loading

موسوعة قانون المرافعات

المذكرة الإيضاحية

اتجه المشروع إلى الاعتداد بدور المجتمع في الخصومة فانعكست الملامح الإجتماعية على كثير مما استحدثه من نصوص وبرزت واضحة في أمرين اساسيين :

1- مجالس الصلح :

تحقيقاً لديموقراطية القضاء وعملاً على الحد من المنازعات التي تطرح على المحاكم وتوفيراً للوقت والجهد على القضاة والمتقاضين على السواء اتجه المشروع إلى إنشاء مجالس صلح بمقر محاكم المواد الجزئية تتولى التوفيق بين الخصوم في الدعاوى التي تدخل في اختصاص القاضي الجزئي ويصدر بتنظيم هذه المجالس وبيان الإجراءات التي تتبع أمامها قرار من رئيس الجمهورية كما يحدث وزير العدل بقرار منه المحاكم الجزئية التي تشكل بدائرتها مادة 64 من المشروع .

ويتجه الرأي إلى أن يتضمن قرار رئيس الجمهورية المنظم لمجالس الصلح تكوينها من أحد وكلاء النيابة العامة رئيساً واثنين من أعضاء تنظيمات الاتحاد الاشتراكي العربي بالمركز بصفة أصلية وأثنين بصفة إحتياطية تختارهم كل سنة الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي بالمحافظة .

ويجوز للمجلس أن يستعين في عمله بأعضاء آخرين من وحدات أو منظمات الاتحاد الإشتراكي الأخرى أو أعضاء مجالس إدارة الجمعيات التعاونية أو أعضاء المجالس المحلية في دائرة اختصاص المحكمة أو غيرهم من اهل الخبرة .

ويتولى المجلس التوفيق والصلح بين الخصوم وله في سبيل ذلك أن يعقد جلساته في أي مكان وأن يستمع إلى الشهود ويجري المعاينة كلما اقتضى ذلك أداء مهمته فإذا انتهى المجلس إلى التوفيق بين الخصوم أعد بذلك محضر صلح تكون له قوة السندات واجبة التنفيذ وإذا لم يتم التوفيق بينهم تحال الدعوى الى المحكمة لنظرها في جلسة يحدد تاريخها في قرار الإحالة بحيث لا تجاوز ثلاثين يوماً مشفوعة بتقرير موجز عن موضوع النزاع وأسانيد الخصوم فيه وما اتبع من إجراءات لإنهائه .

ويجب على المجلس في جميع الأحوال أن ينتهي من نظر النزاع خلال ثلاثين يوماً على الأكثر يجوز مدها ثلاثين يوماً أخرى باتفاق الطرفين .

وتشجيعاً على إتمام الصلح أمام ذلك المجلس نص المشروع على رد کامل الرسوم المسددة إذا إنتهى النزاع صلحاً أمام مجالس الصالح (مادة 70 من المشروع). والأمل معقود على أن تؤدی مجالس الصالح رسالتها في الأقل من المنازعات التي تطرح على المحاكم وتوفير الوقت والجهد حتی تسير العدالة بإجراءات سهلة ميسرة .

ومن البديهي أن التجربة وحدها هي التي ستتكفل بالحكم على هذا النظام فإذا كشفت عن صلاحيته أمكن المضي في الطريق إلى غايته .

إتجه المشروع في المادة 64 منه إلى إنشاء مجالس صلح تتولى التوفيق بين الخصوم تارکاً أمر تنظيمها بقرار جمهوري يصدر بذلك وأتاح الفرصة للتدرج في انشائها بما حوله لوزير العدل من اصدار قرارات بتحديد المحاكم التي تشكل مجالس صلح بدائرتها .

واستلزم المشروع أن تعرض على تلك المجالس جميع الدعاوى الجزئية التي تكون من اختصاص المحاكم الجزئية التي انشئت بدائرتها وذلك بأن أوجب ان يكون حضور الخصوم في تلك الدعاوى في الجلسة الأولى المحددة لنظرها أمام تلك المجالس وتحوطه الخطأ قلم الكتاب في تحديده جلسة الحضور في تلك الدعاوی أمام هيئة المحكمة الجزئية مباشرة وحتى لا يترتب على هذا الخطأ تعقيد الاجراءات أوجب المشروع على هذه المحكمة في تلك الحالة أن تحيل الخصوم الى مجلس الصلح المشكل بدائرتها لجلسة تحددها لهم.

وغني عن البيان أن مجلس الصلح وقد اقتصر اختصاصه على التوفيق بين الخصوم ما ينتفي معه مجال المناضلة بينهم فإن المرحلة التي تمر بها الدعوى أمامه لا تخل بحقهم في إبداء ما لديهم من دفوع امام المحكمة عند إحالة المجلس الدعوى إليها بعد إخفاقه في الوصول إلى صلح بينهم إذ لا تعتبر المرافعة قد بدأت في مفهوم المادة 108 من المشروع المقابلة للمادة 132 من القانون القائم إلا من جلسة المرافعة التي يحددها مجلس الصلح للخصوم أمام هيئة المحكمة بعد إحالة الدعوى إليها .

هذا وقد حرص المشروع على أن تقتصر المنازعات التي يتعين عرضها على مجلس الصلح على الدعاوى الجزئية التى ترفع إبتداء حتى يبقى من الجائز إبداء طلبات عارضة أثناء نظر الدعوى أمام المحكمة الجزئية أياً كان نوع هذه الطلبات وأياً كان الخصم الذي يبديها وذلك حتى لا يتعطل الفصل في الطلب الأصلي انتظاراً لنظر الطلبات العارضة في مجالس الصلح .

وقد إستثني المشروع من الخضوع لنظام مجالس الصلح الدعاوى التي لا يجوز فيها القانون الصلح والدعاوى المستعجلة ومنازعات التنفيذ والطلبات الخاصة بأوامر الأداء تقديراً منه بأن لها من طبيعتها الخاصة ما لا يتفق مع الخضوع لهذا النظام .

شرح خبراء القانون

نظر الدعوى الجزئية أمام مجلس الصلح :

يحدد وزير العدل بقرار منه المحاكم الجزئية التي تشكل مجالس للصلح بدائرتها، ومتى تم هذا التشكيل، تعين على قلم كتاب المحكمة الجزئية عند إيداع صحيفة الدعوى لديه، قيدها بالجدول الخاص به ويحدد بها اليوم والساعة التي يتعين حضور الخصوم فيها أمام مجلسن الصلح، ويسلم أصل الصحيفة وصورها في اليوم التالي على الأكثر إلى قلم المحضرين لإعلانها ورد الأصل له أو يسلمها للمدعی متى طلب ذلك ليتولى تقديمها إلى قلم المحضرين لإعلانها ورد الأصل إلى المدعي ليقوم بإعادته إلى قلم الكتاب ، ولا تنعقد الخصومة أمام مجلس الصلح إلا بإعلان الصحيفة أو بحضور المدعى عليه على التفصيل الذي أوضحناه بالمادة السابقة.

فإن قام قلم الكتاب بتحديد الجلسة أمام المحكمة تعين عليها أن تحيلها بقرار إلى المجلس دون أن تحيلها بحكم بعدم الاختصاص باعتبارها صاحبة الولاية بنظرها، فإن إحالتها بمثل هذا الحكم، فلا يحول دون مجلس الصلح وإحالتها إليها إذا تعذر عليه التوفيق أو إذا إنقضت المدة المحددة للتوفيق ولا تسري في هذه الحالة المادة (110) من قانون المرافعات التي يقتصر حكمها على الأحكام التي تصدر من محكمة غير مختصة بنظر الدعوى وحينئذ تلتزم المحكمة المحال إليها الدعوى بنظرها، وقد تكون الإحالة إلى محكمة جزئية تشكل مجلس صلح بدائرتها، ففي هذه الحالة يتعين على المحكمة المحيلة إحالة الدعوى مباشرة إلى مجلس الصلح ويعتبر هذا إحالة للمحكمة الجزئية التي يتبعها هذا المجلس، فإن تمت الإحالة للمحكمة الجزئية تعين عليها إحالتها لمجلس الصلح، وقد تكون الإحالة من محكمة جزئية أخرى غير مختصة محلياً بنظر الدعوى، أو من محكمة إبتدائية غير مختصة نوعياً بنظرها، ولا يجوز الإحالة من مجلس صلح إلى محكمة أخرى غير المحكمة التي يتبعها، فقد يتمسك المدعى عليه أمام مجلس الصلح بعدم الاختصاص النوعي أو المحلي، وحينئذ يعتبر الصلح لم يتم ويحيل المجلس الدعوى إلى المحكمة التي يتبعها لنظرها في جلسة يحددها.

وإذا تناقش الخصوم في موضوع الدعوى أمام المجلس ولم يتم الصلح وأحال المجلس الدعوى إلى المحكمة، كان للخصوم التمسك بكافة الدفوع المنصوص عليها في المادة (108) من قانون المرافعات إذ لا يسقط الحق فيها إلا بالتصدي للموضوع أمام المحكمة وليس أمام مجلس الصلح.

وإذا امتنع المدعى عليه عن الحضور رغم إعلانه ، إمتنع على المجلس التصدي للموضوع إذ تنحصر ولايته في التوفيق والصلح بين الطرفين، ويمتنع الصلح قانوناً في غيبة أحد الخصوم إذ يلزم له إقرار صريح أمام المجلس، فلا يكفي أن يقدم المدعى عقداً مبرماً بينه وبين المدعى عليه ، إذ في هذه الحالة يعتبر عقد الصلح مستنداً مقدماً في الدعوى ولا يجوز إلحاقه بمحضر الجلسة، ومن ثم يعتبر أن الصلح الذي عنته المادة (64) لم يتم وتعين على المجلس إحالة الدعوى للمحكمة على نحو ما تقدم، وإذا تخلف المدعى عن الحضور فلا يملك المجلس شطب الدعوى وإنما يحدد لنظرها جلسة أخرى أو أكثر في خلال الشهر الأول الذي نصت عليه تلك المادة فإن ظل المدعى على تخلفه، أعتبر أن الصلح لم يتم وتعين على المجلس إحالة الدعوى إلى المحكمة، ويجوز للخصوم إنابة غيرهم في الحضور أمام المجلس بشرط أن يكون الوكيل مفوضاً في إجراء الصلح بموجب وكالة خاصة أو عامة منصوص فيها على الصلح.

وفي حالة إحالة المجلس الدعوى إلى المحكمة يتعين عليه أن يرفق بها تقريراً موجزاً عن النزاع وأسانيد الخصوم فيه وما اتخذ من إجراءات لإنهائه، وتلك مسألة تنظيمية لا يترتب البطلان على مخالفتها.

تصدی مجلس الصلح للنزاع:

متى مثل الخصوم بأنفسهم، أو بوکلاء مفوضين في الصلح، قام المجلس بالتصدي للموضوع، لا ليصدر حكماً بالإلزام، وإنما لتقريب وجهات النظر، ولا تعني المادة (64) الصلح بمعناه الذي حدده القانون المدني والذي ينصرف إلى تنازل كل خصم عن بعض من حقوقه، وإنما تعني الصلح الذي يرتضيه الطرفان ولو تضمن إقراراً من خصم بكافة الحقوق التي يطالبه بها خصمه ، وحينئذ يكون المجلس قد تولى التوفيق بين الخصمين ويحرر بذلك محضراً تكون له قوة السند التنفيذي، وتنتهي الدعوى عند هذا الحد، ويكون ما تضمنه بمثابة عقد رسمي حل فيه مجلس الصلح محل الموثق، ولذلك يخضع المحضر لما تخضع له العقود الرسمية من حيث الصحة والفسخ والبطلان ولا يخضع لطرق الطعن في الأحكام، ويوقع من الخصوم أو وكلاؤهم ويصدق عليه المجلس وحينئذ لا تحصل أية رسوم قضائية عملاً بالمادة (71) من قانون المرافعات.

ويلتزم المجلس بإنهاء مهمته خلال ثلاثين يوماً تبدأ من تاريخ الجلسة المحددة بصحيفة الدعوى متى تم تحديدها أمام المجلس، أما إذا تم تحديدها أمام المحكمة الجزئية بطريق الخطأ، تعيين إحتساب الثلاثين يوماً من تاريخ الجلسة التي تضمنها القرار الصادر من المحكمة بإحالة الدعوى إلى المجلس، ويسرى بالنسبة للدعاوى التي تحال إليه من محاكم أخرى بسبب عدم اختصاصها بنظر الدعوى ، وإذا صادف يوم الجلسة المحددة أمام المجلس عطلة رسمية، تعين تأجيلها إدارياً إلى جلسة أخرى تبدأ الثلاثين يوماً إعتباراً منها.

وإذا انقضت تلك المدة ولم يتفق جميع الخصوم على مدها، تعين على المجلس إحالة الدعوى إلى المحكمة الجزئية لنظرها في جلسة يحددها، أما إذا إتفق الخصوم جميعاً على مد هذه المدة، جاز ذلك بحيث لا تتعدى التأجيلات مدة ثلاثين يوماً أخرى، فإن لم يتم الصلح خلالها، تعين على المجلس إحالة الدعوى على نحو ما تقدم، وهذا ميعاد تنظيمي أراد المشرع به حث مجالس الصلح على السرعة في إنهاء المنازعات المطروحة، فلا يترتب البطلان على مخالفتها، ومن ثم إذا تمكن المجلس من التوفيق بين الخصوم بعد انقضاء هذا الميعاد وأثبت في محضر شمل بالصيغة التنفيذية جاز تنفيذه جبراً ولا يعتد في شأنه بأي طعن فيه مستنداً إلى تحريره بعد أي من الأجلين سالفي البيان، كما تلتزم المحكمة بنظر الدعوى ولو خالف المجلس المدد المشار إليه عند إحالتها إليها.

الدعاوى التي لا تحال لمجلس الصلح:

تحال جميع الدعاوى الجزئية إلى مجلس الصلح فيما عدا الدعاوى التي لا يجوز فيها الصلح والدعاوى المستعجلة ومنازعات التنفيذ والطلبات الخاصة بأوامر الأداء.

ومحل الصلح هو الحق المتنازع عليه ، فإن ترك مقابل مال كان هذا المال بدلاً للصلح واعتبر أيضاً محلاً، ويصح الصلح على الحقوق المستقبلة إلا في التركات ، وعلى الحقوق المعلقة على شرط وعلى الحقوق الإحتمالية، ولا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية والأهلية كأن يتصالح شخص مع آخر على بنوته منه نفياً أو إثباتاً أو على صحة الزواج أو بطلانه أو التنازل عن طلب الحجر أو على الإقرار بالجنسية أو نفيها أو على تعديل أحكام الولاية والوصاية والقوامة أو على حق الحضانة أو على الأهلية فمن كان غير أهل فلا يجوز أن يتصالح على أنه أهل، ولكن يجوز الصلح على الحقوق المالية الشخصية ، فيجوز لمن له حق نفقة على غيره أن ينزل عما يستحقه من نفقة مدة معينة أو يسقط النفقة المستحقة لا أن ينزل عن حق النفقة ذاته فهذا لا يجوز الصلح فيه، كما لا يجوز للوارث أن يتصالح عن صفته كوارث، ولا يجوز الصلح على الجريمة إلا في بعض الجرائم التي نص عليها قانون الإجراءات الجنائية على سبيل الحصر عملا بالمادتين (18 مكرراً)، (18 مكرراً) (أ) منه. كما يجوز الصلح على الحقوق التي تنشأ عن الجريمة، ولا يجوز الصلح على شكوى جنائية مقابل مبلغ من النقود لدخول ذلك ضمن الدعوى الجنائية، ولا على تحديد المسئولية بين مسئولين متعددين فتحديد المسئولية من النظام العام، وتتعلق إجراءات نزع الملكية للمنفعة العامة بالنظام العام وتقوم بها إدارة نزع الملكية بمصلحة المساحة ومن ثم لا يجوز للجهة المستفيدة من نزع الملكية التصالح مع من نزعت ملكيته على مقدار التعويض استقلالاً، ولا يجوز الصلح على إعتبار بیع الوفاء نهائياً، ولا الصلح بين العامل ورب العمل إذا مس حقوق تقرها قوانين العمل.

ولا تحال إلى مجالس الصلح الدعاوى المستعجلة التي ترفع إلى قاضي الأمور المستعجلة سواء رفعت دعوى أصلية أو کشق مستعجل في الدعوى الموضوعية ، وفي الحالة الأخيرة يتعين على المحكمة الجزئية نظر الدعوى برمتها فلا تحيل الشق الموضوعي إلى مجلس الصلح وتبقى الشق المستعجل لتفصل فيه . (قارن أبو الوفا في التعليق ویری إحالة الشق الموضوعي لمجلس الصلح وتصدي المحكمة للشق المستعجل).

كذلك لا تحال منازعات التنفيذ سواء كانت موضوعية أو وقتية إذ يختص بها قاضي التنفيذ دون سواه اختصاصاً نوعياً من النظام العام.

ولا تحال طلبات استصدار أوامر الأداء إلى مجلس الصلح وإنما تعرض على القاضي الجزئي المختص.

 قرار رئيس الجمهورية بتنظيم مجالس الصلح:

صدر القرار الجمهوري رقم 1173 لسنة 1968 بتنظيم مجالس الصلح، ولم يصدر بعد قرار وزير العدل بتحديد المحاكم الجزئية التي تشكل مجالس الصلح بدائرتها.

