دور النيابة العامة في الدعوى المدنية :
إذا كانت النيابة العامة تقوم وظيفتها أساساً على تمثيل المجتمع في الدعوى الجنائية فإنه يكون من المناسب أن يمتد هذا التمثيل الى مساهمتها في الدعوى المدنية كلما أتصلت بمصالح المجتمع حتى لا يحرم القضاء من عون ضروری أو مفيد .
ومن هنا اتجه المشروع إلى التوسع في الحالات التي تتدخل فيها النيابة العامة في الدعاوى المدنية فأجاز لها التدخل في کل دعوى تتعلق بالنظام العام او الاداب المادة 88 من المشروع وأوجب عليها هذا التدخل إذا عرضت في الدعوى مسألة من هذا القبيل ورات المحكمة مناسبة تدخل النيابة العامة فيها فأرسلت اليها ملف القضية (المادة 89 من المشروع) ، كما أجاز لها الطعن في الأحكام التي تصدر في القضايا التي يوجب القانون أو يجيز لها التدخل فيها ولو لم تكن قد تدخلت فيها وذلك إذا خالف الحكم قاعدة من قواعد النظام العام (المادة 95 من المشروع) .
ومن جهة أخرى إستحدث المشروع نظام الطعن بالنقض من النائب العام لمصلحة القانون لمواجهة صعوبات تعرض في العمل وتؤدي إلى تعارض القضاء في المسالة القانونية الواحدة ولا يكون من سبيل الى عرضها على المحكمة العليا لتقول كلمة القانون فيها فتضع حداً لتضارب الأحکام فخول النائب العام أن يطعن بطريق النقض لمصلحة القانون في الأحكام الإنتهائية أياً كانت المحكمة التي أصدرتها وذلك في الأحكام التي لا يجيز القانون للخصوم الطعن فيها وفي الأحكام التي فوت الخصوم ميعاد الطعن أو نزلوا فيها عنه على الا يفيد الخصوم من هذا الطعن (المادة 250 من المشروع) ولا يتقيد هذا الطعن بميعاد معين (المادة 252 من المشروع) .
إستحدث المشروع في المادة 250 من النائب العام لمصلحة القانون لمواجهة صعوبات تعرض في العمل وتؤدي إلى تعارض احكام القضاء في المسالة القانونية الواحدة ويحسن المصلحة القانون والعدالة أن تعرض هذه المسائل على المحكمة العليا لتقول فيها كلمتها فتضع حداً لتضارب الأحکام ولهذه الفكرة نظير في كثير من التشريعات الأجنبية كالتشريع الفرنسي والإيطالي والبلجيكي كما أن الفكرة التي يقوم عليها النص لها جذور في التشريع المصري منذ إدخال نظام الطعن بالنقض في المواد المدنية والتجارية في نظامنا القضائي وما منع المشروع من الأخذ بها في ذلك الحين إلا حرصه على تخفيف العبء عن محكمة النقض حتی لا يعوقها هذا العبء في مستهل عهدها وقد راودت هذه الأمنية مرة أخرى واضعی مشروع قانون المرافعات في سنة 1944 ورئی أرجاء الأخذ بها حتى يرسخ نظام النقض وتتسع امكانياته لتقبل هذه الفكرة وقد رأى المشروع تعميم هذا النوع من الطعن بما يحقق الفائدة منه على نحو أکمل فلم يقصره على حالة تفويت الخصوم لميعاد الطعن أو نزولهم عن الطعن حيث يكون الطعن جائزاً وانما بسطها أيضاً على الحالة التي يمنع المشروع الطعن فيها سواء أكان المنع من الطعن بصفة عامة ام كان المنع من الطعن بالنقض وسواء اورد هذا المنع في قانون المرافعات ام في قوانين خاصة لان المنع من الطعن في كل هذه الحالات انما ينصرف إلى الخصوم وحدهم حتی تستقر الحقوق المحكوم بها ولكن ذلك لا يمنع من إستهدف مصلحة عليا هي مصلحة القانون التي يحققها الطعن المرفوع من النائب العام لإرساء المبادىء القانونية الصحيحة على اساس سليم كيفما تتوحد احكام القضاء فيها ولما كان اساس الفكرة تحقيق مصلحة عليا هي مصلحة القانون فان مقتضى ذلك الأخذ بها في كل حالة تتحقق فيها هذه المصلحة وعدم قصرها على الحالة التي يكون الحكم فيها قابلاً للطعن بطريق النقض ونزول الخصوم عنه او فوتوا میعاده ومقتضى ذلك الا يفيد الخصوم من هذا الطعن في جميع الحالات حتى يخلص هذا الطعن اوجه القانون .
وغني عن البيان أن الحكم بعدم قبول الطعن المرفوع من الخصوم أو ببطلانه لا يحول طبقاً لنص المشروع دون ممارسة النائب العام لحقه مستقبلاً وبإجراءات اصلية مبتداة في الطعن لمصلحة القانون في هذا الحكم لأن كلا من الطعنين يختلف عن الآخر فأحدهما مرفوع من الخصوم ويفيدون منه والآخر مرفوع من النائب العام ولا يفيد منه الخصوم كما أن اسباب كل من الطعنين قد تختلف عن الآخر . ولما كان الخصم الحقيقي في هذا الطعن هو ذات الحكم المطعون فيه فقد أكتفي المشرع بالنص على أنه لا محل لدعوة الخصوم في هذا الطعن وعلی نظره في غرفة المشورة لان الغاية منه هي تحقيق مصلحة القانون فحسب . وبديهي أن الطعن المرفوع من النائب العام لمصلحة القانون لا يتقيد بميعاد أن قد لا يستبين سبب الطعن إلا بعد انقضاء المواعيد كما ان النيابة ليست خصماً في جميع الدعاوى المدنية والتجارية حتى تعلن بالأحكام الصادرة فيها ولان تحديد ميعاد الطعن مبني على فكرة منتفية في الطعن المرفوع من النائب العام لمصلحة القانون .
إذ أن الحكم الصادر فيه لا يؤثر في مراكزهم الخصوم او حقوقهم المحكوم فيها.
1 ـ إذ كان الطعن الراهن قد أقيم من النائب العام لمصلحة القانون إعمالاً لنص المادة 250 من قانون المرافعات ، ولا يفيد الخصوم منه وفقاً للفقرة الأخيرة منها ، وبالتالى لا يؤثر فى حقوقهم أو مراكزهم القانونية ، وهو ما يتعين معه على المحكمة أن تقف عند حد القضاء بنقض الحكم المطعون فيه بصدد المسألة القانونية التى اتخذ منها قواماً لقضائه ، مع بقاء الحكم منتجاً لآثاره بين الخصوم .
(الطعن رقم 1810 لسنة 78 جلسة 2008/05/24 س 59 ص 585 ق 103)
2 ـ النص فى المادة 250 من قانون المرافعات يدل - و على ما أفصحت عنه المذكرة الإيضاحية للقانون - أن المشرع إستحدث نظام الطعن من النائب العام لمصلحة القانون و ذلك فى الأحكام الإنتهائية - أياً كانت المحكمة التى أصدرتها - و التى إستقرت حقوق الخصوم فيها ، أما بسبب عدم جواز الطعن عليها أو لتفويت الخصوم لميعاده أو نزولهم عنه ، و ذلك لمواجهة الصعوبات التى تعرض فى العمل و تؤدى إلى تعارض أحكام القضاء فى المسألة القانونية الواحدة مما يحسن معه أن تقول المحكمة العليا كلمتها فيها فتضع حداً لتضارب الأحكام ، و قد قصر المشرع حق النائب العام فى الطعن فى الأحكام التى تكون مبينة على مخالفة القانون أو الخطأ فى تطبيقه أو فى تأويله دون باقى الأحوال التى يكون للخصوم فى الأحكام أن يطعنوا بها بطريق النقض ، و التى أوردتها المادتان 248 ، 249 من قانون المرافعات و هو ما يتفق و مصلحة القانون التى تغياها المشرع ، و من ثم فلا يمتد حق النائب العام فى الطعن فى الأحكام بالأسباب التى يكون مبناها وقوع بطلان فى الحكم أو بطلانه فى الإجراءات أثر فى الحكم ، لما كان ذلك ، و كان الحكم المطعون فيه صادراً فى دعوى رد قاضى قضى بإجابة طلبى الرد إلى مطالبهما فيها ، فإن الحكم يكون إنتهائياً بعدم جواز الطعن فيه من طالبى الرد عملاً بنص المادة 211 من قانون المرافعات و من القاضى رده بإعتباره ليس طرفاً ذا مصلحة شخصية فى الدعوى التى صدر فيها ذلك الحكم ، و من ثم فإنه يجوز الطعن فيه عن طريق النائب العام لمصلحة القانون .
(الطعن رقم 2196 لسنة 60 جلسة 1990/11/29 س 41 ع 2 ص 827 ق 304)
3 ـ مفاد النص فى المادتين السادسة والسابعة من القانون رقم 79 لسنة 1969 بشأن نقابة المهن التعليمية يدل على أن المشرع خص محكمة النقض بالفصل إبتداءً فى الطعن على قرارات مجلس إدارة نقابة المهن التعليمية برفض التظلم من قرارات لجنة القيد بها ، ولم يقيد هذا الاختصاص بحالات أو وجوه للطعن ، على غرار ما نص عليه بالنسبة للطعن فى الأحكام فى المواد من 248 حتى 250 من قانون المرافعات . وهو ما مؤداه أنها لا تنظر ذلك الطعن باعتبارها محكمة قانون فحسب ، تقتصر مهمتها على مراقبة تطبيق القانون . وإنما باعتبارها محكمة موضوع تعيد النظر فى المنازعة برمتها من جميع جوانبها الواقعية والقانونية . ومؤدى ذلك قانوناً أنه يسرى على إجراءات ذلك الطعن النصوص الواردة فى قانون المرافعات ، التى تنظم الإجراءات أمام محكمة الموضوع ، ولا يسرى عليها النصوص الخاصة بإجراءات الطعن بالنقض فى الأحكام كطريق غير عادى للطعن فيها . ومنها نص المادة 253/1 من قانون المرافعات التى توجب إيداع صحيفة الطعن فى الحكم قلم كتاب محكمة النقض أو المحكمة التى أصدرت الحكم المطعون فيه .
(الطعن رقم 20 لسنة 82 جلسة 2012/06/12 س 63 ص 888 ق 1)
4 ـ إذ كان الثابت بالأوراق أن المطعون ضده الثالث قد اعتنق دين الإسلام بموجب وثيقة إشهار الإسلام رقم ...... , وأن الصغيرين ...... , ...... لم يبلغا بعد السن المقررة لانتهاء حضانة النساء الإلزامية وقت الحكم المطعون فيه , وهى سن الخامسة عشر عملاً بالمادة 20 من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 المعدل بالقانونين رقمى 100 لسنة 1985 ، 4 لسنة 2005 , ومن ثم فإن حقهما فى حضانة النساء لا يزال قائماً طبقا لهذا القانون , وكانت أولى النساء بهذا الحق هى الأم , فإن المطعون ضدها الأولى تكون صاحبة الحق فى حضانة الصغيرين ...... , ...... باعتبارها والدتهما ولو أنها لا تزال كتابية على دين المسيحية , وهما تابعان لوالدهما المطعون ضده الثالث على دين الإسلام , إذ الأساس فى استحقاق الأم للحضانة هو الشفقة , وليس الدين , ولا ينال من ذلك أن يكون هذين الصغيرين قد جاوزا سن السابعة , إذ خلت الأوراق مما يفيد أنه ثبت لمحكمة الموضوع بدرجتيها أن لديهما القدرة على إعمال العقل فى التمييز بين الأديان المختلفة , كما لم يثبت أنه صدر عن المطعون ضدها الأولى من الأقوال أو الأفعال ما ينجم عنها أن يألف هذين الصغيرين غير دين الإسلام سواء كان ذلك قبل أو بعد بلوغهما هذه السن , وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر وقضى بتأييد الحكم الابتدائى القاضى بضم الصغيرين ...... , ...... إلى المطعون ضده الثالث دون أن يستظهر مبررات إسقاط الحضانة عن المطعون ضدها الأولى , فإنه يكون معيباً بمخالفة القانون والخطأ فى تطبيقه طبقاً لنص المادة250 من قانون المرافعات .
(الطعن رقم 15277 لسنة 74 جلسة 2009/06/15 س 60 ص 727 ق 121)
5 ـ مؤدى النص فى المادة 11 من القانون رقم 120 لسنة 2008 الخاص بإنشاء المحاكم الاقتصادية أن الأحكام الصادرة من المحاكم الاقتصادية القابلة للطعن بالنقض هى التى تصدر ابتداءً من الدوائر الاستئنافية أما الدعاوى التى تنظر أمام المحكمة الاقتصادية بهيئة ابتدائية ويكون الفصل فى الطعن عليها أمام المحكمة – بهيئة استئنافية – فلا يجوز الطعن عليها بطريق النقض – دون الإخلال بحكم المادة 250 من قانون المرافعاتالمدنية والتجارية – إلا أن مناط إعمال هذه القاعدة القانونية التى اختص بها المشرع الدعاوى أمام المحاكم الاقتصادية وهى استثناء من القواعد العامة عند تحديد الاختصاص النهائى للمحاكم ألا تكون المحكمة قد خالفت قواعد الاختصاص الولائى والنوعى والقيمى التى رسمها وألا تخرج صراحةً أو ضمناً على ما كان من تلك القواعد متعلقاً بالنظام العام فإن وقع الحكم مخالفاً لتلك القواعد فلا يتحصن من الطعن عليه أمام محكمة النقض وبالتالى إن خرجت المحكمة الاقتصادية على هذه المبادئ القانونية فلا يكون محل للقول بأن يفلت حكمها المخالف من رقابة محكمة النقض بحجة أن الحكم صادر من المحكمة الاقتصادية بهيئة استئنافية بصفتها محكمة درجة ثانية والقول بغير ذلك يعد مخالفاً لتحقيق العدالة والتى لا يتعين إهدارها فى سبيل سرعة الفصل فى الأنزعة الاقتصادية .
