موسوعة قانون المرافعات
ورأی المشروع كذلك أن يبقى على نظام التسوية الودية لما له من فوائد عملية كثيرة أذ يؤدي إلى تسوية معظم التوزيعات وتصفية المنازعات المواد 475 الى 479 من المشروع) .
1- إذا كان الحكم المطعون فيه قد إنتهى إلى سقوط حق الدائن مباشر إجراءات التنفيذ العقارى فى الإشتراك فى إجراءات التوزيع إستناداً إلى أنه لم يقدم فى الميعاد الأوراق المؤيدة لطلبه ، مع أن هذه الأوراق كانت أمام قاضى التوزيع عند إعداد قائمة التوزيع المؤقتة ، كما ثبت وجودها ضمن أوراق المناقضة فى قائمة التوزيع المؤقتة أمام المحكمة الإبتدائية بما يترتب عليه إمكان الإطلاع على هذه الأوراق و تحقيق الغاية التى إبتغاها المشرع من تقديمها و الإطلاع عليها فإنه يكون معيباً بالخطأ فى تطبيق القانون و مخالفة الثابت بالأوراق .
(الطعن رقم 407 لسنة 37 جلسة 1972/05/23 س 23 ع 2 ص 990 ق 154)
ضم توزيع إلي آخر:
تنص المادة (475) من قانون المرافعات أن لقاضي التنفيذ في الجلسة المحددة للتسوية الودية، أن يثبت مناقشة ذوي الشأن في محضر الجلسة وملاحظاتهم وله السلطة التامة في ضم توزيع إلي آخر إذا طلب أحد ذوي الشأن ذلك، ولما كان طلب الضم يقدم إلى المحكمة التي تنظر دعاوي مرتبطة، ولا يمتد هذا الطلب إلى الدعاوي المنظورة أمام محكمة أخري وإنما يدفع في هذه الحالة بالإحالة عملاً بالمادة (112) من قانون المرافعات، ومن ثم ينصرف الضم الذي نصت عليه المادة (475) إلى التوزيعات المنظورة أمام نفس المحكمة ولا يمتد إلي أي توزيع منظور أمام محكمة أخرى (انظر بهذا المعني والي بند 312 وقارن أبو الوفا بند 414 ويري أن طلب الضم يجوز تقديمه سواء كان التوزيع قائماً أمام نفس المحكمة أم أمام محكمة أخرى).
ويجب ليقرر قاضي التنفيذ ضم توزيع إلي آخر أن يوجد بينهما ارتباط يبرر ذلك لوجود دائن له حق ممتاز في التوزيعين الواردين على أموال المدين، أو وحدة الحاجزين فيهما ووجود المستندات في أي منهما، أو لغير ذلك من أوجه الارتباط، ومتى ضم التوزيعان اندمجا وأصبحا توزيعاً واحداً إذا اتحدا موضوعاً وخصوماً وسبباً وبدأت إجراءات التسوية الودية، فإن لم تتيسر الاعتراض بعض ذوي الشأن، حكم قاضي التنفيذ في الاعتراض، واستمرت الإجراءات على نحو ما تقدم.
ولا يجوز الدفع بالضم إلا عند وجود أكثر من حصيلة بخزينة المحكمة وتعلقت بنفس الخصوم وأعدت في شأن كل منها قائمة مؤقتة، سواء نظرت جميعها في جلسة تسوية واحدة أو في جلسات مختلفة، إذ يترتب على الدفع تأجيل التوزيع لنظره بالجلسة التي ينظر بها التوزيع الآخر ثم يفصل قاضي التنفيذ في الدفع، بقبوله إن تبين له وجود ارتباط أو رفضه. أما إذا وجد التوزيع المنظور بجلسة التسوية ولم توجد حصيلة أخرى بخزانة المحكمة، فلا محل للدفع بالضم حتي لو وجدت إجراءات تنفيذ على أموال أخرى بين نفس الخصوم، كما لو كانت الحصيلة المودعة والمتعلقة بالتوزيع المطروح تمثل ثمن منقولات بينما إجراءات التنفيذ العقاري مازالت قائمة، وحينئذ يتم توزيع ثمن المنقولات، وبعد إيداع ثمن العقار تتخذ إجراءات جديدة بالتسوية الودية تبدأ بين الخصوم. فإن لم يتفقوا تدخل قاضي التنفيذ بإعداد قائمة مؤقتة وتستمر الإجراءات.
