loading

موسوعة قانون المرافعات

المذكرة الإيضاحية

1- عالجت المواد من 28 الى 35 من المشروع القواعد التي تبين حدود ولاية القضاء لمحاكم الجمهورية وهي ما يطلق عليه قواعد الاختصاص العام أو الاختصاص القضائي الدولي وقد رأى المشروع أن جميع هذه القواعد في صعيد واحد فافرد لها الفصل الأول من الباب الأول من الكتاب الأول ما دامت هي نقطة البداية لمزاولة المحاكم وظيفتها فخالف بهذا المنحى مسلك قانون المرافعات الحالي الذي يوزعها بين المادة 3 والمواد من 859 إلى 867 منه وهو توزیع لا يقوم على أساس فقهي وإنما يرجع الى أسباب تاريخية مردها صدور القانون رقم 126 لسنة 1951 باضافة كتاب رابع في الإجراءات المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية بعد صدور القانون رقم 77 لسنة 1949 بإصدار قانون المرافعات المدنية والتجارية .

وقد راعى المشروع إطلاق قواعد الاختصاص القضائي الدولي لمحاكم الجمهورية لتعمل في مواد الأحوال العينية وفي مواد الأحوال الشخصية على السواء إلا حيث تقتضي الملاءمة تخصيص بعض المنازعات بقواعد معينة.

2- وتقوم احکام هذه المواد على المبدأ العام السائد في فقه القانون الدولي الخاص وهو أن الأصل في ولاية القضاء في الدولة هو الاقليمية وأن رسم حدود هذه الولاية يقوم على أسس إقليمية تربط ما بين المنازعة وولاية القضاء مأخذها موطن المدعى عليه أی محل إقامته أو موقع المال أو محل مصدر الالتزام أو محل تنفيذه ، يضاف إلى ذلك الأخذ بضابط شخصي للاختصاص هو جنسية المدعى عليه وكونه وطنياً بصرف النظر عن موطنه أو محل إقامته ويبنی الاختصاص في هذه الحالة على إعتبار أن ولاية القضاء وإن كانت اقليمية في الأصل بالنسبة للوطنيين والأجانب إلا أنها شخصية بالنسبة للأولين فتشملهم ولو كانوا متوطنين أو مقيمين خارج إقليم دولتهم كذلك راعي المشروع اعتبار أن الأصل هو أن تؤدى الدولة العدالة في إقليمها وأن الأصل هو رعاية المدعى عليه ولذلك فإن المشروع لم يأخذ ضابط الاختصاص من ناحية المدعي إلا في حالات قليلة تعتبر واردة على خلاف الأصلين العامين المذكورين .

3- جعلت المادة 28 من المشروع الاختصاص معقوداً لمحاكم الجمهورية بالدعاوى التي ترفع على المصرى ولم لم يكن متوطناً في الجمهورية وهي قاعدة كانت مقررة في القانون المدني المختلط ، والنص على هذه القاعدة في المشروع يرمي الى استكمال قواعد الاختصاص وايجاد المناسبة للنص على الاستثناء من حكمها بالنسبة للدعاوى العقارية المتعلقة بعقارات واقعة في الخارج وهو بدوره إستثناء مسلم في الأغلب عند الفقه والقضاء في مختلف البلاد .

الإحكام

1 ـ إذ كان الأخذ بضابط شخصى للاختصاص وهو جنسية المدعى عليه وكونه وطنياً بصرف النظر عن موطنه أو محل إقامته وأساس ذلك أنه وإن كانت الإقليمية هى الأصل بالنسبة للوطنين والأجانب إلا أنها شخصية بالنسبة للوطنين فتشملهم ولو كانوا متوطنين فى الخارج ولذا نصت المادة 28 من قانون المرافعات على أن " تختص محاكم الجمهورية بنظر الدعاوى التى ترفع على المصريين ولو لم يكن له موطن أو محل إقامة فى الجمهورية وذلك فيما عدا الدعاوى العقارية المتعلقة بعقار واقع فى الخارج " وهذا الأمر كما ينصرف إلى الشخص الطبيعى يكون كذلك بالنسبة إلى الشخص الاعتبارى وذلك دون النظر إلى أشخاص المؤسسين أو الشركاء لانفصال الشخص الاعتبارى عمن يمثله باعتبار أن الشخص الاعتبارى هو المقصود بالخصومة وليس من يمثله أو من يملكه إذ إن الاعتداد بجنسية الشركاء أو المالكين للشخص المعنوى مؤداه عدم خضوع الشخص المعنوى المصرى الذى ليس له موطن بمصر إذا كان من يمثله أو يملكه شخصى أجنبى لولاية القضاء المصرى وهو أمر غير وارد فى القانون .

(الطعن رقم 169 لسنة 72 جلسة 2009/06/08 س 60 ص 687 ق 114)

2 ـ النص فى المادة 28 من قانون المرافعات على أن " تختص محاكم الجمهورية بنظر الدعاوى التى ترفع على المصرى ولو لم يكن له موطن أو محل إقامة فى الجمهورية وذلك فيما عدا الدعاوى العقارية المتعلقة بعقار واقع فى الخارج " يدل على أن محاكم الجمهورية تختص بنظر الدعاوى التى ترفع على المصرى ، حتى ولو لم يكن له موطن أو محل إقامة فى الجمهورية ، وعلى ذلك بالمصرى الذى يقيم فى الخارج ويتعامل مع شخص أجنبى لا يمكن أن يتفادى اختصاص المحاكم المصرية إذا قام ذلك الأجنبى برفع دعواه أمامها لمطالبة المصرى بوفاء التزامه ولا يجوز للمصرى فى هذه الحالة أن يحتج بأن العلاقة نشأت فى الخارج ، أو بأنه لا يقم فى مصر أو أن القانون الأجنبى هو الواجب التطبيق إذ تنبسط ولاية المحاكم المصرية على المصرى أينما كان وعلى جميع المنازعات التى يكون طرفاً فيها أياً كانت هذه المنازعات ويستثنى من ذلك الدعاوى العقارية المتعلقة بعقار واقع فى الخارج فهذه الدعاوى لا يختص بها القضاء المصرى سواء أكانت الدعوى شخصية عقارية أم عينية عقارية أو مختلطة .

(الطعن رقم 952 لسنة 71 جلسة 2003/01/12 س 54 ع 1 ص 153 ق 26)

3 ـ إذ نصت المادة 22 من القانون المدنى على أن " يسرى على قواعد الإختصاص و جميع المسائل الخاصة بالإجراءات قانون البلد الذى تقام فيه الدعوى أو تباشر فيه الإجراءات " . فقد أفادت خضوع قواعد المرافعات لقانون القاضى و ذلك بإعتبار أن القضاء وظيفة من وظائف الدولة التى يؤديها وفقا لقواعد المرافعات المقررة فى قانونها دون قواعد المرافعات فى أى دولة أخرى و بإعتبار أن ولاية القضاء إقليمية بما يوجب أن تكون القواعد اللأزمة لمباشرته هى الأخرى إقليمية . و إذ كانت قاعدة وجوب إشتمال الحكم على الأسباب التى بنيت عليه هى من قواعد المرافعات التى تخضع لقانون القاضى و هو - بالنسبة للحكم المطلوب تنفيذه فى مصر و الصادر من محكمة الخرطوم العليا - قانون جمهورية السودان و كان يبين من ذلك الحكم أنه و إن لم يشتمل على أسباب إلا أنه قابل للتنفيذ فى جمهورية السودان و من ثم يمكن اصدار الأمر بتنفيذه فى مصر إذا إستوفيت باقى الشرائط الأخرى المقررة فى هذا الخصوص . و لا يقدح فى ذلك ما قضت به المادة 347 من قانون المرافعات السابق من وجوب إشتمال الأحكام على الأسباب التى بنيت عليها و إلا كانت باطلة ذلك أن الخطاب بهذا النص متعلق بالأحكام التى تصدر فى مصر طالما أنه لم يثبت أن تبادل الأحكام بين الدولتين يتطلب المراجعة .

(الطعن رقم 231 لسنة 35 جلسة 1969/05/06 س 20 ع 2 ص 717 ق 115)

4 ـ أن الدفع بعدم اختصاص محاكم الجمهورية دولياً بنظر النزاع من الدفوع الشكلية غير المتعلقة بالنظام العام ويتعين على المتمسك به إبدائه قبل التكلم فى موضوع الدعوى وإلا سقط الحق فيه ويظل هذا الدفع قائما إذا أبدى صحيحاً ما لم ينزل عنه المتمسك به صراحة أو ضمناً .

