loading

موسوعة قانون العقوبات​

الأحكام

1 ـ العبرة فى تحديد العقوبة المقررة لأشد الجرائم التى يقضى بها على الجاني بالتطبيق للمادة 32 من قانون العقوبات هى بتقدير القانون للعقوبة الأصلية وفقاً لترتيبها فى المواد 10 ، 11 ، 12 من قانون العقوبات ، لا وفقاً لما يقدره القاضى فى الحكم على ضوء ما يرى من أحوال الجريمة ، و دون تخويله سن و تطبيق عقوبة لم يقررها أى القانونين يستمدها من الحدين الأقصى و الأدنى الأشدين فى كليهما فإن إتحدت العقوبتان درجة و نوعاً تعين المقارنة بينهما على أساس الحد الأقصى للعقوبة الأصلية دون إعتداد بالحد الأدنى . و إذا نص القانون على عقوبتين أصليتين لكل من الجرائم المرتبطة كان الإعتبار بالحد الأقصى المقرر للعقوبة الأعلى درجة و لو كانت العقوبة الأدنى درجة - التخييرية فى الجريمتين - مقيدة بحد أدنى ، ذلك بأن العقوبة الأعلى درجة تمثل أبلغ ما يهدد الجاني من شدة فى حين أن العقوبة الأدنى درجة و إن تمثل فيها قصارى ما يأمله المجرم من رحمة بيد أنه يظل معرضاً لتطبيق الحد الأقصى للعقوبة الأعلى درجة ، و من ثم كان تيقن درء ذلك الخطر أولى من التعلق بمجرد أمل محل نظر . و لما كان يبين أن عقوبتى الجريمتين الأوليين " الجرح الخطأ و ترك الكلب فى الطريق دون مقود أو كمامه " و إن إتحدتا فى الدرجة و النوع و فى خيار القاضى فى إيقاع إحداهما أو كلتيهما ، و إتفقتا فى الحد الأقصى للغرامة و فى الحد الأدنى للحبس إلا أنهما إختلفتا فى الحد الأقصى للحبس فهو أشد فى الأولى منه فى الأخرى ، و فى الحد الأدنى للغرامة فهو أشد فى الأخرى منه فى الأولى . و من ثم فإن تلك الجريمة الأولى هى صاحبة العقوبة الأشد المتعين القضاء بها دون غيرها عملاً بالمادة 32 من قانون العقوبات .

(الطعن رقم 123 لسنة 36 ق - جلسة 1966/04/26 س 17 ع 3 ص 535 ق 96)

2 ـ تكلم الشارع عن العقوبات الأصلية فى القسم الأول من الباب الثالث من الكتاب الأول من قانون العقوبات بعد أن عدد أنواع الجرائم فى الباب الثانى من الكتاب المذكور . ويبين من مراجعة هذه النصوص أن الشارع أورد فى المادة (10) العقوبات الأصلية للجنايات وقصرها على الاعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة والسجن ، أما الغرامة فقد نص عليها فى المادة (46) تخييرية مع السجن أو الحبس كعقوبة أصلية للشروع فى جناية عقوبتها إذا تمت هى السجن ، وفي هذه الحالة وحدها تكون الغرامة فى الجنايات عقوبة أصلية ، أما إذا قضى بها بالإضافة إلى عقوبة أخرى فعندئذ تكون العقوبة الأخيرة هى الأصلية وتعتبر الغرامة مكملة لها ، ويصدق هذا النظر أيضا على العقوبات المقيدة للحرية ( كالحبس ) التى تعد فى الأصل من العقوبات الأصلية المقررة لمواد الجنح ، غير أنها قد تكون تكميلية إذا نص عليها بالإضافة إلى جزاء آخر مباشر كما هو الحال فى الجريمة المنصوص عليها فى المادة ( 35 ) من قانون العقوبات الفرنسى التى نصت على عقوبة الحبس الذى لا يجاوز خمس سنوات كجزاء مكمل لعقوبة التجريد المدنى .

(الطعن رقم 1973 لسنة 28 ق - جلسة 1959/03/17 س 10 ع 1 ص 328 ق 73)

3 ـ لما كانت العقوبة الأصلية تستمد وصفها من أنها تكون العقاب الأصلي أو الأساسي المباشر للجريمة والتي توقع منفردة بغير أن يكون القضاء بها معلقاً على الحكم بعقوبة أخرى وقد تكلم الشارع عن العقوبات الأصلية فى القسم الأول من الباب الثالث من الكتاب الأول من قانون العقوبات بعد أن حدد أنواع الجرائم فى الباب الثاني من الكتاب المذكور ويبين من مراجعة هذه النصوص أن الشارع أورد فى المادة العاشرة العقوبات الأصلية للجنايات وقصرها على الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة والسجن أما الغرامة إذا قضى بها فى الجناية بالإضافة إلى عقوبة أخرى فعندئذ تكون العقوبة الأخيرة هي الأصلية وتعتبر الغرامة مكملة لها. لما كان ذلك. فإن عقوبة الغرامة التي نصت عليها المادة 103 من قانون العقوبات تعد عقوبة تكميلية وهي من الغرامات النسبية التي أشارت إليها المادة 44 منه وإن كان الشارع قد ربط لها حداً أدنى لا يقل عن ألف جنيه ويكون الضعف فى حالة تطبيق المادة 104 من ذات القانون. ولما كانت المادة 44 المذكورة قد نصت على أنه "إذا حكم على جملة متهمين بحكم واحد لجريمة واحدة فاعلين كانوا أو شركاء فالغرامات يحكم بها على كل منهم على إنفراد خلافاً للغرامات النسبية فإنهم يكونون متضامنين فى الإلزام بها ما لم ينص فى الحكم على خلاف ذلك وكان إعمال هذا النص يوجب الحكم على المتهمين معاً بهذه الغرامة متضامنين ولا يستطاع التنفيذ عليهم جميعاً بأكثر من مقدارها المحدد بالحكم سواء فى ذلك أن يلزمهم الحكم بهذا المقدار متضامنين أو يخص كلاً منهم بنصيب منه، وإذ كان الحكم المطعون فيه قد أنزل عقوبة الغرامة النسبية على كل من المحكوم عليهما فإنه يكون معيباً بالخطأ فى تطبيق القانون.

(الطعن رقم 15943 لسنة 63 ق - جلسة 1995/11/16 س 46 ص 1203 ق 181)

شرح خبراء القانون

تقسيم الجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات

أساس التقسيم: أساس هذا التقسيم هو اختلاف الجرائم فيما بينها من حيث مقدار جسامتها: فأشد الجرائم جسامة هي الجنايات، وأقلها جسامة هي المخالفات، وتتوسط الجنح بين النوعين. وقد قدر الشارع جسامة كل جريمة ينص عليها ناظراً إلى كل جوانبها وعناصرها ثم رتب الجرائم من حيث جسامتها ووزعها على الأقسام الثلاثة السابقة، وبعد ذلك وضع معياراً واضحاً سهل التطبيق تقاس به جسامة كل جريمة ويعرف به موضعها في أحد الأقسام السابقة، هذا المعيار هو نوع ومقدار العقوبة المقررة لها  فثمة عقوبات خاصة بالجنايات، فكل جريمة قرر لها القانون إحدى هذه العقوبات كانت جناية، ويعني ذلك أنها من أشد الجرائم جسامة. وثمة عقوبات الجنح والمخالفات، فكل جريمة قرر لها القانون هذه العقوبات أو إحداها هي جنحة أو مخالفة تبعاً لنوع أو مقدار العقوبة، ويعني ذلك أنها أقل من الجنايات جسامة.

وقد نص الشارع على هذا التقسيم صراحة (المادة 9 من قانون العقوبات) ، ثم حدد معیاره . فالجنايات هي الجرائم المعاقب عليها بالعقوبات الآتية : الإعدام ، السجن المؤبد ، السجن المشدد ، السجن (المادة 10 من قانون العقوبات) . والجنح هي الجرائم المعاقب عليها بالعقوبتين الآتيتين : الحبس ، والغرامة التي يزيد أقصى مقدارها على مائة جنيه (المادة 11 من قانون العقوبات ، المعدلة بالقانون رقم 169 لسنة 1981) . والمخالفات هي الجرائم المعاقب عليها بالغرامة التي لا يزيد أقصى مقدارها على مائة جنيه (المادة 12 من قانون العقوبات ، المعدلة بالقانون رقم 169 لسنة 1981.

تطبيق معيار التقسيم : نلاحظ على هذا المعيار أنه جعل عقوبات الجنايات من نوع مختلف عن عقوبات الجنح والمخالفات ، وميز الجنح بعقوبة لا وجود لها في المخالفات، هي الحبس وقرر الغرامة عقوبة مشتركة بين الجنح والمخالفات، وجعل التمييز بين الغرامة كعقوبة للجنح والغرامة كعقوبة للمخالفات رهناً بحدها الأقصى : فإذا كان يزيد على مائة جنيه ، فالجريمة جنحة؛ وإذا كان لا يزيد على مائة جنيه ، فالجريمة مخالفة .

وتطبيقاً لهذا المعيار، فإنه إذا قرر القانون الجريمة عقوبة الحبس فهي حتماً جنحة، فلم يعد للحبس وجود في المخالفات بعد العمل بالقانون رقم 169 لسنة 1981. وإذا قرر القانون الجريمة عقوبة الغرامة التي يزيد حدها الأقصى على مائة جنيه، فهي جنحة كذلك أما إذا قرر لها عقوبة الغرامة التي لا يزيد حدها الأقصى على مائة جنيه ، فهى مخالفة .

والعبرة في تطبيق هذا المعيار هي بالعقوبة التي يقررها نص القانون، وليست العبرة بالعقوبة التي ينطق بها القاضي : فإذا قرر القانون الجريمة عقوبة الغرامة التي تزيد على مائة جنيه فهي جنحة، ويظل لها هذا الوصف، ولو حكم القاضي - مستعملاً سلطته التقديرية - بالغرامة التي تقل عن مائة جنيه.

والمرجع في تطبيق هذا المعيار هو إلى العقوبة الأصلية، فلا عبرة بالعقوبات التبعية أو التكميلية ، وعلى هذا النحو فالمصادرة إذا اتسع نطاقها لا تحدد مقدار جسامة الجريمة طبقاً لهذا المعيار وليست العبرة بالوصف الذي ترفع به الدعوى ، وإنما العبرة بالوصف الذي تقرره المحكمة، فإذا حركت النيابة العامة للدعوى معتبرة الجريمة مستوجبة طبقاً للقانون عقوبة جناية، ولكن المحكمة لم تقرها إلى ما ذهبت إليه، فاعتبرت الجريمة مستوجبة طبقاً للقانون عقوبة جنحة، فالعبرة بما رأته المحكمة.

وإذا حدد القانون للجريمة عقوبتين أو أكثر فالعبرة بأشدها، ذلك أن القانون يقرر للجريمة هذه العقوبة، فيعني ذلك أنها بالغة في تقديره الجسامة التي تحددها هذه العقوبة وتطبيقاً لذلك ، فإذا قرر القانون الجريمة عقوبتي السجن والحبس أو إحداهما، فالجريمة جناية .

أهمية التقسيم: يعد هذا التقسيم أهم تقسيم للجرائم، إذ يجعله الشارع أساساً للغالب من أحكام قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية .

فأهمية التقسيم في قانون العقوبات تقدير الشارع أن بعض القواعد لا تلائم إلا الجرائم الجسيمة فيقصر نطاقها على الجنايات، أو على الجنايات والجنح . ونستخلص فيما يلي أهم هذه القواعد :

(1) يسري قانون العقوبات المصري على كل فعل يرتكبه مصری خارج الإقليم المصري إذا اعتبر جناية أو جنحة طبقاً لذلك القانون، فلا سريان له على ما يعد مخالفة .

(2) تقتصر أحكام الشروع على الجنايات والجنح دون المخالفات ؛ والقاعدة أن الشروع في الجنايات معاقب عليه ما لم يقض القانون بغير ذلك ، وأن الشروع في الجنح معاقب عليه حيث ينص القانون على ذلك .

(3) يعاقب على الاتفاق الجنائي إذا كان موضوعه جناية أو جنحة، فلا عقاب عليه إذا كان موضوعه مخالفة .

(4) تقتصر أحكام العود على الجنايات والجنح دون المخالفات .

(5) يطبق نظام إيقاف التنفيذ على الجنايات والجنح دون.. المخالفات .

(6) يقتصر نطاق الظروف المخففة على الجنايات دون الجنح والمخالفات .

(7) مجال المصادرة مقتصر على الجنايات والجنح ، فلا محل للحكم بها في المخالفات .

وأهمية التقسيم في قانون الإجراءات الجنائية تقدير الشارع أن الجنايات - بالنظر إلى جسامة العقوبات المقررة لها - تتطلب إجراءات تحقيق ومحاكمة تحيط بها الضمانات . ونحدد فيما يلي أهم مظاهر هذه الخطة :

(1) تختص بالجنايات محاكم الجنايات في حين تختص بالجنح والمخالفات المحاكم الجزئية .

(2) التحقيق الابتدائي إلزامي في الجنايات دون الجنح والمخالفات .

(3) يوجب القانون تعيين مدافع لكل متهم بجناية لم ينتخب من يقوم بالدفاع عنه (المادة 188 من قانون الإجراءات الجنائية)، ولا يوجب ذلك بالنسبة للمتهمين بالجنح والمخالفات .

(4) تنقضي الدعوى الجنائية في الجنايات بمضي عشر سنوات ، وفي الجنح بمضي ثلاث سنوات ، وفي المخالفات بمضى سنة واحدة (المادة 15 من قانون الإجراءات الجنائية) .

(5) تسقط العقوبة المحكوم بها في جناية بمضي عشرين سنة إلا عقوبة الإعدام فلا تسقط إلا بمضي ثلاثين سنة ، وتسقط العقوبة المحكوم بها في جنحة بمضي خمس سنوات ، وتسقط العقوبة المحكوم بها في مخالفة بمضى سنتين (المادة 528 من قانون الإجراءات الجنائية). 

مقارنة بين السجن المؤبد والسجن المشدد والسجن والحبس

مقارنة بين السجن المؤبد والسجن المشدد والسجن: السجن المؤبد والسجن المشدد والسجن عقوبات جنایات، وهي تشترك بناء على ذلك في عديد من الأحكام: فالحرمان من الحقوق والمزايا التي تنص عليها المادة 25 من قانون العقوبات في فقراتها الخمس الأولى يترتب عليها معاً. ويعد الحكم بالسجن المؤبد والسجن المشدد سابقة في العود وفقاً لذات القواعد التي يعتبر بها الحكم بالسجن سابقة في العود (المادة 49 من قانون العقوبات، الفقرة الأولى). ويقرر القانون للسجن المشدد والسجن ذات الحدين الأدنى والأقصى العامين.

ولكن هذه العقوبات تختلف من وجوه عديدة: فمكان تنفيذها مختلف ، ويترتب على اختلاف المكان اختلاف نظام التنفيذ. والسجن المؤبد والسجن المشدد أشد من السجن ، وينبني على ذلك اختلافها في بعض الأحكام القانونية: فحالة الحرمان من الحقوق والمزايا التي تنص عليها المادة 25 من قانون العقوبات في فقرتها السادسة تترتب على السجن المؤبد والسجن المشدد دون السجن ، وعقوبة السجن المشدد تجب بمقدار مدتها كل عقوبة أخرى سالبة للحرية محكوم بها من أجل جريمة وقعت قبل الحكم بالسجن المشدد ، ولكن عقوبة السجن لا تجب أية عقوبة (المادة 35 من قانون العقوبات). وإذا حكم على شخص بالسجن المشدد والسجن معاً نفذت عليه عقوبة السجن المشدد أولاً باعتبارها أشد العقوبتين. (شرح قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ محمود نجيب حسني، الطبعة السابعة 2012 دار النهضة العربية،  الصفحة:   59)

يلاحظ أن المشرع جعل عقوبة الجنايات من نوع مختلف عن عقوبات الجنح والمخالفات، فالجنح يعاقب عليها بالحبس أو بالغرامة، والمخالفات يعاقب عليها بالغرامة فقط.

ويمكن التمييز بين الجنح والمخالفات، فإذا كانت العقوبة المقررة عن الجريمة هي الغرامة فإن الأمر يتوقف على مقدارها، ويحدد مقدار عقوبة الغرامة بالرجوع إلى حدها الأقصى دون الأدنى، فإذا زاد الحد الأقصى لعقوبة الغرامة عن مائة جنيه فالجريمة جنحة، وإذا لم يزد عن ذلك فالجريمة مخالفة.

وعلى هذا فإن الحد الأدنى لعقوبة الغرامة لا أهمية له في التفرقة بين الجنحة والمخالفة، لأنه يجوز أن يصل في أيهما إلى مائة قرش فقط.

ولا يجوز أن يزيد الحد الأقصى للغرامة في الجنح عن خمسمائة جنيه (المادة 22 عقوبات).

والمعول عليه في تطبيق هذا المعيار هو العقوبات الأصلية دون العقوبات التبعية أو التكميلية كمراقبة البوليس أو المصادرة. .

كما أن العبرة هي بالتكييف الذي تضيفه المحكمة على الجريمة وليس بالتكييف الذي ترفع به النيابة العامة الدعوى، فإذا كانت النيابة العامة قد حركت الدعوى على أساس أن الجريمة تستحق طبقاً للقانون عقوبة الجناية، غير أن المحكمة لم تأخذ بما ذهبت إليه واعتبرت أن القانون يقرر للجريمة عقوبة الجنحة، فإن العبرة تكون بما رأته المحكمة.(الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثاني، الصفحة : 164)

الفقة الإسلامي

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة ( 29 ) . 

(مادة 11) الجنايات التعزيرية: هي الجرائم المعاقب عليها بالعقوبات الآتية: الإعدام تعزيراً، السجن المؤبد ، السجن المؤقت. 

(المواد من (9) - (13)): 

عني في المادتين التاسعة والعاشرة بالأخذ بالتقسيم الثلاثي للجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات، وهو ما أخذ به قانون العقوبات المصري منذ زمن بعيد، واستقر في التطبيق، واعتبرت المادة التاسعة جميع الجرائم الحدية من الجنايات أما الجرائم التعزيرية فإن اندراجها تحت هذا التقسيم الثلاثي يتحدد وفقا لنوع العقوبة الأصلية المقررة لها في القانون، وهي قاعدة مقررة في قانون العقوبات. 

ونصت المادة الحادية عشرة على الجنايات التعزيرية، وهي الجرائم المعاقب عليها بالعقوبات الآتية: الإعدام تعزيرا، السجن المؤبد، السجن المؤقت وقد ابتعد المشروع عن استخدام تعبير الأشغال الشاقة كنوع من العقوبات المعروفة في القانون الحالي؛ احتراماً لكرامة الإنسان، وأدمج بذلك عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة - التي كانت معروفة في القانون - مع عقوبة السجن، وسميت بالسجن المؤقت. 

أما المادة الثانية عشرة فقد حددت عقوبات الجنح، وهي: الحبس والجلد تعزيراً ، والغرامة التي يزيد أقصى مقدارها على مائة جنيه. 

وبمقتضى هذه المادة فقد أدخلت عقوبة الجلد لتكون ضمن عقوبات الجنح، وهو نظر جدید مستمد من الأصول الإسلامية في سياسة العقوبات، فالجلد يصلح لمواجهة العديد من الجرائم المتوسطة، والتي لا يراد أن تؤثر العقوبة فيها على مستقبل الشخص أو أسرته بأي أثر ومن المعروف أن عقوبة الجلد يؤخذ بها في بعض النظم الاجتماعية المختلفة. 

وحددت المادة الثالثة عشرة عقوبة المخالفة، ومن الثابت أن الشرع الإسلامي يجيز التعزير بتغريم المال. 

 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / السادس عشر ، الصفحة / 59

جِنَايَةٌ

التَّعْرِيف:

الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ، وَهُوَ فِي الأْصْلِ  مَصْدَرُ جَنَى، ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ، قَالَ الْجُرْجَانِيِّ: الْجِنَايَةُ كُلُّ فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا عَلَى النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: الْجِنَايَةُ شَرْعًا اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ. إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصُّوا لَفْظَ الْجِنَايَةِ بِمَا حَلَّ بِنَفْسٍ وَأَطْرَافٍ، وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَلَّ بِمَالٍ.

وَتُذْكَرُ الْجِنَايَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَيُرَادُ بِهَا كُلُّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ، كَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالإْتْلاَفِ، وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا أَيْضًا مَا تُحْدِثُهُ الْبَهَائِمُ، وَتُسَمَّى: جِنَايَةُ الْبَهِيمَةِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا كَمَا أَطْلَقَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِسَبَبِ الإْحْرَامِ أَوِ الْحَرَمِ.

فَقَالُوا: جِنَايَاتُ الإْحْرَامِ، وَالْمُرَادُ بِهَا كُلُّ فِعْلٍ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَوِ الْحَاجِّ أَنْ يَفْعَلَهُ.

وَعَبَّرَ عَنْهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِمَمْنُوعَاتِ الإْحْرَامِ أَوْ مَحْظُورَاتِهِ، أَوْ مُحَرَّمَاتِ الإْحْرَامِ، وَالْحَرَمِ.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :

الْجَرِيمَةُ:

- الْجُرْمُ وَالْجَرِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: الذَّنْبُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْمَاوَرْدِيُّ بِقَوْلِهِ: الْجَرَائِمُ مَحْظُورَاتٌ شَرْعِيَّةٌ زَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِحَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، فَالْجَرِيمَةُ أَعَمُّ مِنَ الْجِنَايَةِ .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيّ:

- كُلُّ عُدْوَانٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ بَدَنٍ أَوْ مَالٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا.

الْحُكْمُ الْوَضْعِيّ:

- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِحَسَبِهَا فَيَكُونُ قِصَاصًا، أَوْ دِيَةً، أَوْ أَرْشًا، أَوْ حُكُومَةَ عَدْلٍ، أَوْ ضَمَانًا عَلَى حَسَبِ الأْحْوَالِ، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِكَابِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ، الْكَفَّارَةُ أَوِ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ.

أَقْسَامُ الْجِنَايَةِ :

قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِنَايَةَ إِلَى أَقْسَامٍ ثَلاَثَةٍ:

1 -الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَهِيَ الْقَتْلُ.

2 -الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَهِيَ الإِْصَابَةُ الَّتِي لاَ تُزْهِقُ الرُّوحَ.

3 -  الْجِنَايَةِ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي:

أَوَّلاً - أَقْسَامُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ :

ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى النَّفْسِ تَنْقَسِمُ بِحَسَبِ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ إِلَى: عَمْدٍ، وَشِبْهِ عَمْدٍ، وَخَطَأٍ، فَالتَّقْسِيمُ عِنْدَهُمْ ثُلاَثِيٌّ.

وَهُوَ خُمَاسِيٌّ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِزِيَادَةِ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْلِ بِسَبَبٍ. وَهِيَ عِنْدَ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ؛ لأِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْلَ بِسَبَبٍ قِسْمًا وَاحِدًا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا الْقِسْمُ هُوَ مِنَ الْخَطَأِ، فَالتَّقْسِيمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا ثُلاَثِيٌّ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَقَالَ: الْقَتْلُ إِمَّا عَمْدٌ وَإِمَّا خَطَأٌ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، وَجَعَلَ شِبْهَ الْعَمْدِ فِي حُكْمِ الْعَمْدِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ وَبَيَانُ كُلٍّ مِنْ أَقْسَامِ الْقَتْلِ كَالآْتِي:

أ - الْقَتْلُ الْعَمْد:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ هُوَ الضَّرْبُ بِمُحَدَّدٍ أَوْ غَيْرِ مُحَدَّدٍ، وَالْمُحَدَّدُ، هُوَ مَا يَقْطَعُ، وَيَدْخُلُ فِي الْبَدَنِ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَأَمْثَالِهِمَا مِمَّا يُحَدِّدُ وَيَجْرَحُ، وَغَيْرُ الْمُحَدَّدِ هُوَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حُصُولُ الزَّهُوقِ بِهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ كَحَجَرٍ كَبِيرٍ، أَوْ خَشَبَةٍ كَبِيرَةٍ وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ وَحَمَّادٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ هُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ ضَرْبَ الْمَقْتُولِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ بِآلَةٍ تُفَرِّقُ الأْجْزَاءَ، كَالسَّيْفِ، وَاللِّيطَةِ، وَالْمَرْوَةِ وَالنَّارِ؛ لأِنَّ  الْعَمْدَ فِعْلُ الْقَلْبِ؛ لأِنَّهُ الْقَصْدُ، وَلاَ يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الآْلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَتْلِ عَادَةً. وَهَذَا بِخِلاَفِ الْمُثْقَّلِ فَلَيْسَ الْقَتْلُ بِهِ عَمْدًا عِنْدَهُ.

وَأَمَّا حُكْمُهُ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ بِشُرُوطِهِ: الْقَوَدُ، وَالإْثْمُ، وَحِرْمَانُ الْقَاتِلِ مِنْ أَنْ يَرِثَ الْقَتِيلَ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ عَمْدٌ).

ب - الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ :

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ هُوَ: أَنْ يَقْصِدَ الْفِعْلَ وَالشَّخْصَ، بِمَا لاَ يَقْتُلُ غَالِبًا كَالضَّرْبِ بِالسَّوْطِ، وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ، فَيُؤَدِّي إِلَى مَوْتِهِ، وَهَذَا لأِنَّ  مَعْنَى الْعَمْدِيَّةِ قَاصِرٌ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأْفْعَالِ؛ لأِنَّ هَا لاَ تَقْتُلُ عَادَةً، وَيُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ الْقَتْلِ، كَالتَّأْدِيبِ وَنَحْوِهِ، فَكَانَ شِبْهَ الْعَمْدِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: شِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لاَ يُفَرِّقُ الأْجْزَاءَ كَالْحَجَرِ، وَالْعَصَا، وَالْيَدِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَقُولُونَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ فِي قَوْلٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الآْخَرِ شِبْهُ الْعَمْدِ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ الضَّرْبَ وَلاَ يَقْصِدَ الْقَتْلَ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَالْعَمْدِ، وَقِيلَ: كَالْخَطَأِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تُغَلَّظُ فِيهِ الدِّيَةُ. وَمُوجِبُهُ الإْثْمُ وَالْكَفَّارَةُ وَدِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. 