(الطعن رقم 7422 لسنة 85 جلسة 2017/05/17)
(الطعن رقم 15507 لسنة 84 جلسة 2015/12/10)
6 ـ إن كان من المقرر أنه يترتب على نقض الحكم المطعون فيه - وعلى ما تقضي به المادة 269 من المرافعات - إحالة القضية إلى المحكمة التي أصدرت الحكم المطعون فيه على أن تتبع محكمة الإحالة حكم محكمة النقض فى المسألة القانونية التي فصلت فيها، متي كان الحكم قد نقض لغير مخالفة قواعد الاختصاص، أو لم يكن الموضوع صالحاً للفصل فيه، أو أن الطعن ليس للمرة الثانية، أو لم يكن مقدماً من النائب العام لمصلحة القانون، وهو ما استحدثه المشرع فى المادة 250 من قانون المرافعات، إلا أنه قد لا تكون هناك حاجة إلى هذه الإحالة فى غير هذه الحالات المشار إليها، وذلك متي كان الحكم الصادر من محكمة النقض بالفصل فى المسألة القانونية - وعلى ما أفصحت عنه المذكرة الإيضاحية لقانون إنشاء محكمة النقض والإبرام الصادر بتاريخ 1931/5/2 بالمرسوم بقانون رقم 68 لسنة 1931 - قد حسم النزاع نهائياً لعدم وجود مسائل قانونية أخرى أو مسائل تتعلق بالوقائع يحتاج إلى الفصل فيها، ففي هذه الأحوال ونظراً لأن الإحالة لا يترتب عليها إلزام الخصوم أو قلم الكتاب بتقديم القضية إلى المحكمة التي أصدرت الحكم المنقوض يجوز للخصوم أن يكتفوا إذا شاءوا بحكم محكمة النقض فلا تحيل هذه المحكمة الخصوم إلى محكمة الإحالة اكتفاءً بالفصل فى المسألة القانونية، لأن الحل القانوني فى هذه الحالة يطبق بقوة القانون بما تكتفي معه محكمة النقض بنقض الحكم المطعون فيه دون إحالة.
(الطعن رقم 1314 لسنة 67 جلسة 1999/03/25 س 50 ع 1 ص 461 ق 90)
7 - أن النص فى المادة 11 من القانون رقم 120 لسنة 2008 الخاص بتنظيم الأحكام الصادرة من المحاكم الاقتصادية " فيما عدا الأحكام الصادرة فى مواد الجنايات والجنح والأحكام الصادرة ابتداء من الدوائر الاستئنافية بالمحكمة الاقتصادية لا يجوز الطعن فى الأحكام الصادرة من المحاكم الاقتصادية بطريق النقض .... " ، بما مفاده أن الأحكام الصادرة من المحاكم الاقتصادية القابلة للطعن بالنقض هى التى تصدر ابتداء من الدوائر الاستئنافية أما الدعاوى التى تنظر أمام المحكمة الاقتصادية بهيئة ابتدائية ويكون الفصل فى الطعن عليها أمام المحكمة – بهيئة استئنافية – فلا يجوز الطعن عليها بطريق النقض – دون الإخلال بحكم المادة 250 من قانون المرافعات المدنية والتجارية – إلا أن مناط إعمال هذه القاعدة القانونية التى اختص بها المشرع الدعاوى أمام المحاكم الاقتصادية وهى استثناء على القواعد العامة عند تحديد الاختصاص النهائى للمحاكم ألا تكون المحكمة قد خالفت قواعد الاختصاص الولائى والنوعى والقيمى التى رسمها القانون وألا تخرج صراحة أو ضمناً على ما كان من تلك القواعد متعلقاً بالنظام العام ، وأن يحترم مبدأ حجية الأحكام إذ إن هذه الحجية تسمو على اعتبارات النظام العام فإنه طبقاً للمادة 110 من قانون المرافعات المدنية والتجارية أن التزام المحكمة المحال إليها الدعوى بنظرها سواء كانت الإحالة بحكم أو قرار يعنى التزامها وجوباً بالفصل فى الدعوى ذلك أن المشرع استهدف من ذلك حسم المنازعات ووضع حد لها ، فلا تتقاذفها أحكام عدم الاختصاص من محكمة لأخرى وفى ذلك مضيعة للوقت فقد بات ممتنعاً على المحكمة التى تحال إليها الدعوى بحكم بعدم الاختصاص من المحكمة المحيلة أن تعاود بحث فى موضوع الاختصاص طالما أن الحكم التزم القواعد القانونية الآمرة سالفة البيان فإن وقع الحكم مخالفاً لتلك القواعد فلا يحصنه من الطعن عليه أمام محكمة النقض وبالتالى إن خرجت المحاكم الاقتصادية على هذه المبادئ القانونية فلا يكون ثمة محل للقول بأن يفلت هذا الحكم المخالف من رقابة محكمة الطعن بحجة أن الحكم صدر من المحكمة الاقتصادية بهيئة استئنافية بصفتها محكمة درجة ثانية والقول بغير ذلك يعد مخالفاً لتحقيق العدالة والتى لا يتعين إهدارها فى سبيل سرعة الفصل فى الأنزعة الاقتصادية .
(الطعن رقم 6955 لسنة 80 جلسة 2014/05/21)
8 ـ النص فى الفقرة الثانية من المادة 23 من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 على أنه " و فى حالة غياب النائب العام أو خلو منصبه أو قيام مانع لديه يحل محله المحامى العام الأول و يكون له جميع إختصاصاته " يدل على أن الإختصاص الشامل للمحامى العام الأول و الذى يحل بمقتضاه محل النائب العام و يمارس كافة حقوقه و اختصاصاته لا يكون إلا عند تحقق حالة مادية تتمثل فى غياب النائب العام ، أو حالة قانونية تبعاً لخلو منصبه ، أو حالة حكمية عند قيام مانع لديه ، و كان مؤدى ما تقضى به المادة من ذات القانون من أن يكون لدى كل محكمة استئناف محام عام له تحت إشراف النائب العام جميع حقوقه و اختصاصاته المنصوص عليها فى القوانين ، أنها حددت للمحامين العامين إختصاصا قضائيا يستند إلى أساس قانونى يجعل تصرفاتهم القضائية فى مأمن من الطعن ، فخول كلا منهم فى دائرة إختصاصه الإقليمى أو النوعى كافة الحقوق القضائية التى للنائب العام ، دون أن تمتد سلطاتهم إلى حق ممارسة الاختصاصات الإستثنائية التى خص القانون بها النائب العام وحده و أفرده بها لحكمه تغياها ، و من ذلك القبيل الطعن بالنقض وفق المادة 250 من قانون المرافعات ، و لا يباشرها عنه تحقق إحدى الحالات الثلاث السالف بيانها إلا المحامى العام الأول الذى يلى النائب العام طبقا للتبعية التدريجية فى النيابة العامة و ليس أى محام عام أول سواه .
(الطعن رقم 43 لسنة 47 جلسة 1979/05/30 س 30 ع 2 ص 483 ق 274)
9 ـ أجازت المادة 250 من قانون المرافعات للنائب العام الطعن بطريق النقض - بصحيفة موقعه منه . فى الأحكام الانتهائية - أياً كانت المحكمة التى أصدرتها - التى لا يجيز القانون للخصوم الطعن فيها ، و كذلك الأحكام التى فوت الخصوم ميعاد الطعن فيها أو نزلوا عنه ، متى كانت هذه الأحكام مبنية على مخالفة القانون أو الخطأ فى تطبيقه أو فى تأويله ، لأن الطعن بهذا السبيل إنما يراد به تحقيق مصلحة عليا هى مصلحة القانون ، لإرساء المبادىء القانونية الصحيحة على أساس سليم كما تتوحد أحكام القضاء فيها مما مقتضاه الأخذ فى كل حالة تتحقق فيها هذه المصلحة و عدم قصرها على الحالة التى يكون الحكم فيها قابلاً للطعن بطريق النقض ، و مما مؤداه ألا يفيد الخصوم من هذا الطعن حتى يخلص لوجه القانون ، و هو ما يعنى إختلاف مجال تطبيق هذه المادة عن حالة الطعن المرفوع من النيابة فى مسائل الأحوال الشخصية .
(الطعن رقم 32 لسنة 44 جلسة 1977/02/23 س 28 ع 1 ص 556 ق 102)
10 ـ الأحكام التى تصدرها محكمة النقض لا تعد من الأحكام التى تعنيها المادة 249 من قانون المرافعات - إعتباراً - و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن محكمة النقض هى خاتمة المطاف و أن أحكامها باتة قاطعة لا تقبل الطعن فيها بأى طريق من طرق الطعن العادية أو غير العادية ، يؤيد ذلك النظر أن المشرع نص فى المادة250 من قانون المرافعات على أن للنائب العام أن يطعن بطريق النقض لمصلحة القانون فى الأحكام الإنتهائية - أياً كانت المحكمة التى أصدرتها ... " و هى ذات العبارة التى يستند إليها الطاعن فى المادة 249 آنفة الذكر - مع أن المادة 250 إستحدثت نظام الطعن لمصلحة القانون دون أن يفيد منها الخصوم لمواجهة صعوبات تعرض فى العمل و تؤدى إلى تعارض أحكام القضاء فى المسائل القانونية الواحدة ، و أريد بها أن تعرض هذه المسائل على محكمة النقض لتقول فيها كلمتها فتضع حداً لتضارب الأحكام ، و لا يتصور بمقتضاها الطعن فى أحكام محكمة النقض بالذات ، لما كان ذلك و كان النص فى المادة 272 من قانون المرافعات على أنه " لا يجوز الطعن فى أحكام محكمة النقض بأى طريق من طرق الطعن " إنما جاء أقصاها عن هذا المعنى ، و عن المشرع بإبرازه فى كافة القوانين التى صاحبت إنشاء محكمة النقض ، و كانت هذه المادة بعمومها و إطلاقها تنصب على كافة الأحكام التى تصدرها محكمة النقض ، و تختلف فى نطاقها و مجالها و موضوعها عن الأحكام المشار إليها فى المادة 249 مرافعات ، و كان نصها بهذه المثابة باقياً على عمومه لم يدخله التخصيص ، بل و أطلق عن قرينة تمنح من إرادة تخصيصه ، فأن ما يتذرع به الطاعن من إجازة الطعن فى الأحكام الصادرة من محكمة النقض بدعوى مخالفتها لحكم نهائى حائز قوة الأمر المقضى ينطوى على مجاوزه لمراد الشارع .
(الطعن رقم 770 لسنة 44 جلسة 1977/02/02 س 28 ع 1 ص 359 ق 71)
11 ـ إستحدث المشرع نظام الطعن بطريق النقض من النائب العام لمصلحة القانون ، لمواجهة صعوبات تعرض فى العمل ، و تؤدى إلى تعارض أحكام القضاء فى المسألة القانونية الواحدة ، و يحذر لمصلحة القانون و العدالة عرض هذه المسألة على المحكمة العليا لتقول كلمتها فيها فتضع حدا لتضارب الأحكام . و لما كان الطعن بهذه المثابة لا يتقيد بميعاد لأنه إنما يستهدف مصلحة عليا هى مصلحة القانون لإرساء المبادىء القانونية الصحيحة على أساس سليم ، و كان الخصم الحقيقى فى هذا الطعن هو ذات الحكم المطعون فيه ، بما لا محل معه لدعوة الخصوم ، فقد أوجبت المادة أن يوقع النائب العام نفسه على صحيفة الطعن أو على التقرير بالنقض بحسب الأحوال ، مما مفاده أن هذا التقرير أو تلك الصحيفة تعد أن ورقة شكلية من أوراق الإجراءات فى خصومة النقض المرفوعة بهذا الطريق ، و التى يجب أن تحمل مقومات وجودها ، فيتعين أن يوقعها من ألزم القانون صدورها عنه و هو النائب العام ، إعتباراً بأن التوقيع هو السند الوحيد الذى يشهد بحصولها ممن صدرت عنه على الوجه المعتبر قانوناً . لا يغير من ذلك أن يكلف النائب العام أحد أعوانه بتولى صياغة الأسباب التى ينبنى عليها الطعن ، لأنه فى هذه الحال يجب على النائب العام أن يوقع على ورقتها بما يعتبر إقراره إياها إذ الأسباب هى فى الواقع من الأمر جوهر الطعن و أساسه ، و وضعها من أخص خصائصه ، أما إيداع صحيفة الطعن أو التقرير به فى قلم كتاب محكمة النقض فليس ثمة ما يمنع من أن يحصل فيه التوكيل بإعتباره عملاً مادياً يستوى فيه أن يباشره بنفسه أو يكل أمره إلى غيره .