(الطعن رقم 145 لسنة 62 جلسة 2000/05/15 س 51 ع 2 ص 678 ق 124)

5 ـ لا جدوى فيما يدفع به الطاعن "العامل" الشرط الوارد بالعقد موضوع الدعوى و ما يثيره حول إبداء الدفع بعدم الإختصاص من جانب المطعون ضدها "الخطوط الجوية السعودية " إستناداً إلى هذا الشرط لأن قضاء الحكم المطعون فيه بعدم إختصاص المحاكم المصرية بنظر الدعوى لا يقوم على هذا الشرط و تمسك المطعون ضدهما بالدفع الذى يستند إليه ، و إنما يقوم على أن موضوع الدعوى يمس سيادة دولة أجنبية أخذا بالدفع المبدى من المطعون ضدهما على هذا الأساس . لما كان ذلك فان النعى على الحكم المطعون فيه بهذا السبب يكون غير منتج .

(الطعن رقم 373 لسنة 36 جلسة 1972/11/18 س23 ع 2 ص 1257 ق 198)

6 ـ مفاد النص فى المادة الخامسة عشر من الاتفاقية والمادة 34 من النظام الأساسى الملحق بها يدل على أن مجلس إدارة المصرف المشار إليه هو المنوط به وضع اللوائح الداخلية وكل ما يتصل بعلاقته بالموظفين التابعين له ويتعين الرجوع إلى تلك اللوائح فى هذا الشأن ، ولا يسرى على العاملين به القوانين والقرارات المنظمة لشئون العمل الفردى والتأمينات الاجتماعية المتعلقة بالحكومة أو المؤسسات والشركات التابعة لها أو الشركات المساهمة إلا أن عدم سريان تلك القوانين والقرارات المشار إليها على العاملين بالمصرف لا يمنعهم من اللجؤ إلى القضاء للفصل فى المنازعات القائمة بينهم وبينه . لما كان ذلك ، وكان الحكم المطعون فيه قد انتهى فى قضائه إلى عدم اختصاص القضاء المصرى بنظر الدعوى بمقولة أن اتفاقية تأسيس المصرف أناطت بلائحة نظامها الأساسى بيان الأحكام الخاصة بالمسائل المشار إليها فى المادة الثالثة عشر ومن بينها الأحكام الخاصة بوسائل حل المنازعات بالرغم من أن هذه الاتفاقية – بما فيها نص المادة الثالثة عشر منها – وكذا النظام الأساسى الملحق بها قد خلت كل منهما بما يمنع القضاء المصرى عن نظر المنازعات بين المصرف والعاملين به ومن ثم فإن الحكم المطعون فيه يكون قد خالف القانون وأخطأ فى تطبيقه .

(الطعن رقم 6811 لسنة 63 جلسة 2003/06/12 س 54 ع 2 ص 980 ق 171)

7 ـ إذا كان الحكم المطعون فيه قد أسس قضاءه - برفض الدفع بعدم إختصاص دائرة الأحوال الشخصية للمصريين . على أن المدعيين يتمتعان بالجنسية المصرية أخذا بالقاعدة التى قررها قانون الجنسية المصرى من أن من يولد لاب مصرى ، يكون مصريا هو الآخر ، دون نظر إلى مكان ولادته أو جنسية الأم أو قيام الزوجية وقت الميلاد ، و لأنه لم يثبت كما قرر الحكم أنهما إكتسبا الجنسية البريطانية ، و لما كانت هذه الدعامة من الحكم ليست محل نعى من الطاعنة ، فإنه يكون صحيحاً إقامة الدعوى إبتداء ، بثبوت وراثتهما من والدهما المصرى الجنسية أمام دائرة الأحوال الشخصية للمصريين .

(الطعن رقم 21 لسنة 39 جلسة 1974/01/09 س 25 ع 1 ص 123 ق 23)

8- إنَّ قواعدَ الاختصاصِ القضائيِّ الدوليِّ هي قواعدٌ منفردةٌ تقتصرُ على تحديد ما إذا كانت المحاكمُ الوطنية ُمختصةً أم لا ولا تتجاوز هذا النطاقَ إلى تحديدِ المحكمةِ المختصة .

( الطعن 2703 لسنة 87 ق جلسة 15 / 6 / 2020 )
شرح خبراء القانون

الإختصاص الدولي للمحاكم :

متى رفع النزاع إلى محكمة دولة معينة ، فإنه يخضع للنصوص التي تحدد الاختصاص المتعلق بعرضه على قضاء هذه الدولة ، بصرف النظر عن جنسية الخصوم ومن ثم وجب تحديد الجهة ذات الولاية التي تختص بنظره، فقد تكون جهة القضاء العام وقد تكون جهة القضاء الإداري وقد تكون جهة إدارية وذات اختصاص قضائي، فإن رفع النزاع لجهة لا ولاية لها، يتعين القضاء بعدم الاختصاص ولو لم يبد دفع بذلك لتعلق الاختصاص الولائي بالنظام العام لاتصاله بالنظام القضائي.

وبعد تحديد الجهة ذات الولاية بنظر النزاع، يجب معرفة ما اذا كانت هذه الجهة تختص محلياً وفقاً للنصوص المتعلقة بالاختصاص المحلي فإن لم تكن مختصة ولم يدفع أمامها بعدم الاختصاص تعين عليها نظر النزاع لعدم تعلق الاختصاص بالنظام العام، كما يجب أن تكون الجهة التي رفع إليها النزاع مختصة قيمياً فإن لم تكن كذلك تعين عليها أن تقضي بعدم إختصاصها قيمياً من تلقاء نفسها باعتبار هذا الإختصاص متعلق بالنظام العام.

ويخضع النزاع من حيث الاختصاص لقانون القاضي ، وقد يكون هذا القانون هو قانون المرافعات أو قانون مجلس الدولة، أو القانون المدني عندما يحدد الاختصاص للمحكمة معينة مثل إيداع الثمن في دعوى الشفعة، وقد يكون قانوناً جنائياً فيما يتعلق بالدعوي المدنية فمحاكم أمن الدولة لا تختص بنظر الدعوى المدنية المترتبة على الجريمة، وقد يكون قانون المحاماة ، أو غيرها. 

وإذا ما اختصت محكمة بنظر النزاع، انتقلنا من نطاق الإختصاص الدولي إلى الاختصاص الذي ينظمه القانون المصري ولائياً ونوعياً وقيمياً ومحلياً بإعتباره قانون القاضي، وحينئذ يخضع هذا الإختصاص لكافة النصوص التي تحكمه في القانون المصري، فالدفوع يجب إبداؤها بالترتيب الذي حدده القانون وإلا سقط الحق في إبدائها، وإذا قضت المحكمة بعدم الاختصاص تعين عليها الإحالة وتلتزم المحكمة المحال إليها بنظر النزاع متى أصبح الحكم بعدم الإختصاص نهائياً إذ يجوز الطعن فيه علي استقلال باعتباره منهياً للنزاع (نقض 20/1/1979 طعن 898 س 43 ق).

فينصرف الاختصاص المنصوص عليه بالمادة 22 من القانون المدني الي الاختصاص الداخلي على نحو ما تقدم، أما الاختصاص الدولي للمحاكم فيخضع لنصوص أخر انظر م  10.

الاختصاص بالدعاوى التى ترفع على المصرى :

تختص المحاكم المصرية بكل طلب يقدم للقضاء ضد المصري أينما كان موطنه أو محل إقامته، فلم يتطلب القانون أن يكون متوطناً بمصر أو مقيماً بها، ومن باب أولى ينعقد الإختصاص لهذه المحاكم إذا كان المدعى عليه مصرياً له موطن بمصر. وراجع المواد 40 - 43 من القانون المدني فيما يتعلق بالموطن.