ونصت المادة الأولى من القرار الجمهوري سالف الذكر على تشكيل مجلس الصلح من وكيل للنائب العام رئيساً واثنين من المواطنين الصالحين أعضاء بصفة أصلية واثنين بصفة إحتياطية وأن الذي يختار العضوين الأصليين والاحتياطيين لجنة الاتحاد الإشتراكي العربي بدائرة المركز أو القسم الذي يقع بدائرة المحكمة الجزئية التي يتبعها المجلس وإذ تم حل الإتحاد الإشتراكي فقد حل محله إحدى لجان مجلس الشوري.(المطول في شرح قانون المرافعات، المستشار/ أنور طلبة، الناشر/ المكتب الجامعي الحديث،  الجزء  : الثاني ، الصفحة : 256)

المادة 64 مرافعات غیر معمول بها للأن : لم يصدر وزیر العدل القرار اللازم لتنفيذ مجالس الصلح، ولذلك فلم يعمل بالمادة 64 للآن ، كما أن الاتحاد الاشتراكي المشار في القرار الجمهوري بشأن تشكيل هذه المجالس قد ألغي ، ومن ثم ينبغي تعديل القرار الجمهوري قبل صدور قرار من وزير العدل بشأن تنفيذ هذه المادة ولكن رغم أن هذه المادة ،غیر معمول بها، إلا أننا سوف نوضح أحكامها، فربما يتم العمل بها مستقبلاً.

نطاق عمل مجلس الصلح وهو لا يحكم وإنما يوفق بين الخصوم :

لا يطرح على مجلس الصلح إلا الدعاوى الجزئية التى ترفع إبتداء . أما اذا كانت الدعوي قائمة أمام المحكمة الجزئية فمن الجائز الإدلاء أمامها لأول مرة بأي طلبات عارضة، سواء أكانت من جانب المدعى أو المدعى عليه أو من جانب أحدهما في مواجهة الغير ( إختصاص الغير ) أو من جانب الغير في مواجهتهما أو مواجهة أحدهما ( التدخل الإختصامي أو الإنضمامی ) ، ففي هذه الأحوال يجوز الإدلاء بالطلب أمام المحكمة الجزئية مباشرة بغير حاجة إلى طرحه أولا أمام مجلس الصلح . كذلك الحال إذا رأت المحكمة إدخال أي خارج عن الخصومة فيها عملاً بالمادة 118 مرافعات.

ويقوم المجلس كما تقول المادة بالتوفيق بين الخصوم ، إذن هو لا يحكم ولا يملك الحكم ، فلا يجوز له أن يقضي بكل طلبات أحد الخصوم ، وإنما هو يحاول أن يوائم بين طلبات الخصوم ، وفي هذا تقول المادة 549 من القانون المدني الصلح عقد يحسم به الطرفان نزاعاً أو يتوقیان به نزاعاً محتملاً ، وذلك بأن ينزل كل منهما على وجه التقابل عن جزء من ادعائه. ويقوم عمل المجلس أساساً على موافقة الطرفين على ما يجريه بينهما من صلح، وألا يكون قد فشل في مهمته (أحمد أبو الوفا - التعليق - ص 390).

ولا يندرج في إختصاص مجلس الصلح المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، وتنص المادة 551 من القانون المدني على أنه لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام.  

ولكن يجوز الصلح في المسائل المالية التي تترتب علي الحالة الشخصية أو التي تنشأ عن إرتكاب إحدي الجرائم.

ولما كانت مسائل الأحوال الشخصية البحتة ومسائل الجنسية من النظام العام، فإن ما لا يجوز فيه الصلح ينحصر إذاً فقط في المسائل المتعلقة بالنظام العام. وقد قصد المشرع من عدم إجازة الصلح فيها أن تخضع تلك المسائل لرقابة وإشراف السلطة العامة التي يعنيها ويهمها أن تسري عليها قواعد عامة موحدة.

ولا يجوز الصلح فيما يتعلق بذات إجراءات التقاضي، أي بإجراءات التقاضي البحتة، كاختصاص محكمة ما بنظر الدعوي أو عدم اختصاصها أو صحة الاجراءات او بطلانها ولا يجوز الصلح أيضاً في شأن رد القاضي عن نظر الدعوى أو مخاصمته.

فالدعاوى التي لا يجوز فيها الصلح فلا تخضع لنظام مجالس الصلح في الدعاوى المتعلقة بما لا يجوز الصلح فية طبقاً للمادتين 148 و 551 من القانون المدني سالفة الذكر، وبذلك لا تخضع لنظام مجالس الصلح الدعاوى المتعلقة بثبوت النسب أو نفيه أو بصحبة الزواج أو ببطلانه أو بالإقرار الجنسية أو بنفيها أو بأحكام الولاية على النفس أو المال أو الوصاية أو القوامة أو حق الحضانة أو التعديل في أحكام الأهلية، كما لا يجوز ذلك في الدعاوى المتعلقة بالضرائب والرسوم اذا لم يكن الحق في تحصيلها محل نزاع، ولا الأحكام المتعلقة بأجرة الأماكن أو الحد الأقصى لأجرة الأراضي الزراعية أو الفوائد الربوية أو الأموال العامة أو التصرفات الباطلة بطلاناً يتعلق بالنظام العام .

ولا يندرج في اختصاص مجلس الصلح الدعاوى المستعجلة، وهي يطلب فيها الحكم - عملاً بنص المادة. 45. مرافعات - بصفة مؤقتة ومع عدم المساس بالحق فى المسائل المستعجلة التي يخشى عليها من قوات الوقت سواء رفعت إلى قاضي الأمور المستعجلة ، أو الحكمة الموضوع بالتبعية للدعوى الأصلية . ولعل الأمر يدق بالنسبة لهذا النوع الأخير من حيث تأثيرها على اختصاص مجالس الصلح بالدعوى الأصلية ، ومحكمة الموضوع تكون هي المختصة بالفصل في الطلبين مباشرة دون لزوم مرور الطلب الموضوع على مجلس الصلح ، لأن القول بغير ذلك يؤدي إما إلى تقطيع أوصال النزاع الواحد وإما إلى تعطيل الفصل في الطلب المستعجل لحين انتهاء مرحلة مجالس الصلح ، وإما إلى مخالفة الإجراءات التي رسمها المشرع في اتصال المحكمة بالدعوى في حالة القول بعرض النزاع كله على المحكمة حتى تفصل في الشق المستعجل ثم تحيله إلي مجلس بالصلح إذ الأصل يحدد قلم الكتاب الجلسة الأولى أمام مجلس الصلح ( كمال عبد العزيز - ص 192).

كما لا يختص مجلس الصلح بمنازعات التنفيذ وهي المنازعات المشار في المادة 275 مرافعات والتي عقد الاختصاص بها لقاضي التنفيذ، وتشمل كافة المنازعات الموضوعية والوقتية والقرارات والأوامر المتعلقة بالتنفيذ .

كذلك لا يختص مجلس الصلح أمر الأداء ، وهي تلك المنصوص عليها في المادة 201 مرافعات . 

ويستفاد من نص المادة 64 سالف الذكر أنه يشترط أن تكون الدعوى مما يحتمل الصلح فيه بين طرفين يقوم النزاع بينهما فيها ، وبذلك يخرج عن نطاق النظام الطلبات التي يقدمها ذوو الشأن في مسائل الولاية على المال ، ولو كان موضوعها مما يرد عليه الصلح ، وذلك لإنتفاء النزاع بين طرفين يمكن أن يقع بينهما صلح .

وخضوع الدعوى لنظام مجالس الصلح مرهون بأن تكون مرفوعة إلى القضاء إبتداء فلا تخضع له الطلبات التي تقدم في صورة طلب عارض فى دعوى قائمة، سواء قدم من المدعى أو المدعى عليه أو من الغير ، أو التي تقدم في صورة طعن أو تظلم ، أو أوامر الأداء التي يرفض القاضى إصدارها ويحدد جلسة لنظرها. 

والنطاق المكاني الذي يعمل فيه بنظام مجالس الصلح فقد حددته المادة - 64 بدوائر المحاكم الجزئية التي يصدر بها قرار من وزير العدل ، مراعاة لعامل التدريج في تطبيق هذا النظام . فإذا لم يكن قد صدر قرار بتشكيل مجلس صلح بدائرة محكمة جزئية بذاتها، فلا تخضع الدعاوى التي تختص بنظرها هذه المحكمة لذلك النظام وقد مضت الإشارة إلى أنه للآن لم يصدر قرار وزير العدل، في هذا الشأن.  

وواضح من نص المادة 64 - محل التعليق - إن عرض النزاع على مجلس الصلح المشكل في دائرة المحكمة الجزئية التي تختص بنظرها، ۰ أمر وجوبی ، إذ يتعين على قلم كتاب هذه المحكمة أن يحدد جلسة نظرها أمام ذلك المجلس فإن أخطأ وحدد الجلسة أمام المحكمة مباشرة تعين على هذه المحكمة إحالة الدعوى المجلس الصلح ( كمال عبد العزيز ص 193).

وإذا عرضت الدعوي على المحكمة الجزئية مباشرة قبل عرضها علي مجلس الصلح وجب عليها ومن تلقاء نفسها إحالتها عليه ، اللهم إلا إذا :

1- نزل المدعى عن الخصومة وتركها وفقاً لإجراءات ترك الخصومة التي قد لا تتطلب موافقة خصمه في بعض الأحوال.

2- إذا تم الصلح قبل الجلسة، وقرر الطرفان إثباته بمحضر الجلسة عملاً بالمادة 103.

3- إذا كانت الدعوي مما لا يجوز فيه الصلح أو كانت مستعجلة أو متعلقة بالتنفيذ .

4- إذا كان الخصم قاصراً ، وكان ممثله لا يمتلك إجراء الصلح وفق قوانين الأحوال الشخصية.

5- إذا قرر طرفا الخصومة عدم رغبتها في الصلح بصورة واضحة صريحة ، وأثبت في محضر الجلسة. 

6- إذا كان الخصم غائباً ، وحضر عنه وكيله الذي قرر في الجلسة أن توكيله لا يفوض له إجراء الصلح ، أن الخصم في حالة إستحالة لا تمكنه من الحضور أمام مجلس الصلح لأي سبب من الأسباب ، أو انه يرغب في الحضور أمامه.

وينبغي ملاحظة أن نظام الصلح يجب اتباعه ولو كانت الحكومة أو إحدى المؤسسات العامة ، أو إحدى شركات قطاع الأعمال طرفاً في النزاع.

ولا يتبع نظام الصلح إذا رفعت الدعوى إبتداء إلى محكمة إبتدائية ثم قضت هذه بعدم اختصاصها وإحالتها إلى المحكمة الجزئية ( عملاً بصریح نص المادة 64)، فعندئذ لا محل لإحالة إلى مجلس الصلح .

وخاصة أن الدعوى قد تكون قد مرت بمرحلة إثباتها وأحيلت الدعوى بعد بحث الموضوع ، وقلما يجدي عرض المبلع بعدئذ .

ويتبع نظام الصلح طالما أن المحكمة المعروض عليها الدعوى محكمة جزئية سواء كانت مختصة بها اختصاصاً عادياً أم استثنائياً أم بمقتضی اللائحة الشرعية النافذة أو بمقتضى أية قوانين خاصة.

تشكيل مجلس الصلح وعدم خضوع أعضائه لحالات عدم صلاحية القضاة لأنهم ليسوا قضاة ولا يحكمون وإنما يوفقون بين الخصوم : استوجب نص المادة 64 - محل التعليق - تمثيل العنصر القضائي في مجالس الصلح ، واختار أن يكون من بين وكلاء النيابة وهو اختيار موفق لما يبحثه لأعضاء النيابة من الصلة المفيدة بالمنازعات المدنية، ويبقي على القضاة في الوقت ذاته طبيعة عملهم الخاصة ، أما بقية أعضاء المجلس فقد اتجه القرار الجمهوري إلى اختيارهم من لجان الاتحاد الإشتراكي العربي الملغي ، ونظراً لإلغاء الاتحاد الاشتراكي ، فإنه كما مضت الإشارة ينبغي تعديل القرار الجمهوري إذا اتجهت النية للعمل بنظام مجالس الصلح .

ولما كان مجلس الصلح بتولي التوفيق بين الخصوم ولا يحكم ولا يجرى بنفسة صلحاً بفرض على الخصوم ، فإن أسباب عدم صلاحية القضاء لنظر الدعوى أو ردهم لا تعتبر أسباباً ( مادة 146 مرافعات وما بليها) لعدم صلاحية أو رد رئيس مجلس الصلح وأعضائه . بل لعل قرابة أحد أعضاء المجلس لأحد خصوم الدعوى أو لكليهما قد تكون سبباً في التعجيل بالصلح اهتماماً من المجلس لحسم النزاع بالطريق الودي أحمد أبو الوفا - التعليق ص 395 وقارن كمال عبد العزيز - تقنين المرافعات ص 194، وقد استند إلى حكم المحكمة النقض صدر فى 1961/12/28  لسنة 12 ص 850- وقد صدر هذا الحكم بصدد مجالس التأديب وهذه المجالس تحكم بينما مجلس الصلح يحاول مجرد التوفيق بين الخصوم).

الإجراءات أمام مجلس الصلح وسلطته:

أجمل المشرع إجراءات نظر مجلس الصلح للنزاع وجوب عقده جلساته في مقر محكمة المواد الجزئية، وأتاح له القرار الجمهوری سلطة سماع الشهود وإجراء المعاينة والتحقيق، وذلك على نحو لايقيده بإجراءات جامدة إتاحة للمرونة في هذه المرحلة من مراحل الدعوي التي تستهدف التوفيق، ولا تمنع النصوص إنابة الخصوم لوكلائهم في الحضور عنهم أمام مجلس الصلح إلا إنه يلاحظ أن الموافقة على الصلح لاتتم من الوكلاء إلا إذا كانوا مفوضين بالصلح، على أن ذلك لا يمنع الوكلاء غير المفوضين بالصلح من تمثيل موكليهم أمام المجلس في المراحل السابقة على إجراء الصلح. وإذا تخلف الخصوم عن الحضور فلا يملك المجلس شطب الدعوى وإنما عليه إذا أمروا على عدم الحضور أن يعتبر ذلك منهم رفضاً لإجراء الصلح ويحيل العدوى إلى المحكمة (كمال عبد العزيز - ص 194).

وتقتصر سلطة مجلس الصلح على إجراء الصلح بين الخصوم فإن اتفق الخصوم على الصلح حرر بذلك محضراً تكون له قوة السند التنفيذي وتنتهي به الدعوى. ويتعين أن تتوافر في الإتفاق الذي يصل إليه الخصوم أمام المجلس مقومات الصلح كما هو الشأن بالنسبة إلى الصلح القضائي المنصوص عليه في المادة 103 من القانون الحالى المقابلة للمادة 124 من القانون الملغي. ولا يخرج محضر المجلس الذي يثبت فيه إتفاق الطرفين على الصلح عن طبيعة المحضر الذي يحرره المحكمة طبقاً للمادتين السالفتين من حيث اعتباره عقداً تم بين الخصمين إن أثبت في ورقة رسمية بما يترتب على هذا الإعتبار من نتائج.  

وينبغي أن ينتهى مجلس الصلح من مهمته في مدة ثلاثين يوماً لا يجوز مدها إلا بإتفاق الطرفين ويكون المد في هذه الحالة لمدة أو مدد لاتجاوز كلها ثلاثين يوماً أخرى، فإذا لم يتم الصلح في هذا الأجل تعين على المجلس إحالة النزاع إلى المحكمة المختصة.

ويتعين ملاحظة أن هذين الميعادين المقررين لا يتصلان بالنظام العام، وتجاوز أيهما لا يرتب أي بطلان، لأن هذا البطلان لا مصلحة للمدعي فيه فلا يمكن أن يتمسك به، ومن ناحية أخرى لا ذنب له فيه، فلا يمكن التمسك به في مواجهته، ومن ناحية ثالثة إذا إتفق الطرفان على مد الميعاد على خلاف هذه المادة فلا يصح التمسك بالبطلان من أيهما، ولا يملك مجلس الصلح الحكم به بطبيعة الحال، كما لا يجوز للمحكمة الحكم به. وإذا كان يجوز اتفاق الخصوم على وقف الدعوي ستة أشهر عملاً بالمادة 128 ، فمن باب أولى يجوز تهيئة فرصة ثالثة للصلح أمام مجلسه، وإن الميعادان المقرران في المادة 64/2  من المواعيد التنظيمية (أحمد أبو الوفا ۔ التعليق - ص 393 وقارن كمال عبد العزيز - تقنين المرافعات ص 195 حيث يرى أن هذه المواعيد لا تعتبر من المواعيد التنظيمية بل هي مما يتعلق بالتنظيم القضائي فيتعين مراعاتها وإلا بطل الإجراء عملاً بالمادة 30 مرافعات) ، وفي حالة عدم توصل المجلس إلى الصلح فإنه يحيل الدعوى إلى المحكمة المختصة ولا يلتزم بإرفاق تقرير عن النزاع، إذ لا يلزمه القانون بذلك، ولكن القرار الجمهوري المنظم لمجالس الصلح إتجه إلى إلزامها بإعداد تقرير موجز عن موضوع النزاع وأسيد الخصوم فيه وما إتبع من إجراءات لإنهائه.