(الطعن رقم 43 لسنة 47 جلسة 1979/05/30 س 30 ع 2 ص 483 ق 274)
12ـ مؤدى النص فى المادة 11 من القانون رقم 120 لسنة 2008 الخاص بإنشاء المحاكم الاقتصادية أن الأحكام الصادرة من المحاكم الاقتصادية القابلة للطعن بالنقض هى التى تصدر ابتداءً من الدوائر الاستئنافية أما الدعاوى التى تنظر أمام المحكمة الاقتصادية بهيئة ابتدائية ويكون الفصل فى الطعن عليها أمام المحكمة – بهيئة استئنافية – فلا يجوز الطعن عليها بطريق النقض – دون الإخلال بحكم المادة 250 من قانون المرافعات المدنية والتجارية – إلا أن مناط إعمال هذه القاعدة القانونية التى اختص بها المشرع الدعاوى أمام المحاكم الاقتصادية وهى استثناء من القواعد العامة عند تحديد الاختصاص النهائى للمحاكم ألا تكون المحكمة قد خالفت قواعد الاختصاص الولائى والنوعى والقيمى التى رسمها وألا تخرج صراحةً أو ضمناً على ما كان من تلك القواعد متعلقاً بالنظام العام فإن وقع الحكم مخالفاً لتلك القواعد فلا يتحصن من الطعن عليه أمام محكمة النقض وبالتالى إن خرجت المحكمة الاقتصادية على هذه المبادئ القانونية فلا محل معه للقول بأن يفلت حكمها المخالف من رقابة محكمة النقض بحجة أن الحكم صادر من المحكمة الاقتصادية بهيئة استئنافية بصفتها محكمة درجة ثانية والقول بغير ذلك يعد مخالفاً لتحقيق العدالة والتى لا يتعين إهدارها فى سبيل سرعة الفصل فى الأنزعة الاقتصادية.
(الطعن رقم 14037 لسنة 91 جلسة 16 / 2 / 2022)
تمهيد
يجوز الطعن بالنقض في غير أحكام محاكم الإستئناف إستثناء في أحوال محددة واردة على سبيل الحصر لا يجوز الطعن في غيرها . وهی في القانون المصري : (أ) الحكم الإنتهائي – أياً كانت المحكمة التي أصدرته سواء كانت محكمة جزئية أو محكمة إبتدائية - الذي فصل في نزاع خلافاً لحكم آخر سبق أن صدر بين الخصوم أنفسهم وحاز قوة الأمر المقضي (مادة 249) . (ب) الأحكام الإنتهائية التي يجيز القانون للنائب العام الطعن فيها لمصلحة القانون في الحالات التي تنص عليها المادة 250.
ويلاحظ بالنسبة لجواز الطعن بالنقض ما يلي :
1- لا يجوز الطعن بالنقض إلا في الأحكام الصادرة بصفة إنتهائية ، ولهذا فإنه حيث يجوز الطعن بالنقض إستثناء في حكم صدر من محكمة أول درجة ، فإنه يجب لجواز الطعن أن يكون الحكم الذي صدر لا يقبل الطعن فيه بالإستئناف . أما إذا كان قد صدر قابلاً للإستئناف ، وفوت المحكوم عليه میعاده فأصبح الحكم نهائياً فإنه لا يقبل الطعن بالنقض رغم توافر إحدى حالاته.
2- حيث يطعن بالنقض في حكم صادر من المحكمة الإستئنافية ، فإن الطعن بالنقض يرد على هذا الحكم ، وليس على الحكم الصادر من محكمة أول درجة والذي كان مطروحاً بالإستئناف على المحكمة الإستئنافية . وذلك سواء قضت هذه الأخيرة بتأييده أو بإلغائه أو بتعديله. ولهذا فإن سبب الطعن بالنقض يجب أن يتوافر في حكم المحكمة الإستئنافية ، فلا يجوز النعى على حكم المحكمة الإستئنافية بما ورد في الحكم الإبتدائي من أسباب لم يأخذ هو بها ، أو بأي عيب منسوب فقط إلى حكم محكمة أول درجة.
3- إذا طعن بالنقض في حكم غير منه للخصومة مع الحكم المنهي ، فيجب أن يكون كل من الحكمين قابلاً للطعن بالنقض ، وأن يرد الطعن عليهما ، وأن يتوافر سبب للنقض في كل منهما أو على الأقل أن يتوافر سبب للنقض في الحكم غير المنهى ويكون هذا الحكم أساساً للحكم المنهي بحيث يؤدي نقض الحكم الأول إلى إلغائه بالتبعية .
4- إذا نص القانون على عدم جواز الطعن في حكم بالإستئناف ، فإن هذا المنع لا يشمل الطعن بالنقض في هذا الحكم، مع ملاحظة أن هذا الطعن لا يكون إلا حيث يجيز القانون الطعن في غير أحكام محاكم الإستئناف أو المحاكم الإستئنافية . على أنه إذا طعن في الحكم بالإستئناف رغم عدم جوازه ، فقضت محكمة الإستئناف بعدم جواز الإستئناف فإن هذا الحكم بعدم الجواز - إذ هو صادر من محكمة الإستئناف - يقبل الطعن بالنقض وفقاً للقاعدة العامة .
5- لا يجوز الطعن بالنقض - لأي سبب - في أحكام المحكمين أو في الأعمال الولائية أياً كان الشكل الذي تصدر فيه. وإذا قبل حكم التحكيم رفع دعوى ببطلانه أمام محكمة الإستئناف ، أو قبل عمل ولائي الطعن فيه بالإستئناف كما هو الحال بالنسبة لحكم إيقاع البيع ، فإن الطعن بالنقض إنما يرد على حكم الإستئناف وليس على حكم التحكيم أو على العمل الولائي .
6- لأن محكمة النقض هي المحكمة العليا بجهة المحاكم ، فلا يجوز الطعن أمامها في أي حكم صادر من جهة قضائية أخرى أو هيئة قضائية عادية أو إستثنائية لا تدخل في الهيكل التنظيمي لجهة المحاكم ، ولو كان هذا الحكم قد صدر إنتهائياً من محكمة ثاني درجة أو من محكمة عليا .
النقض لمصلحة القانون فكرته وشروطه :
الأصل ألا تقوم محكمة النقض بوظيفتها إلا بناء على طعن من المحكوم عليه . ولكن بسبب إرتباط هذه الوظيفة بالمصلحة العامة التي يهمها عدم مخالفة المحاكم للقانون ، وتوحيد تفسير القانون الذي تطبقه ، فقد نظم القانون في المادة 250 مرافعات طعناً بالنقض من النائب العام الهدف منه تكملة نشاط الخصوم اللازم لمباشرة محكمة النقض لوظيفتها وقد أخذ القانون المصرى لأول مرة بهذا النظام في مجموعة 1998 ، ولكنه معروف في فرنسا منذ العام الثامن للثورة ويجب لرفع هذا الطعن توافر الشروط التالية :
1- أن يكون الحكم إنتهائياً سواء صدر إنتهائياً أو اصبح كذلك بإنقضاء مواعيد الطعن العادية ، وسواء صدر من محكمة أول درجة أياً كانت ولو محكمة جزئية أو من محكمة ثاني درجة ولو لم تكن من محاكم الإستئناف .
2- أن يكون الحكم مشوباً بمخالفة للقانون أو خطأ في تطبيقه أو في تأويله أي معيبا بعيب في التقدير . فالعيب في الإجراء لا يصلح سبباً للطعن لمصلحة القانون . ولهذا فإنه لا يحق للنائب العام الطعن لمصلحة القانون بسبب مبناه بطلان في الحكم أو بطلان في الإجراءات أثر في الحكم.
3- أن يكون الحكم من تلك الأحكام التي لا يجيز القانون للخصم الطعن فيها ، «سواء كان المنع من الطعن بصفة عامة أم من الطعن بالإستئناف أو كان المنع من الطعن بالنقض . وسواء ورد هذا المنع في قانون المرافعات أم في قوانين خاصة». أو أن يكون الحكم قابلاً للطعن بالنقض من المحكوم عليه ولكنه لم يطعن في الميعاد أو نزل عن طعنه أو طعن في الميعاد ولكن حكم بعدم قبول طعنه شكلاً ، وبصفة عامة في كل حالة لم تنظر محكمة النقض الطعن المرفوع من الخصم.
إجراءات الطعن لمصلحة القانون والحكم فيه :
يرفع الطعن بصحيفة يجب أن يوقعها النائب العام بنفسه ، فليس لمساعده أو للمحامي العام الأول أو من دونه في الدرجة من رجال النيابة توقيعها ، كما أنه ليس لنيابة النقض هذه السلطة .
ولا تعلن صحيفة الطعن إلى أي من أطراف الحكم المطعون فيه . وينظر الطعن في غرفة المشورة دون حضور الخصوم وبغير مرافعة .
ولا يتقيد هذا الطعن بأى ميعاد، وعلة هذا أنه قد لا يستبين سبب النقض إلا بعد إنقضاء المواعيد، فضلاً عن أنه لا ضرر من عدم إلتزام میعاد معين إذ الحكم في هذا الطعن لا يؤثر في حقوق الخصوم أو مراكزهم القانونية ، وبالتالي لا يؤثر الطعن أو الحكم فيه - أياً كان وقته - في إستقرارها .
ولمحكمة النقض أن تحكم بعدم قبول الطعن أو برفضه ، كما أن لها أن تحكم بقبوله . فإذا قضت بقبوله فإنها تنقض الحكم . ولكن هذا النقض يكون فقط من الناحية النظرية «ولا يفيد الخصوم» (مادة 250 مرافعات). فيبقى الحكم المطعون فيه - رغم نقضه - كما هو منتجاً لآثاره بين الخصوم . ولهذا فإن محكمة النقض لا تنظر - في هذا الطعن - أبدا الموضوع ، مهما كان صالحاً للفصل فيه . كما أنها لا تحيل الموضوع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم المطعون فيه . فهي تكتفي بنقض الحكم ، مع الإشارة إلى ما كان من المتعين أن يكون عليه الحكم المطعون فيه لكي يستقيم مع صحيح القانون . وبهذا لا يكون للنقض لمصلحة القانون من قيمة إلا على أساس أنه ينبه المحاكم إلى الخطأ الذي شاب الحكم المطعون فيه ، حتى لا تقع فيه هذه المحاكم . فهو يزيل قوة الحكم الذي نقض كسابقة يهتدي بها القضاء ، أو هو - إذا أيد الحكم المطعون فيه - يقوي هذا الحكم . ولكن يلاحظ أن هذا الحكم لا يلزم المحاكم ، بل هو لا يلزم محكمة النقض نفسها ، بالنسبة للقضايا المماثلة . مما يصح معه القول بأن حكم النقض الصادر في طعن من النائب العام يكون له بالنسبة للقضايا المستقبلة مجرد فاعلية واقعية. وهو ما دعا الفقه إلى التشكيك في طبيعته القضائية .
ميعاد وإجراءات الطعن بالنقض:
لم يرسم قانون المحاكم الإقتصادية ميعاداً خاصاً أو إجراءات خاصة للطعن بالنقض في الأحكام الصادرة من هذه المحاكم ، ولهذا فإن الطعن يجب أن يرفع خلال ستين يوماً من صدور الحكم ، وفقا للمادة 252 مرافعات وذلك ما لم يكن الطعن مرفوعاً من النائب العام لمصلحة القانون وفقاً للمادة 250 مرافعات ، إذ لا يتقيد هذا الطعن بميعاد .
ويرفع الطعن ، وتقيد صحيفته ، وتعلن ، وتسير إجراءات خصومة النقض من حيث إيداع مذكرة دفاع المطعون ضده ومذكرات الرد والتعقيب ، وإرسال ملف الطعن إلى النيابة ، وتقديم نيابة النقض مذكرتها فيه ، وفقاً لما تنص عليه المواد من 252 إلى 263/ 1 ، 2 من قانون المرافعات .
وينطبق أيضاً على الطعن بالنقض في أحكام المحاكم الإقتصادية ما تنص عليه المادة 251 من قانون المرافعات والتي تقرر أنه لا يترتب على الطعن بطريق النقض وقف تنفيذ الحكم ، ما لم تأمر المحكمة بوقف التنفيذ مؤقتاً وفقاً لما تنص عليه هذه المادة من شروط .
الدائرة الإقتصادية بمحكمة النقض :
عمد قانون المحاكم الاقتصادية ، إلى إستكمال الهيكل المستقل لقضاء المحاكم الإقتصادية بتخصيص دائرة نقض للطعن في أحكام المحاكم الإقتصادية . فقد نصت (المادة 12/ 1 ) من قانون المحاكم الإقتصادية على أن «تشكل بمحكمة النقض دائرة أو أكثر تختص دون غيرها ، بالفصل في الطعون بالنقض في الأحكام المنصوص عليها في المادة (11) من القانون» .
فإلى جانب ما تنص عليه المادة (2) من قانون السلطة القضائية الخاصة بتشكيلات محكمة النقض «من أن تكون لها دوائر النظر المواد الجنائية ودوائر النظر المواد المدنية والتجارية والأحوال الشخصية والمواد الأخرى»، أضاف قانون المحاكم الإقتصادية دوائر تختص دون غيرها» بالطعون في أحكام المحاكم الإقتصادية». والملاحظ أن المادة 12/ 1 لم تنص على أن يكون بمحكمة النقض دائرة أو أكثر» لهذه الطعون ، على النهج الذي اتخذه المشرع في المادة (3) من قانون السلطة القضائية ، ولكنها نصت على أن هذه الدائرة «تختص دون غيرها بالفصل في الطعون بالنقض» المتعلقة بالأحكام الإقتصادية .