ويظل الاختصاص منعقداً للمحاكم المصرية حتى لو اكتسب المصري جنسية دولة أخرى طالما له الجنسية المصرية، فإن أسقطت عنه الجنسية المصرية فلا ينعقد الإختصاص للمحاكم المصرية، وشرط تمتع المدعى عليه بالجنسية هو شرط إبتداء وإنتهاء، ومن ثم يجب لانعقاد هذا الإختصاص أن يكون المدعى عليه مصرياً عند رفع الدعوى ويظل كذلك حتى صدور حكم نهائي فيها، فإن كان مصرياً عند رفع الدعوى وأسقطت عنه هذه الجنسية قبل صدور حكم نهائي فيها، انتفى هذا الإختصاص، ولكن لها الإستمرار في نظر الدعوى ، بعد هذا الإسقاط ، إذا قبل المدعى عليه ولاية المحكمة المصرية صراحة أو ضمناً، أما إن رفض ذلك ودفع بعدم إختصاصها دولياً بنظرها أو تغيب عن الحضور، تعين عليها القضاء بعدم اختصاصها دولياً بنظر الدعوى ومن تلقاء نفسها عملاً بالمادة 35 وتقف عند هذا الحد فلا تقضى بالإحالة ، ويكون المدعي وشأنه في رفع دعوى جديدة أمام المحكمة المختصة دولياً.

أما إذا قبل المدعى عليه ولاية القضاء المصري صراحة بالإفصاح عن ذلك ، أو ضمناً بإبداء طلب أو دفاع أو دفع يدل على هذا القبول، كما إذا طلب أجلاً للمستندات أو المذكرات أو دفع بعدم اختصاص المحكمة محلياً أو نوعياً أو قيمياً بنظر الدعوى، وحينئذ تنظر المحكمة الدعوى وفقاً لقانون المرافعات المصري، فإن تبين لها أنها غير مختصة محلياً ولم يدفع أمامها بالدفع المتعلق بذلك إستمرت في نظر الدعوى، وإن وجدت، أنها غير مختصة نوعياً أو قيمياً تصدت من تلقاء نفسها لهذا الدفع وقضت بعدم اختصاصها وإحالة الدعوى للمحكمة المختصة عملاً بالمادة 109 من قانون المرافعات.

وينصرف النص إلى كل طلب يقدم للقضاء ضد المصري، فيشمل الدعاوى المدنية والتجارية والأحوال الشخصية وصحف الجنح المباشرة وطلبات التحكيم وكذلك الأوامر الولائية التي يصدرها القضاء إذ تجمعها كلها غاية واحدة هي استصدار حكم أو أمر يشمل بالصيغة التنفيذية وينفذ ضد المصري.

مدى تعلق الاختصاص الدولي للمحاكم المصرية بالنظام العام :

يثور بحث تعلق الاختصاص الدولي للمحاكم المصرية بالنظام العام عندما يتقدم شخص بحكم صادر له من محكمة أجنبية ضد مواطن مصري أو أجنبي متوطن في مصر - طالباً الأمر بتنفيذه وفقاً للمادة 298 من قانون المرافعات ، وحينئذ يتعين على المحكمة المصرية قبل أن تأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي بحيث الشروط اللازمة لذلك ومنها أن تكون المحاكم المصرية غير مختصة بالمنازعة التي صدر فيها هذا الحكم - أو الأمر - بحيث إن خلصت إلى توافر هذا الشرط والشروط الأخرى ، أمرت بالتنفيذ، أما إذا تبين لها أن المحاكم المصرية مختصة بهذا النزاع، كان عليها أن ترفض الأمر بالتنفيذ أو تأمر به وفقاً لتعلق النزاع بالنظام العام أو عدم تعلقه به، فإن كان النزاع متعلقاً بالنظام العام فإن اختصاص المحاكم المصرية بنظره يكون متعلقاً بدوره بالنظام العام مما يحول دون مخالفته ولا يعتد بقبول المواطن المصري لإختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم ويصبح حكمها خارجاً عن نطاق ولايتها فلا يجوز الاحتجاج به أمام المحاكم المصرية صاحبة الولاية في النزاع، وتتصدی هذه المحاكم لمسألة الاختصاص به في هذه الحالة - من تلقاء نفسها.

أما إذا كان النزاع غير متعلق بالنظام العام، كان إختصاص المحاكم المصرية دولياً بنظره غیر متعلق بدوره بهذا النظام، ومن ثم يجوز مخالفته صراحة أو ضمناً، ولا تتصدى له المحكمة المصرية من تلقاء نفسها عند نظر طلب الأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي المطلوب تنفيذه ضد المواطن المصري.

ويتحقق ذلك عندما يكون الاختصاص بالدعوى مشتركاً بين المحاكم المصرية والمحكمة الأجنبية كما في حالة النزاع الناشئ عن عقد أبرم في الخارج وكان مقرراً تنفيذه في مصر فإذا رفعت الدعوى أمام المحكمة الأجنبية فإن الحكم الصادر فيها يجوز تنفيذه في مصر، خلافاً لما إذا تعلق النزاع بالنظام العام إذ ينعقد حينئذ الإختصاص للمحاكم المصرية وحدها ومن ثم لا تنفذ في مصر الأحكام الصادرة من المحاكم الأجنبية ولو قبلها المحكوم عليه أو لم يتمسك بعدم الإختصاص.

معيار النظام العام

يرجع في مدى تعلق الاختصاص الدولي للمحاكم المصرية بالنظام العام إلى كل ما يمس كيان الدولة الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، فكل ما يؤثر في ذلك أو يتصل به فهو متعلق بالنظام العام وما عداه فلا إتصال به.

فالإختصاص المتعلق بالأحوال الشخصية يمس النظام الاجتماعي في الدولة التي تستأثر بهذا الاختصاص وتحدد شروطه سواء بالنسبة لمواطنيها أو بالنسبة للأجانب المتوطنين بها، ومن ثم يتعلق هذا الاختصاص بالنظام العام مما لا يجوز معه الإتفاق علي ما يخالفه صراحة بالنص عليه أو ضمناً بقبول الحكم الصادر من المحكمة الأجنبية، وحينئذ يعتبر الحكم باطلاً بطلاناً مطلقاً في مصر فلا يجوز الأمر بتنفيذه.

والإختصاص المتعلق بنظام الأموال في مصر يمس الجانب الاقتصادي فيها ولذلك فهو متعلق بالنظام العام، فالدعاوي المتعلقة بالتركة والارث متى كانت التركة قد افتتحت في مصر. وتفتح التركة قانوناً بوفاة المورث ويعد آخر موطن له هو مكان إفتتاحها . أو كان المورث مصرياً أو كانت أموال التركة كلها أو بعضها في مصر، ينعقد الاختصاص بها للمحاكم المصرية وحدها، كما ينعقد الإختصاص لها بالدعاوي العقارية متى كان العقار موجوداً في مصر ويمتد إلى الدعاوي العقارية الشخصية والدعاوى الشخصية المتعلقة بعقار موجود بمصر كذلك بالدعاوي المتعلقة بمنقول موجود في مصر وفقاً لقاعدة الأمن المدني. 

وعندما ينعقد الاختصاص للمحاكم المصرية، وتقام الدعوي أمامها استناداً إلي نص آخر في القانون المصري - كالدعاوي العمالية وغيرها . كان هذا الاختصاص متعلقاً بالنظام العام فلا تقبل أي دفع بعدم اختصاصها ما لم يمس موضوع الدعوى سيادة دولة أجنبية كما لو قامت علاقة تنظيمية بين عامل وحكومة أو هيئة عامة أجنبية حيث ينعقد الاختصاص في هذه الحالة لمحاكم هذه الدولة.

أما الدعاوي التي لا تستند إلي نص آمر وتتعلق بحق شخصي لا صلة له منقول أو عقار في مصر، فإن الاختصاص بها لا يتعلق بالنظام العام، ومتي ثبت أن المحكمة المصرية تشترك مع المحكمة الأجنبية في نظرها وفقاً لقواعد المرافعات المقررة في قانون كل منهما، كان للحكم الصادر حجيته أمام المحاكم المصرية ، أما إذا وجد القاضي المصري أن الإختصاص ينعقد للمحاكم المصرية وحدها التفت عن الحكم الأجنبي وامتنع عن تنفيذه حتى لو قبل المحكوم عليه هذا الحكم أو وجد إتفاق على اختصاص المحكمة الأجنبية ، إذ يستند الحكم في هذه الحالة إلى أعمال السلطة القومية الأجنبية، خلافاً لحكم المحكمين.