ويلاحظ أنه إذا كانت المرحلة التي تمر بها الدعوى أمام مجلس الضلع تعتبر جزءاً من الخصومة إلا أنه بالنظر لأن سلطة هذا المجلس قاصرة على التوفيق بين الخصوم ليصلوا إلى إتفاق على الصلح ، فإنه وإن كان ما يثبت في محاضرها من أوجه دفاع ودفوع وتحقيق تكون له قوة المثبت في المحررات الرسمية بالحدود والشروط التي تحد قوة هذه المحررات ، إلا أن المرافعة في الدعوى ، على ما تقول المذكرة الإيضاحية في خصوص الدفوع الشكلية . لا تعتبر أنها بدأت إلا من جلسة المرافعة التي يحددها مجلس الصلح للخصوم أمام المحكمة عند إحالته الدعوى إليها ، ويترتب على ذلك أن المرحلة التي تمر بها الخصوم أمام مجلس الصلح لا تخل بحق الخصوم في إبداء ما لديهم من دفوع أمام المحكمة. 

كما يلاحظ أيضاً أنه وإن كانت الفقرة الأخيرة من المادة 64 - محل التطبيق - قد اقتصرت على معالجة حالة عرض الدعاوى التي تخضع لنظام مجالس الصلح ، على محكمة تشكل بدائرتها هذا المجلس قبل عرضها عليه ، فأوجبت على هذه المحكمة إحالتها إليه ، إلا أن هذا الحكم پسری كذلك في حالة عرض الدعوى على محكمة لم يشكل بدائراتها مجلس صلح ثم قضاء هذه المحكمة بعدم اختصاصها بنظر الدعوى وبإحالتها إلى المحكمة المختصة طبقاً للمادة 110 من قانون المقابلة للمادة 135 من القانون الملغي ، إذ يتعين في هذه الحالة إذا كانت المحكمة المحال إليها الدعوى قد شكل بدائرتها مجلس صلح أن تكون الإحالة إلى هذا المجلس وذلك حتى لا يتخذ من رفع الدعوى إلى محكمة غير مختصة لم يشكل بدائراتها مجلس صلح وسيلة للتحايل لعدم عرض النزاع على المجلس المشكل بدائرة المحكمة المختصة ( كمال عبد العزيز - ص 195 و ص 196).

وجدير بالإشارة أنه قبل إجراء الصلح يجب أن يتحقق المجلس من صفات الخصوم و توكيلاتهم التي تفوض الوكيل بإجراء الصلح.

وإذا أخطأ قلم الكتاب وأحاله الى مجلس الصلح مسالة من المسائل المقررة في الفقرة الأولى من هذه المادة ، وجب على مجلس الصلح من تلقاء نفسه وبغير حاجة إلى تمسك من جانب أي خصم إحالة الدعوى إلى المحكمة الجزئية . وإذا أجرى المجلس صلحاً في مسألة متعلقة بالنظام العام ، فإن عقد الصلح يكون باطلاً وفقاً لقواعد القانون المدني ، وتطبق في هذا الصدد أحكامه ، ولا يعمل بقواعد المرافعات بالنسبة لبطلان الأحكام .

وإذا كانت الدعوي قائمة أمام المجلس ، فإن هذا لا ينفي حق الخصوم في رفع دعوى مستعجلة أو في استصدار أمر أداء أو في اتخاذ أي إجراء من إجراءات التنفيذ أو التحفظ .

وقيام الدعوى الجزئية أمام مجلس الصلح لا يؤثر في سريان المواعيد المقررة في حق الخصوم ، كمواعيد الطعن أو مواعيد التنفيذ بالنسبة الدعاوى أو إجراءات أخرى.

ويتضح من المذكرة التفسيرية للقانون أن عرض النزاع على مجلس الصلح لا يخل بأي حال من الأحوال بحق الخصوم في إبداء ما لديهم من دفوع شكلية ، فلا يحتج على خصم بأنه قد تكلم في الموضوع أمام مجلس الصلح ، ولا بمنع سبق طرح النزاع على مجلس الصلح من اتفاق الخصوم على وقف الدعوي مدة ستة أشهر عملاً بالمادة 128 مرافعات .

وحضور الخصوم أمام مجلس الصلح لا ينفي اعتبار الدعوى مرفوعة إلى المحكمة الجزئية عملاً بالمادة 63 ، منتجة لكل الآثار القانونية التي يرتبها قانون المرافعات على ذلك . ومن ثم يجوز إبداء طلبات عارضة على الدعوى الأصلية بالقيود المقررة في القانون ، فإذا كانت من الطلبات التي لا يجوز عرضها على مجلس الصلح ، فإنها تعرض مباشرة على المحكمة الجزئية ( كالطلبات المستعجلة ) ، وذلك بالإجراءات المعتادة لرفع الدعوى .وإذا كانت من الطلبات التي يجوز عرضها على مجلس الصلح ،وكانت قد . رفعت بالإجراءات المعتادة لرفع الدعاوى ، وكانت الدعوى الأصلية.

مازالت قائمة أمام المجلس ، فإنها تحال إليه.. ويجوز أن تبدى هذه الطلبات شفاهة أمامه طبقاً للمادة 123 بشرط أن تكون الدعوي الأصلية ما زالت قائمة أمامه، وإلا فإنها تعرض رأسا على المحكمة بعدم استيفاء الرسوم المقررة.

وترتيباً على ما تقدم تحكم المحكمة الجزئية في مصاريف الدعوى إذا لم يتناولها الصلح .

وإذا رفع النزاع المطروح على مجلس الصلح أمام محكمة أخرى جاز التمسك بالإحالة لقيام ذات النزاع عملا بالمادة 112/1.

وحضور الخصم أمام المجلس تعتد به الحكمة وتعتبره بمثابة حضور سابق عند تطبيقها لقواعد الحضور والغياب . وبداهة لا يملك المجلس اتخاذ أي إجراء عند غياب أحد الخصوم وإلا كان باطلاً ولو تكرر غيابه دون عذر ( أحمد أبو الوفا - التعليق - ص 394).

وإذا وقفت الخصومة أمام المجلس وجب علي المدعی تعجيلها وإلا فإنها تسقط إذا استمر الوقف سنة دون إنقطاع طبقاً للمادة 134 ويصدر الحكم بسقوطها من المحكمة .  

وحضور المدعي عليه أمام مجلس الصلح يسقط حقه في التمسك ببطلان صحيفة الدعوى في الحالات التي يسقط هذا الحق بحضور المدعى عليه .

ويلاحظ أنه إذا رفعت دعوى بطلبين أو أكثر ، وكانت بعض هذه الطلبات مما يعرض على المحكمة الجزئية رأساً دون البعض الآخر، وكانت بينها رباط لا يقبل التجزئة ، فمن الواجب عرض جميع هذه الطلبات رأساً على المحكمة الجزئية . أما إذا كان الرباط يقبل التجزئة فإنه لا يعرض رأساً على المحكمة الجزئية إلا الطلبات التي لا يجوز عرضها على مجلس الصلح، أما الطلبات الأخرى فيجب أن تعرض أولاً على مجلس الصلح، وتتبع ذات القاعدة إذا رفعت دعوى إلى محكمة جزئية بطلب موضوعي وطلب مستعجل ، فعندئذ يقدم الطلب الموضوعي إلى مجلس الصلح بينما بعرض الطلب المستعجل رأساً على المحكمة الجزئية ، وذلك للأسباب الأتية :

أ- إن الدعوى الأصلية تعتبر قد رفعت إلى المحكمة الجزئية بمجرد تقديم عريضتها إليها طبقاً للمادة 63 بعد أداء الرسم عنها ومن ثم نظر المحكمة الجزئية للطلب المستعجل يعد بمثابة نظر للطلب بطريق التبعية للدعوى الأصلية عملاً بالمادة 45 مرافعات .

ب - القول بوجوب عرض الدعوى برمتها علي المحكمة الجزئية دون مرور الطلب الأصلي على مجلس الصلح قد يؤخذ وسيلة لمخالفة المادة 14 فيتعمد الخصوم الإدلاء بطلب مستعجل مع دعواهم الجزئية لتفادي مرورها على مجلس الصلح .

ج - کون الطلب الأصلي غير منظور من المحكمة الجزئية أثناء نظر الطلب المستعجل لا يغير من الموضوع القانوني، لأن المحكمة الموضوعية لا تنظر بالفعل الطلب الأصلي ولو كان أمامها بمجرد الإدلاء بطلب مستعجل ، وذلك تحقيقاً لسرعة الفصل في الطلب الأخير ( أحمد أبو الوفا - التعليق - ص 394 و ص 395 ، وقارن كمال عبد العزيز - تقنين المرافعات طبعة أولى - ص 119 وص 120).

ويتعين ملاحظة أن عقد الصلح الذي يتم بمقتضى المادة 64 يخضع القواعد المقررة لبطلان العقود. سواء من ناحية الأهلية أو الصفة أو عيوب الرضا، وشأنه الصلح الذي يتم بمقتضى المادة 103 بمحضر الجلسة.

وإذا أخطأ مجلس الصلح وفرض رأيه على خصوم الدعوي أو على بعضهم جاز رفع الدعوي بطلب بطلان الصلح على النحو المتقدم ، وهذا لا ينفي مساءلة أعضاء المجلس تأديبياً ، ومن البديهي أنه لا ينظر الدعوى ببطلان الصلح ذات المجلس الذي تسبب في هذا البطلان بسبب فرض إرادته على الخصوم .

التفرقة بين الصلح والتوفيق والتحكيم: وجدير بالذكر أنه ينبغي التفرقة بين كل من التوفيق والصلح والتحكيم، فالتوفيق غير الصلح غير التحكيم، لأن التوفيق بين الخصوم قد ينتهي إلى أن ينزل المدعي عن كل ما يدعيه أو يسلم له خصمه بكل طلباته، بينما في الصلح ينزل خصم عن بعض مایدعيه أو يتمسك به مقابل نزول الخصم الأخر - هو الآخر - عن بعض مايدعيه أو يتمسك به وفي التحكيم بفصل المحكم في طلبات الخصوم وينهي النزاع بينهم بحكم يفصل فيه دون أن يتقيد بمنح كل خصم أي حق في بعض ما يدعيه ما لم يكن محكماً مفوضاً بالصلح (أحمد أبو الوفا - التعليق - ص 396). 

جزاء عدم عرض الدعوى على مجلس الصلح عند تطبيقه في الحياة العملية : إذا تم تطبيق نظام مجالس الصلح عملاً ، فإنه إذا كانت الدعوى من الدعاوى التي يطبق عليها نظام مجالس الصلح، ولكنها عرضت مباشرة على المحكمة، فإنه يجب على المحكمة إحالتها إلى مجلس الصلح سواء تمسك الخصم بذلك أو لم يتمسك لتعلق الإحالة في هذه الحالة بالنظام العام، ونص الفقرة الأخيرة من المادة 64 صريح في أن الإحالة واجبة على المحكمة، فهي لاتتوقف على طلب الخصوم.

كما أن نص هذه الفقرة صريح في أن الحكم في هذه الحالة هو حكم بالإحالة وليس حكماً بعدم القبول، مما مقتضاه أن الدفع الذي يتقدم به الخصم في هذه الحالة هو دفع بالإحالة يتعلق بالنظام العام. وينبني على أن عرض النزاع على مجلس الصلح أمر يتعلق بالنظام العام يجب على المحكمة القضاء به ولو لم يتمسك به أحد الخصوم، أنه لا يجوز الاتفاق بين الخصوم على عدم عرض الدعوى على مجلس الصلح، فمثل هذا الاتفاق لا يلزم المحكمة لمخالفته للنظام العام (رمزی سيف - بند 422 ص 533). 

تقييم الفقه لنظام مجالس الصلح وفوائده وعيوبه : يرى الفقه أن نظام مجالس الصلح فضلاً عما يتسم به من ديمقراطية، له فائدتان، الأولى، الحد من المنازعات الى تعرض على المحاكم بما يوفر جهد القضاة والمتقاضين، والثانية : أن من شأنه أن يشيع السلام في المجتمع إذا لوحظ أن الدعاوى إذا كانت تنتهي قانوناً بأحكام تصدر من القضاء يلتزم الخصوم بتنفيذها، إلا أن النزاع لاينتهى فعلاً فكثيراً ما تخلف أحكام القضاء أحقاداً بين الناس يحسن العمل على تفاديها بالتوفيق بين الخصوم .

ولكن نظام مجالس الصلح أثار منذ صدور قانون المرافعات الحالي كثيراً من النقد لا يخلو بعضه من عدم الإدراك التام لوظيفة مجالس الصلح. ويمكن رد الانتقادات التي وجهت إلى نظام مجالس الصلح إلي نقدين رئيسيين : الأول : إنه نظام من شأنه إشراك غير القضاء في القضاء مما يعتبر افتئاتاً على استقلاله الذي يقتضي ألا يتولى القضاء إلا قضاه يتوافر فيهم التخصص والحيادية ، ولا يتفق ذلك مع حسن سير القضاء وإذا كان تخصص القاضي وحيدته من دعائم إستقلال القضاء ومن مقتضيات حسن سيره لأن وظيفة القاضی تستلزم صفات خاصة وتخصصاً مهنياً يقوم على الإلمام بعلم القانون نتيجة لدراسات خاصة وعلى الخبرة التي يزود التطبيق العملي بها من يعهد إليه بولاية القضاء إلا أن البعض لا يرى في كل ذلك ما يتنافى مع تقرير نظام مجالس الصلح على النحو الذي نص عليه قانون المرافعات الحالي، لأن مهمة هذه المجالس ليست الفصل في المنازعات ، وإنما التوفيق بين الخصوم بقصده الوصول إلى صلح يرضى له أطراف النزاع بكامل حريتهم، ولذلك فإن الفترة التي تمر بها الدعوى أمام مجلس الصلح لا تعتبر قانوناً مرحلة مراحل المناضلة والنزاع بين الخصوم، وأن الجلسة الأولى للمرافعة في الدعوى هي الجلسة التي يحيل إليها مجلس الصلح الدعوى إلى المحكمة في حالة فشل المجلس في التوفيق بين الخصوم. إذا كان الأمر كذلك فلا عضاضة في أن يتولى الصلح بين الخصوم أي شخص يمكنه التوفيق بينهم وإنهاء النزاع رضاء ولو لم يكن قاضياً. 

الثاني إن من شأن هذا النظام تأخير الفصل في الدعوى بغير فائدة محققة إذا لوحظ أن النزاع إذا وصل مرحلة الخصومة أمام القضاء فلأن الخصوم قد استنفدوا كل وسائل التوفيق بينهم، وإذا لوحظ أن أعضاء المجلس ليسوا من الأشخاص المتفرغين لعملهم، الأمر الذي سينتهي في الغالب بإحالة الدعوى إلى المحكمة بعد تعطيلها فترة من الزمن أمام المجلس بغير فائدة.

ويؤكد معارضوا هذا النظام قولهم بأن التجربة في تولى غير المتخصصين ولاية القضاء خير شاهد على فشل هذا النظام .

ومع ذلك يرى البعض أن صحة هذا القول رهن بما يسفر عنه العمل من نتائج، فالعمل وحده هو الحكم في صلاحية أو عدم صلاحية هذا النظام، ولذلك فإنه من حسن السياسة التشريعية أن يبدأ بتنفيذ هذا النظام أمام بعض المحاكم وألا يعمم أمام سائر المحاكم الجزئية إلا بعد أن يثبت العمل صلاحيته (رمزی سيف - بند 433 ص 533 وص 534).(الموسوعة الشاملة في التعليق على قانون المرافعات، الدكتور/ أحمد مليجي، الطبعة الثالثة عشر 2016 طبعة نادي القضاة ،  الجزء : الثاني  ، الصفحة : 379)

1- اتجه المشرع في المادة 64 من القانون الجديد إلى إنشاء مجالس تتولى التوفيق بين الخصوم تاركاً أمر تنظيمياً بقرار جمهوري يصدر بذلك وأتاح الفرصة للتدرج في إنشائها بما خوله لوزير العدل من إصدار قرارات بتحديد المحاكم التي تشكل مجلس صلح بدائرتها وإستلزم القانون أن تعرض على تلك المجالس جميع الدعاوى الجزئية التي تكون من اختصاص المحاكم الجزئية التي أنشئت بدائرتها وذلك بأن أوجب أن يكون حضور الخصوم في تلك الدعاوي في الجلسة الأولى المحددة لنظرها أمام تلك المجالس وتحوط الخطأ قلم الكتاب فى تحديد جلسة الحضور في تلك الدعاوي أمام هيئة المحكمة الجزئية مباشرة وحتى لا يترتب على ذلك الخطأ تعقيد الإجراءات أوجب القانون على هذه المحكمة في تلك الحالة أن تحيل الخصوم إلى مجلس الصلح المشكل بدائرتها لجلسة تحددها له. وغني عن البيان أن مجلس الصلح وقد أقتصر إختصاصه على التوفيق بين الخصوم مما ينتفي معه مجال المفاضلة بينهم فإن المرحلة التي تمر بها الدعوى أمامه لا تخل بحقهم في إبداء مالديهم من دفوع أمام المحكمة عند إحالة المجلس الدعوى إليها بعد إخفاقه في الوصول إلى صلح بينهم إذ لا تعتبر المرافعة بدأت في مفهوم المادة 108 من القانون المقابلة للمادة 132 من القانون الملغي إلا من جلسة المرافعة التي يحددها مجلس الصلح للخصوم أمام هيئة المحكمة بعد إحالة الدعوى إليها. هذا وقد حرص المشرع على أن تقتصر المنازعات التي يتعين عرضها على مجلس الصلح على الدعاوى الجزئية التى ترفع ابتداء حتى يبقى من الجائز إبداء طلبات عارضة أثناء نظر الدعاوي أمام المحكمة الجزئية أياً كانوا نوع هذه الطلبات وأياً كان الخصم الذي يبديها وذلك حتى لا يتعطل الفصل في الطلب الأصلي انتظاراً لنظر الطلبات العارضة في مجلس الصلح.