وتصدر الدائرة الإقتصادية أحكامها مشكلة من خمسة مستشارين ، إذ لم ينص القانون على تشكيل خاص لها .
دائرة فحص الطعون :
تنص المادة 12/ 2 على إنشاء دائرة مشكلة من ثلاثة مستشارين لفحص الطعون في أحكام المحاكم الإقتصادية . فوفقاً لهذا النص «تنشأ بمحكمة النقض دائرة أو أكثر لفحص تلك الطعون تتكون كل منها من ثلاثة من قضاة المحكمة بدرجة نائب رئيس على الأقل . لتفصل ، منعقدة في غرفة المشورة ، فيما يفصح من الطعون عن عدم جوازه أو عن عدم قبوله لسقوطه أو لبطلان إجراءاته» .
وتتكون دائرة فحص الطعون من ثلاثة من قضاة المحكمة بدرجة نائب رئيس محكمة النقض على الأقل ، وهو تشكيل يختلف عن الدائرة التي تنظر الطعن ، وهي مشكلة من خمسة مستشارين .
والنص على دائرة خاصة لفحص الطعون ، غير الدائرة التي تنظر الطعن ، هو إحياء لنظام كان يأخذ به المشرع المصري بالنسبة للطعن بالنقض في غير المواد الجنائية في المادة (3) من قانون السلطة القضائية رقم 56 لسنة 1959 الذي صدر أثناء الوحدة مع سوريا ، ولكن التجربة أثبتت فشله ، فألغاه المشرع المصري في قانون السلطة القضائية رقم 43 لسنة 1965. وقد ورد بالمذكرة الإيضاحية لهذا القانون عن هذا الإلغاء ما يلي :
تضمن المشروع إلغاء دوائر فحص الطعون بمحكمة النقض لما رؤي من أن هذا النظام لم يحقق الغاية المرجوة منه ، وهي معالجة تراكم القضايا ، بل على العكس من ذلك أسفر عن تكرار للإجراءات وتعطيل للطعون و إزدواج العمل بغير مبرر . كما أنه قد أبعد عن الدوائر الخماسية المستشارين القدامى ، وترتب عليه وقوع التناقض بين دوائر الفحص والدوائر المدنية . ولقد ألغى هذا النظام في فرنسا التي إقتبسه منها التشريع المصري ، لما تبين من عدم صلاحيته» .
ومع ذلك ، جاء قانون المحاكم الإقتصادية ليأخذ بهذا النظام الذي تبين - بالتجربة - عدم صلاحيته . بل إنه عممه على الطعون في أحكام الدوائر ليشمل المواد الجنائية ، في حين أن قانون 56 لسنة 1959 كان يستثنى منه هذه المواد .
إختصاص دائرة فحص الطعون :
يعرض الطعن على دائرة فحص الطعون ، بعد إيداع نيابة النقض مذكرة برأيها (مادة 12/ 3) . وتختص الدائرة بالنظر «فيما يفصح من الطعون عن عدم جوازه أو عدم قبوله لسقوطه أو لبطلان إجراءاته» (مادة 12/ 2) .
فهي تختص بما يلي :
1- التحقق من أن الطعن قد رفع عن حكم يجوز الطعن فيه بالنقض .
فإذا كان الطعن يتعلق بحكم صدر من الدائرة الاستئنافية بإعتبارها محكمة درجة ثانية ، ولم يكن الطعن مبنياً على صدوره على خلاف حکم سابق حائز لقوة الأمر المقضى ، قررت الدائرة عدم جواز الطعن.
2- التحقق من أن الطعن قد رفع في الميعاد . فإذا كان قد رفع بعد إنقضاء الميعاد فإن الدائرة تقضي بعدم قبول الطعن لسقوط الحق فيه .
3- التحقق من أن الطعن قد رفع ممن له حق في رفعه وضد طرف صدر الحكم ضده في الخصومة التي صدر فيها الحكم ، وأن الطاعن لم يسبق له قبول الحكم الذي يطعن فيه ، وأن إجراءات الطعن لم يشبها عيب يبطل رفع الطعن .
ولصراحة نص المادة 12/ 2 و 3 من القانون ، فإن هذا التحديد يرد على سبيل الحصر. ولهذا ليس لدائرة فحص الطعون ، على خلاف ما تقضى به المادة 263/ 3 من قانون المرافعات بالنسبة لغرفة المشورة ، النظر فيما إذا كان الطعن قد أقيم على غير الأسباب المبينة في المادتين 248 و 249 أو على أسباب تخالف ما إستقر عليه قضاء محكمة النقض . وحسنا فعل القانون بتحديد سلطة دائرة فحص الطعون على هذا النحو .
وتبدى دائرة فحص الطعون رأيها حسب ما يظهر من أوراق الطعن من توافر أو عدم توافر شروط قبول الطعن سالفة الذكر . فإن تخلف أحد هذه الشروط أصدرت قراراً بعدم قبول الطعن ، مع إلزام الطاعن بالمصروفات ، ومصادرة الكفالة كلها أو بعضها . وتنص المادة 12 على مصادرة الكفالة «أن كان لذلك مقتضى» . والصحيح أنه مادامت الدائرة قد قررت عدم قبول الطعن فإنه يجب عليها مصادرة الكفالة .(تنظر المادتان 263/ 3 و 270 من قانون المرافعات) .
وقد أوجب القانون أن يكون قرار الهيئة بعدم قبول الطعن «مسبباً تسبیباً موجزاً» . وهو نفس ما توجيه المادة 263/ 2 مرافعات بالنسبة لقرارات غرفة المشورة بالدوائر العادية .
فإذا قدرت الدائرة توافر الشروط سالفة الذكر ، فإن الطعن يكون جديراً بالنظر . وعندئذ تقوم دائرة فحص الطعون - دون بيان أية أسباب – بإحالة الطعن إلى الدائرة الإقتصادية مع تحديد جلسة أمام هذه الدائرة لنظره» ( 12/ 3 ) . والنص على تحديد جلسة أمام الدائرة الخماسية لنظره منقول عن المادة 263/ 4 من قانون المرافعات . على أنه يلاحظ أن المادة 263/ 4 تتعلق بقرار إحالة صادر من نفس الدائرة المحال إليها ، وهي تحدد جلسة لسماع المرافعة في الموضوع بعد أن تكون قد أتمت دراسته . أما دائرة فحص الطعون فهي دائرة مختلفة مشكلة من قضاة مختلفين ، ولا يمكن لدائرة فحص الطعون تحديد جلسة أمام الدائرة المختصة ، لسماع المرافعة في الموضوع قبل قيام هذه الأخيرة ببحث الموضوع .
وسواء صدر قرار دائرة فحص الطعن بعدم قبول الطعن أو بالإحالة إلى الدائرة المختصة ، فإن قرارها هذا لا يقبل الطعن فيه بأي طريق.
عدول الدائرة الإقتصادية عن مبدأ قانونى :
الم يواجه المشرع حالة ما إذا أرادت «الدائرة الإقتصادية» بمحكمة النقض العدول عن مبدأ قانونى قررته أحكام سابقة من الدوائر الإقتصادية ، أو العدول عن مبدأ قانوني قررته أحكام سابقة من دوائر أخرى مدنية أو تجارية ، أو جنائية . ولم ينظم قانون المحاكم الإقتصادية هيئة عامة بمحكمة النقض الدوائر الإقتصادية ، كما لم ينظم الإحالة من الدائرة الإقتصادية إلى هيئة عامة من الهيئتين العامين التي تنص عليهما المادة (4) من قانون السلطة القضائية أو إلى الهيئتين مجتمعتين .
ونرى أن نص المادة (4) من قانون السلطة القضائية يتسع ليشمل الدائرة (أو الدوائر الإقتصادية بمحكمة النقض . ذلك أن المادة (4) تنص على أن تشكل هيئة عامة للمواد الجنائية وليس للقضايا التي تنتظرها الدوائر الجنائية ، ويدخل في المواد الجنائية» الأحكام الجنائية التي تصدر من الدائرة الإقتصادية بمحكمة النقض . ومن ناحية أخرى ، فإن المادة (4) سلطة قضائية تنص على أن الهيئة الثانية تكون المواد المدنية والتجارية ومواد الأحوال الشخصية وغيرها». ويدخل في اصطلاح «غيرها» الدعاوى غير الجنائية التي تنتظرها الدوائر الإقتصادية .
ولهذا ، فإنه إذا رأت الدائرة الإقتصادية بمحكمة النقض العدول عن مبدأ قانونى قررته الدوائر الإقتصادية ، فإنها تحيل الدعوى إلى الهيئة القضائية المختصة ، بمعنى أنه إذا كانت الدعوى الإقتصادية ليست جنائية فإنها تحيلها إلى الهيئة العامة للمواد المدنية والتجارية ، وإذا كانت الدعوى جنائية ، فإنها تحيل الدعوى إلى الهيئة العامة للمواد الجنائية .
فإذا رأت الدائرة الإقتصادية بمحكمة النقض ، وهي تنظر دعوى جنائية العدول عن مبدأ قانونى قررته أحكام صادرة من الدوائر المدنية أو التجارية ، أو كانت الدعوى التي تنظرها دعوی غیر جنائية ، ورأت العدول عن مبدأ قانونى قررته الدوائر الجنائية ، فإنها تحيل الدعوى إلى الهيئتين العامتين مجتمعتين ، وفقاً للمادة 4/ 3 من قانون السلطة القضائية .
ومن البديهي أن قضاة الدوائر الإقتصادية بمحكمة النقض هم جزء من قضاة المحكمة ، ولهذا فإنهم يدخلون في تشكيل كل من الهيئتين العامتين . (المبسوط في قانون القضاء المدني علماً وعملاً، الدكتور/ فتحي والي، طبعة 2017 دار النهضة العربية، الجزء : الثاني ، الصفحة : 616)
يدل نص المادة (250) من قانون المرافعات، أنه يجوز للنائب العام دون سواه من أعضاء النيابة العامة ، أن يطعن بالنقض المصلحة القانون في الأحكام الإنتهائية ، أياً كانت المحكمة التي أصدرتها، سواء كانت محكمة الإستئناف أو المحكمة الإبتدائية أو الجزئية ، متى كان القانون لا يجيز للخصوم الطعن فيها إن كان الخصوم قد فوتوا ميعاد الطعن أو تنازلوا عن الطعن فيها ، وينصرف ذلك إلى الأحكام الصادرة في المواد المدنية والتجارية والأحوال الشخصية طالما كانت النيابة العامة غير ممثلة فيها لتعلق الطعن بالمصلحة العامة، ولا يتقيد النائب العام حينئذ بميعاد معين عملاً بالفقرة الثانية من المادة (252) من قانون المرافعات، وتنظر المحكمة الطعن في غرفة المشورة، وتنحصر إجراءاته في توقيع الصحيفة من النائب العام ثم إيداعها قلم الكتاب مع مراعاة أن هذا الإيداع يعتبر من إجراءات التقاضي عملاً بالمادة (253) مرافعات ثم تودع نيابة النقض مذكرة بالرأي ولها طلب رفض الطعن ، إذ لا تتقيد نيابة النقض برأي النائب العام ولا يسرى عليها مبدأ «أن النيابة لا تتجزأ، وإذا قبلت المحكمة الطعن ، فلا يفيد الخصوم من ذلك .
ويقصد بمصلحة القانون إرساء القواعد القانونية السليمة ومنعاً من تضارب الأحكام وإن كان أعضاء النيابة العامة يعتبرون وكلاء للنائب العام، وكالة مصدرها القانون، فإن هذه الوكالة بمثابة وكالة عامة تنحصر سعتها في سلطة التحقيق والتصرف في الدعاوى الجنائية والطعن في الأحكام التي تمثل فيها النيابة العامة. أما الأعمال التي خص القانون النائب العام وحده بها توقيع صحف الطعن بالنقض عملاً بالمادة (250) من قانون المرافعات، فلا تسعها هذه الوكالة فلا يجوز التفويض فيها طالما أن القانون لا يجيز ذلك ، لكن يجوز للمحامي العام الأول القيام بأعمال النائب العام في حالة غياب الأخير أو خلو منصبه .
أما إيداع صحيفة الطعن بقلم کتاب محكمة النقض ، فهو إجراء من إجراءات التقاضي وبالتالي يجوز للنائب العام نفسه مباشرته بإعتباره هو رافع الطعن ، ولا يوجد ما يحول دون انتقال الكاتب المختص بقيد طعون النقض إلى مكتب النائب العام لإجراء القيد الذي يتم الإيداع بموجبه ، ويعتبر الإيداع قد تم بقلم کتاب المحكمة، وللنائب العام أن يندب أحد أعضاء النيابة لإيداع الصحيفة طالما قام هو بتوقيعها، ولا ضرورة لتوكيل محام للإيداع .
