْلُومَةِ الْمَفْهُومَةِ .
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ الْعَمَلِ بِالإْشَارَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِشَارَة ف 5، عَقْد ف 15).
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ الْقَبُولُ بِالسُّكُوتِ:
21- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ سُكُوتَ الْوَكِيلِ قَبُولٌ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ .
تَرَاخِي الْقَبُولِ عَنِ الإْيجَابِ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:
22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ قَبُولُ الْوَكِيلِ فَوْرَ صُدُورِ الإْيجَابِ مِنَ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ يَنْعَقِدُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الإْيجَابِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي، لأِنَّ قَبُولَ وُكَلاَئِهِ صلي الله عليه وسلم كَانَ بِفِعْلِهِمْ وَكَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ تَوْكِيلِهِ إِيَّاهُمْ، وَلأِنَّ الْوَكَالَةَ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، وَالإْذْنُ قَائِمٌ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ الْمُوَكِّلُ، فَأَشْبَهَ الإْبَاحَةَ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ كَوْنَ الْقَبُولِ عَلَى التَّرَاخِي بِمَا إِذَا لَمَّ يَتَعَيَّنْ زَمَانُ الْعَمَلِ الَّذِي وَكَّلَ فِيهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ وَخِيفَ فَوَاتُهُ، كَانَ قَبُولُ الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ.
وَكَذَا لَوْ عَرَضَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ عِنْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ صَارَ قَبُولُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَيْضًا .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ قَبُولَ الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ، فَلاَ يَصِحُّ إِذَا تَرَاخَى الْقَبُولُ عَنِ الإْيجَابِ بِالزَّمَانِ الطَّوِيلِ، لأِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَكَانَ الْقَبُولُ فِيهِ عَلَى الْفَوْرِ كَالْبَيْعِ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا يَرْجِعُ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَصْدِ وَالْعَوَائِدِ، هَلِ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الأْلْفَاظِ اسْتِدْعَاءُ الْجَوَابِ فَوْرًا فَإِنْ تَأَخَّرَ سَقَطَ حُكْمُ الْخِطَابِ؟ أَوِ الْمُرَادُ اسْتِدْعَاءُ الْجَوَابِ مُعَجَّلاً أَوْ مُؤَجَّلاً؟ .
الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْوَكَالَةِ: الْعَاقِدَانِ:
وَهَمَّا الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ:
أَوَّلاً: الْمُوَكِّلُ:
31- الْمُوَكِّلُ: هُوَ مَنْ يُقِيمُ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ، وَتَلْزَمُهُ الأْحْكَامُ .
وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْوَكَالَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ، وَالْمَعْتُوهِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمِ، وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ مُطْلَقًا مَهْمَا كَانَ نَوْعُ التَّصَرُّفِ مَحَلِّ الْوَكَالَةِ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَأْتِي:
أ- تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ:
32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي تَصَرُّفَاتٍ نَافِعَةٍ لَهُ نَفْعًا مَحْضًا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَوْكِيلِهِ فِيمَا كَانَ ضَارًّا ضَرَرًا مَحْضًا.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بِحَسَبِ أَصْلِ وَصْفِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْكِيلِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِيهَا.
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَصِحُّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَكَالَةُ الْمُمَيِّزِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ لاَ يُعْتَبَرُ لَهُ الْبُلُوغُ كَتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَوْكِيلَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بَاطِلٌ .
ب- تَوْكِيلُ السَّفِيهِ:
33 - لاَ تَجُوزُ الْوَكَالَةُ مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فِيمَا لاَ يَسْتَقِلُّ بِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، أَمَّا مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (سَفَه ف 30).
ج- تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ:
34- لاَ يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأِنَّهَا لاَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا فَلاَ تُوَكَّلُ فِيهِ وَإِنَّمَا وَلِيُّهَا الَّذِي يُزَوِّجُهَا.
وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ .
وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي (نِكَاح ف 109).
د- تَوْكِيلُ الْمُرْتَدِّ:
35- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَوْكِيلِ الْمُرْتَدِّ لِغَيْرِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الأْوَّلُ: الْوَكَالَةُ مِنَ الْمُرْتَدِّ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى عَوْدَتِهِ إِلَى الإْسْلاَمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ) فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا بَطَلَتْ. وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: يَرَى الصَّاحِبَانِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ وَكَالَةَ الْمُرْتَدِّ لِغَيْرِهِ صَحِيحَةٌ وَنَافِذَةٌ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ يَجُوزُ تَوْكِيلُهَا بِالاِتِّفَاقِ لأِنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ تَوْكِيلَ الْمُرْتَدِّ بَاطِلٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ اسْتَوْجَهَهُ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ. وَقَالَ الشَّبْرَامَلْسِيُّ: هُوَ الْمُعْتَمَدُ .
هـ - تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ:
36- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَوْكِيلُ مُسْلُمٍ ذِمِّيًّا فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَشِرَائِهِمَا؛ لأِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَمْلِكَ الْمُوَكِّلُ نَفْسَ التَّصَرُّفِ الَّذِي يُوَكِّلُ فِيهِ الْغَيْرَ. وَالْمُسْلِمُ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ أَوِ الْخِنْزِيرِ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَفَاقِدُ الشَّيْءِ لاَ يُعْطِيهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى صِحَّةِ تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ إِذْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُوَكِّلِ أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ تُخَوِّلُ لَهُ حَقَّ تَوْكِيلِ الْغَيْرِ فِيمَا يُوَكِّلُهُ فِيهِ .
و- تَوْكِيلُ الْمُحْرِمِ:
37- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْكِيلِ الْمُحْرِمِ لِحَلاَلٍ فِي النِّكَاحِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْمُحْرِمِ لِحَلاَلٍ فِي النِّكَاحِ يَعْقِدُهُ لَهُ حَالَ إِحْرَامِ الْمُوَكِّلِ، لأِنَّهُ لاَ يُبَاشِرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْمُحْرِمِ فِي الزَّوَاجِ مُطْلَقًا، لأِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْقِدَهُ بِنَفْسِهِ فَجَازَ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ .
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 73).
ز- جَهَالَةُ الْمُوَكِّلِ:
38- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْوَكَالَةُ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْوَكِيلُ مُوَكِّلَهُ بِأَنْ قِيلَ لَهُ: وَكَّلَكَ زَيْدٌ وَلَمْ يُنْسَبْ لَهُ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مِنْ وَصْفِهِ أَوْ شُهْرَتِهِ مَا يُمَيِّزُهُ .
ثَانِيًا- الْوَكِيلُ:
39- الْوَكِيلُ هُوَ الْمَعْهُودُ إِلَيْهِ تَنْفِيذُ الْوَكَالَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَكِيلِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُوَكِّلِ مِنَ الْعَقْلِ، فَلاَ يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الأْمُورِ الآْتِيَةِ فِي الْوَكِيلِ:
أ- الْبُلُوغُ:
40- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ فِي الْوَكِيلِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ وَكَالَةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ .
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ، أَيْ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْعُقُودِ، فَيَعْرِفُ أَنَّ الشِّرَاءَ جَالِبٌ لِلْمَبِيعِ وَسَالِبٌ لِلثَّمَنِ، وَالْبَيْعَ عَلَى عَكْسِهِ، وَيَعْرِفُ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ مِنَ الْيَسِيرِ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَالرِّبْحِ لاَ الْهَزْلَ.
وَقَالُوا: إِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيلِ إِذَا كَانَ بَالِغًا، أَمَّا إِذَا كَانَ صَبِيًّا مُمَيِّزًا فَإِنَّ حُقُوقَهُ تَرْجِعُ إِلَى الْمُوكِّلِ لاَ إِلَى الْوَكِيلِ. كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ تَوْكِيلُ الْمُمَيِّزِ وَتَوَكُّلُهُ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ لاَ يُشْتَرَطُ لَهُ الْبُلُوغُ، كَتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ .
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ وَكَالَةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ . بِمَا وَرَدَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدٌ، فَقَالَ صلي الله عليه وسلم : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِكِ شَاهِدٌ وَلاَ غَائِبٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لِعُمَرَ ابْنِ أُمِّ سَلَمَةَ: قُمْ فَزَوِّجْ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ، فَزَوَّجَهُ وَكَانَ صَبِيًّا» .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَكَالَةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ؛ لأِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَلاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلاَ يَمْلِكُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ لأِنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ لَمْ يَمْلِكْهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ .
ب - تَعْيِينُ الْوَكِيلِ:
41- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مُعَيَّنًا، فَإِذَا كَانَ مَجْهُولاً بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ، فَلَوْ قَالَ شَخْصٌ: وَكَّلْتُ أَحَدَ النَّاسِ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ لِجَهَالَةِ الْوَكِيلِ وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ.
وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: مِنَ التَّوْكِيلِ الْمَجْهُولِ قَوْلُ الدَّائِنِ لِمَدْيُونِهِ: مَنْ جَاءَكَ بِعَلاَمَةِ كَذَا، وَمَنْ أَخَذَ أُصْبُعَكَ، أَوْ قَالَ لَكَ كَذَا، فَادْفَعْ مَا لِي عَلَيْكَ إِلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لأِنَّهُ تَوْكِيلُ مَجْهُولٍ، فَلاَ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ .
ج- عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْوَكَالَةِ:
42- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِالْوَكَالَةِ لِصِحَّتِهَا.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْعِلْمُ بِالتَّوْكِيلِ فِي الْجُمْلَةِ شَرْطٌ بِلاَ خِلاَفٍ، إِمَّا عِلْمُ الْوَكِيلِ وَإِمَّا عِلْمُ مَنْ يُعَامِلُهُ، حَتَّى لَوْ وَكَّلَ رَجُلاً بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ مِنْ رَجُلٍ قَبْلَ عِلْمِهِ وَعِلْمِ الرَّجُلِ بِالتَّوْكِيلِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى يُجِيزَهُ الْمُوَكِّلُ أَوِ الْوَكِيلُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ.
وَأَمَّا عِلْمُ الْوَكِيلِ عَلَى التَّعْيِينِ بِالتَّوْكِيلِ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ؟ ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَذُكِرَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: اذْهَبْ بِثَوْبِي هَذَا إِلَى فُلاَنٍ حَتَّى يَبِيعَهُ، أَوِ اذْهَبْ إِلَى فُلاَنٍ حَتَّى يَبِيعَكَ ثَوْبِي الَّذِي عِنْدَهُ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ إِذْنٌ مِنْهُ لِفُلاَنٍ فِي بَيْعِ ذَلِكَ الثَّوْبِ، إِنْ أَعْلَمَهُ الْمُخَاطَبُ بِمَا قَالَهُ الْمَالِكُ جَازَ بَيْعُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَلَوْ قَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا الثَّوْبِ إِلَى الْقَصَّارِ حَتَّى يَقْصُرَهُ، أَوْ إِلَى الْخَيَّاطِ حَتَّى يَخِيطَهُ قَمِيصًا، فَهُوَ إِذْنٌ مِنْهُ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ حَتَّى لاَ يَصِيرَ ضَامِنًا بِعَمَلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: انْطَلِقِي إِلَى فُلاَنٍ حَتَّى يُطَلِّقَكِ، فَطَلَّقَهَا فُلاَنٌ وَلَمْ يَعْلَمْ يَقَعُ، كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرْخَسِيِّ فِي بَابِ مَا تَقَعُ بِهِ الْوَكَالَةُ.
وَعِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْوَكَالَةِ شَرْطُ عَمَلِ الْوَكَالَةِ حَتَّى إِنَّ مَنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ أَوْ بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ وَالْوَكِيلُ لاَ يَعْلَمُ فَطَلَّقَ أَوْ بَاعَ، لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ طَلاَقُهُ. هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. فَإِذَا وَكَّلَ إِنْسَانًا لاَ يَصِيرُ وَكِيلاً قَبْلَ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ .
وَقَالُوا: إِذَا كَانَ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالتَّوْكِيلِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ، أَوْ كَتَبَ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ كِتَابًا إِلَيْهِ فَبَلَغَهُ وَعَلِمَ مَا فِيهِ، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولاً فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ رَجُلاَنِ، أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ - صَارَ وَكِيلاً بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ، فَإِنْ صَدَّقَهُ صَارَ وَكِيلاً أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ لاَ يَكُونُ وَكِيلاً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَكُونُ وَكِيلاً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ دَارِهِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ بِالتَّوْكِيلِ فَبَاعَهَا نَفَذَ بَيْعُهُ عِنْدَهُمْ، لأِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِمَا فِي نَفْسِ الأْمْرِ .
وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأْظْهَرِ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ مَالِ غَيْرِهِ ظَاهِرًا إِنْ بَانَ بَعْدَ الْبَيْعِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ وِلاَيَةً كَوَكِيلٍ أَوْ وَصِيٍّ، اعْتِبَارًا فِي الْعُقُودِ بِمَا فِي نَفْسِ الأْمْرِ لِعَدَمِ حَاجَتِهَا إِلَى النِّيَّةِ. وَقَالُوا: يَحْرُمُ عَلَى الْوَكِيلِ تَعَاطِي هَذَا التَّصَرُّفِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ لَهُ وِلاَيَةً عَلَيْهِ .
د- عَدَالَةُ الْوَكِيلِ:
43- لاَ تُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْوَكِيلِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ اشْتَرَطُوا فِي عُقُودٍ مُعَيَّنَةٍ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ أَوِ الْوَلِيُّ عَدْلاً، وَمِنْهَا عَقْدُ النِّكَاحِ، حَيْثُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْوَلِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نِكَاح ف 7، وَفِسْق ف 14).
هـ - ذُكُورَةُ الْوَكِيلِ:
44- لَمْ يَشْتَرِطِ الْفُقَهَاءُ ذُكُورَةَ الْوَكِيلِ فِي الْجُمْلَةِ إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمُ اشْتَرَطَ كَوْنَ الْوَكِيلِ رَجُلاً فِي بَعْضِ الْعُقُودِ، وَمِنْهَا النِّكَاحُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 107).
الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْوَكَالَةِ: مَحَلُّ الْوَكَالَةِ:
45- مَحَلُّ الْوَكَالَةِ: هُوَ التَّصَرُّفُ الْمَأْذُونُ فِيهِ مِنَ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ بِمَلِكٍ أَوْ وِلاَيَةٍ.
وَقَدْ نَصَّ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ لِمَحَلِّ الْوَكَالَةِ شُرُوطًا ثَلاَثَةً:
أ- أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ، لأِنَّهَا لاَ تَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ.
ب- أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِلنِّيَابَةِ.
ج- أَنْ يَمْلِكَهُ الْمُوَكِّلُ حَالَ التَّوْكِيلِ .
أَنْوَاعُ الْوَكَالَةِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا:
تَتَنَوَّعُ الْوَكَالَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ: إِلَى وَكَالَةٍ خَاصَّةٍ، وَوَكَالَةٍ عَامَّةٍ.
- الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ:
46- الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ مَا كَانَ إِيجَابُ الْمُوَكِّلِ فِيهَا خَاصًّا بِتَصَرُّفٍ مُعَيَّنٍ، كَأَنْ يُوَكِّلَ إِنْسَانٌ آخَرَ فِي أَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَتَصَرَّفَ إِلاَّ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
ب- الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ:
47- الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ قَدْ تَكُونُ عَامَّةً فِي كُلِّ شَيْءٍ، كَأَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ يَقُولَ لَهُ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ الْعَامِّ فِي الْجُمْلَةِ . وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ. فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ قَالَ: أَنْتَ وَكِيلِي بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، يَكُونُ وَكِيلاً بِحِفْظٍ لاَ غَيْرَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا لَوْ قَالَ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ شَيْءٍ جَائِزٌ أَمْرُكَ، يَصِيرُ وَكِيلاً فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ كَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَهِبَةٍ وَصَدَقَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَلاَقٍ وَعِتَاقٍ وَوَقْفٍ، فَقِيلَ: يَمْلِكُ ذَلِكَ لإِطْلاَقِ تَعْمِيمِ اللَّفْظِ، وَقِيلَ: لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا دَلَّ دَلِيلُ سَابِقَةِ الْكَلاَمِ وَنَحْوِهِ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ شَيْءٍ جَائِزٌ أَمْرُكَ، مَلَكَ الْحِفْظَ وَالْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وَيَمْلِكُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ حَتَّى إِذَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ جَازَ حَتَّى يُعْلَمَ خِلاَفُهُ مِنْ قَصْدِ الْمُوَكِّلِ، وَعَنِ الإْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ تَخْصِيصُهُ بِالْمُعَاوَضَاتِ وَلاَ يَلِي الْعِتْقَ وَالتَّبَرُّعَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَكَذَا لَوْ قَالَ طَلَّقْتُ امْرَأَتَكَ وَوَهَبْتُ وَوَقَفْتُ أَرْضَكَ، فِي الأْصَحِّ لاَ يَجُوزُ، وَفِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِالْمُعَاوَضَاتِ لاَ بِالإِْعْتَاقِ وَالْهِبَاتِ، وَبِهِ يُفْتَى ا.هـ.
وَفِي الْخُلاَصَةِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَكِيلَ وَكَالَةً عَامَّةً يَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ الطَّلاَقَ وَالْعَتَاقَ وَالْوَقْفَ وَالْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَمْلِكَ الإْبْرَاءَ وَالْحَطَّ عَنِ الْمَدْيُونِ لأِنَّهُمَا مِنْ قَبِيلِ التَّبَرُّعِ وَأَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَرَّةٍ بَعْدَ أُخْرَى، وَهَلْ لَهُ الإْقْرَاضُ وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ. فَإِنَّهُمَا بِالنَّظَرِ إِلَى الاِبْتِدَاءِ تَبَرُّعٌ فَإِنَّ الْقَرْضَ عَارِيَّةٌ ابْتِدَاءً، مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ هِبَةٌ ابْتِدَاءً مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً، وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَمْلِكَهُمَا الْوَكِيلُ بِالتَّوْكِيلِ الْعَامِّ لأِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُمَا مَنْ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَاتِ، وَلِذَا لاَ يَجُوزُ إِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَالَ الْيَتِيمِ وَلاَ هِبَتُهُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَضَةً فِي الاِنْتِهَاءِ.
وَظَاهِرُ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَمْلِكُ قَبْضَ الدَّيْنِ وَاقْتِضَاءَهُ وَإِيفَاءَهُ وَالدَّعْوَى بِحُقُوقِ الْمُوَكِّلِ وَسَمَاعَ الدَّعْوَى بِحُقُوقٍ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَالأْقَارِيرِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالدُّيُونِ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي، لأِنَّ فِي ذَلِكَ بِالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لاَ فِي الْعَامِّ، فَإِنْ قَالَ لَهُ: وَكَّلْتُكَ وَكَالَةً مُطْلَقَةً عَامَّةً، فَهَلْ يَتَنَاوَلُ الطَّلاَقَ وَالْعَتَاقَ وَالتَّبَرُّعَاتِ؟ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُهَا عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، لأِنَّ مِنَ الأْلْفَاظِ مَا صَرَّحَ قَاضِيخَانَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ عَامٌّ وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا بِعَدَمِهِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَنْعَقِدُ الْوَكَالَةُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: وَكَّلْتُكَ، لأِنَّهُ لاَ يَدُلُّ عُرْفًا عَلَى شَيْءٍ بَلْ حَتَّى يُفَوِّضَ لِلْوَكِيلِ الأْمْرَ بِأَنْ يَقُولَ: وَكَّلْتُكَ وَكَالَةً مُفَوَّضَةً، أَوْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِي، أَوْ: أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِي أُمُورِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِذَا فَوَّضَ لَهُ فَيَمْضِي وَيَجُوزُ النَّظَرُ وَهُوَ الصَّوَابُ، أَيْ مَا فِيهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ لاَ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ: وَيَمْضِي مِنْكَ غَيْرُ النَّظَرِ، فَيَمْضِي إِنْ وَقَعَ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ ابْتِدَاءً فَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ رَدُّهُ، وَلاَ تَضْمِينُ الْوَكِيلِ.
وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ النَّظَرِ مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَلاَ تَبْذِيرٍ. وَقَالُوا: لاَ يَمْضِي عَنِ الْوَكِيلِ طَلاَقُ زَوْجَةِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْكَاحُ بِكْرِهِ، وَبَيْعُ دَارِ سُكْنَاهُ فِي كُلٍّ مِنَ النَّظَرِ وَغَيْرِهِ؛ لأِنَّ هَذِهِ الأْمُورَ لاَ تَنْدَرِجُ تَحْتَ عُمُومِ الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيلُ بِإِذْنٍ خَاصٍّ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ الْعَامَّ لاَ يَصِحُّ . فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ فِيهِ مَعْلُومًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ حَيْثُ يَقِلُّ مَعَهُ الْغَرَرُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ لِي، أَوْ فِي كُلِّ أُمُورِي، أَوْ فَوَّضْتُ إِلَيْكَ كُلَّ شَيْءٍ، أَوْ: أَنْتَ وَكِيلِي فَتَصَرَّفْ كَيْفَ شِئْتَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ وَعَظِيمِ الْخَطَرِ، وَإِنْ قَالَ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ أَمْوَالِي وَقَبْضِ دُيُونِي وَاسْتِيفَائِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، صَحَّ وَإِنْ جَهِلَ الأْمْوَالَ وَالدُّيُونَ وَمَنْ هِيَ عَلَيْهِ .
أَحْكَامُ الْوَكَالَةِ:
لِلْوَكَالَةِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرِ.
الْقِسْمُ الأْوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا:
الأْوَّلُ: أَنْ يَقُومَ الْوَكِيلُ بِتَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ فِي الْحُدُودِ الَّتِي أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ بِهَا أَوِ الَّتِي قَيَّدَهُ الشَّرْعُ أَوِ الْعُرْفُ بِالْتِزَامِهَا.
الثَّانِي: مُوَافَاةُ الْمُوَكِّلِ بِالْمَعْلُومَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَتَقْدِيمُ حِسَابٍ عَنِ الْوَكَالَةِ.
الثَّالِثُ: رَدُّ مَا لِلْمُوَكِّلِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الأْحْكَامِ فِيمَا يَلِي:
الْحُكْمُ الأْوَّلُ: تَنْفِيذُ الْوَكَالَةِ:
سَبَقَ أَنْ بَيَّنَّا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ إِمَّا عَامَّةٌ وَإِمَّا خَاصَّةٌ، وَبَيَّنَّا حُكْمَ كُلٍّ، وَنُبَيِّنُ هُنَا أَنَّ الْوَكَالَةَ الْخَاصَّةَ تَارَةً تَصْدُرُ مُطْلَقَةً وَتَارَةً تَصْدُرُ مُقَيَّدَةً.
الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ فِي عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ:
مِنْ صُوَرِ الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ مَا يَلِي:
الصُّورَة ُالأْولَى: الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ:
الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً.
أَوَّلاً: إِطْلاَقُ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا َجُوزُ لِلْوَكِيلِ عِنْدَ تَوْكِيلِهِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ.
الرَّأْيُ الأْوَّلُ: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا عَنِ الْقُيُودِ لاَ يَكُونُ مُقَيَّدًا بِأَيِّ قَيْدٍ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا.
فَالْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَبِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، وَبِالْعَرْضِ، لأِنَّ الأْصْلَ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُجْرَى عَلَى إِطْلاَقِهِ وَلاَ يَصِحُّ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَالْعُرْفُ مُتَعَارِضٌ، فَإِنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لِغَرَضِ التَّوَصُّلِ بِثَمَنِهِ إِلَى شِرَاءِ مَا هُوَ أَرْبَحُ مِنْهُ مُتَعَارَفٌ أَيْضًا، فَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مَعَ التَّعَارُضِ، مَعَ أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا فِعْلاً، فَهُوَ مُتَعَارَفٌ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً، لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى بَيْعًا، أَوْ هُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ لُغَةً، وَقَدْ وُجِدَ، وَمُطْلَقُ الْكَلاَمِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْفِعْلِ .
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ عِدَّةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
أ- الْبَيْعُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ:
يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ عِنْدَ إِطْلاَقِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ؛ لأِنَّ إِطْلاَقَ النَّقْدِ يَنْصَرِفُ إِلَى نَقْدِ الْبَلَدِ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَكِيلَ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ إِنْ كَانَ فِيهِ نُقُودٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ رَزِينٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي النِّهَايَةِ: أَنَّ الْوَكِيلَ يَبِيعُ حَالًّا بِنَقْدِ بَلَدِهِ وَبِغَيْرِهِ، لاَ نَسَاءً .