وقد استثنى المشرع من الخضوع لنظام مجالس الصلح الدعاوي التي لا يجوز فيها القانون الصلح والدعاوي المستعجلة ومنازعات التنفيذ والطلبات الخاصة بأوامر الأداء تقديراً منه بأن لها من طبيعتها ما لا يتفق مع الخضوع لهذا النظام ( المذكرة الإيضاحية للقانون ).

ملحوظة :

لم يصدر وزير العدل القرار اللازم لتنفيذ مجالس الصلح ولذلك فلم يعمل بها للأن كما أن الإتحاد الإشتراكي وقد ألغي فإنه يتعين تعديل القانون قبل صدور قرار من وزير العدل بتنفيذه .(التعليق على قانون المرافعات، المستشار/ عز الدين الديناصوري والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات وتحديث أحكام النقض للأستاذ/ خيرت راضي المحامي بالنقض، الطبعة 2017 دار المطبوعات الجامعية،  الجزء : الثاني ،  الصفحة : 812)

الفقه الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الرابع عشر ، الصفحة / 71

تَنْفِيذٌ

التَّعْرِيفُ:

التَّنْفِيذُ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الشَّيْءِ يُجَاوِزُ مَحَلَّهُ.

يُقَالُ: نَفَذَ السَّهْمُ فِي الرَّمِيَّةِ تَنْفِيذًا: أَخْرَجَ طَرَفَهُ مِنَ الشِّقِّ الآْخَرِ. وَنَفَذَ الْكِتَابُ أَرْسَلَهُ: وَنَفَذَ الْحَاكِمُ الأْمْرَ أَجْرَاهُ وَقَضَاهُ.

وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالنَّفَاذُ تَرَتُّبُ الآْثَارِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْحُكْمِ.

وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ «تَنْفِيذٍ» عَلَى إحَاطَةِ الْحَاكِمِ عِلْمًا بِحُكْمٍ أَصْدَرَهُ حَاكِمٌ آخَرُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ، وَيُسَمَّى اتِّصَالاً. وَيُتَجَوَّزُ بِذِكْرِ (الثُّبُوتِ) (وَالتَّنْفِيذِ) قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا هَذَا غَالِبًا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَفَاذِ الْحُكْمِ أَوِ الْعَقْدِ وَتَنْفِيذِهِمَا هُوَ: أَنَّ النَّفَاذَ صِحَّةُ الْعَقْدِ أَوِ الْحُكْمِ وَتَرَتُّبُ آثَارِهِ الْخَاصَّةِ مِنْهُ، كَوُجُوبِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَانْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ. أَمَّا التَّنْفِيذُ فَهُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوِ الْحُكْمِ وَإِمْضَاؤُهُ بِتَنْفِيذِ عُقُوبَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ مِنَ الْعَاقِدِ طَوْعًا أَوْ بِإِلْزَامٍ مِنَ الْحَاكِمِ. قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ التَّنْفِيذَ لَيْسَ بِحُكْمٍ، إنَّمَا هُوَ عَمَلٌ بِحُكْمٍ سَابِقٍ وَإِجَازَةٌ لِلْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ.

وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْحُكْمَ بِالْمَحْكُومِ بِهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْقَضَاءُ:

الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ وَمِنْهُ  قوله تعالى (وَقَضَى رَبُّك أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ).

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالتَّنْفِيذِ أَنَّ التَّنْفِيذَ يَأْتِي بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ سَبَبٌ لَهُ

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ، أَوِ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذُ وَصَايَا الْمَيِّتِ بِشُرُوطِهَا، وَعَلَى الْحَاكِمِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ تَنْفِيذُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنِ الْتَزَمَ حُقُوقًا مَالِيَّةً بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ حَقًّا تَنْفِيذُ مَا لَزِمَهُ مِنْ حُقُوقٍ، وَعَلَى الْحَاكِمِ التَّنْفِيذُ جَبْرًا عَلَى مَنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّنْفِيذِ طَوْعًا إذَا طَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَقَّهُ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  السابع والعشرون ، الصفحة / 323

صُلْحٌ

التَّعْرِيفُ:

الصُّلْحُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُصَالَحَةِ وَالتَّصَالُحِ، خِلاَفُ الْمُخَاصَمَةِ وَالتَّخَاصُمِ.  

قَالَ الرَّاغِبُ: وَالصُّلْحُ يَخْتَصُّ بِإِزَالَةِ النِّفَارِ بَيْنَ النَّاسِ. يُقَالُ: اصْطَلَحُوا وَتَصَالَحُوا  وَعَلَى ذَلِكَ يُقَالُ: وَقَعَ بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، وَصَالَحَهُ عَلَى كَذَا، وَتَصَالَحَا عَلَيْهِ وَاصْطَلَحَا، وَهُمْ لَنَا صُلْحٌ، أَيْ مُصَالِحُونَ .

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مُعَاقَدَةٌ يَرْتَفِعُ بِهَا النِّزَاعُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ .

فَهُوَ عَقْدٌ وُضِعَ لِرَفْعِ الْمُنَازَعَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا بِالتَّرَاضِي  وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا الْمَدْلُولِ: الْعَقْدُ عَلَى رَفْعِهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا - أَيْضًا - وِقَايَةٌ، فَجَاءَ فِي تَعْرِيفِ ابْنِ عَرَفَةَ لِلصُّلْحِ: أَنَّهُ انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ  

فَفِي التَّعْبِيرِ بِـ (خَوْفِ وُقُوعِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ لِتَوَقِّي مُنَازَعَةً غَيْرَ قَائِمَةٍ بِالْفِعْلِ، وَلَكِنَّهَا مُحْتَمَلَةُ الْوُقُوعِ.

وَالْمُصَالِحُ: هُوَ الْمُبَاشِرُ لِعَقْدِ الصُّلْحِ  وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ: هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ إِذَا قُطِعَ النِّزَاعُ فِيهِ بِالصُّلْحِ  وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُصَالَحُ بِهِ: هُوَ بَدَلُ الصُّلْحِ .

 الأْلْفَاظُ  ذَاتُ الصِّلَةِ:

التَّحْكِيمُ:

التَّحْكِيمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: تَوْلِيَةُ حُكْمٍ لِفَصْلِ خُصُومَةٍ بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ. وَهَذِهِ التَّوْلِيَةُ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْقَاضِي، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْخَصْمَيْنِ.

وَيَخْتَلِفُ التَّحْكِيمُ عَنِ الصُّلْحِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: أَنَّ التَّحْكِيمَ يُنْتَجُ عَنْهُ حُكْمٌ قَضَائِيٌّ، بِخِلاَفِ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ يُنْتَجُ عَنْهُ عَقْدٌ يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ الْمُتَنَازِعَانِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْحُكْمِ الْقَضَائِيِّ وَالْعَقْدِ الرِّضَائِيِّ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الصُّلْحَ يَتَنَزَّلُ فِيهِ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا عَنْ حَقٍّ، بِخِلاَفِ التَّحْكِيمِ فَلَيْسَ فِيهِ نُزُولٌ عَنْ حَقٍّ. (ر: تَحْكِيم).

الإْبْرَاءُ:

الإْبْرَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ: إِسْقَاطِ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ. أَمَّا عَنِ الْعَلاَقَةِ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالإْبْرَاءِ، فَلَهَا وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ النِّزَاعِ عَادَةً، وَالإْبْرَاءَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الصُّلْحَ قَدْ يَتَضَمَّنُ إِبْرَاءً، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِيهِ إِسْقَاطٌ لِجُزْءٍ مِنَ الْحَقِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَقَدْ لاَ يَتَضَمَّنُ الإْبْرَاءَ، بِأَنْ يَكُونَ مُقَابِلَ الْتِزَامٍ مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ دُونَ إِسْقَاطٍ.

وَمِنْ هُنَا: كَانَ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالإْبْرَاءِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَيَجْتَمِعَانِ فِي الإْبْرَاءِ  بِمُقَابِلٍ فِي حَالَةِ النِّزَاعِ، وَيَنْفَرِدُ الإْبْرَاءُ فِي الإْسْقَاطِ  مَجَّانًا، أَوْ فِي غَيْرِ حَالَةِ النِّزَاعِ، كَمَا يَنْفَرِدُ الصُّلْحُ فِيمَا إِذَا كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ عِوَضًا لاَ إِسْقَاطَ فِيهِ.

(ر. إِبْرَاء).

الْعَفْوُ:

الْعَفْوُ: هُوَ التَّرْكُ وَالْمَحْوُ، وَمِنْهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. أَيْ مَحَا ذُنُوبَكَ، وَتَرَكَ عُقُوبَتَكَ عَلَى اقْتِرَافِهَا. عَفَوْتَ عَنِ الْحَقِّ: أَسْقَطْتَهُ. كَأَنَّكَ مَحَوْتَهُ عَنِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ .

هَذَا وَيَخْتَلِفُ الْعَفْوُ عَنِ الصُّلْحِ فِي كَوْنِ الأْوَّلِ إِنَّمَا يَقَعُ وَيَصْدُرُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، بَيْنَمَا الصُّلْحُ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: فَالْعَفْوُ وَالصُّلْحُ قَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا فِي حَالَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى مَالٍ. (ر. عَفْو).

مَشْرُوعِيَّةُ الصُّلْحِ:

ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الصُّلْحِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ .

أَمَّا الْكِتَابُ:

أ - فَفِي قوله تعالي : (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) .

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا عَامٌّ فِي الدِّمَاءِ وَالأْمْوَالِ وَالأْعْرَاضِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ التَّدَاعِي وَالاِخْتِلاَفُ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ .

ب - وَفِي قوله تعالي : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)  فَقَدْ أَفَادَتِ الآْيَةُ مَشْرُوعِيَّةَ الصُّلْحِ، حَيْثُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ الصُّلْحَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، وَلاَ يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ إِلاَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا مَأْذُونًا فِيهِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ:

أ - فَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه  - عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً» . وَالْحَدِيثُ وَاضِحُ الدَّلاَلَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصُّلْحِ .

ب - وَمَا رَوَى «كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - رضي الله عنه  أَنَّهُ لَمَّا تَنَازَعَ مَعَ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ فِي دَيْنٍ عَلَى ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا: بِأَنِ اسْتَوْضَعَ مِنْ دَيْنِ كَعْبٍ الشَّطْرَ، وَأَمَرَ غَرِيمَهُ بِأَدَاءِ الشَّطْرِ» .

وَأَمَّا الإْجْمَاعُ:

فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصُّلْحِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفٌ فِي جَوَازِ بَعْضِ صُوَرِهِ .

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ:

فَهُوَ أَنَّ الصُّلْحَ رَافِعٌ لِفَسَادٍ وَاقِعٍ، أَوْ مُتَوَقَّعٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عِنْدَ النِّزَاعِ. وَالنِّزَاعُ سَبَبُ الْفَسَادِ، وَالصُّلْحُ يَهْدِمُهُ وَيَرْفَعُهُ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَجَلِّ الْمَحَاسِنِ .

أَنْوَاعُ الصُّلْحِ:

الصُّلْحُ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا خَمْسَةً  

أَحَدُهُمَا: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. (ر. جِهَاد، جِزْيَة، عَهْد، هُدْنَة).

وَالثَّانِي: الصُّلْحُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ. (ر. بُغَاة).

وَالثَّالِثُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، أَوْ خَافَتِ الزَّوْجَةُ إِعْرَاضَ الزَّوْجِ عَنْهَا. (ر. شِقَاق، عِشْرَةُ النِّسَاءِ، نُشُوز).

وَالرَّابِعُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي غَيْرِ مَالٍ. كَمَا فِي جِنَايَاتِ الْعَمْدِ. (ر. قِصَاص، عَفْو، دِيَات).

وَالْخَامِسُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي الأْمْوَالِ. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُبَوَّبُ لَهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْبَحْثِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلصُّلْحِ:

قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُوَ - أَيِ الصُّلْحُ - مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهُ عِنْدَ تَعَيُّنِ مَصْلَحَةٍ، وَحُرْمَتُهُ وَكَرَاهَتُهُ لاِسْتِلْزَامِهِ مَفْسَدَةً وَاجِبَةَ الدَّرْءِ أَوْ رَاجِحَتَهُ .

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الصُّلْحُ نَوْعَانِ:

أ - صُلْحٌ عَادِلٌ جَائِزٌ. وَهُوَ مَا كَانَ مَبْنَاهُ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرِضَا الْخَصْمَيْنِ، وَأَسَاسُهُ الْعِلْمُ وَالْعَدْلُ، فَيَكُونُ الْمُصَالِحُ عَالِمًا بِالْوَقَائِعِ، عَارِفًا بِالْوَاجِبِ، قَاصِدًا لِلْعَدْلِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) .

ب - وَصُلْحٌ جَائِرٌ مَرْدُودٌ: وَهُوَ الَّذِي يُحِلُّ الْحَرَامَ أَوْ يُحَرِّمُ الْحَلاَلَ، كَالصُّلْحِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أَكْلَ الرِّبَا، أَوْ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ، أَوْ ظُلْمَ ثَالِثٍ، وَكَمَا فِي الإْصْلاَحِ بَيْنَ الْقَوِيِّ الظَّالِمِ وَالْخَصْمِ الضَّعِيفِ الْمَظْلُومِ بِمَا يُرْضِي الْمُقْتَدِرَ صَاحِبَ الْجَاهِ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ الْحَظُّ، بَيْنَمَا يَقَعُ الإْغْمَاضُ وَالْحَيْفُ فِيهِ عَلَى الضَّعِيفِ، أَوْ لاَ يُمَكِّنُ ذَلِكَ الْمَظْلُومَ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ .

رَدُّ الْقَاضِي الْخُصُومَ إِلَى الصُّلْحِ:

جَاءَ فِي «الْبَدَائِعِ»: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَرُدَّ الْقَاضِي الْخُصُومَ إِلَى الصُّلْحِ إِنْ طَمِعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)  فَكَانَ الرَّدُّ لِلصُّلْحِ رَدًّا لِلْخَيْرِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه  -: «رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمُ الضَّغَائِنَ». فَنَدَبَ - رضي الله عنه  - الْقُضَاةَ إِلَى الصُّلْحِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ ضَغِينَةٍ. وَلاَ يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنِ اصْطَلَحَا، وَإِلاَّ قَضَى بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُ الشَّرْعُ. وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ مِنْهُمْ فَلاَ يَرُدُّهُمْ إِلَيْهِ، بَلْ يُنَفِّذُ الْقَضَاءَ فِيهِمْ؛ لأِنَّهُ  لاَ فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ .

حَقِيقَةُ الصُّلْحِ:

يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ لَيْسَ عَقْدًا مُسْتَقِلًّا قَائِمًا بِذَاتِهِ فِي شُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ، بَلْ هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ تَسْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ شَبَهًا بِحَسَبِ مَضْمُونِهِ. فَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ يُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ، وَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ يُعَدُّ فِي حُكْمِ الإْجَارَةِ، وَالصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ هِبَةُ بَعْضِ الْمُدَّعَى لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَالصُّلْحُ عَنْ نَقْدٍ بِنَقْدٍ لَهُ حُكْمُ الصَّرْفِ، وَالصُّلْحُ عَنْ مَالِ مُعَيَّنٍ بِمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ السَّلَمِ، وَالصُّلْحُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعِي أَقَلَّ مِنَ الْمَطْلُوبِ لِيَتْرُكَ دَعْوَاهُ يُعْتَبَرُ أَخْذًا لِبَعْضِ الْحَقِّ، وَإِبْرَاءً عَنَ الْبَاقِي. إِلَخْ.

وَثَمَرَةُ ذَلِكَ: أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الصُّلْحِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ الَّذِي اعْتُبِرَ بِهِ وَتُرَاعَى فِيهِ شُرُوطُهُ وَمُتَطَلَّبَاتُهُ . قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَهَذَا لأِنَّ  الأْصْلَ  فِي الصُّلْحِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَشْبَهِ الْعُقُودِ بِهِ، فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ؛ لأِنَّ  الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّورَةِ .

أَقْسَامُ الصُّلْحِ:

الصُّلْحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأْجْنَبِيِّ الْمُتَوَسِّطِ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ، صُلْحٍ عَنِ الإْقْرَارِ، وَصُلْحٍ عَنِ الإْنْكَارِ، وَصُلْحٍ عَنِ السُّكُوتِ .

الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الأْوَّلُ: الصُّلْحُ مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

وَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَهُوَ ضَرْبَانِ: صُلْحٌ عَنِ الأْعْيَانِ، صُلْحٌ عَنِ الدُّيُونِ.

(أ) - الصُّلْحُ عَنِ الأْعْيَانِ.

وَهُوَ نَوْعَانِ: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ، وَصُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ.

أَوَّلاً: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ:

وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، كَمَنْ صَالَحَ مِنَ الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى نِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ.

أَحَدِهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأْصَحُّ  عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: وَهُوَ أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ هِبَةِ بَعْضِ الْمُدَّعَى لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْهِبَةِ، سَوَاءٌ وَقَعَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوْ بِلَفْظِ الصُّلْحِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لأِنَّ  الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا لَفْظُ الصُّلْحِ، وَهِيَ سَبْقُ الْخُصُومَةِ قَدْ حَصَلَتْ .

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: وَهَبْتُكَ نِصْفَهَا، فَأَعْطِنِي بَقِيَّتَهَا، فَيَصِحُّ وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ الْهِبَةِ؛ لأِنَّ  جَائِزَ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ هِبَةِ بَعْضِ حَقِّهِ، كَمَا لاَ يُمْنَعُ مِنَ اسْتِيفَائِهِ، مَا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ؛ لأِنَّهُ  يَكُونُ قَدْ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضِهِ، فَهُوَ هَضْمٌ لِلْحَقِّ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ الْبَاقِيَ، كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا مِنْهُ أَوْ تُعَوِّضَنِي مِنْهُ بِكَذَا؛ لأِنَّهُ  يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ بِبَعْضِهِ، وَالْمُعَاوَضَةُ عَنِ الشَّيْءِ بِبَعْضِهِ مَحْظُورَةٌ، أَوْ يَمْنَعُهُ حَقَّهُ بِدُونِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ كَذَلِكَ .

وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ دَارًا، حَصَلَ الصُّلْحُ عَلَى قِسْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا، فَهُنَاكَ قَوْلاَنِ فِي الْمَذْهَبِ:

أَحَدُهُمَا: لاَ يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، وَلِلْمُدَّعِي الاِدِّعَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَاقِي الدَّارِ؛ لأِنَّ  الصُّلْحَ إِذَا وَقَعَ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ يَكُونُ الْمُدَّعِي قَدِ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَسْقَطَ الْبَعْضَ الآْخَرَ، إِلاَّ أَنَّ الإْسْقَاطَ عَنِ الأْعْيَانِ بَاطِلٌ، فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُدَّعَى بِهِ لاَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ كُلِّهِ، حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ نَفْسِهِ، إِذِ الْبَعْضُ دَاخِلٌ ضِمْنَ الْكُلِّ.

وَالثَّانِي: يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي بَاقِيهَا بَعْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لأِنَّ  الإْبْرَاءَ عَنْ بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَى بِهَا إِبْرَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ دَعْوَى ذَلِكَ الْبَعْضِ، فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ .

أَمَّا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، بِأَنْ صَالَحَهُ عَنْ بَيْتٍ ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ وَأَقَرَّ لَهُ بِهِ عَلَى سُكْنَاهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ: وَيُعْتَبَرُ إِجَارَةً. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ، وَيُعْتَبَرُ إِعَارَةً؛ فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا. فَإِنْ عَيَّنَ مُدَّةً فَإِعَارَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَإِلاَّ فَمُطْلَقَةٌ .

وَالثَّانِي: عَدَمُ الْجَوَازِ، وَهُوَ لِلْحَنَابِلَةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأِنَّهُ  صَالَحَهُ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ، فَكَأَنَّهُ ابْتَاعَ دَارَهُ بِمَنْفَعَتِهَا، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ .

ثَانِيًا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ:

وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى غَيْرِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، كَأَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا، فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ أُخْرَى.

وَهُوَ جَائِزٌ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيُعَدُّ بَيْعًا، وَإِنْ عُقِدَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ؛ لأِنَّهُ  مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ جَمِيعُ شُرُوطِ الْبَيْعِ: كَمَعْلُومِيَّةِ الْبَدَلِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ إِنْ جَرَى بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ رِبَا النَّسِيئَةِ.

كَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ بِهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ: كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَالْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا يَفْسُدُ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ وَالشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ لِلْبَيْعِ .

وَلَوْ صَالَحَهُ مِنَ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى مَنْفَعَةِ عَيْنٍ أُخْرَى، كَمَا إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ شَيْئًا، فَأَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارِهِ، أَوْ رُكُوبِ دَابَّتِهِ، أَوْ لُبْسِ ثَوْبِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ هَذَا الصُّلْحِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ إِجَارَةً، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَائِرُ أَحْكَامِهَا؛ لأِنَّ  الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي، فَوَجَبَ حَمْلُ الصُّلْحِ عَلَيْهَا، لِوُجُودِ مَعْنَاهَا فِيهَا، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ .

ب - الصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ:

وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ عَلَى آخَرَ دَيْنًا، فَيُقِرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَهُ بِهِ، ثُمَّ يُصَالِحُهُ عَلَى بَعْضِهِ، أَوْ عَلَى مَالٍ غَيْرِهِ. وَهُوَ جَائِزٌ - فِي الْجُمْلَةِ - بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ اخْتِلاَفٌ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَحَالاَتِهِ. وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ نَوْعَانِ: صُلْحُ إِسْقَاطٍ وَإِبْرَاءٍ، وَصُلْحُ مُعَاوَضَةٍ.

أَوَّلاً: صُلْحُ الإْسْقَاطِ  وَالإْبْرَاءِ:

وَيُسَمَّى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صُلْحُ الْحَطِيطَةِ.

وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، وَصُورَتُهُ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، أَنْ يَقُولَ الْمُقَرُّ لَهُ: صَالَحْتُكَ عَلَى الأْلْفِ الْحَالِّ الَّذِي لِي عَلَيْكَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، هُوَ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ جَائِزٌ؛ إِذْ هُوَ أَخْذٌ لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِسْقَاطٌ لِبَاقِيهِ، لاَ مُعَاوَضَةٌ ، وَيُعْتَبَرُ إِبْرَاءً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ؛ لأِنَّهُ  مَعْنَاهُ، فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ .

وَقَدْ جَاءَ فِي (م 1044) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ: لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يُصَالِحَ مَدْيُونَهُ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ، وَيَكُونُ أَخْذًا لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِبْرَاءً عَنْ بَاقِيهِ.

ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيَصِحُّ بِلَفْظِ الإْبْرَاءِ  وَالْحَطِّ وَنَحْوِهِمَا، كَالإْسْقَاطِ  وَالْهِبَةِ وَالتَّرْكِ وَالإْحْلاَلِ وَالتَّحْلِيلِ وَالْعَفْوِ وَالْوَضْعِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ حِينَئِذٍ الْقَبُولُ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ الإْبْرَاءَ تَمْلِيكٌ أَمْ إِسْقَاطٌ. كَمَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فِي الأْصَحِّ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ إِذَا وَقَعَ بِهِ وَجْهَانِ - كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ: وَهَبْتُهُ لَكَ - وَالأْصَحُّ  الاِشْتِرَاطُ؛ لأِنَّ  اللَّفْظَ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِيهِ .

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ، فَوَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَاقِيَ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمَا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الإْبْرَاءِ ، وَكَانَتِ الْبَرَاءَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إِعْطَاءِ الْبَاقِي، كَقَوْلِ الدَّائِنِ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا مِنْهُ، وَلَمْ يَمْتَنِعُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ إِعْطَاءِ بَعْضِ حَقِّهِ إِلاَّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ الآْخَرِ . فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ بِطِيبِ نَفْسِهِ جَازَ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصُلْحٍ وَلاَ مِنْ بَابِ الصُّلْحِ بِسَبِيلٍ .

أَمَّا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأْصَحُّ  فِي الْمَذْهَبِ؛ وَذَلِكَ لأِنَّهُ  صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضِهِ، فَكَانَ هَضْمًا لِلْحَقِّ. وَالثَّانِيَةِ: وَهِيَ ظَاهِرُ «الْمُوجَزِ» «وَالتَّبْصِرَةِ» أَنَّهُ يَصِحُّ .

أَمَّا لَوْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَجَّلَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ . وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ ذَلِكَ دَيْنَ الْكِتَابَةِ؛ لأِنَّ  الرِّبَا لاَ يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَعَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ الصِّحَّةِ: بِأَنَّهُ تَرَكَ بَعْضَ الْمِقْدَارِ لِيَحْصُلَ الْحُلُولُ فِي الْبَاقِي، وَالصِّفَةُ بِانْفِرَادِهَا لاَ تُقَابَلُ بِعِوَضٍ؛ وَلأِنَّ  صِفَةَ الْحُلُولِ لاَ يَصِحُّ إِلْحَاقُهَا بِالْمُؤَجَّلِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَا تَرَكَ مِنَ الْقَدْرِ لأِجْلِهِ لَمْ يَصِحَّ التَّرْكُ . وَوَجْهُ الْمَنْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَنْ عَجَّلَ مَا أُجِّلَ يُعَدُّ مُسَلِّفًا، فَقَدْ أَسْلَفَ الآْنَ خَمْسَمِائَةٍ لِيَقْتَضِيَ عِنْدَ الأْجَلِ  أَلْفًا مِنْ نَفْسِهِ .

وَقَدْ عَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَنْعَ فِي غَيْرِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ: بِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لاَ يَسْتَحِقُّ الْمُعَجَّلَ، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ اسْتِيفَاءً، فَصَارَ عِوَضًا، وَبَيْعُ خَمْسِمِائَةٍ بِأَلْفٍ لاَ يَجُوزُ .

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُعَجَّلَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ اسْتِيفَاؤُهُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ حَقِّهِ، وَالتَّعْجِيلُ خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ لاَ مَحَالَةَ، فَيَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ بِمُقَابَلَةِ خَمْسِمِائَةٍ مِثْلُهُ مِنَ الدَّيْنِ، وَالتَّعْجِيلُ فِي مُقَابَلَةِ الْبَاقِي، وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنِ الأْجَلِ ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ أَلاَ تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ مُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالأْجَلِ  شُبْهَةً، فَلأَنْ  تَكُونَ مُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالأْجَلِ  حَقِيقَةً حَرَامًا أَوْلَى .

الثَّانِي: جَوَازُ ذَلِكَ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، حَكَاهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ،  وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةُ .

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لأِنَّ  هَذَا عَكْسُ الرِّبَا، فَإِنَّ الرِّبَا يَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ الأْجَلِ ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْ بَعْضِ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ الأْجَلِ ، فَسَقَطَ بَعْضُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ بَعْضِ الأْجَلِ ، فَانْتَفَعَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَا رِبًا لاَ حَقِيقَةً وَلاَ لُغَةً وَلاَ عُرْفًا، فَإِنَّ الرِّبَا الزِّيَادَةُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هَاهُنَا، وَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا ذَلِكَ إِنَّمَا قَاسُوهُ عَلَى الرِّبَا، وَلاَ يَخْفَى الْفَرْقُ الْوَاضِحُ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْضِيَ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَجِّلْ لِي وَأَهَبُ لَكَ مِائَةً. فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الآْخَرِ؛ فَلاَ نَصَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَلاَ إِجْمَاعَ، وَلاَ قِيَاسَ صَحِيحٌ .

وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَالٍّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ التَّأْجِيلَ لاَ يَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ لاَغِيًا؛ إِذْ هُوَ مِنَ الدَّائِنِ وَعْدٌ بِإِلْحَاقِ الأْجَلِ ، وَصِفَةُ الْحُلُولِ لاَ يَصِحُّ إِلْحَاقُهَا، وَالْوَعْدُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ .

وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ صِحَّةُ التَّأْجِيلِ، وَذَلِكَ؛ لأِنَّهُ  إِسْقَاطٌ لِوَصْفِ الْحُلُولِ فَقَطْ، وَهُوَ حَقٌّ لَهُ، فَيَصِحُّ، وَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الإْحْسَانِ . قَالُوا: لأِنَّ  أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ فَيَلْزَمُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسَاءً، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّهُ  بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لأِنَّ  الدَّرَاهِمَ الْحَالَّةَ وَالدَّرَاهِمَ الْمُؤَجَّلَةَ ثَابِتَةٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّ  النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  «نَهَى عَنِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» ،، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْخِيرِ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ؛ لأِنَّ  ذَلِكَ جَائِزٌ كَوْنُهُ تَصَرُّفًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لاَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .

وَلَوِ اصْطَلَحَا عَنِ الدَّيْنِ الْحَالِّ عَلَى وَضْعِ بَعْضِهِ وَتَأْجِيلِ الْبَاقِي، كَمَا لَوْ صَالَحَ الدَّائِنُ مَدِينَهُ عَنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

الأْوَّلِ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ. وَهُوَ صِحَّةُ الإْسْقَاطِ  وَالتَّأْجِيلِ . وَقَدِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهُوَ الصَّوَابُ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ .

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الأْصَحِّ وَالشَّافِعِيَّةِ:

وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ الإْسْقَاطُ دُونَ التَّأْجِيلِ. وَعِلَّةُ صِحَّةِ الْوَضْعِ وَالإْسْقَاطِ : أَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ، فَلاَ مَانِعَ مِنْ صِحَّتِهِ؛ لأِنَّهُ  لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ تَأْجِيلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ أَسْقَطَهُ كُلَّهُ؛ إِذْ هُوَ مُسَامَحَةٌ وَلَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ .

وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الإْسْقَاطُ وَلاَ التَّأْجِيلُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ لاَ يَصِحُّ مَعَ الإْقْرَارِ، وَعَلَى أَنَّ الْحَالَّ لاَ يَتَأَجَّلُ .

ثَانِيًا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ:

وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى غَيْرِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، بِأَنْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَعْوِيضِهِ عَنْهُ. وَحُكْمُهُ حُكْمُ بَيْعِ الدَّيْنِ،  وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ. وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:

الأْوَّلِ: أَنْ يُقِرَّ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، فَيُصَالِحَهُ بِالآْخَرِ، نَحْوَ: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ يُقِرَّ لَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ الصَّرْفِ؛ لأِنَّهُ  بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآْخَرِ، وَيُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّرْفِ مِنَ الْحُلُولِ وَالتَّقَابُضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ .

وَالثَّانِي: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِعَرَضٍ، كَفَرَسٍ وَثَوْبٍ، فَيُصَالِحَهُ عَنِ الْعَرَضِ بِنَقْدٍ، أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِنَقْدٍ، كَدِينَارٍ، فَيُصَالِحَهُ عَنْهُ عَلَى عَرَضٍ. وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ الْبَيْعِ؛ إِذْ هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ .

وَالثَّالِثِ: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ - مِنْ نَحْوِ بَدَلِ قَرْضٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ - فَيُصَالِحَ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، بِأَنْ صَالَحَهُ عَنْ دِينَارٍ فِي ذِمَّتِهِ، بِإِرْدَبِّ قَمْحٍ، وَنَحْوِهِ فِي الذِّمَّةِ. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الصُّلْحِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِ مِنَ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لأِنَّهُ  إِذَا حَصَلَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ دَيْنًا - لأِنَّ  مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ - فَصَارَ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ بَدَلِ الصُّلْحِ فِي الْمَجْلِسِ لِيَخْرُجَ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَفِي اشْتِرَاطِ قَبْضِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ:

أَصَحُّهُمَا: عَدَمُ الاِشْتِرَاطِ إِلاَّ إِذَا كَانَا رِبَوِيَّيْنِ .

وَالرَّابِعِ: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ نَقْدٍ، بِأَنْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَصَالَحَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْفَعَةٍ: كَسُكْنَى دَارٍ، أَوْ رُكُوبِ دَابَّةٍ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ عَمَلاً مَعْلُومًا. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الصُّلْحِ حُكْمَ الإْجَارَةِ، وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا . 

الْقِسْمُ الثَّانِي:

الصُّلْحُ مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

وَذَلِكَ كَمَا إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ شَيْئًا، فَأَنْكَرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ صَالَحَ عَنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدِهِمَا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ -: وَهُوَ جَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى الإْنْكَارِ . بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُعْتَقِدًا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ حَقٌّ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ أَنْ لاَ حَقَّ عَلَيْهِ. فَيَتَصَالَحَانِ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ. أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَالِمًا بِكَذِبِ نَفْسِهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ فِي حَقِّهِ، وَمَا أَخَذَهُ الْعَالِمُ بِكَذِبِ نَفْسِهِ حَرَامٌ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ  مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:

أ - بِظَاهِرِ قوله تعالي : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) حَيْثُ وَصَفَ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ جِنْسَ الصُّلْحِ بِالْخَيْرِيَّةِ. مَعْلُومٌ أَنَّ الْبَاطِلَ لاَ يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ، فَكَانَ كُلُّ صُلْحٍ مَشْرُوعًا بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ .

ب - بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم  «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ» . فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي عُمُومِهِ .

ج - وَبِأَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى قَطْعِهَا فِي التَّحْقِيقِ عِنْدَ الإْنْكَارِ - إِذِ الإْقْرَارُ مُسَالَمَةٌ وَمُسَاعَدَةٌ - فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَّ مَعَ اعْتِرَافِ الْغَرِيمِ، فَلأَنْ  يَحِلَّ مَعَ جَحْدِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ إِلاَّ بِذَلِكَ أَوْلَى .

د - وَلأِنَّهُ  صَالَحَ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَيُقْضَى بِجَوَازِهِ؛ لأِنَّ  الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ فِي اعْتِقَادِهِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُؤَدِّيهِ دَفْعًا لِلشَّرِّ وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ عَنْهُ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ أَيْضًا، إِذِ الْمَالُ وِقَايَةُ الأْنْفُسِ، وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ .

هـ - وَلأِنَّ  افْتِدَاءَ الْيَمِينِ جَائِزٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُمَا بَذَلاَ مَالاً فِي دَفْعِ الْيَمِينِ عَنْهُمَا. فَالْيَمِينُ الثَّابِتَةُ لِلْمُدَّعِي حَقٌّ ثَابِتٌ لِسُقُوطِهِ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ الْمَالِ، فَجَازَ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ الْمَالُ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ، أَصْلُهُ الْقَوَدُ فِي دَمِ الْعَمْدِ .

وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الإْنْكَارِ بَاطِلٌ .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:

أ - بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ الْخُلْعَ، ثُمَّ تَصَالَحَ مَعَ زَوْجَتِهِ عَلَى شَيْءٍ، فَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ.

ب - وَبِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَالَهُ الْحَلاَلَ؛ لأِنَّهُ  يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مَا يَدَّعِيهِ، فَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً» .

ج - وَبِأَنَّ الْمُدَّعِيَ اعْتَاضَ عَمَّا لاَ يَمْلِكُهُ، فَصَارَ كَمَنْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَاوَضَ عَلَى مِلْكِهِ، فَصَارَ كَمَنِ ابْتَاعَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ وَكِيلِهِ. فَالصُّلْحُ عَلَى الإْنْكَارِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَمْلِكَ الْمُدَّعِي مَا لاَ يَمْلِكُ، وَأَنْ يَمْلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا يَمْلِكُ، وَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي كَاذِبًا. فَإِنْ كَانَ صَادِقًا انْعَكَسَ الْحَالُ.

د - وَلأِنَّهُ  عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ خَلاَ عَنِ الْعِوَضِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ؛ فَبَطَلَ كَالصُّلْحِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ.

التَّكْيِيفُ الْفِقْهِيُّ لِلصُّلْحِ عَلَى الإْنْكَارِ:

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي (بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ):

وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى الإْنْكَارِ، فَالْمَشْهُورُ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ مِنَ الصِّحَّةِ مَا يُرَاعَى فِي الْبُيُوعِ. ثُمَّ قَالَ: فَالصُّلْحُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ مَا لاَ يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ هُوَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: صُلْحٍ يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ، وَصُلْحٍ يُفْسَخُ بِاخْتِلاَفٍ، وَصُلْحٍ لاَ يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ إِنْ طَالَ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ .

وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ تَكْيِيفِهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَبَيْنَهُ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَالُوا:

يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى مَالِ الْمُصَالَحِ بِهِ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْمُدَّعِي؛ لأِنَّهُ  يَعْتَقِدُهُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ؛ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ اعْتِقَادِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَهُ الْمُدَّعِي عِوَضًا عَنْ دَعْوَاهُ شِقْصًا مَشْفُوعًا، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِشَرِيكِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ  أَخَذَهُ عِوَضًا، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ .

وَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الإْنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَلاَصًا مِنَ الْيَمِينِ وَقَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ؛ لأِنَّ  الْمُدَّعِيَ فِي زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرِ غَيْرُ مُحِقٍّ وَمُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ، وَأَنَّ إِعْطَاءَهُ الْعِوَضَ لَهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ لِلْخَلاَصِ مِنَ الْيَمِينِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُصَالِحْهُ وَيُعْطِ الْعِوَضَ لَبَقِيَ النِّزَاعُ وَلَزِمَهُ الْيَمِينُ. وَقَدْ عَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِمْ: يَكُونُ صُلْحُ الإْنْكَارِ إِبْرَاءً فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ؛ لأِنَّهُ  دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ لاَ عِوَضًا عَنْ حَقٍّ يَعْتَقِدُهُ عَلَيْهِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَوْ كَانَ مَا صَالَحَ بِهِ الْمُنْكِرُ شِقْصًا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ؛ لأِنَّ  الْمُدَّعِيَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ مُسْتَرْجِعًا لَهُ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً، بَلْ هُوَ كَاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ:

الصُّلْحُ مَعَ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

وَذَلِكَ كَمَا إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ شَيْئًا، فَسَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، ثُمَّ صَالَحَ عَنْهُ.

وَقَدِ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ - مَا عَدَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى - هَذَا الصُّلْحَ فِي حُكْمِ الصُّلْحِ عَنِ الإْنْكَارِ؛ لأِنَّ  السَّاكِتَ مُنْكِرٌ حُكْمًا. صَحِيحٌ أَنَّ السُّكُوتَ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الإْقْرَارِ، وَعَلَى الإْنْكَارِ، إِلاَّ أَنَّهُ نَظَرًا لِكَوْنِ الأْصْلِ  بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَفَرَاغَهَا، فَقَدْ تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الإْنْكَارِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي جَوَازِهِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ الإْنْكَارِ.

وَعَلَى هَذَا، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي الصُّلْحِ عَنِ السُّكُوتِ قَوْلاَنِ:  

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:

وَهُوَ جَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ، وَحُجَّتُهُمْ نَفْسُ الأْدِلَّةِ الَّتِي سَاقُوهَا عَلَى جَوَازِهِ عَنِ الإْنْكَارِ. وَقَدِ اشْتَرَطُوا فِيهِ نَفْسَ الشُّرُوطِ وَرَتَّبُوا ذَاتَ الأْحْكَامِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا فِي حَالَةِ الإْنْكَارِ.

هَذَا وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى جَوَازِهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - مَعَ إِبْطَالِهِ الصُّلْحَ عَنِ الإْنْكَارِ - حَيْثُ اعْتَبَرَهُ فِي حُكْمِ الصُّلْحِ عَلَى الإْقْرَارِ .

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَذَلِكَ لأِنَّ  جَوَازَ الصُّلْحِ يَسْتَدْعِي حَقًّا ثَابِتًا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي مَوْضِعِ السُّكُوتِ؛ إِذِ السَّاكِتُ يُعَدُّ مُنْكِرًا حُكْمًا حَتَّى تُسْمَعَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَكَانَ إِنْكَارُهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْمُدَّعِي. وَلَوْ بَذَلَ الْمَالَ لَبَذَلَهُ لِدَفْعِ خُصُومَةٍ بَاطِلَةٍ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ .

الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأْجْنَبِيِّ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ  بِالصُّلْحِ الْكَائِنِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأْجْنَبِيِّ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أَوَّلاً: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:

نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأْجْنَبِيِّ ، فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

أ - فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ الأْجْنَبِيُّ وَكِيلاً عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ، وَيَجِبُ الْمَالُ الْمُصَالَحُ بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْوَكِيلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ إِنْكَارٍ؛ لأِنَّ  الْوَكِيلَ فِي الصُّلْحِ لاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَضْمَنِ الأْجْنَبِيُّ بَدَلَ الصُّلْحِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا ضَمِنَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ لاَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ .

ب - وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَهَذَا صُلْحُ الْفُضُولِيِّ، وَلَهُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُضِيفَ الْفُضُولِيُّ الصُّلْحَ إِلَى نَفْسِهِ، كَأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْنِي عَنْ دَعْوَاكَ مَعَ فُلاَنٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيُصَالِحَهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ. فَهَذَا الصُّلْحُ صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُ بَدَلَ الصُّلْحِ الْفُضُولِيُّ، وَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ أَوْ يُضِفِ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ؛ لأِنَّ  إِضَافَةَ الْفُضُولِيِّ الصُّلْحَ إِلَى نَفْسِهِ تَنْفُذُ فِي حَقِّهِ، وَيَكُونُ قَدِ الْتَزَمَ بَدَلَ الصُّلْحِ مُقَابِلَ إِسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْفُضُولِيِّ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِبَدَلِ الصُّلْحِ الَّذِي أَدَّاهُ، طَالَمَا أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي (التُّحْفَةِ): وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا، لأِنَّ  التَّبَرُّعَ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ، بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحِيحٌ، وَالتَّبَرُّعُ بِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ عَنْ غَيْرِهِ صَحِيحٌ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ إِسْقَاطٌ لِلدَّيْنِ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ إِسْقَاطٌ لِلْخُصُومَةِ، فَيَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ .

وَالثَّانِي: أَنْ يُضِيفَ الْفُضُولِيُّ الصُّلْحَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: تَصَالَحْ مَعَ فُلاَنٍ عَنْ دَعْوَاكَ. وَلِهَذَا الْوَجْهِ خَمْسُ صُوَرٍ: فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا يَكُونُ الصُّلْحُ لاَزِمًا، وَفِي الْخَامِسَةِ مِنْهَا يَكُونُ مَوْقُوفًا.

وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِمَّا أَنْ يَضْمَنَ بَدَلَ الصُّلْحِ أَوْ لاَ يَضْمَنَ، وَإِذَا لَمْ يَضْمَنْ، فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ أَوْ لاَ يُضِيفَهُ. وَإِذَا لَمْ يُضِفْهُ، فَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إِلَى نَقْدٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ لاَ يُشِيرَ. وَإِذَا لَمْ يُشِرْ، فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ أَوْ لاَ يُسَلِّمَ. فَالصُّوَرُ خَمْسٌ هِيَ:

الصُّورَةُ الأْولَى: أَنْ يَضْمَنَ الْفُضُولِيُّ بَدَلَ الصُّلْحِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْفُضُولِيُّ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْ فُلاَنًا عَنْ دَعْوَاكَ مَعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ وَقَبِلَ الْمُدَّعِي تَمَّ الصُّلْحُ وَصَحَّ؛ لأِنَّهُ  فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ سِوَى الْبَرَاءَةِ، فَكَمَا أَنَّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى بَرَاءَتِهِ بِنَفْسِهِ، فَلِلأْجْنَبِيِّ - أَيْضًا - أَنْ يَحْصُلَ عَلَى بَرَاءَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ الْفُضُولِيَّ بَدَلُ الصُّلْحِ بِسَبَبِ عَقْدِهِ الصُّلْحَ - مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ سَفِيرًا - إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ بِسَبَبِ ضَمَانِهِ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ يَضْمَنَ الْفُضُولِيُّ بَدَلَ الصُّلْحِ إِلاَّ أَنَّهُ يُضِيفُهُ إِلَى مَالِهِ، كَأَنْ يَقُولَ الْفُضُولِيُّ: قَدْ صَالَحْتُ عَلَى مَالِي الْفُلاَنِيِّ، أَوْ عَلَى فَرَسِي هَذِهِ، أَوْ عَلَى دَرَاهِمِي هَذِهِ الأْلْفِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ  الْمُصَالِحَ الْفُضُولِيَّ بِإِضَافَةِ الصُّلْحِ إِلَى مَالِهِ يَكُونُ قَدِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَدِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ صَحَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَ الْفُضُولِيَّ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ.

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُشِيرَ إِلَى الْعُرُوضِ أَوِ النُّقُودِ الْمَوْجُودَةِ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ هَذَا الْمَبْلَغُ، أَوْ هَذِهِ السَّاعَةُ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ  بَدَلَ الصُّلْحِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَدْ تَعَيَّنَ تَسْلِيمُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِهِ وَبِذَلِكَ تَمَّ الصُّلْحُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ: هُوَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ فِي الثَّانِيَةِ قَدْ أَضَافَ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ، أَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَبَدَلُ الصُّلْحِ مَعَ كَوْنِهِ مَالَهُ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ.

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ: صَالَحْتُ عَلَى كَذَا، وَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلاَ مُضِيفًا إِلَى مَالِهِ وَلاَ مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ، وَسَلَّمَ الْمَبْلَغَ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ  تَسْلِيمَ بَدَلِ الصُّلْحِ يُوجِبُ بَقَاءَ الْبَدَلِ الْمَذْكُورِ سَالِمًا لِلْمُدَّعِي، وَيَسْتَلْزِمُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ بِتَمَامِ الْعَقْدِ، فَصَارَ فَوْقَ الضَّمَانِ وَالإْضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ.

وَعَلَى ذَلِكَ: إِذَا حَصَلَ لِلْمُدَّعِي عِوَضٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَتَمَّ رِضَاؤُهُ بِهِ بَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْفُضُولِيِّ الْمُصَالِحِ مِنَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ.

وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَصْرِ لُزُومِ التَّسْلِيمِ فِي الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ أَنَّ تَسْلِيمَ بَدَلِ الصُّلْحِ فِي الصُّورَتَيْنِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصُّلْحِ، فَيَصِحُّ فِيهِمَا وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ التَّسْلِيمُ، وَيُجْبَرُ الْفُضُولِيُّ عَلَى التَّسْلِيمِ.

هَذَا وَحَيْثُ صَحَّ الصُّلْحُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الأْرْبَعِ، فَإِنَّ الْفُضُولِيَّ الْمُصَالِحَ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْبَدَلِ؛ لأِنَّهُ  أَجْرَى هَذَا الْعَقْدَ بِلاَ أَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُطْلِقَ الْفُضُولِيُّ بِقَوْلِهِ لِلْمُدَّعِي: أُصَالِحُكَ عَنْ دَعْوَاكَ هَذِهِ مَعَ فُلاَنٍ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلاَ يَكُونُ ضَامِنًا، وَلاَ مُضِيفًا إِلَى مَالِهِ وَلاَ مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ، ثُمَّ لاَ يُسَلِّمُ بَدَلَ الصُّلْحِ، فَصُلْحُهُ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لأِنَّ  الْمُصَالِحَ هَاهُنَا - وَهُوَ الْفُضُولِيُّ - لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ.

وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ أَجَازَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صُلْحَهُ صَحَّ؛ لأِنَّ  إِجَازَتَهُ اللاَّحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّوْكِيلِ، وَيَلْزَمُ بَدَلَ الصُّلْحِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُصَالِحِ؛ لأِنَّهُ  الْتَزَمَ هَذَا الْبَدَلَ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَخْرُجُ الأْجْنَبِيُّ الْفُضُولِيُّ مِنْ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الصُّلْحَ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ؛ لأِنَّهُ  لاَ يَجِبُ الْمَالُ عَلَيْهِ وَالْمُدَّعَى بِهِ لاَ يَسْقُطُ.

وَلاَ فَرْقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَدَلُ الصُّلْحِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا؛ لأِنَّ  الْمُصَالِحَ الْفُضُولِيَّ لَمْ يُضِفْ بَدَلَ الصُّلْحِ لِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ فَلاَ يَلْزَمُهُ الْبَدَلُ الْمَذْكُورُ 

ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ غَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُصَالِحَ رَجُلٌ عَلَى دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَيَلْزَمُ الْمُصَالِحَ مَا صَالَحَ بِهِ. جَاءَ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) فِي بَابِ الصُّلْحِ: وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: هَلُمَّ أُصَالِحُكَ مِنْ دَيْنِكَ الَّذِي عَلَى فُلاَنٍ بِكَذَا، فَفَعَلَ، أَوْ أَتَى رَجُلٌ رَجُلاً فَصَالَحَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ بِشَيْءٍ مُسَمًّى لَزِمَ الزَّوْجَ الصُّلْحُ، وَلَزِمَ الْمُصَالِحَ مَا صَالَحَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: أَنَا ضَامِنٌ؛ لأِنَّهُ  إِنَّمَا قَضَى عَنِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مِمَّا يَحِقُّ عَلَيْهِ .

ثَالِثًا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلصُّلْحِ الْجَارِي بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأْجْنَبِيِّ حَالَتَيْنِ:  

الأْولَى: مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

وَفِي هَذِهِ الْحَالِ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا.

أ - فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، وَقَالَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ عَنْ بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، أَوْ عَنْ كُلِّهَا بِعَيْنٍ مِنْ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَصَالَحَا عَلَيْهِ، صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ  دَعْوَى الإْنْسَانِ الْوَكَالَةَ فِي الْمُعَامَلاَتِ مَقْبُولَةٌ. ثُمَّ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الأْجْنَبِيُّ صَادِقًا فِي الْوَكَالَةِ، صَارَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ مِلْكًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِلاَّ كَانَ فُضُولِيًّا وَلَمْ يَصِحَّ صُلْحُهُ، لِعَدَمِ الإْذْنِ فِيهِ، كَشِرَاءِ الْفُضُولِيِّ.

وَلَوْ صَالَحَهُ الْوَكِيلُ عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْوَكِيلِ، أَوْ عَلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ كَشِرَائِهِ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَيَقَعُ لِلآْذِنِ، فَيَرْجِعُ الْمَأْذُونُ عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا؛ لأِنَّ  الْمَدْفُوعَ قَرْضٌ لاَ هِبَةٌ.

أَمَّا لَوْ صَالَحَ عَنِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ لِنَفْسِهِ بِعَيْنٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ لِلأْجْنَبِيِّ، وَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَجْرِ مَعَ الأْجْنَبِيِّ خُصُومُهُ؛ لأِنَّ  الصُّلْحَ تَرَتَّبَ عَلَى دَعْوَى وَجَوَابٍ.

ب - وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ صَالَحَهُ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْنِي عَلَى الأْلْفِ الَّذِي لَكَ عَلَى فُلاَنٍ بِخَمْسِمِائَةٍ صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّهُ  إِنْ كَانَ قَدْ وَكَّلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَدْ قَضَى دَيْنَهُ بِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ فَقَدْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ لَهُ الأْجْنَبِيُّ: وَكَّلَنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُصَالَحَتِكَ عَلَى نِصْفِهِ، أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ هَذَا، فَصَالَحَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: صَالِحْنِي عَنْ هَذَا الدَّيْنِ لِيَكُونَ لِي فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ - بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ.