وقضت محكمة النقض بأنه ينحصر الإستثناء المقرر للنائب العام في الطعون التي يرفعها لمصلحة القانون ولا يتعداه إلى الطعون الأخرى التي ترفعها النيابة العامة خاصة فيما يتعلق بميعاد الطعن عملاً بالمادة (252) من قانون المرافعات. (المطول في شرح قانون المرافعات، المستشار/ أنور طلبة، الناشر/ المكتب الجامعي الحديث، الجزء : الثامن ، الصفحة :7)
إستحدث المشروع هذا النص الذي خول بمقتضاه للنيابة الحق في الطعن بالنقض على الأحكام وذلك بشرط أن تكون هذه الأحكام إنتهائية ايا كانت المحكمة التي أصدرتها سواء كان ذلك يعيب، عدم جواز الطعن عليها أصلاً أو كان الحكم جائز الطعن فيه وفوت الخصوم الميعاد دون أن يطعنوا عليه ونزلوا عن الحق في الطعن ولم يترك المشرع هذا الحق للنيابة طليقاً من أي قيد بل قصره على الأحكام المبنية على مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أو تأويله دون باقي الحالات الأخرى التي أجاز فيها للخصوم الحق في الطعن بالنقض والمبينة في المادتين 248، 249 مرافعات ومن ثم فلا يجوز للنيابة الحق في الطعن في الحكم لوقوع بطلان فيه أو في الإجراءات أثر في الحكم .
يجوز للنيابة أن تطعن في الحكم الذي قضى بما يخالف قواعد التوريث :
من المسلم به أن قواعد التوريث وأحكامه المعتبرة شرعاً بما في ذلك تحديد أنصبة الورثة المتعلقة بالنظام العام فإذا خالفتها المحكمة كان حكمها مخالفاً للقانون وجاز للنيابة العامة الطعن عليه بالنقض كما يجوز لها إذا لم يكن الطعن قد رفع منها أن تثير هذه الأمور بشرط أن يكون وارداً على الجزء المطعون عليه من الحكم .
ومن المقرر أن التعويض الموروث إنما يوزع بين الورثة بنسبة أنصبتهم الشرعية ، فإذا أقام الورثة دعوى بالمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي أصاب مورثهم قبل وفاته وانتقل إليهم بعد موته . وقضت المحكمة لهم بالتعويض فإنه يتعين عليها أن توزعه بنسبة أنصبتهم الشرعية فإذا كانوا أباً وأماً وزوجة وأولاداً من الذكور والإناث إختص كل من الأب والأم بالسدس والزوجة بالثمن والأولاد بالباقي للذكر مثل حظ الأنثيين . فإذا خالفت المحكمة ذلك وقسمته بالتساوي بينهم فإن حكمها يكون مشوباً بمخالفة القانون ويجوز الطعن عليه بالنقض . ويجوز للنيابة العامة أن تطعن في الحكم عملاً بالمادة 250 مرافعات لأن مسائل الميراث من النظام العام . كما يجوز لمحكمة النقض إثارة هذا الأمر من تلقاء نفسها عملاً بالفقرة الرابعة من المادة 253 مرافعات . (التعليق على قانون المرافعات، المستشار/ عز الدين الديناصوري والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات وتحديث أحكام النقض للأستاذ/ خيرت راضي المحامي بالنقض، الطبعة 2017 دار المطبوعات الجامعية، الجزء : السادس ، الصفحة : 921)
طعن النائب العام بالنقض لمصلحة القانون: أجازت المادة 250 مرافعات - محل التعليق - للنائب العام الطعن بالنقض في الحكم لمصلحة القانون لمواجهة صعوبات تعرض في العمل وتؤدي إلى تعارض أحكام القضاء في المسألة القانونية الواحدة ويحسن لمصلحة القانون والعدالة أن تعرض هذه المسائل على محكمة النقض لتقول رأيها فيها .
ويشترط في الأحكام التي يجوز للنائب العام الطعن فيها بالنقض المصلحة القانون أن تكون إنتهائية أياً كانت المحكمة التي أصدرتها - وأن تكون مبنية على مخالفة للقانون أو خطأ في تطبيقه أو في تأويله. . والا يجيز القانون للخضوم الطعن فيها، أو فوت الخصوم ميعاد الطعن فيها أو نزلوا فيه عن الطعن .
ووفقاً للمادة 250 مرافعات - محل التعليق - يجب أن يوقع صحيفة الطعن أو التقرير به من النائب العام ولا يجوز أن يحل غيره محله في ذلك إلا في حالة غيابه، أو خلو منصبه ، أو قيام مانع لديه، وفي هذه الحالات الثلاثة ينوب المحامي العام الأول الذي يليه طبقاً للتبعية التدريجية في النيابة العامة دون غيره من المحامين العامين الأول أو غيرهم. (نقض 1979/5/30 - طعن 43 لسنة 47 قضائية سنة 30 - العدد الثاني - ص 483 ) .
كما يلاحظ أنه يجوز للنائب العام الطعن في الحكم الصادر برد القاضي بإعتباره حكماً إنتهائياً لعدم جواز الطعن فيه من القاضي باعتباره ليس طرفاً ذا مصلحة شخصية في دعوى الرد ، ولكن يتعين أن يقتصر سبب الطعن على مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أو تأويله دون باقي أسباب الطعن المبينة بالمادتين 248 ، 249 مرافعات. (نقض 1990/11/29 - طعن 2196 سنة 60 قضائية ) .
وجدير بالذكر أن طعن النائب العام لمصلحة القانون لا يتقيد بأى ميعاد وقد نصت المادة 252 مرافعات صراحة على ذلك، وفقاً للمادة 250 - مجال التعليق : تنظر محكمة النقض طعن النائب العام في غرفة المشورة بغیر دعوة الخصوم، ولا يستفيد الخصوم من هذا الطعن ، لأنه طعن يستهدف مصلحة القانون .
يجوز للنيابة العامة أن تطعن في الحكم الذي قضى بما يخالف قواعد التوريث :
وحيث إن النيابة العامة نعت في مذكرتها على الحكم المطعون فيه مخالفته للنظام العام إن حكم بتقسيم التعويض الموروث المفضي به المحكوم لهم - المطعون ضدها عن نفسها وبصفتها - بالتسوية بينهم مخالفا بذلك قواعد الإرث، بما يستوجب نقضه .
وحيث إنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة أنه يجوز للنيابة كما يجوز للمحكمة من تلقاء نفسها أن تثير في الطعن. مايتعلق بالنظام العام شريطة أن يكون وارداً على الجزء المطعون عليه من الحكم.
ولما كانت قواعد التوريث وأحكامه المعتبرة شرعاً بما في ذلك تحديد أنصبة الورثة هي - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة من الأمور المتعلقة بالنظام العام. وكان الطعن المال يشمل : ما قضى به الحكم المطعون فيه من تعويض موروث وتوزيع قيمته بين المحكوم لهم. وكان المحكوم لهم أما وأخوة ولاتساوي أنجبتهم الشرعية في الميراث. فإن الحكم المطعون فيه إن ساوى بينهم في الأنصبة في مقدار التعويض الموروث يكون قد خالف القانون في أمر متعلق بالنظام العام مما يوجب نقضه جزئياً بالنسبة لتحديد أنصبة المحكوم لهم بالتعويض الموروث. (الموسوعة الشاملة في التعليق على قانون المرافعات، الدكتور/ أحمد مليجي، الطبعة الثالثة عشر 2016 طبعة نادي القضاة ، الجزء : الخامس ، الصفحة : 365)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الحادي والأربعون ، الصفحة / 152
نَقْضُ الْقَضَاءِ:
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِنَقْضِ الْقَضَاءِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا خَالَفَ فِي حُكْمِهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا كَانَ قَضَاؤُهُ فَاقِدًا لِشَرْطٍ وَوَجَبَ نَقْضُهُ، إِذْ أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالاِجْتِهَادِ عَدَمُ النَّصِّ بِدَلِيلِ خَبَرِ مُعَاذٍ رضي الله عنه : «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو» وَلأِنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَقَدْ فَرَّطَ، فَوَجَبَ نَقْضُ حُكْمِهِ، إِذْ لاَ مَسَاغَ لِلاِجْتِهَادِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَزَادَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ زِيَادَاتٍ أُخْرَى كَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي حُكْمِ مَا يُنْقَضُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ أَنْ يَنْقُضَ مِنْ حُكْمِ قَاضٍ صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ شَيْئًا لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ وَإِلَى أَلاَّ يَثْبُتَ حُكْمٌ أَصْلاً، غَيْرَ مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ سُنَّةٍ آحَادٍ أَوْ خَالَفَ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا، بِخِلاَفِ الإْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.
مَا يُنْقَضُ مِنَ الأْحْكَامِ وَمَا لاَ يُنْقَضُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُنْقَضُ مِنَ الأْحْكَامِ وَمَا لاَ يُنْقَضُ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَصَرَ النَّقْضَ فِي نِطَاقِ الْمُخَالَفَةِ الصَّرِيحَةِ لِلنَّصِّ أَوِ الإْجْمَاعِ، وَمَنَعَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَحْكَامَ الْقَاضِي لاَ تَخْلُو عَنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
قِسْمٌ يُنْقَضُ بِكُلِّ حَالٍ، وَقِسْمٌ يُمْضَى بِكُلِّ حَالٍ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِوَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الْقِسْمُ الأْوَّلُ: مَا يُنْقَضُ مِنَ الأْحْكَامِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَقْضُ الْحُكْمِ إِذَا خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الإْجْمَاعَ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا ذُكِرَ: مَا يَشِذُّ مَدْرَكُهُ أَيْ دَلِيلُهُ، أَوْ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ، أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَقَيَّدَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي يُنْقَضُ إِذَا خَالَفَ الْقَوَاعِدَ أَوِ الْقِيَاسَ أَوِ النَّصَّ - فَالْمُرَادُ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا مُعَارِضٌ فَلاَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلإْجْمَاعِ فَلاَ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ وَيَجِبُ نَقْضُهُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ لِلأْخِ دُونَ الْجَدِّ، فَهَذَا خِلاَفُ الإْجْمَاعِ، لأَنَّ الأْمَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْمَالُ كُلُّهُ لِلْجَدِّ أَوْ يُقَاسِمُ الأْخَ، وَأَمَّا حِرْمَانُ الْجَدِّ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الأْمَّةِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خَالَفَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ قِيَاسَ التَّحْقِيقِ - نُقِضَ بِهِ حُكْمُهُ وَحُكْمُ غَيْرِهِ؛لأِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَدَلَ عَنِ اجْتِهَادٍ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ حِينَ أَخْبَرَهُ حَمْلُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ.
وَكَانَ لاَ يُوَرِّثُ امْرَأَةً مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى رَوَى لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا فَوَرَّثَهَا عُمَرُ».
وَقَضَى فِي الأْصَابِعِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإْبِلِ»وَنَقَضَ عَلِيٌّ رضي الله عنه قَضَاءَ شُرَيْحٍ فِي ابْنَيْ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لأِمٍّ - بِأَنَّ الْمَالَ لِلأْ خِمُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَأُولُو الأْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه نَقَضَ ذَلِكَ الْحُكْمَ لِمُخَالَفَةِ نَصِّ هَذِهِ الآْيَةِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا آثَارٌ لَمْ يَظْهَرْ لَهَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَتْ إِجْمَاعًا، وَلأِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَصْلُ الإِْجْمَاعِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ خَالَفَ قَطْعِيًّا كَنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ ظَنًّا مُحْكَمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَيَلْزَمُهُ نَقْضُ حُكْمِهِ، أَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ وَأَنَّهُ الصَّوَابُ، فَلْيَحْكُمْ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَخَوَاتِ الْحَادِثَةِ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا، وَلاَ يَنْقُضُ مَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلاً، بَلْ يُمْضِيهِ، ثُمَّ مَا نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ نَفْسِهِ نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَمَا لاَ فَلاَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَتَتَبَّعُ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَنْقُضُهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ، وَلَهُ تَتَبُّعُ قَضَاءِ نَفْسِهِ لِيَنْقُضَهُ.
وَقَالَ: مَا يَنْقُضُ مِنَ الأَْحْكَامِ لَوْ كُتِبَ بِهِ إِلَيْهِ لاَ يَخْفَى أَنَّهُ لاَ يَقْبَلُهُ وَلاَ يُنَفِّذُهُ. وَأَمَّا مَا لاَ يَنْقُضُ وَيَرَى غَيْرَهُ أَصْوَبَ مِنْهُ فَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلاَ يُنَفِّذُهُ لأِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ خَطَأً، وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: لاَ أُحِبُّ تَنْفِيذَهُ. وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِتَجْوِيزِ تَنْفِيذِهِ.
وَصَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ (الشَّافِعِيُّ) بِنَقْلِ الْخِلاَفِ فَقَالَ: إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ حُكْمُ قَاضٍ قَبْلَهُ فَلَمْ يَرَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي النَّقْضَ، لَكِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْرِضُ عَنْهُ، وَأَصَحُّهُمَا: يُنْفِذُهُ، وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ تَغَيُّرًا لاَ يَقْتَضِي النَّقْضَ، وَتَرَافَعَ الْخُصُومُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ الأَْوَّلَ وَإِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ مِنْهُ.
وَيَرَى فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ مُخَالَفَةُ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفِ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) فَإِنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَزَوُّجِ امْرَأَةِ الأْبِ وَجَارِيَتِهِ الَّتِي وَطِئَهَا الأْبُ، فَلَوْ حَكَمَ قَاضٍ بِجَوَازِ ذَلِكَ نَقَضَهُ مَنْ رُفِعَ إِلَيْهِ.