وإذا قدم بجلسة التسوية دفع بإحالة التوزيع إلى محكمة تنفيذ أخري لنظره مع توزيع آخر بين نفس الخصوم، تعين القضاء برفضه.(المطول في شرح قانون المرافعات، المستشار/ أنور طلبة، الناشر/ المكتب الجامعي الحديث، الجزء العاشر، الصفحة : 549)
تم تعديل عبارة (إدارة التنفيذ) بعبارة (قاضي التنفيذ) بالقانون 76 سنة 2007 ، فكان النص قد أجاز لقاضي التنفيذ ضم توزيع إلي آخر سواء أكان هذا التوزيع قائماً أمام ذات المحكمة أم أمام محكمة أخرى بشرط أن يكون بينهما ارتباط يبرر هذا الضم ، ومبررات الضم في هذا الصدد كثيرة لا تدخل تحت حصر. ويكفي اتخاذ الحاجزين في توزيعين ، أو اشتراك دائن ممتاز فيهما . وهذا الضم إذا قام مبرره فله فوائد عملية كثيرة منها منع تناقض الأحكام وعدم توافقها في المناقضات المختلفة وفي تحديد الديون وقيمتها فضلاً عن أن السند التنفيذي أو المستندات الأساسية في التوزيع قد تكون مقدمة في توزيع آخر، مما يستلزم ضم التوزيعين.
وتعيين إدارة التنفيذ خبيراً لتقدير ثمن أحاد مابيع من العقارات، جملة قد تستدعيه ظروف التوزيع إذ قد يكون امتیاز أحد الدائنين منصباً علي عقار بذاته ومن ثم فإن تقدمه عن باقي الدائنين لا ينصب إلا علي ثمن هذا العقار وحده ومن أجل ذلك يجب تقدير ثمنه حتى يختص به قبل غيره .(التعليق على قانون المرافعات، المستشار/ عز الدين الديناصوري والأستاذ/ حامد عكاز، بتعديلات وتحديث أحكام النقض للأستاذ/ خيرت راضي المحامي بالنقض، الطبعة 2017 دار المطبوعات الجامعية، الجزء الثامن ، الصفحة : 692)
التسوية الودية: استهدف المشرع بنص المادة 475 إتاحة الفرصة لذوي الشأن للمناقشة في القائمة المؤقتة، تفادياً للمشاكل العديدة التي قد تعرض في التوزيع، فيجتمعون سوياً للاتفاق على التوزيع كما تم في هذه القائمة أو على توزيع آخر يرتضونه، وبهذا يتقادون الخلافات التي قد تحدث بينهم بسبب عدم المناقشة وجهاً لوجه (سولیس - ص 206 جوسران - بند 265 ص 271، عبد الحميد أبو هيف بند 111 ص 729، فتحي والي - بند 314 ص 573 و ص 574 ) ويسمى هذا الاتفاق بالتسوية الودية .
وينبغي التفرقة بين التسوية الودية التي تتم في المحكمة وتحت إشراف قاضي التنفيذ، وبين اتفاق ذوي الشأن على توزيع حصيلة التنفيذ بالتراضي خارج مجلس القضاء .
ووفقاً للمادة 475 - محل التعليق . ينشر ذوي الشأن في الجلسة المحددة ويناقشون في القائمة المؤقتة وتثبت ملاحظاتهم بناء على أمر من القاضي في المحضر، فإنا انتهى ذوي الشأن الذين حضروا الجلسة إلى اتفاق على التوزيع بتسوية ودية أثبت القاضي اتفاقهم في محضر ووقعه وكاتب الجلسة والحاضرون وتكون لهذا المحضر قوة السند التنفيذي (مادة 476 مرافعات).