أَحَدُهُمَا: لاَ يَصِحُّ؛ لأِنَّهُ  لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: يَصِحُّ كَمَا لَوِ اشْتَرَى وَدِيعَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

وَفِي هَذِهِ الْحَالِ - أَيْضًا - فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا.

أ - فَإِنْ كَانَ عَيْنًا، وَصَالَحَهُ الأْجْنَبِيُّ عَنِ الْمُنْكِرِ ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ: أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدِي وَوَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُظْهِرُ إِقْرَارَهُ لِئَلاَّ تَنْتَزِعَهُ مِنْهُ، فَصَالَحَهُ صَحَّ ذَلِكَ؛ لأِنَّ  دَعْوَى الإْنْسَانِ الْوَكَالَةَ فِي الْمُعَامَلاَتِ مَقْبُولَةٌ . قَالَ الشِّيرَازِيُّ: لأِنَّ  الاِعْتِبَارَ بِالْمُتَعَاقِدِينَ، وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى مَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَجَازَ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ مَلَكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعَيْنَ؛ لأِنَّهُ  ابْتَاعَهُ لَهُ وَكِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ لَمْ يَمْلِكِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعَيْنَ؛ لأِنَّهُ  ابْتَاعَ لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ .

وَلَوْ قَالَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: هُوَ مُنْكِرٌ، غَيْرَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ عَلَى دَارِي هَذِهِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا فَلاَ يَصِحُّ عَلَى الأْصَحِّ؛ لأِنَّهُ  صُلْحُ إِنْكَارٍ .

وَإِنْ صَالَحَ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: هُوَ مُبْطِلٌ فِي إِنْكَارِهِ؛ لأِنَّ كَ صَادِقٌ عِنْدِي، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِدَارِي هَذِهِ أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي فَهُوَ كَشِرَاءِ الْمَغْصُوبِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى انْتِزَاعِهِ فَيَصِحُّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ انْتِزَاعِهِ فَلاَ يَصِحُّ .

ب - وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا: وَقَالَ الأْجْنَبِيُّ: أَنْكَرَ الْخَصْمُ وَهُوَ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ بِدَابَّتِي هَذِهِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا، فَقَبِلَ صَحَّ الصُّلْحُ، إِذْ لاَ يَتَعَذَّرُ قَضَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ، بِخِلاَفِ تَمْلِيكِ الْغَيْرِ عَيْنَ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ.

وَإِنْ صَالَحَهُ عَنِ الدَّيْنِ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: هُوَ مُنْكِرٌ، وَلَكِنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِدَابَّتِي هَذِهِ أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي لآِخُذَهُ مِنْهُ فَلاَ يَصِحُّ؛ لأِنَّهُ  ابْتِيَاعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ .

رَابِعًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:

تَكَلَّمَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ صُلْحِ الأْجْنَبِيِّ  مَعَ الْمُدَّعِي فِي حَالَةِ الإْنْكَارِ فَقَطْ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِصُلْحِهِ فِي حَالَةِ الإْقْرَارِ، وَقَالُوا:

أ - إِنَّ صُلْحَ الأْجْنَبِيِّ  عَنِ الْمُنْكِرِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ:

فَإِنْ صَالَحَ عَنْ مُنْكِرٍ لِعَيْنٍ بِإِذْنِهِ، أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ صَحَّ الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى الْمُنْكِرِ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِصِحَّتِهَا، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الأْجْنَبِيُّ أَنَّ الْمُنْكِرَ وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ؛ لأِنَّهُ  افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنَ الْخُصُومَةِ وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلاَ يَرْجِعُ الأْجْنَبِيُّ بِشَيْءٍ مِمَّا صَالَحَ بِهِ عَلَى الْمُنْكِرِ إِنْ دَفَعَ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لأِنَّهُ  أَدَّى عَنْهُ مَا لاَ يَلْزَمُهُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ. أَمَّا إِذَا صَالَحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ فَهُوَ وَكِيلُهُ، وَالتَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ.

وَإِنْ صَالَحَ عَنْ مُنْكِرٍ لِدَيْنٍ بِإِذْنِهِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ، صَحَّ الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ؛ لأِنَّ  قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّ «عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ - رضي الله عنهما - قَضَيَا الدَّيْنَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَأَقَرَّهُمَا النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم » ، وَلَوْ لَمْ يَقُلِ الأْجْنَبِيُّ إِنَّ الْمُنْكِرَ وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ؛ لأِنَّهُ  افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنَ الْخُصُومَةِ، وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلاَ يَرْجِعُ الأْجْنَبِيُّ عَلَى الْمُنْكِرِ بِشَيْءٍ مِمَّا صَالَحَ بِهِ إِنْ دَفَعَ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لأِنَّهُ  أَدَّى عَنْهُ مَا لاَ يَلْزَمُهُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ. فَإِنْ أَذِنَ الْمُنْكِرُ لِلأْجْنَبِيِّ فِي الصُّلْحِ، أَوِ الأْدَاءِ عَنْهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَى عَنْهُ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ .

ب - وَإِنْ صَالَحَ الأْجْنَبِيُّ الْمُدَّعِيَ لِنَفْسِهِ، لِتَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لَهُ فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، أَوْ لاَ يَعْتَرِفَ لَهُ:

فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلاً؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَى مِنَ الْمُدَّعِي مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ خُصُومَةٌ يَفْتَدِي مِنْهَا، أَشْبَهَ مَا لَوِ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَ غَيْرِهِ.

وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ وَصَالَحَ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى بِهِ دَيْنٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَى مَا لاَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ وَلأِنَّهُ  بَيْعٌ لِلدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِذَا كَانَ بَيْعُ الدَّيْنِ الْمُقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ لاَ يَصِحُّ؛ فَبَيْعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ مُنْكِرٍ مَعْجُوزٍ عَنْ قَبْضِهِ مِنْهُ أَوْلَى.

وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا، وَعَلِمَ الأْجْنَبِيُّ عَجْزَهُ عَنِ اسْتِنْقَاذِهَا مِنْ مُدَّعًى عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَى مَا لاَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَشِرَاءِ الشَّارِدِ. وَإِنْ ظَنَّ الأْجْنَبِيُّ الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا صَحَّ؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَى مِنْ مَالِكٍ مِلْكَهُ الْقَادِرَ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ، أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الْمَقْدِرَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ  الْبَيْعَ تَنَاوَلَ مَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ظَنُّ عَدَمِهِ.

ثُمَّ إِنْ عَجَزَ الأْجْنَبِيُّ بَعْدَ الصُّلْحِ ظَانًّا الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا خُيِّرَ الأْجْنَبِيُّ بَيْنَ فَسْخِ الصُّلْحِ - وَلأِنَّهُ  لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى بَدَلِهِ - وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الصُّلْحِ؛ لأِنَّ  الْحَقَّ لَهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى انْتِزَاعِهِ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ .

ج - وَإِنْ قَالَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِكَ عَنِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَكَ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَجْحَدُكَ فِي الظَّاهِرِ فَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ: لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّهُ  يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ لِيَنْتَقِصَ الْمُدَّعِي بَعْضَ حَقِّهِ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ؛ فَهُوَ هَاضِمٌ لِلْحَقِّ يَتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَافَهَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ صِحَّةَ دَعْوَاكَ، وَأَنَّ هَذَا لَكَ، وَلَكِنْ لاَ أُسَلِّمُهُ إِلَيْكَ وَلاَ أُقِرُّ لَكَ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَتَّى تُصَالِحَنِي مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ أَوْ عِوَضٍ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ. ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَلَكَ الْعَيْنَ، وَلَزِمَهُ مَا أَدَّى عَنْهُ وَرَجَعَ الأْجْنَبِيُّ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ إِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الإْذْنَ فِي الدَّفْعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا بِلاَ إِذْنِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَكَالَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ رُجُوعَ لِلأْجْنَبِيِّ عَلَيْهِ وَلاَ يَحْكُمُ لَهُ بِمِلْكِهَا؛ ثُمَّ إِنْ كَانَ الأْجْنَبِيُّ قَدْ وَكَّلَ فِي الشِّرَاءِ، فَقَدْ مَلَكَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَاطِنًا؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَاهَا بِإِذْنِهِ فَلاَ يَقْدَحُ إِنْكَارُهُ فِي مِلْكِهَا؛ لأِنَّ  مِلْكَهُ ثَبَتَ قَبْلَ إِنْكَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ بِالإْنْكَارِ لِلأْجْنَبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ لَمْ يَمْلِكْهَا؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَى لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

وَلَوْ قَالَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: قَدْ عَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صِحَّةَ دَعْوَاكَ، وَيَسْأَلُكَ الصُّلْحَ عَنْهُ، وَكَّلَنِي فِيهِ فَصَالَحَهُ صَحَّ؛ لأِنَّهُ  هَاهُنَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَدَائِهِ، بَلِ اعْتَرَفَ بِهِ وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ مَعَ بَذْلِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجْحَدْهُ .

أَرْكَانُ الصُّلْحِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلصُّلْحِ رُكْنًا وَاحِدًا: وَهُوَ الصِّيغَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ الدَّالَّةُ عَلَى التَّرَاضِي. وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - حَيْثُ عَدُّوا أَرْكَانَ الصُّلْحِ ثَلاَثَةً:

1 - الصِّيغَةُ.

وَالْعَاقِدَانِ.

3 - وَالْمَحَلُّ. (وَهُوَ الْمُصَالَحُ بِهِ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ). انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَقْد).

شُرُوطُ الصُّلْحِ:

لِلصُّلْحِ شُرُوطٌ يَلْزَمُ تَحَقُّقُهَا لِوُجُودِهِ، وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ، مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الصِّيغَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْعَاقِدَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَدَلُ الصُّلْحِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصِّيغَةِ:

الْمُرَادُ بِالصِّيغَةِ: الإْيجَابُ  وَالْقَبُولُ الدَّالَّيْنِ عَلَى التَّرَاضِي. مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنْ كَذَا عَلَى كَذَا، أَوْ مِنْ دَعْوَاكَ كَذَا عَلَى كَذَا، وَيَقُولَ الآْخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ وَرِضَاهُ. فَإِذَا وُجِدَ الإْيجَابُ  وَالْقَبُولُ فَقَدْ تَمَّ الصُّلْحُ .

هَذَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الصُّلْحِ لِبَيَانِ الشُّرُوطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيغَتِهِ؛ نَظَرًا لاِعْتِبَارِهِمْ عَقْدَ الصُّلْحِ غَيْرَ قَائِمٍ بِذَاتِهِ، بَلْ تَابِعًا لأَقْرَبِ الْعُقُودِ بِهِ فِي الشَّرَائِطِ وَالأْحْكَامِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ بَيْعًا إِذَا كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، وَهِبَةً إِذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، وَإِبْرَاءً إِذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، اكْتِفَاءً مِنْهُمْ بِذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنْ شُرُوطٍ وَأَحْكَامٍ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ الَّتِي يَلْحَقُ بِهَا الصُّلْحُ، بِحَسَبِ مَحَلِّهِ وَمَا تَصَالَحَا عَلَيْهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى صِيغَةِ الصُّلْحِ بِصُورَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي بَابِهِ، وَأَتَوْا عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ شُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَسَكَتُوا عَنِ الْبَعْضِ الآْخَرِ، اكْتِفَاءً بِمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ تَفْصِيلاَتٍ تَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ فِي أَبْوَابِ الْبَيْعِ وَالإْجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالإْبْرَاءِ، الَّتِي يَأْخُذُ الصُّلْحُ أَحْكَامَهَا بِحَسَبِ أَحْوَالِهِ وَصُوَرِهِ.

أَمَّا كَلاَمُهُمْ فِي بَابِ الصُّلْحِ عَنْ صِيغَتِهِ وَشُرُوطِهَا: فَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصُّلْحِ حُصُولُ الإْيجَابِ  مِنَ الْمُدَّعِي عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ بِدُونِ إِيجَابٍ مُطْلَقًا. أَمَّا الْقَبُولُ، فَيُشْتَرَطُ فِي كُلِّ صُلْحٍ يَتَضَمَّنُ الْمُبَادَلَةَ بَعْدَ الإْيجَابِ .

ثُمَّ قَالُوا: تُسْتَعْمَلُ صِيغَةُ الْمَاضِي فِي الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ، وَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِصِيغَةِ الأْمْرِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالِحْنِي عَلَى الدَّارِ الَّتِي تَدَّعِيهَا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِقَوْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُ؛ لأِنَّ  طَرَفَ الإْيجَابِ  كَانَ عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ الصُّلْحِ، وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلإْيجَابِ، فَقَوْلُ الطَّرَفِ الآْخَرِ: قَبِلْتُ، لاَ يَقُومُ مَقَامَ الإْيجَابِ . أَمَّا إِذَا قَالَ الْمُدَّعِي ثَانِيًا: قَبِلْتُ. فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ.

وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ:

إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ:

كَالْعَقَارَاتِ، وَالأْرَاضِي، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَنَحْوِهَا فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَ الإْيجَابِ  لِصِحَّةِ الصُّلْحِ؛ لأِنَّ  الصُّلْحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَكُونُ إِسْقَاطًا حَتَّى يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ وَحْدَهَا، وَسَبَبُ عَدَمِ كَوْنِهِ إِسْقَاطًا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَرَيَانِ الإْسْقَاطِ  فِي الأْعْيَانِ.

وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا عَلَى جِنْسٍ آخَرَ، فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ - أَيْضًا - سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَوْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ: كَالنَّقْدَيْنِ، وَمَا فِي حُكْمِهِمَا.

وَسَبَبُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ: أَنَّ الصُّلْحَ فِيهِمَا مُبَادَلَةٌ، وَفِي الْمُبَادَلَةِ يَجِبُ الْقَبُولُ، وَلاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ.

أَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِالإْيجَابِ  وَحْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ بَعْضِ الْحُقُوقِ، فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالإْيجَابِ ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ.

وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ وَالْمُصَالَحِ بِهِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَهُمَا لاَ يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ، فَهَاهُنَا يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الدَّائِنِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَدِينِ؛ لأِنَّ  هَذَا الصُّلْحَ عِبَارَةٌ عَنْ إِسْقَاطِ بَعْضِ الْحَقِّ، وَالإْسْقَاطُ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، بَلْ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الْمُسْقِطِ.

فَمَثَلاً: لَوْ قَالَ الدَّائِنُ لِلْمَدِينِ: صَالَحْتُكَ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِكَ لِي مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ فَيَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِمُجَرَّدِ الإْيجَابِ ، وَلاَ يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَدِينِ، وَيَلْزَمُ الصُّلْحُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ الدَّيْنُ. إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ الْمُدَّعِيَ؛ لأِنَّهُ  لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُوجِبَ، فَيُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمُدَّعِي؛ سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، أَمْ عَمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَذَلِكَ لأِنَّ  هَذَا الصُّلْحَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِسْقَاطًا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْقِطُ الْمُدَّعِيَ أَوِ الدَّائِنَ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ سُقُوطُ حَقِّهِ بِدُونِ قَبُولِهِ وَرِضَاهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَاوَضَةً، وَفِي الْمُعَاوَضَةِ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ مَعًا. أَمَّا فِي الصُّلْحِ عَمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ الَّذِي يَقَعُ عَلَى عَيْنِ الْجِنْسِ، فَيَقُومُ طَلَبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الصُّلْحَ مَقَامَ الْقَبُولِ .

الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الصُّلْحِ بِالتَّعَاطِي إِذَا كَانَتْ قَرَائِنُ الْحَالِ دَالَّةً عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِهِ، كَمَا لَوْ أَعْطَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالاً لِلْمُدَّعِي لاَ يَحِقُّ لَهُ أَخْذُهُ وَقَبَضَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ الْمَالَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّيْنَ، وَأَعْطَى الْمُدَّعِي شَاةً وَقَبَضَهَا الْمُدَّعِي مِنْهُ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي، وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ الاِدِّعَاءُ بِالأْلْفِ دِرْهَمٍ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتِرْدَادُ تِلْكَ الشَّاةِ.

أَمَّا إِذَا أَعْطَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بَعْضَ الْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْمُدَّعِي حَقُّ أَخْذِهِ وَقَبَضَهُ الْمُدَّعِي، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا كَلاَمٌ يَدُلُّ عَلَى الصُّلْحِ فَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي، وَلِلْمُدَّعِي طَلَبُ بَاقِي الدَّيْنِ؛ لأِنَّ  أَخْذَ الْمُدَّعِي بَعْضًا مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ اسْتِيفَاءَ بَعْضِ حَقِّهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْمِقْدَارِ الَّذِي أَخَذَهُ وَعَدَلَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَاقِي، وَالْحَقُّ لاَ يَسْقُطُ بِالشَّكِّ .

الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاقِدَيْنِ:

-وَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الأْهْلِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْوِلاَيَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِلتَّرَاضِي. انْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ: (أَهْلِيَّة، تَرَاضِي، عَقْد، وِلاَيَة).

الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصَالَحِ عَنْهُ:

الْمُصَالَحُ عَنْهُ: هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: حَقُّ اللَّهِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ.

أَمَّا حَقُّ اللَّهِ: فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنْهُ. وَعَلَى ذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، بِأَنْ صَالَحَ زَانِيًا أَوْ سَارِقًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ شَارِبَ خَمْرٍ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ لاَ يَرْفَعَهُ إِلَى وَلِيِّ الأْمْرِ؛ لأِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ، وَيَقَعُ بَاطِلاً؛ لأِنَّ الْمُصَالِحَ بِالصُّلْحِ مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، إِمَّا بِاسْتِيفَاءِ كُلِّ حَقِّهِ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي، أَوْ بِالْمُعَاوَضَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ.

وَكَذَا إِذَا صَالَحَ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ، بِأَنْ قَذَفَ رَجُلاً، فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ؛ لأِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ، فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَغْلُوبُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ شَرْعًا، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ لاَ تَحْتَمِلُ الصُّلْحَ، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي حُكْمِهَا. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: قَذْف).

وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ شَاهِدًا يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ لِيَكْتُمَ شَهَادَتَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لأِنَّ الشَّاهِدَ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسِبٌ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) وَالصُّلْحُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ بَاطِلٌ.

وَإِذَا بَطَلَ الصُّلْحُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ؛ لأِنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلاَ يَحِلُّ لأِحَدٍ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ إِلاَّ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ.

وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ: فَهُوَ الَّذِي يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ شُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَشُرُوطُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةٌ:.

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْمُصَالِحِ فِي الْمَحَلِّ:

وَعَلَى ذَلِكَ: فَمَا لاَ يَكُونُ حَقًّا لَهُ، أَوْ لاَ يَكُونُ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَلِّ لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُلُ، فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لأِنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لاَ حَقُّهَا، فَلاَ تَمْلِكُ الاِعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ غَيْرِهَا؛ وَلأِنَّ الصُّلْحَ إِمَّا إِسْقَاطٌ أَوْ مُعَاوَضَةٌ، وَالنَّسَبُ لاَ يَحْتَمِلُهُمَا.

وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الشَّفِيعُ مِنَ الشُّفْعَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَى شَيْءٍ، عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الدَّارَ لِلْمُشْتَرِي فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لأَنَّهُ لاَ حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي الْمَحَلِّ، إِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوِلاَيَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي فَلاَ يَحْتَمِلُ الصُّلْحَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ - فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ الصُّلْحُ عَنِ الشُّفْعَةِ. (ر: شُفْعَة - إِسْقَاط.)

وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ الْمَكْفُولَ لَهُ عَلَى مَالٍ، عَلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لأِنَّ الثَّابِتَ لِلطَّالِبِ قِبَلَ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ وِلاَيَةِ الْمُطَالَبَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهَا كَالشُّفْعَةِ.

أَمَّا لَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالاً وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي، فَطَلَبَ مِنْهُ الْيَمِينَ فَصَالَحَ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لاَ يَسْتَحْلِفَهُ جَازَ الصُّلْحُ وَبَرِئَ مِنَ الْيَمِينِ، بِحَيْثُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَعُودَ إِلَى اسْتِحْلاَفِهِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي وَجَبَتْ لَكَ عَلَيَّ. أَوْ قَالَ: افْتَدَيْتُ مِنْكَ يَمِينَكَ بِكَذَا وَكَذَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُدَّعِي؛ لأِنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ - وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْمُدَّعِي فِي زَعْمِهِ - فَكَانَ الصُّلْحُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ الْمُدَّعِي، وَفِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَالِ لإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ وَالاِفْتِدَاءِ عَنِ الْيَمِينِ. قَالَهُ الْكَاسَانِيُّ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَرْأَةِ نِكَاحًا فَحَجَّتْهُ، وَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ هَذَا الصُّلْحُ؛ لأِنَّ النِّكَاحَ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي حَسَبَ زَعْمِهِ، فَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ لَهُ، وَالدَّافِعُ يَقْطَعُ بِهِ الْخُصُومَةَ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِحُّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ:

أَيْ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ أَوْ لاَ يَجُوزُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَالاً أَوْ غَيْرَ مَالٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ: فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ قَوَدِ نَفْسٍ وَدُونِهَا، وَعَنْ سُكْنَى دَارٍ وَنَحْوِهَا، وَعَنْ عَيْبٍ فِي عِوَضٍ أَوْ مُعَوَّضٍ؛ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ.

وَمَتَى صَالَحَ عَمَّا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ أَقَلَّ جَازَ لقوله تعالي( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) أَيْ: أُعْطَى لَهُ.

كَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: فَلْيَتْبَعْ «مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الأْمْرِ» فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَلِيَّ بِالاِتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُعْطِيَ لَهُ شَيْءٌ، وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَلأِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ، وَيَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ مَجَّانًا، فَكَذَا تَعْوِيضًا لاِشْتِمَالِهِ عَلَى الأْوْصَافِ الْجَمِيلَةِ مِنْ إِحْسَانِ الْوَلِيِّ، وَإِحْيَاءِ الْقَاتِلِ. وَالْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ سَوَاءٌ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ، فَيُفَوَّضُ إِلَى اصْطِلاَحِهِمَا، كَالْخُلْعِ عَلَى مَالٍ.

أَمَّا إِذَا صَالَحَ عَنْ قَتْلِ الْخَطَأِ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا غَيْرَ مِثْلِيٍّ لِغَيْرِهِ، فَصَالَحَ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا، وَذَلِكَ لأَنَّ الدِّيَةَ وَالْقِيمَةَ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ مُقَدَّرَةً، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ جِنْسِهَا الثَّابِتَةِ عَنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ؛ وَلأِنَّهُ إِذَا أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَقَّهُ وَزِيَادَةً لاَ مُقَابِلَ لَهَا، فَيَكُونُ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.

فَأَمَّا إِذَا صَالَحَهُ عَلَى غَيْرِ جِنْسِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا، فَيَجُوزُ؛ لأِنَّهُ بَيْعٌ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ؛ وَلأِنَّهُ لاَ رِبَا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ فَصَحَّ.

وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ: لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، مِثْلُ أَنْ يُصَالِحَ امْرَأَةً عَلَى مَالٍ لِتُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لأِنَّهُ صُلْحٌ يُحِلُّ حَرَامًا؛ وَلأِنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ بَذْلَ نَفْسِهَا بِعِوَضٍ لَمْ يَجُزْ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِهِ أَوْ فِي مَدَاهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدِهَا لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنِ الْمَجْهُولِ.

قَالَ الإْمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي «الأْمِّ».

أَصْلُ الصُّلْحِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، فَمَا جَازَ فِي الْبَيْعِ جَازَ فِي الصُّلْحِ، وَمَا لَمْ يَجُزْ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ فِي الصُّلْحِ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ. وَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عِنْدِي إِلاَّ عَلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ، كَمَا لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ إِلاَّ عَلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه -: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً». وَمِنَ الْحَرَامِ الَّذِي يَقَعُ فِي الصُّلْحِ أَنْ يَقَعَ عِنْدِي عَلَى الْمَجْهُولِ الَّذِي لَوْ كَانَ بَيْعًا كَانَ حَرَامًا.

هَذَا، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنِ الْمُجْمَلِ عِنْدَهُمْ، فَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا مُجْمَلاً فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ وَصَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى عِوَضٍ، صَحَّ الصُّلْحُ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا إِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا لَهُمَا فَيَصِحُّ الصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَاهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ الشَّيْءَ الَّذِي نَعْرِفُهُ أَنَا وَأَنْتَ بِكَذَا فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ صَحَّ.

وَالثَّانِي لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ مَعْلُومًا إِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى التَّسْلِيمِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَطْلُوبَ التَّسْلِيمِ اشْتَرَطَ كَوْنَهُ مَعْلُومًا لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى الْمُنَازَعَةِ.

جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ: إِذَا ادَّعَى حَقًّا فِي دَارِ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَمِّ، فَاصْطَلَحَا عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ يُعْطِيهِ الْمُدَّعِي لِيُسَلِّمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي لاَ يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ؛ لأِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارَ ذَلِكَ لاَ يَدْرِي مَاذَا يُسَلِّمُ إِلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَحْتَاجُ التَّسْلِيمَ - كَتَرْكِ الدَّعْوَى مَثَلاً - فَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَعْلُومًا؛ لأِنَّ جَهَالَةَ السَّاقِطِ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ هَاهُنَا سَاقِطٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الإِْبْرَاءِ عَنِ الْمَجْهُولِ، وَهُوَ جَائِزٌ. قَالَ الإْسْبِيجَابِيُّ: لأِنَّ الْجَهَالَةَ لاَ تُبْطِلُ الْعُقُودَ لِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا تُبْطِلُ الْعُقُودَ لِمَعْنًى فِيهَا، وَهُوَ وُقُوعُ الْمُنَازَعَةِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْتَغْنَى عَنْ قَبْضِهِ وَلاَ تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي ثَانِي الْحَالِ فِيهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضِهِ، وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي ثَانِي الْحَالِ عِنْدَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ لَمْ يَجُزْ.

وَالثَّالِثِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ. وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَذَّرُ.

فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنْهُ.

قَالَ الْحَنَابِلَةُ: سَوَاءٌ أَكَانَ عَيْنًا أَمْ دَيْنًا، وَسَوَاءٌ جَهِلاَهُ أَوْ جَهِلَهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُصَالَحُ بِهِ حَالًّا أَوْ نَسِيئَةً، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ.

أ - بِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنهما - قَالَتْ: «جَاءَ رَجُلاَنِ مِنَ الأْنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دُرِسَتْ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ أَوْ قَدْ قَالَ: لِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، يَأْتِي بِهَا إِسْطَامًا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَبَكَى الرَّجُلاَنِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقِّي لأِخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمأَمَّا إِذْ قُلْتُمَا، فَاذْهَبَا، فَاقْتَسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ لِيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ».

ب - وَلأِنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ كَالطَّلاَقِ لِلْحَاجَةِ.

ح - وَلأِنَّهُ إِذَا صَحَّ الصُّلْحُ مَعَ الْعِلْمِ وَإِمْكَانِ أَدَاءِ الْحَقِّ بِعَيْنِهِ فَلأَنْ يَصِحَّ مَعَ الْجَهْلِ أَوْلَى. وَذَلِكَ لأِنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَهُمَا طَرِيقٌ إِلَى التَّخَلُّصِ وَبَرَاءَةِ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِدُونِهِ، وَمَعَ الْجَهْلِ لاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ لأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى ضَيَاعِ الْحَقِّ، أَوْ بَقَاءِ شَغْلِ الذِّمَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَالٌ لاَ يَعْرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَذَّرُ عِلْمَهُ، كَتَرِكَةٍ بَاقِيَةٍ، صَالَحَ الْوَرَثَةُ الزَّوْجَةَ عَنْ حِصَّتِهَا مِنْهَا مَعَ الْجَهْلِ بِهَا. فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ لَهُ: لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ إِلاَّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: يَصِحُّ لِقَطْعِ النِّزَاعِ.

الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصَالَحِ بِهِ:

 - الْمُصَالَحُ بِهِ، أَوِ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ: هُوَ بَدَلُ الصُّلْحِ. وَشُرُوطُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ اثْنَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَالاً مُتَقَوِّمًا:

وَعَلَى ذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَصَيْدِ الإْحْرَامِ وَالْحَرَمِ، وَذَلِكَ لأِنَّ فِي الصُّلْحِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، فَمَا لاَ يَصِحُّ عِوَضًا فِي الْبِيَاعَاتِ لاَ يَصِحُّ جَعْلُهُ بَدَلَ صُلْحٍ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً.

فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ رُكُوبِ دَابَّةٍ وَقْتًا مَعْلُومًا صَحَّ ذَلِكَ. قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الأْصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَمَا لاَ فَلاَ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:

وَعَلَى ذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ بِمَجْهُولٍ لَمْ يَصِحَّ؛ تَسْلِيمُهُ وَاجِبٌ

وَالْجَهْلُ يَمْنَعُهُ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُصَالَحِ بِهِ مَعْلُومًا إِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ؛ لأَِنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ تُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ شَيْئًا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ فَلاَ يُشْتَرَطُ مَعْلُومِيَّتُهُ، مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ حَقًّا فِي دَارِ رَجُلٍ، وَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا فِي أَرْضٍ بِيَدِ الْمُدَّعِي فَاصْطَلَحَا عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِقْدَارَ حَقِّهِ؛ لأِنَّ جَهَالَةَ السَّاقِطِ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ. قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ لاَ تَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا، بَلْ لإِفْضَائِهَا إِلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، فَإِذَا كَانَ مَالاً يُسْتَغْنَى عَنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فِيهِ، لاَ يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ فَلاَ يَمْنَعُ الْجَوَازَ .

آثَارُ الصُّلْحِ:

قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الآْثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى انْعِقَادِ الصُّلْحِ هُوَ حُصُولُ الْبَرَاءَةِ عَنِ الدَّعْوَى وَوُقُوعُ الْمِلْكِ فِي بَدَلِ الصُّلْحِ لِلْمُدَّعِي، وَفِي الْمُصَالَحِ بِهِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، وَأَنَّ الصُّلْحَ يُعْتَبَرُ بِأَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ - إِذِ الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لاَ لِلأْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي - فَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ أَوِ الإْجَارَةِ أَوِ الإْسْقَاطِ أَخَذَ حُكْمَهُ.

وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: إِذَا تَمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ دَخَلَ بَدَلُ الصُّلْحِ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي، وَسَقَطَتْ دَعْوَاهُ الْمُصَالَحُ عَنْهَا، فَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ الاِدِّعَاءُ بِهَا ثَانِيًا، وَلاَ يَمْلِكُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتِرْدَادَ بَدَلِ الصُّلْحِ الَّذِي دَفَعَهُ لِلْمُدَّعِي.

وَجَاءَ فِي م (1556) مِنْ مَجَلَّةِ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: إِذَا تَمَّ الصُّلْحُ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ - فَقَطْ - الرُّجُوعُ، وَيَمْلِكُ الْمُدَّعِي بِالصُّلْحِ بَدَلَهُ، وَلاَ يَبْقَى لَهُ حَقٌّ فِي الدَّعْوَى، وَلَيْسَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ - أَيْضًا - اسْتِرْدَادُ بَدَلِ الصُّلْحِ.

وَأَصْلُ ذَلِكَ: أَنَّ الصُّلْحَ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، فَلِذَلِكَ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخَهُ، أَوِ الرُّجُوعَ عَنْهُ بَعْدَ تَمَامِهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتِمَّ فَلاَ حُكْمَ لَهُ وَلاَ أَثَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَلَوِ ادَّعَى أَحَدٌ عَلَى آخَرَ حَقًّا وَتَصَالَحَ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ ظَهَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ أَوِ الْمَالَ لاَ يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلاَ يَتِمُّ وَلاَ حُكْمَ لَهُ، وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتِرْدَادُ بَدَلِ الصُّلْحِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَالَحَ الْبَائِعُ مَعَ الْمُشْتَرِي عَنِ خِيَارِ الْعَيْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَدَمُ وُجُودِ الْعَيْبِ، أَوْ زَالَ الْعَيْبُ مِنْ نَفْسِهِ وَبِدُونِ مُعَالَجَةٍ أَوْ كُلْفَةٍ بَطَلَ الصُّلْحُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ بَدَلِ الصُّلْحِ الَّذِي أَخَذَهُ لِلْبَائِعِ. وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي مُبْطِلاً وَغَيْرَ مُحِقٍّ فِي دَعْوَاهُ، فَلاَ يَحِلُّ لَهُ دِيَانَةً بَدَلُ الصُّلْحِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ، وَلاَ يَطِيبُ لَهُ، مَا لَمْ يُسَلِّمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بَدَلَ الصُّلْحِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُصْبِحُ التَّمْلِيكُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ.

وَعَلَى أَسَاسِ مَا تَقَدَّمَ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَصَالِحَيْنِ بَعْدَ تَمَامِ الصُّلْحِ، فَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ فَسْخُهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ حَقًّا، فَأَنْكَرَهُ، فَصَالَحَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ الْحَقُّ بَعْدَ الصُّلْحِ بِاعْتِرَافٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي الصُّلْحِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ حَاضِرَةٌ وَلَمْ يَقُمْ بِهَا، فَالصُّلْحُ لَهُ لاَزِمٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَصَالِحَيْنِ قَدْ أَشْهَدَ قَبْلَ الصُّلْحِ إِشْهَادَ تَقِيَّةٍ: أَنَّ صُلْحَهُ إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ إِنْكَارِ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصُّلْحَ لاَ يَلْزَمُهُ إِذَا ثَبَتَ أَصْلُ حَقِّهِ.

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى انْحِلاَلِ الصُّلْحِ:

- إِذَا بَطَلَ الصُّلْحُ بَعْدَ صِحَّتِهِ، أَوْ لَمْ يَصِحَّ أَصْلاً فَيَرْجِعُ الْمُدَّعِي إِلَى أَصْلِ دَعْوَاهُ إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ. وَإِنْ كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ فَيَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى لاَ غَيْرِهِ، إِلاَّ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ إِذَا لَمْ يَصِحَّ فَإِنَّ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنْ يَصِيرَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ أَيْضًا.