وَإِنَّ الْمُرَادَ بِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ كَالْحُكْمِ بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لِلزَّوْجِ الأْوَّلِ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ بِدُونِ إِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ ثَابِتٌ بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَيْ جُلُّ النَّاسِ وَأَكْثَرُهُمْ، وَمُخَالَفَةُ
الْبَعْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، لأِنَّ ذَلِكَ خِلاَفٌ لاَ اخْتِلاَفٌ، وَقَالُوا: يُنْقَضُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ حُكْمًا لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ قَطْعًا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لاَ يُنْقَضُ مِنَ الأْحْكَامِ:
لاَ يُنْقَضُ مِنَ الأْحْكَامِ كُلُّ حُكْمٍ وَافَقَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، فَإِذَا أَصَابَ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ فَالأْصْلُ أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ كَمَا إِذَا حَكَمَ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا وَحُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِهِ نَافِذًا، لاَ يُتَعَقَّبُ بِفَسْخٍ وَلاَ نَقْضٍ، لأِنَّ هَذَا الْقَضَاءَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الاِجْتِهَادِ فَنَفَذَ، وَلَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَجُوزُ إِبْطَالُهُ، وَالأْصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم كَانَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ، وَيَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ مَا قَضَى، فَيَسْتَقْبِلُ حُكْمَ الْقُرْآنِ وَلاَ يَرُدُّ قَضَاءَهُ الأْوَّلَ»وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه «أَنَّهُ حَكَمَ بِحِرْمَانِ الإْخْوَةِ الأْشِقَّاءِ مِنَ التَّرِكَةِ فِي الْمُشْرِكَةِ، ثُمَّ شَرَّكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْقُضْ قَضَاءَهُ الأْوَّلَ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي»، وَقَضَى فِي الْجَدِّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يَرُدَّ الأْولَى، وَلأِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لاَ يَثْبُتَ الْحُكْمُ أَصْلاً، لأِنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ يُخَالِفُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالثَّالِثُ يُخَالِفُ الثَّانِيَ، فَلاَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لَوْ قَضَى عَلَى خِلاَفِ قِيَاسٍ خَفِيٍّ - وَهُوَ مَا لاَ يُزِيلُ احْتِمَالَ الْمُفَارَقَةِ وَلاَ يَبْعُدُ كَقِيَاسِ الأْرْزِ عَلَى الْبُرِّ فِي بَابِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الطَّعَامِ - فَلاَ يَنْقُضُ الْحُكْمُ الْمُخَالِفَ لَهُ، لأِنَّ الظُّنُونَ الْمُتَعَادِلَةَ لَوْ نَقَضَ بَعْضُهَا بَعْضًا لَمَا اسْتَمَرَّ حُكْمٌ وَلَشَقَّ الأْمْرُ عَلَى النَّاسِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنِ اجْتَهَدَ مِنَ الْحُكَّامِ فَقَضَى بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ رَأَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ خَطَأٌ، فَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَمْ يَرُدَّهُ، وَحَكَمَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ بِالَّذِي هُوَ أَصْوَبُ.
وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الاِجْتِهَادِ وَالْحُكْمِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ.
فَالْحُكْمُ فِي مَحَلِّ الاِجْتِهَادِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَسَبَبِ الْقَضَاءِ، كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِينِ بِالْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَكَانَ الْقَاضِي يَرَى سَمَاعَ شَهَادَتِهِمَا، فَإِذَا رُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لاَ يَرَى ذَلِكَ يُمْضِيهِ وَلاَ يَنْقُضْهُ. وَكَذَا لَوْ قَضَى لاِمْرَأَةٍ بِشَهَادَةِ زَوْجِهَا وَآخَرَ أَجْنَبِيٍّ، فَرُفِعَ لِمَنْ لاَ يُجِيزُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ أَمْضَاهُ، لأِنَّ الأْوَّلَ قَضَى بِمُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، لأِنَّ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ سَبَبُ الْقَضَاءِ، وَهُوَ أَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلاَءِ هَلْ تَصِيرُ حُجَّةً لِلْحُكْمِ أَوْ لاَ؟
فَالْخِلاَفُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَسَبَبِ الْحُكْمِ لاَ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ.
وَفَصَّلُوا مَسْأَلَةَ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ، فَقَالُوا: إِنْ حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مَحَلَّ الاِجْتِهَادِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيَّ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسَ الْقَضَاءِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيَّ بِهِ، فَرُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يَنْقُضْهُ الثَّانِي بَلْ يُنْفِذُهُ لِكَوْنِهِ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، لِمَا عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِأَيِّ الأْقْوَالِ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَلَوْ نَقَضَهُ إِنَّمَا يَنْقُضُهُ بِقَوْلِهِ، وَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَلاَ يَجُوزُ نَقْضُ مَا صَحَّ بِالاِتِّفَاقِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ، وَلأِنَّهُ لَيْسَ مَعَ الثَّانِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ بَلِ اجْتِهَادِيٌّ، وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الأْوَّلِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَهُوَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ اتَّضَحَ لَهُ، فَلاَ يَجُوزُ نَقْضُ مَا مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلأِنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ الْقَضَاءِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الاِجْتِهَادِ وَأَنْ لاَ يَجُوزَ نَقْضُهُ، لأِنَّهُ لَوْ جَازَ نَقْضُهُ بِرَفْعِهِ إِلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلاَفَ رَأْيِ الأْوَّلِ فَيَنْقُضُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إِلَى قَاضٍ ثَالِثٍ يَرَى خِلاَفَ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ، وَيَقْضِي كَمَا قَضَى الأْوَّلُ، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنْ لاَ تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا، وَالْمُنَازَعَةُ فَسَادٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى الْفَسَادِ فَسَادٌ.
فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي رَدَّ الْحُكْمَ، فَرَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ ثَالِثٍ - نُفِّذَ قَضَاءُ الأْوَّلِ وَأُبْطِلَ قَضَاءُ الْقَاضِي الثَّانِي، لأِنَّهُ لاَ مَزِيَّةَ لأِحَدِ الاِجْتِهَادَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الأْوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلاَ يُنْتَقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، كَمَا أَنَّ قَضَاءَ الأْوَّلِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الاِجْتِهَادِ، وَالْقَضَاءُ بِالْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ بِالإْجْمَاعِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ مِنَ الثَّانِي مُخَالِفًا لِلإْجْمَاعِ، فَيَكُونُ بَاطِلاً، وَلأِنَّهُ لاَ يُنْقَضُ الاِجْتِهَادُ بِالاِجْتِهَادِ، وَالدَّعْوَى مَتَى فَصَلَتْ مَرَّةً بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لاَ تُنْتَقَضُ وَلاَ تُعَادُ، فَيَكُونُ قَضَاءُ الأْوَّلِ صَحِيحًا، وَقَضَاءُ الثَّانِيَ بِالرَّدِّ بَاطِلاًوَشَرْطُ نَفَاذِ الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي حَادِثَةٍ وَدَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَإِنْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ كَانَ فَتْوَى لاَ حُكْمًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ نَفْسُهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ، أَوْ كَانَ فِي مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الاِجْتِهَادِ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّازِلَةِ مَوْضُوعِ الدَّعْوَى يَرْفَعُ الْخِلاَفَ، فَلاَ يَجُوزُ لِمُخَالِفٍ فِيهَا نَقْضُهَا، فَإِذَا حَكَمَ بِفَسْخِ عَقْدٍ أَوْ صِحَّتِهِ لِكَوْنِهِ يَرَى ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِقَاضٍ غَيْرِهِ وَلاَ لَهُ نَقْضُهُ، وَهَذَا فِي الْخِلاَفِ الْمُعْتَبَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ وَأَنَّهُ الصَّوَابُ فَلاَ يَنْقُضُ حُكْمَهُ، بَلْ يُمْضِيهِ وَيَحْكُمُ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَقْضِهِ مِنَ الأَحْكَامِ:
الأْحْكَامُ الَّتِي يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا بَيْنَ الْقَوْلِ بِنَقْضِهَا وَالْقَوْلِ بِعَدَمِ النَّقْضِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَيَتَعَذَّرُ حَصْرُهَا، وَأَهَمُّهَا:
أ- الْحُكْمُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْحُكْمُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ: هُوَ مَا يَقَعُ الْخِلاَفُ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ الْحُكْمِ، فَقِيلَ: يَنْفُذُ، وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ عَلَى إِمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَفَيَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَنْقُضَ قَضَاءَ الأْوَّلِ إِذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إِلَى خِلاَفِ اجْتِهَادِ الأْوَّلِ، لأِنَّ قَضَاءَهُ لَمْ يُجَزْ بِقَوْلِ الْكُلِّ، بَلْ بِقَوْلِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَلَمْ يَكُنْ جَوَازُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَكَانَ مُحْتَمِلاً لِلنَّقْضِ بِمِثْلِهِ، فَلَوْ أَبْطَلَهُ الثَّانِي بَطَلَ، وَلَيْسَ لأِحَدٍ أَنْ يُجِيزَهُ كَمَا لَوْ قَضَى لِوَلَدِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ لاِمْرَأَتِهِ، لأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
أَمَّا إِذَا أَمْضَاهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلثَّالِثِ
نَقْضُهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ فِي مَحَلٍّ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِهِ مَحَلَّ الاِجْتِهَادِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الاِجْتِهَادِ كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَنْفُذُ؛ لأِنَّهُ مَحَلُّ الاِجْتِهَادِ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ يَنْفُذُ لِوُقُوعِ الاِتِّفَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَخَرَجَ عَنْ مَحَلِّ الاِجْتِهَادِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الإْجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ لاَ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ الْمُتَقَدِّمَ - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - أَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَرَى أَنَّ الإْجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ الْمُتَقَدِّمَ، فَكَانَ هَذَا الْفَصْلُ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلاَ يَرُدُّهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الاِجْتِهَادِ وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لاَ يَنْفُذُ، بَلْ يَنْقُضُهُ لأِنَّ قَضَاءَ الأْوَّلِ وَقَعَ مُخَالِفًا لِلإْجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلاً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ - فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ - فَحَكَمَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ أَنَّ الصَّوَابَ خِلاَفُهُ فَلاَ يَنْقُضُهُ، لأِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ نَقْضُ هَذَا لِرَأْيِهِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ نَقْضُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَلاَ يَقِفُ عَلَى حَدٍّ، وَلاَ يَثِقُ أَحَدٌ بِمَا قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَالُوا: يُفْسَخُ الْحُكْمُ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا سَبَقَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاضِي حَكَمَ بِقَضِيَّةٍ فِيهَا اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَوَافَقَ قَوْلاً شَاذًّا نَقَضَ حُكْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاذًّا لَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَيَرْفَعُ أَمْرَهُ إِلَى مَنْ لاَ يَرَى الْبَتَّةَ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً، فَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ - أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَلَسْتُ أَرَاهُ، لاَ يَرْجِعُ الْقَاضِي عَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ وَلاَ إِلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الأْوْلَى خَطَأً بَيِّنًا صُرَاحًا. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي الْمُسْتَنِدِ إِلَى اجْتِهَادِهِ الْمُخَالِفِ خَبَرَ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الَّذِي لاَ يَحْتَمِلُ إِلاَّ تَأْوِيلاً بَعِيدًا يَنْبُو الْفَهْمُ عَنْ قَبُولِهِ - يُنْقَضُ، وَقِيلَ: لاَ يُنْقَضُ، مِثَالُهُ الْقَضَاءُ بِنَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ - عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ - وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ بِلاَ وَلِيٍّ. وَقِيلَ: الأْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ، وَصَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، ثُمَّ بَانَ لَهُ فَسَادُ اجْتِهَادِهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلاَّ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ دُونَ الأْوَّلِ، وَلَوْ بَانَ لَهُ فَسَادُ الاِجْتِهَادِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِهِ حَكَمَ بِالاِجْتِهَادِ الثَّانِي دُونَ الأْوَّلِ، قِيَاسًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إِنْ بَانَ لَهُ بِالاِجْتِهَادِ خَطَأُ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اجْتِهَادِهِ قَبْلَ صَلاَتِهِ عَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِهِ الثَّانِي دُونَ الأْوَّلِ، وَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ صَلاَتِهِ لَمْ يُعِدْ، وَصَلَّى، وَاسْتَقْبَلَ الصَّلاَةَ الثَّانِيَةَ بِالاِجْتِهَادِ الثَّانِي.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِذَا رَفَعَ إِلَى قَاضٍ حَكَمَ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ لاَ يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ لِيُنَفِّذَهُ لَزِمَهُ تَنْفِيذُهُ فِي الأْصَحِّ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الْمَرْفُوعُ إِلَيْهِ صَحِيحًا، لأَِنَّهُ حُكْمٌ سَاغَ الْخِلاَفُ فِيهِ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ نَفْسُ الْحُكْمِ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَحُكْمِهِ بِعِلْمِهِوَقِيلَ: يَحْرُمُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ إِذَا كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي لاَ يَرَى صِحَّةَ الْحُكْمِ، وَفِي الْمُحَرَّرِ: أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ قَبْلَهُ.