القانون الذي تلتزم المحاكم المصرية بتطبيقه :

متى انعقد الاختصاص الدولي للمحاكم المصرية، فإنها تلتزم بتطبيق القانون الذي تشير إليه قواعد الإسناد الواردة بالقانون المدني، سواء كان هو القانون المصري أو القانون الأجنبي

تعديل الإختصاص الدولي بمعاهدة :

يجوز تعديل الإختصاص الدولي للمحاكم المصرية بموجب معاهدة دولية ، وتسري أحكامها كتشريع مصري بمجرد التصديق عليها وحينئذ يلتزم القاضي المصري بما تضمنته من أحكام، فإن سلبت الاختصاص من المحاكم المصرية بالنسبة لبعض الدعاوى وجعلته من اختصاص دولة أجنبية طرف في المعاهدة ، أخذت المعاهدة حكم التشريع المصري من تاريخ التصديق عليها، فتكون الأحكام الصادرة في تلك الدعاوي من المحكمة التي جعلت المعاهدة الاختصاص معقود لها، ذات حجية أمام المحاكم المصرية وتلتزم بالأمر بتنفيذها عملاً بالمادة 301 من قانون المرافعات، والأصل أن المعاهدة تسري من تاريخ التصديق عليها من السلطة التشريعية، فلا تحاج المحاكم المصرية إلا بالأحكام الصادرة منذ هذا التاريخ، لكن يجوز النص فيها على تحديد تاریخ لاحق لنفاذها أو تاریخ سابق لذلك إعمالا للأثر الرجعي للتشريع مع الالتزام بالقواعد المقررة لهذا الأثر.

الاختصاص الدولي بالدعاوي العقارية :

استثنت المادة 28 من قانون المرافعات من الاختصاص الدولي للمحاكم المصرية الدعاوي التي ترفع علي المواطن المصري اذا تعلقت بعقار واقع في الخارج، وهذا استثناء يتفق مع فكرة النظام العام التي تتمسك بها كل دولة باعتبار أن الثروة العقارية تمس كيان الدولة الاقتصادي، وأن أي دولة لا تقبل تنفيذ حكم صادر من محكمة أجنبية يمس هذا الكيان. ويمتد الاستناد إلى كل دعوي تتعلق بعقار، كدعاوي الملكية والحيازة والانتفاع، والدعاوي الشخصية العقارية كدعاوي صحة ونفاذ العقود المتعلقة بالعقار، والدعاوي الشخصية البحتة متي تعلقت بعقار کدعوي الايجار وعارية الاستعمال.

والأصل أن الدعاوي العقارية تتعلق بالنظام العام في مصر، وقد لا تكون كذلك في الدولة الكائن العقار بها، ولذلك اذا رفعت دعوي ضد مصري عن عقار كائن في دولة أجنبية، فإن المحكمة المصرية لا تقضي فيها بعدم اختصاصها من تلقاء نفسها اذا حضر المدعي عليه ولم يدفع بعدم اختصاصها، لكن إذا لم يحضر قضت بعدم اختصاصها من تلقاء نفسها عملاً بالمادة 35. ( المطول في شرح قانون المرافعات، المستشار/ أنور طلبة، الناشر/ المكتب الجامعي الحديث،  الجزء : الأول ، الصفحة : 445 )

 من المسلم به أن ولاية قضاء دولة ما، إنما تنبسط على كافة المتمتعين بجنسية تلك الدولة، فيمكنهم اللجوء إلى هذا القضاء كما أنهم يخضعون له، إذ لا قيد على إرتفاق الوطنيين بقضاء الدولة وخضوعهم له ( أحمد مسلم - أصول المرافعات - بند 169 ص 176 ) ، وللمؤلف - تحديد نطاق الولاية القضائية والاختصاص القضائي ص 211 وما بعدها، وأساس ذلك أن سيادة الدولة تمتد إلى رعاياها ( فؤاد عبد المنعم رياض وسامية راشد - الوجيز في القانون الدولي الخاص - طبعة سنة 1975م - الجزء الثانی بند 311 ص 351 وبند 322 ص 362 و ص 363 ) ، ولما كانت ولاية القضاء تعتبر مظهرا من مظاهر هذه السيادة، فإنها تمتد إلى ما تمتد إليه تلك السيادة، ومن ثم فإنها تشمل كافة مواطني الدولة أضف إلى ذلك أن للدولة قدرة على كفالة آثار أحكام محاكمها في مواجهة المتمتعين بجنسيتها، ولذا فليس من المفيد من الناحية العملية أن يخضع مواطنو دولة ما إلى محاكم دولة أخرى، بحيث لا تستطيع هذه الدولة الأخيرة أن تكفل تنفيذ ما تصدره محاكمها من أحكام .

فانتماء الشخص بجنسيته إلى دولة ما، يكفي لبسط ولاية قضاء تلك الدولة عليه، فهو يخضع لقضائها، وتختص محاكم هذه الدولة بكافة الدعاوى التي ترفع عليه، سواء أكان مقيماً داخل هذه الدولة أو خارجها، وسواء أكان النزاع ناشئاً عن علاقة قانونية قامت في داخل تلك الدولة أو خارجها ( عبد الباسط جمیعی - مباديء المرافعات - سنة 1974 - ص 120 ) .

ولذلك نجد المشرع المصري في المادة 28 مرافعات - محل التعليق - يقرر أن محاكم الجمهورية تختص بنظر الدعاوى التي ترفع على المصرى، حتى ولو لم يكن له موطن أو محل إقامة في الجمهورية، وعلى ذلك فالمصري الذي يقيم في الخارج ويتعامل مع شخص أجنبي لا يمكن أن يتفادی اختصاص المحاكم المصرية، إذا ما قام ذلك الأجنبي برفع دعواه أمامها لمطالبة المصري بوفاء التزامه، ولا يجوز للمصري في هذه الحالة أن يحتج بأن العلاقة نشأت في الخارج، أو بأنه يقيم في الخارج، إذ ولاية المحاكم المصرية تنبسط على المصرى أينما كان وعلى جميع المنازعات التي يكن ذلك المصرى طرفاً فيها أيا كانت هذه المنازعات .

فيكفي أن يكون المدعى عليه مصرياً لكي ينعقد الاختصاص لمحاكم الجمهورية، ولا يلزم توافر أي شرط في المدعي، فيصبح أن يكون المدعی وطنياً ، كما يصح أن يكون أجنبياً، متوطناً أو مقيماً أو موجوداً في الجمهورية أو في الخارج .

ولكن وفقاً للمادة 28 مرافعات - محل التعليق - يستثنى من ذلك الدعاوى العقارية المتعلقة بعقار واقع في الخارج، فهذه الدعاوی لا يختص بها القضاء المصرى، سواء أكانت الدعوى شخصية عقارية أم عينية عقارية أم مختلطة ( عز الدين عبد الله - القانون الدولي الخاص - الطبعة السابعة - سنة 1972 - الجزء الثاني - بند 179 ص 675 وص 676 ) ومثال الدعوى الشخصية العقارية الدعوى التي يرفعها مشتری العقار بعقد غير مسجل طالباً بها، في مواجهة البائع، الحكم بانعقاد البيع، ومثال الدعوى العينية العقارية الدعوى التي يرفعها مالك العقار .

طالباً تثبیت حق ملكيته وتقريره في وجه من يعتدى عليه أو ينازع فيه، أما الدعوى المختلطة فمثالها الدعوى التي يرفعها مشترى العقار بعقد مسجل على البائع طالباً تسليم هذا العقار .

وعلة هذا الإستثناء أن محكمة العقار هي الأقدر على نظر النزاع ( محمد عبد الخالق عمر - قانون المرافعات - طبعة 1978 - الجزء الأول ص 15 ) ، فالدعاوى المتعلقة بعقار تتطلب إجراءات ومعاينات تكون محكمة الدولة الكائن بها العقار أقدر على الفصل فيها ( فؤاد عبد المنعم رياض - وسامية راشد - الوجيز في القانون الدولي الخاص - المرجع السابق - الجزء الثاني - بند 322 ص 364 ) ، كما أن العقار هو مسقط سيادة الدولة ( عز الدين عبد الله - المرجع السابق - الجزء الثاني - بند 179 ص 677 ) ، وتنفيذ الحكم الصادر في الدعوى العقارية يكون عادة في بلد موقع العقار، ولذلك فإن ولاية قضاء الدولة الكائن بها العقار تشمل المنازعات المتعلقة به، حتى ولو كان أحد أطراف المنازعة مصرياً. 