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ شِبْهُ عَمْدٍ).

ج - الْقَتْلُ الْخَطَأ:

- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ هُوَ أَنْ لاَ يَقْصِدَ الضَّرْبَ وَلاَ الْقَتْلَ، مِثْلُ أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا أَوْ هَدَفًا فَيُصِيبَ إِنْسَانًا، أَوْ يَنْقَلِبَ النَّائِمُ عَلَى إِنْسَانٍ فَيَقْتُلَهُ. وَمُوجِبُهُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ خَطَأٌ).

د - الْقَتْلُ بِالتَّسَبُّبِ أَوِ السَّبَبِ :

- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالتَّسَبُّبِ هُوَ الْقَتْلُ نَتِيجَةَ حَفْرِ الْبِئْرِ، أَوْ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَفِنَائِهِ، وَأَمْثَالِهِمَا، فَيَعْطَبُ بِهِ إِنْسَانٌ وَيُقْتَلُ، وَمُوجِبُ ذَلِكَ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لاَ غَيْرَ؛ لأِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيمَا وَضَعَهُ وَحَفَرَهُ، فَجُعِلَ الْحَافِرُ دَافِعًا مُوقِعًا، فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلاَ يَأْثَمُ فِيهِ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْقَاتِلِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الأْصْلِ ، وَبِذَلِكَ قَضَى شُرَيْحٌ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.

وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْلَ بِسَبَبٍ بِالْخَطَأِ فِي أَحْكَامِهِ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِنَايَةَ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ جِنَايَةً فَشِبْهُ عَمْدٍ، وَقَدْ يَقْوَى فَيَلْحَقُ بِالْعَمْدِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الْقَتْلُ بِالتَّسَبُّبِ).

ثَانِيًا - الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ :

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً.

أ - إِذَا كَانَتْ عَمْدًا :

يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ بِقَطْعِ عُضْوٍ، أَوْ إِحْدَاثِ جُرْحٍ، أَوْ إِزَالَةِ مَنْفَعَةٍ عَمْدًا بِشَرَائِطَ خَاصَّةٍ، وَلاَ يَكُونُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ، فَمَا كَانَ شِبْهُ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لأِنَّ  مَا دُونَ النَّفْسِ لاَ يُقْصَدُ إِتْلاَفُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً، فَاسْتَوَتِ الآْلاَتُ كُلُّهَا فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْقَصْدِ، فَكَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا مَحْضًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).

ب - إِذَا كَانَتْ خَطَأً :

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً فَفِيهَا الدِّيَةُ، أَوْ أَرْشٌ، أَوْ حُكُومَةُ عَدْلٍ عَلَى حَسَبِ الأْحْوَالِ. وَفِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِيفَائِهِ، وَكَذَلِكَ فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَمِقْدَارِ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الدِّيَةِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الأْطْرَافِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ).

ثَالِثًا - الْجِنَايَةُ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ :

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ الْجَنِينُ بِأَنْ ضَرَبَ حَامِلاً فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وُجُوبُ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ؛ لأِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الضَّرْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، بِأَنْ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ الْحَيَاةُ بَعْدُ، فَلاَ يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جَنِينٌ وَحَمْلٌ).

جِنَايَةٌ

عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ

التَّعْرِيف:

الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ. وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: الْجِنَايَةُ شَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصُّوا لَفْظَ الْجِنَايَةِ بِمَا حَلَّ بِنَفْسٍ أَوْ أَطْرَافٍ، وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَلَّ بِمَالٍ.

وَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كُلُّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى الأْطْرَافِ أَوِ الأْعْضَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَطْعِ، أَمْ بِالْجَرْحِ، أَمْ بِإِزَالَةِ الْمَنَافِعِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيّ:

كُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا عُدْوَانًا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا.

الْحُكْمُ الْوَضْعِيّ:

يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِاخْتِلاَفِ كَوْنِهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِذَا كَانَتْ عَمْدًا فَمُوجِبُهَا الْقِصَاصُ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهَا شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ يَأْتِي ذِكْرُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالإْجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:  ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأْنْفَ بِالأْنْفِ وَالأْذُنَ بِالأْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) ، وقوله تعالي : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ).

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ: «كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ، وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الأْنْصَارِ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم  بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لاَ: وَاللَّهِ لاَ تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  : يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأْرْشَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  : إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».

وَأَمَّا الإْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا أَمْكَنَ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلأِنَّ  مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ؛ لأِنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ فَشُرِعَ الْجَزَاءُ صَوْنًا لَهُ.

وَإِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا غَيْرَ مُسْتَجْمِعٍ لِسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فَمُوجِبُهَا الدِّيَةُ، أَوِ الأْرْشُ، أَوْ حُكُومَةُ عَدْلٍ، عَلَى حَسَبِ الأْحْوَالِ.

فَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ قِسْمَانِ: الْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ، وَالْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلدِّيَةِ وَغَيْرِهَا.

الْقِسْمُ الأْوَّلُ: الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ :

- تَكُونُ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهَا الشُّرُوطُ الآْتِيَةُ:

(1) أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عَمْدًا :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَمْدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ:

فَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَمَا كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لأِنَّ  مَا دُونَ النَّفْسِ لاَ يُقْصَدُ إِتْلاَفُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً فَاسْتَوَتِ الآْلاَتُ كُلُّهَا فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْقَصْدِ، فَكَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا مَحْضًا.

وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ يَكُونَ الْجُرْحُ نَاتِجًا عَنْ قَصْدِ الضَّرْبِ عَدَاوَةً، فَالْجُرْحُ النَّاتِجُ عَنِ اللَّعِبِ، أَوِ الأْدَبِ لاَ قِصَاصَ فِيهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَتْلِ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا، يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الطَّرَفِ أَيْضًا، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِرَاحَاتِ وَإِبَانَةِ الأْطْرَافِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَمِنْ صُوَرِ شِبْهِ الْعَمْدِ أَنْ يَضْرِبَ رَأْسَهُ بِلَطْمَةٍ أَوْ حَجَرٍ لاَ يَشُجُّ غَالِبًا لِصِغَرِهِ، فَيَتَوَرَّمُ الْمَوْضِعُ وَيَتَّضِحُ الْعَظْمُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لاَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لاَ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا، مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَصَاةٍ لاَ تُوضِحُ مِثْلُهَا، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لأِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ.

 (2) أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عُدْوَانًا :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجَانِي مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ، فَلاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ. كَأَنْ يَكُونَ الْجَانِي:

أ - غَيْرَ أَهْلٍ لِلْعُقُوبَةِ؛ لأِنَّ  الأْهْلِيَّةَ هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ.

ب - إِذَا كَانَ ارْتِكَابُ الْفِعْلِ الضَّارِّ بِحَقٍّ أَوْ شُبْهَةٍ.

فَلاَ يُقْتَصُّ مِمَّنْ أَقَامَ الْحَدَّ، أَوْ نَفَّذَ التَّعْزِيرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَتْلاً أَمْ قَطْعًا، وَلاَ مِنَ الطَّبِيبِ بِشُرُوطِهِ؛ لأِنَّ  الْغَرَضَ مِنْ فِعْلِ الطَّبِيبِ هُوَ شِفَاءُ الْمَرِيضِ لاَ الاِعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، وَلاَ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّائِلِ بِشُرُوطِهِ. وَلاَ مِمَّنِ ارْتَكَبَ الْجِنَايَةَ بِأَمْرٍ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَمَنْ قَالَ لآِخَرَ: اقْطَعْ يَدَيَّ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْكَ، فَقَطَعَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ الإْثْمِ عَلَيْهِمَا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ الْمَقْطُوعُ عَلَى إِبْرَاءِ الْقَاطِعِ، بِأَنْ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ، أَمَّا إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الإْبْرَاءِ فَلَيْسَ عَلَى الْقَاطِعِ إِلاَّ الأْدَبُ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ الأْدَبُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ اسْتِمْرَارِ الْمَقْطُوعِ عَلَى الإْبْرَاءِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ.

(3) كَوْنُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُكَافِئًا لِلْجَانِي فِي الصِّفَاتِ الآْتِيَةِ عَلَى الْخِلاَفِ وَالتَّفْصِيلِ الآْتِيَيْنِ:

أ - التَّكَافُؤُ فِي النَّوْعِ (الذُّكُورَةُ وَالأْنُوثَةُ) :

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي النَّوْعِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالإْنَاثِ بِنَفْسِ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُكَافِئَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ فِي النَّوْعِ؛ لأِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلتَّكَافُؤِ أَنْ يَكُونَ أَرْشُ كُلٍّ مِنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُسَاوِيًا لِلآْخَرِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالآْخَرُ أُنْثَى، فَلاَ قِصَاصَ؛ لأِنَّ  الْمُمَاثَلَةَ فِي الأْرُوشُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَفِي الْوَاقِعَاتِ: لَوْ قَطَعَتِ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ كَانَ لَهُ الْقَوَدُ، إِذَا رَضِيَ بِالْقَوَدِ عَنِ الأْرْشِ.

وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الشِّجَاجِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ فِي الشِّجَاجِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْحَاقُ شَيْنٍ وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ، وَفِي الطَّرَفِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَا فِيهِ.

ب - التَّكَافُؤُ فِي الدِّينِ :

- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ التَّكَافُؤِ فِي الدِّينِ :

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الأْرْشِ، وَكَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لأِنَّ  جِنَايَةَ النَّاقِصِ عَلَى الْكَامِلِ كَجِنَايَةِ ذِي يَدٍ شَلاَّءَ عَلَى صَحِيحَةٍ فِي الْجِرَاحِ، وَيَلْزَمُهُ لِلْكَامِلِ مَا فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ إِنْ بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي إِلاَّ الأْدَبُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ، فَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ، وَلاَ عَكْسَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لاَ يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ أَيْضًا كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ؛ لأِنَّهُ لاَ تُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ، فَلاَ يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، وَلاَ يُجْرَحُ بِجُرْحِهِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِ.

ج - التَّكَافُؤُ فِي الْعَدَدِ :

- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ، فَقَالاَ: هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الأْوَّلِ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الثَّانِي وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الأَْوَّلِ وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ تَعَمَّدَ؛ وَلأِنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ، فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالأْنْفُسِ.

هَذَا إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ، أَمَّا لَوْ تَمَيَّزَ: بِأَنْ قَطَعَ هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا مِنْ جَانِبٍ حَتَّى الْتَقَتِ الْحَدِيدَتَانِ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْيَدِ، وَأَبَانَهَا الآْخَرُ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ تَلِيقُ بِجِنَايَتِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ مَجْمُوعُ الْحُكُومَتَيْنِ دِيَةَ الْيَدِ.

وَالأْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْكُلِّ إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً: قَلَعَ أَحَدُهُمْ عَيْنَهُ، وَالآْخَرُ قَطَعَ يَدَهُ، وَالثَّالِثُ رِجْلَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ مَنِ الَّذِي فَقَأَ الْعَيْنَ وَقَطَعَ الرِّجْلَ أَوِ الْيَدَ، وَلاَ تَمَالُؤَ بَيْنَهُمُ، اقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ، وَقَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ وَلاَ تَمَالُؤَ بَيْنَهُمْ، فَيُقْتَصُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ كَفِعْلِهِ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ فَلاَ تُقْطَعُ الأْيْدِي بِالْيَدِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، كَالاِثْنَيْنِ إِذَا قَطَعَا يَدَ رَجُلٍ، أَوْ رِجْلَهُ، أَوْ أَذْهَبَا سَمْعَهُ أَوْ بَصَرَهُ، أَوْ قَلَعَا سِنًّا لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْجِنَايَاتِ الَّتِي عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا فِيهَا الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا، فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، بَلْ عَلَيْهِمَا الأْرْشُ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِمُ الأْرْشُ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوَاءِ، وَهَذَا؛ لأِنَّ  الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلاَ مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الأْيْدِي وَيَدٍ وَاحِدَةٍ لاَ فِي الذَّاتِ وَلاَ فِي الْمَنْفَعَةِ وَلاَ فِي الْفِعْلِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

(4) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَلِّ :

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ تَوَافُرُ التَّمَاثُلِ بَيْنَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَمَحَلِّ الْقِصَاصِ، فَلاَ يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنَ الأْصْلِ  إِلاَّ بِمِثْلِهِ، فَلاَ تُؤْخَذُ الْيَدُ إِلاَّ بِالْيَدِ؛ لأِنَّ  غَيْرَ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَلَمْ يَكُنْ مِثْلاً لَهَا، إِذْ التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ، وَكَذَا الرِّجْلُ، وَالإْصْبَعُ، وَالْعَيْنُ، وَالأْنْفُ وَنَحْوُهَا. وَكَذَا لاَ تُؤْخَذُ الأْصَابِعُ إِلاَّ بِمِثْلِهَا، فَلاَ تُؤْخَذُ الإْبْهَامُ إِلاَّ بِالإْبْهَامِ، وَلاَ السَّبَّابَةُ إِلاَّ بِالسَّبَّابَةِ، وَهَكَذَا فِي الْبَاقِي؛ لأِنَّ  مَنَافِعَ الأْصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَانَتْ كَالأْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَكَذَلِكَ لاَ تُؤْخَذُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ فِي كُلِّ مَا انْقَسَمَ إِلَى يَمِينٍ وَيَسَارٍ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالأْذُنَيْنِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ فِي الأْسْنَانِ لاَ تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ إِلاَّ بِالثَّنِيَّةِ لاِخْتِلاَفِ مَنَافِعِهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا قَوَاطِعُ، وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ، وَاخْتِلاَفُ الْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يُلْحِقُهُمَا بِجِنْسَيْنِ، وَلاَ مُمَاثَلَةَ عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الأْعْلَى وَالأْسْفَلِ مِنَ الأْسْنَانِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الأْعْلَى وَالأْسْفَلِ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا انْقَسَمَ إِلَى أَعْلَى وَأَسْفَل.

(5) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ تَتَمَاثَلَ مَنَافِعُهَا عِنْدَ الْجَانِي وَعِنْدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ فِي الأْطْرَافِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لَمْ يُؤَثِّرِ التَّفَاوُتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ؛ لأِنَّ  الاِخْتِلاَفَ فِي الْحَجْمِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي مَنَافِعِهَا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ الأْعْضَاءِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الأْعْضَاءِ وَالأْطْرَافِ.

إِمْكَانُ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ :

يَتَحَقَّقُ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَقَدْ رَوَى نَمِرُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلاً ضَرَبَ عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الْقِصَاصَ، قَالَ: خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا» وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ.

وَهَذَا مَا لَمْ يَرْضَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ مِنْ مَفْصِلٍ أَدْنَى مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَظْمِ..

أَنْوَاعُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ :

(إِذَا كَانَتْ عَمْدًا) :

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْقَطْعِ وَالإْبَانَةِ، أَوْ بِالْجُرْحِ الَّذِي يَشُقُّ، أَوْ بِإِزَالَةِ مَنْفَعَةٍ بِلاَ شَقٍّ وَلاَ إِبَانَةَ.

النَّوْعُ الأْوَّلُ - أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ بِالْقَطْعِ وَالإْبَانَةِ :

يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الأْعْضَاءِ وَالأْطْرَافِ إِذَا أَدَّتْ إِلَى قَطْعِ الْعُضْوِ أَوِ الطَّرَفِ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ الْكَلاَمِ عَلَى كُلٍّ:

1 - الْجِنَايَةُ عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْيَدُ بِالْيَدِ، وَالرِّجْلُ بِالرِّجْلِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِي الْحَجْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأْوْصَافِ، فَتُؤْخَذُ الْيَدُ الصَّغِيرَةُ بِالْكَبِيرَةِ، وَالْقَوِيَّةُ بِالضَّعِيفَةِ، وَيَدُ الصَّانِعِ بِيَدِ الأْخْرَقِ. وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ الْكَمَالُ وَالصِّحَّةُ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

أ - الْكَمَال:

- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي قَطْعِ كَامِلَةِ الأْصَابِعِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ بِنَاقِصَةِ الأْصَابِعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُؤْخَذُ كَامِلَةُ الأْصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الأْصَابِعِ، لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، فَلَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ، يَدَ مَنْ لَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لأِنَّ هَا فَوْقَ حَقِّهِ، وَلاَ ذَاتُ أَظْفَارٍ بِمَا لاَ أَظْفَارَ لَهَا؛ لِزِيَادَتِهَا عَلَى حَقِّهِ، وَلاَ بِنَاقِصَةِ الأْظْفَارِ، سَوَاءٌ رَضِيَ الْجَانِي بِذَلِكَ أَمْ لاَ؛ لأِنَّ  الدِّمَاءَ لاَ تُسْتَبَاحُ بِالإْبَاحَةِ. وَإِنْ كَانَتْ أَظْفَارُ الْمَقْطُوعَةِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ خَضْرَاءَ أَوْ رَدِيئَةٍ أُخِذَتْ بِهَا السَّلِيمَةُ؛ لأِنَّ  ذَلِكَ عِلَّةٌ وَمَرَضٌ، وَالْمَرَضُ لاَ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَصَابِعِ الْجَانِي بِعَدَدِ أَصَابِعِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْمَقْطُوعَةِ، أَوْ يَأْخُذَ دِيَتَهَا.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي طَرَفِ الْجَانِي، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ الصَّحِيحِ؛ لأِنَّ  حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ هُوَ السَّلِيمُ، وَلاَ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ فَوَاتِ السَّلاَمَةِ، وَأَمْكَنَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلاَ سَبِيلَ إِلَى إِلْزَامِ الاِسْتِيفَاءِ حَتْمًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ فَيُخَيَّرُ: إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إِلَى بَدَلِ حَقِّهِ وَهُوَ كَمَالُ الأْرْشِ، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ النُّقْصَانِ إِذَا كَانَ أُصْبُعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ فَقَالُوا: إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ رِجْلُهُ أُصْبُعًا، فَالْقَوَدُ عَلَى الْجَانِي الْكَامِلِ الأْصَابِعِ وَلاَ غَرَامَةَ عَلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الأْصْبُعُ النَّاقِصُ إِبْهَامًا. وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ بِأَنْ نَقَصَتِ الْيَدُ أُصْبُعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْكَامِلَةِ.

وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ أَوْ رِجْلُ الْجَانِي النَّاقِصَةُ أُصْبُعًا بِالْكَامِلَةِ بِلاَ غُرْمٍ عَلَيْهِ لأِرْشِ الأْصْبُعِ، إِذْ هُوَ نَقْصٌ لاَ يَمْنَعُ الْمُمَاثَلَةَ. وَلاَ خِيَارَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَيُخَيَّرُ إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْجَانِي أَوْ رِجْلُهُ أَكْثَر مِنْ أُصْبُعٍ فِي الْقِصَاصِ، وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَيَأْخُذَ أَرْشَ النَّاقِصِ.

وَأَمَّا النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الأْخْرَى، بِأَنَّهُ تُؤْخَذُ إِذَا تَسَاوَتَا فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ الْجَانِي كَالْمَقْطُوعِ مِنْ يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُمَا تَسَاوَتَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَةِ، فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَا فِي النَّقْصِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمَا الإْبْهَامَ، وَمِنَ الأْخْرَى أُصْبُعَ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ.

ب - الصِّحَّة:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُقْطَعُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ بِشَلاَّءَ وَإِنْ رَضِيَ الْجَانِي؛ لأِنَّ  الشَّلاَّءَ لاَ نَفْعَ فِيهَا سِوَى الْجَمَالِ، فَلاَ يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعٌ، وَالْوَاجِبُ فِي الطَّرَفِ الأْشَلِّ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ، وَقَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا، فَذَلِكَ لَهُ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ لاَ تُقْطَعُ يَدُ الْجَانِي إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ بِالْيَدِ الصَّحِيحَةِ؛ لأِنَّ  الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْقِصَاصِ فِيهَا. وَعَلَيْهِ الْعَقْلُ أَيِ الدِّيَةُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تُقْطَعُ إِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالْبَصَرِ، بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَلاَ تُقْطَعُ إِنْ قَالُوا: لاَ يَنْسَدُّ فَمُ الْعُرُوقِ بِالْحَسْمِ، وَلاَ يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَتَجِبُ دِيَةُ يَدِهِ.

وَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ : ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْطَعُ، لأِنَّ  الشَّلَلَ عِلَّةٌ، وَالْعِلَلُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَنِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمَا إِنِ اسْتَوَيَا فِي الشَّلَلِ، أَوْ كَانَ شَلَلُ يَدِ الْقَاطِعِ أَكْثَرَ قُطِعَتْ بِهَا بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُخَافَ نَزْفُ الدَّمِ. وَإِنْ كَانَ الشَّلَلُ فِي يَدِ الْمَقْطُوعِ أَكْثَرَ لَمْ يُقْطَعْ بِهَا.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ بَيْنَ الأْشَلَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ أَقَلَّ شَلَلاً أَمْ أَكْثَرَهُمَا، أَمْ هُمَا سَوَاءٌ؛ لأِنَّ  بَعْضَ الشَّلَلِ فِي يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلاَفَ أَرْشَيْهِمَا، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَلاَ تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ.

وَقَالَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّ شَلَلاً كَانَ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ أَرْشَ يَدِهِ شَلاَّءَ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَكْثَرَ شَلَلاً، فَلاَ قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَيْنِ :

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَيْنِ بِالْقَلْعِ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ؛ لِلآْيَةِ الْكَرِيمَةِ ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) ؛ وَلأِنَّ هَا تَنْتَهِي إِلَى مَفْصِلٍ فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهَا كَالْيَدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ، الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا  رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

وَتُؤْخَذُ عَيْنُ الشَّابِّ بِعَيْنِ الشَّيْخِ، وَعَيْنُ الصَّغِيرِ، بِعَيْنِ الْكَبِيرِ؛ لأِنَّ  التَّفَاوُتَ فِي الصِّفَةِ لاَ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَلَعَ عَيْنَهُ بِأُصْبُعِهِ لاَ يَجُوزُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ بِإِصْبَعِهِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ.

وَأَمَّا أَخْذُ الْعَيْنِ السَّلِيمَةِ بِالْمَرِيضَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالضَّعِيفَةِ الإْبْصَارِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأْرْجَحِ - إِلَى أَنَّهُ لَوْ فَقَأَ شَخْصٌ عَيْنًا حَوْلاَءَ، وَكَانَ الْحَوَلُ لاَ يَضُرُّ بِبَصَرِهِ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لاَ قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ الْحَوْلاَءِ مُطْلَقًا. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنٍ فِيهَا بَيَاضٌ يُبْصِرُ بِهَا، وَعَيْنُ الْجَانِي كَذَلِكَ فَلاَ قِصَاصَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ، وَفِي عَيْنِ الْفَاقِئِ بَيَاضٌ يُنْقِصُهَا، فَلِلرَّجُلِ أَنْ يَفْقَأَ الْبَيْضَاءَ، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ عَيْنِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ. جِنَايَةُ الأْعْوَرِ عَلَى صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ وَعَكْسُهَا :

- إِذَا قَلَعَ الأْعْوَرُ الْعَيْنَ الْيُمْنَى لِصَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ، وَيُسْرَى الْفَاقِئِ ذَاهِبَةٌ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُتْرَكُ أَعْمَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ مُغَفَّلٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ فَقَأَ أَعْوَرُ مِنْ سَالِمٍ مُمَاثَلَتَهُ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ فَقَأَ غَيْرَ مُمَاثَلَتِهِ فَنِصْفُ دِيَةٍ فَقَطْ فِي مَالِ الْجَانِي، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لاِنْعِدَامِ مَحَلِّهِ، وَإِنْ فَقَأَ الأْعْوَرُ عَيْنَيِ السَّالِمِ عَمْدًا فَالْقِصَاصُ فِي الْمُمَاثِلَةِ لِعَيْنِهِ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي لَيْسَ لَهُ مِثْلُهَا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِنْ قَلَعَ الأْعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ فَلاَ قَوَدَ، وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لأِنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمَا، فَصَارَ إِجْمَاعًا. وَلأِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الاِقْتِصَاصُ مِنْهُ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَا عَيْنَيْنِ.

وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَأَعْطَاهُ نِصْفَ دِيَةٍ.

وَإِنْ قَلَعَ الأْعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحٍ فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلاَ شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ؛ لأِنَّهُ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  : «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ».

وَإِذَا فَقَأَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ الْعَيْنَ السَّالِمَةَ مِنْ عَيْنِ أَعْوَرَ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ بِأَخْذِ نَظِيرَتِهَا مِنْ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً؛ لأِنَّ  عَيْنَهُ بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ مِثْلِهَا، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لأِنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، وَأَذْهَبَ الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ أَخْذُ يُمْنَى بِيُسْرَى، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِ نِصْفِ الضَّوْءِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوِ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الأْشَلُّ يَدًا صَحِيحَةً، وَلِعُمُومِ قوله تعالي : ) وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ).

وَلَوْ قَلَعَ الأْعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا، وَإِنْ عَفَا إِلَى الدِّيَةِ فَلَهُ جَمِيعُهَا.

أَمَّا الأْجْفَانُ، وَالأْشْفَارُ، فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا بِالدِّيَةِ وَالْمَالِكِيَّةَ بِحُكُومَةِ عَدْلٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لقوله تعالي  : (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) وَلأِنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لاِنْتِهَائِهِ إِلَى مَفْصِلٍ، وَيُؤْخَذُ جَفْنُ الْبَصِيرِ بِجَفْنِ الْبَصِيرِ وَالضَّرِيرِ، وَجَفْنُ الضَّرِيرِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لأِنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي السَّلاَمَةِ مِنَ النَّقْصِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى الأْنْفِ :

الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَارِنِ - وَهُوَ مَا لاَنَ مِنَ الأْنْفِ - مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ عِنْدَ الأْئِمَّةِ الأْرْبَعَةِ، لِلآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: ) وَالأْنْفَ بِالأْنْفِ) وَلأِنَّ  اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لأِنَّ  لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا وَهُوَ مَا لاَنَ مِنْهُ، وَإِنْ قَطَعَ الْمَارِنَ كُلَّهُ مَعَ قَصَبَةِ الأْنْفِ، فَفِي الْمَارِنِ الْقِصَاصُ، وَفِي الْقَصَبَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِذْ لاَ قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ وَلَكِنْ فِي الْمَارِنِ قِصَاصٌ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ الأْنْفُ الْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالأْقْنَى بِالأْفْطَسِ، وَأَنْفُ صَحِيحِ الشَّمِّ بِالأْخْشَمِ الَّذِي لاَ يَشُمُّ؛ لأِنَّ  ذَلِكَ لِعِلَّةٍ فِي الدِّمَاغِ، وَالأْنْفُ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ بِالْمَجْذُومِ مَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ، لأِنَّ  ذَلِكَ مَرَضٌ، فَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، يُقْطَعُ مِنْهُ مَا كَانَ بَقِيَ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، أَوْ أَخَذَ أَرْشَ ذَلِكَ.

وَفَصَّلَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: يُؤْخَذُ الأْنْفُ السَّلِيمُ بِالْمَجْذُومِ إِنْ كَانَ فِي حَالِ الاِحْمِرَارِ، وَإِنِ اسْوَدَّ فَلاَ قِصَاصَ؛ لأِنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ الْبِلَى، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَنْفُ الْقَاطِعِ أَصْغَرَ، خُيِّرَ الْمَقْطُوعُ أَنْفُهُ الْكَبِيرُ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الأْرْشَ، وَكَذَا إِذَا كَانَ قَاطِعُ الأْنْفِ أَخْشَمَ، أَوْ أَصْرَمَ الأْنْفِ، أَوْ بِأَنْفِهِ نُقْصَانٌ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَهُ، فَإِنَّ الْمَقْطُوعَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَطْعِ وَبَيْنَ أَخْذِ دِيَةِ أَنْفِهِ.

وَيُؤْخَذُ الْمَنْخِرُ الأْيْمَنُ بِالأْيْمَنِ، وَالأْيْسَرُ بِالأْيْسَرِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الْعَكْسُ، وَيُؤْخَذُ الْحَاجِزُ بِالْحَاجِزِ ؛ لأِنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لاِنْتِهَائِهِ إِلَى حَدٍّ.

وَفِي قَطْعِ بَعْضِ الْمَارِنِ الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِالأْجْزَاءِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى الأْذُنِ :

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأْذُنَ تُؤْخَذُ بِالأْذُنِ؛ لقوله تعالي :   ) وَالأْذُنَ بِالأْذُنِ). وَلأِنَّ هَا تَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ فَاصِلٍ، فَأَشْبَهَتِ الْيَدَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ أُذُنِ السَّمِيعِ وَالأْصَمِّ؛ لِتَسَاوِيهِمَا، فَإِنَّ ذَهَابَ السَّمْعِ نَقْصٌ فِي الرَّأْسِ؛ لأِنَّهُ مَحَلُّهُ، وَلَيْسَ بِنَقْصٍ فِيهَا، كَمَا نَصَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَخْذِ الأْذُنِ الشَّلاَّءِ بِغَيْرِهَا، لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهَا بِجَمْعِ الصَّوْتِ.

فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ فِي بَعْضِ الأْذُنِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ إِنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ وَتُمْكِنُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَإِلاَّ سَقَطَ الْقِصَاصُ.

وَتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمَثْقُوبَةِ؛ لأِنَّ  الثُّقْبَ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ فِي الْعَادَةِ لِلْقُرْطِ وَالتَّزَيُّنِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ كَانَتْ أُذُنُ الْقَاطِعِ مَخْرُومَةً، وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ نَاقِصَةً كَانَتْ لَهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْمَخْرُومَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَلاَ تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِهَا؛ لأِنَّ  الثُّقْبَ إِذَا انْخَرَمَ صَارَ نَقْصًا فِيهَا، وَالثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ عَيْبٌ.

أَمَّا الأْذُنُ الْمُسْتَحْشِفَةُ (الْيَابِسَةُ) فَتُؤْخَذُ بِالصَّحِيحَةِ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحَةُ تُؤْخَذُ بِهَا فِي الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأِنَّ  الْمَقْصُودَ مِنْهَا جَمْعُ الصَّوْتِ، وَحِفْظُ مَحَلِّ السَّمْعِ وَالْجَمَالِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِهَا، كَحُصُولِهِ بِالصَّحِيحَةِ بِخِلاَفِ سَائِرِ الأْعْضَاءِ. وَمُقَابِلُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمُسْتَحْشِفَةِ؛ لأِنَّ هَا نَاقِصَةٌ، فَتَكُونُ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، وَسَائِرِ الأْعْضَاءِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّسَانِ :

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ، لقوله تعالي  : ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). وَلأِنَّ  لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ كَالْعَيْنِ، وَلاَ يُؤْخَذُ لِسَانُ نَاطِقٍ بِلِسَانِ أَخْرَسَ ؛ لأِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِرِضَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ، وَلَوْ قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ لِعُسْرِ اسْتِقْصَاءِ اللِّسَانِ مِنْ أَصْلِهِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَةِ:

يَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الشَّفَةِ مُطْلَقًا لقوله تعالي :  ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). وَلأِنَّ  لَهَا حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْهُ، فَوَجَبَ كَالْيَدَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الشَّفَةِ إِذَا قَطَعَهَا جَمِيعًا؛ لِلْمُسَاوَاةِ، وَإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.

الْجِنَايَةُ عَلَى السِّنِّ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى السِّنِّ إِذَا قُلِعَتْ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى السِّنِّ إِذَا كُسِرَتْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ) وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) وَلأِنَّ  «الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم  بِالْقِصَاصِ» كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَلأِنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهِ، فَإِنْ قَلَعَتْ تُقْلَعُ، وَإِنْ كَسَرَتْ تُبْرَدُ بِقَدْرِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، أَمَّا لَوْ كَانَتِ السِّنُّ بِحَالٍ لاَ يُمْكِنُ  بَرْدُهَا فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي السِّنِّ إِذَا كَسَرَهَا، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ إِلاَّ إِذَا أَمْكَنَ فِيهَا الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ يَجِبُ لأِنَّ  السِّنَّ عَظْمٌ مُشَاهَدٌ مِنْ أَكْثَرِ الْجَوَانِبِ وَلأِهْلِ الصَّنْعَةِ آلاَتٌ قَطَّاعَةٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي الضَّبْطِ فَلَمْ تَكُنْ كَسَائِرِ الْعِظَامِ.

وَلاَ اعْتِبَارَ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ؛ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ، وَتُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ بِالثَّنِيَّةِ، وَالنَّابُ بِالنَّابِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الأْعْلَى بِالأْسْفَلِ، وَلاَ الأْسْفَلُ بِالأْعْلَى، وَلاَ تُؤْخَذُ السِّنُّ الصَّحِيحَةُ بِالْمَكْسُورَةِ، وَتُؤْخَذُ الْمَكْسُورَةُ بِالصَّحِيحَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ الزَّائِدَةِ إِذَا كَانَ لِلْجَانِي زَائِدَةٌ مِثْلُهَا.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

الْجِنَايَةُ عَلَى ثَدْيِ الْمَرْأَةِ :

صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ تُقْطَعُ حَلَمَةُ الْمَرْأَةِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ؛ لأِنَّ  لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، فَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهَا، وَلاَ قِصَاصَ فِي ثَدْيَيْهَا؛ لأِنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا مَفْصِلٌ مَعْلُومٌ، فَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ: تُقْطَعُ حَلَمَةُ الْمَرْأَةِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ، وَفِي «التَّتِمَّةِ» وَجْهٌ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَدَلَّ الثَّدْيُ، فَلاَ قِصَاصَ؛ لاِتِّصَالِهَا بِلَحْمِ الصَّدْرِ، وَتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ، وَالصَّحِيحُ الأْوَّلُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلاَ قِصَاصَ فِي الثَّدْيِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ، وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهَا أَنْ تَقْتَصَّ فِي الْحَلَمَةِ، وَتَأْخُذَ حُكُومَةَ الثَّدْيِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ. الْمُمَاثَلَةُ مُمْكِنَةٌ، فَإِنَّ الثَّدْيَ هَذَا الشَّاخِصَ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ مِنَ الشَّفَتَيْنِ وَالأْلْيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا.

وَتُقْطَعُ حَلَمَةُ الرَّجُلِ بِحَلَمَةِ الرَّجُلِ إِنْ أَوْجَبْنَا فِيهَا الْحُكُومَةَ أَوِ الدِّيَةَ، وَتُقْطَعُ حَلَمَةُ الرَّجُلِ بِحَلَمَةِ الْمَرْأَةِ وَبِالْعَكْسِ، إِنْ أَوْجَبْنَا فِي حَلَمَةِ الرَّجُلِ الدِّيَةَ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْحُكُومَةَ، لَمْ تُقْطَعْ حَلَمَتُهَا بِحَلَمَتِهِ وَإِنْ رَضِيَتْ، كَمَا لاَ تُقْطَعُ صَحِيحَةٌ بِشَلاَّءَ، وَتُقْطَعُ حَلَمَتُهُ بِحَلَمَتِهَا إِنْ رَضِيَتْ، كَمَا تُقْطَعُ الشَّلاَّءُ بِالصَّحِيحَةِ إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَحِقُّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ سَوَاءٌ أَبْطَلَ اللَّبَنَ، أَوْ فَسَدَ، أَمْ لاَ. وَفِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةُ إِذَا بَطَلَ اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فِي انْقِطَاعِ اللَّبَنِ أَوْ فَسَادِهِ بِغَيْرِ قَطْعٍ لِلثَّدْيَيْنِ، أَوْ لِلْحَلَمَتَيْنِ الدِّيَةَ، فَإِنْ عَادَ اللَّبَنُ رُدَّتِ الدِّيَةُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ الدِّيَةَ وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ كَالْجُمْهُورِ، وَأَنَّ فِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ، وَلاَ قِصَاصَ فِيهِمَا.

الْجِنَايَةُ عَلَى الذَّكَرِ :

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي فِي الذَّكَرِ لقوله تعالي  : ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) وَلأِنَّ  لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، فَوَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالأْنْفِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ ذَكَرُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ؛ لأِنَّ  مَا وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنَ الأْطْرَافِ لَمْ يَخْتَلِفْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، كَذَلِكَ الذَّكَرُ. وَيُؤْخَذُ الْمَخْتُونُ بِالأْغْلَفِ وَعَكْسُهُ؛ لأِنَّ  الْغُلْفَةَ زِيَادَةٌ تُسْتَحَقُّ إِزَالَتُهَا فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ. وَيُؤْخَذُ ذَكَرُ الْخَصِيِّ بِذَكَرِ الْخَصِيِّ، وَذَكَرُ الْعِنِّينِ بِمِثْلِهِ؛ لِحُصُولِ الْمُسَاوَاةِ.

أَمَّا ذَكَرُ فَحْلٍ بِذَكَرِ خَصِيٍّ أَوْ عِنِّينٍ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُؤْخَذُ بِهِمَا؛ لأِنَّهُ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِمَا؛ وَلأِنَّ  الْعِنِّينَ لاَ يَطَأُ، وَلاَ يُنْزِلُ، وَالْخَصِيَّ لاَ يُولَدُ لَهُ، وَلاَ يُنْزِلُ، وَلاَ يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ فَهُمَا كَالأْشَلِّ؛ وَلأِنَّ  كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصٌ، فَلاَ يُؤْخَذُ بِهِ الْكَامِلُ، كَالْيَدِ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ غَيْرُهُمَا بِهِمَا؛ لأِنَّهُمَا عُضْوَانِ صَحِيحَانِ، يَنْقَبِضَانِ، وَيَنْبَسِطَانِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي قَطْعِ ذَكَرٍ وَلَوْ مِنْ أَصْلِهِ؛ لأِنَّهُ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ، وَجَزَمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِلُزُومِ الْقِصَاصِ فِي الذَّكَرِ إِذَا قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ قُطِعَ الذَّكَرُ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ مِنَ الْحَشَفَةِ، اقْتُصَّ مِنْهُ، إِذْ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَنَسَبَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى أَبِي يُوسُفَ. وَفِي قَطْعِ كُلِّ الْحَشَفَةِ قِصَاصٌ دُونَ خِلاَفٍ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا.

وَأَمَّا الأْنْثَيَانِ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهِمَا، لِلنَّصِّ وَالْمَعْنَى.

فَإِنْ قَطَعَ إِحْدَاهُمَا - وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ إِنَّهُ مُمْكِنٌ أَخْذُهَا مَعَ سَلاَمَةِ الأْخْرَى - جَازَ، وَتُؤْخَذُ الْيُمْنَى بِالْيُمْنَى، وَالْيُسْرَى بِالْيُسْرَى، وَإِلاَّ لَمْ تُؤْخَذْ، وَيَكُونُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِيهِمَا الْقِصَاصُ؛ لأِنَّ  ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَفْصِلٌ مَعْلُومٌ، فَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ.

- وَفِي شُفْرَيِ الْمَرْأَةِ قِصَاصٌ فِي الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ بَدَا الْعَظْمُ؛ لأِنَّ  انْتِهَاءَهُمَا مَعْرُوفٌ، فَأَشْبَهَا الشَّفَتَيْنِ، وَجَفْنَيِ الْعَيْنِ. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِمَا؛ لأِنَّ  الشُّفْرَ لَحْمٌ لاَ مَفْصِلَ لَهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ كَلَحْمِ الْفَخِذَيْنِ.

وَأَمَّا الأْلْيَتَانِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِمَا؛ لقوله تعالي  : ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) وَلأِنَّ  لَهُمَا حَدًّا يَنْتَهِيَانِ إِلَيْهِ، فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهِمَا كَالذَّكَرِ وَالأْنْثَيَيْنِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ قِصَاصَ فِيهِمَا؛ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ؛ وَلأِنَّهُمَا لَحْمٌ مُتَّصِلٌ بِلَحْمٍ فَأَشْبَهَ لَحْمَ الْفَخِذِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ).

الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّحْيَةِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ وَالْحَاجِبِ:

اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي حَلْقِ هَذِهِ الشُّعُورِ الثَّلاَثَةِ أَوْ نَتْفِهَا، وَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ؛ لأِنَّ  إِتْلاَفَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلِّهَا، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، فَلاَ تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهَا، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهَا. وَلأِنَّ هَا لَيْسَتْ جِرَاحَاتٍ فَلاَ تَدْخُلُ فِي قوله تعالي : ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ إِذَا لَمْ تَنْبُتْ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ أَوْ حُكُومَةِ عَدْلٍ، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِيفَائِهَا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ).

الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَظْمِ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلي الله عليه وسلم  أَنَّهُ قَالَ: «لاَ قِصَاصَ فِي عَظْمٍ» وَلِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ، فَلاَ يُؤْمَنُ فِيهِ التَّعَدِّي.

وَمَنَعَ الْقِصَاصَ فِي الْعِظَامِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ أَقْرَبَ مَفْصِلٍ إِلَى مَوْضِعِ الْكَسْرِ، وَيَأْخُذَ حُكُومَةً لِلْبَاقِي.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَعْظُمُ خَطَرُهُ كَائِنًا مَا كَانَ، كَكَسْرِ عَظْمِ الصَّدْرِ، وَالرَّقَبَةِ، وَالظَّهْرِ، وَالْفَخِذِ، فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا، وَفِيهَا حُكُومَةٌ.

الْجِرَاح:

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ قَدْ لاَ تَكُونُ بِالْقَطْعِ وَالإْبَانَةِ، بَلْ بِالْجُرْحِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: الْجِرَاحُ الْوَاقِعَةُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَتُسَمَّى الشِّجَاجُ، وَالْجِرَاحُ الْوَاقِعَةُ عَلَى سَائِرِ الْبَدَنِ.

أَوَّلاً - الشِّجَاج:

الشِّجَاجُ أَقْسَامٌ: أَشْهَرُهَا مَا يَلِي:

1 - الْحَارِصَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ قَلِيلاً، نَحْوَ الْخَدْشِ، وَلاَ يَخْرُجُ الدَّمُ، وَتُسَمَّى الْحَرْصَةُ أَيْضًا.

2 - الدَّامِيَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُدْمِي مَوْضِعَهَا مِنَ الشَّقِّ وَالْخَدْشِ، وَلاَ يَقْطُرُ مِنْهَا دَمٌ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ اللُّغَةِ، وَتَأْتِي بَعْدَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الدَّامِعَةُ وَهِيَ مَا يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالدَّامِيَةُ مَا تُخْرِجُ الدَّمَ وَتُسِيلُهُ، وَتَأْتِي عِنْدَهُمْ بَعْدَ الدَّامِعَةِ، وَهِيَ: الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ كَالدَّمْعِ وَلاَ تُسِيلُهُ.

وَالدَّامِيَةُ تُسَمَّى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْبَازِلَةَ؛ لأِنَّ هَا تَبْزُلُ الْجِلْدَ أَيْ تَشُقُّهُ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (بَازِلَةٌ).

3 - الْبَاضِعَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ، أَيْ تَقْطَعُهُ، وَقِيلَ: الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: بَاضِعَةٌ).

4 - الْمُتَلاَحِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ، وَلاَ تَبْلُغُ الْجِلْدَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَتُسَمَّى اللاَّحِمَةُ أَيْضًا.

5 - السِّمْحَاقَ: وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ الْجِلْدَةَ الَّتِي بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الشَّجَّةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْمِلْطَى، وَالْمِلْطَاةَ، وَاللاَّطِئَةَ.

6 - الْمُوضِحَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ السِّمْحَاقَ وَتُوضِحُ الْعَظْمَ.

7 - الْهَاشِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ أَيْ تَكْسِرُهُ سَوَاءٌ أَوْضَحَتْهُ أَمْ لاَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

8 - الْمُنَقِّلَةُ: بِتَشْدِيدِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا، أَوْ كَسْرِهَا، وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعَظْمَ وَتَنْقُلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ سَوَاءٌ أَوْضَحَتْهُ وَهَشَّمَتْهُ أَمْ لاَ.

9 - الْمَأْمُومَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَبْلُغُ أُمَّ الرَّأْسِ وَهِيَ خَرِيطَةُ الدِّمَاغِ الْمُحِيطَةُ بِهِ، وَيُقَالُ لَهَا الآْمَّةُ أَيْضًا (انْظُرْ مُصْطَلَحَ آمَّةٌ).

10 - الدَّامِغَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ الْخَرِيطَةَ، وَتَصِلُ الدِّمَاغَ.

فَهَذِهِ الأْقْسَامُ الْعَشَرَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَذُكِرَ فِيهَا أَلْفَاظٌ أُخْرَى تُؤَوَّلُ إِلَى هَذِهِ الأْقْسَامِ.

وَتُتَصَوَّرُ جَمِيعُ هَذِهِ الشِّجَاجِ فِي الْجَبْهَةِ كَمَا تُتَصَوَّرُ فِي الرَّأْسِ، وَكَذَلِكَ تُتَصَوَّرُ مَا عَدَا الْمَأْمُومَةَ وَالدَّامِغَةَ فِي الْخَدِّ، وَفِي قَصَبَةِ الأْنْفِ، وَاللَّحْيِ الأْسْفَلِ.

وَالتَّسْمِيَاتُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا تَكَادُ تَكُونُ مَحَلَّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ خِلاَفٌ يَسِيرٌ فِي تَرْتِيبِهَا، فَمَرَدُّهُ الاِخْتِلاَفُ فِي تَحْدِيدِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

 

33 - وَأَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الشِّجَاجِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ فِي الْمُوضِحَةِ، لقوله تعالي  : ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) وَلِتَيْسِيرِ ضَبْطِهَا وَاسْتِيفَاءِ مِثْلِهَا؛ لأِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْهِيَ السِّكِّينَ إِلَى الْعَظْمِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ، وَقَدْ قَضَى عليه السلام  فِي الْمُوضِحَةِ بِالْقِصَاصِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمُوضِحَةِ مَا لَهُ بَالٌ وَاتِّسَاعٌ، فَيُقْتَصُّ وَإِنْ ضَاقَ كَقَدْرِ مَغْرَزِ إِبْرَةٍ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيمَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، وَهِيَ الْهَاشِمَةُ، وَالْمُنَقِّلَةُ، وَالآْمَّةُ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا بَعْدَهَا؛ لأِنَّ  كَسْرَ الْعَظْمِ وَتَنَقُّلَهُ لاَ يُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهَا.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلاَحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ - إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ أَيْضًا.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :  ) وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) وَلأِنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا قَبْلَهَا

بِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْجِرَاحَةِ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ مِثْلُ مَا فَعَلَ.

وَاسْتَثْنَى الشُّرُنْبُلاَلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ السِّمْحَاقَ فَلاَ يُقَادُ فِيهَا كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْحَارِصَةِ مُطْلَقًا، وَفِي الْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلاَحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالدَّامِيَةُ كَالْحَارِصَةِ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ كَالْبَاضِعَةِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مُطْلَقًا.

وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَارِصَةَ، وَالدَّامِيَةَ، وَالدَّامِغَةَ؛ لأِنَّ  الْحَارِصَةَ وَالدَّامِيَةَ لاَ يَبْقَى لَهُمَا أَثَرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالشَّجَّةُ الَّتِي لاَ يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ، لاَ حُكْمَ لَهَا فِي الشَّرْعِ. وَالدَّامِغَةُ لاَ يَعِيشُ مَعَهَا عَادَةً، فَلاَ مَعْنَى لِبَيَانِ حُكْمِ الشَّجَّةِ.

ثَانِيًا - الْجِرَاحَاتُ الْوَاقِعَةُ عَلَى سَائِرِ الْبَدَنِ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  قَالَ: «لاَ قَوَدَ فِي الْمَأْمُومَةِ، وَلاَ فِي الْجَائِفَةِ، وَلاَ فِي الْمُنَقِّلَةِ».

وَلأِنَّ هَا جِرَاحٌ لاَ تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ فِيهَا، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قِصَاصٌ، كَكَسْرِ الْعِظَامِ.

وَالْجَائِفَةُ هِيَ الَّتِي تَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ، وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي تَنْفُذُ فِيهَا الْجِرَاحَةُ إِلَى الْجَوْفِ هِيَ الصَّدْرُ وَالظَّهْرُ، وَالْبَطْنُ، وَالْجَنْبَانِ، وَالدُّبُرُ، وَلاَ تَكُونُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَلاَ فِي الرَّقَبَةِ جَائِفَةٌ؛ لأِنَّ  الْجُرْحَ لاَ يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ مَا وَصَلَ مِنَ الرَّقَبَةِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَوْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَابِ فِطْرُهُ، تَكُونُ جَائِفَةً؛ لأِنَّهُ لاَ يُفْطِرُ إِلاَّ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ.

أَمَّا غَيْرُ الْجَائِفَةِ فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، لاَ قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَأَمَّا الْمُوضِحَةُ الَّتِي تُوضِحُ عَظْمَ الصَّدْرِ فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهَا وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الأْصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحَةِ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ بِشَرْطِ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَظْمٍ وَلاَ تَكْسِرَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ لاَ قِصَاصَ فِيهَا، بَلْ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ إِذَا أَوْضَحَتِ الْعَظْمَ وَكَسَرَتْهُ، وَإِذَا بَقِيَ لَهَا أَثَرٌ، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ مَا أَنْفَقَ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقْتَصُّ مِنْ جِرَاحِ الْجَسَدِ وَإِنْ كَانَتْ هَاشِمَةً، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: فِي جِرَاحِ الْجَسَدِ مِنَ الْهَاشِمَةِ وَغَيْرِهَا الْقَوَدُ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَعْظُمَ الْخَطَرُ كَعَظْمِ الصَّدْرِ، وَالْعُنُقِ، وَالصُّلْبِ، وَالْفَخِذِ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ بِالْمِسَاحَةِ طُولاً، وَعَرْضًا، وَعُمْقًا، إِنِ اتَّحَدَ الْمَحَلُّ.

النَّوْعُ الثَّالِث:

إِبْطَالُ الْمَنَافِعِ بِلاَ شَقٍّ وَلاَ إِبَانَةٍ :

قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِعْتِدَاءِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْجَرْحِ زَوَالُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ مَعَ بَقَائِهِ قَائِمًا، كَمَنْ يَلْطِمُ شَخْصًا عَلَى وَجْهِهِ أَوْ يَجْرَحُهُ فِي رَأْسِهِ، فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ ذَهَابُ الْبَصَرِ أَوِ السَّمْعِ، مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ سَلِيمًا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي ذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ فِي الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالشَّمِّ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ اتِّفَاقًا، وَفِي الْبَطْشِ وَالذَّوْقِ وَالشَّمِّ فِي الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ؛ لأِنَّ  لَهَا مَحَالَّ مَضْبُوطَةً، وَلأِهْلِ الْخِبْرَةِ طُرُقٌ فِي إِبْطَالِهَا. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي، فَإِنَّهُ يَجْرِي عِنْدَهُمُ الْقِصَاصُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْقِصَاصُ إِلاَّ فِي زَوَالِ الْبَصَرِ دُونَ سِوَاهُ؛ لأِنَّ  فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصًا فِي الشَّرِيعَةِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى الاِعْتِدَاءُ إِلَى ذَهَابِ الْعَقْلِ، أَوِ السَّمْعِ، أَوِ الْكَلاَمِ، أَوِ الشَّمِّ، أَوْ لُزُومِهِ، أَوِ الْجِمَاعِ، أَوْ مَاءِ الصُّلْبِ، أَوْ إِلَى شَلَلِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي :

الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ الْمُوجِبَةُ لِلدِّيَةِ أَوْ غَيْرِهَا :

إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً، أَوْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهَا الشُّرُوطُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ فَتَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ، أَوْ حُكُومَةُ عَدْلٍ، عَلَى حَسَبِ الأْحْوَالِ، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: لأِنَّ هَا لاَ تَخْلُوا إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْقَطْعِ وَإِبَانَةِ الأْطْرَافِ، أَوْ بِالْجُرْحِ، أَوْ بِإِزَالَةِ الْمَنَافِعِ.