وليس دور القاضي في التسوية الودية دوراً سلبياً يقتصر على إثبات ما يتفق عليه الحاضرون واضفاء الرسمية عليه، وإنما له دور إيجابي فهو الذي يوجه المناقشة ويشرف عليها بحضره لنقط النزاع التي تسفر عنها المناقشة مما يساعد على إجراء التسوية وذلك بالتسليم بالاعتراضات البادية الصحة وسحب الاعتراضات البادية الفساد. وللقاضي أن يرفض اتفاق الدائنين إذا كان مخالفاً للقانون كما إذا كان بعضهم ناقص الأهلية، بمعنى أنه ليس أهلاً لإبرام الاتفاق، ولكن لا يمنع من إقرار الاتفاق على التسوية الودية أن يكون أحد الدائنين ناقص الأهلية إذا كان مقتضى التسوية إدراجه بين الدائنين بكامل حقه (رمزی سیف - بند 573 ص 573).
ويرى البعض (جارسونيه - ج 4 - بند 800 فتحي والي - توزيع حصيلة التنفيذ الجبري في قانون المرافعات المصری - بحث في مجلة القانون والاقتصاد السنة الخامسة والثلاثون سنة 1965 - العدد 3 ص 768 ) أن للقاضي أن يرفض إقرار الاتفاق على التسوية ولو لم يكن مخالفاً للقانون إذا كان لا يتفق مع قواعد العدالة، كما إذا كان ينطوي علي استغلال عدم خبرة أحد الدائنين وخوفه من الدخول في منازعات مع الغير للحصول منه على قبول مرتبه لدينه أومقدار لدينه أقل مما هو ثابت له.
ويلاحظ أن لكل صاحب مصلحة أن يدلي بملاحظاته الواجب إثباتها في محضر جلسة التسوية الودية، ويكون على القاضي التحقق من صحة الإعلانات والتوكيلات وأهلية ذوي الشأن وقبول التدخل ممن لم يعلن من أصحاب الشأن أو من يصح إعلانه، ويكون له أن يطلب ضم توزيع إلى آخر، سواء أكان هذا التوزيع قائماً أمام ذات الحكمة أم أمام محكمة أخرى، بشرط أن يكون بينهما ارتباط يبرر هذا الضم، ومبررات الضم، في هذا الصدد كثيرة لا تدخل تحت حصر، ويكفي اتحاد الحاجزين في توزیعين، أو أشتراك دائن ممتاز فيهما، ولا يخفى ما لهذا الضم من مبررات ثابتة في كل الأحوال، على تقدير أن الحكم الصادر في المناقضة - في صدد توزیع معين، يحوز الحجية بتوافر شروطها وهي وحدة الموضوع والسبب والأطراف، فمن المصلحة منعاً من تناقص الأحكام أو من عدم توافقها - في المناقضات المختلفة ضم توزيع إلى آخر حتی تتحدد بصورة نهائية حاسمة وفي جميع الأحوال الديون وقيمتها هذا فضلاً من أن السند التنفيذي أو المستندات الأساسية في التوزيع قد تكون مقدمة في توزيع آخر، مما يستلزم الأمر ضم التوزيعين، وخاصة أن محكمة النقض تقرر أن الإشارة في الطلب إلى أن المستندات مقدمة في تقسيم أخر لا يغني عن وجوب تقديمها بنقض 1969 / 7/ 3- السنة 20 ص 1112 نقض 1972 / 5 / 23 - السنة 23 ص 990 أحمد أبو الوفا - التعليق ص1519 وص 1520 وقارن فتحي والي التنفيذ الجبري بند 312).(الموسوعة الشاملة في التعليق على قانون المرافعات، الدكتور/ أحمد مليجي، الطبعة الثالثة عشر 2016 طبعة نادي القضاة ، الجزء / السادس ، الصفحة : 637)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / التاسع والثلاثون ، الصفحة / 72
مُنَاظَرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
- الْمُنَاظَرَةُ لُغَةً: يُقَالُ: نَاظَرَ فُلاَنًا: صَارَ نَظِيرًا لَهُ، وَنَاظَرَ فُلاَنًا: بَاحَثَهُ وَبَارَاهُ فِي الْمُجَادَلَةِ، وَنَاظَرَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: جَعَلَهُ نَظِيرًا لَهُ. فَالْمُنَاظَرَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّظِيرِ أَوْ مِنَ النَّظَرِ بِالْبَصِيرَةِ.