ومن ذلك يتضح لنا أن ولاية قضاء الدولة تنبسط على كافة مواطنيها، سواء أكانوا مقيمين على أرضها أم خارجها، وأياً كان نوع الدعوى، وذلك فيما عدا الاستثناء الوحيد الخاص بالدعاوى المتعلقة بعقار يقع خارج إقليم الدولة، إذ يختص بها قضاء الدولة الكائن بها العقار . ( الموسوعة الشاملة في التعليق على قانون المرافعات، الدكتور/ أحمد مليجي، الطبعة الثالثة عشر 2016 طبعة نادي القضاة ،  الجزء / الأول  ، الصفحة : 759 )

تختص المحاكم المصرية بالدعاوى التي ترفع على من يتمتع بالجنسية المصرية سواء كان مقيماً في مصر أو خارجها وسواء كان النزاع ناشئاً عن علاقة قانونية قامت داخل الدولة أم خارجها، وسواء كان المدعي مصرياً أو أجنبياً دون نظر لما إذا كان متواطناً أو مقيماً أو موجوداً في مصر أو في الخارج. إذ أن مرد إختصاص القضاء المصري بالدعاوى التي ترفع علي المصري إنما يرجع إلى إعتبار القضاء مظهراً من مظاهر سيادة الدولة فتمتد ولايته إلى ما تمتد إليه هذه السيادة ( مبادئ المرافعات للدكتور عبد الباسط جميعي ص 120 وأصول المرافعات للدكتور احمد مسلم بند 169 ) .

ويستثني من إختصاص القضاء المصري بالدعاوى التي ترفع علي المصري الدعاوى العقارية المتعلقة بعقار بالخارج سواء كانت من الدعاوى الشخصية العقارية أي التي تتعلق بحق شخصي محله عقار كدعوي صحة ونفاذ عقد البيع ، أو كانت من الدعاوى العينية أي التي تتعلق بحق عيني محله عقار كطلب تثبيت ملكية عقار أو كانت من الدعاوى المختلطة كالدعوى التي يرفعها مشتري العقار بعقد مسجل ضد البائع بطلب تسليم العقار المبيع ( القانون الدولي الخاص للدكتور عز الدين عبد الله بند 179 ) . واختصاص المحاكم الدولي والولائي للدكتور أحمد مليجي بند 4).

وإذا رفعت الدعوى على الوكيل فالعبرة في التقاضي بجنسية الموكل. ( التعليق على قانون المرافعات، المستشار/ عز الدين الديناصوري والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات وتحديث أحكام النقض للأستاذ/ خيرت راضي المحامي بالنقض، الطبعة 2017 دار المطبوعات الجامعية،  الجزء : الأول ،  الصفحة :  409 )

الفقه الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  العشرون ، الصفحة / 277

مَكَانُ الدَّعْوَى:

الْكَلاَمُ فِي مَكَانِ الدَّعْوَى يَقْتَضِي بَيَانَ أَمْرَيْنِ: الأْوَّلُ: الْمَجْلِسُ الَّذِي تُرْفَعُ فِيهِ الدَّعْوَى وَتُنْظَرُ فِيهِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ.

وَالثَّانِي: الْقَاضِي الْمُخْتَصُّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى.

أَوَّلاً: مَجْلِسُ الْقَضَاءِ:

الأْصْلُ أَنَّ جَمِيعَ الأْمْكِنَةِ صَالِحَةٌ لِتَلَقِّي الْمُتَنَازِعَيْنِ وَالنَّظَرِ فِي خُصُومَاتِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَحْرُمُ فِيهِ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِهْدَارُ حَقٍّ أَوْ فِعْلُ مُحَرَّمٍ، كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَ الْقَاضِي مِلْكَ إِنْسَانٍ مِنْ أَجْلِ الْقِيَامِ بِإِجْرَاءَاتِ التَّقَاضِي مِنْ غَيْرِ الْحُصُولِ عَلَى إِذْنِهِ.

وَلَكِنْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِفَاتٍ وَخَصَائِصَ يُسْتَحَبُّ تَوَافُرُهَا فِي الأْمَاكِنِ الَّتِي تُرْفَعُ فِيهَا الدَّعَاوَى، وَيُفْصَلُ فِيهَا بَيْنَ الْخُصُومِ. وَيُمْكِنُ إِرْجَاعُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْخَصَائِصِ إِلَى أَمْرَيْنِ:

الأْوَّلُ: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تَوَفَّرَ التَّيْسِيرُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَالاِهْتِدَاءِ إِلَى مَوْضِعِهَا، وَأَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يُتَوَخَّى الْعَدْلُ وَالإْنْصَافُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا يَبْذُلُونَهُ مِنَ الْجَهْدِ لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تَوَفَّرَ الاِسْتِقْرَارُ النَّفْسِيُّ وَالرَّاحَةُ الْجَسَدِيَّةُ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَقْصِدُونَهَا لِلتَّقَاضِي، وَلِلْقُضَاةِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهَا مَجْلِسًا لِلْقِيَامِ بِوَظَائِفِهِمْ.

وَيَنْبَنِي عَلَى الأْمْرِ الأْوَّلِ أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ، بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَيْهِ كُلُّ قَاصِدٍ لِلتَّقَاضِي، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ بَارِزٍ، وَلَيْسَ فِي مَوْضِعٍ مُسْتَتِرٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ، حَتَّى وَإِنْ أَقَامَ الْقَاضِي عَلَى بَابِهِ مَنْ يَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ لاَ يَظْهَرُ جُلُوسُهُ بِهِ، وَلاَ يَهْتَدِي إِلَيْهِ الْغُرَبَاءُ.

وَيَنْبَنِي عَلَى الأْمْرِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فَسِيحًا لاَ يَتَأَذَّى الْحَاضِرُونَ بِضِيقِهِ، وَأَنْ يَكُونَ نَزِهًا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَالْغُبَارُ وَالدُّخَانُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيَجْلِسُ الْقَاضِي لِلصَّيْفِ حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ، وَلِلرِّيَاحِ وَالشِّتَاءِ حَيْثُ يَلِيقُ.

وَلِلْفُقَهَاءِ اخْتِلاَفَاتٌ وَتَفْصِيلاَتٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ مِنِ اتِّخَاذِ الْبَوَّابِ وَالْحَاجِبِ، وَاتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَجْلِسًا لِلتَّقَاضِي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ، وَمَسْجِدٌ، وَحَاجِبٌ ج 16 - 244).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثالث والثلاثون ، الصفحة / 282

قَضَاء

التَّعْرِيفُ:

مِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ، قَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْقَاضِي مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ:

الْقَاطِعُ لِلأْمُورِ الْمُحَكَّمِ لَهَا. وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالْفَصْلُ، يُقَالُ: قَضَى يَقْضِي قَضَاءً فَهُوَ قَاضٍ إِذَا حَكَمَ وَفَصَلَ.

وَيَأْتِي فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِضَاءِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ: يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَالصُّنْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أَيْ خَلَقَهُنَّ وَصَنَعَهُنَّ، وَعَلَى الْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) مَعْنَاهُ فَاعْمَلْ مَا أَنْتَ عَامِلٌ.

وَعَلَى الْحَتْمِ وَالأْمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أَيْ أَمَرَ رَبُّكَ وَحَتَّمَ.

وَعَلَى الأْدَاءِ تَقُولُ: قَضَيْتُ دَيْنِي أَيْ أَدَّيْتُهُ وَمِنْهُ  قوله تعالى : (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ) أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا.

وَعَلَى الإْبْلاَغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأْمْرَ) أَيْ أَبْلَغْنَاهُ ذَلِكَ.

وَعَلَى الْعَهْدِ وَالْوَصِيَّةِ وَمِنْهُ قوله تعالى : (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ عَهِدْنَا وَأَوْصَيْنَا.

وَعَلَى الإْتْمَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أَيْ أَتْمَمْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ.

وَعَلَى بُلُوغِ الشَّيْءِ وَنَوَالِهِ تَقُولُ: قَضَيْتُ وَطَرِي أَيْ بَلَغْتُهُ وَنِلْتُهُ، وَقَضَيْتُ حَاجَتِي كَذَلِكَ.

وَالْقَضَاءُ الْمُقْتَرِنُ بِالْقَدَرِ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الإْلَهِيِّ فِي أَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الأْحْوَالِ الْجَارِيَةِ فِي الأْزَلِ إِلَى الأْبَدِ.

وَالْقَضَاءُ فِي الإْصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ، وَزَادَ ابْنُ عَابِدِينَ: عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ، حَتَّى لاَ يَدْخُلَ فِيهِ نَحْوُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ

وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: الإْخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الإْلْزَامِ.

وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: إِلْزَامُ مَنْ لَهُ إِلْزَامٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالإْلْزَامُ بِهِ وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ.

وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ (الْقَضَاءِ) فِي غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِبَادَاتِ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى فِعْلِهَا خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا وَيُنْظَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ، (صَوْم ف 86 - 89، وَحَجّ ف 123، وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ).

كَمَا اسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ (قَضَاءُ الدَّيْنِ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى سَدَادِ الدَّيْنِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (دَيْن ف 70، وَأَدَاء ف 29).

وَاسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى آدَابِ التَّخَلِّي. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اسْتِتَار ف 7، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ).

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْفَتْوَى:

الْفَتْوَى وَالْفُتْوَى وَالْفُتْيَا فِي اللُّغَةِ: مَا أَفْتَى بِهِ الْفَقِيهُ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِلسَّائِلِ عَنْهُ.

فَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الإْلْزَامِ، وَالْفَتْوَى مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ، فَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي إِظْهَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْوَاقِعَةِ، وَيَمْتَازُ الْقَضَاءُ عَنِ الْفَتْوَى بِالإْلْزَامِ.

ب - التَّحْكِيمُ:

التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الأْمْرِ وَالشَّيْءِ أَيْ: جَعَلَهُ حَكَمًا، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِلَيْهِ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ: أَنَّ الْقَضَاءَ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَالتَّحْكِيمُ تَوْلِيَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، فَهُوَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْهُ.

ج - الْحِسْبَةُ:

الْحِسْبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِحْتِسَابِ وَمِنْ مَعَانِيهَا: الأْجْرُ، وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلاَنٌ حَسَنُ الْحِسْبَةِ فِي الأْمْرِ إِذَا كَانَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ لَهُ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا الأْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْقَضَاءِ: أَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ فِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُحْتَسِبِ وَالْقَاضِي نَظَرُ أَنْوَاعٍ مَخْصُوصَةٍ مِنَ الدَّعَاوَى وَهِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمُنْكَرٍ ظَاهِرٍ مِنْ بَخْسِ أَوْ تَطْفِيفِ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ، وَغِشِّ الْبَيْعِ أَوْ تَدْلِيسٍ فِيهِ أَوْ فِي ثَمَنِهِ، وَالْمَطْلُ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مُكْنَةِ الْوَفَاءِ.

وَتَقْصُرُ الْحِسْبَةُ عَنِ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِسَمَاعِ عُمُومِ الدَّعَاوَى الْخَارِجَةِ عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُنْكَرَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُهُ التَّجَاحُدُ وَالتَّنَاكُرُ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ النَّظَرُ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةً عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقِّ أَوْ يَحْلِفَ يَمِينًا عَلَى نَفْيِهِ.

وَتَزِيدُ الْحِسْبَةُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي أَنَّ الْمُحْتَسِبَ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الأْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ يَسْتَعْدِيهِ بِخِلاَفِ الْقَاضِي، كَمَا أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ بِمَا لَهُ مِنْ قُوَّةِ السُّلْطَةِ وَالرَّهْبَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُنْكَرَاتِ أَنْ يُظْهِرَ الْغِلْظَةَ وَالْقُوَّةَ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْهُ تَجَوُّزًا وَلاَ خَرْقًا لِوِلاَيَتِهِ، أَمَّا الْقَضَاءُ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِلْمُنَاصَفَةِ، فَهُوَ بِالْوَقَارِ وَالأْنَاةِ أَخَصُّ.

د - وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ:

الْمَظَالِمُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَظْلَمَةٍ، يُقَالُ: ظَلَمَهُ يَظْلِمُهُ ظُلْمًا وَظَلْمًا وَمَظْلِمَةً، وَيُقَالُ: تَظَلَّمَ فُلاَنٌ إِلَى الْحَاكِمِ مِنْ فُلاَنٍ فَظَلَّمَهُ تَظْلِيمًا أَيْ أَنْصَفَهُ مِنْ ظَالِمِهِ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَوَدُ الْمُتَظَالِمِينَ إِلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ وَزَجْرِ الْمُتَنَازِعِينَ عَنِ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ، وَوَالِي الْمَظَالِمِ لَهُ مِنَ النَّظَرِ مَا لِلْقُضَاةِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُمْ مَجَالاً، وَأَعْلَى رُتْبَةً، إِذِ النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، وَهِيَ وِلاَيَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ السُّلْطَةِ، وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

الْقَضَاءُ مَشْرُوعٌ وَثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ.

أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وَقَوْلُهُ (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، وَقَدْ «تَوَلاَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  وَبَعَثَ عَلِيًّا إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَبَعَثَ مُعَاذًا قَاضِيًا» كَمَا تَوَلاَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ وَبَعَثُوا الْقُضَاةَ إِلَى الأْمْصَارِ.

وَأَمَّا الإْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَصْبِ الْقُضَاةِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ.

وَالأْصْلُ فِي الْقَضَاءِ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الصَّالِحُ لَهُ سَقَطَ الْفَرْضُ فِيهِ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنِ امْتَنَعَ كُلُّ الصَّالِحِينَ لَهُ أَثِمُوا.

أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، وَلأِنَّ طِبَاعَ الْبَشَرِ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّظَالُمِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ وَقَلَّ مَنْ يُنْصِفُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلاَ يَقْدِرُ الإْمَامُ عَلَى فَصْلِ الْخُصُومَاتِ بِنَفْسِهِ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَوْلِيَةِ الْقُضَاةِ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلأِنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَهُمَا عَلَى الْكِفَايَةِ.

وَالْقَضَاءُ مِنَ الْقُرَبِ الْعَظِيمَةِ، فَفِيهِ نُصْرَةُ الْمَظْلُومِ وَأَدَاءُ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَرَدُّ الظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَالإْصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَخْلِيصُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْفَسَادِ.

وَالْقَضَاءُ تَعْتَرِيهِ الأْحْكَامُ الْخَمْسَةُ:

فَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ إِذَا طُلِبَ لَهُ، لَكِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ سِوَاهُ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ عَنِ الْقَبُولِ يَأْثَمُ كَمَا فِي سَائِرِ فُرُوضِ الأْعْيَانِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ قَبُولُ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ يَخَافُ فِتْنَةً عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ إِنْ لَمْ يَتَوَلَّ، أَوْ مَنْ يَخَافُ ضَيَاعَ الْحَقِّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ إِنِ امْتَنَعَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَإِنْ عُرِضَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَالأْفْضَلُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اقْتِدَاءً بِالأْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صلوات الله عليهم وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ  رضي الله عنهم، وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأْفْضَلُ تَرْكُهُ.

وَيُنْدَبُ لَهُ الْقَبُولُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَصْلُحُ وَلَكِنَّهُ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْقَبُولُ إِذَا كَانَ عَالِمًا فَقِيرًا لِيَسُدَّ خُلَّتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ كَانَ عَالِمًا خَامِلَ الذِّكْرِ لِيَنْتَشِرَ عِلْمُهُ وَيُنْتَفَعَ بِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقَضَاءِ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا كَانَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، وَالاِجْتِهَادِ، وَيُوجَدُ غَيْرُهُ مِثْلُهُ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَسُئِلَ بِلاَ طَلَبٍ، فَلَهُ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ بِحُكْمِ حَالِهِ وَصَلاَحِيَّتِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ؛ لأِنَّهُ قَدْ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْقَضَاءِ مُخْتَارًا رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ لاَ يُوَفَّقُ لَهُ.

وَيَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ تَحْصِيلَ الْجَاهِ وَالاِسْتِعْلاَءَ عَلَى النَّاسِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنْ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَكَانَ مَشْهُورًا لاَ يَحْتَاجُ أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ وَعِلْمَهُ بِالْقَضَاءِ، أَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ مِنْهُ لِلْقَضَاءِ.

وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ تَوَلِّي الْقَضَاءِ إِذَا كَانَ جَاهِلاً لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، أَوْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ وَظَائِفِهِ، أَوْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ، أَوْ كَانَ قَصْدُهُ الاِنْتِقَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ، أَوْ أَخْذَ الرِّشْوَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَخَافُ الْحَيْفَ فِيهِ، بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ قَدْ يَجُورُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ يَرَى فِي نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ سَمَاعِ دَعَاوَى كُلِّ الْخُصُومِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ أَمِنَ الْخَوْفَ فَلاَ يُكْرَهُ.