ب- عَدَمُ عِلْمِ الْقَاضِي بِاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا رُفِعَ إِلَى قَاضٍ حُكْمُ قَاضٍ آخَرَ نَفَّذَهُ، أَيْ: أُلْزِمَ الْحُكْمَ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، لَوْ مُجْتَهِدًا فِيهِ عَالِمًا بِاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ، وَلاَ يُمْضِيهِ الثَّانِي فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، لَكِنْ فِي الْخُلاَصَةِ: وَيُفْتَى بِخِلاَفِهِ - وَكَأَنَّهُ - تَيْسِيرًا.
وَأَضَافَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا قَضَى الْمُجْتَهِدُ فِي حَادِثَةٍ، لَهُ فِيهَا رَأْيٌ مُقَرَّرٌ قَبْلَ قَضَائِهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ الَّتِي قَصَدَ فِيهَا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ حُكْمُهُ فِي الْمَحَلِّ الْمُخْتَلَفِ عَلَيْهِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ قَضَاءَهُ هَذَا عَلَى خِلاَفِ رَأْيِهِ الْمُقَرَّرِ قَبْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَحِينَئِذٍ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَأَمَّا إِذَا وَافَقَ قَضَاؤُهُ رَأْيَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ قَضَائِهِ أَنَّ فِيهَا خِلاَفًا، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الإْسْلاَمِ بِأَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ حُكْمُ الْقَاضِي بِعَدَمِ عِلْمِهِ الْخِلاَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ، لأِنَّ
عِلْمَهُ بِالْخِلاَفِ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ وَلاَ بُطْلاَنِهِ حَيْثُ وَافَقَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ.
ج- الْخَطَأُ فِي الْحُكْمِ:
يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَصَدَ الْحُكْمَ بِشَيْءٍ فَأَخْطَأَ عَمَّا قَصَدَهُ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوِ اشْتِغَالِ بَالٍ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَيَنْقُضُهُ الَّذِي أَصْدَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا حَكَمَ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَلاَ اجْتِهَادٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، وَوَجْهُ النَّفَاذِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ لأَِنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ الصَّوَابَ، وَرَأْيُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأً، فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ، فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، وَوَجْهُ عَدَمِ النَّفَاذِ أَنَّ قَضَاءَهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ. وَبِهَذَا أَخَذَ شَمْسُ الأْئِمَّةِ الأْوْزَجَنْدِيُّ، وَبِالأْوَّلِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ لأِنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ.
د- إِذَا خَالَفَ مَا يَعْتَقِدُهُ أَوْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ:
إِذَا خَالَفَ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ مَذْهَبَهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ، وَبِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُقَلِّدًا وَقَضَى فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ أَوْ رَأْيِ مُقَلَّدِهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُضُ هُوَ حُكْمَهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقَلِّدُ غَيْرَ مُتَبَحِّرٍ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ لِلْمُعْتَمَدِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَذْهَبِ مَنْ قَلَّدَهُ لَمْ يُنْقَضْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي مُتَّبِعًا لإِمَامٍ فَخَالَفَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لِقُوَّةِ دَلِيلٍ أَوْ قَلَّدَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ أَوْ أَتْقَى مِنْهُ فَحَسَنٌ، وَلَمْ يُقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ مَجَلَّةِ الأْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ خِلاَفَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي أُمِرَ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا، فَإِنْ عَمِلَ وَحَكَمَ لاَ يُنَفَّذُ حُكْمُهُ، لأِنَّهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ الرَّأْيَ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي قَاضِيًا لِلْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْمَذْكُورِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ وَالْمُقَلِّدَ إِذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ ثُمَّ جَدَّتْ أُخْرَى مُمَاثِلَةً فَإِنَّ حُكْمَهُ لاَ يَتَعَدَّى لِلدَّعْوَى الأْخْرَى، فَالْمُجْتَهِدُ يَجْتَهِدُ فِي النَّازِلَةِ الْجَدِيدَةِ، وَالْمُقَلِّدُ يَحْكُمُ بِمَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلاً مِنْ رَاجِحِ قَوْلِ مُقَلَّدِهِ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ أَنْ يَحْكُمَ بِضِدِّهِ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِفَسْخِ نِكَاحِ مَنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِلاَ وَلِيٍّ، ثُمَّ تَجَدَّدَ مِثْلُهَا، فَنَظَرَهَا قَاضٍ يَرَى صِحَّةَ الزَّوَاجِ بِدُونِ وَلِيٍّ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ارْتَفَعَ فِيهَا الْخِلاَفُ وَلَمْ يَجُزْ لأِحَدٍ نَقْضُهُ، حَتَّى وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْقَضِيَّةِ الأْولَى هِيَ ذَاتَ الْمَرْأَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ.
وَإِذَا خَالَفَ الْقَاضِي مَا يَعْتَقِدُهُ: بِأَنْ حَكَمَ بِمَا لاَ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ لاِعْتِقَادِهِ بُطْلاَنَهُ، فَإِنِ اعْتَقَدَهُ صَحِيحًا وَقْتَ الْحُكْمِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَلاَ نَصَّ وَلاَ إِجْمَاعَ لَمْ يَنْقُضْهُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ.
هـ - صُدُورُ الْحُكْمِ مِنْ قَاضٍ لاَ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ:
إِذَا وَلِيَ مَنْ لاَ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ لِجَهْلٍ أَوْ نَحْوِهِ فَهَلْ تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا، مَا أَصَابَ فِيهَا وَمَا أَخْطَأَ، أَمْ يَقْتَصِرُ النَّقْضُ عَلَى الأْحْكَامِ الَّتِي يَشُوبُهَا الْخَطَأُ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ أَحْكَامَهُ كُلَّهَا تُنْقَضُ وَإِنْ أَصَابَ فِيهَا، لأِنَّهَا صَدَرَتْ مِمَّنْ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، لَكِنَّ صَاحِبَ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَلاَّهُ ذُو شَوْكَةٍ بِحَيْثُ يُنَفَّذُ حُكْمُهُ مَعَ الْجَهْلِ، أَوْ نَحْوِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يُنْقَضُ مَا أَصَابَ فِيهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ الْمُخَالِفَةُ لِلصَّوَابِ كُلُّهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ أَمْ لاَ يَسُوغُ، لأِنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَضَاؤُهُ كَعَدَمِهِ، لأِنَّ شَرْطَ الْقَضَاءِ غَيْرُ مُتَوَفِّرٍ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي نَقْضِ قَضَايَاهُ نَقْضُ الاِجْتِهَادِ بِالاِجْتِهَادِ؛ لأِنَّ الأْوَّلَ لَيْسَ بِاجْتِهَادٍ. وَلاَ يُنْقَضُ مَا وَافَقَ الصَّوَابَ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي نَقْضِهِ، فَإِنَّ الْحَقَّ وَصَلَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَالْحَقُّ إِذَا وَصَلَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ لَمْ يُغَيَّرْ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ بِقَضَاءٍ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاوِرُ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي أَحْكَامِهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُشَاوِرُهُمْ فَتُنْقَضُ كُلُّهَا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِنْ شَاوَرَ الْعُلَمَاءَ مَضَى قَطْعًا وَلَمْ يُتَعَقَّبْ حُكْمُهُ.
وَاخْتَارَ صَاحِبُ الإْنْصَافِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ مِنْ أَحْكَامِهِ إِلاَّ مَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ هَذَا عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ مِنْ زَمَنٍ وَلاَ يَسَعُ النَّاسَ غَيْرُهُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِخِلاَفِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَأَعْطَى بِذَلِكَ حُجَّةً لاَ يُنَفَّذُ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وَلاَ يُعْمَلُ بِالْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ»أَيْ قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ وَحَكَمَ بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ وَحَكَمَ بِخِلاَفِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَكَذَا قَاضٍ قَضَى عَلَى جَهْلٍ.
و- صُدُورُ حُكْمٍ مِنْ قَاضٍ جَائِرٍ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأْحْكَامِ الَّتِي يُصْدِرُهَا الْقَاضِي إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْجَوْرِ وَكَانَ غَيْرَ عَدْلٍ فِي حَالِهِ وَسِيرَتِهِ - عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلاً، ظَهَرَ جَوْرُهُ أَوْ خَفِيَ - هَلْ تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا مَا جَانَبَ الصَّوَابَ وَمَا وَافَقَهُ، أَمْ تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ الْخَاطِئَةُ دُونَ غَيْرِهَا؟
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا - إِلَى وُجُوبِ نَقْضِ أَحْكَامِهِ كُلِّهَا، صَوَابًا كَانَتْ أَوْ خَطَأً، لأِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ حَيْفُهُ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا ظَهَرَ الصَّوَابُ وَالْعَدْلُ فِي قَضَائِهِ، وَكَانَ بَاطِنُ أَمْرِهِ فِيهِ جَوْرٌ، وَلَكِنْ عُرِفَ مِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّ حُكْمَهُ فِيهَا صَوَابٌ، وَشَهِدَ بِذَلِكَ مَنْ عَرَفَ الْقَضَايَا،فَإِنَّ أَحْكَامَهُ تَمْضِي وَلاَ تُنْقَضُ، لأِنَّهَا إِذَا نُقِضَتْ وَقَدْ مَاتَتِ الْبَيِّنَةُ وَانْقَطَعَتِ الْحُجَّةُ كَانَ ذَلِكَ إِبْطَالاً لِلْحَقِّ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: إِنَّ أَقْضِيَةَ الْخُلَفَاءِ وَالأْمَرَاءِ وَقُضَاةِ السُّوءِ جَائِزَةٌ مَا عُدِلَ فِيهِ مِنْهَا، وَيُنْقَضُ مِنْهَا مَا تَبَيَّنَ فِيهِ جَوْرٌ أَوِ اسْتُرِيبَ، مَا لَمْ يُعْرَفِ الْقَاضِي بِالْجَوْرِ فَتُنْقَضُ كُلُّهَا.
وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ فِي الْقَاضِي غَيْرِ الْعَدْلِ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ:
الأْوَّلُ: تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.
الثَّانِي: عَدَمُ نَقْضِهَا مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ، مَا لَمْ يَثْبُتِ الْجَوْرُ، وَفِي التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ ضَرَرٌ لِلنَّاسِ وَوَهَنٌ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَخْلُو مِنْ أَعْدَاءٍ يَرْمُونَهُ بِالْجَوْرِ يُرِيدُونَ الاِنْتِقَامَ مِنْهُ بِنَقْضِ أَحْكَامِهِ، فَيَنْبَغِي عَدَمُ تَمْكِينِهِمْ مِنْ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: رَأْيُ أَصْبَغَ، وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا عَدَلَ فِيهِ وَلَمْ يُسْتَرَبْ فِيهِ، وَيُنْقَضْ مَا تَبَيَّنَ فِيهِ الْجَوْرُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْقَضُ حُكْمُ مَنْ شَاعَ
جَوْرُهُ إِذَا أَثْبَتَ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ حَكَمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَاضِي تَعَمَّدَ الْجَوْرَ فِيمَا قَضَى وَأَقَرَّ بِهِ فَالضَّمَانُ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ أَوْ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَيُعَزَّرُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ لاِرْتِكَابِهِ الْجَرِيمَةَ الْعَظِيمَةَ، وَيُعْزَلُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَنَصَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ جَوْرُهُ وَرِشْوَتُهُ رُدَّتْ قَضَايَاهُ وَشَهَادَتُهُ.
ز- الْحُكْمُ الْمَشُوبُ بِالْبُطْلاَنِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ أَوْ لأِحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ مَنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:
الرَّأْيُ الأْوَّلُ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ - نَقْضَ الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ بَاطِلاً لِمَكَانِ التُّهْمَةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ، فَيُنَفَّذُ حُكْمُهُ لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ شَرِيكِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْمُخْتَارِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ - أَنَّهُ يُنَفَّذُ حُكْمُهُ لَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ، لأِنَّ الْقَاضِيَ أَسِيرُ الْبَيِّنَةِ، فَلاَ تَظْهَرُ مِنْهُ تُهْمَةٌ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَبْنَى الْحُكْمِ هُوَ اعْتِرَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ لاِبْنِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ ذُكِرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ لَهُمْ لأِنَّهُ يُتَّهَمُ بِالتَّسَاهُلِ فِيهَا.
وَيُنْقَضُ الْحُكْمُ إِذَا أَثْبَتَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ مِنْ وُجُودِ عَدَاوَةٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ الْقَاضِي، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَوْ أَحَدِ وَالِدَيْهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَجَوَّزَ الْمَاوَرْدِيُّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَسْبَابَ الْحُكْمِ ظَاهِرَةٌ بِخِلاَفِ شَهَادَتِهِ عَلَى عَدُوِّهِ.
ح- الْحُكْمُ بِبَيِّنَةٍ فِيهَا خَلَلٌ:
إِذَا كَانَ مَبْنَى الْحُكْمِ بَيِّنَةً لاَ شِيَةَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ نَقْضُ الْحُكْمِ، وَإِنِ اعْتَوَرَ الْبَيِّنَةَ مَا يَعِيبُهَا، نُظِرَ: هَلْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ أَمْ لاَ؟ وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
كَوْنُ الشَّاهِدَيْنِ كَافِرَيْنِ أَوْ صَغِيرَيْنِ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَقْضِ الْحُكْمِ إِذَا بُنِيَ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ظَهَرَ كَوْنُهُمَا كَافِرَيْنِ، أَوْ صَغِيرَيْنِ فِيمَا عَدَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ بَيْنَ الصِّغَارِ بِشُرُوطِهَا - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا .
فِسْقُ الشَّاهِدَيْنِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ يُنْقَضُ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ كَانَا قَبْلَ الْحُكْمِ غَيْرَ عَدْلَيْنِ لِفِسْقِهِمَا.
وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ نَقْضَ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْمَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِينَ لَكِنَّهُ إِذَا قَضَى بِمُوجِبِهِمَا لاَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِلاَّ فِيمَا ذُكِرَ.
وَيَرَى ابْنُ الزَّاغُونِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي نَقْضُ الْحُكْمِ بِفِسْقِ الشُّهُودِ إِلاَّ بِثُبُوتِهِ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا إِنْ حَكَمَ بِعِلْمِهِ فِي عَدَالَتِهِمَا، أَوْ بِظَاهِرِ عَدَالَةِ الإِْسْلاَمِ فَلاَ يُنْقَضُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِوَيَرَى ابْنُ قُدَامَةَ وَأَبُو الْوَفَاءِ أَنَّهُ إِذَا بَانَ فِسْقُ الشُّهُودِ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ بَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَنْقُضْهُ.
تَقْصِيرُ الْقَاضِي فِي الْكَشْفِ عَنِ الشُّهُودِ:
إِذَا ادَّعَى الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ قَصَّرَ فِي الْكَشْفِ عَنِ الشُّهُودِ وَأَتَى بِمَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ بِمَا يَجْرَحُهُمْ كَالْفِسْقِ، فَفِي نَقْضِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ لِلإِمَامِ مَالِكٍ، وَبِالنَّقْضِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَبِعَدَمِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ.
الْجِهَةُ الَّتِي تَنْقُضُ الْحُكْمَ:
فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا نَقْضُ الْحُكْمِ: إِمَّا أَنْ يَنْقُضَهُ الْقَاضِي الَّذِي أَصْدَرَهُ أَوْ مَنْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ، كَالْقَاضِي الَّذِي يُوَلَّى الْقَضَاءَ بَعْدَ غَيْرِهِ فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ سَلَفِهِ، أَوْ كَالْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ لِتَنْفِيذِ ذَلِكَ الْحُكْمِ.
وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ وَلِيُّ الأْمْرِ عَدَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ لِلنَّظَرِ فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ، أَصْدَرَهُ مَنْ تَلْحَقُهُ الشُّبْهَةُ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- نَقْضُ الْقَاضِي أَحْكَامَ نَفْسِهِ:
الأْصْلُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا حَكَمَ فَلَيْسَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ نَقْضُ حُكْمِهِ إِلاَّ إِذَا خَالَفَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا، لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ نَصُّوا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ وَهِمَ فِي قَضَائِهِ أَوْ نَسِيَ أَوْ قَضَى بِخِلاَفِ رَأْيِهِ - وَهُوَ لاَ يَذْكُرُ - وَلَكِنْ عَلَى مَا قَضَى بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً، فَيَنْقُضُهُ بِنَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلإْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَقُولُ بِمُضِيِّ هَذَا الْفَصْلِ وَلاَ يُرْجَعُ فِيهِ.
وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ كُلَّ قَضَاءٍ لاَ يُعْرَفُ خَطَؤُهُ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ كَمُخَالَفَتِهِ لِرَأْيِهِ السَّابِقِ فَلاَ يَنْقُضُهُ سِوَاهُ، مَا لَمْ تَشْهَدْ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، فَيَنْقُضُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ.
ب- نَقْضُ الْقَاضِي أَحْكَامَ غَيْرِهِ:
لَيْسَ عَلَى الْقَاضِي تَتَبُّعُ قَضَاءِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ لأِنَّ الظَّاهِرَ صِحَّتُهَا، لَكِنْ إِنْ وَجَدَ فِيهَا مُخَالَفَةً صَرِيحَةً نَقَضَهَا، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ مَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ أَوْ يَنْقُضُ الْحُكْمَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ مَا نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ نَفْسِهِ نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَمَا لاَ فَلاَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
ج- نَقْضُ الأْمِيرِ وَالْفُقَهَاءِ حُكْمَ الْقَاضِي:
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الأْحْوَالِ جَمْعُ الْفُقَهَاءِ لِلنَّظَرِ فِي حُكْمِ الْقَاضِي، فَقَدْ جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: قَالَ مُطَرِّفٌ: وَإِذَا اشْتُكِيَ عَلَى الْقَاضِي فِي قَضِيَّةٍ حَكَمَ بِهَا وَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى الأْمِيرِ: فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَأْمُونًا فِي أَحْكَامِهِ عَدْلاً فِي أَحْوَالِهِ بَصِيرًا بِقَضَائِهِ فَأَرَى أَنْ لاَ يَعْرِضَ لَهُ الأْمِيرُ فِي ذَلِكَ وَلاَ يَقْبَلَ شَكْوَى مَنْ شَكَاهُ وَلاَ يُجْلِسَ الْفُقَهَاءَ لِلنَّظَرِ فِي قَضَائِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْخَطَأِ إِنْ فَعَلَهُ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِنْ تَابَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مُتَّهَمًا فِي أَحْكَامِهِ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ فِي حَالِهِ أَوْ جَاهِلاً بِقَضَائِهِ فَلْيَعْزِلْهُ وَيُوَلِّ غَيْرَهُ. قَالَ مُطَرِّفٌ: وَلَوْ جَهِلَ الأْمِيرُ فَأَجْلَسَ فُقَهَاءَ بَلَدِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ وَجَهِلُوا هُمْ أَيْضًا، أَوْ أُكْرِهُوا عَلَى النَّظَرِ فَنَظَرُوا فَرَأَوْا فَسْخَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَفَسَخَهُ الأْمِيرُ أَوْ رَدَّ قَضِيَّتَهُ إِلَى مَا رَأَى الْفُقَهَاءُ، فَأَرَى لِمَنْ نَظَرَ فِي هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْحُكْمِ الأْوَّلِ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ أَوْ كَانَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَوْ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الأْئِمَّةُ الْمَاضُونَ فَأَخَذَ بِبَعْضِ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ مَاضٍ وَالْفَسْخُ الَّذِي تَكَلَّفَهُ الأْمِيرُ وَالْفُقَهَاءُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ الأْوَّلُ خَطَأً بَيِّنًا أَمْضَى فَسْخَهُ وَأَجَازَ مَا فَعَلَهُ الأْمِيرُ وَالْفُقَهَاءُ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الأْوَّلُ خَطَأً بَيِّنًا أَوْ لَعَلَّهُ قَدْ عَرَفَ مِنَ الْقَاضِي بَعْضَ مَا لاَ يَنْبَغِي مِنَ الْقُضَاةِ وَلَكِنَّ الأْمِيرَ لَمْ يَعْزِلْهُ وَأَرَادَ النَّظَرَ فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِلْفُقَهَاءِ النَّظَرُ فِيهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ حُكْمَهُ خَطَأٌ بَيِّنٌ فَلْيَرُدَّهُ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا عَلَى الأْمِيرِ فَرَأَى بَعْضُهُمْ رَأْيًا وَرَأَى بَعْضُهُمْ رَأْيًا غَيْرَهُ لَمْ يَمِلْ مَعَ أَكْثَرِهِمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمَا رَآهُ صَوَابًا قَضَى بِهِ وَأَنْفَذَهُ.
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ إِذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْمُشِيرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ. قَالَ مُطَرِّفٌ: وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ فَصَلَ بَعْدُ فِي الْخُصُومَةِ فَصْلاً، فَلَمَّا أَجْلَسَ مَعَهُ غَيْرَهُ لِلنَّظَرِ فِيهَا قَالَ: قَدْ حَكَمْتُ، لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لأِنَّ الْمَنْعَ عَنِ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ وَحْدَهَا فَتَلْزَمُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَزَلَ ثُمَّ قَالَ: قَدْ كُنْتُ حَكَمْتُ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ مُطَرِّفٌ: وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي الْمُشْتَكَى فِي غَيْرِ بَلَدِ الأْمِيرِ الَّذِي هُوَ بِهِ وَحَيْثُ يَكُونُ قَاضِي الْجَمَاعَةِ فَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَعْرُوفًا مَشْهُورًا بِالْعَدْلِ فِي أَحْكَامِهِ وَالصَّلاَحِ فِي أَحْوَالِهِ أَقَرَّهُ وَلَمْ يَقْبَلْ عَلَيْهِ شَكْوَى وَلَمْ يَكْتُبْ بِأَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَلاَ يَفْعَلُ هَذَا بِأَحَدٍ مِنْ قُضَاتِهِ إِلاَّ أَنْ يُشْتَكَى مِنْهُ اسْتِبْدَادٌ بِرَأْيٍ أَوْ تَرْكُ رَأْيِ مَنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ أَنْ يُشَاوِرَ فِي أُمُورِهِ وَأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَ لَهُ أَحَدًا أَوْ يُجْلِسَ مَعَهُ أَحَدًا.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَاضِي غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْعَدْلِ وَالرِّضَا وَتَظَاهَرَتِ الشَّكِيَّةُ عَلَيْهِ كَتَبَ إِلَى رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ ذَلِكَ الْقَاضِي فَأَقْدَمَهُمْ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْهُ وَالْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَا يَجِبُ أَمْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَزَلَهُ.
قَالَ: وَلَوْ جَهِلَ الأْمِيرُ وَكَتَبَ إِلَى نَاسٍ يَأْمُرُهُمْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ فَفَعَلُوا وَاخْتَلَفَ رَأْيُهُمْ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الأْمِيرُ كَتَبَ إِلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَالأْمَنَاءِ أَنْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ هُوَ مُنَفِّذَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَنْظُرُوا مَعَهُ ثُمَّ يَجْتَهِدُوا وَيَحْكُمُ بِأَفْضَلِ مَا يَرَاهُ مَعَهُمْ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالَّذِي يَرَاهُ مَعَ بَعْضِ مَنْ جَلَسَ مَعَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لاَزِمًا لِمَنْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ أُمِرَ بِالنَّظَرِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسُوا مَعَهُ وَقَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى خِلاَفِهِ لَمْ أَرَ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ لأِنَّهُ الآْنَ عَلَى مِثْلِ مَا اشْتُكِيَ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَكْتُبُ بِذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَرَأْيِ الْقَوْمِ إِلَى الأْمِيرِ فَيَكُونُ هُوَ الآْمِرَ بِالَّذِي يَرَاهُ وَالْحَاكِمَ فِيهِ دُونَهُمْ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَالَ فِيهِ مِثْلَ قَوْلِ مُطَرِّفٍ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ وَرَدَ بِنَصِّهِ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ.
طَلَبُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ نَقْضَ الْحُكْمِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ النَّقْضَ إِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى - كَالطَّلاَقِ- نَقَضَهُ الْقَاضِي بِدُونِ طَلَبٍ، هَذَا فِيمَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَمَا لاَ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، فَفِي بَعْضِ صُوَرِهِ الضَّمَانُ.
وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ فَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي نَقْضُهُ إِلاَّ بِمُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ تَعْرِيفُ الْخَصْمَيْنِ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ خَطَأٍ حَتَّى وَإِنْ عَلِمَا بِذَلِكَ، لأِنَّهُمَا قَدْ يَتَوَهَّمَانِ أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَائِرُ الأْصْحَابِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ خِلاَفًا لاِبْنِ سُرَيْجٍ الَّذِي قَالَ: إِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُ الْخَصْمَيْنِ، فَإِنْ عَلِمَا وَتَرَافَعَا إِلَيْهِ نَقَضَ الْحُكْمَ.
صِيغَةُ النَّقْضِ:
صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ صِيغَةَ النَّقْضِ هِيَ: نَقَضْتُهُ، أَوْ فَسَخْتُهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَأَبْطَلْتُهُ، وَلَوْ قَالَ: بَاطِلٌ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَوَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَقْضًا؛ إِذِ الْمُرَادُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَصِحَّ مِنْ أَصْلِهِ.
تَسْبِيبُ حُكْمِ النَّقْضِ:
إِذَا نَقَضَ الْقَاضِي الْحُكْمَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي نَقَضَ الْحُكْمَ مِنْ أَجْلِهِ؛ لِئَلاَّ يُنْسَبَ لِلْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ بِالنَّقْضِ الْجَوْرُ وَالْهَوَى بِنَقْضِهِ الأْحْكَامَ الَّتِي حَكَمَ بِهَا الْقُضَاةُ.
تَسْجِيلُ حُكْمِ النَّقْضِ:
يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَجِّلَ النَّقْضَ كَمَا يُسَجِّلُ الْحُكْمَ؛ لِيَكُونَ تَسْجِيلُ الثَّانِي مُبْطِلاً لِلأْوَّلِ كَمَا صَارَ الثَّانِي نَاقِضًا لِلْحُكْمِ الأْوَّلِ.