وَالْمُنَاظَرَةُ اصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الآْمِدِيُّ بِأَنَّهَا تَرَدُّدُ الْكَلاَمُ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ يَقْصِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا تَصْحِيحَ قَوْلِهِ وَإِبْطَالَ قَوْلِ صَاحِبِهِ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا: النَّظَرُ بِالْبَصِيرَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِظْهَارًا لِلصَّوَابِ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُجَادَلَةُ:
الْمُجَادَلَةُ لُغَةً:
الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ، يُقَالُ: جَدَلَ الرَّجُلُ جَدَلاً فَهُوَ جَدِلٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ: إِذَا اشْتَدَّتْ خُصُومَتُهُ، وَجَادَلَ جِدَالاً وَمُجَادَلَةً: إِذَا خَاصَمَ بِمَا يَشْغَلُ عَنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ.
وَالْمُجَادَلَةُ اصْطِلاَحًا: قَالَ الآْمِدِيُّ: هِيَ الْمُدَافَعَةُ لإِِسْكَاتِ الْخَصْمِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُجَادِلَيْنِ يُرِيدُ حِفْظَ مَقَالِهِ وَهَدْمَ مَقَالِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلاً.
أَمَّا الْمُنَاظِرَانِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ إِظْهَارَ الْحَقِّ.
ب - الْمُنَاقَشَةُ:
الْمُنَاقَشَةُ لُغَةً: يُقَالُ: نَقَشَ الشَّيْءَ نَقْشًا: بَحَثَ عَنْهُ وَاسْتَخْرَجَهُ، وَيُقَالُ: نَقَشَ الشَّوْكَةَ بِالْمِنْقَاشِ، وَنَقَشَ الْحَقَّ مِنْ فُلاَنٍ، وَنَاقَشَهُ مُنَاقَشَةً وَنِقَاشًا اسْتَقْصَى فِي حِسَابِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاقَشَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَهْدُفُ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الْحَقِّ.
ج - الْمُكَابَرَةُ:
الْمُكَابَرَةُ لُغَةً: الْمُغَالَبَةُ. يُقَالُ: كَابَرْتُهُ مُكَابَرَةً، غَالَبْتَهُ وَعَانَدْتَهُ.
وَالْمُكَابَرَةُ اصْطِلاَحًا: الْمُنَازَعَةُ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ مَعَ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِفَسَادِ كَلاَمِهِ وَصِحَّةِ كَلاَمِ خَصْمِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُكَابَرَةِ التَّضَادُّ مِنْ حَيْثُ الْغَايَةُ وَالثَّمَرَةُ.
د - الْمُعَانَدَةُ:
الْمُعَانَدَةُ لُغَةً: مِنْ بَابِ ضَرَبَ، يُقَالُ: عَانَدَ فُلاَنٌ عِنَادًا: إِذَا رَكِبَ الْخِلاَفَ وَالْعِصْيَانَ، وَعَانَدَهُ مُعَانَدَةً: عَارَضَهُ، قَالَ الأَْزْهَرِيُّ: الْمُعَانِدُ الْمُعَارِضُ بِالْخِلاَفِ لاَ بِالْوِفَاقِ.
وَالْمُعَانَدَةُ اصْطِلاَحًا: الْمُنَازَعَةُ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ بِكَلاَمِهِ هُوَ وَكَلاَمُ صَاحِبِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُعَانَدَةِ التَّبَايُنُ.