النَّوْعُ الأْوَّلُ: إِبَانَةُ الأْطْرَافِ :

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَدَنِ الإْنْسَانِ مِنْهُ إِلاَّ وَاحِدًا كَاللِّسَانِ وَالأْنْفِ، وَالذَّكَرِ، وَالصُّلْبِ، وَغَيْرِهَا، فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَالأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنْ رَسُول اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  قَالَ: «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الأْنْفِ الدِّيَةُ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ».

لأِنَّ  إِتْلاَفَ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الأْعْضَاءِ كَإِذْهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَإِذْهَابُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كَإِتْلاَفِ النَّفْسِ، فَإِتْلاَفُ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الأْعْضَاءِ كَإِتْلاَفِ النَّفْسِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الأْنْفَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: الْمَنْخِرَيْنِ، وَالْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا، فَفِي الأْنْفِ الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهَا. وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمَا خُلِقَ فِي الإْنْسَانِ مِنْهُ شَيْئَانِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْعَيْنَيْنِ وَالأْذُنَيْنِ، وَالْمَنْخِرَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ، وَالأْنْثَيَيْنِ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَالأْلْيَتَيْنِ وَغَيْرِهَا، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَازِمٍ فِي كِتَابِهِ: وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ...»

وَلأِنَّ  فِي إِتْلاَفِهِمَا إِذْهَابَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأِنَّ  فِي إِتْلاَفِ إِحْدَاهُمَا إِذْهَابَ نِصْفِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَيْنِ الأْعْوَرِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِيهَا نِصْفَ الدِّيَةِ وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ مُغَفَّلٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم  : «وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي إِتْلاَفِ عَيْنِ الأْعْوَرِ دِيَةً كَامِلَةً وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَقَتَادَةُ، وَإِسْحَاقُ؛ لأِنَّ  عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهم قَضَوْا فِي عَيْنِ الأْعْوَرِ بِالدِّيَةِ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا؛ وَلأِنَّ  قَلْعَ عَيْنِ الأْعْوَرِ تَضْمَنَّ إِذْهَابَ الْبَصَرِ كُلِّهِ، فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ أَذْهَبَهُ مِنَ الْعَيْنَيْنِ.

وَمَا خُلِقَ فِي الإْنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ، وَهُوَ أَجْفَانُ الْعَيْنَيْنِ وَأَهْدَابُهَا. 

وَمَا فِيهِ مِنْهُ عَشَرَةٌ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُهَا، فَفِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ أَيْضًا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إِصْبَعٍ وَإِصْبَعٍ لِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم  : «فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ مِنَ الإْبِلِ» وَالأْصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، فَالْخِنْصَرُ وَالإْبْهَامُ سَوَاءٌ، وَفِي كُلِّ سُلاَمَى مِنَ السُّلاَمِيَّاتِ الثَّلاَثِ ثُلُثُ دِيَةِ الأْصْبُعِ مَا عَدَا الإْبْهَامَ فَإِنَّهَا مَفْصِلاَنِ، وَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ دِيَةِ الإْصْبَعِ.

وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسٍ يَزِيدُ عَلَى الدِّيَةِ إِلاَّ الأْسْنَانُ فَإِنَّ فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسًا مِنَ الإْبِلِ، أَيْ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَالأْصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلي الله عليه وسلم  أَنَّهُ قَالَ: «فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ» وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ سِنٍّ وَسِنٍّ؛ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

- وَأَمَّا إِزَالَةُ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ، وَالْحَاجِبَيْنِ إِذَا لَمْ يَنْبُتْ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِيهَا الدِّيَةَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ؛ لأِنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ، فَوَجَبَ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَأُذُنِ الأْصَمِّ، وَأَنْفِ الأْخْشَمِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةَ عَدْلٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لأِنَّهُ إِتْلاَفُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ).

النَّوْعُ الثَّانِي: الْجِرَاح:

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الْمُوضِحَةِ إِذَا كَانَتْ فِي الْوَجْهِ أَوِ الرَّأْسِ خَمْسًا مِنَ الإْبِلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَلَيْسَ فِي جِرَاحَاتِ غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإْبِلِ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ كِتَابُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْمَعْرُوفُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ ذَلِكَ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ فِي الدَّامِغَةِ مَا فِي الْمَأْمُومَةِ؛ لأِنَّ هَا أَبْلَغُ مِنَ الْمَأْمُومَةِ، وَلاَ يَسْلَمُ صَاحِبُهَا فِي الْغَالِبِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بَيْنَ الشِّجَاجِ؛ لأِنَّهُ لاَ يَعِيشُ مَعَهَا، وَلَيْسَ لَهَا حُكْمٌ.

وَأَمَّا الْهَاشِمَة: فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِهَا:

فَقَدَّرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِعُشْرِ الدِّيَةِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْهَاشِمَةَ تُرَادِفُ الْمُنَقِّلَةَ.

وَقَدَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأْصَحِّ - وَالْحَنَابِلَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِعَشْرٍ مِنَ الإْبِلِ إِنْ كَانَتْ مَعَ إِيضَاحٍ أَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ بِشَقٍّ لإِخْرَاجِ عَظْمٍ أَوْ تَقْوِيمِهِ، فَإِنْ لَمْ تُوضِحْ فَخَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ وَقِيلَ: حُكُومَةٌ.

وَأَمَّا مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ مِنَ الشِّجَاجِ وَهِيَ الْحَارِصَةُ وَالسِّمْحَاقُ وَمَا بَيْنَهُمَا فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِتَوْقِيفٍ، وَلاَ لَهُ قِيَاسٌ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْحُكُومَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ).

النَّوْعُ الثَّالِثُ: إِبْطَالُ الْمَنَافِعِ :

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ بِإِزَالَةِ الْعَقْلِ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لأِنَّهُ أَكْبَرُ الْمَعَانِي قَدْرًا، وَأَعْظَمُ الْحَوَاسِّ نَفْعًا، وَبِإِبْطَالِ السَّمْعِ مِنَ الأْذُنَيْنِ أَوِ الْبَصَرِ مِنِ الْعَيْنَيْنِ، أَوِ الشَّمِّ مِنَ الْمَنْخِرَيْنِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَبِإِبْطَالِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ إِحْدَى الأْذُنَيْنِ، أَوِ الْعَيْنَيْنِ، أَوِ الْمَنْخِرَيْنِ، نِصْفُ الدِّيَةِ، مِنْ إِحْدَاهَا.

وَكَذَلِكَ بِإِبْطَالِ الصَّوْتِ، وَالذَّوْقِ، وَالْمَضْغِ، وَالإْمْنَاءِ وَالإْحْبَالِ، وَالْجِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَذَاقَ مُشْتَمِلٌ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْحَلاَوَةِ، وَالْمَرَارَةِ، وَالْحُمُوضَةِ، وَالْعُذُوبَةِ، وَالْمُلُوحَةِ، فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِ أَقْسَامِهَا خُمُسُهَا.

وَفِي شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ).

أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْجِنَايَاتِ :

20 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْجُنُونَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الأْهْلِيَّةِ يَطْرَأُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَذْهَبُ بِهِ، وَلِذَلِكَ تَسْقُطُ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْخِطَابُ لِعَدَمِ وُجُودِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةُ فَهْمِ دَلِيلِ التَّكْلِيفِ.

فَالْجُنُونُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَسَبَ الْبَيَانِ السَّابِقِ، وَلاَ حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ، لأِنَّهُ إِذَا سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالإْثْمُ فِي الْمَعَاصِي فَالْحَدُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ كَالضَّمَانِ وَنَحْوِهِ فَلاَ يَسْقُطُ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ تَكْلِيفًا لَهُ، بَلْ هُوَ تَكْلِيفٌ لِلْوَلِيِّ بِأَدَاءِ الْحَقِّ الْمَالِيِّ الْمُسْتَحَقِّ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ، فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جَرَائِمُ، أُخِذَ بِهَا مَالِيًّا لاَ بَدَنِيًّا، وَإِذَا أَتْلَفَ مَالَ إِنْسَانٍ وَهُوَ مَجْنُونٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِذَا قَتَلَ فَلاَ قِصَاصَ وَتَجِبُ دِيَةُ الْقَتِيلِ، كَذَلِكَ لاَ يَتِمُّ إِحْصَانُ الرَّجْمِ وَالْقَذْفِ إِلاَّ بِالْعَقْلِ، فَالْمَجْنُونُ لاَ يَكُونُ مُحْصَنًا لأِنَّهُ لاَ خِطَابَ بِدُونِ الْعَقْلِ.

لاَ جِزْيَةَ عَلَى الْمَجْنُونِ :

- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ جِزْيَةَ عَلَى الْمَجْنُونِ؛ لأِنَّ  الْجِزْيَةَ شُرِعَتْ جَزَاءً عَنِ الْكُفْرِ وَحَمْلاً لِلْكَافِرِ عَلَى الإْسْلاَمِ، فَتَجْرِي مَجْرَى الْقَتْلِ، فَمَنْ لاَ يُعَاقَبُ بِالْقَتْلِ، لاَ يُؤْخَذُ بِالْجِزْيَةِ، وَالْمَجْنُونُ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ، فَلاَ جِزْيَةَ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (جِزْيَةٌ).

 

أَنْوَاعُ الْحَبْسِ :

يَنْقَسِمُ الْحَبْسُ بِحَسَبِ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَا كَانَ بِقَصْدِ الْعُقُوبَةِ، وَإِلَى مَا كَانَ بِقَصْدِ الاِسْتِيثَاقِ.

الْحَبْسُ بِقَصْدِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّعْزِيرِ وَمُوجِبَاتُه:

 -الْحَبْسُ بِقَصْدِ الْعُقُوبَةِ يَكُونُ فِي الأْفْعَالِ وَالْجَرَائِمِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ فِيهَا الْحُدُودُ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ كَانَ فِيهَا حَقُّ الآْدَمِيِّ، وَالأْصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْحَبْسَ فَرْعٌ مِنَ التَّعْزِيرِ. وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الشَّافِعِيُّ بِضْعَ قَوَاعِدَ يُشْرَعُ فِيهَا الْحَبْسُ، مِنْهَا خَمْسٌ يُشْرَعُ فِيهَا الْحَبْسُ تَعْزِيرًا وَهِيَ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ دَفْعِ الْحَقِّ إِلْجَاءً إِلَيْهِ، وَحَبْسُ الْجَانِي رَدْعًا عَنِ الْمَعَاصِي، وَحَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنَ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَحَبْسِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ حَتَّى يَخْتَارَ إِحْدَاهُمَا، وَحَبْسِ مَنْ أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ وَامْتَنَعَ مِنْ تَعْيِينِهِ، وَحَبْسِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ.

جَمْعُ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا مَعَ عُقُوبَاتٍ أُخْرَى :

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ جَمْعِ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا مَعَ غَيْرِهِ مِنْ عُقُوبَاتٍ. وَذَكَرُوا أَمْثِلَةً لِجَمْعِهِ مَعَ الْحَدِّ مِنْ مِثْلِ: جَلْدِ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةً حَدًّا وَحَبْسِهِ سَنَةً تَعْزِيرًا لِلْمَصْلَحَةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: حَبْسُهُ سَنَةً مَنْفِيًّا.

- وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالْقِصَاصِ: حَبْسُ مَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ جِرَاحَةً لاَ يُسْتَطَاعُ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالأْرْشِ (التَّعْوِيضُ) بَدَلاً مِنْهُ.

- وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالْكَفَّارَةِ: حَبْسُ الْقَاضِي مَنْ ظَاهَرَ زَوْجَتَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ عَنْ ظِهَارِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ. وَحَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ عَامَّةً حَتَّى يُؤَدِّيَهَا فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ.

- وَقَرَّرَ الْفُقَهَاءُ مَشْرُوعِيَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ، وَمِنْ ذَلِكَ: تَقْيِيدُ السُّفَهَاءِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي سُجُونِهِمْ. وَحَبْسُ مَنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ وَضَرْبُهُ فِي سِجْنِهِ حَتَّى يُرَاجِعَ زَوْجَتَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَضَرْبُ الْمَحْبُوسِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ. وَحَلْقُ رَأْسِ شَاهِدِ الزُّورِ وَحَبْسُهُ. وَحَبْسُ الْقَاتِلِ عَمْدًا - إِذَا عُفِيَ عَنْهُ - مَعَ جَلْدِهِ مِائَةً. وَقَدْ فَوَّضَ الشَّرْعُ الْحَاكِمَ فِي جَمْعِ الْحَبْسِ مَعَ عُقُوبَاتٍ أُخْرَى؛ لأِنَّ  أَحْوَالَ النَّاسِ فِي الاِنْزِجَارِ مُخْتَلِفَةٌ.

مُدَّةُ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا :

- لِمُدَّةِ الْحَبْسِ بِقَصْدِ التَّعْزِيرِ حَدٌّ أَدْنَى وَحَدٌّ أَعْلَى بِحَسَبِ حَالِ الْجَانِي وَجَرِيرَتِهِ:

أ - أَقَلُّ الْمُدَّةِ :

- فِي كَلاَمِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَبْسِ يَحْصُلُ حَتَّى بِالْحَبْسِ عَنْ حُضُورِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا يَوْمٌ وَاحِدٌ. وَيُقْصَدُ بِهِ تَعْوِيقُ الْمَحْبُوسِ عَنِ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ لِيَضْجَرَ وَيَنْزَجِرَ؛ لأِنَّ  بَعْضَ النَّاسِ يَتَأَثَّرُ بِحَبْسِ يَوْمٍ فَيَغْتَمُّ.

ب - أَكْثَرُ الْمُدَّةِ :

- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) لَمْ يُقَدِّرُوا حَدًّا أَعْلَى لِلْحَبْسِ بِقَصْدِ التَّعْزِيرِ، وَفَوَّضُوا ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي، فَيَحْكُمُ بِمَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا لِحَالِ الْجَانِي؛ لأِنَّ  التَّعْزِيرَ - وَالْحَبْسُ فَرْعٌ مِنْهُ - مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي اسْتِدَامَةُ حَبْسِ مَنْ تَكَرَّرَتْ جَرَائِمُهُ وَأَصْحَابِ الْجَرَائِمِ الْخَطِيرَةِ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا لِلزُّبَيْرِيِّ، وَقَدَّرَ أَكْثَرَ الْحَبْسِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي، وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ: سَنَةٌ؛ تَشْبِيهًا لِلْحَبْسِ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِّ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَافَقَ فِيهِ الْجُمْهُورَ فِي عَدَمِ تَحْدِيدِ أَكْثَرِ الْمُدَّةِ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْعَمَلَ بِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ لاَ التَّشَهِّي وَالاِنْتِقَامُ.

التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَبْسِ الْقَصِيرِ وَالْحَبْسِ الطَّوِيلِ :

- مَيَّزَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْحَبْسِ الْقَصِيرِ وَالْحَبْسِ الطَّوِيلِ، فَسَمَّوْا مَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ قَصِيرًا، وَمَا كَانَ سَنَةً فَأَكْثَرَ طَوِيلاً. وَقَضَوْا عَلَى أَصْحَابِ الْجَرَائِمِ غَيْرِ الْخَطِيرَةِ بِالْحَبْسِ الْقَصِيرِ كَحَبْسِ شَاتِمِ جِيرَانِهِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَحَبْسِ تَارِكِ الصِّيَامِ مُدَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَقَضَوْا عَلَى أَصْحَابِ الْجَرَائِمِ الْخَطِيرَةِ وَمُعْتَادِي الإْجْرَامِ بِالْحَبْسِ الطَّوِيلِ. مِنْ مِثْلِ: حَبْسِ الزَّانِي الْبِكْرِ سَنَةً بَعْدَ حَدِّهِ. وَكَذَا مَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ جِرَاحَةً لاَ يُسْتَطَاعُ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ وَيُطَالُ حَبْسُهُ. وَقَدْ سَجَنَ عُثْمَانُ رضي الله عنه ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ التَّمِيمِيَّ حَتَّى مَاتَ فِي مَحْبِسِهِ وَكَانَ مِنْ شِرَارِ اللُّصُوصِ.

إِبْهَامُ مُدَّةِ الْحَبْسِ :

الأْصْلُ أَنْ تُحَدَّدَ مُدَّةُ الْحَبْسِ عِنْدَ الْحُكْمِ. وَإِلَى جَانِبِ ذَلِكَ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ إِبْهَامَ الْمُدَّةِ وَعَدَمَ تَعْرِيفِ الْمَحْبُوسِ بِهَا، وَتَعْلِيقَ انْتِهَائِهَا عَلَى تَوْبَتِهِ وَصَلاَحِهِ، وَذَلِكَ مِنْ مِثْلِ: حَبْسِ الْمُسْلِمِ الَّذِي يَبِيعُ الْخَمْرَ حَتَّى يَتُوبَ. وَحَبْسِ الْمُسْلِمِ الَّذِي يَتَجَسَّسُ لِلْعَدُوِّ. وَحَبْسِ الْمُخَنَّثِ وَالْمُرَابِي. وَحَبْسُ الْبُغَاةِ حَتَّى تُعْرَفَ تَوْبَتُهُمْ.

وَمَنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِحَدِّ الْخَمْرِ فَلِلْوَالِي حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ.

الْحَبْسُ الْمُؤَبَّد:

- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَقَائِعَ وَنُصُوصًا تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَبْسِ الْمُؤَبَّدِ، مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه حَبَسَ ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ حَتَّى مَاتَ فِي سِجْنِهِ. وَأَنَّ عَلِيًّا قَضَى بِحَبْسِ مَنْ أَمْسَكَ رَجُلاً لِيَقْتُلَهُ آخَرُ أَنْ يُحْبَسَ حَتَّى الْمَوْتِ.

وَكَذَا يُحْبَسُ مَدَى الْحَيَاةِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ. وَالدَّاعِي إِلَى الْبِدْعَةِ. وَمُزَيِّفُ النُّقُودِ. وَمَنْ تَكَرَّرَتْ جَرَائِمُهُ. وَالْعَائِدُ إِلَى السَّرِقَةِ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَ حَدِّهِ فِي الْمَرَّةِ الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ. وَمَنْ يُكْثِرُ إِيذَاءَ النَّاسِ. وَالْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي. وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ.

أَسْبَابُ سُقُوطِ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا وَقَطْعُ مُدَّتِهِ :

- سُقُوطُ الْحَبْسِ يُقْصَدُ بِهِ تَوْقِيفُ تَنْفِيذِهِ بَعْدَ النُّطْقِ بِهِ، سَوَاءٌ أُبْدِئَ بِتَنْفِيذِ بَعْضِهِ أَمْ لَمْ يُبْدَأْ.

وَأَسْبَابُ سُقُوطِ الْحَبْسِ هِيَ:

أ - الْمَوْت:

يَنْتَهِي الْحَبْسُ بِمَوْتِ الْجَانِي لاِنْتِهَاءِ مَوْضِعِ التَّكْلِيفِ، وَلأِنَّ  الْمَقْصُودَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَقَدْ فَاتَ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ الْحَبْسِ بَعْدَ انْعِدَامِ الْمَحَلِّ.

ب - الْجُنُون:

جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْجَرِيمَةِ يُوقِفُ تَنْفِيذَ الْحَبْسِ؛ لأِنَّ  الْمَجْنُونَ لَيْسَ مُكَلَّفًا وَلاَ أَهْلاً لِلْعُقُوبَةِ وَالتَّأْدِيبِ، وَهُوَ لاَ يَعْقِلُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَبْسِ لِفَقْدِهِ الإْدْرَاكَ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الإْسْكَافِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ الْجُنُونَ لاَ يُوقِفُ تَنْفِيذَ التَّعْزِيرِ - وَالْحَبْسُ فَرْعٌ

مِنْهُ - وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْغَايَةَ مِنْهُ التَّأْدِيبُ وَالزَّجْرُ، فَإِذَا تَعَطَّلَ جَانِبُ التَّأْدِيبِ بِالْجُنُونِ فَلاَ يَنْبَغِي تَعْطِيلُ جَانِبِ الزَّجْرِ مَنْعًا لِلْغَيْرِ.

ج - الْعَفْو:

إِذَا كَانَ الْحَبْسُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ سَقَطَ بِعَفْوِهِ. وَضَرَبُوا مِثَالاً لِذَلِكَ بِالْمَدِينِ الْمَحْبُوسِ لِحَقِّ الدَّائِنِ.

د - الشَّفَاعَة:

تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ تَعْزِيرًا قَبْلَ الْبَدْءِ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ أَذًى، لِمَا فِيهَا مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ. وَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ رَدُّ الشَّفَاعَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا مَصْلَحَةٌ، وَقَدْ رَدَّ عُمَرُ رضي الله عنه الشَّفَاعَةَ فِي مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ حِينَ حَبَسَهُ لِتَزْوِيرِهِ خَاتَمَهُ.

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِطْلاَقُ اسْتِحْبَابِ الشَّفَاعَةِ فِي التَّعْزِيرِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لأِنَّ  الْمُسْتَحِقَّ إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ التَّعْزِيرِ كَانَ لِلإْمَامِ؛ لأِنَّهُ شُرِعَ لِلإْصْلاَحِ وَقَدْ يَرَى ذَلِكَ فِي إِقَامَتِهِ وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَنْبَغِي اسْتِحْبَابُهَا.

- وَكَانَ مِنَ الْيَسِيرِ فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ قَبُولُ الشَّفَاعَةِ فِي الْمَحْبُوسِ؛ لأِنَّ  الْقَاضِيَ كَانَ يُشْرِفُ إِشْرَافًا مُبَاشِرًا عَلَى تَنْفِيذِ الأْحْكَامِ، وَكَانَ لِلْقُضَاةِ سُجُونٌ تُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، فَيُقَالُ: سِجْنُ الْقَاضِي كَمَا يُقَالُ: سِجْنُ الْوَالِي.

هـ - التَّوْبَة:

لَيْسَ لِتَوْبَةِ الْمَحْبُوسِ وَنَحْوِهِ زَمَنٌ مُحَدَّدٌ تُعْرَفُ بِهِ، بَلْ يَعُودُ تَقْدِيرُ إِمْكَانِيَّةِ حُصُولِهَا إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ قَرَائِنَ نَتِيجَةَ الْمُرَاقَبَةِ وَالتَّتَبُّعِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَ الْجَرَائِمِ بِالتَّوْبَةِ إِجْبَارًا وَيُظْهِرَ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَيْهِمْ مَا يَقُودُهُمْ إِلَيْهَا طَوْعًا. وَمِنَ الأْسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى التَّوْبَةِ تَمْكِينُ أَهْلِ الْمَحْبُوسِ وَجِيرَانِهِ مِنْ زِيَارَتِهِ. فَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ كَرَدِّ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا، وَذَلِكَ تَوْبَةٌ.

- عَلَى أَنَّ هُنَاكَ جَرَائِمَ جَسِيمَةً وَخَطِيرَةً تَسْتَلْزِمُ سُرْعَةَ ظُهُورِ التَّوْبَةِ؛ لِمَا فِي الإْصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ مِنْ آثَارٍ خَطِيرَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ: الرِّدَّةُ الَّتِي حُدِّدَتْ مُدَّةُ التَّوْبَةِ مِنْهَا بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي السِّحْرِ، وَتَرْكِ الصَّلاَةِ كَسَلاً عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا إِذَا حُبِسَ الزَّانِي الْبِكْرُ بَعْدَ حَدِّهِ وَظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ قَبْلَ السَّنَةِ فَلاَ يُخْرَجُ حَتَّى تَنْقَضِيَ؛ لأِنَّ هَا بِمَعْنَى الْحَدِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. 

طَهَارَةُ الْمَحْبُوسِ مِنْ ذَنْبِهِ بِالْحَبْسِ تَعْزِيرًا :

يَبْدُو مِنْ كَلاَمِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ - وَالْحَبْسُ فَرْعٌ مِنْهُ - لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى تَكْفِيرِ الذَّنْبِ؛ لأِنَّهُ شُرِعَ لِلزَّجْرِ الْمَحْضِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْحُدُودِ فَهِيَ كَفَّارَاتٌ لِمُوجِبَاتِهَا وَأَهْلِهَا.

وَذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ: أَنَّ الْعُقُوبَةَ عَامَّةً كَفَّارَةٌ لِمُوجِبِهَا فِي الآْخِرَةِ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  لِلأْنْصَارِ بَعْدَ مُبَايَعَتِهِمْ لَهُ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقُوا وَلاَ يَزْنُوا وَلاَ يَقْتُلُوا أَوْلاَدَهُمْ: وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ». ثُمَّ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَقَوْلُهُ: عُوقِبَ بِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا لِدُخُولِ قَتْلِ الأْوْلاَدِ.

الْحَبْسُ لِلاِسْتِيثَاقِ :

الاِسْتِيثَاقُ لُغَةً: إِحْكَامُ الأْمْرِ وَأَخْذُهُ بِالشَّيْءِ الْمَوْثُوقِ بِهِ. وَيَذْكُرُهُ الْعُلَمَاءُ أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَلَى الْحَبْسِ. وَيُرِيدُونَ بِهِ: تَعْوِيقَ الشَّخْصِ وَمَنْعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ بِقَصْدِ الاِسْتِيثَاقِ، وَضَمَانِ عَدَمِ الْهَرَبِ، لاَ بِقَصْدِ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَةِ. وَبَعْدَ تَتَبُّعِ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ، يُمْكِنُ تَقْسِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحَبْسِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ : الْحَبْسُ لِلتُّهَمَةِ، وَالْحَبْسُ لِلاِحْتِرَازِ، وَالْحَبْسُ لِتَنْفِيذِ عُقُوبَةٍ أُخْرَى.

الْحَبْسُ بِسَبَبِ التُّهَمَةِ :

التُّهَمَةُ فِي مُجْمَلِ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ: إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ عَلَى مَطْلُوبٍ تَعَذَّرَتْ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الأْحْوَالِ. وَالْحَبْسُ اسْتِيثَاقًا بِتُهَمَةٍ هُوَ: تَعْوِيقُ ذِي الرِّيبَةِ عَنِ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهُ فِيمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ أَوِ الآْدَمِيِّ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا حَبْسُ الاِسْتِظْهَارِ لِيُكْتَشَفَ بِهِ مَا وَرَاءَهُ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْحَبْسِ بِتُهَمَةٍ وَحَالاَتُه:

- اسْتُدِلَّ لِمَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ التُّهَمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَنِ اتُّهِمَ بِعَدَمِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ ) تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِالصَّلاَةِ) وَبِأَنَّ «النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  حَبَسَ أَحَدَ الْغِفَارِيِّينَ بِتُهَمَةِ سَرِقَةِ بَعِيرَيْنِ ثُمَّ أَطْلَقَهُ». وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ حَبَسَ مُتَّهَمِينَ حَتَّى أَقَرُّوا.

- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ التُّهَمَةِ. وَاعْتَبَرُوهُ مِنَ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ إِذَا تَأَيَّدَتِ التُّهَمَةُ بِقَرِينَةٍ قَوِيَّةٍ، أَوْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الرِّيبَةِ عَلَى الْمُتَّهَمِ أَوْ عُرِفَ بِالْفُجُورِ. مِنْ مِثْلِ «مَا وَقَعَ لاِبْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ حِينَ أَخْفَى كَنْزًا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَادَّعَى ذَهَابَهُ بِالنَّفَقَةِ، فَحَبَسَهُ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم  وَرَدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى كَذِبِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الزُّبَيْرَ أَنْ يَمَسَّهُ بِعَذَابٍ حَتَّى ظَهَرَ الْكَنْزُ.

وَفِي نَحْوِ هَذَا يَقُولُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْمَتَاعُ يُوجَدُ مَعَ الرَّجُلِ الْمُتَّهَمِ فَيَقُولُ: ابْتَعْتُهُ، فَاشْدُدْهُ فِي السِّجْنِ وَثَاقًا وَلاَ تَحُلُّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرُ اللَّهِ. وَذَلِكَ إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ لاَ يَتَحَصَّلَ ذَلِكَ الْمَتَاعُ لِمِثْلِ هَذَا الْمُتَّهَمِ. وَإِذَا قَامَتِ الْقَرَائِنُ وَشَوَاهِدُ الْحَالِ عَلَى أَنَّ الْمُتَّهَمَ بِسَرِقَةٍ - مَثَلاً - كَانَ ذَا عِيَارَةٍ - كَثِيرَ التَّطْوَافِ وَالْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ - أَوْ فِي بَدَنِهِ آثَارُ ضَرْبٍ، أَوْ كَانَ مَعَهُ حِينَ أَخَذَ مِنْقَبٌ، قَوِيَتِ التُّهَمَةُ وَسُجِنَ.

- وَقَدْ فَصَّلَ الْقَائِلُونَ بِحَبْسِ التُّهَمَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ فَذَكَرُوا: أَنَّهُ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ حَبْسِ الْمُتَّهَمِ بِاخْتِلاَفِ حَالِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ التُّهَمَةِ وَلَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ صَالِحَةٌ عَلَى اتِّهَامِهِ فَلاَ يَجُوزُ حَبْسُهُ وَلاَ عُقُوبَتُهُ اتِّفَاقًا. وَإِنْ كَانَ الْمُتَّهَمُ مَجْهُولَ الْحَالِ لاَ يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلاَ فُجُورٍ، فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَإِنْ كَانَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ حَبْسُهُ، بَلْ هُوَ أَوْلَى مِمَّنْ قَبْلَهُ.

فَإِنْ تَعَارَضَتِ الأْقْوَالُ فِي الْمُتَّهَمِ أُخِذَ بِخَبَرِ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِالْخَيْرِ آخِرًا، سُئِلَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْحَارِثِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ رَجُلٍ شَهِدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِالْفَسَادِ وَالرِّيبَةِ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ آخَرُونَ بِالصَّلاَحِ وَالْخَيْرِ وَمُجَانَبَةِ أَهْلِ الرِّيَبِ وَمُتَابَعَةِ شُغْلِهِ وَمَعَاشِهِ فَأَجَابَا: تُقَدَّمُ شَهَادَةُ الآْخَرِينَ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا رُجُوعَهُ عَنْ أَحْوَالِهِ الْحَسَنَةِ إِلَى حِينِ شَهَادَتِهِمْ لقوله تعالي :  ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).

- وَذَكَرَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مَا كَانَ الْحَبْسُ فِيهِ أَقْصَى عُقُوبَةً كَالأْمْوَالِ فَلاَ يُحْبَسُ الْمُتَّهَمُ حَتَّى تَثْبُتَ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ.

وَعِنْدَ سُحْنُونٍ وَغَيْرِهِ: مَا كَانَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ غَيْرَ الْحَبْسِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حَيْثُ الأْقْصَى فِيهَا الْقَطْعُ أَوِ الْقَتْلُ أَوِ الْجَلْدُ فَيَجُوزُ حَبْسُ الْمُتَّهَمِ فِيهَا بِشَهَادَةٍ حَتَّى تَكْتَمِلَ الْحُجَّةُ؛ وَلِئَلاَّ يُتَّهَمَ الْقَاضِي بِالتَّهَاوُنِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ يُفْضِي إِلَى فَسَادِ الْعَالَمِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالسُّكْرِ حَتَّى يَعْدِلَ الشُّهُودُ.

وَذَهَبَ الْقَاضِي شُرَيْحٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى مَنْعِ الْحَبْسِ بِتُهَمَةٍ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ تَامَّةٍ، وَرُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا اسْتَحْلَفَ مُتَّهَمًا - بِأَخْذِ مَالِ رَجُلٍ غَنِيٍّ مَاتَ فِي سَفَرٍ - وَخَلَّى سَبِيلَهُ.

وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  كَانَ لاَ يَأْخُذُ النَّاسَ بِالْقَرْفِ (التُّهَمَةِ). فَإِذَا اضْطُرَّ الْقَاضِي إِلَى بَعْضِ الْحَالاَتِ يَأْخُذُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلاً لِيُمْكِنَهُ إِحْضَارُهُ. وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّ الشَّرْعَ لاَ يُرَخِّصُ فِي مُعَاقَبَةِ أَصْحَابِ التُّهَمِ قَبْلَ إِلْمَامِهِمْ بِالسَّيِّئَاتِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَفَضَ أَنْ يُؤْتَى بِمُتَّهَمٍ مُصَفَّدٍ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ.

الْجِهَةُ الَّتِي يَحِقُّ لَهَا الْحَبْسُ بِتُهَمَةٍ :

لِلْفُقَهَاءِ قَوْلاَنِ فِيمَنْ يَمْلِكُ سُلْطَةَ الْحَبْسِ بِتُهَمَةٍ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي الْحَبْسُ بِتُهَمَةٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْوَالِي، وَهَذَا قَوْلُ الزُّبَيْرِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالْقَرَافِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَحُجَّتُهُمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مِنَ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الإْمَامُ وَالْوَالِي لاَ الْقَاضِي؛ إِذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَ أَحَدًا إِلاَّ بِحَقٍّ وَجَبَ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لِلْوَالِي وَلِلْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَا بِتُهَمَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ، وَذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ. وَاسْتَدَلَّ هَؤُلاَءِ بِأَنَّ عُمُومَ الْوِلاَيَاتِ وَخُصُوصَهَا وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلاَيَةِ رَاجِعٌ إِلَى الأْلْفَاظِ وَالأْحْوَالِ وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، فَقَدْ يَدْخُلُ فِي وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الأْزْمِنَةِ وَالأْمْكِنَةِ مَا يَدْخُلُ فِي وِلاَيَةِ الْحَرْبِ فِي زَمَانٍ وَمَكَانٍ آخَرَ وَبِالْعَكْسِ.

مُدَّةُ الْحَبْسِ بِتُهَمَةٍ :

لاَ حَدَّ لأِقَلِّ مُدَّةِ الْحَبْسِ. أَمَّا أَكْثَرُهُ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُ الْمُتَّهَمِ، وَقَدْ نَسَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُطَالُ سِجْنُ مَجْهُولِ الْحَالِ، وَالْحَبْسُ الطَّوِيلُ عِنْدَهُمْ مَا زَادَ عَلَى سَنَةٍ.

وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ أَكْثَرَ مُدَّةٍ يُحْبَسُ فِيهَا الْمُتَّهَمُ الْمَجْهُولُ الْحَالِ يَوْمٌ وَاحِدٌ. وَحَدَّدَهَا قَوْمٌ بِيَوْمَيْنِ وَثَلاَثَةٍ، وَأَجَازَ آخَرُونَ بُلُوغَهَا شَهْرًا.

أَمَّا الْمُتَّهَمُ الْمَعْرُوفُ بِالْفُجُورِ وَالْفَسَادِ فَأَكْثَرُ مُدَّةِ حَبْسِهِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ ظُهُورُ حَالِهِ وَالْكَشْفُ عَنْهُ، وَلَوْ حُبِسَ حَتَّى الْمَوْتِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَذَاهِبِ فُقَهَاءِ الأْمْصَارِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَنُقِلَ هَذَا أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، إِلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُحْبَسُ حَتَّى الْمَوْتِ.

وَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: غَايَةُ حَبْسِ الْمُتَّهَمِ الْمَعْرُوفِ بِالْفُجُورِ وَالْفَسَادِ شَهْرٌ وَاحِدٌ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ غَيْرِهِ أَيْضًا.

الْحَبْسُ لِلاِحْتِرَازِ :

الاِحْتِرَازُ لُغَةً: التَّحَفُّظُ عَلَى الشَّيْءِ تَوَقِّيًا. وَلَيْسَ لِلْحَبْسِ الاِحْتِرَازِيِّ تَعْرِيفٌ خَاصٌّ بِهِ مَعَ مَا ذَكَرُوا لَهُ مِنْ وَقَائِعَ عَدِيدَةٍ. وَيُقْصَدُ بِهِ: التَّحَفُّظُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ حُدُوثُ ضَرَرٍ بِتَرْكِهِ، وَلاَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ تُهَمَةٍ.

وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ: حَبْسُ الْعَائِنِ الَّذِي يَضُرُّ النَّاسَ بِعَيْنِهِ احْتِرَازًا مِنْ أَذَاهُ وَحَبْسُ نِسَاءِ الْبُغَاةِ وَصِبْيَانِهِمْ تَحَفُّظًا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي الْبَغْيِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ. وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَحْبِسُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي الْمَسْجِدِ مُؤَقَّتًا إِلَى أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْطِ الْحَقَّ أَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ.

الْحَبْسُ بِقَصْدِ تَنْفِيذِ عُقُوبَةٍ :

إِذَا حَالَ دُونَ تَنْفِيذِ الْعُقُوبَةِ الْمَحْكُومِ بِهَا أَمْرٌ عَارِضٌ أُرْجِئَ التَّنْفِيذُ حَتَّى يَزُولَ الْعُذْرُ، فَإِذَا خِيفَ هَرَبُ الْمَطْلُوبِ تَنْفِيذُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ جَازَ حَبْسُهُ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُؤَخَّرُ الْمَرِيضُ.

وَالْحَامِلُ. وَالنُّفَسَاءُ. وَالْمُرْضِعُ.

  وَالْمَظْنُونُ حَمْلُهَا حَتَّى تَسْتَبْرِئَ. وَالْمَجْرُوحُ وَالْمَضْرُوبُ. وَالسَّكْرَانُ حَتَّى يَصِحُّوا إِجْمَاعًا. وَمَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ حُدُودٌ لَيْسَ فِيهَا الرَّجْمُ حُبِسَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ لِيَخِفَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى تَأْخِيرِ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ فِي الأْوْلِيَاءِ غَائِبٌ حَتَّى يَحْضُرَ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى حَبْسِهِ حَتَّى حُضُورِ الْوَلِيِّ الْغَائِبِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْقَاتِلَ يُحْبَسُ إِذَا كَانَ فِي الأْوْلِيَاءِ صَغِيرٌ حَتَّى يَبْلُغَ أَوْ مَجْنُونٌ حَتَّى يُفِيقَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فِي الصَّغِيرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَمَنْ جَرَحَ آخَرَ حُبِسَ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ إِنْ كَانَ فِي الْجُرْحِ قِصَاصٌ. وَمَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ أَوِ الْقَطْعِ قِصَاصًا حُبِسَ لِيُتَمَكَّنَ مِنْ تَنْفِيذِهِ، سَوَاءٌ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالاِعْتِرَافِ. وَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ حَبْسُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْعُقُوبَةَ. وَيُنْتَظَرُ لِجَلْدِ الْمَعْذُورِ اعْتِدَالُ هَوَاءٍ فَلاَ يُجْلَدُ فِي بَرْدٍ وَحَرٍّ مُفْرِطَيْنِ خَوْفَ الْهَلاَكِ، وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَبْسِهِ أَثْنَاءَ الْعُذْرِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ وَأُمِنَ هَرَبُهُ لَمْ يُحْبَسْ.

ضَوَابِطُ مُوجِبَاتِ الْحَبْسِ عَامَّةً عِنْدَ الْفُقَهَاءِ :

ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ ثَمَانِيَةَ ضَوَابِطَ فِي مُوجِبَاتِ الْحَبْسِ، وَنَسَبَ بَعْضَهَا إِلَى عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذِهِ الثَّمَانِيَةُ هِيَ:

1 - حَبْسُ الْجَانِي لِغَيْبَةِ وَلِيِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ حِفْظًا لِمَحَلِّ الْقِصَاصِ.

2 - حَبْسُ الآْبِقِ سَنَةً حِفْظًا لِلْمَالِيَّةِ رَجَاءَ أَنْ يُعْرَفَ مَالِكُهُ.

3 - حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ دَفْعِ الْحَقِّ إِلْجَاءً إِلَيْهِ.

4 - حَبْسُ مَنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ اخْتِبَارًا لِحَالِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ حَالُهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ عُسْرًا أَوْ يُسْرًا.

5 - حَبْسُ الْجَانِي تَعْزِيرًا وَرَدْعًا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. 

6 - حَبْسُ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، كَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، أَوِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا، وَامْتَنَعَ مِنْ تَرْكِ مَا لاَ يَجُوزُ لَهُ.

7 - حَبْسُ مَنْ أَقَرَّ بِمَجْهُولِ عَيْنٍ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَامْتَنَعَ مِنْ تَعْيِينِهِ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يُعَيِّنَهُ فَيَقُولَ: الْعَيْنُ هُوَ هَذَا الثَّوْبُ، أَوِ الشَّيْءُ الَّذِي فِي ذِمَّتِي وَأَقْرَرْتُ بِهِ هُوَ دِينَارٌ.

7 - حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ فَيُقْتَلُ فِيهِ، وَلاَ يَدْخُلُ الْحَجُّ فِي هَذَا مُرَاعَاةً لِلْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِي.

9 - زَادَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عَلِيِّ حُسَيْنٍ الْمَالِكِيُّ سَبَبًا آخَرَ، فَقَالَ: وَالتَّاسِعُ: مَنْ يُحْبَسُ اخْتِبَارًا لِمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ السَّرِقَةِ وَالْفَسَادِ.

10 - وَذَكَرَ آخَرُونَ سَبَبًا عَاشِرًا فَقَالُوا: وَالْعَاشِرُ حَبْسُ الْمُتَدَاعَى فِيهِ لِحِفْظِهِ حَتَّى تَظْهَرَ نَتِيجَةُ الدَّعْوَى، كَامْرَأَةٍ ادَّعَى رَجُلاَنِ نِكَاحَهَا فَتُحْبَسُ فِي بَيْتٍ عِنْدَ امْرَأَةٍ صَالِحَةٍ، وَإِلاَّ فَفِي حَبْسِ الْقَاضِي.

الأْحْوَالُ الَّتِي يُشْرَعُ فِيهَا الْحَبْس:

حَالاَتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا :

أ - حَبْسُ الْقَاتِلِ عَمْدًا لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ فِي الدَّمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ :

- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ حَبْسُ الْقَاتِلِ عَمْدًا سَنَةً وَضَرْبُهُ مِائَةً إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَدَمِ التَّكَافُؤِ كَالْحُرِّ يَقْتُلُ الْعَبْدَ، وَالْمُسْلِمُ يَقْتُلُ الذِّمِّيَّ أَوِ الْمُسْتَأْمَنَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «رَجُلاً قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم  مِائَةَ جَلْدَةٍ وَنَفَاهُ سَنَةً، وَمَحَا سَهْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُقِدْهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً.

وَنُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما نَحْوُ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ فَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله.

وَلاَ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَبْسَ هُنَا، بَلْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجِبُ الدِّيَةُ فَقَطْ.

ب - حَبْسُ الْقَاتِلِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ :

- مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَبَعْضِ فُقَهَاءِ السَّلَفِ كَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ وَعَطَاءٍ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا لاَ يُحْبَسُ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ، إِلاَّ إِذَا عُرِفَ بِالشَّرِّ فَيُؤَدِّبُهُ الإْمَامُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى فِي قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالأْوْزَاعِيُّ.

ج - حَبْسُ الْمُتَسَبِّبِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ دُونَ مُبَاشَرَتِهِ :

- مِنَ الأْمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا: أَنَّ مَنْ أَمْسَكَ رَجُلاً لآِخَرَ لِيَقْتُلَهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِلِ وَيُحْبَسُ الْمُمْسِكُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَرَبِيعَةُ لِحَدِيثِ: «يُصْبَرُ الصَّابِرُ وَيُقْتَلُ الْقَاتِلُ».

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْمُمْسِكِ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقَتْلِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْمُمْسِكُ أَنَّ صَاحِبَهُ سَيَقْتُلُ فَيُحْبَسُ سَنَةً وَيُضْرَبُ مِائَةً. وَمَنْ كَتَّفَ إِنْسَانًا وَطَرَحَهُ فِي أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ أَوْ ذَاتِ حَيَّاتٍ فَقَتَلَتْهُ يُحْبَسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: حَتَّى يَمُوتَ.

وَمَنْ تَبِعَ رَجُلاً لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ فَأَدْرَكَهُ آخَرُ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الأْوَّلُ فَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ قَصْدُ الْقَاطِعِ حَبْسَهُ بِالْقَطْعِ لِيَقْتُلَهُ الأْوَّلُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، وَيُحْبَسُ؛ لأِنَّهُ كَالْمُمْسِكِ بِسَبَبِ قَطْعِ رِجْلِ الْمَقْتُولِ.

د - حَبْسُ الْجَانِي عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ بِالْجُرْحِ وَنَحْوِهِ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ :

مَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ جِرَاحَةً لاَ يُسْتَطَاعُ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالأْرْشِ، وَعُوقِبَ وَأُطِيلَ حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً ثُمَّ يُخَلَّى عَنْهُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي فَقْءِ الْعَيْنِ.

هـ - الْحَبْسُ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ فِي الضَّرْبِ وَاللَّطْمِ :

- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى إِطَالَةِ حَبْسِ مَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِذَا احْتَاجَ إِلَى زِيَادَةِ تَأْدِيبٍ لِعَظِيمِ مَا اقْتَرَفَ. وَقَالَ آخَرُونَ بِالتَّعْزِيرِ عَامَّةً. وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى الْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ.

و - حَبْسُ الْعَائِنِ :

- يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَمْرُ الْعَائِنِ بِالْكَفِّ عَنْ حَسَدِهِ وَإِيذَاءِ النَّاسِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحَبْسِهِ فِي بَيْتِهِ وَالإْنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا دَفْعًا لِضَرَرِهِ عَنِ النَّاسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْبَسُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَكُفَّ عَنْ حَسَدِهِ وَتَصْفُوَ نَفْسُهُ بِالتَّوْبَةِ.

ز - حَبْسُ الْمُتَسَتِّرِ عَلَى الْقَاتِلِ وَنَحْوِهِ :

- ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مَنْ آوَى قَاتِلاً وَنَحْوَهُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، وَمَنَعَهُ مِمَّنْ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْوَاجِبَ بِلاَ عُدْوَانٍ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الْجُرْمِ، وَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ حَتَّى يُمَكِّنَ مِنْهُ أَوْ يَدُلَّ عَلَيْهِ؛ لِتَرْكِهِ وَاجِبَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.

ح - الْحَبْسُ لِحَالاَتٍ تَتَّصِلُ بِالْقَسَامَةِ :

- مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْحَبْسِ فِي الْقَسَامَةِ: أَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ يُحْبَسُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْحَلِفِ حَتَّى يَحْلِفَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَدَّدَ مُدَّةَ الْحَبْسِ فِي ذَلِكَ بِسَنَةٍ، فَإِنْ حَلَفَ وَإِلاَّ أُطْلِقَ وَكَانَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِهِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: لاَ يُحْبَسُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ لِنُكُولِهِ، وَلَكِنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ.

ط - حَبْسُ مَنْ يُمَارِسُ الطِّبَّ مِنْ غَيْرِ الْمُخْتَصِّينَ :

- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَأَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُحْجَرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَذَلِكَ بِمَنْعِهِ مِنْ عَمَلِهِ حِسًّا مَخَافَةَ إِفْسَادِ أَبْدَانِ النَّاسِ.

حَالاَتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الدِّينِ وَشَعَائِرِهِ :

أ - الْحَبْسُ لِلرِّدَّةِ :

- إِذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ الْمُسْلِمِ حُبِسَ حَتَّى تُكْشَفَ شُبْهَتُهُ وَيُسْتَتَابَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْحَبْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: أَنَّ حَبْسَ الْمُرْتَدِّ لاِسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ وَاجِبٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ قَتْلِ رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمٍ فَقَالَ لِقَاتِلِيهِ: أَفَلاَ حَبَسْتُمُوهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَقَدَّمْتُمْ لَهُ خُبْزًا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قَتَلْتُمُوهُ.. اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي. فَلَوْ كَانَ حَبْسُهُ غَيْرَ وَاجِبٍ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَلَمَا تَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَقَدْ سَكَتَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا. ثُمَّ إِنَّ اسْتِصْلاَحَ الْمُرْتَدِّ مُمْكِنٌ بِحَبْسِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ فَلاَ يَجُوزُ إِتْلاَفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ هَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ حَبْسَ الْمُرْتَدِّ لاِسْتِتَابَتِهِ قَبْلَ قَتْلِهِ مُسْتَحَبٌّ لاَ وَاجِبٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَاوُسٍ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِحَدِيثِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلأِنَّهُ يَعْرِفُ أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ، وَقَدْ جَاءَتْ رِدَّتُهُ عَنْ تَصْمِيمٍ وَقَصْدٍ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ يَجِبُ حَبْسُهُ لاِسْتِتَابَتِهِ بَلْ يُسْتَحَبُّ طَمَعًا فِي رُجُوعِهِ الْمَوْهُومِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا أَنَّ أَبَا مُوسَى الأْشْعَرِيَّ بَعَثَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبِرُهُ بِفَتْحِ تُسْتَرَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ قَوْمٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: مَا أَخْبَارُهُمْ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَنِ الإْسْلاَمِ وَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ مَا سَبِيلُهُمْ إِلاَّ الْقَتْلُ. فَقَالَ عُمَرُ: لأَنْ آخُذَهُمْ سِلْمًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ. فَقَالَ أَنَسٌ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِمْ؟ قَالَ عُمَرُ: أَعْرِضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الإْسْلاَمِ فَإِنْ فَعَلُوا وَإِلاَّ اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ. وَيُرْوَى فِي هَذَا أَيْضًا أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْيَمَنَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلاً مُوثَقًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمٍ، ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْجُلُوسِ فَقَالَ مُعَاذٌ: لاَ أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ هَذَا - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ.

وَفِي الْمُرْتَدِّ الَّذِي يُحْبَسُ، وَمُدَّةِ حَبْسِهِ وَمَسَائِلَ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْمُرْتَدِّ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ).

ب - الْحَبْسُ لِلزَّنْدَقَةِ :

- يُطْلَقُ لَفْظُ الزِّنْدِيقِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ وَأَظْهَرَ الإْيمَانَ حَتَّى بَدَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى خَبِيئَةِ نَفْسِهِ. وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلاَنِ فِي حُكْمِ الزِّنْدِيقِ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: إِذَا عُثِرَ عَلَى الزِّنْدِيقِ يُقْتَلُ وَلاَ يُسْتَتَابُ، وَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى التَّوْبَةِ إِلاَّ إِذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلُ اللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ.

وَعِلَّةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مِنْهُ عَلاَمَةٌ تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ؛ لأِنَّهُ كَانَ مُظْهِرًا لِلإْسْلاَمِ مُسِرًّا لِلْكُفْرِ، فَإِذَا أَظْهَرَ الإْسْلاَمَ لَمْ يَزِدْ جَدِيدًا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: الزِّنْدِيقُ يُحْبَسُ لِلاِسْتِتَابَةِ كَالْمُرْتَدِّ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأْخْرَى عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَابْنِ لُبَابَةَ. اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الْمُنَافِقِينَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِهِمْ، فَهُوَ الأْسْوَةُ فِي إِبْقَائِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ وَاسْتِتَابَتِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ.

ج - حَبْسُ الْمُسِيءِ إِلَى بَيْتِ النُّبُوَّةِ :

- مَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ يُضْرَبُ وَيُشَهَّرُ وَيُحْبَسُ طَوِيلاً؛ لاِسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم . وَمَنْ شَتَمَ الْعَرَبَ أَوْ لَعَنَهُمْ أَوْ بَنِي هَاشِمٍ سُجِنَ وَضُرِبَ. وَمَنِ انْتَسَبَ كَذِبًا إِلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم  ضُرِبَ وَسُجِنَ وَشُهِّرَ بِهِ لاِسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّهِ عليه الصلاة والسلام، وَلاَ يُخَلَّى عَنْهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ. وَمَنْ شَتَمَ عَائِشَةَ رضي الله عنها  بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ يُسْجَنُ لِلاِسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ لِرِدَّتِهِ وَكُفْرِهِ. وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِهَا فَعَلَيْهِ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ وَالسَّجْنُ الطَّوِيلُ. وَمَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَوِ انْتَقَصَهُمْ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ يُحْبَسُ وَيُشَدَّدُ عَلَيْهِ فِي السِّجْنِ.

د - الْحَبْسُ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ :

- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ جُحُودًا وَاسْتِخْفَافًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، يُحْبَسُ لِلاِسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ يُقْتَلْ. وَقَدْ ذَكَرُوا: أَنَّ تَرْكَ الصَّلاَةِ يَحْصُلُ بِتَرْكِ صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ يَخْرُجُ وَقْتُهَا دُونَ أَدَائِهَا مَعَ الإْصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ.

وَمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ كَسَلاً وَتَهَاوُنًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا يُدْعَى إِلَيْهَا، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهَا فَفِي عُقُوبَتِهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلاَةِ كَسَلاً ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لِلاِسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ حَدًّا لاَ كُفْرًا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَوَكِيعٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلاَةِ كَسَلاً ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لِلاِسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ كُفْرًا وَرِدَّةً، حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ مَنْ جَحَدَهَا وَأَنْكَرَهَا لِعُمُومِ حَدِيثِ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ» وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالأْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلاَةِ كَسَلاً وَلاَ يُقْتَلُ بَلْ يُضْرَبُ فِي حَبْسِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالْمَارِقِ مِنَ الدِّينِ التَّارِكِ الْجَمَاعَةَ» وَتَارِكُ الصَّلاَةِ كَسَلاً لَيْسَ أَحَدَ الثَّلاَثَةِ، فَلاَ يَحِلُّ دَمُهُ بَلْ يُحْبَسُ لاِمْتِنَاعِهِ مِنْهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا.

هـ - الْحَبْسُ لاِنْتِهَاكِ حُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ:

مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ جُحُودًا وَاسْتِهْزَاءً حُبِسَ لِلاِسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِلَ؛ لأِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ.

وَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ كَسَلاً وَتَهَاوُنًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ وَصْفُ الإْسْلاَمِ وَلاَ يُقْتَلُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ بَلْ يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ، وَيُمْنَعُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ نَهَارًا لِيَحْصُلَ لَهُ صُورَةُ الصِّيَامِ، وَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَنْوِيَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ حِينَئِذٍ حَقِيقَتُهُ. وَنَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُحْبَسُ مُدَّةَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ يُضْرَبُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ثُمَّ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ عِشْرِينَ جَلْدَةً تَعْزِيرًا لِحَقِّ رَمَضَانَ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

و - الْحَبْسُ بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِالْبِدْعَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا :

حَبْسُ الْبِدْعِيِّ الدَّاعِيَةِ :

- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْبِدْعِيَّ الدَّاعِيَةَ يُمْنَعُ مِنْ نَشْرِ بِدْعَتِهِ، وَيُضْرَبُ وَيُحْبَسُ بِالتَّدَرُّجِ، فَإِذَا لَمْ يَكُفَّ عَنْ ذَلِكَ جَازَ قَتْلُهُ سِيَاسَةً وَزَجْرًا؛ لأِنَّ  فَسَادَهُ أَعْظَمُ وَأَعَمُّ، إِذْ يُؤَثِّرُ فِي الدِّينِ وَيُلَبِّسُ أَمْرَهُ عَلَى الْعَامَّةِ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلَوْ مُؤَبَّدًا حَتَّى يَكُفَّ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى بِدْعَتِهِ وَلاَ يُقْتَلُ، وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.

حَبْسُ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الدَّاعِيَةِ :

- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الدَّاعِيَةِ وَضَرْبِهِ إِذَا لَمْ يَنْفَعْ مَعَهُ الْبَيَانُ وَالنُّصْحُ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُعَزَّرُ.

وَاتَّجَهَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ قَتْلِهِ إِذَا لَمْ يَتُبْ. وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ رضي الله عنه صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ وَضَرَبَهُ مِرَارًا لِتَتَبُّعِهِ مُشْكِلَ الْقُرْآنِ وَمُتَشَابِهَهُ بِقَصْدِ إِرْسَاءِ مَبْدَأِ الاِبْتِدَاعِ وَالْكَيْدِ فِي الدِّينِ مُخَالِفًا بِذَلِكَ قَوَاعِدَ التَّسْلِيمِ لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الصَّحَابَةُ.

ز - الْحَبْسُ لِلتَّسَاهُلِ فِي الْفَتْوَى وَنَحْوِهِ :

حَبْسُ الْمُفْتِي الْمَاجِنِ :

- نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ وَتَأْدِيبِ الْمُتَجَرِّئِ عَلَى الْفَتْوَى إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلاً لَهَا. وَنَقَلَ مَالِكٌ عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: بَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَاهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنَ السُّرَّاقِ. وَسُئِلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ رَجُلٍ يَقُولُ: إِنَّ الاِسْتِمْرَارَ فِي شُرْبِ الدُّخَانِ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَى فَمَاذَا يَلْزَمُهُ؟ فَأَجَابَ: يَلْزَمُهُ التَّأْدِيبُ اللاَّئِقُ بِحَالِهِ كَالضَّرْبِ أَوِ السِّجْنِ لِتَجَرُّئِهِ عَلَى الأْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَغْيِيرِهِ لَهَا؛ لأِنَّ  حُرْمَةَ الزِّنَى قَطْعِيَّةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ، وَفِي حُرْمَةِ الدُّخَانِ خِلاَفٌ.

ح - الْحَبْسُ لِلاِمْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ :

- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ يُحْبَسُ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُحْبَسُ بَلْ يُؤَدَّبُ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الظِّهَارِ: إِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا إِذَا خَافَتْ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الْكَفَّارَةِ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِ رَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْحَاكِمِ لِيَمْنَعَهُ مِنْهَا، وَيُؤَدِّبُهُ إِنْ رَأَى ذَلِكَ. فَإِنْ أَصَرَّ الْمُظَاهِرُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي بِهَا بِحَبْسِهِ وَضَرْبِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ إِلَى أَنْ يُكَفِّرَ أَوْ يُطَلِّقَ؛ لأِنَّ  حَقَّ الْمُعَاشَرَةِ يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ لاَ إِلَى خَلَفٍ، فَاسْتَحَقَّ الْحَبْسَ لاِمْتِنَاعِهِ.

حَالاَتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الأْخْلاَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ :

أ - حَبْسُ الْبِكْرِ الزَّانِي بَعْدَ جَلْدِهِ :

 اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْبِكْرِ الزَّانِي مِائَةُ جَلْدَةٍ لِلآْيَةِ: ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ). وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْيِهِ الْوَارِدِ فِي «قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم  لِرَجُلٍ زَنَى ابْنُهُ: وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ».

وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: أَنَّ التَّغْرِيبَ جُزْءٌ مِنْ حَدِّ الزِّنَى، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَيُبْعَدَانِ عَنْ بَلَدِ الْجَرِيمَةِ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ إِذَا خِيفَ إِفْسَادُ الْمُغَرَّبِ غَيْرَهُ قُيِّدَ وَحُبِسَ فِي مَنْفَاهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ التَّغْرِيبَ جُزْءٌ مِنْ حَدِّ الزِّنَى أَيْضًا، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ فَلاَ تُغَرَّبُ خَشْيَةً عَلَيْهَا. وَيَنْبَغِي حَبْسُ الرَّجُلِ وُجُوبًا فِي مَنْفَاهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالأْوْزَاعِيِّ لِلْمَنْقُولِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِذَا تَعَذَّرَ تَغْرِيبُ الْمَرْأَةِ سُجِنَتْ بِمَوْضِعِهَا عَامًا، لَكِنِ الْمُعْتَمَدُ الأْوَّلُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَدِّ الزِّنَى، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ السِّيَاسَةِ وَالتَّعْزِيرِ، وَذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى الْحَاكِمِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه بَعْدَ أَنْ نَفَى رَجُلاً وَلَحِقَ بِالرُّومِ: لاَ أَنْفِي بَعْدَهَا أَبَدًا. وَبِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه : كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً. وَقَالُوا: إِنَّ الْمُغَرَّبَ يَفْقِدُ حَيَاءَهُ بِابْتِعَادِهِ عَنْ بَلَدِهِ وَمَعَارِفِهِ فَيَقَعُ فِي الْمَحْظُورِ. لَكِنْ إِذَا رَأَى الْحَاكِمُ حَبْسَهُ فِي بَلَدِهِ مَخَافَةَ فَسَادِهِ فَعَلَ.

ب - حَبْسُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ :

- لِلْفُقَهَاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي عُقُوبَةِ اللِّوَاطِ مِنْهَا قَوْلٌ بِحَبْسِهِمَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى، وَلِوَاطٌ).

ج - حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالْقَذْفِ :

- مَنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى قَذْفِهِ حُبِسَ قَاذِفُهُ لاِسْتِكْمَالِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ. وَمَنِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ قَذْفَهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي الْمِصْرِ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيُحْضِرَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ حَتَّى قِيَامِ الْحَاكِمِ مِنْ مَجْلِسِهِ وَإِلاَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ بِغَيْرِ كَفِيلٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِخِلاَفِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ بِالْقَذْفِ: لاَ يُجْلَدُ بَلْ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْقَذْفَ بَلِ الشَّتْمَ وَالسَّبَّ وَالْفُحْشَ فِي الْكَلاَمِ. وَقِيلَ: يُسْجَنُ سَنَةً لِيَحْلِفَ، وَقِيلَ: يُحَدُّ.

د - حَبْسُ الْمُدْمِنِ عَلَى السُّكْرِ تَعْزِيرًا بَعْدَ حَدِّهِ :

- رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَلْزَمَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ السِّجْنَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَلَدَ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ، وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ، فَأُوثِقَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ.

هـ - الْحَبْسُ لِلدِّعَارَةِ وَالْفَسَادِ الْخُلُقِيِّ :

- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَتَبُّعِ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِالسَّجْنِ حَتَّى يَتُوبُوا. فَمَنْ قَبَّلَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ عَانَقَهَا أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ بَاشَرَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ يُحْبَسُ إِلَى ظُهُورِ تَوْبَتِهِ. وَمَنْ خَدَعَ الْبَنَاتِ وَأَخْرَجَهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ  وَأَفْسَدَهُنَّ عَلَى آبَائِهِنَّ حُبِسَ.

وَتُحْبَسُ الْمَرْأَةُ الدَّاعِرَةُ وَالْقَوَّادَةُ وَتُضْرَبُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهَا.

و - الْحَبْسُ لِلتَّخَنُّثِ :

- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَبْسِ الْمُخَنَّثِ تَعْزِيرًا لَهُ حَتَّى يَتُوبَ، وَنُقِلَ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله أَنَّهُ يُحْبَسُ إِذَا خِيفَ بِهِ فَسَادُ النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِذَا نُفِيَ الْمُخَنَّثُ وَخِيفَ فَسَادُهُ يُحْبَسُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ.

ز - الْحَبْسُ لِلتَّرَجُّلِ :

- ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَشَبِّهَةَ بِالرِّجَالِ تُحْبَسُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لأِنَّ جِنْسَ هَذَا الْحَبْسِ مَشْرُوعٌ فِي جِنْسِ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ الزِّنَى. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ حَبْسُهَا عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَتُحْبَسُ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي دَارٍ وَتُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ.

ح - الْحَبْسُ لِكَشْفِ الْعَوْرَاتِ فِي الْحَمَّامَاتِ :

- نَصَّ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ الْقَاضِي الأْنْدَلُسِيُّ عَلَى سَجْنِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ وَغَلْقِ حَمَّامِهِ إِذَا سَهَّلَ لِلنَّاسِ كَشْفَ عَوْرَاتِهِمْ وَرَضِيَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الدُّخُولِ مَكْشُوفِي الْعَوْرَاتِ.

ط - الْحَبْسُ لاِتِّخَاذِ الْغِنَاءِ صَنْعَةً :

- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَبْسِ الْمُغَنِّي حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً لِتَسَبُّبِهِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ غَالِبًا.

حَالاَتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ :

أ - حَبْسُ الْعَائِدِ إِلَى السَّرِقَةِ بَعْدَ قَطْعِهِ :

- إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّرِقَةِ يُحْبَسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِمَنْعِ ضَرَرِهِ عَنِ النَّاسِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي تَحْدِيدِ عَدَدِ الْمَرَّاتِ الَّتِي يُقْطَعُ أَوْ يُحْبَسُ بَعْدَهَا. (ر: سَرِقَةٌ).

ب - حَبْسُ السَّارِقِ تَعْزِيرًا لِتَخَلُّفِ مُوجِبِ الْقَطْعِ :

- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حَالاَتٍ يُحْبَسُ فِيهَا السَّارِقُ لِتَخَلُّفِ مُوجِبَاتِ الْقَطْعِ وَمِنْ ذَلِكَ: حَبْسُ مَنِ اعْتَادَ سَرِقَةَ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَحَبْسُ مَنِ اعْتَادَ سَرِقَةَ بَزَابِيزِ الْمِيَضِ (صَنَابِيرِ الْمَاءِ) وَنِعَالِ الْمُصَلِّينَ. وَنَصُّوا عَلَى حَبْسِ الطَّرَّارِ وَالْقَفَّافِ وَالْمُخْتَلِسِ، وَمَنْ يَدْخُلُ الدَّارَ فَيَجْمَعُ الْمَتَاعَ فَيُمْسَكُ وَلَمَّا يُخْرِجْهُ. وَكُلُّ سَارِقٍ انْتَفَى عَنْهُ الْقَطْعُ لِشُبْهَةٍ وَنَحْوِهَا يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ.

ج - حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ :

- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حَبْسِ الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ لِوُجُودِ قَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي ذَلِكَ كَتَجَوُّلِهِ فِي مَوْضِعِ السَّرِقَةِ وَمُعَالَجَتِهِ أُمُورًا تُعْتَبَرُ مُقَدِّمَاتٍ لِذَلِكَ.

د - الْحَبْسُ لِحَالاَتٍ تَتَّصِلُ بِالْغَصْبِ :

- يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنْ  أَبَى حُبِسَ حَتَّى يَرُدَّهُ، فَإِنِ ادَّعَى هَلاَكَهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةً يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاقِيًا لأَظْهَرَهُ، ثُمَّ يَقْضِي عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ. وَقِيلَ: بَلْ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَلاَ يُحْبَسُ. وَمَنْ بَلَعَ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ لُؤْلُؤَةً حُبِسَ حَتَّى يَرْمِيَهُ لِصَاحِبِهِ.

هـ - الْحَبْسُ لِلاِخْتِلاَسِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ :

- ذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى حَبْسِ مَنِ اخْتَلَسَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَعَ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ.

و - حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ :

78 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى حَبْسِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ اعْتِقَادِهِ وُجُوبَهَا.

ز - الْحَبْسُ لِلدَّيْنِ :

مَشْرُوعِيَّةُ حَبْسِ الْمَدِينِ :

- الْمَدِينُ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا مُعْسِرٌ، وَإِمَّا مُوسِرٌ:

فَالْمَدِينُ الَّذِي ثَبَتَ إِعْسَارُهُ يُمْهَلُ حَتَّى يُوسِرَ لِلآْيَةِ: ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).

وَالْمَدِينُ الْمُوسِرُ يُعَاقَبُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ الْحَالِّ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».

وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلاَنِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: يُقْصَدُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الْحَدِيثِ الْحَبْسُ، وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَسَوَّارٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.

وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَغَيْرُهُمَا؛ لأِنَّ  الْحُقُوقَ لاَ تُخَلَّصُ فِي هَذِهِ الأْزْمِنَةِ غَالِبًا إِلاَّ بِهِ وَبِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: الْعُقُوبَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمُلاَزَمَةُ، حَيْثُ يَذْهَبُ الدَّائِنُ مَعَ الْمَدِينِ أَنَّى ذَهَبَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَذَكَرُوا أَنَّ الْمَدِينَ لاَ يُحْبَسُ، لأِنَّ  النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  لَمْ يَحْبِسْ بِالدَّيْنِ، وَلَمْ يَحْبِسْ بَعْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، بَلْ كَانُوا يَبِيعُونَ عَلَى الْمَدِينِ مَالَهُ.

مَا يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِين:

 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الدَّيْنَ إِلَى أَقْسَامٍ: مَا كَانَ بِالْتِزَامٍ بِعَقْدٍ كَالْكَفَالَةِ وَالْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ، وَمَا كَانَ بِغَيْرِ الْتِزَامٍ إِلاَّ أَنَّهُ لاَزِمٌ، كَنَفَقَةِ الأْقَارِبِ وَبَدَلِ الْمُتْلَفِ، وَمَا كَانَ عَنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ. وَلَهُمْ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِيمَا يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِينُ وَمَا لاَ يُحْبَسُ بِهِ.

وَذَكَرُوا أَنَّ أَقَلَّ مِقْدَارٍ يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِينُ الْمُمَاطِلُ فِي دَيْنِ آدَمِيٍّ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. أَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَلاَ حَبْسَ فِيهَا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

الْمَدِينُ الَّذِي يُحْبَس:

- تُحْبَسُ الْمَرْأَةُ بِالدَّيْنِ إِنْ طَلَبَ غَرِيمُهَا ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَوْجَةً أَمْ أَجْنَبِيَّةً. وَاتَّجَهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُخَدَّرَةَ (الَّتِي تَلْزَمُ بَيْتَهَا وَلاَ تَبْرُزُ لِلرِّجَالِ) لاَ تُحْبَسُ فِي الدَّيْنِ، بَلْ يُسْتَوْثَقُ عَلَيْهَا وَيُوَكَّلُ بِهَا.

وَيُحْبَسُ الزَّوْجُ بِدَيْنِ زَوْجَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا.

وَيُحْبَسُ الْقَرِيبُ بِدَيْنِ أَقْرِبَائِهِ، حَتَّى الْوَلَدُ يُحْبَسُ بِدَيْنِ وَالِدَيْهِ لاَ الْعَكْسُ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لأِنَّ  مُوجِبَ الْحَبْسِ لاَ يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالأْنُوثَةِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّبِيَّ لاَ يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ بَلْ يُؤَدَّبُ. وَفِي الْقَوْلِ الآْخَرِ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ إِذَا أَذِنَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَظَلَمَ.

وَيُحْبَسُ الْمُسْلِمُ بِدَيْنِ الْكَافِرِ وَلَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا؛ لأِنَّ  مَعْنَى الظُّلْمِ مُتَحَقِّقٌ فِي مُمَاطَلَتِهِ.

مُدَّةُ حَبْسِ الْمَدِينِ :

اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ حَبْسِ الْمَدِينِ، وَالصَّحِيحُ تَفْوِيضُ ذَلِكَ لِلْقَاضِي؛ لأِنَّ  النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي احْتِمَالِ الْحَبْسِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ شَهْرٌ.

وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ شَهْرَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَى سِتَّةٍ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُؤَبَّدُ حَبْسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ إِذَا عَلِمَ يُسْرَهُ. وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ح - الْحَبْسُ لِلتَّفْلِيسِ :

- يَشْتَرِكُ الْمُفْلِسُ مَعَ الْمَدِينِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأْحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَيَفْتَرِقُ عَنْهُ - بِحَسَبِ مَا ذَكَرُوهُ - فِي أَنَّ الْحَاكِمَ يَتَدَخَّلُ لِشَهْرِ الْمُفْلِسِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِعْلاَنِ عَجْزِهِ عَنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ وَجَعْلِ مَالِهِ الْمُتَبَقِّي لِغُرَمَائِهِ.

وَلاَ يُحْبَسُ الْمُعْسِرُ وَلَوْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ ذَلِكَ لقوله تعالي  : ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).

وَإِذَا كَانَ الْمُفْلِسُ مَجْهُولَ الْحَالِ لاَ يُعْرَفُ غِنَاهُ أَوْ فَقْرُهُ حُبِسَ بِطَلَبٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ كَفَالَتِهِ بِوَجْهٍ أَوْ بِمَالٍ حَتَّى تَزُولَ الْجَهَالَةُ. وَقَالُوا: إِذَا أَخْبَرَ بِإِعْسَارِهِ وَاحِدٌ مِنَ الثِّقَاتِ أُخْرِجَ مِنْ حَبْسِهِ.

وَإِذَا حُبِسَ الْمُفْلِسُ الْمَجْهُولُ الْحَالِ وَظَهَرَ أَنَّ لَهُ مَالاً، أَوْ عُرِفَ مَكَانُهُ أُمِرَ بِالْوَفَاءِ. فَإِنْ أَبَى أُبْقِيَ فِي الْحَبْسِ - بِطَلَبِ غَرِيمِهِ - حَتَّى يَبِيعَ مَالَهُ وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ. فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى عَدَمِ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَقَضَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقِيلَ: يُخَيَّرُ الْحَاكِمُ بَيْنَ حَبْسِهِ لإِجْبَارِهِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ بَيْعِهِ عَلَيْهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يُجِيبُ الْغُرَمَاءَ إِلَى بَيْعِ مَالِ الْمُفْلِسِ وَعُرُوضِهِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ تَخْسَرَ عَلَيْهِ وَيَتَضَرَّرَ. بَلْ يَقْضِي دَيْنَهُ بِجِنْسِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيُؤَبِّدُ حَبْسَهُ لِحَدِيثِ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».

وَإِذَا قَامَتِ الْقَرَائِنُ أَوِ الْبَيِّنَةُ عَلَى وُجُودِ مَالٍ لِلْمَدِينِ الْمُفْلِسِ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ حُبِسَ حَتَّى يُظْهِرَهُ إِنْ طَلَبَ غَرِيمُهُ ذَلِكَ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ الآْنِفِ ذِكْرُهُ.

حَبْسُ الْمُفْلِسِ بِطَلَبِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ :

إِنْ طَلَبَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ حَبْسَ الْمُفْلِسِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ وَأَبَى بَعْضُهُمْ حُبِسَ وَلَوْ لِوَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسُوا مُحَاصَّةَ الْحَابِسِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ فَلَهُمْ ذَلِكَ. وَلَهُمْ أَيْضًا إِبْقَاءُ حِصَصِهِمْ فِي يَدِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ. وَلَيْسَ لِلْغَرِيمِ الْحَابِسِ إِلاَّ حِصَّتُهُ.

ج - حَبْسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ حَتَّى يُعَدَّلَ الشُّهُود:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي حَبْسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَتَثَبَّتَ مِنَ الدَّعْوَى بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فِيمَا كَانَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ غَيْرَ الْحَبْسِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، حَيْثُ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالْجَلْدُ، فَيَحْبِسُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبِخَاصَّةٍ فِي حَقِّ الآْدَمِيِّ حَتَّى يَكْشِفَ الْقَاضِي عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ؛ لأِنَّ  ذَلِكَ مِنْ وَظِيفَتِهِ بَعْدَ أَنْ أَتَى الْمُدَّعِي بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَةِ.

فَمَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ بِسَرِقَةٍ يُحْبَسُ حَتَّى تَظْهَرَ عَدَالَةُ الشُّهُودِ فِي ذَلِكَ. وَمَنِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ قَذَفَهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي الْمِصْرِ حُبِسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِيُحْضِرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ حَتَّى يَقُومَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَإِلاَّ خَلَّى سَبِيلَهُ بِدُونِ كَفِيلٍ. فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ غَائِبَةً أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ فَلاَ يُحْبَسُ، فَإِذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا حَبَسَهُ.

مَشْرُوعِيَّةُ اتِّخَاذِ مَوْضِعٍ لِلْحَبْسِ :

لِلْفُقَهَاءِ قَوْلاَنِ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْحَاكِمِ مَوْضِعًا لِلْحَبْسِ فِيهِ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إِفْرَادُ مَوْضِعٍ لِيَحْبِسَ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ اعْتَبَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَاسْتَدَلُّوا لِهَذَا بِفِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ اشْتَرَى لَهُ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ عَامِلُهُ عَلَى مَكَّةَ دَارًا لِلسَّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ. كَمَا أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَوَّلُ مَنْ أَحْدَث سِجْنًا فِي الإْسْلاَمِ وَجَعَلَهُ فِي الْكُوفَةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لاَ يَتَّخِذُ الْحَاكِمُ مَوْضِعًا يُخَصِّصُهُ لِلْحَبْسِ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم  وَلاَ لِخَلِيفَتِهِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه سِجْنٌ. وَلَكِنْ إِذَا لَزِمَ الأْمْرُ يُعَوِّقُ بِمَكَانٍ مِنَ الأْمْكِنَةِ أَوْ يَأْمُرُ الْغَرِيمَ بِمُلاَزَمَةِ غَرِيمِهِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم . وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَآخَرِينَ غَيْرِهِمْ.

اتِّخَاذُ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ :

لِلْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي اتِّخَاذِ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: يَجُوزُ اتِّخَاذُ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِخَبَرِ شِرَاءِ عُمَرَ رضي الله عنه السِّجْنَ بِمَكَّةَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لاَ يَحِلُّ أَنْ يُسْجَنَ أَحَدٌ فِي حَرَمِ مَكَّةَ؛ لأِنَّ  تَطْهِيرَ الْحَرَمِ مِنَ الْعُصَاةِ وَاجِبٌ لِلآْيَة : ِ ) أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ اتِّخَاذِ السِّجْنِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُكْرَهُ اتِّخَاذُ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ طَاوُسٍ وَكَانَ يَقُولُ: لاَ يَنْبَغِي لِبَيْتِ عَذَابٍ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ رَحْمَةٍ. وَيَقْصِدُ حَرَمَ مَكَّةَ.

تَصْنِيفُ السُّجُونِ بِحَسَبِ الْمَحْبُوسِينَ :

أ - إِفْرَادُ النِّسَاءِ بِسِجْنٍ مُنْعَزِلٍ عَنْ سِجْنِ الرِّجَالِ :

نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلنِّسَاءِ مَحْبِسٌ عَلَى حِدَةٍ إِجْمَاعًا، وَلاَ يَكُونُ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لِوُجُوبِ سَتْرِهِنَّ وَتَحَرُّزًا مِنَ الْفِتْنَةِ. وَالأْوْلَى أَنْ تَقُومَ النِّسَاءُ عَلَى سِجْنِ مَثِيلاَتِهِنَّ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ جَازَ اسْتِعْمَالُ الرَّجُلِ الْمَعْرُوفِ بِالصَّلاَحِ عَلَى مَحْبِسِهِنَّ لِيَحْفَظَهُنَّ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سِجْنٌ مُعَدٌّ لِلنِّسَاءِ حُبِسَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ أَمِينَةٍ خَالِيَةٍ عَنِ الرِّجَالِ أَوْ ذَاتِ رَجُلٍ أَمِينٍ كَزَوْجٍ أَوْ أَبٍ أَوِ ابْنٍ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ وَالصَّلاَحِ.

ب - إِفْرَادُ الْخُنْثَى بِحَبْسٍ خَاصٍّ :

إِذَا حُبِسَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَلاَ يَكُونُ مَعَ الرِّجَالِ وَلاَ النِّسَاءِ، بَلْ يُحْبَسُ وَحْدَهُ أَوْ عِنْدَ مَحْرَمٍ، وَلاَ يَنْبَغِي حَبْسُهُ مَعَ الرِّجَالِ وَلاَ النِّسَاءِ.

ج - حَبْسُ غَيْرِ الْبَالِغِينَ (الأْحْدَاثِ) :

حَبْسُ غَيْرِ الْبَالِغِينَ فِي قَضَايَا الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ:

مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ إِذَا مَارَسَ التِّجَارَةَ أَوِ اسْتَهْلَكَ مَالَ غَيْرِهِ فَلاَ يُحْبَسُ بِدَيْنٍ فِي مُعَامَلَتِهِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ. وَلاَ يَمْنَعُ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِهِ بِغَيْرِ الْحَبْسِ. وَصَحَّحَ السَّرَخْسِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَبْسَ الْوَلِيِّ لِتَقْصِيرِهِ فِي حِفْظِ وَلَدِهِ، وَلأِنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْمَالِ عَنْهُ.

وَالْقَوْلُ الآْخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ وَنَحْوِهِ تَأْدِيبًا لاَ عُقُوبَةً؛ لأِنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَتَحَقَّقُ ظُلْمُهُ، وَلِئَلاَّ يَعُودَ إِلَى مِثْلِ الْفِعْلِ وَيَتَعَدَّى عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ. وَعَلَّقَ بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ الْحَبْسَ عَلَى وُجُودِ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ لِلْحَدَثِ، لِيَضْجَرَ فَيُسَارِعَ إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ.

حَبْسُ غَيْرِ الْبَالِغِينَ فِي الْجَرَائِمِ :

- نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لاَ يُحْبَسُ بِارْتِكَابِهِ الْجَرَائِمَ وَنَحْوَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ بِجَوَازِ حَبْسِ الْفَاجِرِ غَيْرِ الْبَالِغِ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ لاَ الْعُقُوبَةِ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ الْحَبْسُ أَصْلَحَ لَهُ مِنْ إِرْسَالِهِ، وَكَانَ فِيهِ تَأْدِيبُهُ وَاسْتِصْلاَحُهُ، وَمِنَ الْجَرَائِمِ الَّتِي نَصُّوا عَلَى الْحَبْسِ فِيهَا الرِّدَّةُ، فَيُحْبَسُ الصَّبِيُّ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يَتُوبَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَكَذَا الْبَغْيُ، فَيُحْبَسُ صِبْيَانُ الْبُغَاةِ الْمُقَاتِلُونَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ.

مَكَانُ حَبْسِ غَيْرِ الْبَالِغِينَ :

- تَدُلُّ أَكْثَرُ النُّصُوصِ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَبْسُ الْحَدَثِ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ وَلِيِّهِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُهُ فِي السِّجْنِ إِلاَّ إِذَا خَشِيَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُهُ فَيَتَوَجَّبُ حَبْسُهُ عِنْدَ أَبِيهِ لاَ فِي السِّجْنِ.

د - تَمْيِيزُ حَبْسِ الْمَوْقُوفِينَ عَنْ حَبْسِ الْمَحْكُومِينَ :

- حَبْسُ الْمَوْقُوفِينَ هُوَ حَبْسُ أَهْلِ الرِّيبَةِ وَالتُّهَمَةِ، وَهُوَ مِنْ سُلْطَةِ الْوَالِي؛ لأِنَّهُ مِنِ اخْتِصَاصِهِ كَمَا فِي قَوْلِ الزُّبَيْرِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَالْقَرَافِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَحَبْسُ الْمَحْكُومِينَ هُوَ حَبْسُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَقَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَهُوَ مِنْ سُلْطَةِ الْقَاضِي. وَالْمَعْمُولُ بِهِ فِي الْقَدِيمِ تَمَيُّزُ حَبْسِ الْوَالِي الَّذِي يَضُمُّ أَهْلَ الرِّيبَةِ وَالْفَسَادِ (الْمَوْقُوفِينَ) عَنْ حَبْسِ الْقَاضِي الَّذِي يَضُمُّ الْمَحْكُومِينَ. وَيَخْتَلِفُ سِجْنُ الْوَالِي عَنْ سِجْنِ الْقَاضِي، فَلِلْمَحْبُوسِ فِي سِجْنِ الْوَالِي تَوْكِيلُ غَيْرِهِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَنْهُ أَمَامَ الْقَاضِي إِذَا مُنِعَ مِنَ الْخُرُوجِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ فِي سِجْنِ الْقَاضِي لإِمْكَانِ خُرُوجِهِ بِإِذْنِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّوْكِيلُ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْبُوسِ.

- تَمْيِيزُ الْحَبْسِ فِي قَضَايَا الْمُعَامَلاَتِ عَنِ الْحَبْسِ فِي الْجَرَائِمِ :

مَيَّزَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَبْسِ بَيْنَ الْمَحْبُوسِ فِي الْمُعَامَلاَتِ كَالدَّيْنِ، وَبَيْنَ الْمَحْبُوسِ فِي الْجَرَائِمِ، كَالسَّرِقَةِ، وَالتَّلَصُّصِ، وَالاِعْتِدَاءِ عَلَى الأْبْدَانِ، وَكَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى أَنْ لاَ يَجْتَمِعَ هَؤُلاَءِ بِأُولَئِكَ فِي حَبْسِ وَاحِدٍ خَوْفًا مِنَ الْعَدْوَى، فَضْلاً عَنْ أَنَّ لأِصْحَابِ كُلِّ حَبْسٍ مُعَامَلَةً تُنَاسِبُ جَرِيمَةَ كُلٍّ مِنْهُمْ.

و - التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْبُوسِينَ بِحَسَبِ تَجَانُسِ جَرَائِمِهِمْ :

صَنَّفَ الْفُقَهَاءُ نُزَلاَءَ سُجُونِ الْجَرَائِمِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: أَهْلِ الْفُجُورِ (الْمَفَاسِدِ الْخُلُقِيَّةِ) وَأَهْلِ التَّلَصُّصِ (السَّرِقَاتِ وَنَحْوِهَا)، وَأَهْلِ الْجِنَايَاتِ (الاِعْتِدَاءِ عَلَى الأْبْدَانِ)، وَجَعَلَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي هَذَا التَّقْسِيمَ عُنْوَانَ فَصْلٍ أَفْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ.

ز - تَصْنِيفُ الْحَبْسِ إِلَى جَمَاعِيٍّ وَفَرْدِيٍّ :

الظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الأَْصْلَ فِي الْحَبْسِ كَوْنُهُ جَمَاعِيًّا، وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجْمَعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ فِي مَوْضِعٍ تَضِيقُ عَنْهُمْ غَيْرَ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ، وَقَدْ يَرَى بَعْضُهُمْ عَوْرَةَ بَعْضٍ وَيُؤْذَوْنَ فِي الْحَرِّ وَالصَّيْفِ.

وَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ عَزْلُ السَّجِينِ وَحَبْسُهُ مُنْفَرِدًا فِي غُرْفَةٍ يُقْفَلُ عَلَيْهِ بَابُهَا إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ.

ح - الْحَبْسُ بِالإْقَامَةِ الْجَبْرِيَّةِ فِي الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ :

يَجُوزُ الْحَبْسُ بِالإْقَامَةِ الْجَبْرِيَّةِ فِي الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ مَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ عُزِّرَ، وَصَحَّ حَبْسُهُ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ بِأَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ. وَلِلإْمَامِ حَبْسُ الْعَائِنِ فِي مَنْزِلِ نَفْسِهِ سِيَاسَةً وَيُمْنَعُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ.

حَبْسُ الْمَرِيضِ :

- بَحَثَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْأَلَةِ حَبْسِ الْمَدِينِ الْمَرِيضِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرَضَ لاَ يُعْتَبَرُ مِنْ مَوَانِعِ الْحَبْسِ. وَالْقَوْلُ الآْخَرُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَدِينَ لاَ يُحْبَسُ، بَلْ يُوَكَّلُ بِهِ وَيُسْتَوْثَقُ عَلَيْهِ. أَمَّا الْجَانِي الْمَرِيضُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِهِ.

إِخْرَاجُ الْمَرِيضِ مِنْ سِجْنِهِ إِذَا خِيفَ عَلَيْهِ :

- إِذَا مَرِضَ الْمَحْبُوسُ فِي سِجْنِهِ وَأَمْكَنَ عِلاَجُهُ فِيهِ فَلاَ يَخْرُجُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. وَلاَ يُمْنَعُ الطَّبِيبُ وَالْخَادِمُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ لِمُعَالَجَتِهِ وَخِدْمَتِهِ؛ لأِنَّ  مَنْعَهُ مِمَّا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ يُفْضِي إِلَى هَلاَكِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.

وَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَبْسِ إِذَا لَمْ تُمْكِنْ مُعَالَجَتُهُ وَرِعَايَتُهُ فِيهِ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: يُخْرَجُ مِنْ حَبْسِهِ لِلْعِلاَجِ وَالْمُدَاوَاةِ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَالْخَصَّافِ وَابْنِ الْهُمَامِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لاَ يُخْرَجُ إِلاَّ بِكَفِيلٍ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُعَالَجُ فِي الْحَبْسِ وَلاَ يُخْرَجُ، وَالْهَلاَكُ فِي الْحَبْسِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.

وَقَدِ اهْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ الْقَدِيمِ بِرِعَايَةِ الْمَرْضَى فِي السُّجُونِ فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ: انْظُرُوا مَنْ فِي السُّجُونِ وَتَعَهَّدُوا الْمَرْضَى.

وَفِي زَمَنِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ خُصِّصَ بَعْضُ الأْطِبَّاءِ لِلدُّخُولِ عَلَى الْمَرْضَى فِي السُّجُونِ كُلَّ يَوْمٍ، وَحَمْلِ الأْدْوِيَةِ وَالأْشْرِبَةِ لَهُمْ وَرِعَايَتِهِمْ وَإِزَاحَةِ عِلَلِهِمْ.

- لِلْفُقَهَاءِ قَوْلاَنِ فِي تَمْكِينِ الْمَحْبُوسِ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: يُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ وَيَنْزَجِرَ إِنْ رَأَى الْحَاكِمُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأْرْبَعَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقَوْلِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لاَ يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ لأِهَمِّيَّتِهَا، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَالَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ السَّرَخْسِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبُوَيْطِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ.

- وَإِذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْجُمُعَةِ فِي السِّجْنِ وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهَا فِيهِ لَزِمَتِ السُّجَنَاءَ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ حَزْمٍ، وَقَالُوا: يُقِيمُهَا لَهُمْ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَيُتَّجَهُ وُجُوبُ نَصْبِهِ عَلَى الْحَاكِمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْجُمُعَةِ عَلَى أَهْلِ السُّجُونِ، وَخَالَفَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ السُّجُونِ جُمُعَةٌ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ فِعْلِ الْمَحْبُوسِينَ لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوُا الظُّهْرَ فُرَادَى.

تَشْغِيلُ الْمَحْبُوسِ :

لِلْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي تَمْكِينِ الْمَحْبُوسِ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْحَبْسِ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: لاَ يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْعَمَلِ فِي حَبْسِهِ وَيُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَبِهِ أَفْتَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْعَمَلِ فِي حَبْسِهِ وَلاَ يُمَكَّنُ مِنْهُ؛ لِئَلاَّ يَهُونَ عَلَيْهِ الْحَبْسُ وَلِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَنْزَجِرَ، وَإِلاَّ صَارَ الْحَبْسُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَانُوتِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُتْرَكُ تَمْكِينُ الْمَحْبُوسِ مِنَ الْعَمَلِ فِي حَبْسِهِ لِتَقْدِيرِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ، وَبِهِ قَالَ الْمُرْتَضَى.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / السابع عشر ، الصفحة /  130

ج - الْعُقُوبَةُ:

الْعُقُوبَةُ مِنْ عَاقَبْتُ اللِّصَّ مُعَاقَبَةً وَعِقَابًا، وَالاِسْمُ الْعُقُوبَةُ، وَهِيَ الأْلَمُ الَّذِي يَلْحَقُ الإْنْسَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَى الْجِنَايَةِ، وَيَكُونُ بِالضَّرْبِ، أَوِ الْقَطْعِ، أَوِ الرَّجْمِ، أَوِ الْقَتْلِ، سُمِّيَ بِهَا لأِنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ مِنْ تَعَقَّبَهُ إِذَا تَبِعَهُ، فَالْعُقُوبَةُ أَعَمُّ مِنَ الْحُدُودِ.

الْجِنَايَةُ:

الْجِنَايَةُ لُغَةً: اسْمٌ لِمَا يُكْتَسَبُ مِنَ الشَّرِّ، وَشَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى مَالٍ أَوْ نَفْسٍ.فَبَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْحَدِّ عَلَى الإْطْلاَقِ

الْمَجَازِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ إِذْ كُلُّ حَدٍّ جِنَايَةٌ وَلَيْسَ كُلُّ جِنَايَةٍ حَدًّا، وَأَمَّا عَلَى الإْطْلاَقِ الأْوَّلِ فَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

إِقَامَةُ الْحُدُودِ فَرْضٌ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قوله تعالى فِي الزِّنَى: ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).

وَفِي السَّرِقَةِ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) الآْيَةَ وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ: ( وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدً ) وَفِي قَطْعِ الطَّرِيقِ: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) الآْيَةَ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْعَسِيفِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأْحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ.

وَقَدْ وَقَعَ الإْجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الطِّبَاعَ الْبَشَرِيَّةَ، وَالشَّهْوَةَ النَّفْسَانِيَّةَ مَائِلَةٌ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَاقْتِنَاصِ الْمَلاَذِ، وَتَحْصِيلِ مَقْصُودِهَا وَمَحْبُوبِهَا مِنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَى وَالتَّشَفِّي بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ، وَالاِسْتِطَالَةِ عَلَى الْغَيْرِ بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ شَرْعَ هَذِهِ الْحُدُودِ حَسْمًا لِهَذَا الْفَسَادِ، وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِهِ، لِيَبْقَى الْعَالَمُ عَلَى نَظْمِ الاِسْتِقَامَةِ، فَإِنَّ إِخْلاَءَ الْعَالَمِ عَنْ إِقَامَةِ الزَّاجِرِ يُؤَدِّي إِلَى انْحِرَافِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لاَ يَخْفَى.

وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْمَقْصِدُ الأَْصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الاِنْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثالث والثلاثون ، الصفحة / 259

قِصَاص

التَّعْرِيفُ:

مِنْ مَعَانِي الْقِصَاصِ فِي اللُّغَةِ: تَتَبُّعُ الأْثَرِ، يُقَالُ: قَصَصْتُ الأْثَرَ تَتَبَّعْتُهُ.

وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْقَوَدُ، يُقَالُ: أَقَصَّ السُّلْطَانُ فُلاَنًا إِقْصَاصًا: قَتَلَهُ قَوَدًا، وَأَقَصَّهُ مِنْ فُلاَنٍ: جَرَحَهُ مِثْلَ جَرْحِهِ، وَاسْتَقَصَّهُ: سَأَلَهُ أَنْ يَقُصَّهُ.

قَالَ الْفَيُّومِيُّ: ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْقَاتِلِ، وَجُرْحِ الْجَارِحِ وَقَطْعِ الْقَاطِعِ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْقِصَاصُ أَنْ يُفْعَلَ بِالْفَاعِلِ الْجَانِي مِثْلُ مَا فَعَلَ

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الثَّأْرُ:

- الثَّأْرُ فِي اللُّغَةِ: الدَّمُ، وَالطَّلَبُ بِهِ.

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الثَّأْرِ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ الْقِصَاصَ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْجَانِي الْمُكَافِئِ فَلاَ يُؤْخَذُ غَيْرُهُ بِجَرِيرَتِهِ، أَمَّا الثَّأْرُ فَلاَ يُبَالِي وَلِيُّ الدَّمِ فِي الاِنْتِقَامِ مِنَ الْجَانِي أَوْ سِوَاهُ.

ب - الْحَدُّ:

الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَالْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِلْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.

وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ كِلَيْهِمَا عُقُوبَةٌ عَلَى جِنَايَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الأَْوَّلَ وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى غَالِبًا، وَالثَّانِي وَجَبَ حَقًّا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ أَوْلِيَائِهِ.

(ر: حُدُود ف 1 – 2).

ج - الْجِنَايَةُ:

- الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ، وَتَجَنَّى عَلَيْهِ: إِذَا ادَّعَى ذَنْبًا لَمْ يَفْعَلْهُ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ.

وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ:

السَّبَبِيَّةُ، فَقَدْ تَكُونُ الْجِنَايَةُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ.

د - التَّعْزِيرُ:

- التَّعْزِيرُ فِي اللُّغَةِ: التَّوْقِيرُ، وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّأْدِيبُ، وَمِنْهُ الضَّرْبُ دُونَ الْحَدِّ

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، فِي مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلاَ كَفَّارَةٌ غَالِبًا.

وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ الْقِصَاصَ مُقَدَّرٌ بِمَا يُسَاوِي الْجِنَايَةَ، وَالتَّعْزِيرُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ لأِوْلِيَائِهِ، أَمَّا التَّعْزِيرُ فَقَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

هـ - الْعُقُوبَةُ:

- الْعُقُوبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ عَاقَبَ يُعَاقِبُ عِقَابًا وَمُعَاقَبَةً، وَهُوَ أَنْ تُجْزِيَ الرَّجُلَ بِمَا فَعَلَ سُوءًا، وَعَاقَبَهُ بِذَنْبِهِ: إِذَا أَخَذَهُ بِهِ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهَا: جَزَاءٌ بِالضَّرْبِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الرَّجْمِ أَوِ الْقَتْلِ، وَسُمِّيَ بِهَا لأِنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ، وَمِنْ تَعَقَّبَهُ: إِذَا تَبِعَهُ.

وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْقِصَاصِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالْقِصَاصُ ضَرْبٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ الْوُجُوبُ عَلَى وَلِيِّ الأْمْرِ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَمُبَاحٌ طَلَبُهُ مِنْ قِبَلِ مُسْتَحِقِّهِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ، ثُمَّ الصُّلْحُ.

وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا.

وَذَلِكَ لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأْنْثَى بِالأْنْثَى) ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:  (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) . وَقَوْلُهُ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ:  (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأْنْفَ بِالأْنْفِ وَالأْذُنَ بِالأْذُنِ وَالسِّنَّبِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ»، وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ - رضى الله تعالى عنه - «أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الأْرْشَ فَأَبَوْا، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ قَالَ: فَعَفَا الْقَوْمُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ»؛ وَلأِنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ بِالْقِصَاصِ، فَكَانَ كَالنَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ.

أَسْبَابُ الْقِصَاصِ:

- أَسْبَابُ الْقِصَاصِ هِيَ: الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالْجُرْحُ وَالشِّجَاجُ وَإِزَالَةُ مَعَانِي الأْعْضَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي: 

الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:

- الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ سَبَبُهُ الْقَتْلُ الْعَمْدُ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ سَوْفَ يَأْتِي تَفْصِيلُهَا.

شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

- لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ شُرُوطٌ فِي الْقَاتِلِ، وَالْمَقْتُولِ، وَفِعْلِ الْقَتْلِ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إِلاَّ بِتَوَفُّرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، كَمَا يَلِي:

أ - التَّكْلِيفُ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاتِلِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، أَيْ عَاقِلاً بَالِغًا عِنْدَ الْقَتْلِ، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا جُنُونًا مُطْبِقًا عِنْدَ الْقَتْلِ.

فَإِذَا قَتَلَهُ عَاقِلاً ثُمَّ جُنَّ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دَفَعَهُ الْقَاضِي لِلْوَلِيِّ عَاقِلاً ثُمَّ جُنَّ اقْتُصَّ مِنْهُ، وَإِنْ جُنَّ قَبْلَ دَفْعِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ بَدَلاً مِنْهُ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ إِذَا جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ؛ لأِنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُخَاطَبًا حَالَةَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْقَضَاءِ وَيَتِمُّ بِالدَّفْعِ، فَإِذَا جُنَّ قَبْلَ الدَّفْعِ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْوُجُوبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ.

فَإِنْ كَانَ يَجِنُّ وَيُفِيقُ، فَإِنْ قَتَلَ فِي إِفَاقَتِهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْبِقًا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ غَيْرَ مُطْبِقٍ قُتِلَ قِصَاصًا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إِلَى حِينِ إِفَاقَتِهِ ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ.

فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مَجْنُونًا جُنُونًا مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مَجْنُونٌ جُنُونًا مُطْبِقًا فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لأِنَّهُ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الإْفَاقَةِ، أَوْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ حَالَ جُنُونِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ عَنْهُ، ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَصْحُوَ؛ لاِحْتِمَالِ رُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ.

وَمِثْلُ الْجُنُونِ: النَّوْمُ وَالإْغْمَاءُ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

أَمَّا السَّكْرَانُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِمُحَرَّمٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ لِعُذْرٍ كَالإْكْرَاهِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُقُوعِ طَلاَقِهِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ.

ب - عِصْمَةُ الْقَتِيلِ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مَعْصُومَ الدَّمِ، أَوْ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ.

فَإِذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ - كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ - لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ قِصَاصٌ مُطْلَقًا.

فَإِذَا كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ سَائِرِهِمْ، كَالْقَاتِلِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَاصَّةً، فَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا؛ لأِنَّهُ غَيْرُ مُهْدَرِ الدَّمِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ وَلِيُّ الدَّمِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ؛ لأِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّهِ.

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَتْ عِصْمَتُهُ مُؤَقَّتَةً كَالْمُسْتَأْمَنِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قَاتِلُهُ؛ لأِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَصُونُ الدَّمِ فِي حَالِ أَمَانِهِ فَقَطْ، وَهُوَ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي الأْصْلِ، لأِنَّهُ حَرْبِيٌّ، فَلاَ قِصَاصَ فِي قَتْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُهُ مُسْتَأْمَنًا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيُقْتَلُ بِهِ لِلْمُسَاوَاةِ لاَ اسْتِحْسَانًا، وَقِيلَ: لاَ يُقْتَلُ عَلَى الاِسْتِحْسَانِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْلِ. 

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْعِصْمَةِ التَّأْبِيدُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُقْتَلُ قَاتِلُ الْمُسْتَأْمَنِ، لقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) .

ج - الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي أَوْصَافٍ اعْتَبَرُوهَا، فَلاَ يُقْتَلُ الأْعْلَى بِالأْدْنَى، وَلَكِنْ يُقْتَلُ الأْدْنَى بِالأْعْلَى وَبِالْمُسَاوِي.

وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُقْتَلُ عِنْدَهُمُ الْمُسْلِمُ وَلاَ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيِّ، لاَ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَلْ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ.

إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِي الأْوْصَافِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا لِلْمُكَافَأَةِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الإْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ. أَوْ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ أَزْيَدَ مِنَ الْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ أَزْيَدَ مِنَ الْقَتِيلِ فِيهِمَا فَلاَ قِصَاصَ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْقَصَ مِنَ الآْخَرِ فِي أَحَدِهِمَا، كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ وَلَوْ حُرًّا، وَلاَ حُرٌّ بِرَقِيقٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ زَائِدَ إِسْلاَمٍ، فَيُقْتَلُ حُرٌّ كِتَابِيٌّ بِرَقِيقٍ مُسْلِمٍ كَمَا سَيَأْتِي تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الإْسْلاَمِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْتَلُ الْكَافِرُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ؛ لأِنَّ الْحُرَّ لاَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ، كَمَا لاَ يُقْتَلُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْكَافِرِ؛ لأِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا، فَإِذَا قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ حُرٌّ مَنْ نِصْفُهُ عَبْدٌ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ.

وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ الْقِنُّ بِالْمُكَاتَبِ، وَيُقْتَلُ الْمُكَاتَبُ بِهِ، وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ - وَالْعَكْسُ - لأِنَّ الْكُلَّ عَبِيدٌ.

وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا.

وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لاَ بُدَّ فِي الْقَوَدِ مِنَ الْمُكَافَأَةِ فِي الْحَالاَتِ الثَّلاَثِ: حَالَةُ الرَّمْيِ وَحَالَةُ الإْصَابَةِ وَحَالَةُ الْمَوْتِ، وَمَتَى فُقِدَ التَّكَافُؤُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ الَّذِي فِيهِ مَالٌ إِذَا زَالَتِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، أَوْ عُدِمَتْ قَبْلَ السَّبَبِ وَحَدَثَتْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْمُسَبَّبِ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِهَا وَقْتَ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ وَقْتُ الإِْصَابَةِ فِي الْجُرْحِ وَوَقْتُ التَّلَفِ فِي الْمَوْتِ، وَلاَ يُرَاعَى فِيهِ وَقْتُ السَّبَبِ وَهُوَ الرَّمْيُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ خِلاَفًا لأَشْهَبَ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الإْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ هُنَا الْقَتْلَ غِيلَةً، وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: إِلاَّ الْغِيلَةَ - بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ الْقَتْلُ لأِخْذِ الْمَالِ - فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، بَلْ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَوَقْتُ الْمُسَاوَاةِ الْمُشْتَرَطِ عِنْدَهُمْ هُوَ وَقْتُ الْقَتْلِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ.. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُقْتَصُّ مِنْهُ.. لأِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ فَكَانَ الاِعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالِ وُجُوبِهَا دُونَ حَالِ اسْتِيفَائِهَا كَالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لاَ يُقْتَلَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الأْوْزَاعِيِّ.

وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْلُ غِيلَةً وَغَيْرَهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ دُونَ السُّلْطَانِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الإْسْلاَمِ وَالأْمَانِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالأْصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا بِذِمِّيٍّ لِخَبَرِ: «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ».

وَلأِنَّهُ لاَ يُقَادُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالإْجْمَاعِ، فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى.. وَيُقْتَلُ ذِمِّيٌّ بِهِ أَيِ الْمُسْلِمِ لِشَرَفِهِ عَلَيْهِ، وَيُقْتَلُ أَيْضًا بِذِمِّيٍّ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا، وَمُعَاهَدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمَجُوسِيٍّ وَعَكْسُهُ؛ لأِنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّسْخَ شَمِلَ الْجَمِيعَ.

وَالأْظْهَرُ: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِذِمِّيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمُعَاهَدٍ سَوَاءٌ عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الإْسْلاَمِ أَمْ لاَ؛ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ، بَلِ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الذِّمِّيِّ لأِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ. وَالثَّانِي: لاَ يُقْتَلُ بِهِ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الإْسْلاَمِ فِي الْمُرْتَدِّ، وَالأْظْهَرُ أَيْضًا: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِمُرْتَدٍّ لِتَسَاوِيهِمَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، وَالثَّانِي: لاَ؛ لأِنَّ الْمَقْتُولَ مُبَاحُ الدَّمِ، لاَ ذِمِّيٌّ بِمُرْتَدٍّ فِي الأْظْهَرِ، وَالثَّانِي يُقْتَلُ بِهِ أَيْضًا، وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالزَّانِي الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ كَمَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَلاَ يُقْتَلُ زَانٍ مُحْصَنٌ بِهِ لاِخْتِصَاصِهِ بِفَضِيلَةِ الإْسْلاَمِ، وَلِخَبَرِ: «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، وَلاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ وَإِنْ قَلَّ، لقوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَعَبْدُهُ وَعَبْدُ غَيْرِهِ.

وَيُقْتَلُ قِنٌّ وَمُدَبَّرٌ وَمُكَاتَبٌ وَأُمُّ وَلَدٍ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ لِكَافِرٍ وَالْقَاتِلُ لِمُسْلِمٍ لِلتَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ، وَاسْتُثْنِيَ الْمُكَاتَبُ إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لاَ يُقْتَلُ بِهِ كَمَا لاَ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِهِ.

وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَوْ قَتَلَ مِثْلَهُ أَيْ مُبَعَّضًا، سَوَاءٌ ازْدَادَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَقْتُولِ أَمْ لاَ، لاَ قِصَاصَ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ وَجَبَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ أَتَسَاوَيَا أَمْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ فَلاَ قِصَاصَ قَطْعًا؛ لاِنْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ.

وَالْفَضِيلَةُ فِي شَخْصٍ لاَ تُجْبِرُ النَّقْصَ فِيهِ، فَلاَ قِصَاصَ وَاقِعٌ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَحُرٍّ ذِمِّيٍّ؛ لأِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ لاَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَلاَ تُجْبَرُ فَضِيلَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَقِيصَتَهُ.

 

وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ فِي وَصْفَيِ الأْصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الْمُسَاوَاةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَقْتَ الْقَتْلِ، وَهُوَ وَقْتُ انْعِقَادِ سَبَبِ الْقِصَاصِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ، الَّذِي قَتَلَ كَافِرًا مُكَافِئًا لَهُ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ لِتَكَافُئِهِمَا حَالَةَ الْجِنَايَةِ؛ لأِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُقُوبَاتِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَلاَ نَظَرَ لِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ أَوْ نَحْوُهُ ذِمِّيًّا أَوْ نَحْوَهُ وَأَسْلَمَ الْجَارِحُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِسِرَايَةِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لاَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِي الأْصَحِّ، لِلتَّكَافُؤِ حَالَةَ الْجَرْحِ.

د - أَنْ لاَ يَكُونَ الْقَاتِلُ حَرْبِيًّا:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا، حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم  وَالصَّحَابَةِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ عَدَمِ الْقِصَاصِ مِمَّنْ أَسْلَمَ كَوَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ وَلِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الإْسْلاَمِ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ بِمَا هُدِرَ بِهِ دَمُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قِصَاصًا، وَيُقْتَلُ لإِهْدَارِ دَمِهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ الْقَتْلُ وَالْقِصَاصُ. 

هـ - أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُتَعَمِّدًا الْقَتْلَ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَجِبُ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «الْعَمْدُ قَوَدٌ»، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ فِي جِنَايَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْجِنَايَةُ لاَ تَتَنَاهَى إِلاَّ بِالْعَمْدِ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قَتْلُ عَمْدٍ ف 1).

و - أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا:

- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإْكْرَاهَ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْمُكْرَهِ، فَإِذَا قَتَلَ غَيْرَهُ مُكْرَهًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَلَزِمَ الْقِصَاصُ الْمُكْرَهَ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا اخْتِيَارَ الإْيثَارِ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى مُكْرَهٍ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ الأْخْرَى وَهَلْ يَجِبُ  الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؟

فِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19).

أَمَّا الإْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ فَلاَ أَثَرَ لَهُ وَيُقْتَصُّ مَعَهُ مِنَ الْقَاتِلِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19 - 24).

ز - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْتُولُ جُزْءَ الْقَاتِلِ أَوْ مِنْ فُرُوعِهِ:

- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ مُطْلَقًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «لاَ يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ»؛ وَلأِنَّهُ كَانَ سَبَبَ حَيَاتِهِ فَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ، وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ هُنَا كُلُّ الأْصُولِ مِنَ الذُّكُورِ وَالإْنَاثِ مَهْمَا بَعُدُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الأْمُّ وَالْجَدَّاتُ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنَ الأْبِ كُنَّ أَمْ مِنَ الأْمِّ، كَمَا يَدْخُلُ الأْجْدَادُ وَإِنْ عَلَوْا مِنَ الأْبِ كَانُوا أَوْ مِنَ الأْمِّ؛ لِشُمُولِ لَفْظِ الْوَالِدِ لَهُمْ جَمِيعًا.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الأْمَّ تُقْتَلُ بِالاِبْنِ خِلاَفًا لِلأْبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالأْبِ فَلاَ تُقْتَلُ بِالاِبْنِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأْبَ إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ قُتِلَ بِهِ إِذَا كَانَ قَصَدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ وَاضِحًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَضَابِطُهُ أَنْ لاَ يَقْصِدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ، فَإِنْ قَصَدَهُ كَأَنْ يَرْمِيَ عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، أَوْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْقِصَاصُ.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَالِدِ النَّسَبِيِّ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: أَمَّا الْوَالِدُ مِنَ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ مِنَ الرَّضَاعِ لِعَدَمِ الْجُزْئِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

ح - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَمْلُوكًا لِلْقَاتِلِ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ قُتِلَ بِهِ، أَمَّا السَّيِّدُ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً مَمْلُوكَيْنِ لَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ بِهِمَا، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : «لاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدِهِ».

وَمِثْلُ الْمَمْلُوكِ هُنَا مَنْ لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَوْ كَانَ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ؛ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ؛ لأِنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ.

كَمَا لاَ يُقْتَلُ الْمَوْلَى بِمُدَبَّرِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَمُكَاتَبِهِ؛ لأِنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ حَقِيقَةً.

ط - أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشِرًا:

- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى سَوَاءٍ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ الأْخْرَى.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً، فَلَوْ قَتَلَهُ بِالسَّبَبِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْحَافِرِ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ إِذَا شَهِدَ بِالْقَتْلِ فَاقْتُصَّ مِنَ الْقَاتِلِ بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الشَّهَادَةِ، أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا لِثُبُوتِ حَيَاةِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ عِنْدَهُمْ.

ي - أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ قَدْ حَدَثَ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ:

- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لإِطْلاَقِ الآْيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالأْحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لأِنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مَكَانًا، فَكَانَ كَالْمُحَارِبِ لاَ عِصْمَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ تَاجِرَانِ مُسْلِمَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ أَيْضًا.

ك - الْعُدْوَانُ:

- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَجِبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُدْوَانٌ، وَالْعُدْوَانُ يَعْنِي تَجَاوُزَ الْحَدِّ وَالْحَقِّ، فَإِذَا قَتَلَهُ بِحَقٍّ أَوْ بِإِذْنِ الْقَتِيلِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُخَرَّجُ الْقَتْلُ قِصَاصًا، أَوْ حَدًّا، أَوْ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ، أَوْ دِفَاعًا عَنِ الْمَالِ كَقَتْلِ السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ، أَوْ تَأْدِيبًا، أَوْ تَطْبِيبًا فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الأْحْوَالِ كُلِّهَا لاَ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِذْن ف 39 وَ 58 وَ 60، وَتَأْدِيب ف 11، وَتَطْبِيب ف 7، وَصِيَال ف 6)

ل - أَنْ لاَ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِلِ:

لَوْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِلِ، كَأَنْ وَرِثَ الْقِصَاصَ عَلَيْهِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِلْجُزْئِيَّةِ، لأِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفَرْعُ أَحَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ 

لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ كُلُّهُ؛ لأِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ.

م - أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقِصَاصِ مَعْلُومًا:

- وَهَذَا شَرْطٌ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ مَجْهُولاً لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لأِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبٌ لِلاِسْتِيفَاءِ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ فَتَعَذَّرَ الإْيجَابُ.

ن - أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْقَاتِلِ شَرِيكٌ فِي الْقَتْلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ:

- إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ أَحَدِ الْمُشَارِكِينَ فِي الْقَتْلِ لأِيِّ سَبَبٍ كَانَ غَيْرِ الْعَفْوِ عَنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأِنَّ الْقَتْلَ وَاحِدٌ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ مُوجِبُهُ بِتَغَيُّرِ الْمُشَارِكِينَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَبًا أَوْ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ.. سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ.

أَمَّا إِذَا قَتَلَ اثْنَانِ رَجُلاً، فَعَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ كَالأْوَّلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي.

هَذَا مَا دَامَ الْوَلِيُّ الْعَافِي وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيلِ أَوْلِيَاءٌ فَعَفَا أَحَدُهُمْ، سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلْبَاقِينَ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا قَتَلَ إِنْسَانٌ رَجُلَيْنِ، فَعَفَا وَلِيُّ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، سَقَطَ حَقُّ الأْوَّلِ وَبَقِيَ حَقُّ الثَّانِي فِي الْقِصَاصِ عَلَى حَالِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَعَمَّدَا قَتْلَهُ، أَوِ الْكَبِيرُ فَقَطْ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْكَبِيرِ؛ لاِحْتِمَالِ أَنَّ ضَرْبَ الصَّغِيرِ هُوَ الْقَاتِلُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ أَنَّهُ مَاتَ بِضَرْبِ الْكَبِيرِ، وَيُقْسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ فَيُقْتَلُ الْكَبِيرُ.

وَلاَ قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَهَلْ يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ سَبْعٍ، أَوْ جَارِحٍ نَفْسَهُ جُرْحًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا، أَوْ شَرِيكِ حَرْبِيٍّ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، وَإِلاَّ اقْتُصَّ مِنَ الشَّرِيكِ. أَوْ شَرِيكِ مَرَضٍ، بِأَنْ جَرَحَهُ ثُمَّ مَرِضَ مَرَضًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يُدْرَ أَمَاتَ مِنَ الْجُرْحِ أَمْ مِنَ الْمَرَضِ؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْقِصَاصُ، وَفِي غَيْرِهِ لاَ يُوجَدُ تَرْجِيحٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْقَسَامَةُ وَيَثْبُتُ الْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ، وَكُلُّ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرَضُ قَبْلَ الْجُرْحِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَارِحِ اتِّفَاقًا، وَقَالَ: وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الثَّلاَثُ الأْوَلُ فَالْقَوْلاَنِ فِيهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكٍ مُخْطِئٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَيُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ مَنِ امْتَنَعَ قَوَدُهُ لِمَعْنًى فِيهِ إِذَا تَعَمَّدَا جَمِيعًا، فَلاَ يُقْتَلُ شَرِيكُ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ عَمْدٍ؛ لأِنَّ الزُّهُوقَ حَصَلَ بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُهُ وَالآْخَرُ يَنْفِيهِ، فَغَلَبَ الْمُسْقِطُ.

وَيُقْتَلُ شَرِيكُ الأْبِ فِي قَتْلِ وَلَدِهِ، وَعَلَى الأْبِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً، وَفَارَقَ شَرِيكُ الأْبِ شَرِيكَ الْمُخْطِئِ بِأَنَّ الْخَطَأَ شُبْهَةٌ فِي فِعْلِ الْخَاطِئِ وَالْفِعْلاَنِ مُضَافَانِ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ كَمَا لَوْ صَدَرَا مِنْ وَاحِدٍ، وَشُبْهَةُ الأْبُوَّةِ فِي ذَاتِ الأْبِ لاَ فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَذَاتُ الأْبِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ ذَاتِ الأْجْنَبِيِّ، فَلاَ تُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا، وَكَانَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ أَبًا لِلْقَتِيلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الأْبِ وَحْدَهُ، وَوَجَبَ عَلَى الآْخَرِينَ، لأِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَاتِلٌ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ مُنْفَرِدًا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ قِصَاصَ عَلَى الأْبِ وَلاَ عَلَى شُرَكَائِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ؛ لأِنَّ الْقَتْلَ مِنْهُمْ جَمِيعًا، فَلاَ يَخْتَلِفُ وَصْفُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الآْخَرِ، وَمَا دَامَ قَدْ سَقَطَ عَنْ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ.

وَمِثْلُ الأَبِ هُنَا كُلُّ مَنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ فِي السَّبَبِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، كَالذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ، فَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَعَاقِلٌ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمْ جَمِيعًا فِي الأْصَحِّ؛ لأِنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَقَطْ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ.

قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يُقْتَلُونَ بِالْفَرْدِ الَّذِي تَمَّ التَّوَاطُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَتَلَ سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلاً، وَقَالَ: لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوَاطُؤ ف 7).

وَلِيُّ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلاً؛ لأِنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ فَكَانَ الْجَزَاءُ حَقَّهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ، فَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ، انْتَقَلَ الْقِصَاصُ إِلَى الْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الاِشْتِرَاكِ بَيْنَهُمْ، كُلٌّ مِنْهُمْ حَسَبَ حِصَّتِهِ فِي التَّرِكَةِ، يَسْتَوِي فِيهِمُ الْعَاصِبُ وَصَاحِبُ الْفَرْضِ، وَالذَّكَرُ وَالأْنْثَى، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا مَاتَ مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، أَوْ مَاتَ لاَ عَنْ تَرِكَةٍ فَالْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا شَيْئًا؛ لأِنَّ فِيهِمْ قُوَّةَ الإْرْثِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ زَائِدٌ عَنِ الدَّيْنِ لَوَرِثُوهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَاصِ هُوَ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ لاَ يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ، وَيَحْصُلُ لِوَرَثَتِهِ، فَكَانَ حَقًّا لَهُمُ ابْتِدَاءً، وَثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ لاَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِيهِ حَقًّا حَتَّى يَسْقُطَ بِعَفْوِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لِعَصَبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الذُّكُورِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَصَبَةً بِالنَّسَبِ كَالاِبْنِ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَالْوَلاَءِ، فَلاَ دَخْلَ فِيهِ لِزَوْجٍ وَلاَ أَخٍ لأِمٍّ أَوْ جَدٍّ لأِمٍّ، يُقَدَّمُ فِيهِ الاِبْنُ ثُمَّ ابْنُ الاِبْنِ، وَيُقَدَّمُ الأْقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَاتِ عَلَى الأْبْعَدِ، إِلاَّ الْجَدُّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَعَ الإْخْوَةِ بِخِلاَفِ الأْبِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَصَبَةِ هُنَا الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ لاِشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِيهِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهُ عَصَبَتُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ:

الأْوَّلُ: أَنْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، كَالْبِنْتِ وَالأْخْتِ.

وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ، فَإِنْ سَاوَاهُنَّ فَلاَ قِصَاصَ لَهُنَّ، كَالْبِنْتِ مَعَ الاِبْنِ، وَالأْخْتِ مَعَ الأْخِ، فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، وَالْحَقُّ فِيهِ لِلاِبْنِ وَحْدَهُ، وَلِلأْخِ وَحْدَهُ.

وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْوَارِثَةُ مِمَّنْ لَوْ ذُكِّرَتْ عُصِّبَتْ، كَالْبِنْتِ وَالأْخْتِ الشَّقِيقَةِ أَوْ لأِبٍ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ وَالْجَدَّةُ لأِمٍّ وَالأْخْتُ لأِمٍّ.. فَلاَ قِصَاصَ لَهُنَّ مُطْلَقًا.

فَإِذَا كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَارِثٌ مِنَ النِّسَاءِ، وَعَصَبَتُهُ مِنَ الرِّجَالِ أَبْعَدُ مِنْهُنَّ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَهُنَّ وَلِلْعَصَبَةِ الأْبْعَدِ مِنْهُنَّ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الأْوْلِيَاءِ الْمُنْفَرِدِينَ وَالْمُتَعَدِّدِينَ تَوْكِيلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَكَالَةٌ).

وَلِلأْبِ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَنِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِوِلاَيَتِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا غَيْرُ الأْبِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النَّفْسِ كَالأْخِ وَالْعَمِّ فَلَهُ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لأِبِي يُوسُفَ. أَمَّا الْوَصِيُّ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَنِ الْقَاصِرِ الْمَشْمُولِ بِوِصَايَتِهِ؛ لأِنَّ الْوِصَايَةَ عَلَى الْمَالِ فَقَطْ وَلَيْسَ الْقِصَاصُ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لاَ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَمَّنْ يَلِي عَلَيْهِ، أَبًا أَوْ غَيْرَهُ.

فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ وَلاَ عَصَبَةٌ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِوِلاَيَتِهِ الْعَامَّةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ:  لاَ وِلاَيَةَ لِلسُّلْطَانِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: حَقُّ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ.

طَرِيقَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِمِثْلِ الطَّرِيقَةِ وَالآْلَةِ الَّتِي قَتَلَ بِهَا، لقوله تعالى : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقَةُ مُحَرَّمَةً، كَأَنْ يَثْبُتَ الْقَتْلُ بِخَمْرٍ فَيُقْتَصَّ بِالسَّيْفِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِلِوَاطٍ أَوْ بِسِحْرٍ فَيُقْتَصَّ بِالسَّيْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَا فِي الأْصَحِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْخَمْرِ بِإِيجَارِهِ مَائِعًا كَخَلٍّ أَوْ مَاءٍ، وَفِي اللِّوَاطِ بِدَسِّ خَشَبَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ آلَتِهِ وَيُقْتَلُ بِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْعُنُقِ مَهْمَا كَانَتِ الآْلَةُ وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي قَتَلَ بِهَا، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم  «لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ»، وَالْمُرَادُ بِالسَّيْفِ هُنَا السِّلاَحُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ السِّكِّينُ وَالْخَنْجَرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.

- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإْمَامِ فِيهِ لِخَطَرِهِ؛ وَلأِنَّ وُجُوبَهُ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ لاِخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَالاِسْتِيفَاءِ، لَكِنْ يُسَنُّ حُضُورُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ لاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ الْوَلِيُّ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إِذْنِ السُّلْطَانِ جَازَ، وَيُعَزَّرُ لاِفْتِئَاتِهِ عَلَى الإْمَامِ.

 

 

اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

يُشْتَرَطُ لاِسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ أَنَّ لَهُ طَلَبَ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءَهُ، فَإِنْ طَلَبَهُ أُجِيبَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ وَاحِدًا أُجِيبَ إِلَيْهِ إِذَا طَلَبَهُ مُطْلَقًا، وَإِذَا كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أُجِيبُوا إِلَيْهِ إِذَا طَلَبُوهُ جَمِيعًا، فَإِذَا أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْقِصَاصُ - كَمَا تَقَدَّمَ -

فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ قَاصِرًا، أَوْ كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ بَعْضُهُمْ كَامِلَ الأْهْلِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ نَاقِصَ الأْهْلِيَّةِ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي الظَّاهِرِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ الصَّغِيرُ حَتَّى يَكْبَرَ، وَالْمَجْنُونُ حَتَّى يُفِيقَ؛ لأِنَّهُ رُبَّمَا يَعْفُو فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ؛ لأِنَّ الْقِصَاصَ عِنْدَهُمْ يَثْبُتُ لِكُلِّ الْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الاِشْتِرَاكِ؛ وَلأِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي، فَحَقُّهُ التَّفْوِيضُ إِلَى خِيرَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَلاَ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ غَيْرِهِ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُحْبَسُ الْقَاتِلُ حَتَّى الْبُلُوغِ وَالإْفَاقَةِ، وَلاَ يُخَلَّى بِكَفِيلٍ؛ لأِنَّهُ قَدْ يَهْرُبُ فَيَفُوتُ الْحَقُّ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ يَكُونُ لِكَامِلِي الأْهْلِيَّةِ وَحْدَهُمْ حَقُّ طَلَبِ الْقِصَاصِ، لأِنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كَامِلاً - عِنْدَهُ - عَلَى سَبِيلِ الاِسْتِقْلاَلِ، فَإِذَا طَلَبُوهُ أُجِيبُوا إِلَيْهِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالآْخَرِينَ نَاقِصِي الأْهْلِيَّةِ؛ لأِنَّ عَفْوَهُمْ لاَ يَصِحُّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْتَظَرُ صَغِيرٌ لَمْ يَتَوَقَّفِ الثُّبُوتُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُنْتَظَرُ مَجْنُونٌ مُطْبِقٌ لاَ تُعْلَمُ إِفَاقَتُهُ بِخِلاَفِ مَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا فَتُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ.

فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الأْوْلِيَاءِ كَامِلِي الأْهْلِيَّةِ غَائِبًا انْتُظِرَتْ عَوْدَتُهُ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأِنَّ لَهُ الْعَفْوَ فَيَسْقُطُ بِهِ الْقِصَاصُ؛ وَلأِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي كَمَا سَبَقَ.

زَمَانُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

- إِذَا ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِشُرُوطِهِ جَازَ لِلْوَلِيِّ اسْتِيفَاؤُهُ فَوْرًا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ لأِنَّهُ حَقُّهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُعَدُّ مُسْتَحِقًّا لَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا جَرَحَهُ جُرْحًا نَافِذًا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ؛ لأِنَّهُ رُبَّمَا شُفِيَ مِنْ جُرْحِهِ فَلاَ قِصَاصَ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِذَا مَاتَ ثَبَتَ الْقِصَاصُ فَيُسْتَوْفَى فَوْرًا.

وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُعَافًى أَوْ مَرِيضًا، وَسَوَاءٌ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ بَارِدًا أَوْ حَارًّا؛ لأِنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْمَوْتُ، وَلاَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَوْتِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا كَانَ امْرَأَةً حَامِلاً يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ حَتَّى تَلِدَ، حِفَاظًا عَلَى سَلاَمَةِ الْجَنِينِ وَحَقِّهِ فِي الْحَيَاةِ، بَلْ إِنَّهَا تُنْظَرُ إِلَى الْفِطَامِ أَيْضًا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا لإِرْضَاعِهِ، فَإِذَا ادَّعَتِ الْحَمْلُ وَشَكَّ فِي دَعْوَاهَا أُرِيَتِ النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ حَامِلٌ أُجِّلَتْ، ثُمَّ إِنْ ثَبَتَ حَمْلُهَا حُبِسَتْ حَتَّى تَلِدَ وَإِنْ قُلْنَ: غَيْرُ حَامِلٍ اقْتُصَّ مِنْهَا فَوْرًا.

مَكَانُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:

لَيْسَ لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مَكَانٌ مُعَيَّنٌ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا الْتَجَأَ الْجَانِي إِلَى الْحَرَمِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَجَّبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ قُتِلَ فِيهِ، فَإِنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ أُخْرِجَ مِنْهُ وَقُتِلَ خَارِجَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُخْرَجُ مِنْهُ وَلاَ يُقْتَلُ فِيهِ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ عَنْهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ بِنَفْسِهِ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ.

هَذَا مَا دَامَتِ الْجِنَايَةُ وَقَعَتْ خَارِجَ الْحَرَمِ فِي الأْصْلِ، فَإِذَا كَانَتْ وَقَعَتْ فِي الْحَرَمِ أَصْلاً، جَازَ الاِقْتِصَاصُ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ وَخَارِجَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. 

مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ:

يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ بِأُمُورٍ، هِيَ:

أ - فَوَاتُ مَحَلِّ الْقِصَاصِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ؛ لأِنَّ الْقَتْلَ لاَ يَرِدُ عَلَى مَيِّتٍ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ قَدْ حَصَلَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ بِقَتْلِ آخَرَ لَهُ بِحَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا إِذَا قَتَلَ الْقَاتِلُ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ مَعَ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ الأْوَّلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي لأِوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الأْوَّلِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ لأِوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الأْوَّلِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ الثَّانِي.