ب- الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ مِمَّا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ.
وَأَمَّا مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَالدِّرْهَمِ فِي الْعَشْرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَبِيعُ الْوَكِيلُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَثَمَّ رَاغِبٌ بِأَزْيَدَ.
وَإِنْ بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَلَوْ يَسِيرًا، وَالْيَسِيرُ عِنْدَهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ فَأَقَلُّ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْوَكِيلُ الْمَبِيعَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّسْلِيمِ وَلَوْ مِثْلِيًّا لِتَعَدِّيهِ بِتَسْلِيمِهِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، وَيَسْتَرِدُّهُ إِنْ بَقِيَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَضْمَنُ الْوَكِيلُ النَّقْصَ، لأِنَّ مَنْ صَحَّ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ صَحَّ بِدُونِهِ كَالْمَرِيضِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ: لاَ يَصِحُّ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَصِحُّ .
ج- الْبَيْعُ بِالنُّقُودِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ بِالْبَيْعِ لاَ يَصِحُّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ بِعَرَضٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ إِلاَّ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لأِنَّ مُطْلَقَ الأْمْرِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ، لأِنَّ التَّصَرُّفَاتِ لِدَفْعِ الْحَاجَاتِ فَتَتَقَيَّدُ بِمَوَاقِعِهَا، وَالْمُتَعَارَفُ الْبَيْعُ بِالنُّقُودِ. كَمَا أَنَّ الْمُقَايَضَةَ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ شِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ فَلاَ يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ اسْمِ الْبَيْعِ.
وَهَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ الْعَرَضُ مِمَّا لاَ يَتَعَامَلُ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ.
وَفِي رِوَايَةِ الْمُوجَزِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ احْتِمَالٌ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِالْعَرَضِ .
د- الْحُلُولُ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَسَاءً، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ لَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ وَأَطْلَقَ انْصَرَفَ إِلَى الْحُلُولِ، فَكَذَا وَكَيْلُهُ.
وَيَتَخَرَّجُ - بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ فِي الْمَضَارِبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ نَسَاءً لأِنَّهُ مُعْتَادٌ فَأَشْبَهَ الْحَالَّ .
هـ - الْبَيْعُ بِالْعَيْنِ:
صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِمَنْفَعَةٍ .
و- عَدَمُ بَيْعِ الْوَكِيلِ لِنَفْسِهِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْقَيْدِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأْوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ، لأِنَّ الْعُرْفَ فِي الْبَيْعِ بَيْعُ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ فَحُمِلَتِ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَلأِنَّهُ يَلْحَقُهُ تُهْمَةٌ.
وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ لاَ يَكُونُ مُشْتَرِيًا وَبَائِعًا، وَقَالُوا: لَوْ أَمَرَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكِيلَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الأْصَحِّ: يَتَوَلَّى الْوَكِيلُ طَرَفَيِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا انْتَفَتِ التُّهْمَةُ كَأَبِ الصَّغِيرِ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْمَنْعِ مَا إِذَا تَنَاهَتِ الرَّغَبَاتُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ فَيَجُوزُ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ إِذَا زَادَ عَلَى مَبْلَغِ ثَمَنِهِ فِي النِّدَاءِ، أَوْ وَكَّلَ مَنْ يَبِيعُ وَكَانَ هُوَ أَحَدَ الْمُشْتَرِينَ، لأِنَّهُ بِذَلِكَ يَحْصُلُ غَرَضُ الْمُوَكِّلِ مِنَ الثَّمَنِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ لأِجْنَبِيٍّ.
وَفِي الْكَافِي وَالشَّرْحِ: أَنَّ الْجَوَازَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَبْلَغِ ثَمَنِهِ فِي النِّدَاءِ.
الثَّانِي: أَنْ يَتَوَلَّى النِّدَاءَ غَيْرُهُ.
قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي وَاجِبًا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلاَمِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ إِنْ لَمْ يُحَابِ نَفْسَهُ .
ز- عَدَمُ بَيْعِ الْوَكِيلِ لِمَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ:
- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقَيُّدِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا بِعَدَمِ الْبَيْعِ لِمَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ، مِثْلُ قَرَابَةِ الأْوْلاَدِ، وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ، حَسَبَ التَّفْصِيلِ الآْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إِذَا بَاعَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ إِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ يَجُوزُ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنَ الْقِيمَةِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لاَ يَجُوزُ بِالإْجْمَاعِ.
وَإِنْ بَاعَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ.
وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُمْ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إِلاَّ مِنْ عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتِبِهِ، لأِنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ وَلاَ تُهْمَةَ فِيهِ، لأِنَّ الأْمْلاَكَ مُتَبَايِنَةٌ وَالْمَنَافِعَ مُنْقَطِعَةٌ فَصَارَ الْوَكِيلُ كَالْمُضَارِبِ بِخِلاَفِ عَبْدِهِ وَمُكَاتِبِهِ، لأِنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ، وَلَهُ فِي مَالِ مُكَاتِبِهِ حَقٌّ.
وَإِنْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِالْبَيْعِ مِنْ هَؤُلاَءِ أَوْ أَجَازَ لَهُ مَا صَنَعَ بِأَنْ قَالَ لَهُ: بِعْ مِمَّنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلاَءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ بِالإْجْمَاعِ، إِلاَّ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ مِنْ عَبْدِهِ وَلاَ دَيْنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَطْعًا.
وَإِنْ كَانَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُمْ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ: لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ لِمَحْجُورِهِ مِنْ صَغِيرٍ وَسَفِيهٍ وَرَقِيقٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لأِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْبَيْعِ لِنَفْسِهِ كَمَا لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ شَرِيكِهِ الْمُفَاوِضِ إِنِ اشْتَرَى بِمَالِ الْمُفَاوَضَةِ، وَكَذَلِكَ شَرِيكُهُ الآْخِذُ بِعِنَانِهِ إِذَا كَانَ الشِّرَاءُ بِمَالِ الشَّرِكَةِ وَإِلاَّ جَازَ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الرَّشِيدِ وَرَقِيقِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالتِّجَارَةِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُحَابِيَ لَهُمْ، فَإِنْ حَابَى مُنِعَ وَمَضَى الْبَيْعُ وَغَرِمَ الْوَكِيلُ مَا حَابَى بِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِالْمُحَابَاةِ وَقْتَ الْبَيْعِ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ لِمَنْ ذُكِرَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَحَاجِيرِهِ وَلَوْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ، لِتَضَادِّ غَرَضَيِ الاِسْتِرْخَاصِ لَهُمْ وَالاِسْتِقْصَاءِ لِلْمُوَكِّلِ، وَلأِنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ لِيَهَبَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ لاِتِّحَادِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِلِ.
أَمَّا بَيْعُهُ لأِصُولِهِ كَأَبِيهِ أَوْ لِفُرُوعِهِ غَيْرِ الْمَحْجُورِينَ كَابْنِهِ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ، فَالأْصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ لَهُمَا لاِنْتِفَاءِ مَا ذُكِرَ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمُوجِبِ وَالْقَابِلِ، وَلأِنَّهُ بَاعَ بِالثَّمَنِ الَّذِي لَوْ بَاعَ بِهِ لأِجْنَبِيٍّ لَصَحَّ، فَلاَ تُهْمَةَ حِينَئِذٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ مِنْ صَدِيقِهِ.
وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ: لاَ يَصِحُّ، لأِنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ كَمَا لَوْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الإْمَامُ أَنْ يُوَلِّيَ الْقَضَاءَ مَنْ شَاءَ، لاَ يَجُوزُ لَهُ تَفْوِيضُهُ إِلَى أُصُولِهِ وَلاَ فُرُوعِهِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لِوَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ أَوْ مُكَاتِبِهِ، لأِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِمْ وَيَمِيلُ إِلَى تَرْكِ الاِسْتِقْصَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الثَّمَنِ كَتُهْمَتِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ لِهَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ، وَمَحَلُّ الْخِلاَفِ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا إِنْ أَذِنَ لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: لاَ يَصِحُّ أَيْضًا.
قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: مَفْهُومُ كَلاَمِهِ جَوَازُ بَيْعِ الْوَكِيلِ لإِخْوَتِهِ وَسَائِرِ أَقَارِبِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَذَكَرَ الأْزْجِيُّ فِيهِمْ وَجْهَيْنِ:
قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: حَيْثُ حَصَلَتْ تُهْمَةٌ فِي ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ .
ثَانِيًا: الْوَكَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ فِي الْبَيْعِ:
إِذَا قَيَّدَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِقُيُودٍ مُعَيَّنَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِهَا عِنْدَ تَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ إِنْ كَانَ مُقَيَّدًا يُرَاعَى فِيهِ الْقَيْدُ بِالإْجْمَاعِ حَتَّى أَنَّهُ إِذَا خَالَفَ قَيْدَهُ لاَ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوكِّلِ، وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خِلاَفُهُ إِلَى خَيْرٍ، لأِنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِوِلاَيَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ فَيَلِي مِنَ التَّصَرُّفِ قَدْرَ مَا وَلاَّهُ. وَإِنْ كَانَ الْخِلاَفُ إِلَى خَيْرٍ فَإِنَّمَا نَفَذَ لأِنَّهُ إِنْ كَانَ خِلاَفًا صُورَةً فَهُوَ وِفَاقٌ مَعْنًى، لأِنَّهُ آمِرٌ بِهِ دَلاَلَةً فَكَانَ مُتَصَرِّفًا بِتَوْلِيَةِ الْمُوَكِّلِ فَنَفَذَ.
بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِذَا قَالَ لَهُ: بِعْ ثَوْبِي هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنَ الأَْلْفِ لاَ يَنْفُذُ، وَكَذَا إِذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ لاَ يَنْفُذُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ لأِنَّهُ خِلاَفٌ إِلَى شَرٍّ، لأِنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأْجْنَاسِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخِلاَفِ إِلَى شَرٍّ.
وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ نَفَذَ لأِنَّهُ خِلاَفٌ إِلَى خَيْرٍ فَلَمْ يَكُنْ خِلاَفًا أَصْلاً.
وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً لَمْ يَنْفُذْ بَلْ يَتَوَقَّفْ.
وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةً نَفَذَ.
وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارِ لِلآْمِرِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْخِيَارَ لَمْ يَجُزْ بَلْ يَتَوَقَّفْ.
وَلَوْ بَاعَ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلآْمِرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ لأِنَّهُ لَوْ مَلَكَ الإْجَازَةَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا زَادَ الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ كَأَنْ قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: بِعْ بِعَشَرَةٍ، فَبَاعَ بِأَكْثَرَ، أَوْ نَقَصَ فِي الشِّرَاءِ كَأَنْ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ بِعَشَرَةٍ، فَاشْتَرَى بِأَقَلَّ، فَلاَ خِيَارَ لِمُوَكِّلِهِ فِيهِمَا، لأِنَّ هَذَا مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ فَكَأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ، وَلَيْسَ مُطْلَقُ الْمُخَالَفَةِ تُوجِبُ خِيَارًا وَإِنَّمَا تُوجِبُهُ مُخَالَفَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَمْلِكُ الْوَكِيلُ مِنَ التَّصَرُّفِ إِلاَّ مَا يَقْتَضِيهِ إِذْنُ الْمُوَكِّلِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ لأِنَّ تَصَرُّفَهُ بِالإْذْنِ فَلاَ يَمْلِكُ إِلاَّ مَا يَقْتَضِيهِ الإْذْنُ، وَالإْذْنُ يُعْرَفُ بِالنُّطْقِ وَبِالْعُرْفِ، فَإِنْ تَنَاوَلَ الإْذْنُ تَصَرُّفَيْنِ وَفِي أَحَدِهِمَا إِضْرَارٌ بِالْمُوَكِّلِ لَمْ يَجُزْ مَا فِيهِ إِضْرَارٌ، لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ»، فَإِنْ تَنَاوَلَ تَصَرُّفَيْنِ وَفِي أَحَدِهِمَا نَظَرٌ لِلْمُوَكِّلِ لَزِمَهُ مَا فِيهِ النَّظَرُ لِلْمُوَكِّلِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : «الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» وَلَيْسَ مِنَ النُّصْحِ أَنْ يَتْرُكَ مَا فِيهِ الْحَظُّ وَالنَّظَرُ لِلْمُوَكِّلِ. وَإِنْ وَكَّلَ فِي الْبَيْعِ فِي زَمَانٍ لَمْ يَمْلِكِ الْبَيْعَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ لأِنَّ الإْذْنَ لاَ يَتَنَاوَلُ مَا قَبْلَهُ وَلاَ مَا بَعْدَهُ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ وَلاَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ لأِنَّهُ قَدْ يُؤْثِرُ الْبَيْعَ فِي زَمَانٍ لِحَاجَةٍ وَلاَ يُؤْثِرُ فِي زَمَانٍ بَعْدَهُ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ فِي مَكَانٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ فِيهِ أَكْثَرَ أَوِ النَّقْدُ فِيهِ أَجْوَدَ لَمْ يَجُزِ الْبَيْعُ فِي غَيْرِهِ لأِنَّهُ قَدْ يُؤْثِرُ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لِزِيَادَةِ الثَّمَنِ أَوْ جَوْدَةِ النَّقْدِ فَلاَ يَجُوزُ تَفْوِيتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَاحِدًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ فِي غَيْرِهِ لأِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا وَاحِدٌ فَكَانَ الإْذْنُ فِي أَحَدِهِمَا إِذْنًا فِي الآْخَرِ.
وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ لأِنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَيْهِ دَلَّ أَنَّهُ قَصَدَ عَيْنَهُ لِمَعْنًى هُوَ أَعْلَمُ بِهِ - مِنْ يَمِينٍ وَغَيْرِهَا - فَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ مِنْ غَيْرِهِ لأِنَّهُ قَدْ يُؤْثِرُ تَمْلِيكَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَلاَ يَكُونُ الإْذْنُ فِي الْبَيْعِ مِنْهُ إِذْنًا فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ قَالَ: خُذْ مَا لِي مِنْ فُلاَنٍ، فَمَاتَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَرَثَتِهِ؛ لأِنَّهُ قَدْ لاَ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مَا لَهُ عِنْدَهُ وَيَرْضَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ وَرَثَتِهِ، فَلاَ يَكُونُ الإْذْنُ فِي الأْخْذِ مِنْهُ إِذْنًا فِي الأْخْذِ مِنْ وَرَثَتِهِ. وَإِنْ قَالَ: خُذْ مَا لِي عَلَى فُلاَنٍ، فَمَاتَ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَرَثَتِهِ لأِنَّهُ قَصَدَ أَخْذَ مَا لَهُ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الأْخْذَ مِنْهُ وَمِنْ وَرَثَتِهِ. وَإِنْ وَكَّلَ الْعَدْلَ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ فَأَتْلَفَهُ رَجُلٌ فَأُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُ الْقِيمَةِ لأِنَّ الإْذْنَ لَمْ يَتَنَاوَلْ بَيْعَ الْقِيمَةِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَمْلِكُ الْوَكِيلُ مِنَ التَّصَرُّفِ إِلاَّ مَا يَقْتَضِيهِ إِذْنُ مُوَكِّلِهِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ لأِنَّ تَصَرُّفَهُ بِالإْذْنِ فَاخْتُصَّ بِمَا أُذِنَ فِيهِ، وَالإْذْنُ يُعْرَفُ بِالنُّطْقِ تَارَةً وَبِالْعُرْفِ تَارَةً أُخْرَى، وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلاً فِي التَّصَرُّفِ فِي زَمَنٍ مُقَيَّدٍ لَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ لأِنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ إِذْنُهُ نُطْقًا وَلاَ عُرْفًا لأِنَّهُ قَدْ يُؤْثِرُ التَّصَرُّفُ فِي زَمَنِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا عَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادَتِهِ وَقْتًا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ وَلاَ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ، فَلَوْ قَالَ لَهُ: بِعْ ثَوْبِي غَدًا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ الْيَوْمَ وَلاَ بَعْدَ غَدٍ. وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْمَكَانَ وَكَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِ ثَوْبِهِ فِي سُوقٍ، وَكَانَ ذَلِكَ السُّوقُ مَعْرُوفًا بِجَوْدَةِ النَّقْدِ أَوْ كَثْرَةِ الثَّمَنِ أَوْ حِلِّهِ، أَوْ بِصَلاَحِ أَهْلِهِ أَوْ بِمَوَدَّةٍ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَبَيْنَهُمْ - تَقَيَّدَ الإْذْنُ بِهِ، لأِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَمْرٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ. وَإِنْ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً فِي الْغَرَضِ لَمْ يَتَقَيَّدِ الإْذْنُ بِهِ وَجَازَ لَهُ الْبَيْعُ فِي غَيْرِهِ لِمُسَاوَاتِهِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْغَرَضِ، فَكَانَ تَنْصِيصُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إِذْنًا فِي الآْخَرِ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ أَوِ اسْتَعَارَ أَرْضًا لِزِرَاعَةِ شَيْءٍ، كَانَ إِذْنًا فِي زِرَاعَةِ مِثْلِهِ فَمَا دُونَهُ، وَلَوِ اشْتَرَى عَقَارًا كَانَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ مِثْلَهُ، وَلَوْ نَذَرَ صَلاَةً أَوِ اعْتِكَافًا فِي مَسْجِدٍ جَازَ الاِعْتِكَافُ وَالصَّلاَةُ فِي غَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُقَدِّرْهُ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْمُشْتَرِيَ فَقَالَ: بِعْهُ فُلاَنًا، لَمْ يَمْلِكْ بَيْعَهُ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، سَوَاءٌ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُقَدِّرْهُ، لأِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِهِ إِيَّاهُ دُونَ غَيْرِهِ، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيلُ بِقَرِينَةٍ أَوْ صَرِيحٍ أَنَّهُ لاَ غَرَضَ لَهُ فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي.
وَقَالُوا: كُلُّ تَصَرُّفٍ كَانَ الْوَكِيلُ مُخَالِفًا فِيهِ لِمُوَكِّلِهِ فَحُكْمُهُ فِيهِ حُكْمُ تَصَرُّفِ الأْجْنَبِيِّ .
مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ لِقُيُودِ الْمُوَكِّلِ فِي الْبَيْعِ:
مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ تَكُونُ فِي أُمُورٍ، مِنْهَا:
الأْمْرُ الأْوَّلُ: الْمُخَالَفَةُ فِي الثَّمَنِ:
الْمُخَالَفَةُ فِي الثَّمَنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي وَصْفِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي جِنْسِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي قَدْرِهِ.
أ- الْمُخَالَفَةُ فِي الْوَصْفِ:
قَدْ يَأْمُرُ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ نَسِيئَةً، فَيَبِيعَهَا حَالَّةً، وَقَدْ يَكُونُ الْعَكْسُ، فَيَأْمُرُهُ بِالْبَيْعِ عَلَى الْحُلُولِ فَيَبِيعُ نَسِيئَةً.
الْحَالَةُ الأْولَى: مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ نَسِيئَةً بِأَنْ بَاعَ حَالًّا.
80 -اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ، إِلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَنَفَاذِهِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ؛ لأِنَّ الْمُوَكِّلَ حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ وَزَادَهُ الْوَكِيلُ خَيْرًا بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى أَوْ فِي صِفَةِ الْحُلُولِ، فَكَانَ الْوَكِيلُ مَأْذُونًا فِي هَذَا الْبَيْعِ عُرْفًا.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلْمُوَكِّلِ غَرَضٌ مُعَيَّنٌ مِنَ التَّأْجِيلِ كَأَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا يَسْتَضِرُّ بِحِفْظِهِ فِي الْحَالِ فَلاَ بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْوَكِيلِ لِقَيْدِ الأْجَلِ، فَإِذَا خَالَفَ بِأَنْ بَاعَ حَالًّا بَطَلَ الْبَيْعُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: بِعْ مُؤَجَّلاً، فَبَاعَ حَالًّا أَوْ بِأَجَلٍ دُونَ الْمُقَدَّرِ بِقِيمَةِ الْمُؤَجَّلِ، أَوْ بِمَا رَسَمَ بِهِ الْمُوَكِّلُ وَلاَ غَرَضَ لِلْمُوَكِّلِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ - صَحَّ لأِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا.
أَمَّا إِنْ بَاعَ بِهِمَا وَلِلْمُوَكِّلِ غَرَضٌ كَأَنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لاَ يَأْمَنُ مِنْ نَحْوِ نَهْبٍ أَوْ كَانَ لِحِفْظِهِ مُؤْنَةٌ، فَلاَ يَصِحُّ لأِنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ غَرَضَهُ .
أَمَّا إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ بِأَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ نَسِيئَةً بِثَمَنٍ مُحَدَّدٍ فَخَالَفَ وَبَاعَهَا نَقْدًا بِثَمَنٍ أَقَلَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ، لأِنَّ الإْذْنَ فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً يَقْتَضِي الْبَيْعَ بِمَا يُسَاوِي نَسِيئَةً، فَإِذَا بَاعَ بِالأْقَلِّ لَمْ يَجُزِ الْبَيْعُ لِمُخَالَفَةِ الْوَكِيلِ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ وَمَا سَمَّى لَهُ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ فِي حَقِّهِ وَلَزِمَهُ وَإِلاَّ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَقِيمَتِهَا إِنْ فَاتَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِحَوَالَةِ السُّوقِ فَأَعْلَى، هَذَا إِذَا لَمَّ يُسَمِّ. فَإِنْ سَمَّى الْمُوَكِّلُ الثَّمَنَ وَفَاتَتْ فَلَهُ تَغْرِيمُ الْوَكِيلِ تَمَامَ التَّسْمِيَةِ وَلَكِنْ إِذَا تَحَمَّلَ الْوَكِيلُ النَّقْصَ فِي الثَّمَنِ فَلاَ خِيَارَ لِلْمُوَكِّلِ لإِزَالَتِهِ الْمُخَالَفَةَ .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ عَلَى الْحُلُولِ بِأَنْ بَاعَ نَسِيئَةً:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ، لِمُخَالَفَةِ الْوَكِيلِ مَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ، وَلأِنَّ الأْغْرَاضَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّعْجِيلِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ غَرَضٌ مُعَيَّنٌ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ فَوَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ احْتِرَامُ رَغْبَتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ وَإِلاَّ لاَ يَنْفُذُ فِي حَقِّهِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَاسَانِيُّ فِي بَدَائِعِهِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً، لَمْ يَنْفُذْ، بَلْ يَتَوَقَّفْ .
ب- الْمُخَالَفَةُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ:
قَدْ يَأْمُرُ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً بِجِنْسٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الثَّمَنِ، فَيَبِيعَهَا بِجِنْسٍ آخَرَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبِيعَهَا بِالدَّنَانِيرِ فَبَاعَهَا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعُرُوضِ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ ذَلِكَ أَكْثَرَ، لِمُخَالَفَةِ الْوَكِيلِ مَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ، وَلأِنَّ الإْذْنَ فِي جِنْسٍ لَيْسَ بِإِذْنٍ فِي جِنْسٍ آخَرَ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: بِعْهُ بِدِرْهَمٍ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ بِدِينَارٍ صَحَّ الْبَيْعُ، لأِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا فَإِنَّ مَنْ رَضِيَ بِدِرْهَمٍ رَضِيَ بِمَكَانِهِ بِدِينَارٍ.
وَيَرَى الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ وَيُخَيَّرُ الْمُوَكِّلُ بَيْنَ الإْمْضَاءِ وَالْفَسْخِ .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ إِذَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ بِالدَّنَانِيرِ فَبَاعَهَا بِالدَّرَاهِمِ أَوِ الْعَكْسِ قَوْلاَنِ فِي تَخْيِيرِ الْمُوَكِّلِ وَإِمْضَاءِ الْبَيْعِ، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا نَقْدَ الْبَلَدِ وَالسِّلْعَةَ مِمَّا تُبَاعُ بِهِمَا وَاسْتَوَتْ قِيمَةُ الذَّهَبِ وَالدَّرَاهِمِ وَإِلاَّ خُيِّرَ قَوْلاً وَاحِدًا .
أَمَّا إِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ بِالدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ فَبَاعَهُ بِالثِّيَابِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْعُرُوضِ فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ لأِنَّ الْعُرُوضَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الأْثْمَانِ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ .
ج- الْمُخَالَفَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ:
إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْمُحَدَّدِ لَهُ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ صَحِيحًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ) لأِنَّ الْمُخَالَفَةَ هُنَا إِلَى خَيْرٍ فَلاَ تَكُونُ مُخَالَفَةً فِي الْحَقِيقَةِ، وَلأِنَّ الْمَفْهُومَ عُرْفًا إِنَّمَا هُوَ مَنْعُ النَّقْصِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِالنَّهْيِ عَنِ الزِّيَادَةِ فَتَمْتَنِعُ، لأِنَّ النُّطْقَ أَبْطَلَ حَقَّ الْعُرْفِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ، لأِنَّ الْمَالِكَ رُبَّمَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي إِبْرَارِ قَسَمٍ .
أَمَّا إِذَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْمُحَدَّدِ لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ فِي حَقِّهِ، وَإِلاَّ لاَ يَلْزَمُهُ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَقِيمَتُهَا إِنْ فَاتَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي .
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِذَا قَالَ الْوَكِيلُ أَوِ الْمُشْتَرِي: أَنَا أُتِمُّ مَا نَقَصَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُوَكِّلُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا نَفَذَ الْبَيْعُ عَلَيْهِ وَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُلْتَفِتُ إِلَى قَوْلِهِ، لأِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْبَيْعِ فَلَهُ الرَّدُّ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْوَكِيلُ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ مَعَ ضَمَانِ الْوَكِيلِ نُقْصَانَ الثَّمَنِ، وَلَهُمْ فِي تَقْدِيرِ قِيمَةِ النُّقْصَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ الْوَكِيلَ مَا بَيْنَ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَالثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ السِّلْعَةَ. وَالثَّانِي يَضْمَنُ مَا بَيْنَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ وَمَا لاَ يَتَغَابَنُونَ بِهِ لأِنَّ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِهِ وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ .
الأْمْرُ الثَّانِي: الْمُخَالَفَةُ فِي الْمَكَانِ:
إِذَا عَيَّنَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ مَكَانًا مُحَدَّدًا لِيَبِيعَ السِّلْعَةَ فِيهِ، فَخَالَفَ وَبَاعَهَا فِي مَكَانٍ آخَرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ شَاسٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ غَرَضٌ مُعَيَّنٌ لِلْمُوَكِّلِ، مِثْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ فِي سُوقٍ مُعَيَّنَةٍ وَكَانَ ذَلِكَ السُّوقُ مَعْرُوفًا بِجَوْدَةِ النَّقْدِ أَوْ كَثْرَةِ الثَّمَنِ أَوْ حِلِّهِ أَوْ بِصَلاَحِ أَهْلِهِ أَوْ بِمَوَدَّةٍ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَبَيْنَهُمْ، وَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهَذَا الْمَكَانِ وَلاَ تَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ بِأَنْ يَبِيعَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ نَصَّ عَلَى أَمْرٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ مُعَيَّنٌ فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ تَفْوِيتُهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مُعَيَّنٌ بِأَنْ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً فِي نَظَرِ الْمُوَكِّلِ. فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهَذَا الْمَكَانِ، وَجَازَ لَهُ الْبَيْعُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِمُسَاوَاتِهِ الْمَكَانَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْغَرَضِ، فَكَانَ تَنْصِيصُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إِذْنًا فِي الآْخَرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ تَقَيُّدِ الْوَكِيلِ بِالْمَكَانِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُوَكِّلُ، فَإِذَا خَالَفَ كَانَ ضَامِنًا، وَلاَ يُلْزِمُ الْمُوَكِّلَ بِالْبَيْعِ الْمُخَالِفِ، لأِنَّ مَقْصُودَهُ سِعْرُ الْمَكَانِ الَّذِي قُيِّدَ الْبَيْعُ فِيهِ فَلاَ تَصِحُّ مُخَالَفَةٌ مَقْصُودَةٌ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ الْمُخَالِفَ لِقَيْدِ الْمَكَانِ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ فِي حَقِّهِ، وَإِلاَّ لاَ يَنْفُذُ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قَدْ فَاتَتْ، سَوَاءً كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الأْغْرَاضُ أَمْ لاَ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ فِي غَيْرِهِ، لأِنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ عَيْنَهُ لِمَعْنًى هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ يَمِينٍ وَغَيْرِهَا فَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ . الأْمْرُ الثَّالِثُ: الْمُخَالَفَةُ فِي الزَّمَانِ:
إِذَا حَدَّدَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ زَمَنًا مُعَيَّنًا لِيَبِيعَ لَهُ السِّلْعَةَ فِيهِ، فَخَالَفَ وَبَاعَهَا فِي زَمَنٍ آخَرَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ الْمُخَالِفِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَلاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَذَلِكَ لأِنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ يُؤْثِرُ التَّصَرُّفَ فِي زَمَنِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَلاَ يُؤْثِرُهُ فِي زَمَنٍ آخَرَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَلأِنَّ إِذْنَ الْمُوَكِّلِ لاَ يَتَنَاوَلُ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ الْمُخَالِفِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ وَلاَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَرَدِّهِ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قَدْ فَاتَتْ .
الأْمْرُ الرَّابِعُ: الْمُخَالَفَةُ فِي الْبَيْعِ لِمُشْتَرٍ مُعَيَّنٍ:
إِذَا حَدَّدَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ مُشْتَرِيًا مُعَيَّنًا وَقَالَ لَهُ: لاَ تَبِعْ إِلاَّ لَهُ، فَخَالَفَ الْوَكِيلُ وَبَاعَ لِمُشْتَرٍ آخَرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لَمَ يُقَدِّرْهُ. لأِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِهِ الْمَبِيعَ دُونَ غَيْرِهِ، فَلاَ يَكُونُ الإْذْنُ فِي الْبَيْعِ لَهُ إِذْنًا فِي الْبَيْعِ لِغَيْرِهِ. وَرُبَّمَا كَانَ مَالُهُ أَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ.
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِذَا عَلِمَ الْوَكِيلُ بِقَرِينَةٍ أَوْ صَرَاحَةً أَنَّ الْمُوَكِّلَ لاَ غَرَضَ لَهُ فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي جَازَ لَهُ الْبَيْعُ لِغَيْرِهِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَرَدِّهِ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، أَمَّا إِنْ فَاتَتْ فَلَهُ رَدُّ قِيمَتِهَا .
الأْمْرُ الْخَامِسُ: الْمُخَالَفَةُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ:
إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بَأَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً، فَخَالَفَ وَبَاعَ بَعْضَهَا فَقَطْ وَلَمْ يَبِعِ الْبَاقِي، أَوْ بَاعَ الْبَعْضَ ثُمَّ بَاعَ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
الْحَالَةُ الأْولَى: تَبْعِيضٌ لاَ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّلِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لاَ ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ كَأَنْ وَكُلَّهُ فِي بَيْعِ عَقَارَيْنِ أَوْ حَيَوَانَيْنِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ التَّفْرِيقِ، لأِنَّ التَّفْرِيقَ لاَ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي صَالِحِهِ، لأِنَّ الْوَكِيلَ قَدْ لاَ يَسْتَطِيعُ بَيْعَ السِّلْعَةِ كُلِّهَا إِلاَّ بِالتَّفْرِيقِ، وَلأِنَّ الْعُرْفَ قَدْ يَقْتَضِي أَنْ تُبَاعَ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَا لَمْ يَنْهَهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ وَهِيَ أَنَّهُ كُلَّمَا خَالَفَ الْوَكِيلُ مُوَكِّلَهُ فِي الْبَيْعِ أَوْ خَالَفَ مَا قَضَتِ الْعَادَةُ بِهِ فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ يُخَيَّرُ فِي إِجَازَةِ الْبَيْعِ وَالرَّدِّ إِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً وَفِي الإْجَازَةِ وَالتَّضْمِينِ إِنْ فَاتَتْ .
تَبْعِيضٌ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّلِ:
إِذَا كَانَ التَّبْعِيضُ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّلِ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَقَارٍ أَوْ حَيَوَانٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأْوَّلُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي تَبْعِيضِ الْمَبِيعِ إِضْرَارٌ بِالْمُوَكِّلِ وَقَعَ الْبَيْعُ بَاطِلاً وَلاَ يَنْفُذُ فِي حَقِّهِ. لأِنَّ التَّوْكِيلَ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الصَّفْقَةِ، وَفِي التَّبْعِيضِ إِضْرَارٌ بِالْمُوكِّلِ وَتَشْقِيصٌ لِمِلْكِهِ وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلأِنَّ الْعُرْفَ فِيهِ أَنْ تُعْقَدَ عَلَى جَمِيعِهِ فَحُمِلَتِ الْوِكَالَةُ عَلَيْهِ .
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبُ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالسِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَبِقِيمَتِهَا إِنْ كَانَتْ قَدْ فَاتَتْ.
أَمَّا إِذَا قَامَ الْوَكِيلُ بِبَيْعِ الْبَاقِي مِنَ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ، لِزَوَالِ الْمُخَالَفَةِ بِبَيْعِ الْبَاقِي فَتَحَقَّقَ لِلْمُوَكِّلِ غَرَضُهُ فِي بَيْعِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ تَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ وَنَفَاذِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، لأِنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْبَيْعِ، وَالْمُوكِّلُ مَالِكٌ لِبَيْعِ الْبَعْضِ، كَمَا هُوَ مَالِكٌ لِبَيْعِ الْكُلِّ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ، وَلأِنَّهُ لَوْ بَاعَ الْكُلَّ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الثَّمَنِ يَجُوزُ فَلأَِنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْبَعْضِ بِهِ أَوْلَى، وَلأِنَّهُ نَفَعَ مُوَكِّلَهُ حَيْثُ أَمْسَكَ الْبَعْضَ عَلَى مِلْكِهِ .
الأْمْرُ السَّادِسُ: الْمُخَالَفَةُ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ:
إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً، فَخَالَفَ وَبَاعَ سِلْعَةً أُخْرَى مَكَانَهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ وَعَدَمِ نَفَاذِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، لأِنَّ الْوَكِيلَ خَالَفَ إِذْنَ مُوَكِّلِهُ فَبَاعَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِبَيْعِهِ، وَالْوَكِيلُ لاَ يَمْلِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلاَّ مَا يَقْتَضِيهِ إِذْنُ مُوَكِّلِهِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَرَدِّهِ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قَدْ فَاتَتْ فِي حَالَةِ الرَّدِّ .
ثَانِيًا: الْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ:
الْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً.
أ- إِطَلاَقُ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ:
يَجُوزُ إِطْلاَقُ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ، لأِّنَهُ مِمَّا يَمْلِكُ الْمَوَكِّلُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ الْتَفْوِيضَ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ، أَوْ مَا رَأَيْتَ، أَوْ أَيَّ ثَوْبٍ شِئْتَ، أَوْ أَيَّ دَارٍ شِئْتَ، أَوْ مَا تَيَسَّرَ لَكَ مِنَ الثِّيَابِ وَمِنَ الدَّوَابِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالثَّمَنِ، لأِّنَهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إِلَيْهِ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ. بِهَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ إِطْلاَقَ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ- كَأَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ- لاَ يَصِحُّ، لأِنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى ثَمَنِهِ .
شِرَاءُ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ سِلْعَةً مِمَّا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ أَوْ مِمَّنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ شِرَاءِ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ بِهِ، أَوَ مِنْ مَالِ الَّذِينَ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِلْوَكِيلِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ لاَ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ نَفْسِهِ لِمُوَكِّلِهِ، حَتَّى وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ، لأِنَّ الْحُقُوقَ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ تَرْجَعُ إِلَى الْوَكِيلِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الإْحَالَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا، مُطَالِبًا وَمُطَالَبًا، وَلأِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي الشِّرَاءِ مِنْ نَفْسِهِ .
وَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، لأَنَّ ذَلِكَ شِرَاءٌ مِنْ نَفْسِهِ.
أَمَّا الشِّرَاءُ مِنَ الأْشْخَاصِ الآْخَرِينَ الَّذِينَ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ كَأَبِيهِ وَجَدِّهُ وَوَلَدِهِ الْكَبِيرِ وَزَوْجَتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْحَنَفِيَّةُ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ أَيْضًا، لِمَا سَبَقَ فِي الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ (ر: ف \ 78).
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ إِذَا اشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، أَوْ بِأَقَلَّ، أَوْ بِزِيَادَةٍ
يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا.
وَلَوْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ عَامَّةً، بِأَنْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ مَا شِئْتَ، أَوْ قَالَ لَهُ: بِعْ مِنْ هَؤُلاَءِ، أَوْ أَجَازَ مَا صَنَعَهُ الْوَكِيلُ، جَازَ الشِّرَاءُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، لأِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ التُّهْمَةُ وَقَدْ زَالَتْ بِالأْمْرِ وَالإْجَازَةِ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ شِرَاءُ الْوَكِيلِ لِلْمُوَكِّلِ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ لاَ يَصِحُّ، لأِنَّ الْعُرْفَ فِي الشِّرَاءِ شِرَاءُ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ فَحُمِلَتِ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ وَكَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَلأِنَّهُ يَلْحَقُهُ بِهِ تُهْمَةٌ وَيَتَنَافَى الْغَرَضَانِ فِي شِرَائِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ لِمُوَكِّلِهِ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ نَهَاهُ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا أَذِنَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِمَّا يَمْلِكُهُ حَيْثُ قَالُوا بِجَوَازِهِ لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، فَيَصِحُّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ .
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: مِثْلُ الإْذْنِ لِلْوَكِيلِ فِي شِرَائِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ مَا لَوِ اشْتَرَى الْوَكِيلُ مِنْ نَفْسِهِ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ شِرَاءُ الْوَكِيلِ مِنْ نَفْسِهِ إِنْ لَمْ يُحَابِ نَفْسَهُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَوْ وَكَلَّ مَنْ يَشْتَرِي حَيْثُ جَازَ التَّوْكِيلُ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ وَلَدُهُ وَوَالِدُهُ وَزَوْجَتُهُ وَسَائِرُ مَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ لأِنَّ الْوَكِيلَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِمْ كَتُهْمَتِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.
وَيَجُوزُ شِرَاءُ الْوَكِيلِ لِلْمُوَكِّلِ مِمَّا يَمْلِكُهُ هَؤُلاَءِ إِذَا أَذِنَ الْمُوَكِّلُ، لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ أَحَدُ مَحَاجِيرِهِ كَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا إِذَا أَذِنَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ بِالشِّرَاءِ مِنْ أَحَدِ مَحَاجِيرِهِ، أَوْ تَمَّ الشِّرَاءُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ مَحْجُورُهُ إِنْ لَمْ يُحَابِهِ .
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ إِخْوَتُهُ وَأَقَارِبُهُ كَعَمِّهِ وَابْنَيْ أَخِيهِ وَعَمِّهِ، وَقَيَّدَ فِي الإْنْصَافِ جَوَازَ الشِّرَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، وَحَيْثُ حَصَلَ تُهْمَةٌ فِي ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا لاَ يَشْتَرِي لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ أَوْ وَلَدُهُ الصَّغِيرُ أَوْ أَحَدُ مَحَاجِيرِهِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ، لأِنَّ الأْصْلَ عَدَمُ اتِّحَادِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِلِ وَإِنِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ، وَلأِنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ لِيَهَبَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ، لاِتِّحَادِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِلِ.
وَقَالُوا فِي الأْصَحِّ: يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ أَبُو الْوَكِيلِ وَابْنُهُ الْبَالِغُ وَسَائِرُ فُرُوعِهِ الْمُسْتَقِلِّينَ.
وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ: لاَ يَجُوزُ لأِنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْمَيْلِ إِلَيْهِمْ .
ب- الْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ الْمُقَيَّدَةُ:
تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ الْمُقَيَّدَةُ بِشَرْطِ خُلُوِّهَا عَنِ الْجَهَالَةِ الْكَثِيرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الاِسْتِحْسَانِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، حَيْثُ قَالُوا بِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ الْمُقَيَّدَةِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ نَوْعَ السِّلْعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا. كَأَنْ يَقُولَ الْمُوَكُّلُ لِلْوَكِيلِ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا- وَلَمْ يَذْكُرْ نَوْعَهُ- فِإِنَّهُ يَصِحُّ، لأِنَّهُ تَوْكِيلٌ فِي شِرَاءِ ثَوْبٍ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ ذِكْرَ نَوْعِهِ كَالْقِرَاضِ.
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَ الَحَنَفِيَّةِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم دَفَعَ دِينَارًا إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ أُضْحِيَّةً» . وَلَوْ كَانَتِ الْجَهَالَةُ الْقَلِيلَةُ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الْتَوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ، لأِنَّ جَهَالَةَ الصِّفَةِ لاَ تَرْتَفِعُ بِذِكْرِ الأْضْحِيَّةِ وَبِقَدْرِ الثَّمَنِ، وَلأَّنَ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، لأِنَّ مَبْنَى التَّوْكِيلِ عَلَى الْفُسْحَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ عِنْدَ قِلَّةِ الْجَهَالَةِ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ لأِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايِقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَالْجَهَالَةُ فِيهِ وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ لأِنَّهُ مَجْهُولٌ .
مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ لِقُيُودِ الْمُوَكِّلِ فِي الشِّرَاءِ:
مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ تَكُونُ فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
الأْمْرُ الأْوَّلُ: الْمُخَالَفَةُ فِي الثَّمَنِ:
مُخَالَفَةُ وَكَيْلِ الشِّرَاءِ فِي الثَّمَنِ قَدْ تَكُونُ فِي وَصْفِهِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي جِنْسِهِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي قَدْرِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ ـ الْمُخَالَفَةُ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ:
وَتَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ فِي حَالَتَيْنِ:
الْحَالَةُ الأْولَى: مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ عَلَى الْحُلُولِ بِأَنِ اشْتَرَى نَسِيئَةً:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُخَالَفَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ عَلَى الْحُلُولِ بِأَنِ اشْتَرَى نَسِيئَةً عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الأْوَّلُ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى صِحَّةِ الشِّرَاءِ وَلُزُومِهِ لِلْمُوَكِّلِ إِذَا لَمَّ يَزِدِ الْوَكِيلُ فِي الثَّمَنِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُوَكِّلُ، لأِنَّ الْمُخَالَفَةَ هُنَا فِي الصُّورَةِ فَقَطْ وَلَكِنَّهَا وِفَاقٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ بِالْمَعَانِي دُونَ الأْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَلَوْ تَضَرَّرَ .
الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الشِّرَاءُ لأِنَّ الْمُوَكِّلَ قَصَدَ أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَأَنْ لاَ يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ إِلاَّ بِمَا مَعَهُ، فَلاَ يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ وَلاَ لِلْوَكِيلِ بَلْ تَبْقَى الْعَيْنُ فِي مِلْكِ مَالِكِهَا .
الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ هَذَا الشِّرَاءُ إِنْ حَصَلَ ضَرَرٌ لِلْمُوَكِّلِ وَإِلاَّ يَصِحُّ قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ عَلَى النَّسِيئَةِ بِأَنِ اشْتَرَى حَالًّا:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُخَالَفَةِ الْوَكِيلِ عَلَى النَّسِيئَةِ بِأَنِ اشْتَرَى حَالًّا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لِلْوَكِيلِ وَلاَ يَلْزَمُ مُوَكِّلَهُ، لأِنَّهُ خَالَفَ قَيْدَ مُوَكِّلِهِ فَيَلْزَمُهُ هُوَ دُونَ مُوَكِّلِهِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَالَفَ الْوَكِيلُ مُخَصَّصَاتِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنْ شَاءَ أَمْضَى فِعْلَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ وَتَلْزَمُ السِّلْعَةُ الْوَكِيلَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَتَى خَالَفَ الْوَكِيلُ الْمُوَكِّلَ فِي الشِّرَاءِ بِعَيْنِهِ بِأَنِ اشْتَرَى لَهُ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ .
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَقَعُ إِلاَّ إِذَا أَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ لأِنَّ الْقَاعِدَةَ عِنْدَهُمْ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ خَالَفَ الْوَكِيلُ مُوَكِّلَهُ فِيهِ فَكَتَصَرُّفٍ فُضُولِيٍّ .
ب- الْمُخَالَفَةُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ:
إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِجِنْسٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الثَّمَنِ، فَخَالَفَ وَاشْتَرَى بِجِنْسٍ آخَرَ مِنْهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الشِّرَاءِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ بَاطِلاً لِمُخَالَفَةِ الْوَكِيلِ مَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ. لأِنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ جَعْلِ الدَّرَاهِمِ مَكَانَ الدَّنَانِيرِ وَالْعَكْسِ، لأِنَّ مَنْ رَضِيَ بِدِرْهَمٍ رَضِيَ مَكَانَهُ بِدِينَارٍ، أَمَّا الْعُرُوضُ فَلاَ يَصِحُّ جَعْلُهَا مَكَانَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُطْلَقًا، لأِنَّهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الأْثْمَانِ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ: اشْتَرِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَى بِمَا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَلْزَمُ الْمُوكِّلَ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ، لأِنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِمُوَكِّلِهِ.
أَمَّا لَوْ قَالَ لَهُ: اشْتَرِهَا لِي بِمِائَةِ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِينَارٍ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ، لأِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَكَانَ التَّقَيُّدُ بِأَحَدِهِمَا مُفِيدًا .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى بِعُرُوضٍ بَدَلاً مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ وَقَعَ الشِّرَاءُ لَهُ وَإِلاَّ وَقَعَ لِلْوَكِيلِ .
أَمَّا إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِالدَّرَاهِمِ وَقَدْ نَصَّ لَهُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الدَّنَانِيرِ أَوِ اشْتَرَى بِالدَّنَانِيرِ وَقَدْ نَصَّ لَهُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الدَّرَاهِمِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشِّرَاءَ لاَزِمٌ لِلْمُوَكِّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: لِلْمُوَكِّلِ الْخِيَارُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَمَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ نَقْدَ الْبَلَدِ وَثَمَنَ الْمِثْلِ، وَالسِّلْعَةُ مِمَّا تُبَاعُ بِهِ وَاسْتَوَتْ قِيمَتُهُمَا، وَإِلاْ خُيِّرَ الْمُوَكِّلُ قَوْلاً وَاحِدًا .
ج ـ الْمُخَالَفَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ:
إِذَا خَالَفَ الْوَكِيلُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الْمُوكَّلِ بِالشِّرَاءِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ إِلَى خَيْرٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى خَيْرٍ كَأَنْ أَمْرَهُ بِشِرَاءِ دَابَّةٍ بِأَلْفٍ فَاشْتَرَاهَا بِأَقَلَّ صَحَّ الشِّرَاءُ وَلَزِمَ الْمُوكِّلَ، لأِنَّ الْمُخَالَفَةَ إِلَى خَيْرٍ خِلاَفٌ فِي الصُّورَةِ فَقَطْ، فَلاَ تُعَدُّ مُخَالَفَةً حَقِيقِيَّةً.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذَا الأْصْلِ مَا إِذَا نَهَى الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ عَنِ النَّقْصِ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ اشْتَرِهِ بِمِائَةٍ وَلاَ تَشْتَرِهِ بِدُونِهَا فَخَالَفَهُ وَاشْتَرَاهُ بِتِسْعِينَ لَمْ يَجُزِ الشِّرَاءُ، لِمُخَالَفَتِهِ مُوَكِّلَهُ، وَلأِنَّ النُّطْقَ أَبْطَلَ حَقَّ الْعُرْفِ .
أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمُخَالَفَةُ لَيْسَتْ فِي صَالِحِ الْمُوَكِّلِ، بِأَنِ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْمُقَدَّرِ لَهُ.
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى يَلْزَمُ الْوَكِيلَ وَلاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ السِّلْعَةَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمَبْلَغِ الْمُسَمَّى وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً مِثْلَ وَاحِدٍ فِي عِشْرِينَ، وَاثْنَيْنِ فِي أَرْبَعِينَ فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَلاَ خِيَارَ لَهُ لِيَسَارَةِ الزِّيَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَشَأْنُ النَّاسِ التَّغَابُنُ فِي ذَلِكَ. إِمَّا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً فَإِنَّ الشِّرَاءَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلِ الزِّيَادَةَ لَزِمَ الْوَكِيلَ.
وَلَكِنْ لَوِ الْتَزَمَ الْوَكِيلُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي حَدَّدَهُ لَهُ الْمُوَكِّلُ فَإِنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لَهُ وَيَلْزَمُهُ الْعَقْدُ، لِتَصْحِيحِ الْمُخَالَفَةِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمَبْلَغِ الْمُقَدَّرِ بَاطِلٌ، لأِنَّهُ تَصْرِفٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ وَيَضْمَنُ الْوَكِيلُ الزِّيَادَةَ .
الأْمْرُ الثَّانِي: الْمُخَالَفَةُ فِي الْمُشْتَرَى:
أ ـ الْمُخَالَفَةُ فِي جِنْسِ الْمُشْتَرَى:
إِذَا خَالَفَ الْوَكِيلُ فَاشْتَرَى خِلاَفَ مَا وُكِّلَ فِي شِرَائِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الشِّرَاءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ، لأِنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ فَوَقَعَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَلاَ يَلْزَمُ بِهِ الْمُوَكِّلَ، لأِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ بِهَذَا الشِّرَاءِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ. فَإِذَا رَدَّهُ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ لِمُخَالَفَتِهِ مَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ هُوَ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ اشْتَرَى غَيْرَ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعَيْنِ الْمَالِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ كَانَ الشِّرَاءُ بَاطِلاً، وَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْمُوَكِّلَ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ وَلاَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ نَوَى الْمُوكِّلَ، لأِنَّ الْخِطَابَ وَقَعَ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ بِالنِّيَّةِ إِلَى الْمُوَكِّلِ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لإِذْنِهِ، فَإِنْ خَالَفَ لَغَتْ نِيَّتُهُ.
وَإِنْ سَمَّاهُ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ لِفُلاَنٍ، فَكَذَا يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ فِي الأْصَحِّ وَتَلْغُو تَسْمِيَةُ الْمُوَكِّلِ فِي الْقَبُولِ لأِنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشِّرَاءِ، فَإِذَا سَمَّاهُ وَلَمْ يُمْكِنْ صَرْفُهَا إِلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ.
وَفِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ، لأِنَّهُ صَرَّحَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ وَقَدِ امْتَنَعَ إِيقَاعُهُ لَهُ فَيُلْغَى .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَكِيلِ فِي جِنْسِ الْمُشْتَرَى لاَ تَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ قَدِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ، أَوِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ.
فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهُ فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ، لأِنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَتْ صِحَّةُ الشِّرَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَعَنْ أَحْمَدَ فِي نَفَاذِهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الشِّرَاءُ لاَزِمٌ لِلْمُشْتَرِي، لأِنَّهُ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ إِذَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَقِفُ نَفَاذُ الشِّرَاءِ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ فَإِنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ، لأِنَّهُ اشْتَرَى لَهُ وَقَدْ أَجَازَهُ فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى بِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ وَلَزِمَ الْوَكِيلَ؛ لأِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ الْمُوَكِّلَ، لأِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي شِرَائِهِ، وَلَزِمَ الْوَكِيلَ، لأِنَّ الشِّرَاءَ صَدَرَ مِنْهُ وَلَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ.
أَمَّا إِنِ اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ بِعَيْنِ الْمَالِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْوَكِيلُ: بِعْنِي الدَّابَّةَ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَيَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ وَإِنْ أَجَازَهُ صَحَّ .
ب ـ الْمُخَالَفَةُ فِي قَدْرِ الْمُشْتَرَى:
إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَيْئًا، فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ الشَّيْءَ وَزِيَادَةً مِنْ جِنْسِهِ بِنَفْسِ الثَّمَنِ الَّذِي أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ هَذَا الشَّيْءَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا التَّصَرُّفِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْقِيمِيَّاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ:
فَأَمَّا الْقِيمِيَّاتُ فَلاَ يَنْفُذُ بِشَيْءٍ عَلَى الْمُوَكِّلِ (إِجْمَاعًا) فَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ هَرَوِىٍّ بِعَشَرَةٍ، فَاشْتَرَى لَهُ ثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ بِعَشَرَةٍ مِمَّا يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةً لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ؛ لأِنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ؛ إِذْ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِالْحَزْرِ.
أَمَّا الْمَوْزُونُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى عِشْرِينَ رِطْلاً بِدِرْهَمٍ مِمَّا يُبَاعُ مِنْهُ عَشَرَةٌ بِدِرْهَمٍ.
فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَكَذَا مُحَمَّدٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْبَاقِي، لأِنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الأْمْرِ فَلاَ يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْضِعَ الأْمْرِ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَشْرَةٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِشِرَاءِ الزِّيَادَةِ، فَنَفَذَ شِرَاؤُهَا عَلَيْهِ، وَشِرَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَذَلِكَ بِخِلاَفِ مَا إِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ فَرَسِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ؛ لأِنَّ الزِّيَادَةَ هُنَا بَدَلُ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ فَتَكُونُ لَهُ.
- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ الْعِشْرُونَ؛ لأِنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِ الدِّرْهَمِ فِي اللَّحْمِ، وَظَنَّ أَنَّ سِعْرَهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى بِهِ عِشْرِينَ رِطْلاً فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا، وَصَارَ كَمَا إِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ فَرَسِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ.
- وَإِذَا كَانَتْ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ مِنَ اللَّحْمِ لاَ تُسَاوِي دِرْهَمًا نَفَذَ الْكُلُّ عَلَى الْوَكِيلِ بِالاِتِّفَاقِ.
وَلَوِ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَنِصْفَ رِطْلٍ بِدِرْهَمٍ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ اسْتِحْسَانًا .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْبَغَ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: اشْتَرِ لِي شَاةً بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى لَهُ شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ تَسَاوَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دِينَارًا صَحَّ، وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ .
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الشِّرَاءَ يَصِحُّ إِذَا كَانَتْ إِحْدَى الشَّاتَيْنِ تُسَاوِي الدِّينَارَ وَإِنْ لَمْ تُسَاوِهِ الشَّاةُ الأْخْرَى، أَمَّا إِذَا لَمْ تُسَاوِ إِحْدَاهُمَا دِينَارًا لَمْ يَصِحَّ فِي الْمَذْهَبِ.
وَإِنْ سَاوَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّاتَيْنِ نِصْفَ دِينَارٍ صَحَّ لِلْمُوَكِّلِ وَيَلْزَمُهُ لاَ لِلْوَكِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لاَ تُسَاوِي نِصْفَ دِينَارٍ فَرِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ.
وَقِيلَ: الزَّائِدُ عَلَى الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ الْمُقَدَّرَيْنِ لِلْوَكِيلِ .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا وَصَفَ الْمُوَكِّلُ الشَّاةَ أَوْ لَمَ يَصِفْهَا.
وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَصِفِ الْمُوَكِّلُ الشَّاةَ فَإِنَّ التَّوْكِيلَ لَمْ يَصِحَّ.
أَمَّا لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: اشْتَرِ بِهَذَا الدِّينَارِ شَاةً وَوَصَفَهَا فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ بِالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ: فَإِنْ لَمْ تُسَاوِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا دِينَارًا لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهَا جَمِيعًا عَلَى الدِّينَارِ لِفَوَاتِ مَا وَكَّلَ فِيهِ.
وَإِنْ سَاوَتْهُ أَوْ زَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَالأَْظْهَرُ صِحَّةُ الشِّرَاءِ وَحُصُولُ الْمِلْكِ فِيهِمَا لِلْمُوَكِّلِ.
وَمُقَابِلُ الأْظْهَرِ: لَوِ اشْتَرَى الْوَكِيلُ فِي الذِّمَّةِ فَلِلْمُوَكِّلِ وَاحِدَةٌ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَالأْخْرَى لِلْوَكِيلِ وَيَرُدُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ نِصْفَ دِينَارٍ.
وَأَمَّا لَوِ اشْتَرَى بِعَيْنِ الدِّينَارِ فَقَدِ اشْتَرَى شَاةً بِإِذْنٍ وَشَاةً بِغَيْرِ إِذْنٍ فَيَبْطُلُ فِي شَاةٍ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
- أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الشَّاتَانِ بِالصِّفَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِالصِّفَةِ دُونَ الأْخْرَى وَتُسَاوِيهِ وَقَعَ شِرَاؤُهُمَا لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بِالصِّفَةِ لَمْ يَقَعْ شِرَاؤُهُمَا لِلْمُوَكِّلِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: لاَ خِيَارَ لِلْمُوَكِّلِ إِنْ قَالَ لِوَكِيلِهِ اشْتَرِ شَاةً بِدِينَارٍ مَثَلاً دَفَعَهُ لَهُ فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ اثْنَتَيْنِ لَمْ يُمْكِنْ إِفْرَادُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الأْخْرَى بِالشِّرَاءِ لاِمْتِنَاعِ الْبَائِعِ مِنْهُ.
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِفْرَادُ إِحْدَاهُمَا بِالشِّرَاءِ وَاشْتَرَاهُمَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَزِمَتِ الأْولَى إِنِ اشْتَرَاهُمَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَإِحْدَاهُمَا إِنِ اشْتَرَاهُمَا مَعًا فَالأْولَى فِي الصُّورَةِ الأْولَى وَإِحْدَاهُمَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وَيُخَيَّرُ فِي أَخْذِ الشَّاةِ الثَّانِيَةِ، وَتَرْكِهَا لِلْوَكِيلِ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ .
ج - الْمُخَالَفَةُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ:
إِذَا قَامَ الْوَكِيلُ بِتَفْرِيقِ مَا وَكَّلَ بِشِرَائِهِ بِأَنْ قَامَ بِشِرَاءِ بَعْضِ الصَّفْقَةِ فَقَطْ، وَلَمْ يَشْتَرِ الْبَاقِي، أَوْ قَامَ بِشِرَاءِ الْبَعْضِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِشِرَاءِ الْبَاقِي، فَالأْمْرُ لاَ يَخْلُو مِنْ حَالَتَيْنِ:
الْحَالَةُ الأْولَى: أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ بِهِ مِمَّا لاَ يَمْتَنِعُ تَبْعِيضُهُ عُرْفًا، وَلاَ يَضُرُّ الْمُوَكِّلَ تَبْعِيضُهُ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بَعْضَهَا سَوَاءً أَتْبَعَ ذَلِكَ بِشِرَاءِ الْبَاقِي أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي اشْتَرَاهُ فَقَطْ.
فَلَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاتَيْنِ بِمَبْلَغٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ، فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ وَاحِدَةً فَقَطْ بِنِصْفِ الْمَبْلَغِ صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَزِمَتِ الْمُوَكِّلَ الشَّاةُ الْمُشْتَرَاةُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ النَّفَاذُ عَلَى شِرَاءِ الأْخْرَى، لأِنَّ الإْذْنَ وَإِنْ تَنَاوَلَهُمَا مَعًا لَكِنَّ الْعُرْفَ لاَ يَمْنَعُ التَّبْعِيضَ وَهُوَ لاَ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّلِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْوَكِيلُ إِلاَّ شِرَاءَ وَاحِدَةً فَقَطْ، فَتَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ سِلْعَةٍ لاَ يَضُرُّ تَفْرِيقُهَا بِالْمُوَكِّلِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ جَوَازَ الشِّرَاءِ مُفَرَّقًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا إِذَا لَمْ يَقُلِ الْمُوَكِّلُ: اشْتَرِ لِي ذَلِكَ صَفْقَةً، لأِنَّ تَنْصِيصَهُ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَرَضِهِ فِيهِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ إِذْنَهُ سِوَاهُ .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْنَعَ الْعُرْفُ تَبْعِيضَهُ، أَوْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِالْمُوَكِّلِ، كَأَنْ يُوَكِّلُ شَخْصٌ آخَرَ فِي شِرَاءِ ثَوْبٍ مِنَ الصُّوفِ، فَيَشْتَرِي الْوَكِيلُ بَعْضَهُ فَقَطْ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقْتَضَى عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، لأِنَّ الإْذْنَ تَنَاوَلَ جَمِيعَهُ، وَفِي التَّبْعِيضِ إِضْرَارٌ بِهِ وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُوَكِّلُ لَزِمَ الْوَكِيلَ مَا اشْتَرَاهُ لِمُخَالَفَتِهِ إِذَنْ مُوَكِّلِهِ.
غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: إِذَا قَامَ الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ الْبَاقِي مِنَ الصَّفْقَةِ وَقَعَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُخَاصِمَهُ الْمُوَكِّلُ أَمَامَ الْقَضَاءِ، لأِنَّ شِرَاءَ الْبَعْضِ قَدْ يَقَعُ وَسِيلَةً لِلاِمْتِثَالِ كَأَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَوْرُوثًا فَيَشْتَرِيَهُ الْوَكِيلُ شِقْصًا شِقْصًا يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ وَارِثٍ حِصَّتَهُ فَإِنِ اشْتَرَى الْبَاقِيَ قَبْلَ مُخَاصَمَةِ الْمُوَكِّلِ تَبَيَّنَ أَنَّ شِرَاءَهُ لِلْبَعْضِ كَانَ وَسِيلَةً لِلاِمْتِثَالِ فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لاَ يَنْفُذُ الشِّرَاءُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بَلْ يَقَعُ لِلْوَكِيلِ .
أَمَّا لَوْ خَاصَمَ الْمُوكِّلُ وَكِيلَهُ إِلَى الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَكِيلُ الْبَاقِيَ وَأَلْزَمَ الْقَاضِي الْوَكِيلَ، ثُمَّ قَامَ الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُشْتَرَى لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، لِمُخَالَفَتِهِ لأِمْرِ مُوَكِّلِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى بُطْلاَنِ الشِّرَاءِ مَعَ التَّفْرِيقِ، لأِنَّ الْوَكِيلَ خَالَفَ إِذْنَ مُوَكِّلِهِ بِشِرَاءِ الْجَمِيعِ، وَفِي تَبْعِيضِ الْمَبِيعِ إِضْرَارٌ بِالْمُوَكِّلِ وَتَفْرِيقٌ لِمِلْكِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ هَذَا الشِّرَاءُ .
د- مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِأَنِ اشْتَرَى مَعِيبًا:
إِذَا وَكَّلَ إِنْسَانٌ شَخْصًا فِي أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً مَوْصُوفَةً لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا إِلاَّ سَلِيمَةً خَالِيَةً مِنَ الْعُيُوبِ، لأِنَّ إِطْلاَقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي السَّلاَمَةَ مِنَ الْعُيُوبِ، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَى عَيْنًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا ثَبَتَ لَهُ الرَّدُّ .
فَإِذَا خَالَفَ وَاشْتَرَاهَا مَعِيبَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الشِّرَاءِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا وَكَّلَ فِي شِرَاءِ سِلْعَةٍ مَوْصُوفَةٍ، فَاشْتَرَى سِلْعَةً لاَ تَتَحَقَّقُ فِيهَا هَذِهِ الصِّفَةُ، لَمْ تَلْزَمِ الآْمِرَ (الْمُوَكِّلَ).
فَلَوْ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ لِي جَارِيَةً تَخْدُمُنِي أَوْ لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِلْخَبْزِ، أَوْ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِعَمَلٍ مِنَ الأْعْمَالِ فَاشْتَرَى جَارِيَةً عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ، أَوِ الرِّجْلَيْنِ لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إِجْمَاعًا.
وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ دَابَّةً يَرْكَبُهَا فَاشْتَرَى مُهْرًا، أَوْ عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ لَمْ يَلْزَمِ الآْمِرَ.
- وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا يَقْطَعُهُ قَمِيصًا، فَاشْتَرَى ثَوْبًا لاَ يَكْفِيهِ قَمِيصًا، لاَ يَلْزَمِ الآْمِرَ.
أَمَّا لَوْ وَكَّلَ رَجُلاً وَقَالَ لَهُ اشْتَرِ لِي جَارِيَةً أُعْتِقُهَا عَنْ ظِهَارِي، فَاشْتَرَى عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ، أَوِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ، لَزِمَ الآْمِرَ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ. لَوْ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ لاَ يَلْزَمُ الشِّرَاءُ الآْمِرَ .
وَقَالُوا: إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ وَقَبَضَ الْمُشْتَرَى ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ مَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، لأِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ.
فَإِنَّ سَلَّمَهُ إِلَى الْمُوكِّلِ لَمْ يَرُدَّهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ لأِنَّهُ انْتَهَى حُكْمُ الْوَكَالَةِ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ فَخَرَجَ مِنَ الْوَكَالَةِ.
وَلَوْ رَضِيَ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ، ثُمَّ الْمُوَكِّلُ إِنْ شَاءَ قَبِلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَلْزَمَ الْوَكِيلَ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ مَعِيبًا مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ لَزِمَهُ إِذَا كَانَ اشْتَرَاهُ عَلَى الْبَتِّ أَوْ عَلَى الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَأَمْضَى الْبَائِعُ الْبَيْعَ.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ عَلَى خِيَارٍ لَهُ وَلَمْ يَنْقَضِ زَمَنُهُ فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ، وَلَهُ رَدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ، وَمَحَلُّ هَذَا إِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُوَكِّلُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ قَلِيلاً يُغْتَفَرُ مِثْلُهُ عَادَةً وَالشِّرَاءُ فُرْصَةً أَيْ غِبْطَةً فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ كَدَابَّةٍ مَقْطُوعَةِ ذَنَبٍ لِغَيْرِ ذِي هَيْئَةٍ وَهِيَ رَخِيصَةٌ، أَمَّا شِرَاءُ دَابَّةٍ مَقْطُوعَةِ ذَنَبٍ لِذِي هَيْئَةٍ فَلاَ تَلْزَمُ وَلَوْ رَخِيصَةً .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: شِرَاءُ الْوَكِيلِ الْمَعِيبَ لاَ يَخْلُو:
إِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَعِيبَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ الْمَعِيبَ مَعَ الْعَيْبِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ لاَ يُسَاوِيَ.
فَإِذَا اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ وَالْمَعِيبُ يُسَاوِي مَعَ الْعَيْبِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ وَقَعَ الشِّرَاءُ عَنِ الْمُوَكِّلِ إِنْ جَهِلَ الْمُشْتَرِي الْمَعِيْبَ، إِذْ لاَ ضَرَرَ عَلَى الْمَالِكِ، لِتَخْيِيرِهِ، وَلاَ تَقْصِيرَ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ لِجَهْلِهِ، وَلاَ خَلَلَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لإِطْلاَقِهِ.
وَإِنْ عَلِمَ الْوَكِيلُ الْعَيْبَ فَلاَ يَقَعُ الشِّرَاءُ عَنِ الْمُوَكِّلِ فِي الأْصَحِّ، لأِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ سَوَاءٌ سَاوَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ أَمْ زَادَ.
وَفِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ، لأِنَّ الصِّيغَةَ مُطْلَقَةٌ وَلاَ نَقْصَ فِي الْمَالِيَّةِ.
وَإِنْ لَمْ يُسَاوِ الْمَعِيبُ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْمُوكِّلِ إِنْ عَلِمَ الْوَكِيلُ الْعَيْبَ لِتَقْصِيرِهِ، وَقَدْ يَهْرُبُ الْبَائِعُ فَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الرَّدِّ فَيَتَضَرَّرُ.
أَمَّا إِنْ جَهِلَ الْوَكِيلُ الْعَيْبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَعَ لِلْمُوَكِّلِ فِي الأْصَحِّ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ جَاهِلاً.
وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ: لاَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ لأِنَّ الْغَبْنَ يَمْنَعُ الْوُقُوعَ عَنِ الْمُوَكِّلِ مَعَ السَّلاَمَةِ فَعِنْدَ الْعَيْبِ أَوْلَى.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ الْمَعِيبَ بِعَيْنِ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ الْعَيْبَ فَإِنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ.
وَإِذَا عَلِمَ الْوَكِيلُ الْعَيْبَ وَاشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ الْمُوَكِّلِ لاَ يَصِحُّ الشِّرَاءُ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَنُصَّ الْمُوَكِّلُ عَلَى سَلاَمَةِ الْمُشْتَرَى مِنَ الْعَيْبِ، فَإِنْ نَصَّ عَلَى السَّلاَمَةِ فَالْوَجْهُ كَمَا قَالَ الإْسْنَوِيُّ: أَنَّهُ لاَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ، لأِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ .
وَإِذَا وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ فِي صُورَتَيِ الْجَهْلِ فَلِكُلٍّ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، أَمَّا الْمُوَكِّلُ فَلأِنَّهُ الْمَالِكُ وَالضَّرَرُ لاَحِقٌ بِهِ، وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَلأِنَّهُ نَائِبُهُ.
أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ فِي صُورَةِ الْعِلْمِ فَيَرُدُّهُ الْمُوَكِّلُ وَحْدَهُ.
وَلَوْ رَضِيَ الْمُوَكِّلُ بِالْعَيْبِ أَوْ قَصَّرَ فِي الرَّدِّ فِيمَا إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَرُدَّ الْوَكِيلُ، إِذْ لاَ حَظَّ لَهُ فِي الْفَسْخِ.
وَلَوْ قَصَّرَ الْوَكِيلُ فِي الرَّدِّ أَوْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ رَدَّهُ الْمُوَكِّلُ لِبَقَاءِ حَقِّهِ إِذَا سَمَّاهُ الْوَكِيلُ فِي الشِّرَاءِ أَوْ نَوَاهُ وَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ وَإِلاَّ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ لأِنَّهُ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْمُوَكِّلُ فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ لِلْوَكِيلِ: أَخِّرِ الرَّدَّ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ لَمْ تَلْزَمْهُ إِجَابَتُهُ، وَإِنْ أَخَّرَ فَلاَ رَدَّ لَهُ لِتَقْصِيرِهِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً مَعِيبَةً: إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيلُ عَيْبَهَا، وَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ.
فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهِ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّلَ مَا اشْتَرَاهُ، لأِنَّهُ اشْتَرَى غَيْرَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي شِرَائِهِ.
هَذَا إِذَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ فِي الذِّمَّةِ، وَقَالُوا: إِنِ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِعَيْنِ الْمَالِ فَكَشِرَاءِ فُضُولِيٍّ فِي الْمَذْهَبِ .
وَقَالَ الأْزَجِيُّ: إِنِ اشْتَرَاهُ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ فَهَلْ يَقَعُ عَنِ الْمُوَكِّلِ؟ لأِنَّ الْعَيْبَ إِنَّمَا يُخَافُ مِنْهُ نَقْصُ الْمَالِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِلثَّمَنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِهِ، أَمْ لاَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الشِّرَاءُ، لأِنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الصَّحِيحِ فِي الظَّاهِرِ لِعَجْزِهِ عَنِ التَّحَرُّزِ عَنْ شِرَاءِ مَعِيبٍ لاَ يَعْلَمُ عَيْبَهُ.
وَقَالَ الأْزَجِيُّ: إِنْ جَهِلَ الْوَكِيلُ عَيْبَ الْمُشْتَرَى وَقَدِ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ فَهَلْ يَقَعُ عَنِ الْمُوَكِّلِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ .
فَإِذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ مَلَكَ الرَّدَّ، لأِنَّهُ قَائِمٌ فِي الشِّرَاءِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَلِلْمُوَكِّلِ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ أَيْضًا لأِنَّ الْمِلْكَ لَهُ.
فَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ رَدِّ الْوَكِيلِ وَرَضِيَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ رَدُّهُ لأِنَّ الْحَقَّ لَهُ .
هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ مَوْصُوفَةٍ وَخَالَفَ الْوَكِيلُ فَاشْتَرَاهَا مَعِيبَةً.
أَمَّا أَمْرُ الْمُوَكِّلِ وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ عَيَّنَهَا لَهُ وَهِيَ مَعِيبَةٌ فَقَدْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَإِمَّا أَنْ لاَ يَعْلَمَ بِهِ.
فَإِنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَلَيْسَ لَهُ شِرَاؤُهُ، لأِنَّ الْعَيْبَ إِذَا جَازَ بِهِ الرَّدُّ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلأَنْ يُمْنَعَ مِنَ الشِّرَاءِ أَوْلَى.
فَإِنِ اشْتَرَاهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَزِمَ الْوَكِيلَ الشِّرَاءُ، لأِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَعِيبٍ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَهُ الْمُوَكِّلُ فَلَهُ، لأِنَّ الْوَكِيلَ نَوَى الْعَقْدَ لَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَهُ الْمُوَكِّلُ لَزِمَ الْمَعِيبُ الْوَكِيلَ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِحَيْثُ اشْتَرَى السِّلْعَةَ وَوَجَدَهَا مَعِيبَةً فَلَهُ الرَّدُّ لاِقْتِضَاءِ الأْمْرِ السَّلاَمَةَ .
هَذَا إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ فِي ذِمَّتِهِ.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ الَّذِي وُكِّلَ فِي الشِّرَاءِ بِهِ فَشِرَاءٌ فُضُولِيٌّ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ لاَ يَصِحُّ لِلْمُوَكِّلِ .
وَقَالُوا: لِلْوَكِيلِ وَلِلْمُوَكِّلِ رَدُّ مَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ غَيْرَ عَالِمٍ بِعَيْبِهِ، أَمَّا الْمُوَكِّلُ فَلأِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَلِقِيَامِهِ مَقَامَهُ.
وَلاَ يَرُدُّ وَكِيلٌ مَا عَيَّنَهُ لَهُ مُوَكِّلٌ كَاشْتَرِ هَذَا الثَّوْبَ أَوِ الْحَيَوَانَ، فَاشْتَرَاهُ بِعَيْبٍ وَجَدَهُ الْوَكِيلُ فِيهِ قَبْلَ إِعْلاَمِ الْمُوَكِّلِ قَالَ فِي الرِّعَايَتَيْنِ: هَذَا أَوْلَى، وَقَالَ فِي تَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ: هَذَا الأْظْهَرُ، وَقَالَ فِي الإْنْصَافِ: وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِقَطْعِهِ نَظَرَ وَكِيلِهِ بِتَعْيِينِهِ، فَرُبَّمَا رَضِيَهُ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ مُعَيَّنٍ، فَاشْتَرَاهُ، وَوَجَدَهُ مَعِيبًا؛ فَلَهُ الرَّدُّ قَبْلَ إِعْلاَمِهِ مُوَكِّلَهُ.
وَيَرُدُّ الْوَكِيلُ مَبِيعًا وَجَدَهُ مَعِيبًا مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ لَهُ الْمُوَكِّلُ.
فَإِنِ ادَّعَى بَائِعُ مَعِيبٍ رِضَا مُوَكِّلِهِ بِالْعَيْبِ وَالْمُوَكِّلُ غَائِبٌ؛ حَلَفَ الْوَكِيلُ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ رِضَا مُوَكِّلِهِ، وَرَدَّ الْمَبِيعَ لِلْعَيْبِ، ثُمَّ إِنْ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ فَصَدَّقَ بَائِعًا عَلَى رِضَاهُ بِعَيْبِهِ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ لَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ لاِنْعِزَالِ الْوَكِيلِ مِنَ الرَّدِّ بِرِضَا الْمُوَكِّلِ بِالْعَيْبِ، وَالْمَعِيبُ بَاقٍ لِلْمُوَكِلِّ؛ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهُ وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَى الرِّضَا مِنْ قَبْلِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ بَائِعٌ رِضَا مُوَكِّلٍ، وَقَالَ لَهُ: تَوَقَّفْ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ فَرُبَّمَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ؛ لَمْ يَلْزَمِ الْوَكِيلَ ذَلِكَ؛ لاِحْتِمَالِ هَرَبِ الْبَائِعِ أَوْ فَوَاتِ الثَّمَنِ بِتَلَفِهِ، وَإِنْ طَاوَعَهُ لَمْ يَسْقُطْ رَدُّ مُوَكِّلٍ.
وَيَتَّجِهُ: لاَ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَعِيبِ الَّذِي ادَّعَى بَائِعٌ رِضَا الْمُوَكِّلِ بِعَيْبِهِ قَبْلَ مُرَاجَعَةِ الْمُوَكِّلِ؛ لاِعْتِرَافِ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ أَنَّهُ لِلْمُوَكِّلِ وَحْدَهُ، وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: وَهَذَا الاِتِّجَاهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَيَبْقَى الْمَبِيعُ تَحْتَ يَدِ الْبَائِعِ أَمَانَةً إِلَى حُضُورِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ أَخَذَهُ الْمُوَكِّلُ، وَإِنِ ادَّعَى الْبَائِعُ تَلَفَهُ بِلاَ تَعَمُّدٍ وَلاَ تَفْرِيطٍ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ؛ لأِنَّهُ أَمِينٌ.
وَإِنْ أَسْقَطَ وَكِيلٌ اشْتَرَى مَعِيبًا خِيَارَهُ مِنْ عَيْبٍ وَجَدَهُ، وَلَمْ يَرْضَ مُوَكِّلُهُ بِالْعَيْبِ فَلِلْوَكِيلِ رَدُّهُ؛ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ بِهِ .
الأْمْرُ الثَّالِثُ: مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ بِأَنْ عَقَدَ عَقْدًا صَحِيحًا:
إِذَا وَكَّلَ شَخْصٌ آخَرَ فِي أَنْ يَعْقِدَ لَهُ عَقْدًا فَاسِدًا، لَمْ يَمْلِكِ الْوَكِيلُ أَنْ يَعْقِدَهُ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ لاَ يَمْلِكُهُ، فَالْوَكِيلُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ .
وَلَكِنْ هَلْ يَمْلِكُ الْوَكِيلُ أَنْ يَعْقِدَ عَقْدًا صَحِيحًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ بَدَلاً مِنَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ؟ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ بَيْعِهِمَا، أَوْ بَيْعِ أَيِّهِمَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْخَلَّ وَالْخَيْلَ أَوْ بَيْعَهُمَا بَدَلاً مِنْهُمَا، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَذِنَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُهُ .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ اسْتِحْسَانًا، فَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: بِعْهُ بَيْعًا فَاسِدًا فَبَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا نَفَذَ عَلَى الآْمِرِ اسْتِحْسَانًا، لأِنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّصَرُّفِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ خَيْرٌ لِلآْمِرِ مِمَّا أَمَرَهُ بِهِ، فَلاَ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمُوَكِّلِ، كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ إِذَا بَاعَ بِأَلْفَيْنِ .
الأْمْرُ الرَّابِعُ: مُخَالَفَةُ الْوَكِيلِ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا وَيَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لِلآْمِرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَبَاعَهُ بِغَيْرِ خِيَارٍ، أَوْ بِخِيَارٍ دُونَ الثَّلاَثَةِ فَدَفَعَهُ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ وَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ، لأِنَّهُ أَتَى بِعَقْدٍ هُوَ أَضَرُّ عَلَى الآْمِرِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الرَّأْيُ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ إِلَى الْمُوَكِّلِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ أَوْ يُمْضِيَهُ، وَقَدْ أَتَى بِعَقْدٍ لاَ يَثْبُتُ فِيهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الرَّأْيِ لِلآْمِرِ، فَكَانَ مُخَالِفًا كَالْغَاصِبِ.
وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ وَاشْتَرِطِ الْخِيَارَ لِي شَهْرًا فَبَاعَهُ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله اسْتِحْسَانًا، وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِهِمَا، لأِنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ فِي مُدَّةِ الشَّهْرِ وَيَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهُ، فَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِعَقْدٍ يَكُونُ فِيهِ الرَّأْيُ إِلَى الآْمِرِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ فَكَانَ ضَامِنًا، وَإِنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ لاَ يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّمَا هَذَا وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا بَاعَ بَيْعًا جَائِزًا نَفَذَ عَلَى الآْمِرِ اسْتِحْسَانًا. فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ فِي الْبَيْعِ: بِعْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَبَاعَ مُطْلَقًا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، أَمَّا لَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ وَأَطْلَقَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ.
وَإِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ لأِنْفُسِهِمَا أَوْ لِلْمُوَكِّلِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ شَرْطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ لَهُ وَلِمُوَكِّلِهِ، وَإِنْ شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ فَقَطْ لَمْ يَصِحَّ، وَلَهُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِمُوَكِّلِهِ، لأِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا.
وَلاَ يَمْلِكُ الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدِ مَعَهُ، لأِنَّهُ إِلْزَامٌ لِمُوَكِّلِهِ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَعَقْدُ الْوَكَالَةِ لاَ يَقْتَضِيهِ.
وَمُقْتَضَى عِبَارَاتِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا أَمَرَ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ مُخَالَفَةُ أَمْرِ مُوَكِّلِهِ .
التَّوْكِيلُ فِي الْخُصُومَةِ:
إِقْرَارُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ:
لَوْ وَكَّلَ شَخْصٌ آخَرَ فِي خُصُومَةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُقِرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِيهَا؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ إِقْرَارُ وَكِيلِ الْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لاَ بِقَبْضِ الْحَقِّ وَلاَ بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ لأِنَّ الإْقْرَارَ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ وَيُنَافِيهَا فَلاَ يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ كَالإْبْرَاءِ، وَلأِنَّ الْوَكِيلَ مَأْمُورٌ لاَ يَمْلِكُ الإْنْكَارَ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ الْمُوَكِّلَ مِنَ الإْقْرَارِ فَلَوْ مَلَكَ الإْقْرَارَ لاَمْتَنَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ الإْنْكَارُ فَافْتَرَقَا، وَلأِنَّ الْوَكِيلَ مَأْمُورٌ بِالْخُصُومَةِ وَهِيَ مُنَازَعَةٌ، وَالإْقْرَارُ ضِدُّهَا لأِنَّهُ مُسَالَمَةٌ، وَالأْمْرُ بِالشَّيْءِ لاَ يَتَنَاوَلُ ضِدَّهُ .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى جَوَازِ إِقْرَارِ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي الْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فَقَطْ، بِاسْتِثْنَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ مُطْلَقًا اسْتِحْسَانًا.
وَوَجْهُ عَدَمِ قَبُولِ إِقْرَارِهِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَنَّ فِي الإْقْرَارِ هُنَا شُبْهَةً فَامْتَنَعَ، أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَيَجُوزُ الإْقْرَارُ فِيهِ، لأِنَّ التَّوْكِيلَ صَحِيحٌ وَصِحَّتُهُ تَتَنَاوَلُ مَا يَمْلِكُهُ، وَذَلِكَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ بِالإْقْرَارِ وَالإْنْكَارِ دُونَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلصِّحَّةِ، وَقَدْ خَصَّصَا ذَلِكَ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ إِنَّمَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَحَقِيقَتُهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَمْ يَكُنْ وَكِيلاً فِي غَيْرِهِ، لأِنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْخُصُومَةِ الَّتِي هُوَ وَكِيلٌ فِيهَا.
وَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا قَبُولُ الإْقْرَارِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَيْضًا، لأِنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَإِقْرَارُهُ لاَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ نَائِبُهُ .
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى قَبُولِ إِقْرَارِ وَكِيلِ الْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَمْ فِي غَيْرِهِ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ أَقَامَ الْوَكِيلَ مَقَامَ نَفْسِهِ مُطْلَقًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ، وَهُوَ مَالِكٌ لِلإْقْرَارِ بِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ، وَهَذَا لأِنَّهُ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ مَا لاَ يَكُونُ مُوجِبًا إِلاَّ بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إِلَيْهِ .
أَمَّا لَوِ اسْتَثْنَى الْمُوَكِّلُ الإْقْرَارَ بِأَنْ قَالَ لِلْوَكِيلِ: وَكَّلْتُكَ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الإْقْرَارِ صَحَّ التَّوْكِيلُ وَالاِسْتِثْنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ غَيْرِهِ لاَ يَصِحُّ الإْقْرَارُ وَيَخْرُجْ بِهِ عَنِ الْوَكَالَةِ فَلاَ تُسْمَعُ خُصُومَتُهُ . (: ف63)
تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فِي الْحَقِّ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ لاَ يَمْلِكُ الْمُصَالَحَةَ عَنِ الْحَقِّ، وَلاَ الإْبْرَاءَ مِنْهُ، لأِنَّ الإْذْنَ فِي الْخُصُومَةِ لاَ يَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ أَنَّ يَبِيعَ وَلاَ أَنْ يَهِبَ، لأِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَتْ مِنَ الْخُصُومَةِ، بَلْ هِيَ ضِدُّ الْخُصُومَةِ قَاطِعَةٌ لَهَا، وَالأْمْرُ بِالشَّيْءِ لاَ يَتَضَمَّنُ ضِدَّهُ.
كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُؤَجِّلَ الْحَقَّ .
حَقُّ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ فِي الْخُصُومَةِ:
إِذَا وَكَّلَ شَخْصٌ آخَرَ فِي قَبْضِ حَقٍّ لَهُ قِبَلَ فُلاَنٍ فَجَحَدَ مَنْ عَلَيْهِ هَذَا الْحَقُّ، فَهَلْ يَمْلِكُ الْوَكِيلُ إِثْبَاتَ هَذَا الْحَقِّ الْمَأْذُونِ فِي قَبْضِهِ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ فِي قَبْضِ الْحَقِّ يَكُونُ وَكِيلاً فِي الْخُصُومَةِ إِذَا جَحَدَهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، لأِنَّهُ لاَ يَتَوَصَّلُ إِلَى الْقَبْضِ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ الْحَقِّ فَكَانَ إِذْنًا فِيهِ عُرْفًا.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْحَقِّ الْمَأْذُونِ فِي قَبْضِهِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، كَمَا لاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ رَبُّ الْحَقِّ عَالِمًا بِبَذْلِ الْغَرِيمِ مَا عَلَيْهِ، أَوْ جَحْدِهُ أَوْ مَطْلِهُ .
وَقَيَّدَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا جَاءَ فِي الْفُنُونِ - صِحَّةَ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْوَكِيلُ يَعْلَمُ ظُلْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْخُصُومَةِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ - كَمَا قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ - صِحَّةُ الْخُصُومَةِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ظُلْمَ الْمُوَكِّلِ، فَلَوْ ظَنَّ ظُلْمَهُ جَازَ وَيَتَوَجَّهُ الْمَنْعُ، وَمَعَ الشَّكِّ يَتَوَجَّهُ احْتِمَالاَنِ: قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: لَعَلَّ الْجَوَازَ أَوْلَى .
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ لاَ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِي الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا لأِنَّ الإْذْنَ فِي الْقَبْضِ لَيْسَ إِذْنًا فِي الْخُصُومَةِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ وَلاَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، لأِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعُرْفِ أَنَّ مَنْ يَرْضَاهُ لِلْقَبْضِ يَرْضَاهُ لِلْخُصُومَةِ، وَلأِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ يَهْتَدِي فِي الْخُصُومَاتِ، فَلَمْ يَكُنِ الرِّضَا بِالْقَبْضِ رِضًا بِالْخُصُومَةِ .
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الْعَيْنِ، لاَ يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ خَصْمٌ فِي قَصْرِ يَدِهِ عَنْهُ، فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ، فَأَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الطَّالِبُ، قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، لأِنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ يَمْلِكُ خُصُومَتَهُ فَيَكُونُ خَصْمًا عَنِ الْوَكِيلِ فِيهِ .
وَقَالَ: إِنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ، وَالْحُقُوقُ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالإْجَارَةِ ، وَدَلاَلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ الدَّيْنِ لاَ يُتَصَوَّرُ؛ لأِنَّ الدَّيْنَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْفِعْلِ وَهُوَ فِعْلُ تَسْلِيمِ الْمَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلَكِنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعِ مُبَادَلَةٍ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَأْخُوذِ الْعَيْنِ بِمَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ، وَتَمْلِيكُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْمَالِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالْخُصُومَةَ فِي حُقُوقِ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ فَيَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ بِخِلاَفِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، لأِنَّ ذَلِكَ تَوْكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ لاَ بِالْمُبَادَلَةِ، لأِنَّ عَيْنَهُ مَقْدُورُ الاِسْتِيفَاءِ فَلاَ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِيهَا إِلاَّ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكِ الْخُصُومَةَ لاَ تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الشِّرَاءِ مِنَ الْمُوَكَّلِ بِالْقَبْضِ، لأِنَّهَا بَيِّنَةٌ قَامَتْ لاَ عَلَى خَصْمٍ، وَلَكِنَّهَا تُسْمَعُ فِي دَفْعِ قَبْضِ الْوَكِيلِ .
حَقُّ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فِي قَبْضِ الْمَالِ الْمُوَكَّلِ بِهِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فِي قَبْضِ مَا وُكِّلَ بِالْمُخَاصَمَةِ فِيهِ عِنْدَ الإْطْلاَقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَقُّ عَيْنًا أَمْ دَيْنًا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَالْفَتْوَى عَلَيْهِ - وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْخُصُومَةِ لاَ يَمْلِكُ قَبْضَ الْحَقِّ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ يَرْضَى لِلْخُصُومَةِ مَنْ لاَ يَرْضَاهُ لِلْقَبْضِ .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا زُفَرَ وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ قَطَعَ بِهِ ابْنُ أِبِي الْبَنَّا فِي تَعْلِيقِهِ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ الْقَبْضَ، لأِنَّ الْوَكِيلَ بِالشَّيْءِ وَكِيلٌ بِإِتْمَامِهِ، وَإِتْمَامُ الْخُصُومَةِ وَالتَّقَاضِي يَكُونُ بِالْقَبْضِ، وَلأِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ .
أَمَّا لَوِ اسْتَثْنَى الْمُوَكِّلُ الْقَبْضَ فَإِنَّ الْوَكِيلَ لاَ يَمْلِكُهُ، لأِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلاَ يَمْلِكُ الْمُخَالَفَةَ. أَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ مَعًا فَيَكُونُ لَهُ الْخِلاَفُ بِالاِتِّفَاقِ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ يَكُونُ لَهُ الْقَبْضُ إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ .
تَوْكِيلُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَهُ فِيهَا:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِنْ أَذِنَ لِلْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فِي تَوْكِيلِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِيهَا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ إِذَا نَهَى الْوَكِيلَ عَنْ تَوْكِيلِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ مَعَ النَّهْيِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَهُ عِنْدَ إِطْلاَقِ التَّوْكِيلِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِيهَا، لأِنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : «لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْخُصُومَةُ مِمَّا يَلِيقُ أَنْ يَتَوَلاَّهَا الْوَكِيلُ بِنَفْسِهِ؛ فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ فِي أَمْرٍ لاَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُبَاشِرَهُ، أَوْ لاَ يُحْسِنُهُ، فَإِنَّهُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِيهِ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ قَيْدًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ لاَ تَكْثُرَ الْخُصُومَةُ الْمُوَكَّلُ بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ، فَإِذَا كَثُرَتْ فَيُوَكِّلُ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْكَثِيرِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ لِيُعِينَهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ اسْتِقْلاَلاً.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَثُرَتِ التَّصَرُّفَاتُ الْمُوَكَّلُ فِيهَا، وَلَمْ يُمْكِنِ الإْتْيَانُ بِجَمِيعِهَا لِكَثْرَتِهَا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُوَكِّلُ فِيمَا يَزِيدُ عَلَى الْمُمْكِنِ، وَلاَ يُوَكِّلُ فِي الْمُمْكِنِ، وَفِي وَجْهٍ يُوَكِّلُ فِي الْجَمِيعِ.
وَعَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ فِيهَا .
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَخْلُو التَّوْكِيلُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْهَى الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ عَنِ التَّوْكِيلِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لأِنَّ مَا نَهَاهُ عَنْهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي إِذْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ لَمْ يُوَكِّلْهُ.
الثَّانِي: أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لأِنَّهُ عَقْدٌ أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَكَانَ لَهُ فِعْلُهُ كَالتَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَيْنِ خِلاَفًا، وَإِنْ قَالَ لَهُ: وَكَّلْتُكَ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ، لأِنَّ لَفْظَ الْمُوَكِّلِ عَامٌّ فِيمَا شَاءَ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ التَّوْكِيلُ.
الثَّالِثُ: أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ فَلاَ يَخْلُو مِنْ أَقْسَامٍ ثَلاَثَةٍ:
الْقِسْمُ الأْوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا يَرْتَفِعُ الْوَكِيلُ عَنْ مِثْلِهِ كَالأْعْمَالِ الدَّنِيَّةِ فِي حَقِّ أَشْرَافِ النَّاسِ الْمُرْتَفِعِينَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْعَادَةِ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ لِكَوْنِهِ لاَ يُحْسِنُهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ، لأِنَّهُ إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَعْمَلُهُ الْوَكِيلُ عَادَةً انْصَرَفَ الإْذْنُ إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ الاِسْتِنَابَةِ فِيهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَعْمَلُهُ بِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ لِكَثْرَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي عَمَلِهِ أَيْضًا، لأِنَّ الْوَكَالَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ التَّوْكِيلِ فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِي فِعْلِ جَمِيعِهِ كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي التَّوْكِيلِ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: عِنْدِي أَنَّهُ إِنَّمَا لَهُ التَّوْكِيلُ فِيمَا زَادَ عَلَى مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، لأِنَّ التَّوْكِيلَ إِنَّمَا جَازَ لِلْحَاجَةِ فَاخْتَصَّ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، بِخِلاَفِ وُجُودِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ مَا يُمْكِنُهُ عَمَلُهُ بِنَفْسِهِ وَلاَ يَتَرَفَّعُ عَنْهُ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يَجُوزُ، نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ، لأِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ وَلاَ تَضَمَّنَهُ إِذْنُهُ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ نَهَاهُ، وَلأِنَّهُ اسْتِئْمَانٌ فِيمَا يُمْكِنُهُ النُّهُوضُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ لِمَنْ لَمْ يَأْمَنْهُ عَلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ.
وَالأْخْرَى: يَجُوزُ، نَقَلَهَا حَنْبَلٌ .
118 ـ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَكَّلَ شَخْصَانِ شَخْصًا وَاحِدًا بِالْخُصُومَةِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُخَاصِمُ صَاحِبَهُ، كَانَ ذَلِكَ التَّوْكِيلُ غَيْرَ صَحِيحٍ وَلاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَتَوَلَّى الْخُصُومَةَ عَنِ الضِّدَّيْنِ، لأِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الأْحْكَامِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُدَّعِيًا مِنْ جَانِبٍ، وَجَاحِدًا مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، وَالتَّضَادُّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَفِي الْخُصُومَةِ أَوْلَى.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْخُصُومَةُ لِرَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ شَخْصٍ آخَرَ فَوَكَّلُوا جَمِيعًا وَكِيلاً وَاحِدًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ جَائِزًا، لأِنَّ الْوَكِيلَ مُعَبِّرٌ عَنِ الْمُوَكِّلِ، وَالْوَاحِدُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنِ اثْنَيْنِ فَمَا زَادَ، كَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ .
التَّوْكِيلُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ:
119 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَقَالَ: اقْضِهِ وَلاَ تَشْهَدْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ إِذَا أَنْكَرَهُ رَبُّ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ أَوْ غَابَ، لأِنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَأَمَرَ الْوَكِيلَ بِالإْشْهَادِ فَقَضَاهُ وَلَمْ يَشْهَدْ وَأَنْكَرَ الْغَرِيمُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ .
120 - وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمَانِ الْوَكِيلِ إِذَا أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإْشْهَادِ فَقَضَاهُ وَلَمْ يُشْهِدْ وَأَنْكَرَ رَبُّ الدَّيْنِ الْقَضَاءَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، لأِنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ فِي الدَّفْعِ إِلَيْهِ كَمَا لَوِ ادَّعَى الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ، وَضَمِنَ الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ مَا أَنْكَرَ رَبُّ الدَّيْنِ قَضَاءَهُ، لأِنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ الإْشْهَادِ .
121 - وَهُنَاكَ أَحْوَالٌ لاَ يَضْمَنُ فِيهَا الْوَكِيلُ بِتَرْكِ الإْشْهَادِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، مِنْهَا:
أ- أَنْ يَقْضِيَ الْوَكِيلُ الدَّيْنَ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُشْهِدْ، لَمْ يَضْمَنْ، لأِنَّ تَرْكَهُ الإِْشْهَادَ رِضًا مِنَ الْمُوَكِّلِ بِمَا فَعَلَ وَكِيلُهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْوَكِيلَ يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ السَّاكِتَ لاَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ قَوْلٌ، وَعَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّ تَرْكَ الإْشْهَادِ يُثْبِتُ الضَّمَانَ، فَلاَ يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِحُضُورِ الْمُوَكِّلِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ .
ب- أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْقَضَاءِ عُدُولاً فَمَاتُوا أَوْ غَابُوا أَوْ فَسَقَوْا، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ الْقَضَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، لأِنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ ضَمَانِ الْوَكِيلِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَحْلِفِ الْمُوَكِّلُ، أَمَّا إِذَا حَلَفَ الْمُوَكِّلُ قُضِيَ لَهُ بِالضَّمَانِ، لأِنَّ الأْصْلَ مَعَهُ.
وَعَدَمُ تَضْمِينِ الْوَكِيلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا حَلَفَ الْوَكِيلُ عَلَى الإْشْهَادِ فَيَكُونُ بَرِيئًا حِينَئِذٍ .
وَعَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ: لاَ يَضْمَنُ الْوَكِيلُ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ الإْشْهَادُ أَوْ لاَ.
وَقِيلَ: يَضْمَنُ إِنْ أَمْكَنَهُ الإْشْهَادُ وَلَمْ يُشْهِدْ وَإِلاَّ فَلاَ، وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ يَضْمَنُهُ إِنْ كَذَّبَهُ الْمُوَكِّلُ وَإِلاَّ فَلاَ .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - حُكِيَ بِقِيلَ - لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ عِنْدَ عَدَمِ الإْشْهَادِ إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِعَدَمِ الإْشْهَادِ .
التَّوْكِيلُ بِاقْتِضَاءِ الدَّيْنِ:
122 - إِذَا وَجَبَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِأَيِّ وَجْهٍ وَجَبَ، فَوَكَّلَ وَكِيلاً بِقَبْضِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِذَا أَقْبَضَهُ الْوَكِيلُ بَرِئَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَكَانَ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ مِلْكًا لِلْمُوَكِّلِ، وَأَمَانَةً فِي يَدِ الْوَكِيلِ يَضْمَنُهُ بِمَا يَضْمَنُ بِهِ الْوَدِيعَةَ.
وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَنْ يَهَبَ الدَّيْنَ لِلْغَرِيمِ، أَوْ أَنْ يُؤَخِّرَهُ، أَوْ أَنْ يُبْرِئَهُ . وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا بِهِ، وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلاً بِالْمَالِ جَازَ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَ الْكَفِيلَ عَلَى أَنْ يَبْرَأَ الْغَرِيمُ لَمْ تَجُزِ الْبَرَاءَةُ، وَلَوْ أَخَذَ الطَّالِبُ مِنْهُ كَفِيلاً لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَتَقَاضَى الدَّيْنَ مِنَ الْكَفِيلِ .
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُصَالِحَ عَنِ الدَّيْنِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ .
حُكْمُ دَفْعِ الْحُقُوقِ إِلَى مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ الْغَائِبِ:
123 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ فَادَّعَى إِنْسَانٌ أَنَّهُ وَكِيلُ رَبِّهِ فِي قَبْضِهِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الدَّفْعِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ دَفْعِ الْحَقِّ إِلَى مُدِّعِي الْوَكَالَةِ إِذَا لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى التَّوْكِيلِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنَّ الْحَقَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ إِنْ كَانَ دَيْنًا وَلَمْ يُقِمْ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّوْكِيلِ، فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَدِينُ وَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَهُ.
فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَدِينُ عَلَى التَّوْكِيلِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَ لاَ يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إِلَى مُدِّعِي الْوَكَالَةِ، لأِنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لاَ يَبْرَأُ بِهَذَا الدَّفْعِ لِجَوَازِ أَنْ يُنْكِرَ صَاحِبُ الْحَقِّ الْوَكَالَةَ .
وَإِنْ دَفَعَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِاخْتِيَارِهِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِلَى مَنِ ادَّعَى وَكَالَةَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَأَنْكَرَ الدَّائِنُ ذَلِكَ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلِ الْمَدْفُوعَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ لاِحْتِمَالِ صِدْقِ الْمُدَّعِي الْوَكَالَةَ.
وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى الدَّافِعِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى غَيْرِ وَكِيلِهِ.
وَيَرْجِعُ الدَّافِعُ عَلَى الْوَكِيلِ مَعَ بَقَائِهِ أَوْ تَعَدِّيهِ فِي تَلَفٍ، أَوْ تَفْرِيطِهِ حَتَّى تَلِفَ، لاِسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ.
قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا صَدَّقَ الدَّافِعُ الْوَكِيلَ بَرِئَ الدَّافِعُ.
أَمَّا إِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ فَإِنَّ الدَّافِعَ لاَ يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ، لأِنَّ الدَّافِعَ صَدَّقَهُ فِي دَعْوَى الْوَكَالَةِ وَالْوَكِيلُ لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّفْرِيطِ .
أَمَّا إِذَا كَانَ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّوْكِيلِ وَكَذَّبَهُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي أَنَّهُ وَكِيلُهُ فَلاَ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الدَّيْنِ إِلَى مُدَّعِي الْوَكَالَةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْحَلِفُ، لِعَدَمِ فَائِدَةِ اسْتِحْلاَفِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَرَجَعَ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى الدَّافِعِ وَحْدَهُ، لأِنَّ الْحَقَّ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ بِدَفْعِهِ لِغَيْرِ رَبِّهِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَلَمْ تَثْبُتْ وَكَالَةُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ .
وَإِذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ عَيْنًا فَالأْمْرُ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ يُصَدِّقُ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ عَلَى التَّوْكِيلِ وَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَهُ: فَإِنْ صَدَّقَهُ فَإِنَّ الأْمْرَ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ قَائِمَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ تَالِفَةً.
أَمَّا إِذَا صَدَّقَهُ الدَّافِعُ وَكَانَ الْمَدْفُوعُ عَيْنًا وَوَجَدَهَا صَاحِبُهَا قَائِمَةً، أَخَذَهَا مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ لأِنَّهَا عَيْنُ حَقِّهِ.
وَإِنْ تَلِفَتْ فَلَهُ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنَ الدَّافِعِ وَالْقَابِضِ، لأِنَّ الدَّافِعَ ضَمِنَهَا بِالدَّفْعِ، وَالْقَابِضَ قَبْضَ مَا لاَ يَسْتَحِقُّهُ .
وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ لاَ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى غَيْرِ مُتْلِفٍ أَوْ مُفَرِّطٍ لأِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ ظُلْمٌ وَيُقِرُّ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِهِ تَعَدٍّ فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِظُلْمِ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ تَصْدِيقِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ بِمَا دَفَعَهُ مُطْلَقًا؛ أَيْ سَوَاءٌ بَقِيَ الْمَدْفُوعُ بِيَدِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَوْ تَلِفَ .
هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا حَضَرَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَأَنْكَرَ التَّوْكِيلَ، أَمَّا إِذَا صَدَّقَ التَّوْكِيلَ فَإِنَّهُ لاَ يَبْقَى مَحَلٌّ لِلنِّزَاعِ أَصْلاً.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ كَذَلِكَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ.
أ ـ أَمَّا الدَّيْنُ فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ أُمِرَ بِدَفْعِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأِنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ، لأِنَّ مَا يَقْبِضُهُ خَالِصُ حَقِّهِ؛ إِذِ الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَكُونُ مُقِرًّا بِوُجُوبِ دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَوْفَى الدَّيْنَ إِلَى صَاحِبِهِ (الطَّالِبِ) لاَ يُصَدَّقُ لأِنَّهُ لَزِمَهُ الدَّفْعُ إِلَى الْوَكِيلِ بِإِقْرَارِهِ وَثَبَتَتِ الْوَكَالَةُ بِهِ، وَلَمْ يَثْبُتِ الإْيفَاءُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ فَلاَ يُؤَخَّرُ حَقُّهُ.
وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ رَبَّ الْمَالِ وَيَسْتَحْلِفَهُ، وَلاَ يَسْتَحْلِفُ الْوَكِيلَ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ قَدِ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ، لأِنَّ النِّيَابَةَ لاَ تَجْرِي فِي الأْيْمَانِ.
فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ فَصَدَّقَ الْوَكِيلَ بَرِئَ الْغَرِيمُ وَإِلاَّ دَفَعَ إِلَيْهِ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ ثَانِيًا، لأِنَّهُ إِذَا صَدَّقَهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ وَكِيلاً لَهُ، وَقَبْضُ الْوَكِيلُ قَبْضُ الْمُوَكِّلِ فَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَدِينِ بِهِ. وَإِنْ كَذَّبَ الْغَائِبُ مُدَّعِيَ الْوَكَالَةِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا بِالْقَبْضِ، لأِنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ وَكَالَتُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ لأِنَّهُ مُنْكِرٌ، وَلاَ يَكُونُ قَوْلُ الدَّافِعِ وَمُدَّعِي الْوَكَالَةِ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ الدَّيْنَ ثَانِيًا إِنْ لَمْ يَجْرِ اسْتِيفَاؤُهُ.
وَرَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ بِمَا قَبَضَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ، لأِنَّهُ مِلْكُهُ وَانْقَطَعَ حَقُّ الطَّالِبِ عَنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ الاِحْتِمَالُ فِيهِ حَيْثُ قَبَضَ دَيْنَهُ مِنْهُ ثَانِيًا.
وَإِنْ ضَاعَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ لاَ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ عَلَيْهِ، لأِنَّ الْغَرِيمَ بِإِقْرَارِهِ صَارَ مُحِقًّا فِي تَسْلِيمِهِ الدَّيْنَ، وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ الطَّالِبُ بِالأْخْذِ مِنْهُ ثَانِيًا، وَالْمَظْلُومُ لاَ يَظْلِمُ غَيْرَهُ، إِلاَّ أَنْ يَضْمَنَ الْغَرِيمُ الْوَكِيلَ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ، لأِنَّ الضَّمَانَ مُوجِبٌ لِلرُّجُوعِ .
وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مُدَّعِيَ الْوَكَالَةِ وَدَفَعَ الدَّيْنَ إِلَيْهِ عَلَى ادِّعَائِهِ، فَإِنَّ الْغَرِيمَ يَضْمَنُ الْوَكِيلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لأِنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً وَلَمْ يَرْضَ بِقَبْضِهِ إِلاَّ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ تَحْصِيلاً لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ وَانْقَطَعَ الرَّجَاءُ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يُكَذِّبَهُ صَرِيحًا أَوْ يَسْكُتَ، لأِنَّ عَدَمَ التَّصْدِيقِ يَشْمَلُ الصُّورَتَيْنِ وَزَعْمَهُ فِيمَا إِذَا كَذَّبَهُ أَنَّهُ قَبَضَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَنَّ قَبْضَهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ.
وَكَذَا إِذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ، لأِنَّ الأْصْلَ عَدَمُ التَّصْدِيقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَدْفُوعَ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ، لأِنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ حَقًّا لِلطَّالِبِ.
أَمَّا إِذَا صَدَّقَهُ فَظَاهِرٌ، لأِنَّهُمَا لاَ يَتَصَادَقَانِ ظَاهِرًا إِلاَّ عَلَى حَقٍّ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ فَلاِحْتِمَالِ أَنَّهُ وَكَّلَهُ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ يَحْتَمِلُ الإْجَازَةَ مِنْهُ فَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ بَقَاءِ هَذَا الاِحْتِمَالِ، وَلأِنَّ مَنْ بَاشَرَ التَّصَرُّفَ لِغَرَضٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ مَا لَمْ يَقَعِ الْيَأْسُ مِنْهُ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ إِذَا دَفَعَهُ إِلَى فُضُولِيٍّ عَلَى رَجَاءِ الإْجَازَةِ لَمْ يَمْلِكِ اسْتِرْدَادَهُ لاِحْتِمَالِ أَنْ يُجِيزَ.
وَكَذَا لَوْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ، أَوْ عَلَى إِقْرَارِهِ بِذَلِكَ لاَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَلاَ يَكُونُ لَهُ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ، وَلَوْ أَرَادَ اسْتِحْلاَفَهُ عَلَى ذَلِكَ لاَ يُسْتَحْلَفُ، لأِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا أَوْجَبَهُ لِلْغَائِبِ.
وَلَوْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الطَّالِبَ جَحَدَ الْوَكَالَةَ وَأَخَذَ مِنِّي الْمَالَ تُقْبَلُ، لأِنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَكِيلِ بِنَاءً عَلَى إِثْبَاتِ سَبَبِ انْقِطَاعِ حَقِّ الطَّالِبِ عَنِ الْمَدْفُوعِ وَهُوَ قَبْضُهُ الْمَالَ بِنَفْسِهِ مِنْهُ فَانْتَصَبَ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنِ الْغَائِبِ فِي إِثْبَاتِ السَّبَبِ فَيُثْبِتُ قَبْضَ الْمُوَكِّلِ فَتَنْتَقِضُ يَدُ الْوَكِيلِ ضَرُورَةً، وَجَازَ أَنْ يُثْبِتَ الشَّيْءَ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ مَقْصُودًا .
ب ـ أَمَّا إِذَا كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا كَالْوَدِيعَةِ وَقَالَ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ: إِنِّي وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ فَصَدَّقَهُ الْمُودِعُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، لأِنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِقَبْضِ مَالِ الْغَيْرِ فَلاَ يَصِحُّ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّهِ فِي الْعَيْنِ بِخِلاَفِ مَا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ فَصَدَّقَهُ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، لأِنَّهُ أَقَرَّ بِمَالِ نَفْسِهِ إِذِ الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لاَ بِأَعْيَانِهَا.
وَلَوْ هَلَكَتِ الْوَدِيعَةُ عِنْدَهُ بَعْدَمَا مَنَعَ، قِيلَ: لاَ يَضْمَنُ، وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ، لأِنَّ الْمَنْعَ مِنْ وَكِيلِ الْمُودِعِ فِي زَعْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْعِ مِنَ الْمُودِعِ وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ، فَكَذَا هَذَا.
وَلَوْ سَلَّمَ الْوَدِيعَةَ إِلَيْهِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ وَأَنْكَرَ الْمُودِعُ الْوَكَالَةَ يَضْمَنُ الْمُودَعَ، لأِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ الْمُوَدِعُ أَنَّهُ مَا وَكَّلَهُ، فَإِذَا نَكَلَ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَإِذَا حَلَفَ ضَمِنَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَكِيلِ، لأِنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمُودِعَ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ مَظْلُومٌ وَالْمَظْلُومُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ إِلاَّ إِذَا ضَمِنَهُ وَقْتَ الدَّفْعِ لَهُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ لَهُ عَلَى الْوَكَالَةِ رَجَعَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا.
وَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً أَخَذَهَا فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا، لأِنَّهُ مَلَكَهَا بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ بَعْدَ مَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، لأِنَّهُ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ .
تَعَدُّدُ الْوُكَلاَءِ
124 ـ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُوَكِّلَ أَكْثَرَ مِنْ وَكِيلٍ لِلْقِيَامِ بِتَصَرُّفٍ مُعَيَّنٍ عَدَا الْخُصُومَةِ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ إِذَا وَكَّلَهُمْ بِكَلاَمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأِحَدِ الْوُكَلاَءِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِمُفْرَدِهِ فِي مَحَلِّ الْوَكَالَةِ دُونَ اجْتِمَاعِ الآْخَرِينَ مَعَهُ مَا لَمْ يَجُزْ لأِحَدِهِمُ التَّصَرُّفُ بِمُفْرَدِهِ، فَإِنْ أَجَازَهُ فَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِمُفْرَدِهِ .
125 ـ وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَطَ الْمُوَكِّلُ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى التَّصَرُّفِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأِحَدِهِمُ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ مَحَلَّ الْوَكَالَةِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأِحَدِ الْوَكِيلَيْنِ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لاَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، إِذْ لاَ يَنَالُ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا مَا يَنَالُ بِرَأْيِهِمَا.
وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى إِطْلاَقِ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوَكِيلاَنِ بِالْبَيْعِ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّصَرُّفَ بِدُونِ صَاحِبِهِ، وَإِذَا فَعَلَ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يُجِيزَ صَاحِبُهُ أَوِ الْمُوَكِّلُ، لأِنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ، وَالْمُوَكِّلُ إِنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لاَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ فَلاَ يَنْفُذُ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلاَنِ بِالشِّرَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّمَنُ مُسَمًّى أَمْ لَمْ يَكُنْ، لأِنَّ الْبَدَلَ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لاَ يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَكِيلُ الآْخَرُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا.
غَيْرَ أَنَّهُ فِي الشِّرَاءِ إِذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلاَ يَقِفُ عَلَى الإْجَازَةِ، وَفِي الْبَيْعِ يَقِفُ عَلَى الإْجَازَةِ .
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلاَنِ بِالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ، وَالْخُلْعِ، وَكُلُّ عَقْدٍ فِيهِ بَدَلٌ هُوَ مَالٌ، لأِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الرَّأْيِ، وَالْمُوَكِّلُ لَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّمْلِيكِ بِأَنْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: جَعَلَتُ أَمَرَ امْرَأَتِي بِيَدِكُمَا، أَوْ قَالَ لَهُمَا: طَلِّقَا امْرَأَتِي إِنْ شِئْتُمَا، لاَ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّطْلِيقِ، لأِنَّهُ جَعَلَ أَمْرَ الْيَدِ تَمْلِيكًا، وَالتَّمْلِيكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: طَلِّقَا امْرَأَتِي إِنْ شِئْتُمَا . وَكَذَا الْوَكِيلاَنِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقْبِضَ دُونَ صَاحِبِهِ، لأِنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّأْيِ وَالأْمَانَةِ، وَقَدْ فَوَّضَ الرَّأْيَ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا لاَ إِلَى أَحَدِهِمَا وَرَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا جَمِيعًا لاَ بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُبَرِّئْهُ الْغَرِيمُ حَتَّى يَصِلَ مَا قَبَضَهُ إِلَى صَاحِبِهِ فَيَقَعَ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا أَوَ يَصِلَ إِلَى الْمُوَكِّلِ، لأِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الْمَقْبُوضُ إِلَى صَاحِبِهِ أَوْ إِلَى الْمُوَكِّلِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْقَبْضِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَبَضَاهُ جَمِيعًا ابْتِدَاءً .
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلاَنِ بِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ لاَ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا. لأِنَّ حِفْظَ الاِثْنَيْنِ أَنْفَعُ فَلَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ إِذْنِ الآْخَرِ ضَمِنَ .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ مَحَلَّ الْوَكَالَةِ مِمَّا لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ كَتَسْلِيمِ الْهِبَةِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ الْوُكَلاَءِ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، لأِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا لاَ تَحْتَاجُ إِلَى رَأْيٍ فَكَانَ إِضَافَةُ التَّوْكِيلِ إِلَى الْوُكَلاَءِ تَفْوِيضًا لِلتَّصَرُّفِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمُفْرَدِهِ .
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فَإِنَّ إِطْلاَقَ عِبَارَاتِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأِحَدِ الْوُكَلاَءِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ .
126 ـ أَمَّا إِذَا وَكَّلَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَيْنِ بِكَلاَمَيْنِ مُرَتَّبَيْنِ كَمَا إِذَا وَكَّلَ أَحَدَهُمَا بِتَصَرُّفٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ وَكَّلَ آخَرَ بِالتَّصَرُّفِ نَفْسِهِ أَيْضًا فَأَيُّهُمَا تَصَرَّفَ جَازَ، لأِنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الاِنْفِرَادِ حَيْثُ وَكَّلَهُمَا مُتَعَاقِبًا.
وَهَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.
وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ مَا إِذَا وَكَّلَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَيْنِ بِكَلاَمٍ أَوْ كَلاَمَيْنِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأِحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمَا ذَلِكَ .
127 ـ أَمَّا الْوَكِيلاَنِ بِالْخُصُومَةِ فَلِكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَدَا زُفَرَ - وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ - قَالَ عَنْهُ الْمِرْدَاوِيُّ: هُوَ الصَّوَابُ - وَالشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا رَضِيَ بِهِمَا الْخَصْمُ وَتَرَتَّبَا . لأِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْخُصُومَةِ إِعْلاَمُ الْقَاضِي بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُخَاصِمُ وَاسْتِمَاعُهُ، وَاجْتِمَاعُ الْوَكِيلَيْنِ عَلَى ذَلِكَ يُخِلُّ بِالإْعْلاَمِ وَالاِسْتِمَاعِ، لأِنَّ ازْدِحَامَ الْكَلاَمِ يُخِلُّ بِالْفَهْمِ فَكَانَ إِضَافَةُ التَّوْكِيلِ إِلَيْهِمَا تَفْوِيضًا لِلْخُصُومَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ كَانَ تَمْثِيلاً، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الْقَبْضَ دُونَ صَاحِبِهِ، لأِنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْقَبْضِ مُمْكِنٌ فَلاَ يَكُونُ رَاضِيًا بِقَبْضِ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ، وَالرَّأْيُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَابِقًا لِتَقْوِيمِ الْخُصُومَةِ .
وَذَهَبَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ انْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِالْخُصُومَةِ، وَعَلَّلَ زُفَرُ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّ الْخُصُومَةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ، وَالْمُوَكِّلُ لَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا فَلاَ يَمْلِكُهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ.
وَهَذَا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا رَضِيَ الْخَصْمُ بِهِمَا وَلَمْ يَتَرَتَّبَا فَقَدْ قَالُوا: جَازَ تَوْكِيلُ وَاحِدٍ لاَ أَكْثَرَ إِلاَّ بِرِضَا الْخَصْمِ .
تَوْكِيلُ الْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ:
قَدْ يَقُومُ الْوَكِيلُ بِتَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ بِمُفْرَدِهِ، وَقَدْ يَقُومُ بِتَوْكِيلِ شَخْصٍ آخَرَ لِيُسَاعِدَهُ فِي تَنْفِيذِهَا أَوْ يَقُومَ بِتَنْفِيذِهَا بَدَلاً مِنْهُ.
وَتَوْكِيلُ الْوَكِيلِ قَدْ يَكُونُ بِإِذْنٍ مِنَ الْمُوَكِّلِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَقَدْ يُطْلِقُ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ فَلاَ يَأْذَنُ بِالتَّوْكِيلِ وَلاَ يَنْهَى عَنْهُ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- حَالَةُ الإْذْنِ بِالتَّوْكِيلِ:
128 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْوَكِيلِ غَيْرَهُ إِذَا أَذِنَ الْمُوَكِّلُ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لأِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ أَذِنَ لَهُ فِيهِ بِالتَّوْكِيلِ فَجَازَ لَهُ فِعْلُهُ، كَأَيِّ تَصَرُّفٍ مَأْذُونٍ فِيهِ .
ب- حَالَةُ النَّهْيِ عَنِ التَّوْكِيلِ:
129 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إِذَا نَهَاهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ ذَلِكَ، لأِنَّ مَا نَهَاهُ عَنْهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي إِذْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّوْكِيلُ كَمَا لَوْ لَمْ يُوَكِّلْهُ مُطْلَقًا وَالْمُوَكِّلُ لَمْ يَرْضَ إِلاَّ بِأَمَانَتِهِ هُوَ فَقَطْ .
ج - حَالَةُ التَّفْوِيضِ:
130 - حَالَةُ التَّفْوِيضِ هِيَ كَأَنْ يَقُولَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ، أَوْ تَصَرَّفْ كَيْفَ شِئْتَ أَوِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ غَيْرَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ، وَذَلِكَ لإِطْلاَقِ التَّفْوِيضِ إِلَى رَأْيِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفْوِيضَ بِهَذِهِ الأْلْفَاظِ لاَ يَكُونُ إِذْنًا بِالتَّوْكِيلِ فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ إِذَنْ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ، لأِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الأْلْفَاظِ يَحْتَمِلُ مَا شِئْتَ مِنَ التَّوْكِيلِ، وَمَا شِئْتَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيمَا أُذِنَ لَهُ فَلاَ يُوَكِّلُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا لاَ يَهَبُ .
د - حَالَةُ الإْطْلاَقِ:
131 - إِذَا صَدَرَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً دُونَ إِذْنِهِ لِلْوَكِيلِ بِالتَّوْكِيلِ أَوْ نَهْيِهِ عَنْهُ وَدُونَ تَفْوِيضِهِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى رَأْيَيْنِ: الرَّأْيُ الأْوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ، لأِنَّهُ فَوَّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفَ دُونَ التَّوْكِيلِ بِهِ، وَلأِنَّهُ إِنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الآْرَاءِ فَلاَ يَكُونُ رَاضِيًا بِغَيْرِهِ .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ مَا وُكِّلَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ أَوْ يُفَوِّضَ لَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، أَوِ اصْنَعْ مَا شِئْتَ، لإِطْلاَقِ التَّفْوِيضِ إِلَى رَأْيِهِ .
فَإِنْ وَكَّلَ بِغَيْرِ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ فَعَقَدَ وَكِيلُ الْوَكِيلِ بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الأْوَّلِ جَازَ لاِنْعِقَادِهِ بِرَأْيِهِ، وَكَذَا إِنْ عَقَدَ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ فَأَجَازَهُ الْوَكِيلُ الأْوَّلُ جَازَ أَيْضًا لِنُفُوذِهِ بِرَأْيِهِ .
وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ صُورَتَيْنِ حَيْثُ أَجَازُوا لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ، وَهُمَا:
الصُّورَةُ الأْولَى: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَحَلُّ الْوَكَالَةِ يَتَرَفَّعُ الْوَكِيلُ عَنِ الْقِيَامِ بِمِثْلِهِ، كَالأْعْمَالِ الدَّنِيئَةِ فِي حَقِّ أَشْرَافِ النَّاسِ الْمُرْتَفِعِينَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْعَادَةِ كَبَيْعِ دَابَّةٍ فِي سُوقٍ، أَوْ يَعْجِزُ الْوَكِيلُ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ لِكَوْنِهِ لاَ يُحْسِنُهُ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لأِنَّ الإْذْنَ يَنْصَرِفُ إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلأِنَّ التَّفْوِيضَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ إِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهُ الاِسْتِنَابَةُ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ يَعْلَمُ بِوَجَاهَةِ الْوَكِيلِ، أَوِ اشْتَهَرَ الْوَكِيلُ بِهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ الْمُوَكِّلُ بِهَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنَّ يُوَكِّلَ، وَيَضْمَنُ إِنْ وَكَلَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِتَعَدِّيهِ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الَّذِي فِيهِ التَّوْكِيلُ مِمَّا يَعْمَلُهُ الْوَكِيلُ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ لِكَثْرَتِهِ وَانْتِشَارِهِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَدَى حَقِّ الْوَكِيلِ فِي التَّوْكِيلِ، بِمَعْنَى هَلْ يَحِقُّ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي فِعْلِ الْعَمَلِ كُلِّهِ أَوْ فِيمَا زَادَ عَلَى مَقْدِرَتِهِ فَقَطْ؟ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ اخْتَارَهُ الْقَاضِي إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْكِيلِ إِلاَّ فِي الْعَمَلِ الزَّائِدِ فَقَطْ، لأِنَّ التَّوْكِيلَ إِنَّمَا جَازَ لِلْحَاجَةِ فَاخْتَصَّ بِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فَقَطْ، بِخِلاَفِ وُجُودِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يُوَكِّلُ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْكَثِيرِ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ لِيُعِينَهُ عَلَيْهِ لاَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ اسْتِقْلاَلاً .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي الْعَمَلِ كُلِّهِ، لأِنَّ الْوَكَالَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ التَّوْكِيلِ، فَصَحَّ التَّوْكِيلُ فِي فِعْلِ الْعَمَلِ كُلِّهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي التَّوْكِيلِ بِلَفْظِهِ .
الرَّأْيُ الثَّانِي الْمُتَعَلِّقُ بِالْوَكَالَةِ فِي حَالَةِ الإْطْلاَقِ: ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ أِبِي لَيْلَى إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ .
اشْتِرَاطُ الأْمَانَةِ فِيمَنْ يُوَكِّلُهُ الْوَكِيلُ:
132 - كُلُّ وَكِيلٍ جَازَ لَهُ التَّوْكِيلُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ إِلاَّ أَمِينًا، رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ الْمُوَكِّلِ إِلاَّ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ الأْوَّلُ غَيْرَ أَمِينٍ فَيَتَّبِعَ الْوَكِيلُ تَعْيِينَهُ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ قَطَعَ نَظَرَ الْوَكِيلِ بِتَعْيِينِهِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا عَلِمَ الْوَكِيلُ أَنَّ مَنْ عَيَّنَهُ لَهُ الْمُوَكِّلُ فَاسِقٌ وَأَنَّ الْمُوَكِّلَ لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَكِيلَ لاَ يُعَيِّنُهُ .
133 - وَلَوْ وَكَّلَ الْوَكِيلُ رَجُلاً أَمِينًا وَلَكِنَّهُ صَارَ خَائِنًا، فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ عَزْلُ وَكِيلِهِ الْخَائِنِ، لأِنَّ تَرْكَهُ يَتَصَرَّفُ مَعَ خِيَانَتِهِ تَضْيِيعٌ وَتَفْرِيطٌ، وَالْوَكَالَةُ تَقْتَضِي اسْتِئْمَانَ أَمِينٍ، وَهَذَا أَصْبَحَ غَيْرَ أَمِينٍ فَوَجَبَ عَزْلُهُ مِنَ الْوَكَالَةِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ عَزْلَهُ، لأِنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ دُونَ الْعَزْلِ .
تَكْيِيفُ وَكَالَةِ مَنْ يُوَكِّلُهُ الْوَكِيلُ:
134 - تَوْكِيلُ الْوَكِيلِ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ مِنَ الْمُوَكِّلِ صَرَاحَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ صَرِيحٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ أَصْلاً.
135 - فَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ بِالإْذْنِ صَرَاحَةً فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ بِقَوْلِ الْمُوَكِّلِ: (وَكِّلْ عَنِّي)، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَوْلِهِ: (وَكِّلْ عَنْكَ)، أَوْ بِقَوْلِهِ: (وَكِّلْ).
فَإِنْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ: وَكِّلْ عَنِّي، أَوْ وَكِّلْ وَلِيِّ أَوْ فَوِّضْ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيلَ الْمُوَكِّلِ، لِوُجُودِ الرِّضَا حِينَئِذٍ بِرَأْيِ غَيْرِهِ أَيْضًا، فَلاَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِعَزْلِ الْوَكِيلِ الأْوَّلِ وَلاَ بِمَوْتِهِ لأِنَّ وَكِيلَ الْمُوَكِّلِ لَيْسَ وَكِيلاً لِلْوَكِيلِ، وَيَنْعَزِلاَنِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ الأْوَّلَ لاَ يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يَمْلِكُ الْوَكِيلُ الأْوَّلُ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: يَكُونُ الثَّانِي وَكِيلَ الْوَكِيلِ .
أَمَّا إِنْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: «وَكِّلْ عَنْكَ» فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيلَ الْوَكِيلِ عَمَلاً بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ فَيَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ الأْوَّلِ وَمَوْتِهِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْوَكِيلِ الأْوَّلِ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي نَظَرًا لِجِهَةِ وَكَالَتِهِ لَهُ. َنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّ لِلْمُوَكِّلِ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي لأِنَّهُ فَرْعُ فَرْعِهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَيْسَ لَهُ عَزْلُ وَكِيلِ وَكِيلِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيلَ الْمُوَكِّلِ فَيَأْخُذُ حُكْمَ الصُّورَةِ السَّابِقَةِ .
أَمَّا إِنْ قَالَ الْمُوَكِّلُ: «وَكِّلْ» وَلَمْ يَقُلْ عَنِّي وَلاَ عَنْكَ، أَوْ «فَوِّضْ».
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَكُونُ الثَّانِي وَكِيلَهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيلَ الْمُوَكِّلِ لاَ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ وَلاَ بِمَوْتِهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيلَ الْوَكِيلِ .
136 - أَمَّا التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ إِذْنٍ صَرِيحٍ مِنَ الْمُوَكِّلِ فَيُتَصَوَّرُ فِيمَا إِذَا وَكَّلَ الْوَكِيلُ فِيمَا لاَ يَتَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ لاَ يُحْسِنُهُ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْهُ لِكَثْرَتِهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ وَكِيلَ الْمُوَكِّلِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيلَ الْوَكِيلِ .
137 - أَمَّا التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ إِذْنٍ أَصْلاً فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ لأِنَّهُ فَوَّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفَ دُونَ التَّوْكِيلِ بِهِ، وَلأِنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الآْرَاءِ.
وَيَرَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ - وَابْنُ أِبِي لَيْلَى صِحَّةَ التَّوْكِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَكِيلَ الْوَكِيلِ .
الْوَكِيلُ أَمِينٌ:
138 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ أَمْوَالٍ لِمُوَكِّلِهِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ لِمَا يَهْلَكُ مِنْهَا إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ.
وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ يَعْمَلُ بِالأْجْرِ أَوْ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِالْعَمَلِ، لأِنَّ الْوَكِيلَ نَائِبُ الْمُوَكِّلِ - الْمَالِكِ - فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ فَكَانَ الْهَلاَكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلاَكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ - الْمُوَكَّلِ - وَلأِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ، وَفِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهَا مَا يُخْرِجُهَا عَنْ مَقْصُودِ الإْرْفَاقِ وَالْمَعُونَةِ فِيهَا .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ الْوَكِيلِ أَمِينًا:
139 - يَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ الْوَكِيلِ أَمِينًا أَنَّ الْقَوْلَ يَكُونُ قَوْلَهُ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى الْمُوَكِّلُ عَلَيْهِ التَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطَ، فَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، لأِنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى التَّسَامُحِ وَالْيُسْرِ وَالإْرْفَاقِ بِالنَّاسِ فَيُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الأْمِينِ مَعَ يَمِينِهِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِلاَّ امْتَنَعَ النَّاسُ عَنِ الدُّخُولِ فِي الأْمَانَاتِ وَفِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا فِيهِ .
اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ أَوَ نَفْيُهُ عَلَى الْوَكِيلِ:
140 - نَصَّ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ أَمَانَةً لاَ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِشَرْطِهِ، لأِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَوْنُهُ أَمَانَةً، فَإِذَا شَرَطَ ضَمَانَهُ فَقَدِ الْتَزَمَ ضَمَانَ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ، أَوْ ضَمَانَ مَالٍ فِي يَدِ مَالِكِهِ.
وَمَا كَانَ مَضْمُونًا لاَ يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِهِ، لأِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الضَّمَانُ، فَإِذَا شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهِ لاَ يَنْتَفِي مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِ مَا يَتَعَدَّى فِيهِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ، وَالأْوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ . ضَمَانُ الْوَكِيلِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ أَمْوَالٍ:
141 ـ الْوَكِيلُ أَثْنَاءَ قِيَامِهِ بِتَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا يَقْضِي بِهِ الشَّرْعُ مِنْ عَدَمِ الإِْضْرَارِ بِالْمُوَكِّلِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» وَمُقَيَّدٌ بِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ مُوَكِّلُهُ، كَمَا أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يَقْضِي بِهِ الْعُرْفُ إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً عَنِ الْقُيُودِ، فَإِذَا خَالَفَ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَوَجَبَ الضَّمَانُ .
وَلِتَوْضِيحِ ذَلِكَ نَذْكُرُ فِيمَا يَلِي بَعْضَ حَالاَتِ التَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطِ:
142 ـ إِذَا تَعَدَّى الْوَكِيلُ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ مَنْ مَالٍ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ فَرَّطَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، كَانَ ضَامِنًا لِمَا يَتْلَفُ مِنْهُ، فَلَوْ حَمَلَ عَلَى الدَّابَّةِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا لِنَفْسِهِ، أَوْ لَبَسَ الثَّوْبَ بِدُونِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يَقْضِ الْعُرْفُ بِمِثْلِ هَذَا الاِسْتِعْمَالِ، أَوْ ضَيَّعَ الْمَالَ الَّذِي تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَبِيعٍ أَوْ ثَمَنٍ وَلاَ يَعْرِفُ كَيْفَ ضَاعَ أَوْ وَضَعَهُ فِي مَحَلٍّ فَنَسِيَهُ كَانَ ضَامِنًا .
143 ـ إِذَا خَلَطَ الْوَكِيلُ مَالَ مُوَكِّلِهِ بِمَالِهِ خَلْطًا لاَ يَتَمَيَّزُ مِنْهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ وَضَاعَ الْمَالُ كُلُّهُ كَانَ ضَامِنًا لِمَالِ مُوَكِّلِهِ، وَكَذَا إِذَا ضَاعَ أَحَدُهُمَا كَانَ ضَامِنًا لَهُ .
(ر: خَلْط ف 4).
144 ـ إِذَا طَلَبَ الْمُوَكِّلُ مِنَ الْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَالٍ لَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ بِدُونِ عُذْرٍ كَانَ ضَامِنًا لَهُ.
أَمَّا إِذَا امْتَنَعَ بِعُذْرٍ بِأَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّدِّ حَائِلٌ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ وَلَكِنَّهُ أَخَّرَ الرَّدَّ كَانَ ضَامِنًا .
145 ـ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِلَى إِنْسَانٍ مَالاً لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ فَقَضَاهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ قَضَاهُ الْوَكِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فَعَلَهُ الْمُوَكِّلُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ وَيَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الطَّالِبِ بِمَا قَبَضَ مِنَ الْوَكِيلِ، وَإِنْ عَلِمَ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ قَضَاهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ عَزَلَ الْوَكِيلَ، إِلاَّ أَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ، فَإِذَا عَلِمَ بِفِعْلِ الْمُوَكِّلِ فَقَدْ عَلِمَ بِالْعَزْلِ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فِي الدَّفْعِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّعَدِّي فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْوَكِيلِ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ إِذَا أَدَّى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَدَّى الْوَكِيلُ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْوَكِيلُ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ أِبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، لأِنَّ الْوَكِيلَ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ هُوَ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْمَالِ مِنَ الْفَقِيرِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنَ الْوَكِيلِ لِحُصُولِهِ مِنَ الْمُوَكِّلِ، فَبَقِيَ الدَّفْعُ مِنَ الْوَكِيلِ تَعَدِّيًا مَحْضًا فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
فَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ فَعِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ مَالٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْقَابِضِ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَى الطَّالِبِ مَقْبُوضٌ عَنْهُ، وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الضَّمَانِ مَضْمُونٌ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مَقْبُوضًا بِجِهَةِ الْقَضَاءِ، وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْقَضَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الْقَابِضِ، وَيُقَالُ: إِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعِ مُعَاوَضَةٍ، وَهُوَ نَوْعُ شِرَاءِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ، وَالْمَقْبُوضُ مِنَ الْوَكِيلِ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِلاَفِ مَا إِذَا دَفَعَهُ عَلَى عِلْمِهِ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ، لأِنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدِ الْقَبْضُ بِجِهَةِ الضَّمَانِ لاِنْعِدَامِ الْقَبْضِ بِجِهَةِ الْقَضَاءِ، فَبَقَى تَعَدِّيًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ التَّعَدِّي، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ، لأِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الأْمِينِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ.
وَعَلَى هَذَا إِذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ بِمَوْتِهِ حَتَّى قَضَى الدَّيْنَ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ ضَمِنَ .
146 ـ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ عَلَى الْحُلُولِ لاَ يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ ثَمَنَهُ، لِمَا فِي التَّسْلِيمِ قَبْلَهُ مِنَ الْخَطَرِ، فَلَوْ سَلَّمَهُ بِاخْتِيَارِهِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ فَجَحَدَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ قِيمَةَ الْمَبِيعِ وَلَوْ مِثْلِيًّا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثَّمَنِ يَوْمَ التَّسْلِيمِ .
147 ـ إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ شَيْئًا وَقَبَضَهُ وَلَكِنَّهُ أَخَّرَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، لأِنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي إِمْسَاكِهِ بِدُونِ عُذْرٍ، أَمَّا لَوْ أَمْسَكَهُ بِعُذْرٍ: كَأَنْ ذَهَبَ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ حَالَ دُونَ ذَلِكَ حَائِلٌ فَهَلَكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ فِي الإْمْسَاكِ .
148 ـ لَوْ وَكَّلَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَنْ يَذْبَحَ لَهُ بَقَرَةً أَوْ جَامُوسَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَأَخْطَأَ فِي الذَّبْحِ وَصَارَتْ مَيْتَةً لاَ تُؤْكَلُ، كَانَ الذَّابِحُ ضَامِنًا لَهَا، لأِنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ سَوَاءٌ .
149 ـ إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ بِعَدَمِ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ إِلاَّ جَمِيعَهَا وَلَكِنَّهُ قَبَضَ بَعْضَهَا فَقَطْ، كَانَ ضَامِنًا وَبَطَلَ قَبْضُهُ، فَإِنْ قَبَضَ الْبَاقِيَ قَبْلَ أَنْ يَهْلَكَ الأْوَّلُ يَسْقُطُ الضَّمَانُ .
كَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ:
150 ـ الْوَكِيلُ يَضْمَنُ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَالٍ لِمُوَكِّلِهِ إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ. فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مِثْلِيًّا كَانَ الْوَكِيلُ ضَامِنًا مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا ضَمِنَ قِيمَتَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِثْلِيًّا وَتَعَذَّرَ الْحُصُولُ عَلَى الْمِثْلِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ.
وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ الَّتِي يَضْمَنُهَا الْوَكِيلُ بِقِيمَةِ الشَّيْءِ يَوْمَ التَّعَدِّي وَالتَّلَفِ أَوِ الْهَلاَكِ، لاَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ آخَرَ، فَلاَ عِبْرَةَ بِمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فِيهَا عَنْ هَذَا الْوَقْتِ .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (ضَمَان ف 54، 91.
انْتِهَاءُ الْوَكَالَةِ:
تَنْتَهِي الْوَكَالَةُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أَوَّلاً: الْعَزْلُ:
170 - لَمَّا كَانَتِ الْوَكَالَةُ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لأِيٍّ مِنَ الطَّرَفَيْن إِنْهَاؤُهَا، فَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ مِنْهَا وَيَنْهَاهُ عَنِ التَّصَرُّفِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، كَمَا أَنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ مِنْهَا أَيْضًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ .
غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ مِنَ الْمُوَكِّلِ الشُّرُوطُ التَّالِيَةُ:
الشَّرْطُ الأْوَّلُ: عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ:
171 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعَزْلَ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، فَلاَ يَلْزَمُ حُكْمُهُ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، وَإِنَّهُ لَوِ انْعَزَلَ قَبْلَ عِلْمِهِ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، لأِنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَاتٍ فَتَقَعُ بَاطِلَةً. وَبِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ مُوَكِّلِهِ، وَلاَ يَثْبُتُ حُكْمُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ قَبْلَ عِلْمِهِ كَالْفَسْخِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ، فَلَوْ تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بَعْدَ الْعَزْلِ فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ، لأِنَّ الْعَزْلَ رَفْعُ عَقْدٍ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَا صَاحِبِهِ، فَلاَ يَفْتَقِرُ عَلَى عِلْمِهِ كَالطَّلاَقِ .
172 - وَيَتِمُّ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أ- أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا الْعَزْلَ.
ب- إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ غَائِبًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُوَكِّلُ كِتَابَ الْعَزْلِ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ وَعَلِمَ بِمَا فِيهِ. لأِنَّ الْكِتَابَ مِنَ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ مِنَ الْحَاضِرِ.
جـ- لَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُوَكِّلُ رَسُولاً فَبَلَّغَهُ الرِّسَالَةَ، وَقَالَ لَهُ: فُلاَنٌ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَيَقُولُ: إِنِّي عَزَلْتُكَ عَنِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ، كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُولُ، عَدْلاً كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. لأِنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسَلِ مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ، فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ.
د- لَوْ أَخْبَرَ الْوَكِيلَ بِالْعَزْلِ رَجُلاَنِ عَدْلاَنِ كَانَا أَوْ غَيْرُ عَدْلَيْنِ، أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ. سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ إِذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ، لأِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلاَتِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً فَخَبَرُ الْعَدْلَيْنِ أَوِ الْعَدْلِ أَوْلَى.
وَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ بِاتِّفَاقِهِمْ أَيْضًا.
أَمَّا إِنْ كَذَّبَهُ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِلُ حَتَّى وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ. لأِنَّ الإِْخْبَارَ عَنِ الْعَزْلِ لَهُ شَبَهُ الشَّهَادَةِ، لأِنَّ فِيهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْعَزْلُ، وَهُوَ لُزُومُ الاِمْتِنَاعِ عَنِ التَّصَرُّفِ وَلُزُومُ الْعُهْدَةِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَعْدَ الْعَزْلِ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ أَحَدِ شُرُوطِهَا وَهُوَ الْعَدَالَةُ أَوِ الْعَدَدُ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الإِخْبَارَ عَنِ الْعَزْلِ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلاَتِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلاَ الْعَدَالَةُ كَمَا فِي الإْخْبَارِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلاَتِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ قُلْنَا لاَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ حَتَّى يَبْلُغَهُ خَبَرُ عَزْلِهِ فَالْمُعْتَبَرُ خَبَرُ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتِهِ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْفَاسِقِ . الشَّرْطُ الثَّانِي: عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْوَكَالَةِ:
173 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَزْلِ الْوَكِيلِ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ.
فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَزْلُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ، لأِنَّ فِي الْعَزْلِ إِبْطَالَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَمَنْ رَهَنَ مَالَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ وَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَجَعَلَ الْمُرْتَهِنَ أَوِ الْعَدْلَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ عِنْدَ حِلِّ الأْجَلِ، فَعَزْلُ الرَّاهِنِ الْمُسَلَّطِ عَلَى الْبَيْعِ لاَ يَصِحُّ بِهِ عَزْلُهُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا وَكَّلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكِيلاً بِالْخُصُومَةِ مَعَ الْمُدَّعِي بِالْتِمَاسِ الْمُدَّعِي فَعَزَلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْمُدَّعِي لاَ يَنْعَزِلُ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَنْ وَكَّلَ رَجُلاً بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ إِنْ غَابَ، ثُمَّ عَزَلَهُ الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ غَابَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ يَصِحُّ عَزْلُهُ، لأِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ حَقُّ الْمَرْأَةِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ عَزْلُهُ لأِنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى الطَّلاَقِ وَلاَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَكَالاَتِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ: عَزَلْتُ الْوَكِيلَ أَوْ رَفَعْتُ الْوَكَالَةَ، أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ أَخْرَجْتُهُ عَنْهَا، فَيَنْعَزِلُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَ تَوْكِيلَهُ، أَوْ وَكَّلَهُ بِسُؤَالِ الْخَصْمِ، بِأَنْ سَأَلَتْ زَوْجَهَا أَنْ يُوَكِّلَ فِي الطَّلاَقِ أَوِ الْخُلْعِ، أَوْ سَأَلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ أَنْ يُوَكِّلَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ، أَوْ سَأَلَهُ خَصْمُهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْخُصُومَةِ .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَيْسَ لَهُ عَزْلُ وَكِيلِهِ إِذَا قَاعَدَ الْوَكِيلُ الْخَصْمَ ثَلاَثًا، سَوَاءٌ كَانَ التَّوْكِيلُ لِعُذْرٍ أَمْ لاَ .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَلاَّ تَقَعَ الْوَكَالَةُ عَلَى وَجْهِ الإْجَارَةِ :
174 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ وَكِيلَهُ أَنْ لاَ تَكُونَ الْوَكَالَةُ قَدْ وَقَعَتْ عَلَى سَبِيلِ الإْجَارَةِ ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى سَبِيلِ الإْجَارَةِ فَهِيَ لاَزِمَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى سَبِيلِ الْجَعَالَةِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي لُزُومِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ وَعَدَمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (فَقْرَةِ 30).
أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْوَكَالَةُ عَلَى سَبِيلِ الإْجَارَةِ أَوِ الْجَعَالَةِ فَيَرَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا لاَزِمَةٌ مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ فَقَطْ، خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَق تَفْصِيلُهُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ صِفَةِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَلاَّ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْعَزْلِ مَفْسَدَةٌ:
175 - قَالَ الشَّرَوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ عَلِمَ الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَزْلِ مَفْسَدَةٌ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ظَالِمٌ، أَوْ وَكَّلَ فِي شِرَاءِ مَاءٍ لِطُهْرِهِ، أَوْ ثَوْبٍ لِلسَّتْرِ بِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، أَوْ شِرَاءِ ثَوْبٍ لِدَفْعِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ اللَّذَيْنِ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِمَا عِنْدَ عَدَمِ السَّتْرِ مَحْذُورٌ، تَيَمَّمَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ لاَ يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ، فَيَحْرُمُ الْعَزْلُ وَلاَ يَنْفُذُ .
عِلْمُ الْمُوَكِّلِ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسَهُ:
176 - لَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عِلْمَ الْمُوَكِّلِ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسَهُ مِنَ الْوَكَالَةِ، لأِنَّ فَسْخَ عَقْدِ الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَحْتَاجُ لِلرِّضَا فِيهِ، وَمَا لاَ يَحْتَاجُ لِلرِّضَا فِيهِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ فِيهِ كَذَلِكَ.
وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ لِنَفْسِهِ عِلْمُ الْمُوَكِّلِ بِالْعَزْلِ .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الْوَكِيلُ أَنَّهُ لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ فِي غَيْبَةِ مُوَكِّلِهِ اسْتَوْلَى عَلَى الْمَالِ جَائِرٌ حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَزْلُ عَلَى الأْوْجَهِ كَالْمُوصِي، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ .
ثَانِيًا: الْوَفَاةُ:
177 - تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَذَلِكَ لأِنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لأِهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ أَوِ الْوَكِيلُ بَطَلَتْ أَهْلِيَّتُهُ بِالْمَوْتِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ.
وَلأِنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنِ الْمُوَكِّلِ فِي مَالِهِ، وَقَدِ انْتَقَلَ هَذَا الْمَالُ بِالْوَفَاةِ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُمْ مَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى .
عِلْمُ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ:
178 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ حَتَّى تَبْطُلَ الْوَكَالَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَصِحَّ الْعَزْلُ، لأِنَّهُ لَوِ انْعَزَلَ قَبْلَ عِلْمِهِ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، لأِنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَاتٍ فَتَقَعُ بَاطِلَةً. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَتَى تَصَرَّفَ قَبْلَ عِلْمِهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدُ مَعَ الْوَكِيلِ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهَا الْمُوَكِّلُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يَتَعَاقَدُ مَعَ وَكِيلٍ بِأَنْ أَعْلَمَهُ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَزِلُ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ لِصِحَّةِ الْعَزْلِ، وَلَكِنَّ الأْوَّلَ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَعَاقِدُ مَوْجُودًا بِالْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمُوَكِّلُ، أَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِوَفَاةِ مُوَكِّلِهِ .
ثَالِثًا: الْجُنُونُ:
179 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ طُرُوءِ الْجُنُونِ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ عَلَى الْوَكَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبَقِ، سَوَاءٌ طَرَأَ عَلَى الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ.
وَإِذَا جُنَّ الْوَكِيلُ أَوِ الْمُوَكِّلُ جُنُونًا مُطْبَقًا ثُمَّ أَفَاقَ لاَ تَعُودُ الْوَكَالَةُ.
وَحَدُّ الْجُنُونِ الْمُطْبَقِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيهِ:
فَحَدَّهُ أَبُو يُوسُفَ بِمَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ وَبِهِ يُفْتِي، وَعَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِسُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِهِ، فَقُدِّرَ بِهِ احْتِيَاطًا، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى مَا يَسْقُطُ بِهِ عِبَادَةُ الصَّوْمِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى، أَمَّا وَجْهُ حَدِّهِ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلِسُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِهِ فَقَدَّرَ بِهِ احْتِيَاطًا كَمَا ذَكَرْنَا.
وَحَدَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِمَا يَسْتَوْعِبُ السَّنَةَ، لأِنَّ الْمُسْتَوْعِبَ لِلسَّنَةِ هُوَ الْمُسْقِطُ لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُمْتَدِّ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِخُرُوجِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ بِمَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ وَإِنْ زَالَ عَنْ قُرْبٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِجِنُونِهِ أَوْ جِنُونِ مُوَكِّلِهِ إِلاَّ أَنْ يَطُولَ جُنُونُ مُوَكِّلِهِ جِدًّا فَيَنْظُرَ لَهُ الْحَاكِمُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: لاَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِجِنُونٍ لاَ يَمْتَدُّ بِحَيْثُ تَتَعَطَّلُ الْمُهِمَّاتُ وَيَخْرُجُ إِلَى نَصْبِ قَوَّامٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَرَدَ بِلَفْظِ قِيلَ: إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ .
رَابِعًا: الإْغْمَاء:
180 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الإِْغْمَاءِ عَلَى الْوَكَالَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُلُ بِالإْغْمَاءِ، لأِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ الإْنْسَانُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ إِلَى بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِإِغْمَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْجُنُونِ، لأِنَّ الإْغْمَاءَ يَجْعَلُ الإْنْسَانَ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْقِيَامِ بِالتَّصَرُّفَاتِ، فَتَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ لِذَلِكَ .
خَامِسًا: الْحَجْرُ:
181 - الْحَجْرُ مِنْ أَسْبَابِ بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ مَنَاهِجُ مُخْتَلِفَةٌ فِي بَيَانِ آثَارِ الْحَجْرِ عَلَى الْوَكَالَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَوِ الْوَكِيلِ يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ.
وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ وَكَّلَ إِنْسَانًا فَحَجَرَ عَلَيْهِ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ، لأِنَّ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ أَمْرِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَيَبْطُلُ الأْمْرُ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ.
وَخَصَّصَ الْحَنَفِيَّةُ بُطْلاَنَ الْوَكَالَةِ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُوَكِّلِ إِذَا كَانَ الْوَكِيلُ وَكِيلاً فِي الْعُقُودِ وَالْخُصُومَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ وَكِيلاً فِي قَضَاءِ دَيْنٍ وَاقْتِضَائِهِ وَقَبْضِ وَدِيعَتِهِ فَلاَ يَنْعَزِلُ بِالْحَجْرِ.
وَقَالُوا: تَبْطُلُ وَكَالَةُ الوَكِيلِ بِالْحَجْرِ، عَلِمَ الْوَكِيلُ بِالْحَجْرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ
وصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْحَجْرِ لِسَفَهٍ، سَوَاءٌ طَرَأَ عَلَى الْوَكِيلِ أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، لأِنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَقْلِ وَعَدَمِ الْحَجْرِ، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ انْتَفَتْ صِحَّتُهُ لاِنْتِفَاءِ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ.
وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِبُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِالْحَجْرِ لِلسَّفَهِ حَيْثُ كَانَتْ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي اعْتُبِرَ لَهَا الرُّشْدُ، بِأَنْ كَانَتْ فِي شَيْءٍ لاَ يَتَصَرَّفُ فِي مِثْلِهِ السَّفِيهُ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ يَتَصَرَّفُ فِي مِثْلِهِ السَّفِيهُ بِدُونِ إِذْنٍ، أَوْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِي طَلاَقٍ أَوْ رَجْعَةٍ أَوْ فِي تَمَلُّكٍ مُبَاحٍ كَاسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوِ احْتِطَابٍ، وَالَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ الْمُوَكِّلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَلاَ تَنْفَسِخُ .
وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِفَلَسِ الْمُوَكِّلِ فِيمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ كَالتَّصَرُّفِ فِي عَيْنِ مَالِهِ لاِنْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي تَصَرُّفٍ فِي الذِّمَّةِ .
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ حَجَرَ عَلَى الْوَكِيلِ لِفَلَسٍ فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا، لأِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ.
وَإِنْ حَجَرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَكَانَتِ الْوَكَالَةُ بِأَعْيَانِ مَالِهِ بَطَلَتْ لاِنْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِ فِي أَعْيَانِ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْخُصُومَةِ أَوِ الشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ أَوِ الطَّلاَقِ أَوِ الْخُلْعِ أَوِ الْقِصَاصِ فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا، لأِنَّ الْمُوَكِّلَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ، فَلاَ تَنْقَطِعُ الاِسْتِدَامَةُ .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْوَكِيلِ أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ لاَ يَنْفُذُ مِنْهُمَا. وَاعْتَبَرُوا الْحَجْرَ فِي كِلاَ الْحَالَيْنِ فِي مَعْنَى الْجُنُونِ .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِفَلَسِ الْمُوَكِّلِ الأْخَصِّ، لاِنْتِقَالِ الْمَالِ لِلْغُرَمَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِالْفَلَسِ الأْخَصِّ: هُوَ حُكْمُ الْحَاكِمُ بِخَلْعِ مَا بِيَدِ الْمُفْلِسِ لِغُرَمَائِهِ بِشُرُوطِهِ، بِأَنْ يَطْلُبَ الْغُرَمَاءُ تَفْلِيسَ الْمَدِينِ، وَأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ حَالًّا، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّيْنُ الْحَالُّ يَزِيدُ عَلَى مَا بِيَدِ الْمَدِينِ مِنَ الْمَالِ.
وَالْفَلَسُ الأْخَصُّ يَخْتَلِفُ عَنِ الْفَلَسِ الأْعَمِّ الَّذِي هُوَ مَنْعُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ وَلَوْ مُؤَجَّلاً- بِمَالِهِ مِنْ تَبَرُّعِهِ بِعِتْقٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ حِمَالَةٍ .
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُلُ بِفَلَسِ الْمُوَكِّلِ الأْعَمِّ .
سَادِسًا: الرِّدَّةُ:
182 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا حُكِمَ بِلُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوَكِّلاً أَوْ وَكِيلاً، بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ، ثُمَّ لاَ تَعُودُ بِعَوْدِهِ مُسْلِمًا عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْحَوَاشِي الْيَعْقُوبِيَّةِ: أَنَّ الْوَكِيلَ إِنْ عَادَ مُسْلِمًا بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَالْقَضَاءِ بِهِ، تَعُودُ الْوَكَالَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلاَ تَعُودُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّلُ مُسْلِمًا بَعْدَ اللُّحُوقِ وَالْقَضَاءِ بِه لاَ تَعُودُ الْوَكَالَةُ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايِةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَعُودُ كَمَا فِي الْوَكِيلِ.
أَمَّا تَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهَا الْوَكَالَةُ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ.
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ، فَلاَ تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ، أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ، أَوْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِرِدَّتِهِ أَيَّامَ الاِسْتِتَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ فَإِنْ قُتِلَ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ أُخِّرَ لِمَانِعٍ كَالْحَمْلِ فَقَدْ تَرَدَّدَ الْعُلَمَاءُ فِي عَزْلِهِ، وَكَذَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِرِدَّةِ مُوَكِّلِهِ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ الاِسْتِتَابَةِ وَلَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يُقْتَلْ لِمَانِعٍ .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلاَفِ الْجَارِي فِي زَوَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ الْمُرْتَدِّ عَنْ مِلْكِهِ .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي زَوَالِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ أَقْوَالاً:
أَحَدُهَا: يَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ لِزَوَالِ عِصْمَةِ الإْسْلاَمِ ، وَقِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ. وَعَلَيْهِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ.
وَالثَّانِي: لاَ يَزُولُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ كَالزَّانِي الْمُحْصِنِ فَلا يَنْعَزِلُ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَظْهَرُ الأْقْوَالِ : أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا بَانَ زَوَالُهُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ، لأِنَّ بُطْلاَنَ أَعْمَالِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَوْتِهِ مُرْتَدًّا فَكَذَا مِلْكُهُ، فَيَكُونُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ مَوْقُوفًا.
وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَطَعَ بِاسْتِمْرَارِ مِلْكِهِ، وَجَعَلَ الْخِلاَفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ بِالرِّدَّةِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ؟ .
وَقَالُوا: رِدَّةُ الْوَكِيلِ لاَ تُوجِبُ انْعِزَالَهُ، وَعَلَيْهِ فَتَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ عَنِ الْمُوَكِّلِ .
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ، أَوْ رِدَّةِ الْمُوَكِّلِ. وَلَهُمْ رَأْيَانِ:
الرَّأْيُ الأْوَّلُ: لاَ تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَا بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَهُمْ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ رِدَّتِهِ.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَا بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَهَلْ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِرِدَّةِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؟ وَجْهَانِ فِي الْمَذْهَبِ أَصْلُهُمَا هَلْ يَنْقَطِعُ مِلْكُهُ وَتَصَرُّفُهُ أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا.
كَمَا أَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْخِلاَفَ فِي بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ إِذَا وَكَّلَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ مَعًا.
قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُعْطَى حُكْمَهُ لَوِ انْفَرَدَ بِالاِرْتِدَادِ .
(ر: رِدَّة ف43).
سَابِعًا: الْفِسْقُ:
183 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُلُ بِفِسْقِ الْوَكِيلِ، لأِنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ فِيمَا يُنَافِيِه الْفِسْقُ فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ. فَالْوَكِيلُ بِالإْيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إِذَا فَسَقَ انْعَزَلَ بِفِسْقِهِ، أَوْ بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ، لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِيِّةِ التَّصَرُّفِ. أَمَّا إِذَا كَانَ وَكِيلاً فِي الْقَبُولِ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ. لأِنَّهُ لاَ يُنَافِي جَوَازَ قَبْولِهِ. وَفِي عَزْلِهِ بِفِسْقِ نَفْسِهِ وَجْهَانِ عِنْدَهُمْ.
وَإِنْ كَانَ وَكِيلاً فِيمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الأْمَانَةُ، كَوَكِيلِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَوَلِيِّ الْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَنَحْوِ هَذَا، انْعَزَلَ بِفِسْقِ نَفْسِهِ وَفِسْقِ مُوَكِّلِهِ، لِخُرُوجِهِمَا بِذَلِكَ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلاً لِوَكِيلِ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ نَفْسِهِ انْعَزَلَ بِفِسْقِهِ. لأِنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ تَوْكُيلُ فَاسِقٍ، وَلاَ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ لأِنَّ مُوَكِّلَهُ وَكِيلٌ لِرَبِّ الْمَالِ وَلاَ يُنَافِيِه الْفِسْقُ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِفِسْقِ الْمُوَكِّلِ فِيمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْفِسْقِ .
ثَامِنًا: السُكْرُ:
184 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَكِرَ الْوَكِيلُ أَوِ الْمُوَكِّلُ بِلاَ تَعَدٍّ (أَيْ بِمُبَاحٍ) انْعَزَلَ الْوَكِيلُ.
أَمَّا إِذَا سَكِرَ أَحَدُهُمَا بِتَعَدٍّ (أَيْ بِمُحَرَّمٍ) فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ لِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِلُ، لأِنَّ الْمُتَعَدِّيَ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّاحِي.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُلُ بِالسُّكْرِ الَّذِي يُفَسَّقُ بِهِ فِي غَيْرِ مَا يُنَافِيهِ، لأِنَّهُ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.
وَأَمَّا مَا يُنَافِي الْفِسْقَ كَالإْيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ فِيهِ بِالسُّكْرِ .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُلُ بِالسُّكْرِ، سَوَاءٌ طَرَأَ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَوْ عَلَى الْوَكِيلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ مُبَاحٍ أَوْ مِنْ مُحَرَّمٍ.
وَقَالُوا: الْوَكِيلُ بِالطَّلاَقِ صَاحِيًا إِذَا سَكِرَ فَطَلَّقَ لَمْ يَقَعْ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَوْ سَكِرَ فَبَاعَ لَمْ يَنْفُذْ عَلَى مُوَكِّلِهِ .
تَاسِعًا: خُرُوجُ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ عَنْ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ:
185 - تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ إِذَا تَصَرَّفَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ فِي مَحَلِّ الْوَكَالَةِ تَصَرُّفًا يَعْجَزُ الْوَكِيلُ عَنِ التَّصَرُّفِ مَعَهُ.
فَلَوْ وَكَّلَ شَخْصٌ شَخْصًا آخَرَ فِي أَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً، وَلَكِنْ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهَا الْوَكِيلُ قَامَ الْمُوَكِّلُ بِبَيْعِهَا بِنَفْسِهِ، أَوِ اسْتُحِقَّتْ لِشَخْصٍ آخَرَ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ، لأِنَّ الْوَكِيلَ عَجَزَ عَنِ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ فِي مَحَلِّ الْوَكَالَةِ، لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْوَكَالَةِ. وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ شَخْصًا عَلَى بَيْعِ سِلْعَةٍ، ثُمَّ بَاعَهَا الْمُوَكِّلُ لِشَخْصٍ، وَبَاعَهَا الْوَكِيلُ لآِخَرَ، فَالأْوَّلُ مِنَ الْبَيْعَتَيْنِ هُوَ اللاَّزِمُ، وَالثَّانِي بَيْعٌ فُضُولِيٌّ لاِنْتِقَالِ السِّلْعَةِ لِلْمُشْتَرِي الأْوَّلِ بِالْبَيْعِ فِي كُلِّ حَالٍ، إِلاَّ حَالَ تَلَبُّسِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِقَبْضِ السِّلْعَةِ مِنَ الْبَائِعِ الثَّانِي، فَيَمْضِي الْبَيْعُ الثَّانِي وَيُرَدُّ الْبَيْعُ الأْوَّلُ، إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْبَائِعُ الثَّانِي وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ الْبَيْعَ الأْوَّلَ، وَإِلاَّ فَهِيَ لِلأْوَّلِ كَذَاتِ الْوَلِيَّيْنِ .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِقَبْضِ شَيْءٍ وَكَّلَ الْوَكِيلَ فِي قَبْضِهِ أَوِ الْخُصُومَةَ فِيهِ لاِعْتِرَافِ الْوَكِيلِ بِذَهَابِ مَحَلِّ الْوَكَالَةِ بِالْقَبْضِ .
186 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَوْدَةِ الْوَكَالَةِ إِذَا عَادَ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ إِلَى الْمُوَكِّلِ.
فَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَعُودُ، لأِنَّ الْعَائِدَ بِالْفَسْخِ عَيْنُ الْمِلْكِ الأْوَّلِ فَيَعُودُ بِحُقُوقِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ: لاَ تَعُودُ، لأِنَّ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ نَفْسِهِ يَتَضَمَّنُ عَزْلَ الْوَكِيلِ، لأِنَّهُ أَعْجَزَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيمَا وَكَّلَهُ بِهِ، وَالْوَكِيلُ بَعْد عَزْلِهِ لاَ يَعُودُ وَكِيلاً إِلاَّ بِتَجْدِيدِ الْوَكَالَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمُوَكِّلَ لَهُ وَعَادَ إِلَيْهِ مِلْكُهُ الْقَدِيمُ بِمَا هُوَ فَسْخٌ عَادَتِ الْوَكَالَةُ، أَمَّا إِنْ رَدَّ إِلَيْهِ لاَ يَكُونُ فَسْخًا، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَعُودُ، فَلَوْ وَكَّلَ شَخْصٌ آخَرَ فِي هِبَةِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ وَهَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ الْهِبَةُ .
عَاشِرًا: تَعَدِّي الْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ:
187 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِتَعَدِّي الْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ عَلَى آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأْوَّلُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِتَعَدِّي الْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لأِنَّ الْوَكِيلَ إِذَا تَصَرَّفَ فَقَدْ تَصَرَّفَ بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَعَدَّ.
كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ يَتَضَمَّنُ أَمَانَةً وَتَصَرُّفًا، فَإِذَا تَعَدَّى الْوَكِيلُ فِيهِ بَطَلَتِ الأْمَانَةُ، وَبَقِيَ التَّصَرُّفُ. كَالرَّهْنِ يَتَضَمَّنُ أَمَانَةً وَوَثِيقَةً، فَإِذَا تَعَدَّى فِيهِ بَطَلَتِ الأْمَانَةُ وَبَقِيَتِ الْوَثِيقَةُ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الأْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَرَدَ بِلَفْظِ قِيلَ. إِلَى بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِالتَّعَدِّي مِنَ الْوَكِيلِ، لأِنَّهَا عَقْدُ أَمَانَةٍ فَتَبْطُلُ بِالتَّعَدِّي كَالْوَدِيعَةِ .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ هَذَا الْخِلاَفَ يَجْرِي فِيمَا إِذَا كَانَ التَّعَدِّي بِالْفِعْلِ، بِأَنْ كَانَ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ التَّعَدِّي بِالْقَوْلِ كَمَا لَوْ بَاعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ- وَلَوْ بِسَلَمٍ - فَلاَ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ جَزْمًا، لأِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَتَعَدَّ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ.
وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ بَعْدَ سَرْدِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ: مُلَخَّصُهُ: إِنْ أَتْلَفَ الْوَكِيلُ بِتَعَدِّيهِ عَيْنَ مَا وُكِّلَ فِيهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُ مَا تَعَدَّى فِيهِ بَاقِيَةً لَمْ تَبْطُلْ .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: تَفْسُدُ الْوَكَالَةُ فِي الأْصَحِّ بِتَعَدِّي الْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا جَاءَ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى.
وَذَلِكَ لأِنَّ الْوَكَالَةَ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ مَعَ اسْتِئْمَانٍ، فَإِذَا زَالَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَزُلِ الآْخَرُ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: ظَاهِرُ كَلاَمِ كَثِيرٍ مِنَ الأْصْحَابِ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنَ الْوَكِيلِ تَقْتَضِي فَسَادَ الْوَكَالَةِ لاَ بُطْلاَنَهَا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَيَصِيرُ مُتَصَرِّفًا بِمُجَرَّدِ الإْذْنِ .
الْحَادِي عَشَرَ: إِنْكَارُ الْوَكَالَةِ:
188 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُلُ بِجُحُودِ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ الْوَكَالَةَ، لأِنَّ الْجُحُودَ مِنْهُمَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى دَفْعِ الإْذْنِ السَّابِقِ، كَمَا لَوْ أَنْكَرَ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ ثُمَّ قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ طَلاَقًا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ عَلَيْهِ الْفَتْوَى- وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ كَذَلِكَ- إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْجُحُودِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِنْكَارَ الْوَكِيلِ أَوِ الْمُوَكِّلِ الْوَكَالَةَ لِنِسْيَانٍ أَوْ لِغَرَضٍ فِي الإِْخْفَاءِ لَيْسَ بِعَزْلٍ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِخَوْفِ أَخْذِ ظَالِمٍ الْمَالَ الْمُوَكَّلَ فِيهِ، فَإِنْ تَعَمَّدَ أَحَدُهُمَا إِنْكَارَ الْوَكَالَةِ وَلا غَرَضَ لَهُمَا انْعَزَلَ بِذَلِكَ، لأِنَّ الْجَحْدَ حِينَئِذٍ رَدٌّ لِلْوَكَالَةِ.
الثَّانِي عَشَرَ: تَلَفُ مَا تَعَلَّقَتِ الْوَكَالَةُ بِهِ:
189 - تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِتَلَفِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ. فَلَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الَّتِي وُكِّلَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ أَوِ بِغَيْرِهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ. وَكَذَلِكَ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمَرْأَةِ الْمُوَكَّلِ بِطَلاَقِهَا، لِهَلاَكِ مَحَلِّ الْوَكَالَةِ. فَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَحَلِّ لاَ يُتَصَوَّرُ بَعْدَ هَلاَكِهِ، وَالْوَكَالَةُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَا لاَ يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ مُحَالٌ فَبَطَلَ .
الثَّالِثَ عَشَرَ: افْتِرَاقُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ:
190 - إِذَا وَكَّلَ الشَّرِيكَانِ شَخْصًا فَافْتَرَقَا أَوِ افْتَرَقَ أَحَدُهُمَا انْعَزَلَ الْوَكِيلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، لأِنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ، وَلأِنَّهُ وُكِّلَ مِنْ قِبَلِ الشَّرِكيَيْنِ لِغَرَضِ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا تَفَرَّقَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ، فَبَطَلَ التَّوْكِيلُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِهَا .
الرَّابِعَ عَشَرَ: إِنْجَازُ التَّصَرُّفِ الْمُوَكَّلِ فِيهِ:
191 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِلاَ عَزْلٍ بِنِهَايَةِ الشَّيْءِ الْمُوَكَّلِ فِيهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ فَقَبَضَهُ، أَوْ وَكَّلَهُ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ فَزَوَّجَهُ .
الْخَامِسَ عَشَرَ: الرُّجُوعُ عَنِ الْوَكَالَةِ دَلاَلَةً:
192 صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِدَلاَلَةِ رُجُوعِ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ.
وَمِنْ صُوَرِ رُجُوعِ الْمُوَكِّلِ دَلاَلَةً عَنِ التَّوْكِيلِ وَطْءُ الْمُوَكِّلِ زَوْجَةً وَكَّلَ فِي طَلاَقِهَا.
وَمِنْ صُوَرِ دَلاَلَةِ رُجُوعِ الْوَكِيلِ مَا إِذَا قَبِلَ الْوَكَالَةَ مِنْ مَالِكِ عَبْدٍ فِي عِتْقِهِ وَكَانَ قَدْ وَكَّلَهُ إِنْسَانٌ فِي شِرَائِهِ، فَإِنَّ قَبُولَ الْوَكَالَةِ فِي عِتْقِهِ يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنِ الْوَكَالَةِ الأْولَى فِي شِرَائِهِ .