هـ - الْمُحَاوَرَةُ:
الْمُحَاوَرَةُ لُغَةً: يُقَالُ: حَاوَرَهُ مُحَاوَرَةً وَحِوَارًا: جَاوَبَهُ، وَحَاوَرَهُ: جَادَلَهُ، قَالَ تَعَالَى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) وَيُقَالُ: تَحَاوَرُوا: تَرَاجَعُوا الْكَلاَمَ بَيْنَهُمْ وَتَجَادَلُوا. قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا).
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرَاجِعُ صَاحِبَهُ فِي قَوْلِهِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْمُنَاظَرَةِ
الْمُنَاظَرَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ الْمُنَاظَرَةُ الَّتِي تَمَّتْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَبَيْنَ النَّمْرُودِ الَّذِي ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَذَلِكَ فِي قوله تعالي أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وَمُنَاظَرَةُ مُوسَى عليه السلام مَعَ فِرْعَوْنَ وَذَلِكَ فِي قوله تعالي قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَْوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأََجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ).
وَأَشَارَ ابْنُ الْحَنْبَلِيِّ إِلَى وَجْهِ الدَّلاَلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ(وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ). عَلِمَ مُوسَى عليه السلام أَنَّهُ سُؤَالٌ عَنْ مَاهِيَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرَبُّ الْعَالَمِينَ لاَ مَاهِيَّةَ لَهُ، لأَِنَّهُ الأَْوَّلُ فَلاَ شَيْءَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ مِنْهُ، بَلْ هُوَ مُكَوِّنُ مَا تَتَكَوَّنُ الأَْشْيَاءُ مِنْهُ، فَلَمْ يَشْتَغِلْ مُوسَى بِرَدِّ سُؤَالِهِ وَبَيَانِ فَسَادِهِ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ تَعْرِيفَ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلاَ بِصِفَتِهِ فَقَالَ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) فَحَصَرَ الْكَائِنَاتِ فِي ثَلاَثِ كَلِمَاتٍ،
فَلَمَّا قَالَ (أَلاَ تَسْتَمِعُونَ) قَالَ( رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَْوَّلِينَ) رَدًّا عَلَى فِرْعَوْنَ قَوْلَهُ: ( أَنَا رَبُّكُمُ الأَْعْلَى) فَلَمَّا قَالَ )إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أَرْدَفَ مَا ذَكَرَ بِشَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ فَقَالَ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا) لأَِنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ آيَتَانِ عَظِيمَتَانِ لاَ يَقْدِرُ فِرْعَوْنُ عَلَى ادِّعَائِهِمَا، فَلَمَّا انْدَحَضَتْ حُجَّتُهُ قَالَ (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأََجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).
وَدَلِيلُ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ: مُنَاظَرَةُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم مَعَ طَالِبِ الإِْذْنِ بِالزِّنَا، وَذَلِكَ فِيمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: ادْنُهْ. فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: أَتُحِبُّهُ لأُِمِّكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُِمَّهَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لأُِخْتِكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَِخَوَاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ. قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ. فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.
آدَابُ الْمُنَاظَرَةِ
لِلْمُنَاظَرَةِ آدَابٌ عَشَرَةٌ:
الأَْوَّلُ: إِرَادَةُ إِظْهَارِ الْحَقِّ، قَالَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمة الله : مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا إِلاَّ وَدِدْتُ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى يَدَيْهِ، وَجَاءَ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ: الْمُنَاظَرَةُ فِي الْعِلْمِ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ عِبَادَةٌ.
الثَّانِي: أَنْ يَحْتَرِزَ الْمُنَاظِرُ عَنِ الإِْيجَازِ وَالاِخْتِصَارِ وَالْكَلاَمِ الأَْجْنَبِيِّ لِئَلاَّ يَكُونَ مُخِلًّا بِالْفَهْمِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ التَّطْوِيلِ فِي الْمَقَالِ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى الْمَلاَلِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الأَْلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي الْبَحْثِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الأَْلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِمَعْنَيَيْنِ.
السَّادِسُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الدُّخُولِ فِي كَلاَمِ الْخَصْمِ قَبْلَ الْفَهْمِ بِتَمَامِهِ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى إِعَادَتِهِ ثَانِيًا فَلاَ بَأْسَ بِالاِسْتِفْسَارِ عَنْهُ إِذِ الدَّاخِلُ فِي الْكَلاَمِ قَبْلَ الْفَهْمِ أَقْبَحُ مِنَ الاِسْتِفْسَارِ.
السَّابِعُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَمَّا لاَ مَدْخَلَ لَهُ فِي الْمَقْصُودِ بِأَلاَّ يَلْزَمَ الْبُعْدَ عَنِ الْمَقْصُودِ.
الثَّامِنُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الضَّحِكِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ وَالسَّفَاهَةِ، فَإِنَّ الْجُهَّالَ يَسْتُرُونَ بِهَا جَهْلَهُمْ.
التَّاسِعُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الْمُنَاظَرَةِ مَعَ مَنْ كَانَ مَهِيبًا وَمُحْتَرَمًا كَالأُْسْتَاذِ إِذْ مَهَابَةُ الْخَصْمِ وَاحْتِرَامُهُ رُبَّمَا تُزِيلُ دِقَّةَ نَظَرِ الْمُنَاظِرِ وَحِدَّةَ ذَهَنِهِ.
الْعَاشِرُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ أَنْ يَحْسِبَ الْخَصْمَ حَقِيرًا لِئَلاَّ يَصْدُرَ عَنْهُ كَلاَمٌ يَغْلِبُ بَهِ الْخَصْمَ عَلَيْهِ.
أَنْوَاعُ الْمُنَاظَرَةِ
لِلْمُنَاظَرَةِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
أ - أَنْوَاعُ الْمُنَاظَرَةِ بِاعْتِبَارِ وَسِيلَةِ أَدَائِهَا
الْمُنَاظَرَةُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ نَوْعَانِ:
الأَْوَّلُ: الْمُنَاظَرَةُ الْخَطَابِيَّةُ:
وَتَكُونُ الْمُنَاظَرَةُ الْخَطَابِيَّةُ بِالْتِقَاءِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ فِي مَجْلِسِ عِلْمٍ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَحْضُرُ الأُْمَرَاءُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَاتِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الإِْمَامَيْنِ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بِحُضُورِ هَارُونَ الرَّشِيدِ حَوْلَ صَدَاقِ الْمَرْأَةِ تَصْنَعُ بِهِ مَا تَشَاءُ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَلَمَّا تَنَاظَرَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ فِي صَدَاقِ الْمَرْأَةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا أَنْ تَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَتْ: إِنْ شَاءَتْ رَمَتْ بِهِ وَجَاءَتْهُ فِي قَمِيصٍ، وَإِنْ شَاءَتْ جَعَلَتْهُ فِي خَيْطِ الدَّوَّامَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْدَقَهَا مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَجَاءَتْهُ فِي قَمِيصٍ لَمْ يَحْكُمْ لَهَا بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يَأْمُرُهَا أَنْ تَتَجَهَّزَ وَتَتَهَيَّأَ لَهُ بِمَا يَشْتَهِيهِ مِمَّا يَتَجَهَّزُ بَهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ هَارُونَ: أَصَبْتَ.
الثَّانِي: الْمُنَاظَرَةُ الْكِتَابِيَّةُ
وَتَكُونُ الْمُنَاظَرَةُ الْكِتَابِيَّةُ بِمُخَاطَبَةِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ كِتَابِيًّا حَوْلَ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ أَوْ أَمْرٍ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ رِسَالَةُ الإِْمَامِ مَالِكٍ إِلَى الإِْمَامِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَرَدَّ اللَّيْثُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيمَا يَلِي نَصُّ الرِّسَالَتَيْنِ: مِنْ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ إِلَى اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. سَلاَمُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. أَمَّا بَعْدُ عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ بِطَاعَتِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ، وَعَافَانَا وَإِيَّاكَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ.
اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُفْتِي النَّاسَ بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ عِنْدَنَا وَبِبَلَدِنَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَأَنْتَ فِي إِمَامَتِكَ وَفَضْلِكَ وَمَنْزِلَتِكَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِكَ وَحَاجَةُ مَنْ قِبَلَكَ إِلَيْكَ وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَى مَا جَاءَهُمْ مِنْكَ، حَقِيقٌ بِأَنْ تَخَافَ عَلَى نَفْسِكَ وَتَتَّبِعَ مَا تَرْجُو النَّجَاةَ بِاتِّبَاعِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (وَالسَّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ) . الآْيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: (فَبَشِّرْ عِبَادِيَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ). فَإِنَّمَا النَّاسُ تَبَعٌ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ، إِلَيْهَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَبِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَأُحِلَّ الْحَلاَلُ وَحُرِّمَ الْحَرَامُ إِذْ رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَحْضُرُونَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ وَيَأْمُرُهُمْ فَيُطِيعُونَهُ وَيَسُنُّ لَهُمْ فَيَتَّبِعُونَهُ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ وَاخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبَرَكَاتُهُ.
ثُمَّ قَامَ مِنْ بَعْدَهُ أَتْبَعُ النَّاسِ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ وَلِيَ الأَْمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا نَزَلَ بِهِمْ مِمَّا عَلِمُوا أَنْفَذُوهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ عِلْمٌ سَأَلُوا عَنْهُ، ثُمَّ أَخَذُوا بِأَقْوَى مَا وَجَدُوا فِي ذَلِكَ فِي اجْتِهَادِهِمْ وَحَدَاثَةِ عَهْدِهِمْ، وَإِنْ خَالَفَهُمْ مُخَالِفٌ أَوْ قَالَ امْرُؤٌ غَيْرُهُ أَقْوَى مِنْهُ وَأَوْلَى تُرِكَ قَوْلُهُ وَعُمِلَ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ كَانَ التَّابِعُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَسْلُكُونَ تِلْكَ السَّبِيلَ وَيَتَّبِعُونَ تِلْكَ السُّنَنَ.
فَإِذَا كَانَ الأَْمْرُ بِالْمَدِينَةِ ظَاهِرًا مَعْمُولاً بِهِ لَمْ أَرَ لأَِحَدٍ خِلاَفَهُ لِلَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْوِرَاثَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ انْتِحَالُهَا وَلاَ ادِّعَاؤُهَا، وَلَوْ ذَهَبَ أَهْلُ الأَْمْصَارِ يَقُولُونَ: هَذَا الْعَمَلُ بِبَلَدِنَا وَهَذَا الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ مَنْ مَضَى مِنَّا، لَمْ يَكُونُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى ثِقَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي جَازَ لَهُمْ، فَانْظُرْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - فِيمَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ فِيهِ لِنَفْسِكَ، وَاعْلَمْ أَنِّي أَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ دُعَائِي إِلَى مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ إِلاَّ النَّصِيحَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالنَّظَرَ لَكَ وَالظَّنَّ بِكَ، فَأَنْزِلْ كِتَابِي مِنْكَ مَنْزِلَتَهُ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ تَعْلَمْ أَنِّي لَمْ آلُكَ نُصْحًا، وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.