وَيَجِبُ عَلَى الإْمَامِ أَنْ يَنْصِبَ الْقُضَاةَ فِي الْبُلْدَانِ؛ لأِنَّ الإْمَامَ هُوَ الْمُسْتَخْلَفُ عَلَى الأْمَّةِ وَالْقَائِمُ بِأَمْرِهَا، وَالْمُتَكَلِّمُ بِمَصْلَحَتِهَا، وَالْمَسْئُولُ عَنْهَا، فَتَقْلِيدُ الْقُضَاةِ مِنْ جِهَتِهِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ وِلاَيَتِهِ؛ وَلأِنَّ التَّقْلِيدَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِ.

حِكْمَةُ الْقَضَاءِ:

الْحِكْمَةُ مِنَ الْقَضَاءِ: رَفْعُ التَّهَارُجِ وَرَدُّ النَّوَائِبِ، وَقَمْعُ الظَّالِمِ وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ، وَقَطْعُ الْخُصُومَاتِ، وَالأْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِيهِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَحَلِّهِ، لِيَكُفَّ الظَّالِمُ عَنْ ظُلْمِهِ.

سُلْطَةُ الْقَاضِي وَاخْتِصَاصُهُ:

لِلإْمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ الْقَاضِيَ عُمُومَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ سَائِرَ الأْحْكَامِ بِسَائِرِ الْبِلاَدِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ عُمُومَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ، فَيُقَلِّدَهُ النَّظَرَ فِي جَمِيعِ الأْحْكَامِ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيمَنْ سَكَنَهُ وَمَنْ أَتَى إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سُكَّانِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ فَيَقُولُ مَثَلاً: جَعَلْتُ إِلَيْكَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ خَاصَّةً فِي جَمِيعِ وِلاَيَتِي، أَوْ يَجْعَلَ حُكْمَهُ فِي قَدْرٍ مِنَ الْمَالِ نَحْوِ أَنْ يَقُولَ: احْكُمْ فِي الْمِائَةِ فَمَا دُونَهَا.

وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ كَأَنْ يُوَلِّيَهُ قَضَاءَ الأْنْكِحَةِ فِي مَدِينَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ شَطْرٍ مِنْهَا.

الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ:

إِنْ كَانَتْ وِلاَيَةُ الْقَاضِي عَامَّةً مُطْلَقَةَ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ فَنَظَرُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ أَحْكَامٍ:

أَحَدُهَا: فَصْلُ الْمُنَازَعَاتِ، وَقَطْعُ التَّشَاجُرِ وَالْخُصُومَاتِ، إِمَّا صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ أَوْ إِجْبَارًا بِحُكْمٍ بَاتٍّ.

الثَّانِي: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِنَ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا، وَإِيصَالُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهَا.

الثَّالِثُ: ثُبُوتُ الْوِلاَيَةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ، لِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، حِفْظًا لِلأْمْوَالِ عَلَى مُسْتَحِقِّهَا.

الرَّابِعُ: النَّظَرُ فِي الأْوْقَافِ بِحِفْظِ أُصُولِهَا، وَتَنْمِيَةِ فُرُوعِهَا، وَقَبْضِهِ غَلَّتَهَا، وَصَرْفِهَا فِي سُبُلِهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ رَعَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلاَّهُ.

الْخَامِسُ: تَنْفِيذُ الْوَصَايَا عَلَى شَرْطِ الْمُوصِي فِيمَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنِينَ نَفَّذَهَا بِالإْقْبَاضِ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا إِلَى اجْتِهَادِ النَّظَرِ.

السَّادِسُ: تَزْوِيجُ الأْيَامَى بِالأْكْفَاءِ إِذَا عُدِمَ الأْوْلِيَاءُ.

السَّابِعُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ مُطَالِبٍ، إِذَا ثَبَتَ بِالإْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ وَقَفَتْ عَلَى طَلَبِ مُسْتَحِقِّيهَا.

الثَّامِنُ: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ، مِنَ الْكَفِّ عَنِ التَّعَدِّي فِي الطُّرُقَاتِ وَالأْفْنِيَةِ، وَإِخْرَاجِ الأْجْنِحَةِ وَالأْبْنِيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ.

التَّاسِعُ: تَصَفُّحُ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ، وَاخْتِبَارُ النَّائِبِينَ عَنْهُ مِنْ خُلَفَائِهِ.

الْعَاشِرُ: التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ وَلاَ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي الْحُكْمِ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الرابع والأربعون ، الصفحة / 56

وَطَن

التَّعْرِيفُ:

الْوَطَنُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالطَّاءِ- فِي اللُّغَةِ: مَنْزِلُ الإْقَامَةِ، أَوْ مَكَانُ الإْنْسَانِ  وَمَقَرُّهُ، وَيُقَالُ لِمَرْبِضِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالإِبِلِ: وَطَنٌ، وَهُوَ مُفْرَدٌ، جَمْعُهُ أَوْطَانٌ، وَمِثْلُ الْوَطَنِ الْمَوْطِنُ، وَجَمْعُهُ مَوَاطِنُ، وَأَوْطَنَ: أَقَامَ، وَأَوْطَنَهُ وَوَطَّنَهُ وَاسْتَوْطَنَهُ: اتَّخَذَهُ وَطَنًا، وَمَوَاطِنُ مَكَّةَ: مَوَاقِفُهَا .

وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْوَطَنُ: هُوَ مَنْزِلُ إِقَامَةِ الإْنْسَانِ  وَمَقَرُّهُ، وُلِدَ بِهِ أَوْ لَمْ يُولَدْ .

الأْلْفَاظُ  ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْمَحَلَّةُ:

الْمَحَلَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَنْزِلُ الْقَوْمِ، وَالْجَمْعُ مَحَالُّ .

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ مَنْزِلُ قَوْمِ إِنْسَانٍ وَلَوْ تَفَرَّقَتْ بُيُوتُهُمْ حَيْثُ جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ .

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَحَلَّةِ وَالْوَطَنِ أَنَّ الْوَطَنَ أَعَمُّ مِنَ الْمَحَلَّةِ.

أَنْوَاعُ الْوَطَنِ:

يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْوَطَنَ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الأْحْكَامِ  الشَّرْعِيَّةِ بِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: وَطَنٌ أَصْلِيٌّ، وَوَطَنُ إِقَامَةٍ، وَوَطَنُ سُكْنَى، كَمَا يَلِي:

أ- الْوَطَنُ الأْصْلِيُّ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ هُوَ: مَوْطِنُ وِلاَدَةِ الإْنْسَانِ  أَوْ تَأَهُّلِهِ أَوْ تَوَطُّنِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْوَطَنُ الأْصْلِيُّ، وَيُسَمَّى بِالأْهْلِيِّ، وَوَطَنُ الْفِطْرَةِ، وَالْقَرَارِ، وَمَعْنَى تَأَهُّلِهِ أَيْ تَزَوُّجِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلْدَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا دَخَلَهَا صَارَ مُقِيمًا، فَإِنْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ فِي إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَ لَهُ فِيهَا دُورٌ وَعَقَارٌ، قِيلَ: لاَ يَبْقَى وَطَنًا، إِذِ الْمُعْتَبَرُ الأْهْلُ  دُونَ الدَّارِ، وَقِيلَ: تَبْقَى، وَمَعْنَى تَوَطُّنِهِ أَيْ عَزْمِهِ عَلَى الْقَرَارِ فِيهِ وَعَدَمِ الاِرْتِحَالِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ فِيهِ .

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْوَطَنُ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الشَّخْصُ لاَ يَرْحَلُ عَنْهُ صَيْفًا وَلاَ شِتَاءً إِلاَّ لِحَاجَةٍ كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَةٍ .

وَيَلْحَقُ بِهِ الْقَرْيَةُ الْخَرِبَةُ الَّتِي انْهَدَمَتْ دُورُهَا وَعَزَمَ أَهْلُهَا عَلَى إِصْلاَحِهَا وَالإْقَامَةِ بِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً .

كَمَا يَلْحَقُ بِهِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ امْرَأَةٌ لَهُ أَوْ تَزَوَّجَ فِيهِ، لِحَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله عنه  قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلاَةَ الْمُقِيمِ» .

قَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ بَعْدَ فِرَاقِ الزَّوْجَةِ .

وَيُؤْخَذُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْوَطَنِ الْبَلَدُ الَّذِي لِلشَّخْصِ فِيهِ أَهْلٌ أَوْ مَاشِيَةٌ، وَقِيلَ: أَوْ مَالٌ .

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْوَطَنُ هُوَ مَحَلُّ سُكْنَى الشَّخْصِ بِنِيَّةِ التَّأْبِيدِ، وَمَوْضِعُ الزَّوْجَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ سُكْنَاهُ عِنْدَهَا، فَمَنْ كَانَ لَهُ بِقَرْيَةٍ وَلَدٌ فَقَطْ أَوْ مَالٌ فَإِنَّهَا لاَ تَكُونُ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ .

ب- وَطَنُ الإْقَامَةِ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَطَنُ الإْقَامَةِ هُوَ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ الإْنْسَانُ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ مُدَّةٍ قَاطِعَةٍ لِحُكْمِ السَّفَرِ، وَيُسَمَّى بِالْوَطَنِ الْمُسْتَعَارِ أَوْ بِالْوَطَنِ الْحَادِثِ.

وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِحُكْمِ السَّفَرِ .

ج- وَطَنُ السُّكْنَى:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَطَنُ السُّكْنَى هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْصِدُ الإْنْسَانُ الْمُقَامَ بِهِ أَقَلَّ مِنَ الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلسَّفَرِ .

(ر: صَلاَةِ الْمُسَافِرِ ف3 – 8)

شُرُوطُ الْوَطَنِ:

لاَ يُسَمَّى الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الإْنْسَانُ وَطَنًا لَهُ تُنَاطُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطَنِ إِلاَّ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطٌ.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ كَوْنِهِ وَطَنًا أَصْلِيًّا، أَوْ وَطَنَ إِقَامَةٍ، أَوْ وَطَنَ سُكْنَى.

ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الشُّرُوطِ مِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَبَعْضَهَا مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

شُرُوطُ الْوَطَنِ الأْصْلِيِّ:

أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا بِنَاءً مُسْتَقِرًّا بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْبِنَاءِ بِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَيْثُ عَرَّفُوا الْوَطَنَ فِي مَعْرِضِ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِ إِقَامَةِ صَلاَةِ الْجُمْعَةِ بِأَنَّهَا الْقَرْيَةُ الْمَبْنِيَّةُ بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِبِنَائِهَا بِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ طِينٍ أَوْ لَبِنٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ شَجَرٍ وَنَحْوِهِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ .

وَالْحَنَفِيَّةُ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ يَعْتَبِرُونَ الْمَكَانَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ الشَّخْصُ أَوْ تَأَهَّلَ فِيهِ أَوْ تَوَطَّنَ فِيهِ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ .

ب -شُرُوطُ وَطَنِ الإْقَامَةِ:

تُشْتَرَطُ لاِتِّخَاذِ مَكَانٍ وَطَنًا لِلإْقَامَةِ  شُرُوطٌ، مِنْهَا: نِيَّةُ الإْقَامَةِ، وَمُدَّةُ الإْقَامَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَاتِّخَاذُ مَكَانِ الإْقَامَةِ، وَصَلاَحِيَّةُ الْمَكَانِ لِلإْقَامَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمَكَانُ وَطَنًا أَصْلِيًّا لِلْمُقِيمِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ وَمَعْرِفَةِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا (ر: صَلاَة الْمُسَافِرِ ف26 - 29)

شُرُوطُ وَطَنِ السُّكْنَى:

لَيْسَ لِوَطَنِ السُّكْنَى إِلاَّ شَرْطَانِ، وَهُمَا: عَدَمُ نِيَّةِ الإْقَامَةِ فِيهِ، وَعَدَمُ الإْقَامَةِ فِيهِ فِعْلاً الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ- بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ- وَأَنْ لاَ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا لِلْمُقِيمِ فِيهِ.

(ر: صَلاَة الْمُسَافِرِ ف8)

مَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْوَطَنُ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْوَطَنُ الأْصْلِيُّ لاَ يَنْتَقِضُ إِلاَّ بِالاِنْتِقَالِ مِنْهُ إِلَى مِثْلِهِ، بِشَرْطِ نَقْلِ الأْهْلِ  مِنْهُ، وَتَرْكِ السُّكْنَى فِيهِ، فَإِذَا هَجَرَ الإْنْسَانُ  وَطَنَهُ الأْصْلِيَّ ، وَانْتَقَلَ عَنْهُ بِأَهْلِهِ إِلَى وَطَنٍ أَصْلِيٍّ آخَرَ، بِشُرُوطِهِ لَمْ يَبْقَ الْمَكَانُ الأْوَّلُ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ، فَإِذَا دَخَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسَافِرًا، بَقِيَ مُسَافِرًا عَلَى حَالِهِ، مَا لَمْ يَنْوِ فِيهِ الإْقَامَةَ، أَوْ مَا لَمْ يُقِمْ فِيهِ فِعْلاً الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقِيمًا، وَيَكُونُ الْمَكَانُ لَهُ وَطَنَ إِقَامَةٍ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ .

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَطَنَ الأْصْلِيَّ  لاَ يَنْتَقِضُ بِاتِّخَاذِ وَطَنٍ أَصْلِيٍّ آخَرَ. قَالَ الرُّحَيْبَانِيُّ: لاَ يَقْصُرُ مَنْ مَرَّ بِوَطَنِهِ سَوَاءٌ كَانَ وَطَنَهُ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَاضِي، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بِهِ حَاجَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ طَرِيقُهُ إِلَى بَلَدٍ يَطْلُبُهُ .

وَمَنِ اسْتَوْطَنَ وَطَنًا آخَرَ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ وَطَنِهِ الأْوَّلِ، كَأَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ مَثَلاً: الأْولَى فِي وَطَنِهِ الأْوَّلِ، وَالثَّانِيَةُ فِي وَطَنٍ آخَرَ جَدِيدٍ، كَانَ الْمَكَانُ الآْخَرُ وَطَنًا لَهُ بِشُرُوطِهِ، وَلَمْ يَنْتَقِضِ الْوَطَنُ الأْوَّلُ بِذَلِكَ، لِعَدَمِ التَّحَوُّلِ عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ لِلإْنْسَانِ زَوْجَتَانِ فِي بَلَدَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يُعَدَّانِ وَطَنَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ لَهُ، فَأَيُّهُمَا دَخَلَهَا عُدَّ مُقِيمًا فِيهَا مُنْذُ دُخُولِهِ مُطْلَقًا، وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .

وَلاَ يَنْتَقِضُ الْوَطَنُ الأْصْلِيُّ بِوَطَنِ الإْقَامَةِ، وَلاَ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛  لأِنَّهُ أَعْلَى مِنْهُمَا، فَلاَ يَنْتَقِضُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَيْهِ فَلَوْ خَرَجَ مِنْ وَطَنِهِ الأْصْلِيِّ مُسَافِرًا إِلَى بَلَدٍ، وَأَقَامَ فِيهَا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ، أَوْ نَوَى ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، لَمْ يَنْتَقِضْ بِذَلِكَ وَطَنُهُ الأْصْلِيُّ، فَلَوْ عَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ عُدَّ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا.

أَمَّا وَطَنُ الإْقَامَةِ، فَيَنْتَقِضُ بِالْوَطَنِ الأْصْلِيِّ؛  لأِنَّهُ فَوْقَهُ، وَبِوَطَنِ الإْقَامَةِ أَيْضًا؛  لأِنَّهُ مِثْلُهُ، كَمَا يَنْتَقِضُ بِالسَّفَرِ، وَلاَ يَنْتَقِضُ وَطَنُ الإْقَامَةِ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛  لأِنَّهُ دُونَهُ.

أَمَّا وَطَنُ السُّكْنَى، فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالْوَطَنِ الأْصْلِيِّ، وَبِوَطَنِ الإْقَامَةِ، وَبِوَطَنِ السُّكْنَى أَيْضًا، أَمَّا الأْوَّلاَنِ  فَلأِنَّهُمَا فَوْقَهُ، وَأَمَّا الآْخِرُ فَ لأِنَّهُ مِثْلُهُ، وَالشَّيْءُ يَنْتَقِضُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ.