1 ـ العبرة فى تحديد العقوبة المقررة لأشد الجرائم التى يقضى بها على الجاني بالتطبيق للمادة 32 من قانون العقوبات هى بتقدير القانون للعقوبة الأصلية وفقاً لترتيبها فى المواد 10 ، 11 ، 12 من قانون العقوبات ، لا وفقاً لما يقدره القاضى فى الحكم على ضوء ما يرى من أحوال الجريمة ، و دون تخويله سن و تطبيق عقوبة لم يقررها أى القانونين يستمدها من الحدين الأقصى و الأدنى الأشدين فى كليهما فإن إتحدت العقوبتان درجة و نوعاً تعين المقارنة بينهما على أساس الحد الأقصى للعقوبة الأصلية دون إعتداد بالحد الأدنى . و إذا نص القانون على عقوبتين أصليتين لكل من الجرائم المرتبطة كان الإعتبار بالحد الأقصى المقرر للعقوبة الأعلى درجة و لو كانت العقوبة الأدنى درجة - التخييرية فى الجريمتين - مقيدة بحد أدنى ، ذلك بأن العقوبة الأعلى درجة تمثل أبلغ ما يهدد الجاني من شدة فى حين أن العقوبة الأدنى درجة و إن تمثل فيها قصارى ما يأمله المجرم من رحمة بيد أنه يظل معرضاً لتطبيق الحد الأقصى للعقوبة الأعلى درجة ، و من ثم كان تيقن درء ذلك الخطر أولى من التعلق بمجرد أمل محل نظر . و لما كان يبين أن عقوبتى الجريمتين الأوليين " الجرح الخطأ و ترك الكلب فى الطريق دون مقود أو كمامه " و إن إتحدتا فى الدرجة و النوع و فى خيار القاضى فى إيقاع إحداهما أو كلتيهما ، و إتفقتا فى الحد الأقصى للغرامة و فى الحد الأدنى للحبس إلا أنهما إختلفتا فى الحد الأقصى للحبس فهو أشد فى الأولى منه فى الأخرى ، و فى الحد الأدنى للغرامة فهو أشد فى الأخرى منه فى الأولى . و من ثم فإن تلك الجريمة الأولى هى صاحبة العقوبة الأشد المتعين القضاء بها دون غيرها عملاً بالمادة 32 من قانون العقوبات .
(الطعن رقم 123 لسنة 36 ق - جلسة 1966/04/26 س 17 ع 3 ص 535 ق 96)
2 ـ لما كان تدبير الإيداع فى مؤسسة الرعاية الإجتماعية الذى نصت عليه المادة السابعة من القانون رقم 31 لسنة 1974 بشأن الأحداث هو عقوبة جنائية بالمفهوم القانونى تقيد من حرية المحكوم عليه بها ، و قد رتبها القانون المشار إليه - و هو من القوانين العقابية - لصنف خاص من الجناة هم الأحداث و إن لم تذكر بالمواد 9 و ما يليها من قانون العقوبات ضمن العقوبات الأصليه و التبعية ، فإنه لا يلزم لقبول الطعن فى الحكم الصادر بها إيداع الكفالة المنصوص عليها فى المادة 36 من قانون حالات و إجراءات الطعن أمام محكمة النقض الصادر بالقانون رقم 57 لسنة 1959 .
(الطعن رقم 2198 لسنة 52 ق - جلسة 1983/03/02 س 34 ص 307 ق 59)
تقسيم الجرائم إلى جنایات وجنح ومخالفات
أساس التقسيم: أساس هذا التقسيم هو اختلاف الجرائم فيما بينها من حيث مقدار جسامتها: فأشد الجرائم جسامة هي الجنايات، وأقلها جسامة هي المخالفات، وتتوسط الجنح بين النوعين. وقد قدر الشارع جسامة كل جريمة ينص عليها ناظراً إلى كل جوانبها وعناصرها ثم رتب الجرائم من حيث جسامتها ووزعها على الأقسام الثلاثة السابقة، وبعد ذلك وضع معياراً واضحا سهل التطبيق تقاس به جسامة كل جريمة ويعرف به موضعها في أحد الأقسام السابقة، هذا المعيار هو نوع ومقدار العقوبة المقررة لها، فثمة عقوبات خاصة بالجنايات، فكل جريمة قرر لها القانون إحدى هذه العقوبات كانت جناية، ويعني ذلك أنها من أشد الجرائم جسامة، وثمة عقوبات الجنح والمخالفات، فكل جريمة قرر لها القانون هذه العقوبات أو إحداها هي جنحة أو مخالفة تبعاً لنوع أو مقدار العقوبة، ويعني ذلك أنها أقل من الجنايات جسامة.
وقد نص الشارع على هذا التقسيم صراحة (المادة 9 من قانون العقوبات) ، ثم حدد معیاره . فالجنايات هي الجرائم المعاقب عليها بالعقوبات الآتية : الإعدام ، السجن المؤبد ، السجن المشدد ، السجن (المادة 10 من قانون العقوبات)، والجنح هي الجرائم المعاقب عليها بالعقوبتين الآتيتين : الحبس ، والغرامة التي يزيد أقصی مقدارها على مائة جنيه (المادة 11 من قانون العقوبات ، معدلة بالقانون رقم 169 لسنة 1981 )، والمخالفات هي الجرائم المعاقب عليها بالغرامة التي لا يزيد أقصى مقدارها على مائة جنيه (المادة 12 من قانون العقوبات ، معدلة بالقانون رقم 169 لسنة 1981 .
تطبيق معيار التقسيم : نلاحظ على هذا المعيار أنه جعل عقوبات الجنايات من نوع مختلف عن عقوبات الجنح والمخالفات، وميز الجنح بعقوبة لا وجود لها في المخالفات ، هي الحبس . وقرر الغرامة عقوبة مشتركة بين الجنح والمخالفات، وجعل التمييز بين الغرامة كعقوبة للجنح والغرامة كعقوبة للمخالفات رهنا بحدها الأقصى : فإذا كان يزيد على مائة جنيه، فالجريمة جنحة، وإذا كان لا يزيد على مائة جنيه، فالجريمة مخالفة .
وتطبيقاً لهذا المعيار ، فإنه إذا قرر القانون الجريمة عقوبة الحبس فهي حتما جنحة، فلم يعد للحبس وجود في المخالفات بعد العمل بالقانون رقم 169 لسنة 1981، وإذا قرر القانون للجريمة عقوبة الغرامة التي يزيد حدها الأقصى على مائة جنيه ، فهي جنحة كذلك، أما إذا قرر لها عقوبة الغرامة التي لا يزيد حدها الأقصى على مائة جنيه، فهى مخالفة .
والعبرة في تطبيق هذا المعيار هي بالعقوبة التي يقررها نص القانون، وليست العبرة بالعقوبة التي ينطق بها القاضي: فإذا قرر القانون الجريمة عقوبة الغرامة التي تزيد على مائة جنيه فهي جنحة، ويظل لها هذا الوصف، ولو حكم القاضي - مستعملاً سلطته التقديرية - بالغرامة التي تقل عن مائة جنيه.
والمرجع في تطبيق هذا المعيار هو إلى العقوبة الأصلية، فلا عبرة بالعقوبات التبعية أو التكميلية ، وعلى هذا النحو فالمصادرة إذا اتسع نطاقها لا تحدد مقدار جسامة الجريمة طبقاً لهذا المعيار، وليست العبرة بالوصف الذي ترفع به الدعوى ، وإنما العبرة بالوصف الذي تقرره المحكمة ، فإذا حركت النيابة العامة للدعوى معتبرة الجريمة مستوجبة طبقاً للقانون عقوبة جناية ، ولكن المحكمة لم تقرها إلى ما ذهبت إليه ، فاعتبرت الجريمة مستوجبة طبقاً للقانون عقوبة جنحة ، فالعبرة بما رأته المحكمة.
وإذا حدد القانون للجريمة عقوبتين أو أكثر فالعبرة بأشدها، ذلك أن القانون يقرر للجريمة هذه العقوبة، فيعني ذلك أنها بالغة في تقديره الجسامة التي تحددها هذه العقوبة، وتطبيقاً لذلك، فإذا قرر القانون الجريمة عقوبتي السجن والحبس أو إحداهما، فالجريمة جناية.
أهمية التقسيم:
يعد هذا التقسيم أهم تقسيم للجرائم ، إذ يجعله الشارع أساساً للغالب من أحكام قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية .
فأهمية التقسيم في قانون العقوبات تقدير الشارع أن بعض القواعد لا تلائم إلا الجرائم الجسيمة فيقصر نطاقها على الجنايات ، أو على الجنايات والجنح، ونستخلص فيما يلي أهم هذه القواعد :
(1) يسرى قانون العقوبات المصرى على كل فعل يرتكبه مصری خارج الإقليم المصري إذا اعتبر جناية أو جنحة طبقاً لذلك القانون ، فلا سريان له على ما يعد مخالفة .
(2) تقتصر أحكام الشروع على الجنايات والجنح دون المخالفات، والقاعدة أن الشروع في الجنايات معاقب عليه ما لم يقض القانون بغير ذلك ، وأن الشروع في الجنح معاقب عليه حيث ينص القانون على ذلك .
(3) يعاقب على الاتفاق الجنائي إذا كان موضوعه جناية أو جنحة، فلا عقاب عليه إذا كان موضوعه مخالفة .
(4) تقتصر أحكام العود على الجنايات والجنح دون المخالفات .
(5) يطبق نظام ايقاف التنفيذ على الجنايات والجنح دون المخالفات .
(6) يقتصر نطاق الظروف المخففة على الجنايات دون الجنح والمخالفات .
(7) مجال المصادرة مقتصر على الجنايات والجنح، فلا محل للحكم بها في المخالفات .
وأهمية التقسيم في قانون الإجراءات الجنائية تقدير الشارع أن الجنايات - بالنظر إلى جسامة العقوبات المقررة لها - تتطلب إجراءات تحقيق ومحاكمة تحيط بها الضمانات، ونحدد فيما يلي أهم مظاهر هذه الخطة :
(1) تختص بالجنايات محاكم الجنايات في حين تختص بالجنح والمخالفات المحاكم الجزئية .
(2) التحقيق الإبتدائي إلزامي في الجنايات دون الجنح والمخالفات .
(3) يوجب القانون تعيين مدافع لكل متهم بجناية لم ينتخب من يقوم بالدفاع عنه (المادة 188 من قانون الإجراءات الجنائية) ، ولا يوجب ذلك بالنسبة للمتهمين بالجنح والمخالفات .
(4) تنقضي الدعوى الجنائية في الجنايات بمضي عشر سنوات ، وفي الجنح بمضي ثلاث سنوات ، وفي المخالفات بمضي سنة واحدة (المادة 15 من قانون الإجراءات الجنائية) .
(5) تسقط العقوبة المحكوم بها في جناية بمضي عشرين سنة إلا عقوبة الإعدام فلا تسقط إلا بمضي ثلاثين سنة وتسقط العقوبة المحكوم بها في جنحة بمضي خمس سنوات، وتسقط العقوبة المحكوم بها في مخالفة بمضی سنتين (المادة 528 من قانون الإجراءات الجنائية).
مقارنة بين السجن والحبس: يشترك السجن والحبس غالباً في مكان تنفيذهما ، إذ تنفذان في السجون العمومية ، والاتحاد في مكان التنفيذ يعني الإتحاد في النظام العقابي.
ولكن أوجه الإختلاف بين العقوبتين عديدة: فالحد الأدنى للسجن ثلاث سنوات وللحبس أربع وعشرون ساعة ، والحد الأقصى للسجن خمس عشرة سنة وللحبس ثلاث سنوات، والسجن عقوبة جنايات في حين أن الحبس إحدى عقوبتي الجنح، ويترتب على هذا الفرق اختلاف في الأحكام التي يقررها القانون لهما: فالحكم بالحبس لا تترتب عليه العقوبات التبعية التي تترتب على الحكم بالسجن ، وأهم هذه العقوبات حالات الحرمان من الحقوق والمزايا التي تنص عليها المادة 25 من قانون العقوبات، ولا يخضع الحبس بإعتباره سابقة في العود للقواعد التي يخضع لها السجن كسابقة في العود، والسجن أشد من الحبس، ولذلك فإنه إذا حكم بهما معاً نفذ السجن أولاً بإعتباره أشد العقوبتين، وفي النهاية، فإن المحكوم عليه بالسجن يلتزم بالعمل دائماً ولا يجوز له أن يطلب إستبدال الشغل خارج السجن بعقوبته، في حين أن المحكوم عليه بالحبس - إذا كان حبساً بسيطاً - لا يلتزم بالعمل، ويجوز له عند توافر شروط معينة أن يطلب استبدال الشغل خارج السجن بعقوبته.
(شرح قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ محمود نجيب حسني، الطبعة السابعة 2012 دار النهضة العربية، الصفحة: 59).
يلاحظ أن المشرع جعل عقوبة الجنايات من نوع مختلف عن عقوبات الجنح والمخالفات، فالجنح يعاقب عليها بالحبس أو بالغرامة، والمخالفات يعاقب عليها بالغرامة فقط.
ويمكن التمييز بين الجنح والمخالفات، فإذا كانت العقوبة المقررة عن الجريمة هي الغرامة فإن الأمر يتوقف على مقدارها، ويحدد مقدار عقوبة الغرامة بالرجوع إلى حدها الأقصى دون الأدنى، فإذا زاد الحد الأقصى لعقوبة الغرامة عن مائة جنيه فالجريمة جنحة، وإذا لم يزد عن ذلك فالجريمة مخالفة.
وعلى هذا فإن الحد الأدنى لعقوبة الغرامة لا أهمية له في التفرقة بين الجنحة والمخالفة، لأنه يجوز أن يصل في أيهما إلى مائة قرش فقط.
ولا يجوز أن يزيد الحد الأقصى للغرامة في الجنح عن خمس مائة جنيه (المادة22 عقوبات).
والمعول عليه في تطبيق هذا المعيار هو العقوبات الأصلية دون العقوبات التبعية أو التكميلية كمراقبة البوليس أو المصادرة.
كما أن العبرة هي بالتكييف الذي تضيفه المحكمة على الجريمة وليس بالتكييف الذي ترفع به النيابة العامة الدعوى، فإذا كانت النيابة العامة قد حركت الدعوى على أساس أن الجريمة تستحق طبقاً للقانون عقوبة الجناية، غير أن المحكمة لم تأخذ بما ذهبت إليه واعتبرت أن القانون يقرر للجريمة عقوبة الجنحة، فإن العبرة تكون بما رأته المحكمة.(الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثاني، الصفحة : 164).
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة: .
(مادة 13) المخالفات: هي الجرائم المعاقب عليها بالغرامة التي لا يزيد أقصى مقدارها على مائة جنيه.
(المواد من (9) - (13)):
عني في المادتين التاسعة والعاشرة بالأخذ بالتقسيم الثلاثي للجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات، وهو ما أخذ به قانون العقوبات المصري منذ زمن بعيد، واستقر في التطبيق، واعتبرت المادة التاسعة جميع الجرائم الحدية من الجنايات أما الجرائم التعزيرية فإن اندراجها تحت هذا التقسيم الثلاثي يتحدد وفقا لنوع العقوبة الأصلية المقررة لها في القانون، وهي قاعدة مقررة في قانون العقوبات.
ونصت المادة الحادية عشرة على الجنايات التعزيرية، وهي الجرائم المعاقب عليها بالعقوبات الآتية: الإعدام تعزيرا، السجن المؤبد، السجن المؤقت وقد ابتعد المشروع عن استخدام تعبير الأشغال الشاقة كنوع من العقوبات المعروفة في القانون الحالي؛ احتراماً لكرامة الإنسان، وأدمج بذلك عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة - التي كانت معروفة في القانون - مع عقوبة السجن، وسميت بالسجن المؤقت.
أما المادة الثانية عشرة فقد حددت عقوبات الجنح، وهي: الحبس والجلد تعزيراً ، والغرامة التي يزيد أقصى مقدارها على مائة جنيه.
وبمقتضى هذه المادة فقد أدخلت عقوبة الجلد لتكون ضمن عقوبات الجنح، وهو نظر جدید مستمد من الأصول الإسلامية في سياسة العقوبات، فالجلد يصلح لمواجهة العديد من الجرائم المتوسطة، والتي لا يراد أن تؤثر العقوبة فيها على مستقبل الشخص أو أسرته بأي أثر ومن المعروف أن عقوبة الجلد يؤخذ بها في بعض النظم الاجتماعية المختلفة.
وحددت المادة الثالثة عشرة عقوبة المخالفة، ومن الثابت أن الشرع الإسلامي يجيز التعزير بتغريم المال.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 254
تَعْزِيرٌ
التَّعْرِيفُ :
التَّعْزِيرُ لُغَةً: مَصْدَرُ عَزَّرَ مِنَ الْعَزْرِ، وَهُوَ الرَّدُّ وَالْمَنْعُ، وَيُقَالُ: عَزَّرَ أَخَاهُ بِمَعْنَى: نَصَرَهُ، لأِنَّهُ مَنَعَ عَدُوَّهُ مِنْ أَنْ يُؤْذِيَهُ، وَيُقَالُ: عَزَّرْته بِمَعْنَى: وَقَّرْته، وَأَيْضًا: أَدَّبْته، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الأْضْدَادِ. وَسُمِّيَتِ الْعُقُوبَةُ تَعْزِيرًا، لأِنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَدْفَعَ الْجَانِيَ وَتَرُدَّهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْجَرَائِمِ، أَوِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ، أَوْ لآِدَمِيٍّ، فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلاَ كَفَّارَةَ غَالِبًا .
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الْحَدُّ :
- الْحَدُّ لُغَةً: الْمَنْعُ وَاصْطِلاَحًا: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى، أَوْ لِلْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ.
ب - الْقِصَاصُ :
- الْقِصَاصُ لُغَةً: تَتَبُّعُ الأْثَرِ. وَاصْطِلاَحًا: هُوَ أَنْ يُفْعَلَ بِالْجَانِي مِثْلُ مَا فَعَلَ.
ج - الْكَفَّارَةُ :
الْكَفَّارَةُ لُغَةً: مِنَ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ الْمَحْوُ، وَالْكَفَّارَ ةُ جَزَاءٌ مُقَدَّرٌ مِنَ الشَّرْعِ، لِمَحْوِ الذَّنْبِ.
وَيَخْتَلِفُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا:
أ - فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، إِذَا ثَبَتَتِ الْجَرِيمَةُ الْمُوجِبَةُ لَهُمَا لَدَى الْقَاضِي شَرْعًا، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِالْحَدِّ أَوِ الْقِصَاصِ عَلَى حَسَبِ الأْحْوَالِ، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي الْعُقُوبَةِ، بَلْ هُوَ يُطَبِّقُ الْعُقُوبَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا شَرْعًا بِدُونِ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، وَلاَ يُحْكَمُ بِالْقِصَاصِ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ، وَلَهُ هُنَا التَّعْزِيرُ. وَمَرَدُّ ذَلِكَ: أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلأْفْرَادِ، بِخِلاَفِ الْحَدِّ.
وَفِي التَّعْزِيرِ يَخْتَارُ الْقَاضِي مِنَ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُنَاسِبُ الْحَالَ، فَيَجِبُ عَلَى الَّذِينَ لَهُمْ سُلْطَةُ التَّعْزِيرِ الاِجْتِهَادُ فِي اخْتِيَارِ الأْصْلَحِ، لاِخْتِلاَفِ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ مَرَاتِبِ النَّاسِ، وَبِاخْتِلاَفِ الْمَعَاصِي .
ب - إِقَامَةُ الْحَدِّ الْوَاجِبِ لِحَقِّ اللَّهِ لاَ عَفْوَ فِيهِ وَلاَ شَفَاعَةَ وَلاَ إِسْقَاطَ، إِذَا وَصَلَ الأْمْرُ لِلْحَاكِمِ، وَثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ إِذَا لَمْ يَعْفُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِيهِ. وَالتَّعْزِيرُ إِذَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ إِقَامَتُهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْعَفْوُ وَالشَّفَاعَةُ إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، أَوِ انْزَجَرَ الْجَانِي بِدُونِهِ، وَ إِذَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْفَرْدِ فَلَهُ تَرْكُهُ الْعَفْوَ وَبِغَيْرِهِ، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى، وَ إِذَا طَالَبَ صَاحِبُهُ لاَ يَكُونُ لِوَلِيِّ الأْمْرِ عَفْوٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَلاَ إِسْقَاطٌ .
ج - إِثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الاِعْتِرَافِ، بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ. وَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ: لاَ يُؤْخَذُ فِيهِ بِأَقْوَالِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَشَاهِدٍ، وَلاَ بِالشَّهَادَةِ السَّمَاعِيَّةِ، وَلاَ بِالْيَمِينِ، وَلاَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ. بِخِلاَفِ التَّعْزِيرِ فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ، وَبِغَيْرِهِ .
د - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ أَنَّ مَنْ حَدَّهُ الإْمَامُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَدَمُهُ هَدَرٌ، لأِنَّ الإْمَامَ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لاَ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ. أَمَّا التَّعْزِيرُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي التَّعْزِيرِ. أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فَالتَّعْزِيرُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه ، إِذْ أَرْهَبَ امْرَأَةً فَفَزِعَتْ فَزَعًا، فَدَفَعَتِ الْفَزِعَةُ فِي رَحِمِهَا، فَتَحَرَّكَ وَلَدُهَا، فَخَرَجَتْ، فَأَخَذَهَا الْمَخَاضُ، فَأَلْقَتْ غُلاَمًا جَنِينًا، فَأُتِيَ عُمَرُ رضي الله عنه بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ أَمْرَهَا، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا: مَا نَرَى عَلَيْك شَيْئًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا أَنْتَ مُعَلِّمٌ وَمُؤَدِّبٌ، وَفِي الْقَوْمِ عَلِيٌّ رضي الله عنه ، وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ. قَالَ: فَمَا تَقُولُ: أَنْتَ يَا أَبَا الْحَسَنِ قَالَ: أَقُولُ: إِنْ كَانُوا قَارَبُوك فِي الْهَوَى فَقَدْ أَثِمُوا، وَإِنْ كَانَ هَذَا جَهْدَ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا، وَأَرَى عَلَيْكَ الدِّيَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: صَدَقْتَ، اذْهَبْ فَاقْسِمْهَا عَلَى قَوْمِكَ .
أَمَّا مَنْ يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ فِي النِّهَايَةِ، فَقِيلَ: إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ وَلِيِّ الأْمْرِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
هـ - إِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلاَفِ التَّعْزِيرِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ .
و - يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْحُدُودِ إِنْ ثَبَتَتْ بِالإْقْرَارِ، أَمَّا التَّعْزِيرُ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّجُوعُ.
ز - إِنَّ الْحَدَّ لاَ يَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَيَجُوزُ تَعْزِيرُهُ.
ح - إِنَّ الْحَدَّ قَدْ يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلاَفِ التَّعْزِيرِ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: عَلَى أَنَّ الأْصْلَ فِي التَّعْزِيرِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا، وَلاَ كَفَّارَةَ.
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ حَالِهِ وَحَالِ فَاعِلِهِ .
حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ :
التَّعْزِيرُ مَشْرُوعٌ لِرَدْعِ الْجَانِي وَزَجْرِهِ، وَإِصْلاَحِهِ وَتَهْذِيبِهِ. قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: إِنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّعْزِيرِ الزَّجْرُ. وَسَمَّى التَّعْزِيرَاتِ: بِالزَّوَاجِرِ غَيْرِ الْمُقَدَّرَةِ .
وَالزَّجْرُ مَعْنَاهُ: مَنْعُ الْجَانِي مِنْ مُعَاوَدَةِ الْجَرِيمَةِ، وَمَنْعُ غَيْرِهِ مِنِ ارْتِكَابِهَا، وَمِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، كَتَرْكِ الصَّلاَةِ وَالْمُمَاطَلَةِ فِي أَدَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ .
أَمَّا الإْصْلاَحُ وَالتَّهْذِيبُ فَهُمَا مِنْ مَقَاصِدِ التَّعْزِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الزَّيْلَعِيُّ بِقَوْلِهِ: التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ. وَمِثْلُهُ تَصْرِيحُ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ فَرْحُونَ بِأَنَّ: التَّعْزِيرَ تَأْدِيبُ اسْتِصْلاَحٍ وَزَجْرٍ.
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْحَبْسَ غَيْرَ الْمُحَدَّدِ الْمُدَّةِ حَدُّهُ التَّوْبَةُ وَصَلاَحُ حَالِ الْجَانِي . وَقَالُوا: إِنَّ التَّعْزِيرَ شُرِعَ لِلتَّطْهِيرِ؛ لأِنَّ ذَلِكَ سَبِيلٌ لإِصْلاَحِ الْجَانِي. وَقَالُوا: الزَّوَاجِرُ غَيْرُ الْمُقَدَّرَةِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، لِدَفْعِ الْفَسَادِ كَالْحُدُودِ.
وَلَيْسَ التَّعْزِيرُ لِلتَّعْذِيبِ، أَوْ إِهْدَارُ الآْدَمِيَّةِ، أَوِ الإْتْلاَفُ، حَيْثُ لاَ يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الزَّيْلَعِيُّ: التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ، وَلاَ يَجُوزُ الإْتْلاَفُ، وَفِعْلُهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ. وَيَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ: التَّعْزِيرُ إِنَّمَا يَجُوزُ مِنْهُ مَا أُمِنَتْ عَاقِبَتُهُ غَالِبًا، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ. وَيَقُولُ الْبُهُوتِيُّ:
لاَ يَجُوزُ قَطْعُ شَيْءٍ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَلاَ جَرْحُهُ، لأِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ يُقْتَدَى بِهِ؛ وَلأِنَّ الْوَاجِبَ أَدَبٌ، وَالأْدَبُ لاَ يَكُونُ بِالإْتْلاَفِ . وَكُلُّ ضَرْبٍ يُؤَدِّي إِلَى الإْتْلاَفِ مَمْنُوعٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الاِحْتِمَالُ نَاشِئًا مِنْ آلَةِ الضَّرْبِ، أَمْ مِنْ حَالَةِ الْجَانِي نَفْسِهِ، أَمْ مِنْ مَوْضِعِ الضَّرْبِ، وَتَفْرِيعًا عَلَى ذَلِكَ: مَنَعَ الْفُقَهَاءُ الضَّرْبَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي قَدْ يُؤَدِّي فِيهَا إِلَى الإْتْلاَفِ. وَلِذَلِكَ فَالرَّاجِحُ: أَنَّ الضَّرْبَ عَلَى الْوَجْهِ وَالْفَرْجِ وَالْبَطْنِ وَالصَّدْرِ مَمْنُوعٌ .
وَعَلَى الأْسَاسِ الْمُتَقَدِّمِ مَنَعَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّعْزِيرِ: الصَّفْعَ، وَحَلْقَ اللِّحْيَةِ، وَتَسْوِيدَ الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ قَالَ بِهِ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ، قَالَ الأْسْرُوشَنِيُّ: لاَ يُبَاحُ التَّعْزِيرُ بِالصَّفْعِ؛ لأِنَّهُ مِنْ أَعْلَى مَا يَكُونُ مِنَ الاِسْتِخْفَافِ. وَقَالَ: تَسْوِيدُ الْوَجْهِ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ مَمْنُوعٌ بِالإْجْمَاعِ، أَيْ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ . قَالَ الْبُهُوتِيُّ: (يَحْرُمُ) التَّعْزِيرُ (بِحَلْقِ لِحْيَتِهِ) لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُثْلَةِ (وَلاَ تَسْوِيدِ وَجْهِهِ). وَالتَّعْزِيرُ بِالْقَتْلِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ يُشْتَرَطُ فِي آلَتِهِ: أَنْ تَكُونَ حَادَّةً مِنْ شَأْنِهَا إِحْدَاثُ الْقَتْلِ بِسُهُولَةٍ، بِحَيْثُ لاَ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْقَتْلُ، وَأَلاَّ تَكُونَ كَالَّةً، فَذَلِكَ مِنَ الْمُثْلَةِ، وَالرَّسُولُ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الإْحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَ إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَ إِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» وَفِي ذَلِكَ أَمْرٌ بِالإْحْسَانِ فِي الْقَتْلِ، وَإِرَاحَةُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ذَبْحَهُ مِنَ الأْنْعَامِ، فَالإْحْسَانُ فِي الآْدَمِيِّ أَوْلَى .
الْمَعَاصِي الَّتِي شُرِعَ فِيهَا التَّعْزِيرُ :
الْمَعْصِيَةُ: فِعْلُ مَا حَرُمَ، وَتَرْكُ مَا فُرِضَ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كَوْنُ الْعِقَابِ دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا.
أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى: أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ مَعْصِيَةٌ فِيهَا التَّعْزِيرُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ
وَمِثَالُ تَرْكِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُمْ: مَنْعُ الزَّكَاةِ، وَتَرْكُ قَضَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمُ أَدَاءِ الأْمَانَةِ، وَعَدَمُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَكَتْمُ الْبَائِعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُهُ، كَأَنْ يُدَلِّسَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبًا خَفِيًّا وَنَحْوِهِ، وَالشَّاهِدُ وَالْمُفْتِي وَالْحَاكِمُ يُعَزِّرُونَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ .
وَمِثَالُ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ: سَرِقَةُ مَا لاَ قَطْعَ فِيهِ، لِعَدَمِ تَوَافُرِ شُرُوطِ النِّصَابِ أَوِ الْحِرْزِ مَثَلاً، وَتَقْبِيلُ الأْجْنَبِيَّةِ، وَالْخَلْوَةُ بِهَا، وَالْغِشُّ فِي الأْسْوَاقِ، وَالْعَمَلُ بِالرِّبَا، وَشَهَادَةُ الزُّورِ .
وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُبَاحًا فِي ذَاتِهِ لَكِنَّهُ يُؤَدِّي لِمَفْسَدَةٍ، وَحُكْمُهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ - وَعَلَى الْخُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّهُ يَصِيرُ حَرَامًا، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَارْتِكَابُ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ فِيهِ التَّعْزِيرُ، مَا دَامَ لَيْسَتْ لَهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ.
وَمَا ذُكِرَ هُوَ عَنِ الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ، أَمَّا عَنِ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ - فَعِنْدَ بَعْضِ الأْصُولِيِّينَ: الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَمَطْلُوبٌ فِعْلُهُ، وَالْمَكْرُوهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمَطْلُوبٌ تَرْكُهُ، وَيُمَيَّزُ الْمَنْدُوبُ عَنِ الْوَاجِبِ أَنَّ الذَّمَّ يَسْقُطُ عَنْ تَارِكِ الْمَنْدُوبِ، لَكِنَّهُ يَلْحَقُ تَارِكَ الْوَاجِبِ. وَيُمَيَّزُ الْمَكْرُوهُ عَنِ الْمُحَرَّمِ: أَنَّ الذَّمَّ يَسْقُطُ عَنْ مُرْتَكِبِ الْمَكْرُوهِ، وَلَكِنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى مُرْتَكِبِ الْمُحَرَّمِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ أَوْ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا؛ لأِنَّ الْعِصْيَانَ اسْمُ ذَمٍّ، وَالذَّمُّ أُسْقِطَ عَنْهُمَا، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ مَنْ يَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ أَوْ يَأْتِي الْمَكْرُوهَ مُخَالِفًا، وَغَيْرَ مُمْتَثِلٍ.
وَعِنْدَ آخَرِينَ: الْمَنْدُوبُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الأْمْرِ، وَالْمَكْرُوهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ النَّهْيِ، فَيَكُونُ الْمَنْدُوبُ مُرَغَّبًا فِي فِعْلِهِ، وَالْمَكْرُوهُ مُرَغَّبًا عَنْهُ. وَعِنْدَهُمْ لاَ يُعْتَبَرُ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ وَفَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْزِيرِ تَارِكِ الْمَنْدُوبِ، وَفَاعِلُ الْمَكْرُوهِ، فَفَرِيقٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ؛ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَلاَ تَعْزِيرَ بِغَيْرِ تَكْلِيفٍ. وَفَرِيقٌ أَجَازَهُ، اسْتِنَادًا عَلَى فِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه ، فَقَدْ عَزَّرَ رَجُلاً أَضْجَعَ شَاةً لِذَبْحِهَا، وَأَخَذَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ وَهِيَ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ، وَهَذَا الْفِعْلُ لَيْسَ إِلاَّ مَكْرُوهًا، وَيَأْخُذُ هَذَا الْحُكْمَ مَنْ يَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ.
وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: قَدْ يُشْرَعُ التَّعْزِيرُ وَلاَ مَعْصِيَةَ، كَتَأْدِيبِ طِفْلٍ، وَكَافِرٍ، وَكَمَنْ يَكْتَسِبُ بِآلَةِ لَهْوٍ لاَ مَعْصِيَةَ فِيهَا .
اجْتِمَاعُ التَّعْزِيرِ مَعَ الْحَدِّ أَوِ الْقِصَاصِ أَوِ الْكَفَّارَةِ :
قَدْ يَجْتَمِعُ التَّعْزِيرُ مَعَ الْحَدِّ، فَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَرَوْنَ تَغْرِيبَ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ مِنْ حَدِّ الزِّنَى. فَعِنْدَهُمْ أَنَّ حَدَّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ لاَ غَيْرُ، وَلَكِنَّهُمْ يُجِيزُونَ تَغْرِيبَهُ بَعْدَ الْجَلْدِ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ . وَيَجُوزُ تَعْزِيرُ شَارِبِ الْخَمْرِ بِالْقَوْلِ، بَعْدَ إِقَامَةِ حَدِّ الشُّرْبِ عَلَيْهِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم « أَمَرَ بِتَبْكِيتِ شَارِبِ الْخَمْرِ بَعْدَ الضَّرْبِ» .
وَالتَّبْكِيتُ تَعْزِيرٌ بِالْقَوْلِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْجَارِحَ عَمْدًا يُقْتَصُّ مِنْهُ وَيُؤَدَّبُ. وَمِنْ ثَمَّ فَالتَّعْزِيرُ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَ الْقِصَاصِ فِي الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا. وَالشَّافِعِيُّ يُجِيزُ اجْتِمَاعَ التَّعْزِيرِ مَعَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْبَدَنِ، وَهُوَ أَيْضًا يَقُولُ بِجَوَازِ اجْتِمَاعِ التَّعْزِيرِ مَعَ الْحَدِّ، مِثْلُ تَعْلِيقِ يَدِ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ بَعْدَ قَطْعِهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، زِيَادَةً فِي النَّكَالِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بِذَلِكَ، لِمَا رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ «أَنَّ الرَّسُولَ صلي الله عليه وسلم قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ» . وَأَنَّ عَلِيًّا فَعَلَ ذَلِكَ، وَمِثْلُ: الزِّيَادَةِ عَنِ الأْرْبَعِينَ فِي حَدِّ الشُّرْبِ؛ لأِنَّ حَدَّ الشُّرْبِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعُونَ .
وَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّعْزِيرُ مَعَ الْكَفَّارَةِ. فَمِنَ الْمَعَاصِي مَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ مَعَ الأْدَبِ، كَالْجِمَاعِ فِي حَرَامٍ، وَفِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَوَطْءِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَمِّدًا فِي جَمِيعِهَا.
وَقِيلَ بِالتَّعْزِيرِ كَذَلِكَ فِي حَلِفِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ، وَفِيهَا التَّعْزِيرُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ فِي الْقَتْلِ الَّذِي لاَ قَوَدَ فِيهِ، كَالْقَتْلِ الَّذِي عُفِيَ عَنِ الْقِصَاصِ فِيهِ، تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ، وَتُسْتَحَبُّ لَهُ الْكَفَّارَةُ، وَيُضْرَبُ مِائَةً، وَيُحْبَسُ سَنَةً، وَهَذَا تَعْزِيرٌ قَدِ اجْتَمَعَ مَعَ الْكَفَّارَةِ .
وَقَالَ الْبَعْضُ فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ: بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ مَعَ الْكَفَّارَةِ، لأِنَّ هَذِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَنْزِلَةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ، وَلَيْسَتْ لأِجْلِ الْفِعْلِ، بَلْ هِيَ بَدَلُ النَّفْسِ الَّتِي فَاتَتْ بِالْجِنَايَةِ. وَنَفْسُ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ - وَهُوَ جِنَايَةُ الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ - لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ. وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّهُ إِذَا جَنَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ دُونَ أَنْ يُتْلِفَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَتْلَفَ بِلاَ جِنَايَةٍ مُحَرَّمَةٍ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِلاَ تَعْزِيرٍ. وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُجَامِعِ فِي الصِّيَامِ وَالإْحْرَامِ .
التَّعْزِيرُ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْعَبْدِ :
يَنْقَسِمُ التَّعْزِيرُ إِلَى مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ. وَالْمُرَادُ بِالأْوَّلِ غَالِبًا: مَا تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعَامَّةِ، وَمَا يَنْدَفِعُ بِهِ ضَرَرٌ عَامٌّ عَنِ النَّاسِ، مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِأَحَدٍ. وَالتَّعْزِيرُ هُنَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ؛ لأِنَّ إِخْلاَءَ الْبِلاَدِ مِنَ الْفَسَادِ وَاجِبٌ مَشْرُوعٌ، وَفِيهِ دَفْعٌ لِلضَّرَرِ عَنِ الأْمَّةِ، وَتَحْقِيقُ نَفْعٍ عَامٍّ. وَيُرَادُ بِالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ لأِحَدِ الأْفْرَادِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعْزِيرُ خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ، كَتَعْزِيرِ تَارِكِ الصَّلاَةِ، وَالْمُفْطِرِ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الشَّرَابِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِحَقِّ اللَّهِ وَلِلْفَرْدِ، مَعَ غَلَبَةِ حَقِّ اللَّهِ، كَنَحْوِ تَقْبِيلِ زَوْجَةِ آخَرَ وَعِنَاقِهَا.
وَقَدْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لِحَقِّ الْفَرْدِ، كَمَا فِي السَّبِّ وَالشَّتْمِ وَالْمُوَاثَبَةِ. وَقَدْ قِيلَ بِحَالاَتٍ يَكُونُ فِيهَا التَّعْزِيرُ لِحَقِّ الْفَرْدِ وَحْدَهُ، كَالصَّبِيِّ يَشْتُمُ رَجُلاً لأِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَبْقَى تَعْزِيرُهُ مُتَمَحِّضًا لِحَقِّ الْمَشْتُومِ .
وَتَظْهَرُ أَهَمِّيَّةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَوْعَيِ التَّعْزِيرِ فِي أُمُورٍ:
مِنْهَا: أَنَّ التَّعْزِيرَ الْوَاجِبَ حَقًّا لِلْفَرْدِ أَوِ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّهُ - وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى - إِذَا طَلَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِيهِ لَزِمَتْ إِجَابَتُهُ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي فِيهِ الإْسْقَاطُ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الْعَفْوُ أَوِ الشَّفَاعَةُ مِنْ وَلِيِّ الأْمْرِ. أَمَّا التَّعْزِيرُ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ فَإِنَّ الْعَفْوَ فِيهِ مِنْ وَلِيِّ الأْمْرِ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الشَّفَاعَةُ إِنْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، أَوْ حَصَلَ انْزِجَارُ الْجَانِي بِدُونِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم قَوْلُهُ «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا يَشَاءُ» .
وَقَدْ حَصَلَ الْخِلاَفُ فِي التَّعْزِيرِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى وَلِيِّ الأْمْرِ أَمْ لاَ فَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ قَالُوا بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ فِيمَا شَرَعَ فِيهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، اسْتِنَادًا إِلَى «أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم : إِنِّي لَقِيتُ امْرَأَةً فَأَصَبْتُ مِنْهَا دُونَ أَنْ أَطَأَهَا. فَقَالَ صلي الله عليه وسلم «أَصَلَّيْت مَعَنَا»؟ قَالَ نَعَمْ: فَتَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ: ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) . وَإِلَى قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم فِي الأْنْصَارِ. «اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» وَإِلَى «أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم فِي حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ لِلزُّبَيْرِ لَمْ يَرُقْهُ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَغَضِبَ. وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عَزَّرَهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ، وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ كَوَطْءِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ يَجِبُ امْتِثَالُ الأْمْرِ فِيهِ. أَمَّا مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِذَا كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، أَوْ كَانَ لاَ يَنْزَجِرُ الْجَانِي إِلاَّ بِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ كَالْحَدِّ، أَمَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْجَانِيَ يَنْزَجِرُ بِدُونِ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ. وَيَجُوزُ لِلإْمَامِ فِيهِ الْعَفْوُ إِنْ كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، خِلاَفُ مَا هُوَ مِنْ حَقِّ الأْفْرَادِ .
التَّعْزِيرُ عُقُوبَةٌ مُفَوَّضَةٌ :
الْمُرَادُ بِالتَّفَوُّضِ وَأَحْكَامِهِ :
- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ عُقُوبَةٌ مُفَوَّضَةٌ إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ، وَهَذَا التَّفْوِيضُ فِي التَّعْزِيرِ مِنْ أَهَمِّ أَوْجُهِ الْخِلاَفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِّ الَّذِي هُوَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ مِنَ الشَّارِعِ. وَعَلَى الْحَاكِمِ فِي تَقْدِيرِ عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ مُرَاعَاةُ حَالِ الْجَرِيمَةِ وَالْمُجْرِمِ. أَمَّا مُرَاعَاةُ حَالِ الْجَرِيمَةِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهُ قَوْلُ الأْسْرُوشَنِيِّ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ الْقَاضِي إِلَى سَبَبِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ وَلَمْ يَجِبْ لِمَانِعٍ وَعَارِضٍ، يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ أَقْصَى غَايَاتِهِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا لاَ يَجِبُ الْحَدُّ لاَ يَبْلُغُ أَقْصَى غَايَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الإْمَامِ . وَأَمَّا مُرَاعَاةُ حَالِ الْمُجْرِمِ فَيَقُولُ الزَّيْلَعِيُّ: إِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ التَّعْزِيرِ يُنْظَرُ إِلَى أَحْوَالِ الْجَانِينَ، فَإِِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْزَجِرُ بِالْيَسِيرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَنْزَجِرُ إِلاَّ بِالْكَثِيرِ. يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأْشْخَاصِ، فَلاَ مَعْنَى لِتَقْدِيرِهِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ، فَيَكُونُ مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، يُقِيمُهُ بِقَدْرِ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ .
وَيَقُولُ السِّنْدِيُّ: إِنَّ أَدْنَى التَّعْزِيرِ عَلَى مَا يَجْتَهِدُ الإْمَامُ فِي الْجَانِي، بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ؛ لأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّعْزِيرِ الزَّجْرُ، وَالنَّاسُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِي الاِنْزِجَارِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ الزَّجْرُ بِأَقَلِّ الضَّرَبَاتِ، وَيَتَغَيَّرُ بِذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَحْصُلُ لَهُ الزَّجْرُ بِالْكَثِيرِ مِنَ الضَّرْبِ . وَنُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ عَلَى قَدْرِ احْتِمَالِ الْمَضْرُوبِ.
وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ تَفْوِيضَ التَّعْزِيرِ، وَقَالُوا بِعَدَمِ تَفْوِيضِ ذَلِكَ لِلْقَاضِي، لاِخْتِلاَفِ حَالِ الْقُضَاةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ الطَّرَسُوسِيُّ فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ الْكَنْزِ. وَقَدْ أَيَّدُوا هَذَا الرَّأْيَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَفْوِيضِ التَّعْزِيرِ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّفْوِيضَ لِرَأْيِهِ مُطْلَقًا، بَلِ الْمَقْصُودُ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ. وَقَدْ ذَكَرَ السِّنْدِيُّ: أَنَّ عَدَمَ التَّفْوِيضِ هُوَ الرَّأْيُ الضَّعِيفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّرَسُوسِيُّ فِي أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُرَاعُونَ قَدْرَ الْجَانِي وَقَدْرَ الْجِنَايَةِ، فَمِنَ الْجَانِينَ مَنْ يُضْرَبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَامُ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ فِي الْمَحَافِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْتَزَعُ عِمَامَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَلُّ حِزَامُهُ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ الْمَقَادِيرُ، وَالأْجْنَاسُ، وَالصِّفَاتُ، بِاخْتِلاَفِ الْجَرَائِمِ، مِنْ حَيْثُ كِبَرِهَا، وَصِغَرِهَا، وَبِحَسَبِ حَالِ الْمُجْرِمِ نَفْسِهِ، وَبِحَسَبِ حَالِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ فِيهِ وَالْقَوْلِ، وَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الإْمَامِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأْزْمِنَةِ وَالأْمْكِنَةِ، وَتَطْبِيقًا لِذَلِكَ قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: رُبَّ تَعْزِيرٍ فِي بَلَدٍ يَكُونُ إِكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ، كَقَطْعِ الطَّيْلَسَانِ لَيْسَ تَعْزِيرًا فِي الشَّامِ بَلْ إِكْرَامٌ وَكَشْفُ الرَّأْسِ عِنْدَ الأْنْدَلُسِيِّينَ
لَيْسَ هَوَانًا مَعَ أَنَّهُ فِي مِصْرَ وَالْعِرَاقِ هَوَانٌ. وَقَالَ: إِنَّهُ يُلاَحَظُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا نَفْسُ الشَّخْصِ، فَإِنَّ فِي الشَّامِ مَثَلاً مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الطَّيْلَسَانَ وَأَلِفَهُ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - يُعْتَبَرُ قَطْعُهُ تَعْزِيرًا لَهُمْ. فَمَا ذُكِرَ ظَاهِرٌ مِنْهُ: أَنَّ الأَْمْرَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى اخْتِلاَفِ التَّعْزِيرِ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالأَْشْخَاصِ، مَعَ كَوْنِ الْفِعْلِ مَحَلًّا لِذَلِكَ، بَلْ إِنَّ هَذَا الاِخْتِلاَفَ قَدْ يَجْعَلُ الْفِعْلَ نَفْسَهُ غَيْرَ مُعَاقَبٍ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَكْرُمَةً .
الأْنْوَاعُ الْجَائِزَةُ فِي عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ :
- يَجُوزُ فِي مَجَالِ التَّعْزِيرِ: إِيقَاعُ عُقُوبَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَخْتَارُ مِنْهَا الْحَاكِمُ فِي كُلِّ حَالَةٍ مَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا مُحَقِّقًا لأِغْرَاضِ التَّعْزِيرِ.
وَهَذِهِ الْعُقُوبَاتُ قَدْ تَنْصَبُّ عَلَى الْبَدَنِ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَيِّدَةً لِلْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ تُصِيبُ الْمَالَ، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذَا الإْجْمَالِ.
الْعُقُوبَاتُ الْبَدَنِيَّةُ :
أ - التَّعْزِيرُ بِالْقَتْلِ :
الأْصْلُ: أَنَّهُ لاَ يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ الْقَتْلَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْقَتْلِ تَعْزِيرًا فِي جَرَائِمَ مُعَيَّنَةٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ، مِنْ ذَلِكَ: قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إِذَا تَجَسَّسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَهَبَ إِلَى جَوَازِ تَعْزِيرِهِ بِالْقَتْلِ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَتَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ. وَمِنْ ذَلِكَ: قَتْلُ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالْجَهْمِيَّةِ. ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّعْزِيرَ بِالْقَتْلِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنَ الْجَرَائِمِ، إِذَا كَانَ جِنْسُهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ، كَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللِّوَاطُ أَوِ الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ . وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ إِذَا لَمْ يَنْقَطِعْ شَرُّهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَرْفَجَةَ الأْشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» .
ب - التَّعْزِيرُ بِالْجَلْدِ :
- الْجَلْدُ فِي التَّعْزِيرِ مَشْرُوعٌ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم : «لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى» .
وَفِي الْحَرِيسَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا غُرْمُ ثَمَنِهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سَرِقَةِ التَّمْرِ يُؤْخَذُ مِنْ أَكْمَامِهِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وآله وسلم عَنِ التَّمْرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ مِنْهُ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «سَمِعْتُ رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنِ الْحَرِيسَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي مَرَاتِعِهَا؟ قَالَ: فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ. وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا فِي أَكْمَامِهَا؟ قَالَ: مَنْ أَخَذَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنِ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ، إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَلاِبْنِ مَاجَهْ مَعْنَاهُ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي آخِرِهِ: «وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ، وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ» .
وَقَدْ سَارَ عَلَى هَذِهِ الْعُقُوبَةِ فِي التَّعْزِيرِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْحُكَّامِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ .
مِقْدَارُ الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ :
مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ لاَ يَبْلُغُ الْحَدَّ، لِحَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ» وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَقْصَى الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ:
فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لاَ يَزِيدُ عَنْ تِسْعَةٍ وَثَلاَثِينَ سَوْطًا بِالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، أَخْذًا عَنِ الشَّعْبِيِّ، إِذْ صَرَفَ كَلِمَةَ الْحَدِّ فِي الْحَدِيثِ إِلَى حَدِّ الأْرِقَّاءِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ. وَأَبُو يُوسُفَ قَالَ بِذَلِكَ أَوَّلاً، ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى اعْتِبَارِ أَقَلِّ حُدُودِ الأْحْرَارِ وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً.
وَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ الْحَدِيثَ ذَكَرَ حَدًّا مُنَكَّرًا، وَأَرْبَعُونَ جَلْدَةً حَدٌّ كَامِلٌ فِي الأْرِقَّاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَى الأْقَلِّ. وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَمَدَ عَلَى أَنَّ الأْصْلَ فِي الإْنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، فَلَيْسَ حَدًّا كَامِلاً، وَمُطْلَقُ الاِسْمِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ فِي كُلِّ بَابٍ .
وَفِي عَدَدِ الْجَلَدَاتِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ التَّعْزِيرَ يَصِلُ إِلَى تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَهِيَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْهُ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ زُفَرُ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لأِنَّهُ لَيْسَ حَدًّا فَيَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَسْكُوتِ عَنِ النَّهْيِ عَنْهُ فِي حَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ...»
وَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ التَّعْزِيرَ لاَ يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَثَرًا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَيْضًا، وَأَنَّهُمَا قَالاَ: فِي التَّعْزِيرِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ. وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا فِي نُقْصَانِ الْخَمْسَةِ، وَاعْتُبِرَ عَمَلُهُمَا أَدْنَى الْحُدُودِ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ الْمَازِرِيُّ: إِنَّ تَحْدِيدَ الْعُقُوبَةِ لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ: إِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ يُجِيزُ فِي الْعُقُوبَاتِ فَوْقَ الْحَدِّ. وَحُكِيَ عَنْ أَشْهَبَ: أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ قَدْ يُزَادُ عَلَى الْحَدِّ . وَعَلَى ذَلِكَ فَالرَّاجِحُ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الإْمَامَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ التَّعْزِيرَ عَنِ الْحَدِّ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لاَ يَشُوبُهَا الْهَوَى.
وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ: فِعْلُ عُمَرَ فِي مَعْنِ بْنِ زِيَادٍ لَمَّا زَوَّرَ كِتَابًا عَلَى عُمَرَ وَأَخَذَ بِهِ مِنْ صَاحِبِ بَيْتِ الْمَالِ مَالاً، إِذْ جَلَدَهُ مِائَةً، ثُمَّ مِائَةً أُخْرَى، ثُمَّ ثَالِثَةً، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا، كَمَا أَنَّهُ ضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِّ . وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ (الْحَدَّ) وَعِشْرِينَ سَوْطًا، لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ.
كَمَا رُوِيَ: أَنَّ أَبَا الأْسْوَدِ اسْتَخْلَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ فَأُتِيَ بِسَارِقٍ قَدْ جَمَعَ الْمَتَاعَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ، فَضَرَبَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ سَوْطًا وَخَلَّى سَبِيلَهُ . وَقَالُوا فِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ رضي الله عنه : «لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» إِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى زَمَنِ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم ؛ لأِنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِيَ مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرُ، وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فِي حَدٍّ، أَيْ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُقَدَّرِ حُدُودُهَا لأِنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ إِنْ كَانَ بِالْجَلْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ أَقَلِّ حُدُودِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، فَيَنْقُصُ فِي الْعَبْدِ عَنْ عِشْرِينَ، وَفِي الْحُرِّ عَنْ أَرْبَعِينَ، وَهُوَ حَدُّ الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ بِوُجُوبِ النَّقْصِ فِيهِمَا عَنْ عِشْرِينَ، لِحَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ» وَيَسْتَوِي فِي النَّقْصِ عَمَّا ذُكِرَ جَمِيعُ الْجَرَائِمِ عَلَى الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ بِقِيَاسِ كُلِّ جَرِيمَةٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا مِمَّا فِيهِ أَوْ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ، فَيَنْقُصُ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ تَعْزِيرُ مُقَدِّمَةِ الزِّنَى عَنْ حَدِّهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَتَعْزِيرُ السَّبِّ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الشُّرْبِ. وَقِيلَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَزِيدُ فِي أَكْثَرِ الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ عَنْ عَشْرِ جَلَدَاتٍ أَخْذًا بِحَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ: «لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» لِمَا اشْتَهَرَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَقَدْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَدْرِ جَلْدِ التَّعْزِيرِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ الْحَدَّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَالْمَقْصُودُ بِمُقْتَضَاهَا: أَنَّهُ لاَ يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ أَدْنَى حَدٍّ مَشْرُوعٍ، فَلاَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ؛ لأِنَّ الأْرْبَعِينَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ، وَلاَ يُجَاوِزُ تِسْعَةً وَثَلاَثِينَ سَوْطًا فِي الْحُرِّ، وَلاَ تِسْعَةَ عَشَرَ فِي الْعَبْدِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ سَوْطًا.
وَنَصُّ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنْ لاَ يُزَادَ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ فِي التَّعْزِيرِ، لِلأْثَرِ: «لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ...» إِلاَّ مَا وَرَدَ مِنَ الآْثَارِ مُخَصِّصًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا، وَوَطْءِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِلُ كَلاَمُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ فِي كُلِّ جَرِيمَةٍ حَدًّا مَشْرُوعًا فِي جِنْسِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حَدٍّ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا: أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَهَذَا تَعْزِيرٌ؛ لأِنَّ عِقَابَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ لِلْمُحْصَنِ الرَّجْمُ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي الرَّجُلِ الَّذِي وَطِئَ أَمَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَآخَرَ: أَنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ إِلاَّ سَوْطًا وَاحِدًا، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ زَادَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ رَأْيًا رَابِعًا: هُوَ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ، فَيَجْتَهِدُ فِيهِ وَلِيُّ الأْمْرِ عَلَى أَلاَّ يَبْلُغَ التَّعْزِيرُ فِيمَا فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ ذَلِكَ الْمُقَدَّرَ، فَالتَّعْزِيرُ عَلَى سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ مَثَلاً لاَ يُبْلَغُ بِهِ الْقَطْعَ، وَقَالاَ: إِنَّ هَذَا هُوَ أَعْدَلُ الأْقْوَالِ، وَإِنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَيْهِ، كَمَا مَرَّ فِي ضَرْبِ الَّذِي أَحَلَّتْ لَهُ امْرَأَتُهُ جَارِيَتَهَا مِائَةً لاَ الْحَدَّ وَهُوَ الرَّجْمُ، كَمَا أَنَّ عَلِيًّا وَعُمَرَ رضي الله عنهما ضَرَبَا رَجُلاً وَامْرَأَةً وُجِدَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ مِائَةً مِائَةً، وَحَكَمَ عُمَرُ رضي الله عنه فِيمَنْ قَلَّدَ خَاتَمَ بَيْتِ الْمَالِ بِضَرْبِهِ ثَلاَثَمِائَةٍ عَلَى مَرَّاتٍ، وَضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ لِلْبِدْعَةِ ضَرْبًا كَثِيرًا لَمْ يَعُدُّهُ .
وَخُلاَصَةُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ فِيهِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ التَّعْزِيرَ لاَ يَزِيدُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَمَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ لاَ يَزِيدُ عَلَى أَقَلِّ الْحُدُودِ، وَمَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ فِي جَرِيمَةٍ قَدْرَ الْحَدِّ فِيهَا، وَهُنَاكَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ لاَ يَتَقَيَّدُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى قَدْرِ الْجَرِيمَةِ، فِيمَا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ. وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمُ التَّحْدِيدُ سَوَاءٌ أَكَانَ بِعَشْرِ جَلَدَاتٍ أَمْ بِأَقَلَّ مِنْ أَدْنَى الْحُدُودِ أَمْ بِأَقَلَّ مِنَ الْحَدِّ الْمُقَرَّرِ لِجِنْسِ الْجَرِيمَةِ.
وَمَا ذُكِرَ هُوَ عَنِ الْحَدِّ الأْعْلَى، أَمَّا عَنِ الْحَدِّ الأْدْنَى فَقَدْ قَالَ الْقُدُورِيُّ: إِنَّهُ ثَلاَثُ جَلَدَاتٍ؛ لأِنَّ هَذَا الْعَدَدَ أَقَلُّ مَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ. وَلَكِنَّ غَالِبِيَّةَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الأْمْرَ فِي أَقَلِّ جَلْدِ التَّعْزِيرِ مَرْجِعُهُ الْحَاكِمُ، بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفِي لِلزَّجْرِ.
وَقَالَ فِي الْخُلاَصَةِ: إِنَّ اخْتِيَارَ التَّعْزِيرِ إِلَى الْقَاضِي مِنْ وَاحِدٍ إِلَى تِسْعَةٍ وَثَلاَثِينَ، وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ تَصْرِيحُ ابْنِ قُدَامَةَ، فَقَدْ قَالَ: إِنَّ أَقَلَّ التَّعْزِيرِ لَيْسَ مُقَدَّرًا فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الإْمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فِيمَا يَرَاهُ وَمَا تَقْتَضِيهِ حَالُ الشَّخْصِ .
ج - التَّعْزِيرُ بِالْحَبْسِ :
- الْحَبْسُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) وَقَوْلُهُ: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأْرْضِ) . فَقَدْ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّفْيِ هُنَا الْحَبْسُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ: «أَنَّ الرَّسُولَ صلي الله عليه وسلم حَبَسَ بِالْمَدِينَةِ أُنَاسًا فِي تُهْمَةِ دَمٍ، وَحَكَمَ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ، وَأَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ أَمْسَكَ رَجُلاً لآِخَرَ حَتَّى قَتَلَهُ: اقْتُلُوا الْقَاتِلَ، وَاصْبِرُوا الصَّابِرَ» . وَفُسِّرَتْ عِبَارَةُ «اصْبِرُوا الصَّابِرَ» بِحَبْسِهِ حَتَّى الْمَوْتِ؛ لأِنَّهُ حَبَسَ الْمَقْتُولَ لِلْمَوْتِ بِإِمْسَاكِهِ إِيَّاهُ.
وَأَمَّا الإْجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَلَى الْمُعَاقَبَةِ بِالْحَبْسِ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ يَصْلُحُ عُقُوبَةً فِي التَّعْزِيرِ. وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه سَجَنَ الْحُطَيْئَةَ عَلَى الْهَجْوِ، وَسَجَنَ صَبِيغًا عَلَى سُؤَالِهِ عَنِ الذَّارِيَاتِ، وَالْمُرْسَلاَتِ، وَالنَّازِعَاتِ، وَشِبْهِهِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه سَجَنَ ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ، وَكَانَ مِنْ لُصُوصِ بَنِي تَمِيمٍ وَفُتَّاكِهِمْ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه سَجَنَ بِالْكُوفَةِ. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه سَجَنَ بِمَكَّةَ، وَسَجَنَ فِي «دَارِمٍ» مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ لَمَّا امْتَنَعَ عَنْ بَيْعَتِهِ .
مُدَّةُ الْحَبْسِ فِي التَّعْزِيرِ :
الأْصْلُ أَنَّ تَقْدِيرَ مُدَّةِ الْحَبْسِ يَرْجِعُ إِلَى الْحَاكِمِ، مَعَ مُرَاعَاةِ ظُرُوفِ الشَّخْصِ، وَالْجَرِيمَةِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
وَقَدْ أَشَارَ الزَّيْلَعِيُّ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لِلْحَبْسِ مُدَّةٌ مُقَدَّرَةٌ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْحَبْسَ تَعْزِيرًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُجْرِمِ، وَبِاخْتِلاَفِ الْجَرِيمَةِ، فَمِنَ الْجَانِينَ مَنْ يُحْبَسُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ أَكْثَرُ، إِلَى غَايَةٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ.
لَكِنَّ الشِّرْبِينِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، ذَكَرَ أَنَّ شَرْطَ الْحَبْسِ: النَّقْصُ عَنْ سَنَةٍ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأْمِّ، وَصَرَّحَ بِهِ مُعْظَمُ الأْصْحَابِ.
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ .
د - التَّعْزِيرُ بِالنَّفْيِ (التَّغْرِيب) :
مَشْرُوعِيَّةُ التَّعْزِيرِ بِالنَّفْيِ :
التَّعْزِيرُ بِالنَّفْيِ مَشْرُوعٌ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإْجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأْرْضِ) وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ فِي الْحُدُودِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: «فَإِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَضَى بِالنَّفْيِ تَعْزِيرًا فِي الْمُخَنَّثِينَ، إِذْ نَفَاهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ».
وَأَمَّا الإْجْمَاعُ: فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه نَفَى نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ لاِفْتِتَانِ النِّسَاءِ بِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ .
وَيَجُوزُ كَوْنُ التَّغْرِيبِ لأِكْثَرَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، لأِنَّ عُمَرَ غَرَّبَ مِنَ الْمَدِينَةِ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَنَفَى عُثْمَانُ رضي الله عنه إِلَى مِصْرَ، وَنَفَى عَلِيٌّ رضي الله عنه إِلَى الْبَصْرَةِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ التَّغْرِيبُ لِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ، فَلاَ يُرْسِلُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِهِ إِرْسَالاً، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَ الْبَلَدِ الْمُعَيَّنِ لإِبْعَادِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَغْرِيبُ الْجَانِي لِبَلَدِهِ .
وَيَرَى الشَّافِعِيُّ: أَنْ لاَ تَقِلَّ الْمَسَافَةُ بَيْنَ بَلَدِ الْجَانِي وَالْبَلَدِ الْمُغَرَّبِ إِلَيْهِ عَنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . وَيَرَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَنْ يُنْفَى الْجَانِي إِلَى بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي ارْتُكِبَتْ فِيهِ الْجَرِيمَةُ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْبَلَدِ الَّذِي يُنْفَى إِلَيْهِ وَبَلَدِ الْجَرِيمَةِ، دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ .
مُدَّةُ التَّغْرِيبِ :
لاَ يَعْتَبِرُ أَبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ فِي الزِّنَى حَدًّا، بَلْ يَعْتَبِرُهُ مِنَ التَّعْزِيرِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُجِيزُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ عَنْ سَنَةٍ .
وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَزِيدَ التَّغْرِيبُ فِي التَّعْزِيرِ عَنْ سَنَةٍ، مَعَ أَنَّ التَّغْرِيبَ عِنْدَهُ فِي الزِّنَى حَدٌّ؛ لأِنَّهُ يَقُولُ بِنَسْخِ حَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ». وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ لِلإْمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ عَنِ الْحَدِّ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ غَيْرِ الْمَشُوبَةِ بِالْهَوَى .
وَعَلَى ذَلِكَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَيَرَى الْبَعْضُ الآْخَرُ مِنْهُمْ: أَنَّ مُدَّةَ التَّغْرِيبِ فِي التَّعْزِيرِ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَصِلَ إِلَى سَنَةٍ، لأِنَّهُ مْ يَعْتَبِرُونَ التَّغْرِيبَ فِي جَرِيمَةِ الزِّنَى حَدًّا، وَ إِذَا كَانَتْ مُدَّتُهُ فِيهَا عَامًا فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ فِي التَّعْزِيرِ أَنْ يَصِلَ التَّغْرِيبُ لِعَامٍ، لِحَدِيثِ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ» . وَتَفْصِيلُهُ فِي (نَفْيٌ).
هـ - التَّعْزِيرُ بِالْمَالِ :
مَشْرُوعِيَّةُ التَّعْزِيرِ بِالْمَالِ :
الأْصْلُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لاَ يُجِيزَانِهِ بَلْ إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ . أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ مِنَ الْجَانِي جَائِزٌ إِنْ رُئِيَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ .
وَقَالَ الشبراملسي: وَلاَ يَجُوزُ عَلَى الْجَدِيدِ بِأَخْذِ الْمَالِ. يَعْنِي لاَ يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَالِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ وَفِي الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ: يَجُوزُ.
أَمَّا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَالِ قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ . وَقَدْ ذَكَرَ مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةً يُعَزَّرُ فِيهَا بِالْمَالِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ اللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ أَيُرَاقُ؟ قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ، إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ. وَقَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْمِسْكِ الْمَغْشُوشِ مِثْلَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكَثِيرِ، وَقَالَ: يُبَاعُ الْمِسْكُ وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى مَا يُغَشُّ بِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ أَدَبًا لِلْغَاشِّ.
وَأَفْتَى ابْنُ الْقَطَّانِ الأْنْدَلُسِيُّ فِي الْمَلاَحِفِ الرَّدِيئَةِ النَّسْجِ بِأَنْ تُحَرَّقَ. وَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ: بِتَقْطِيعِهَا وَالصَّدَقَةِ بِهَا خِرَقًا .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَالِ أَوْ إِتْلاَفِهِ؛ لأِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ.
وَخَالَفَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ، فَقَالاَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ بِالْمَالِ سَائِغٌ إِتْلاَفًا وَأَخْذًا .
وَاسْتَدَلاَّ لِذَلِكَ بِأَقْضِيَةٍ لِلرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم كَإِبَاحَتِهِ سَلْبَ مَنْ يَصْطَادُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ يَجِدُهُ، وَأَمْرِهِ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ، وَشَقِّ ظُرُوفِهَا، وَأَمْرِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما بِحَرْقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ، وَتَضْعِيفِهِ الْغَرَامَةَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَسَارِقِ مَا لاَ قَطْعَ فِيهِ مِنَ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ وَكَاتِمِ الضَّالَّةِ.
وَمِنْهَا أَقَضِيَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، مِثْلُ أَمْرِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ، وَأَخْذُ شَطْرِ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَأَمْرِ عُمَرَ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه الَّذِي بَنَاهُ حَتَّى يَحْتَجِبَ فِيهِ عَنِ النَّاسِ. وَقَدْ نَفَّذَ هَذَا الأَْمْرَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه .
أَنْوَاعُ التَّعْزِيرِ بِالْمَالِ :
التَّعْزِيرُ بِالْمَالِ يَكُونُ بِحَبْسِهِ أَوْ بِإِتْلاَفِهِ، أَوْ بِتَغْيِيرِ صُورَتِهِ، أَوْ بِتَمْلِيكِهِ لِلْغَيْرِ.
أ - حَبْسُ الْمَالِ عَنْ صَاحِبِهِ :
وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الْقَاضِي شَيْئًا مِنْ مَالِ الْجَانِي مُدَّةً زَجْرًا لَهُ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لَهُ عِنْدَمَا تَظْهَرُ تَوْبَتُهُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَخْذُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لأِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ مَالِ إِنْسَانٍ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَفَسَّرَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَبُو يَحْيَى الْخُوَارِزْمِيُّ. وَنَظِيرُهُ مَا يُفْعَلُ فِي خُيُولِ الْبُغَاةِ وَسِلاَحِهِمْ، فَإِنَّهَا تُحْبَسُ عَنْهُمْ مُدَّةً وَتُعَادُ إِلَيْهِمْ إِذَا تَابُوا. وَصَوَّبَ هَذَا الرَّأْيَ الإْمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ التُّمُرْتَاشِيُّ الْخُوَارِزْمِيُّ.
أَمَّا إِذَا صَارَ مَيْئُوسًا مِنْ تَوْبَتِهِ، فَإِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَصْرِفَ هَذَا الْمَالَ فِيمَا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ .
ب - الإْتْلاَفُ :
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْمُنْكَرَاتِ مِنَ الأْعْيَانِ وَالصِّفَاتِ يَجُوزُ إِتْلاَفُ مَحَلِّهَا تَبَعًا لَهَا، فَالأْصْنَامُ صُوَرُهَا مُنْكَرَةٌ، فَيَجُوزُ إِتْلاَفُ مَادَّتِهَا، وَآلاَتُ اللَّهْوِ يَجُوزُ إِتْلاَفُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ مَالِكٌ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا أَوْعِيَةُ الْخَمْرِ، يَجُوزُ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا، وَالْمَحَلُّ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِفِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي تَحْرِيقِ مَحَلٍّ يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ، وَقَضَاءُ عَلِيٍّ رضي الله عنه تَحْرِيقَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ، وَلأِنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ كَالأْوْعِيَةِ. وَقَالَ: إِنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا: إِرَاقَةُ عُمَرَ اللَّبَنَ الْمَخْلُوطَ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ. وَمِنْهُ مَا يَرَاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ جَوَازِ إِتْلاَفِ الْمَغْشُوشَاتِ فِي الصِّنَاعَاتِ، كَالثِّيَابِ رَدِيئَةِ النَّسْجِ، بِتَمْزِيقِهَا وَإِحْرَاقِهَا، وَتَحْرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما لِثَوْبِهِ الْمُعَصْفَرِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم .
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ هَذَا الإْتْلاَفَ لِلْمَحَلِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ نَظِيرُهُ إِتْلاَفُ الْمَحَلِّ مِنَ الْجِسْمِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمَعْصِيَةُ، كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ. وَهَذَا الإْتْلاَفُ لَيْسَ وَاجِبًا فِي كُلِّ حَالَةٍ، فَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَحَلِّ مُفْسِدٌ فَإِنَّ إِبْقَاءَهُ جَائِزٌ، إِمَّا لَهُ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ أَفْتَى فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: بِأَنْ يُتَصَدَّقَ بِالطَّعَامِ الْمَغْشُوشِ. وَفِي هَذَا إِتْلاَفٌ لَهُ.
وَكَرِهَ فَرِيقٌ الإْتْلاَفَ، وَقَالُوا بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ. وَقَدِ اسْتَحْسَنَ مَالِكٌ التَّصَدُّقَ بِاللَّبَنِ الْمَغْشُوشِ؛ لأِنَّ فِي ذَلِكَ عِقَابًا لِلْجَانِي بِإِتْلاَفِهِ عَلَيْهِ، وَنَفْعًا لِلْمَسَاكِينِ بِالإْعْطَاءِ لَهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْمِسْكِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي اللَّبَنِ إِذَا غَشَّهُمَا الْجَانِي. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ مِنْ تِلْكَ الأْمْوَالِ؛ لأِنَّ التَّصَدُّقَ بِالْمَغْشُوشِ فِي الْكَثِيرِ مِنْ هَذِهِ الأْمْوَالِ الثَّمِينَةِ تَضِيعُ بِهِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ عَلَى أَصْحَابِهَا، فَيُعَزَّرُونَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الأْحْوَالِ بِعُقُوبَاتٍ أُخْرَى. وَعِنْدَ الْبَعْضِ: أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ مَنْعَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَأَخَذَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كُلٌّ مِنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ، وَعِنْدَهُمَا: أَنَّ مَنْ غَشَّ أَوْ نَقَصَ مِنَ الْوَزْنِ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ، وَالْحَبْسِ، وَالإْخْرَاجِ مِنَ السُّوقِ، وَأَنَّ مَا غُشَّ مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ، أَوْ غُشَّ مِنَ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ لاَ يُفَرَّقُ وَلاَ يُنْهَبُ .
ج - التَّغْيِيرُ :
- مِنَ التَّعْزِيرِ بِالتَّغْيِيرِ نَهْيُ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِهَا بَأْسٌ، فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ كُسِرَتْ، وَفِعْلُ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم فِي التِّمْثَالِ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِهِ وَالسِّتْرِ الَّذِي بِهِ تَمَاثِيلُ إِذْ قَطَعَ رَأْسَ التِّمْثَالِ فَصَارَ كَالشَّجَرَةِ، وَقَطَعَ السِّتْرَ إِلَى وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبَذَتَيْنِ يُوطَآنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: تَفْكِيكُ آلاَتِ اللَّهْوِ، وَتَغْيِيرُ الصُّوَرِ الْمُصَوَّرَةِ.
د - التَّمْلِيكُ :
مِنَ التَّعْزِيرِ بِالتَّمْلِيكِ: «قَضَاءُ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم فِيمَنْ سَرَقَ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ إِلَى الْجَرِينِ بِجَلَدَاتِ نَكَالٍ، وَغَرِمَ مَا أَخَذَ مَرَّتَيْنِ وَفِيمَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَاشِيَةِ قَبْلَ أَنْ تُؤْوَى إِلَى الْمَرَاحِ بِجَلَدَاتِ نَكَالٍ، وَغَرِمَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ وَقَضَاءِ عُمَرَ رضي الله عنه بِتَضْعِيفِ الْغُرْمِ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ: أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ إِضْعَافُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ الْغُرْمَ فِي نَاقَةِ أَعْرَابِيٍّ أَخَذَهَا مَمَالِيكُ جِيَاعٌ، إِذْ أَضْعَفَ الْغُرْمَ عَلَى سَيِّدِهِمْ، وَدَرَأَ الْقَطْعَ .
أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ التَّعْزِيرِ :
هُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ التَّعْزِيرِ غَيْرِ مَا سَبَقَ. مِنْهَا: الإْعْلاَمُ الْمُجَرَّدُ، وَالإْحْضَارُ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَالتَّوْبِيخُ وَالْهَجْرُ.
أ - الإْعْلاَمُ الْمُجَرَّدُ :
- الإْعْلاَمُ: صُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي لِلْجَانِي: بَلَغَنِي أَنَّك فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَبْعَثُ الْقَاضِي أَمِينَهُ لِلْجَانِي، لِيَقُولَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَيَّدَ الْبَعْضُ الإْعْلاَمَ، بِأَنْ يَكُونَ مَعَ النَّظَرِ بِوَجْهٍ عَابِسٍ .
ب - الإْحْضَارُ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ :
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّعْزِيرِ يَكُونُ بِالإْعْلاَمِ، وَالذَّهَابِ إِلَى بَابِ الْقَاضِي، وَالْخِطَابِ بِالْمُوَاجَهَةِ.
وَقَالَ الْبَعْضُ: إِنَّهُ يَكُونُ بِالإْعْلاَمِ، وَالْجَرِّ لِبَابِ الْقَاضِي، وَالْخُصُومَةِ فِيمَا نُسِبَ إِلَى الْجَانِي.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَالإْعْلاَمِ الْمُجَرَّدِ: أَنَّ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ يُؤْخَذُ الْجَانِي إِلَى الْقَاضِي زِيَادَةً عَنِ الإْعْلاَمِ، وَذَلِكَ لِيُخَاطِبَهُ فِي الْمُوَاجَهَةِ.
وَبِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: تَتَمَيَّزُ هَذِهِ عَنِ الإْعْلاَمِ الْمُجَرَّدِ بِالْخُصُومَةِ فِيمَا نُسِبَ إِلَى الْجَانِي.
وَكَثِيرًا مَا يَلْجَأُ الْقَاضِي لِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَوْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا كَانَ الْجَانِي قَدِ ارْتَكَبَ الْجَرِيمَةَ عَلَى سَبِيلِ الزَّلَّةِ وَالنُّدُورِ ابْتِدَاءً، إِذَا كَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا، عَلَى شَرِيطَةِ كَوْنِ الْجَرِيمَةِ غَيْرَ جَسِيمَةٍ .
ج - التَّوْبِيخُ :
مَشْرُوعِيَّةُ التَّوْبِيخِ :
التَّعْزِيرُ بِالتَّوْبِيخِ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ «رَوَى أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه : أَنَّهُ سَابَّ رَجُلاً فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ الرَّسُولُ صلي الله عليه وسلم يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» .
وَقَالَ الرَّسُولُ صلي الله عليه وسلم : «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» . وَقَدْ فُسِّرَ النَّيْلُ مِنَ الْعِرْضِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُ مَثَلاً: يَا ظَالِمُ، يَا مُعْتَدٍ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ التَّعْزِيرِ بِالْقَوْلِ. وَقَدْ جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ لاِبْنِ فَرْحُونَ: وَأَمَّا التَّعْزِيرُ بِالْقَوْلِ فَدَلِيلُهُ مَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ: اضْرِبُوهُ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا الضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ». وَفِي رِوَايَةٍ بِإِسْنَادِهِ: «ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لأِصْحَابِهِ بَكِّتُوهُ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ: مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ، مَا خَشِيتَ اللَّهَ، مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ». وَهَذَا التَّبْكِيتُ مِنَ التَّعْزِيرِ بِالْقَوْلِ .
وَقَدْ عَزَّرَ عُمَرُ رضي الله عنه بِالتَّوْبِيخِ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْفَذَ جَيْشًا فَغَنِمُوا غَنَائِمَ، فَلَمَّا رَجَعُوا لَبِسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، فَلَمَّا رَآهُمْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: أَعْرَضْتَ عَنَّا، فَقَالَ: انْزَعُوا ثِيَابَ أَهْلِ النَّارِ، فَنَزَعُوا مَا كَانُوا يَلْبَسُونَ مِنَ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ. وَذَلِكَ فِيهِ تَعْزِيرٌ لَهُمْ بِالإْعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ .
كَيْفِيَّةُ التَّوْبِيخِ :
التَّوْبِيخُ قَدْ يَكُونُ بِإِعْرَاضِ الْقَاضِي عَنِ الْجَانِي، أَوْ بِالنَّظَرِ لَهُ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِإِقَامَةِ الْجَانِي مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلاَمِ الْعَنِيفِ، وَيَكُونُ بِزَوَاجِرِ الْكَلاَمِ وَغَايَةِ الاِسْتِخْفَافِ، عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ قَذْفٌ، وَمَنَعَ الْبَعْضُ مَا فِيهِ السَّبُّ أَيْضًا .
د - الْهَجْرُ :
الْهَجْرُ مَعْنَاهُ: مُقَاطَعَةُ الْجَانِي، وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الاِتِّصَالِ بِهِ، أَوْ مُعَامَلَتِهِ بِأَيِّ نَوْعٍ، أَوْ أَيَّةِ طَرِيقَةٍ كَانَتْ.
وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِدَلِيلِ قوله تعالي : ( وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) وَقَدْ «هَجَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ». وَعَاقَبَ عُمَرُ صَبِيغًا بِالْهَجْرِ لَمَّا نَفَاهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَمَرَ أَلاَّ يُجَالِسَهُ أَحَدٌ. وَهَذَا مِنْهُ عُقُوبَةٌ بِالْهَجْرِ .
الْجَرَائِمُ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا التَّعْزِيرُ :
الْجَرَائِمُ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا التَّعْزِيرُ قَدْ تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ مَا شُرِعَ فِي جِنْسِهِ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، لَكِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ لاَ تُطَبَّقُ؛ لِعَدَمِ تَوَافُرِ شَرَائِطِ تَطْبِيقِهَا، وَمِنْهَا مَا فِيهِ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ لاَ تُطَبَّقُ عَلَيْهَا لِمَانِعٍ، كَوُجُودِ شُبْهَةٍ تَسْتَوْجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ، أَوْ عَفْوِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَنْ طَلَبِهِ.
وَقَدْ تَكُونُ الْجَرَائِمُ التَّعْزِيرِيَّةُ غَيْرَ مَا ذُكِرَ فَيَكُونُ فِيهَا التَّعْزِيرُ أَصْلاً. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا لاَ يَدْخُلُ فِي سَابِقِهِ مِنْ جَرَائِمَ.
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
الْجَرَائِمُ الَّتِي يُشْرَعُ فِيهَا التَّعْزِيرُ بَدِيلاً عَنِ الْحُدُودِ :
جَرَائِمُ الاِعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ، وَمَا دُونَهَا :
يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ: الْكَلاَمُ فِي جَرَائِمِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِزْهَاقُ الرُّوحِ، وَالْكَلاَمُ فِي جَرَائِمِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ عَلَى الْبَدَنِ دُونَ أَنْ تُؤَدِّيَ لإِزْهَاقِ الرُّوحِ:
جَرَائِمُ الْقَتْلِ (الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ) :
الْقَتْلُ الْعَمْدُ :
- الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ، وَيَجِبُ لِذَلِكَ تَوَافُرُ شُرُوطٍ، أَهَمُّهَا: كَوْنُ الْقَاتِلِ قَدْ تَعَمَّدَ تَعَمُّدًا مَحْضًا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَكَوْنُهُ مُخْتَارًا، وَمُبَاشِرًا لِلْقَتْلِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمَقْتُولُ جُزْءَ الْقَاتِلِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ مُطْلَقًا. وَفَضْلاً عَنْ ذَلِكَ يَجِبُ لِلْقِصَاصِ: أَنْ يُطْلَبَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ .
فَإِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، وَفِيهِ التَّعْزِيرُ.
وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (قَتْلٌ - قِصَاصٌ).
الْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ :
قَالَ الْبُهُوتِيُّ، نَقْلاً عَنِ (الْمُبْدِعِ): قَدْ يُقَالُ بِوُجُوبِ التَّعْزِيرِ فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ؛ لأِنَّ الْكَفَّارَةَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَتْ لأِجْلِ الْفِعْلِ، بَلْ بَدَلُ النَّفْسِ الْفَائِتَةِ، فَأَمَّا نَفْسُ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ - الَّذِي هُوَ الْجِنَايَةُ - فَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ.
- وَمِنَ الأْصُولِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَهُمْ كَالْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ (وَهُوَ الْقَتْلُ بِمِثْلِ الْحَجَرِ الْكَبِيرِ أَوِ الْخَشَبَةِ الْعَظِيمَةِ) يَجُوزُ لِلإْمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ بِمَا يَصِلُ لِلْقَتْلِ، إِذَا تَكَرَّرَ ارْتِكَابُهُ، مَا دَامَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الأْصْلِ قَالُوا بِالتَّعْزِيرِ بِالْقَتْلِ لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْخَنْقُ، أَوِ التَّغْرِيقُ، أَوِ الإْلْقَاءُ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ، إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُ إِلاَّ بِالْقَتْلِ .
الاِعْتِدَاءُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ :
- إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا فَيُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فَضْلاً عَنْ شُرُوطِهِ فِي النَّفْسِ: الْمُمَاثَلَةُ، وَإِمْكَانُ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ .
وَيَرَى مَالِكٌ التَّعْزِيرَ أَيْضًا فِي الْجِنَايَةِ الْعَمْدَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، أَوِ امْتَنَعَ لِسَبَبٍ أَوْ لآِخَرَ، فَيَكُونُ فِي الْجَرِيمَةِ التَّعْزِيرُ مَعَ الدِّيَةِ، أَوِ الأْرْشُ، أَوْ بِدُونِهِ، تَبَعًا لِلأْحْوَالِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى عَظْمٍ خَطَرٍ. إِذِ الْعِظَامُ الْخَطِرَةُ لاَ قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَهُ، مِثْلُ عِظَامِ الصُّلْبِ، وَالْفَخِذِ، وَالْعُنُقِ، وَمِثْلُ الْمُنَقِّلَةِ، وَالْمَأْمُومَةِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْجَائِفَةِ؛ لأِنَّهُ لاَ يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ وَفِي كُلِّ مَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ بِالْجِنَايَةِ مَعَ بَقَائِهِ قَائِمًا فِي الْجِسْمِ، وَبَقَاءِ جَمَالِهِ، فَ إِذَا ضَرَبَهُ عَلَى عَيْنِهِ فَذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَقِيَ جَمَالُهَا فَلاَ قَوَدَ فِيهَا. وَمِثْلُ ذَلِكَ الْيَدِ إِذَا شُلَّتْ وَلَمْ تَبِنْ عَنِ الْجِسْمِ، فَفِي هَذِهِ وَمَا يُمَاثِلُهَا يُعَزَّرُ الْجَانِي مَعَ أَخْذِ الْعَقْلِ مِنْهُ (أَيِ الدِّيَةِ) .
وَ إِذَا لَمْ يَتْرُكِ الاِعْتِدَاءُ عَلَى الْجِسْمِ أَثَرًا: فَأَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّعْزِيرَ، لاَ الْقِصَاصَ. وَلَدَى بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ الْقِصَاصُ فِي ضَرْبَةِ السَّوْطِ، وَلَوْ لَمْ يُحْدِثْ جُرْحًا وَلاَ شَجَّةً، مَعَ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ فِي اللَّطْمَةِ، وَضَرْبَةِ الْعَصَا، إِلاَّ إِذَا خَلَّفَتْ جُرْحًا أَوْ شَجَّةً. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ ضَرْبَةَ السَّوْطِ فِي ذَلِكَ كَاللَّطْمَةِ فِيهِ الأَْدَبُ، وَنَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ أَشْهَبَ.
وَيَرَى ابْنُ الْقَيِّمِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: الْقِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ .
الزِّنَى الَّذِي لاَ حَدَّ فِيهِ، وَمُقَدِّمَاتُهُ :
الزِّنَى إِذَا تَوَافَرَتِ الشَّرَائِطُ الشَّرْعِيَّةُ لِثُبُوتِهِ فَإِنَّ فِيهِ حَدَّ الزِّنَى، أَمَّا إِذَا لَمْ يُطَبَّقِ الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ لِوُجُودِ شُبْهَةٍ أَوْ لِعَدَمِ تَوَافُرِ شَرِيطَةٍ مِنَ الشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ لِثُبُوتِ الْحَدِّ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ جَرِيمَةً شُرِعَ الْحُكْمُ فِيهَا - أَوْ فِي جِنْسِهَا - لَكِنَّهُ لَمْ يُطَبَّقْ. وَكُلُّ جَرِيمَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ قِصَاصَ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، سَوَاءٌ كَانَتْ شُبْهَةَ فِعْلٍ أَوْ شُبْهَةَ مِلْكٍ، أَوْ شُبْهَةَ عَقْدٍ، فَإِنَّ الْحَدَّ لاَ يُطَبَّقُ. لَكِنَّ الْجَانِيَ يُعَزَّرُ؛ لأِنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً لَيْسَتْ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ.
وَتُعْرَفُ الشُّبْهَةُ بِأَنَّهَا: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ. أَوْ: هِيَ وُجُودُ الْمُبِيحِ صُورَةً، مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (اشْتِبَاهٌ).
وَ إِذَا كَانَتِ الْمَزْنِيُّ بِهَا مَيِّتَةً فَفِي هَذَا الْفِعْلِ التَّعْزِيرُ؛ لأِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ زِنًى، إِذْ حَيَاةُ الْمَزْنِيِّ بِهَا شَرِيطَةٌ فِي الْحَدِّ.
وَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ مِنْ رَجُلٍ فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ، بَلِ التَّعْزِيرُ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْمُسَاحَقَةُ.
وَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ فِي قُبُلِ امْرَأَةٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ الْحَدِّ، لَكِنَّ فِيهِ التَّعْزِيرَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي الدُّبُرِ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَالْقَوْلُ بِالْقَتْلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ زِنًى، وَفِيهِ الْحَدُّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ اللِّوَاطَ زِنًى، وَفِيهِ حَدُّ الزِّنَى. وَمِنْ هَؤُلاَءِ: مَالِكٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ لَدَى الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ فِيهِ حَدَّ الزِّنَى: وَ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ فِي زَوْجَةِ الْفَاعِلِ فَلاَ حَدَّ فِيهِ بِالإْجْمَاعِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ.
وَمِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ فِي هَذَا الْمَجَالِ كُلُّ مَا دُونَ الْوِقَاعِ مِنْ أَفْعَالٍ، كَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ، وَالْمُحْصَنُ، وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ أَيْضًا: إِصَابَةُ كُلِّ مُحَرَّمٍ مِنَ الْمَرْأَةِ غَيْرِ الْجِمَاعِ. وَعِنَاقُ الأْجْنَبِيَّةِ، أَمْ تَقْبِيلُهَا.
وَمِمَّا فِيهِ التَّعْزِيرُ كَذَلِكَ: كَشْفُ الْعَوْرَةِ لآِخَرَ، وَخِدَاعُ النِّسَاءِ، وَالْقَوَادَةُ، وَهِيَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِلزِّنَى، وَبَيْنَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالِ لِلِّوَاطِ .
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع عشر ، الصفحة / 130
ج - الْعُقُوبَةُ:
الْعُقُوبَةُ مِنْ عَاقَبْتُ اللِّصَّ مُعَاقَبَةً وَعِقَابًا، وَالاِسْمُ الْعُقُوبَةُ، وَهِيَ الأْلَمُ الَّذِي يَلْحَقُ الإْنْسَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَى الْجِنَايَةِ، وَيَكُونُ بِالضَّرْبِ، أَوِ الْقَطْعِ، أَوِ الرَّجْمِ، أَوِ الْقَتْلِ، سُمِّيَ بِهَا لأِنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ مِنْ تَعَقَّبَهُ إِذَا تَبِعَهُ، فَالْعُقُوبَةُ أَعَمُّ مِنَ الْحُدُودِ.