وَكَانَ مِنْ جَوَابِ اللَّيْثِ عَنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ: وَأَنَّهُ بَلَغَكَ عَنِّي أَنِّي أُفْتِي بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ عِنْدَكُمْ، وَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَيَّ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِي لاِعْتِمَادِ مَنْ قِبَلِي فِيمَا أُفْتِيهِمْ بِهِ، وَأَنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي إِلَيْهَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَبِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي كَتَبْتَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَوَقَعَ مِنِّي بِالْمَوْقِعِ الَّذِي لاَ أَكْرَهُ، وَلاَ أَشَدُّ تَفْضِيلاً مِنِّي لِعِلْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ مَضَوْا وَلاَ آخَذُ بِفَتْوَاهُمْ مِنِّي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مُقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ وَمَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَأَنَّ النَّاسَ صَارُوا تَبَعًا لَهُمْ فَكَمَا ذَكَرْتَ.
ب - أَنْوَاعُ الْمُنَاظَرَاتِ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِهَا
تَتَنَوَّعُ الْمُنَاظَرَاتُ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِهَا إِلَى أَنْوَاعٍ أَهَمُّهَا الْمُنَاظَرَاتُ الْفِقْهِيَّةُ:
وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَاتُ مَوْضُوعُهَا مَسَائِلُ الْفِقْهِ وَقَدْ تَكُونُ بَيْنَ أَتْبَاعِ مَذْهَبٍ وَمَذْهَبٍ وَقَدْ تَكُونُ بَيْنَ أَتْبَاعِ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ، وَمِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الإِْمَامَيْنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي تَارِكِ الصَّلاَةِ، وَفِيهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَا أَحْمَدُ أَتَقُولُ: إِنَّهُ يَكْفُرُ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: إِذَا كَانَ كَافِرًا فَبِمَ يُسْلِمُ؟ قَالَ: يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ مُحَمِّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالرَّجُلُ مُسْتَدِيمٌ لِهَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَتْرُكْهُ، قَالَ: يُسْلِمُ بِأَنْ يُصَلِّيَ، قَالَ: صَلاَةُ الْكَافِرِ لاَ تَصِحُّ وَلاَ يُحْكَمُ بِالإِْسْلاَمِ بِهَا، فَانْقَطَعَ أَحْمَدُ وَسَكَتَ.
ثَمَرَةُ الْمُنَاظَرَةِ
الأَْصْلُ فِي الْمُنَاظَرَةِ - كَمَا هُوَ وَارِدٌ فِي تَعْرِيفِهَا - التَّوَصُّلُ إِلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ.
وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ إِمَّا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِ الْمُعَلِّلِ وَسُكُوتِهِ عَنْ دَفْعِ اعْتِرَاضِ السَّائِلِ، وَهَذَا يُسْمَى إِفْحَامًا.
وَإِمَّا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِ السَّائِلِ عَنِ الاِعْتِرَاضِ عَلَى جَوَابِ الْمُعَلِّلِ إِذْ لاَ يُمْكِنُ جَرَيَانُ الْبَحْثُ بَيْنَهُمَا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَهَذَا يُسَمَّى إِلْزَامًا.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ طَاشْ كُبْرَى زَادَهْ فِي مَنْظُومَتِهِ:
مَآلُهَا الْبَحْثُ عَنْ أَمْرَيْنِ
مُحَقِّقًا إِحْدَاهُمَا فِي الْبَيْنِ
إِمَّا بِأَنْ قَدْ يَعْجِزَ الْمُعَلِّلْ
وَعَنْ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ يَعْدِلْ
لِمُدَّعَاهُ وَهُوَ عَنْهَا سَاكِتْ
وَذَا هُوَ الإِْفْحَامُ عَنْهُمْ ثَابِتْ
أَوْ يَعْجِزُ السَّائِلُ عَنْ تَعَرُّضِ
إِلَى دَلِيلِ الْخَصْمِ وَالْمُعْتَرِضِ
فَيَنْتَهِي الدَّلِيلُ مِنْ مُقَدِّمِةْ
ضَرُورَةُ الْقَبُولِ أَوْ مُسَلَّمِةْ
وَذَلِكَ الْعَجْزُ هُوَ الإِْلْزَامُ
فَتَنْتَهِي الْقُدْرَةُ وَالْكَلاَمُ .

