1- تقدير حالة المتهم العقلية التى يترتب عليها الإعفاء من المسئولية الجنائية أمر يتعلق بوقائع الدعوى يفصل فيه قاضى الموضوع بلا معقب عليه ، طالما أنه يقيمه على أسباب سائغة . و إذ كان الدفاع قد أشار عرضاً فى مرافعته بما يفيد أن المتهم كان بحالة غير طبيعية فاندفع فى إرتكاب جريمته بسبب غيرته على شرفه الذى إنتهكته زوجته المجنى عليها فإن ذلك لا يعتبر طلباً لعرض المتهم على أخصائى لفحص قواه العقلية و إنما يفيد ترك الأمر للمحكمة تقدره على نحو ما تراه . و لما كان الظاهر مما أورده الحكم أن المحكمة إستخلصت أن الطاعن قارف جريمته و هو حافظ لشعوره و إختياره ورد على ما تمسك به الدفاع بشأن حالته العقلية و لم تأخذ به بناء على ما تحققته من أن المتهم إرتكب الحادث بإحكام و تدبير و روية ، فإن فى ذلك ما يكفى لسلامة الحكم . و يكون ما ينعاه الطاعن على الحكم من الإخلال بحق الدفاع غير سديد .
(الطعن رقم 986 لسنة 33 ق - جلسة 1963/10/22 س 14 ع 3 ص 678 ق 123)
2- إذا كان مما أثاره الدفاع عن الطاعن من أن الصورة التى قارف بها جريمته إنما كانت نتيجة حالة نفسية تجعله غير مسئول عن عمله ، و طلب إحالته إلى معهد نفسانى لفحصه ، و كان مؤدى هذا الدفاع أن النفس شىء أخر متميز تماماً عن العقل و أن أمراضاً قد تصيبها فتكون أمراضاً نفسية مختلفة عن الأمراض العقلية - و كان الحكم المطعون فيه - بعد أن ناقش حالة المتهم العقلية و نفى إصابته بأى مرض عقلى - قد رد على هذا الدفاع بأن التشريع الجنائي المصرى لا يعرف هذه التفرقة و لم ينص عليها و كل ما فى الأمر أن قانون العقوبات قد نص فى المادة 62 منه على أنه لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الأختيار فى عمله و قت إرتكاب الفعل إما لجنون أو عاهة فى العقل ، و بالتالى فإن هاتين الحالتين اللتين أشارت إليهما هذه المادة دون غيرهما و رتبت عليهما الإعفاء من العقاب هما اللتان تجعلان الجاني وقت إرتكاب الجريمة فاقداً للشعور و الإختيار فى عمله ، و كان تقدير حالةالمتهم العقلية التى يترتب عليها الإعفاء من المسئولية الجنائية أمر يتعلق ببوقائع الدعوى يفصل فيه قاضى الموضوع بما لا معقب عليه طالما أنه يقيمه على أسباب سائغة - كما هو الحال فى واقعة الدعوى - فإن النعى على الحكم بالإخلال بحق الدفاع و القصور فى التسبيب يكون فى غير محله .
(الطعن رقم 901 لسنة 32 ق - جلسة 1962/10/16 س 13 ع 3 ص 640 ق 159)
3- الغيبوبة المانعة من المسئولية على مقتضى المادة 62 من قانون العقوبات هى التى تكون ناشئة عن عقاقير مخدرة تناولها الجاني قهرا عنه أو على غير علم منه بحقيقة أمرها بما مفهومه أن من يتناول مادة مخدرة أو مسكرة وعن على بحقيقة أمرها يكون مسئولا عن الجرائم التى تقع منه وهو تحت تأثيرها فالقانون يجرى عليه - فى هذه الحالة - حكم المدرك التام الإدراك مما ينبنى عليه توافر القصد الجنائي لديه ، إلا أنه لما كانت هناك بعض الجرائم يتطلب القانون فيها ثبوت قصد جنائى خاص لدى المتهم ، فإنه لا يتصور اكتفاء الشارع فى ثبوت هذا القصد باعتبارات وافتراضات قانونية ، بل يجب فى هذه الجرائم - وعلى ما استقر عليه قضاء محكمة النقض - فى تفسير المادة 62 من قانون العقوبات التحقق من قيام القصد الجنائي الخاص من الأدلة المستمدة من حقيقة الواقع ، فلا تصح معاقبة الجاني عن القتل العمد إلا أن يكون قد انتوى القتل من قبل ثم أخذ المسكر ليكون مشجعا له على ارتكاب جريمته . لما كان ذلك ، وكان الحكم قد تحدث عن احتساء الطاعن شرابا كحوليا دون أن يبين مبلغ تأثيره فى شعور الطاعن وإدراكه وهل احتساه ليكون مشجعا له على ارتكاب جريمته بالرغم من اتصال هذا الأمر بتوافر القصد الخاص ، وأوقع على الطاعن عقوبة القتل العمد ، فإن الحكم يكون قاصر البيان بيما يبطله ويوجب نقضه .
(الطعن رقم 14151 لسنة 64 ق - جلسة 1996/07/11 س 47 ع 1 ص 806 ق 115)
4- لما كانت المادة 62 من قانون العقوبات قبل تعديلها تنص على الآتي "لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار فى عمله وقت ارتكاب الفعل إما لجنون أو لعاهة فى العقل وإما لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أياً كان نوعها إذا أخذها قهراً عنه أو على غير علم منه بها"، إلا أن القانون رقم 71 لسنة 2009 بإصدار قانون رعاية المريض النفسي وتعديل أحكام قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية والساري منذ 15/5/2009 قبل صدور الحكم المطعون فيه فى التاسع عشر من يونيه سنة 2012 قد نص فى المادة الثانية منه على أن يستبدل بنص المادة 62 من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937 النص الآتي: " لا يسأل جنائياً الشخص الذى يعاني فى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أفقده الإدراك أو الاختيار أو الذى يعاني من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أياً كان نوعها إذا أخذها قهراً عنه أو على غير علم منه ويظل مسئولاً جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره وتأخذ المحكمة فى اعتبارها هذا الظرف عند تحديد العقوبة " ، ومقتضى هذا التعديل أن المشرع استحدث بنص المادة 62/1 عقوبات المنوه عنها أمران : أولهما عدم مساءلة الشخص جنائياً الذي يعاني من اضطراب نفسي أسوة بالاضطراب العقلي إذا أفقده الإدراك والاختيار وقت ارتكاب الجريمة ، وثانيهما أن يظل مسئولاً جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره وتأخذه المحكمة فى اعتبارها هذا الظرف عند تحديد العقوبة . لما كان ذلك ، وكان البين من الاطلاع على محضر جلسة المحاكمة أن دفاع الطاعن دفع بانتفاء القصد الجنائي لوقوع إرادة المتهم أثناء اعتدائه على المجنى عليه الأول عادل لضغوط نفسية عصبية دفعت المتهم لارتكاب الحادث وكذا وقوعه تحت تأثير حالة هيسترية وكان ذلك معروضاً على المحكمة فى ظل سريان المادة 62 من قانون العقوبات بعد تعديلها بالقانون رقم 71 لسنة 2009 بإصدار قانون رعاية المريض النفسي إلا أن المحكمة أصدرت حكمها المطعون فيه دون أن تبحث ما إذا كان الطاعن قد اعتراه اضطراب نفسي أنقص من إدراكه واختياره وقت ارتكاب الجريمة دون أن تفطن إلى دلالة ما استحدثته المادة 62 من القانون المنوة عنه والمشار إليه فيما تقدم فإن الحكم المطعون فيه يكون قاصر البيان بما يبطله ويوجب نقضه ولا يقدح فى ذلك أن يكون المحكوم عليه لم يقدم أسباباً لطعنه وأن مذكرة النيابة العامة لم تُشر إلى ما اعتور الحكم من بطلان ، ذلك بأن المادة 46 من القانون رقم 57 لسنة 1959 سالف الذكر تنص على أن " مع عدم الإخلال بالأحكام المتقدمة إذ كان الحكم صادراً حضورياً بعقوبة الإعدام يجب على النيابة العامة أن تعرض القضية مشفوعة برأيها فى الحكم وذلك فى الميعاد المبين بالمادة 34 وتحكم المحكمة طبقاً لما هو مقرر فى الفقرة الثانية من المادة 35 والفقرة الثانية والثالثة من المادة 39 " ، ومفاد ذلك أن وظيفة محكمة النقض فى شأن الأحكام الصادرة بالإعدام ذات طبيعة خاصة يقتضيها إعمال رقابتها على عناصر الحكم كافة موضوعية وشكلية وتقضي بنقض الحكم المطعون فى أية حالة من حالات الخطأ فى القانون أو البطلان ولو من تلقاء نفسها غير مقيدة بحدود أوجه الطعن أو مبنى الرأي الذى تعرض به النيابة العامة تلك الأحكام ، وذلك هو المستفاد من الجمع بين الفقرة الثانية من المادة 35 والفقرة والثانية والثالثة من المادة 39 من القانون رقم 57 لسنة 1959 المار بيانه .
(الطعن رقم 6709 لسنة 82 ق - جلسة 2013/12/05)
5- مناط الإعفاء من العقاب لفقدان الجاني لشعوره واختياره فى عمله وقت ارتكاب الفعل هو أن يكون سبب هذه الحالة راجعاً على ما تقضي به المادة 62 من قانون العقوبات لجنون أوعاهة فى العقل دون غيرهما وكان المستفاد من دفاع المحكوم عليه أمام محكمة الموضوع هو أنه كان فى حالة من حالات الإثارة أو الاستفزاز تملكته فألجأته إلى فعلته دون أن يكون متمالكا إدراكه، فإن ما دفع به على هذه الصورة من انتقاء مسئوليته لا يتحقق به الجنون أو العاهة فى العقل وهما مناط الإعفاء من المسئولية ولا يعد فى صحيح القانون عذرا معفيا من العقاب بل هو دفاع لا يعدو أن يكون مقرونا بتوافر عذر قضائي مخفف يرجع مطلق الأمر فى إعماله أو إطراحه لتقدير محكمة الموضوع دون رقابة عليها من محكمة النقض ومن ثم فإن الحكم يكون قد أصاب صحيح القانون فى هذا الخصوص.
(الطعن رقم 33899 لسنة 68 ق - جلسة 2000/02/16 س 51 ص 198 ق 38)
6- لما كان الحكم قد فسر المرض الذى لايجوز محاكمة الشخص المصاب به طبقاً لنص الفقرة الأولى من المادة 339 من قانون الإجراءات الجنائية بأنه المرض العقلى وهو تفسير صحيح يتفق وصريح اللفظ ومدلوله ويتلاءم مع ما جرى به قضاء محكمة النقض من أن المرض العقلى الذى يوصف بأنه جنون أو عاهة فى العقل وتنعدم به المسئولية قانوناً طبقاً لنص المادة 62 من قانون العقوبات هو ذلك المرض الذى من شأنه أن يعدم الشعور أو الإدراك أما سائر الأمراض والأحوال النفسية التى لاتفقد الشخص شعوره أو إداركه فلا تعد سبباً لانعدام المسئولية . لما كان ذلك ، وكان الأصل أن تقدير حالة المتهم العقلية من الأمور الموضوعية التى تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها مادامت تقيم تقديرها على أسباب سائغة. وكان المقرر أن تقدير آراء الخبراء والفصل فيما يوجه إلى تقاريرهم عن اعتراضات مرجعه إلى محكمة الموضوع التى لها كامل الحرية فى تقدير القوة التدليلية لتقرير الخبير المقدم لها دون أن تلتزم بندب خبير آخر ولا بإعادة المهمة إلى ذات الخبير ما دام استنادها إلى الرأى الذى انتهت إليه لايجافى العقل والمنطق . وكانت المحكمة قد اطمأنت الى تقرير اللجنة الطبية التى شكلت لملاحظة الطاعن بعد إيداعه مستشفى الصحة النفسية وإلى أقوال اعضائها الذين سمعتهم بالجلسة من أن الطاعن لايعانى من مرض نفسى وأطرحت دفاع الطاعن فى هذا الشأن وكان ردها على هذا الدفاع على النحو الذى أوردته فى حكمها يتسع لدفاع الطاعن القائم على انعدام مسئوليته وعدم جواز محاكمته وكافيا فى اطراحه فإن النعى على الحكم فى هذا الصدد يكون غير سديد .
(الطعن رقم 430 لسنة 66 ق - جلسة 1998/01/18 س 49 ص 111 ق 16)
7- لما كان الحكم قد أورد مضمون تقرير مستشفى الطب النفسى بالعباسية الذى جاء به أن المتهم لايعانى من أية آفة عقلية حالياً وهو مسئول عن الاتهام المنسوب إليه إذ أن وقت اتيانه الاتهام المنسوب إليه وذلك فى مجال الرد على دفاع المحكوم عليه بأنه يصاب بفقدان الشعور فى بعض الأحيان فإن التفكير والإدراك والاختيار والعاطفة والإرادة سليمة غير مضطربة بما مفاده أن الحكم أخذ بهذا التقرير فى شأن حالة المحكوم عليه العقلية . لما كان ذلك، وكان الأصل أن تقدير حالة المتهم العقلية من الأمور الموضوعية التى تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها مادامت تقيم قضاءها على أسباب سائغة وهو مالم يخطىء الحكم فى تقديره ، ومن ثم يكون بريئاً من القصور .
(الطعن رقم 28462 لسنة 67 ق - جلسة 1998/05/07 س 49 ص 666 ق 85)
8- لما كان الطاعن لايمارى فى أسباب طعنه إنه لم يثر لدى محكمة الموضوع شيئاً عن خلل فى قواه العقلية وكانت المحكمة لا تلتزم بتقصى أسباب إعفاء المتهم من العقاب فى حكمها ما لم يدفع به أمامها وكان هذا الدفاع يقوم على واقع يقتضى تحقيقاً تنأى عنه وظيفة محكمة النقض فإن إثارته أمامها لأول مرة تكون غير مقبولة .
(الطعن رقم 22204 لسنة 66 جلسة 1998/10/12 س 49 ص 1060 ق 142)
9-ولئن كان السكُر من العوامل التى تفقد الشعور والإدراك ، فيبطل الاعتراف إذا كان السكر نتيجة لتناول المعترف للخمر قهراً عنه ، أما إذا كان تناوله باختياره ، فلا يبطل الاعتراف ، إلا إذا كان السكر قد أفقده الشعور والإدراك تماماً ، أما إذا لم يفقده الشعور والإدراك تماماً فيصبح الأخذ به . وإذ كان الحكم المطعون فيه لم يرتب على اعتراف الطاعن وحده الأثر القانونى للاعتراف وإنما أقام قضاءه على ما يعززه من أدلة الدعوى الأخرى وكان الثابت من مطالعة محضر جلسة المحاكمة أن الطاعن أو المدافع عنه لم يدع أنه كان وقت ارتكاب الجريمة متناولاً مادة مسكرة قهراً عنه أو على غير علم منه بحقيقة أمرها بل أطلق القول بأن الطاعن كان فى حالة سكر أثناء سؤاله فى محضرى الشرطة والنيابة العامة دون أن يبين ماهية هذه الحالة ودرجتها ومبلغ تأثيرها فى إدراك الطاعن وشعوره وبغير أن يقدم دليلاً على أنها أفقدته تماماً الإدراك والشعور أثناء اعترافه ، فإنه لايكون للطاعن من بعد النعى على المحكمة قعودها عن الرد على دفاع لم يثر أمامها ولا يقبل منه التحدى بذلك الدفاع الموضوعى لأول مرة أمام محكمة النقض ويضحى نعيه فى هذا الخصوص على غير أساس .
(الطعن رقم 26136 لسنة 66 ق - جلسة 1998/12/07 س 49 ص 1407 ق 200)
10- لما كان يبين من محضر جلسة ........ أن المدافع عن الطاعن الثانى دفع بعدم مسئوليته الجنائية عن الواقعة لاصابته بالجنون وطلب وضعه تحت الملاحظة وكان هذا الدفاع جوهريا إذ أن مؤداه لو ثبت إصابة المتهم بعاهة فى العقل وقت إرتكابه الأفعال المسندة اليه انتفاء مسئوليته عنها بالمادة 62 من قانون العقوبات وكان من المقرر أن تقدير حالة المتهم العقلية وإن كان فى الأصل من المسائل الموضوعية التى تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها الا أنه يتعين عليها ليكون قضاؤها سليما أن تعين خبيراً للبت فى هذه الحالة وجودا وعدماً لما يترتب عليها من قيام أو إمتناع عقاب المتهم فإن لم تفعل كان عليها أن تورد فى القليل أسباباً سائغة تبنى عليها قضاءها برفض هذا الطلب وذلك اذا ما ارتأت من ظروف الحال ووقائع الدعوى وحالة المتهم أن قواه العقلية سليمة وأنه مسئول عن الجرم الذى وقع منه ولما كانت المحكمة لم تفعل شيئاً من ذلك وعولت على ما أقر به فى محضر الضبط من بين ما عولت عليه فى إدانتهما فإن حكمها يكون مشوباً بالقصور فى التسبيب والاخلال بحق الدفاع مما يبطله ويوجب نقضه ولما كان العيب الذى شاب الحكم وبنى عليه النقض بالنسبة الى الطاعن الثانى يتصل بالطاعن الأول فضلاً عن وحدة الواقعة ولحسن سير العدالة فيتعين كذلك نقض الحكم بالنسبة اليه عملاً بحكم المادة 42 من القانون رقم 57 لسنة 1959 فى شأن حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض.
(الطعن رقم 3056 لسنة 63 ق - جلسة 1995/02/12 س 46 ص 363 ق 53)
11- لا تلتزم محكمة الموضوع بندب خبير إذ هى رأت أن ما طلبه الدفاع عن المتهم من إستطلاع رأى طبيب نفسانى لا يستند إلى أساس جدى لأسباب سائغة أوردتها - فإذا تناول الحكم دفاع المتهم من أنه كان فى حالة فقد فيها شعوره و إدراكه واختياره وقت ارتكاب الحادث ورد عليه بقوله : " ... إن تصرفات المتهم قبل الحادث وبعده ووقت الحادث كلها كانت تدل على ثباته وعقله وعلمه بما يفعل وفعل ولم يكن لديه انحراف ، فلم يثبت أو يقيم أى دليل على أنه كان فى حالة جنون أو عاهة عقلية أفقدته شعوره واختياره ، بل كان تفكيره الإرادى والشعورى قائما - من كيفية ذهابه لأمه وعدم ذكر ذلك لأحد وتصميمه على القتل وإتخاذ الطرق التى تمنع من أن يوجه إليه اتهام أو اشتباه - من طريقة صعوده المنزل ودخوله فيه وارتكابه الحادث وبعده ومن مخاطبة زوجته وحديثه معها ومصاحبتها ومسح بصماته وغسل أداة القتل والبحث عما كان يريد أخذه من نقود ومصوغات وأوراق ، ثم بعد كشف الجثة من تصويره الواقعة وإلقاء الشبهات على سارق مجهول أمام المحقق الأول ولصديقه الذى رافقه واقتراض النقود فى اليوم التالى ، كل ذلك يقطع فى تمام شعوره وإدراكه لما يفعل وارتكب . " فلا تكون المحكمة بعد ذلك فى حاجة إلى أن تستعين برأى طبيب فى الأمراض العقلية أو النفسية فى أمر تبينته من عناصر الدعوى وما بوشر فيها من تحقيقات.
(الطعن رقم 1096 لسنة 29 ق - جلسة 1959/11/17 س 10 ع 3 ص 896 ق 190)
12- لا يتطلب القانون فى جريمة الضرب المفضى إلى الموت قصداً خاصاً . وإذ كان الحكم المطعون فيه أثبت أن الطاعن تناول المسكر بإختياره - وهو ما لم يجادل الطاعن فيه بوجه الطعن - فإنه ليس له من بعد أن يعيب على الحكم قعوده عن بحث درجة هذا السكر الإختيارى ومبلغ تأثيره فى إدراكه وشعوره فى صدد جريمة الضرب المفضى إلى الموت التى دين بها ما دام القانون لا يستلزم فيها قصداً خاصاً إكتفاء بالقصد العام لعدم جدوى هذا البحث .
(الطعن رقم 1772 لسنة 38 ق - جلسة 1969/01/13 س 20 ع 1 ص 104 ق 23)
13- إن سبق الإصرارحالة ذهنية تقوم بنفس الجاني فلا يستطيع أحد أن يشهد بها مباشرة وإنما هى تستفاد من وقائع خارجية يستخلصها القاضى منها إستخلاصاً ما دام موجب هذه الوقائع والظروف لا يتنافر عقلاً مع هذا الإستنتاج ومتى كان الحكم قد إستظهر ظرف سبق الإصرار فى قوله : " أن العمد وسبق الإصرار متوفران فى حق المتهمين من ذلك التدبير والتخطيط وإحتساء الثانى والثالث للخمر حتى يفقدا شعورهما ويقوى قلباهما فلا تأخذهما بالمجنى عليه شفقة ولا رحمة وإنهما تدبرا الأمر فيما بينهما بهدوء وروية وتؤدة على ذلك النحو " فإن ذلك سائغ ويتحقق به ظرف سبق الإصرار كما هو معرف به فى القانون .
(الطعن رقم 648 لسنة 39 ق - جلسة 1969/06/02 س 20 ع 2 ص 832 ق 166)
14-تقدير حالة المتهم العقلية وإن كان فى الأصل من المسائل الموضوعية التي تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها، إلا أنه يتعين ليكون قضاؤها سليماً أن تعين خبيراً للبت فى هذه الحالة وجوداً وعدماً لما يترتب عليها من قيام أو انتفاء مسئولية المتهم، فإن لم تفعل كان عليها أن تبين فى القليل الأسباب التي تبنى عليها قضاءها برفض هذا الطلب بياناً كافياً وذلك إذا ما رأت من ظروف الحال ووقائع الدعوى وحالة المتهم أن قواه العقلية سليمة وأنه مسئول عن الجرم الذي وقع منه، فإذا هي لم تفعل شيئاً من ذلك فإن حكمها يكون مشوباً بعيب القصور فى التسبيب والإخلال بحق الدفاع بما يوجب نقضه.
(الطعن رقم 913 لسنة 31 ق - جلسة 1961/11/20 س 12 ع 3 ص 921 ق 188)
15- العذر القهري هو الذي يقوم على غير انتظار ويفاجئ صاحبه بما لم يكن في الحسبان كالمرض الذي يعجز صاحبه عن الحركة ومباشرة أعماله، أما إذا كان من شأن ذلك المرض ألا يعيق صاحبه عن حركته الطبيعية ومباشرة مصالحه وأعماله كالمعتاد فلا يعتبر من الأعذار القهرية وبالتالي فإن مجرد توجه المطعون ضده إلى المستشفى في فترة محدودة لتلقي علاج معين وعودته إلى محله في ذات اليوم لا يعتبر من قبيل الأعذار القهرية التي تعفيه من مسئولية الإشراف على مقهاه .
( الطعن رقم 1389 لسنة 41 ق - جلسة 1972/01/16 - س 23 ع 1 ص 72 ق 20 )
16- مراد الشارع من العقاب فى جريمة إعطاء شيك بدون رصيد هو حماية الشيك وقبوله فى التداول على اعتبار أن الوفاء به كالوفاء بالنقود سواء بسواء . فلا عبرة بالأسباب التي دعت صاحب الشيك إلى إصداره إذ أنها لا أثر لها على طبيعته وتعد من قبيل البواعث التي لا تأثير لها فى قيام المسئولية الجنائية التي لم يستلزم الشارع لتوافرها نية خاصة . وإذ كان الحكم المطعون فيه قد أثبت أن الشيك قد استوفى شرائطه القانونية فإنه لا يجدي الطاعن ما يثيره من جدل حول الأسباب والظروف التي أحاطت بإصداره أو الدوافع التي أدت به إلى سحب الرصيد .
(الطعن رقم 630 لسنة 41 ق - جلسة 1972/02/14 س 23 ع 1 ص 142 ق 37)
17- لما كانت المادة 342 من قانون الإجراءات الجنائية تنص على أن "إذا صدر أمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية أو حكم ببراءة المتهم، وكان ذلك بسبب عاهة فى عقله تأمر الجهة التي أصدرت الأمر أو الحكم إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة عقوبتها الحبس بحجز المتهم فى أحد المحال المعدة للأمراض العقلية إلا أن تأمر الجهة التي أصدرت الأمر أو الحكم بالإفراج عنه، وذلك بعد الاطلاع على تقرير مدير المحل وسماع أقوال النيابة العامة وإجراء ما تراه للتثبت من أن المتهم قد عاد إلى رشده. وإذا كان الحكم المطعون فيه على الرغم من قضائه ببراءة المطعون ضده من التهمة المسندة إليه لم يأمر بحجزه فى أحد المحال المعدة للأمراض العقلية تطبيقا لما توجبه المادة المار ذكرها، فإنه يكون معيباً بالخطأ فى تطبيق القانون، ولا يغير فى ذلك ما تحدث به الحكم فى أسبابه من إيداع المتهم أحد المحال المعدة للأمراض العقلية ما دام لم ينته فى منطوقه إلى القضاء بذلك، لما هو مقرر من أن حجية الشيء المحكوم فيه لا ترد إلا على منطوق الحكم ولا يمتد أثرها إلا إلى ما كان مكملا للمنطوق.
(الطعن رقم 10170 لسنة 63 ق - جلسة 2002/01/06 س 53 ص 43 ق 7)
18 ـ من المقرر أن الغيبوبة المانعة من المسئولية على مقتضى المادة 62 من قانون العقوبات هي التي تكون ناشئة عن عقاقير مخدرة تناولها الجاني قهرا عنه أو على غير علم منه بحقيقة أمرها بما مفهومه أن من يتناول مادة مخدرة أو مسكرة وإن علم بحقيقة أمرها يكون مسئولا عن الجرائم التي تقع منه وهو تحت تأثيرها فالقانون يجري عليه - فى هذه الحالة - حكم المدرك التام الإدراك مما ينبني عليه توافر القصد الجنائي لديه، إلا أنه لما كانت هناك بعض الجرائم يتطلب القانون فيها ثبوت قصد جنائي خاص لدى المتهم فإنه لا يتصور اكتفاء الشارع فى ثبوت هذا القصد باعتبارات وافتراضات قانونية، بل يجب فى هذه الجرائم - وعلى ما استقر عليه قضاء محكمة النقض - فى تفسير المادة 62 من قانون العقوبات التحقق من قيام القصد الجنائي الخاص من الأدلة المستمدة من حقيقة الواقع، فلا تصح معاقبة الجاني عن القتل العمد إلا أن يكون قد انتوى القتل من قبل ثم أخذ المسكر ليكون مشجعا له على ارتكاب جريمته. وحيث إن قضاء النقض فى هذا الصدد أقيم على أسباب صحيحة ويحقق العدالة والصالح العام ويتفق وصحيح القانون وتقره الهيئة وترفض العدول عن هذه المبادئ وتعدل بالأغلبية المقررة فى هذا القانون عن الأحكام الأخرى التي خالفت هذا النظر.
(الطعن رقم 72594 لسنة 75 ق - جلسة 2006/11/12 س 51 ع 1 ص 11 ق 2)
وقد ورد عنها في تعليقات الحقانية أنها مأخوذة بالنص عن القانون الفرنساوي وأن ما فيها من نقص ناشئ من عدم وجود أي تعريف للفظ الجنون وهذا الإبهام كان سبباً للخلاف الذي قام منذ قرن بين الأطباء وعلماء الشريعة بشأن مسئولية المصابين بخلل قواهم العقلة.
وعموماً فإن الجنون هو تعبر قصد الشارع منه الآفة الطبيعية أو المرضية التي تصيب العقل وتتأثر بها القوى العاقلة فتضعف ملكتها بحيث تكون تلك القوة الواعية المدركة في حكم المفقودة وذلك بصفة دائمة أو وقتية.
أما العاهة العقلية فهي كل حالة تطرأ على جهاز المخ أو الجهاز العصبي فتعقيمهما عن أداء وظيفتهما أما بصورة دائمة أو مؤقتة وقد لا تبلغ العاهة العقلية درجة الجنون بوصفه المعروف في علم الطب إلا أنها تتفق معه في التأثير في الملكة المفكرة وفي إرادة الشخص سواء كان شاملاً لأفعاله كلها بصفة عامة أو مقصوراً على فعل يعنيه من أفعاله، ومن أمثلة هذه العاهات نوبة الصرع التي تصيب الإنسان فتفقده وعيه ويزول بها شعوره فلا يدري ما يفعل ولا يعي ما يقول ومرض الهستيريا وهو ما يصيب الإنسان فيدفعه إلى عمل من الأعمال دفعاً لا سيطرة لإرادته عليه وأكثر ما يصيب هذا المرض النساء، واليقظة اليومية وهي أن يأتي النائم أعمالاً لا شعورية ولا يدري عنها شيئاً فكل هذه العاهات العقلية ومثيلاتها فيما يثبت وجودها وقت إرتكاب الفعل الذي يحرمه القانون تمنع المسئولية الجنائية.
شروط إنعدام المسئولية الجنائية في حالة الجنون أو العاهة العقلية :
تنص المادة 62/1،2 عقوبات على الجنون أو العاهة العقلية كعارض من عوارض الأهلية الجنائية تنفي المسئولية ويشترط لإنتفاء المسئولية الجنائية في هذه الحالة.
1- أن يكون مرتكب الفعل في حالة جنون أفقدته الشعور أو الاختيار المستقر عليه أن الضابط في بيان معنى الجنون و عاهة العقل المشار إليهما فى المادة 62 عقوبات هو بأثر الحالة المرضية على وعى المصاب بها أو إرادته أي على شعوره أو اختياره فإذا كان من شأنها أن تفقده شعوره أو إختاره كلياً فهی جنون أو عاهة في العقل في حكم هذه المادة، وعلى ذلك فإن حالة الجنون أو عامة العقل تشمل الجنون بمعناه الطبي والذي يتمثل في مرض يصيب المخ فيجعله ينحرف في نشاطه عن المسار العادي ليعيش في عالم من صنعه منبت الصلة بدنياً بالواقع سواء أكان هذا الجنون عاماً مستغرقاً لكل الملكات الذهنية للمصاب أم جزئياً متعلقاً بجانب فقط من جوانب ملكاته الذهنية وسواء أكان مؤبداً أي مستغرقاً كل وقت المصاب به أم عرضياً دورياً تتخلله ساعات أفاقة يعود فيها المصاب إلى رشده، كما يشمل الجنون كذلك بعض صور الأمراض العقلية التي يدخل فيه كذلك بعض صور الأمراض العصبية التي يكون لها نفس أثر حالة الصراع والبلة الراجعة إلى تخلف العقل عن النحو الطبيعي كما يدخل فيه كذلك بعض صور الأمراض العصبية التي يكون لها نفس أثر الجنون مثل نوم اليقظة وانقسام الشخصية تحت التنويم المغناطيسي، كما يدخل فيه كذلك حالات الهستيريا والنور استانيا أو الميلانكوليا يستوي في ذلك أن تكون هذه الأمراض ناتجة عن مرض أصاب المخ أو عن جرح به أو شلل إدركه أم كان راجعاً إلى التسمم الناتج عن عجز أجهزة الجسم عن التخلص منه أم كان راجعاً إلى إدمان المخدرات أو الكحوليات العبرة إن في تقدير حالة الجنون بتأثير الحالة المرضية على شعور المصاب بها واختياره أو على المصاب بها وإرادته فإن ترتب عليه افتقاده لوعيه وإرادته كانت الحالة جنوناً وامتنع قيام المسئولية العقابية على حاملها أما إذا اقتصر تأثيرها على مجرد أضعاف هذا الوعي وتلك الإرادة فإنه يتحمل مسئولية عادية فلا جنون إذن إلا بفقد الوعي والإرادة فقدا تاماً، ويلاحظ أن الجنون يتسع للعته أو الضعف العقلي الذي يفترض وقوف الملكات الذهنية في نموها دون النضج الطبيعي كما يدخل في موانع المسئولية أيضا حالات الإصابة بالصم والبكم منذ الميلاد أو سن مبكراً أما إذا أصيب الشخص بهما في سن متأخراً أو اتيحت له وسائل التعليم الحديثة على الرغم من إصابته بهما في سن مبكراً فليس لهما هذا الأثر ويعني ذلك وجوب فحص كل حالة التقدير نصيب صاحبها من التمييز.
ويثبت الجنون بعد استطلاع رأي الأطباء وأهل الخبرة وبعد فحص فنی يثبت منه أن المتهم كان وقت ارتكاب الجريمة فاقد الشعور والإدراك الجنون أو عاهة في العقل والفصل في هذه المسألة هو فصل في مسألة موضوعية من اختصاص محكمة الموضوع وحدها دون أن يكون لمحكمة النقض أية رقابة عليها، كما وأن للمحكمة أن تتثبت من جنون المتهم إذا ادعاه وتفصل في ذلك بغير الإستعانة برأي الخبراء كما أن رأى الخبراء لا يلزم المحكمة مادامت قد اطمأنت إلى سلامة عقل المتهم والعبرة في انعدام المسئولية هي بقيام حالة جنون وقت ارتكاب الفعل.
2- يجب أن ينشأ عن الجنون أو العاهة العقلية فقد الإدراك وقت ارتكاب الجريمة يتطلب الشارع أن يكون فقد الشعور أو الاختيار الناتج عن الجنون أو عاهة العقل معاصراً وقت ارتكاب الفعل الإجرامي ويردد الشارع بهذا الشرط القاعدة العامة القاضية بأن مانع المسئولية لا ينتج أثر إلا إذا كان متحققاً وقت ارتكاب الفعل ولا يعني الشارع بهذا الشرط زوال التمييز أو الاختيار تماماً و إنما يريد الإنتقاص منهما إلى حد يجعلهما غير كافين لإعتداد القانون بالإرادة ومن ثم كان متصوراً أن تمتنع المسئولية على الرغم من قدر من التمييز أو الاختیار دونما يتطلبه القانون وتحدد القدر المتطلب من التمييز والاختيار من شأن قاضي الموضوع وله الإستعانة بالخبير کي يكشف له عن خصائص الإرادة فيحدد على هذا الأساس مقدار تستحقه من قيمة في نظر القانون.
أما إذا أصيب مرتكب الفعل الإجرامي بحالة الجنون بعد ارتكاب الفعل الإجرامي فإن هذا لا يؤثر بطبيعة الحال على أهليته في تحمل تبعة هذا الفعل جزائياً ومدنياً مادام وقت ارتكابه له كان مستجمعاً لوعيه وإرادته غاية الأمر أن يوقف رفع الدعوى أو محاكمته حتى يعود إلى رشده وذلك إعمالا لنص المادة 339 من قانون الإجراءات الجنائية .
الغيبوبة الناشئة عن العقاقير المخدرة
تنص المادة 62 من قانون العقوبات بأنه (لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل... وأما الغيبوبه ناشئة عن عقاقير مخدرة أيا كان نوعها إذا أخذها قهراً عنه أو على غير علم منه بها) ويشترط لقيام هذا المانع من موانع المسئولية :
1- أن يكون الشخص فاقد الإدراك والاختيار في عمله بمعنى أنه لا يمكنه التمييز بين الخير والشر ولا يمكنه الهيمنة على ملكات عقله وتفكيره وإرادته فلا يمكنه أن يضفي على الأشياء والأمور ما تحمله من مدلول ومعنى في المجتمع ولا يقدر كنه أفعاله ونتائجها.
2- أن يكون ذلك وقت ارتكاب الفعل فالعبرة في فقد الإدراك والاختيار بوقت ارتكاب الجريمة ولا يعد ذلك إذا لم يكن السكر تاماً وقت ارتكاب الجريمة بأن كان يميز بين الأمور بوعي تام أو ناقص فلديه تمييز وإدراك وإختيار علی أي حال وتقوم المسئولية الجنائية.
3- أن يكون فاقد الإدراك والاختيار راجعاً لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة ولم ينص الشارع على السكر بالذات حتى لا تكون الغيبوبة ناشئة عن نوع معين من المواد ولذا نص على فقدان الشعور الغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أياً كان نوعها سواء كانت خموراً أي مواد كحولية أو مخدرات من أي نوع كان طبيعية أو صناعية.
4- ويجب التطبيق الفقرة الثالثة من المادة 62 على أن يكون الشخص قد تناول المسكر أو المخدر قهراً عنه أو على غير علم منه به أي أما بإكراهه على أخذه سواء كان ذلك الإكراه مادياً كحقنه به رغم أنفه أو معنوياً عن طريق تهديده بإلحاق الأذى به أن لم يتناوله أو كان بخداعه في المادة بأن يتناولها عالماً بأنها غير مخدرة أو مسكرة حالة كونها في الواقع مخدرة أو مسكرة.
السكر أو التخدير الاختياري :
الصعوبة الجدية تبدو في صورة من يتناول بإختياره مادة يعلم أنها مخدرة أو مسكرة فيفقد شعوره واختياره فقداً كاملاً وارتكب في أثناء ذلك جريمة، وجمهور شراح القانون في مصر هو أن السكران إختياراً يسأل عن كل ما ارتكبه من الجرائم حتى الجرائم العمدية وذلك استناداً إلى أن القانون إذ يقصر الإعفاء من المسئولية على حالة السكر غير الاختياري وفقاً للمادة 62 عقوبات فمفهوم ذلك أنه يحمله إياها كاملة في حالة السكر الاختياري، وقد انتقد الدكتور السعيد مصطفي السعيد ذلك الاتجاه وذهب إلى أن الأصح في هذا الشأن هو أن الجاني لا يسأل في صورة السكر الاختياري إلا على أساس الإهمال وعدم الإحتياط وقد كان قضاء النقض مستقراً في القديم على مسئولية السكران إختيارياً عن كل جريمة حتى ما يتطلب فيه قصد خاص كالقتل .
ثم عدلت محكمة النقض عن هذا الإتجاه وجری قضاؤها على عدم إمكان مساءلة السكران عن الجريمة التي يلزم فيها قصد خاص لدى المتهم ولكنه عدم مساءلة السكران منصور على الجريمة بوصفها القائم على أساس القصد الخاص، فإذا كانت توصف بوصف آخر يكتفي فيه بالقصد العام فإن الجاني يؤاخذ به كما هو الشأن في جريمة القتل فإن السكران إختيارياً وإن كان لا يسأل عنها بهذا الوصف فهو مسئول عن الفعل بوصفه ضرباً أفضى إلى الموت.
على أن هناك صورة من السكر الاختياري يكاد حكمها أن يكون متفقاً عليه وهي ما إذا كان السكر مسبوقاً بالإصرار على ارتكاب الجريمة وكان تعاطى المادة المخدرة للإقدام على ارتكابها ففي هذه الحالة يكاد يجمع شراح القانون على تحميل السكران مسئولية الجريمة كاملة لأنها وقعت نتيجة تعمد سابق، ولا يؤثر في ذلك عدم مصاحبة القصد للفعل مادام هذا الأخير نتيجة له ومترتباً عليه وهذه الصورة في حقيقتها مجرد افتراض لأن الذي ينفذ وهو سكران الجريمة التي تعمد ارتكابها وقت تناول المادة المخدرة لا يمكن أن يقال عنه أنه في حالة سكر تفقده التمييز لأن تنفيذه للجريمة التي قصدها قبل السكر يدل على أنه حافظ الشعوره مقدر لأعماله فيسأل عنه.
إثبات حالة السكر :
إثبات حالة السكر سواء من حيث ظروف تناول المادة المخدرة أو المسكرة أو من حيث أثرها في الإدراك من المسائل التي تختص بها محكمة الموضوع بغير رقابة من محكمة النقض، وعلى المحكمة إذا ما استظهرت حالة السكران أن تبين مبلغ تأثيره في المتهم وما إذا كان هذا قد أخذ المسكر بإرادته أو بغير إرادته ويتعين على المتهم أن يدفع أمام محكمة الموضوع بأنه كان فاقد الشعور وقت مقارفة الجريمة وذلك لأن هذا الدفع موضوعي لا يجوز إثارته لأول مرة أمام محكمة النقض.
(موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الأول ، الصفحة: 631)
حالات الجنون وعامة العقل :
لا نرى ملاءمة وضع تعريف الجنون ، إذ لن يكون هذا التعريف جامعاً لحالات إمتناع المسئولية التي تحددها الفقرة الأولى من المادة 62 من قانون العقوبات ، فالمسئولية تمتنع ولو لم يكن المتهم مجنوناً وإنما كان مصاباً بعاهة في عقله ؛ وبالإضافة إلى ذلك ، فإن صياغة تعريف دقيق للجنون ليس من اختصاص رجل القانون ، وإنما المرجع فيه إلى طب الأمراض العقلية ، ويستطيع القاضي الرجوع إلى الطبيب المختص لتحديد ما إذا كان المتهم مجنوناً أو غير مجنون .
يتسع الجنون في دلالته القانونية للأمراض العقلية، وهي التي تصيب المخ فتجعله ينحرف في نشاطه عن النحو العادي ، وهذه الأمراض هي التي يصدق عليها لفظ «الجنون» في دلالته الطبية الضيقة ، وسواء : أن يكون هذا الجنون عاماً مستغرقاً ، أي شاملاً كل القوى الذهنية ممتداً خلال وقت المريض كله ؛ أو أن يكون منقطعاً أو دورياً ، أي متخذا صورة نوبات تفصل بينها فترات إفاقة ؛ أو أن يكون متخصصاً ، أي متعلقا بجانب فحسب من النشاط الذهني فتسيطر على المريض في حين تكون سائر جوانب النشاط الذهني عادية، ويتسع الجنون للعته أو الضعف العقلي الذي يفترض وقوف الملكات الذهنية في نموها دون النضج الطبيعي .
ويتسع الجنون كذلك للأمراض العصبية التي تعنى انحراف نشاط الجهاز العصبي عن النحو الطبيعي المعتاد، وهذه الأمراض يقوم بها موانع المسئولية، بإعتبارها تنال من سيطرة الجهاز العصبي على الجسم وتصيب بالاختلال الصلة التي يقيمها هذا الجهاز بين مراكز التوجيه في المخ وأعضاء الجسم ، فتؤثر بذلك على الوعي أو الإرادة أو عليهما معاً، ويتسع تعبير الجنون في دلالته القانونية الواسعة التنويم المغناطيسي، بإعتباره يؤثر على إرادة النائم فيمحوها أو يضعفها ويجعلها خاضعة لإرادة المنوم، ويدخل فيه حالات الإصابة بالصمم والبكم منذ الميلاد أو في سن مبكراً ، أما إذا أصيب الشخص بهما في سن متأخراً أو أتيحت له وسائل کالتعليم الحديثة على الرغم من إصابته بهما في سن مبكراً فليس لهما هذا الأثر ، ويعني ذلك وجوب فحص كل حالة على حدة لتقدير نصيب صاحبها من التمييز.
الحالات النفسية :
بعض الحالات النفسية يثير التساؤل عن مدى تأثيره على التمييز وحرية الاختيار ، وأهم هذه الحالات اثنتان : الشخصية السيكوباتية ، وثورة العاطفة وشدة الأفعال .
فالشخصية السيكوباتية هي شخصية شاذة في تكوينها النفسي غير ملتئمة مع المجتمع في قيمه ومعاييره، وليس للسيكوباتية صلة بالتمييز : فصاحب هذه الشخصية يدرك ما يحيط به وما يصدر عنه على النحو العادي المألوف ، ولكن موضع الشذوذ في هذه الشخصية هو إنحراف الغرائز أو إختلال العاطفة ثم فساد القيم الاجتماعية التي تسيطر عليها ، ويترتب على هذا الشذوذ عجز صاحب هذه الشخصية عن الملاءمة بين أفعاله والقيم الاجتماعية ، فيرتكب الجرائم تحت تأثير ما في شخصيته من شذوذ .
ويعني ذلك أن السيكوباتية ليست في ذاتها «عاهة في العقل» : فالتمييز متوافر والإرادة حرة لأن في وسع صاحبها أن يسيطر عليها؛ ولكن السيكوباتية قد تكون مظهرة لعاهة في العقل ، ومن ثم كان ثبوتها جديراً بأن يحمل القاضي على فحص حالة المتهم للتحقق مما إذا كانت تكشف عن حالة اختلت فيها القوى الذهنية لمرض عقلي أو عصبي فتمتنع المسئولية ، أم أنها لا تكشف عن شيء من ذلك فتظل المسئولية قائمة .
أما ثورة العاطفة وشدة الإنفعال ، فالقاعدة في شأنهما أنهما ليسا من قبيل «عاهة العقل» ، ولا يحولان دون قيام المسئولية، والمبادىء القانونية صريحة في تأييد هذه القاعدة، فالعاطفة أو الانفعال مجرد باعث على الجريمة ، والأصل أن البواعث ليست من عناصر الجريمة ، وقد أكد الشارع هذه القاعدة ، فعاقب الزوج الذي يقتل زوجته ومن يزني بها إذا فاجأها متلبسة بالزنا (المادة 237 من قانون العقوبات)، والزوج يدفعه إلى جريمته في هذه الظروف انفعال شديد ، ولم ير الشارع في هذا الانفعال غير مجرد عذر قانونی ، أي أنه لم يعتبره مانع مسئولية ، فكان بذلك كاشفاً عن خطته في حكم العاطفة والإنفعال.
2- فقد الشعور أو الاختيار في العمل :
ليس الجنون أو عاهة العقل في ذاته مانعاً من المسئولية الجنائية ، وإنما تمتنع المسئولية بما يترتب عليه من فقد الشعور أو الاختيار في العمل ، ويعني ذلك أنه إذا لم يترتب عليه هذا الأثر فلا محل الإمتناع المسئولية، ولا صعوبة في تعليل هذا الشرط : فإمتناع المسئولية الجنائية رهن بكون الشارع لا يعتد بالإرادة ، لأنه لم تتوافر لها الشروط المتطلبة كي تكون ذات قيمة قانونية ؛ أما إذا ظلت هذه الشروط متوافرة فلجرادة كل قيمتها ، ولا وجه لأن تمتنع المسئولية، وغني عن البيان أن القانون لا يتطلب فقد الشعور والاختيار معاً ، بل يكفي فقد أحدهما.
المراد بفقد الشعور أو الاختيار : لا يعني الشارع بهذا الشرط زوال التمييز أو الاختيار تماماً ، وإنما يريد الانتقاص منهما إلى حد يجعلهما غير كافيين لإعداد القانون بالإرادة ؛ ومن ثم كان متصوراً أن تمتنع المسئولية ،على الرغم من بقاء قدر من التمييز أو الاختیار دون ما يتطلبه القانون، وتحديد القدر المتطلب من التمييز والاختيار من شأن قاضي الموضوع ، وله الإستعانة بالخبير کي يكشف له عن خصائص الإرادة ، فيحدد على هذا الأساس مقدار ما تستحقه من قيمة في نظر القانون .
3- معاصرة فقد الشعور والاختيار لإرتكاب الفعل :
يتطلب الشارع أن يكون فقد الشعور أو الاختيار الناتج عن الجنون أو عاهة العقل معاصراً وقت ارتكاب الفعل الإجرامي ، ويردد الشارع بهذا الشرط القاعدة العامة القاضية بأن مانع المسئولية لا ينتج، أثره إلا إذا كان متحققاً وقت ارتكاب الفعل .
المراد بمعاصرة وقت الشعور أو الاختيار لإرتكاب الفعل : يقتضي تطبيق هذا الشرط تحديد وقت ارتكاب الفعل ثم التحقق من حالة المتهم في هذا الوقت ، ويعني ذلك وجوب صرف النظر عن كل وقت آخر : فإذا كان المتهم فاقد الشعور أو الاختيار قبل ارتكاب الفعل ولكنه أصبح متمتعاً بهما وقت الفعل، أو فقدهما بعد الفعل في حين كانا له وقت ارتكابه فالمسئولية لا تمتنع ، ولكن ليس معنى ذلك أن فقد الشعور أو الاختيار السابق للفعل أو اللاحق عليه مجرد من الأهمية بالنسبة لإمتاع المسئولية ، فقد يفقد شخص شعوره أو اختياره قبل الفعل ثم تزول عنه هذه الحالة في الظاهر وقت الفعل ، ولكنها تكون مستمرة لديه في الحقيقة ؛ وقد يكون فقد الشعور أو الاختيار اللاحق على الفعل كاشفاً عن حالة ذات أصول ممتدة إلى وقت ارتكابه ، ومن ثم كان متعيناً على القاضي إذا ثبت له فقد الشعور أو الاختبار قبل الفعل أو بعده أن يتحقق من أن هذه الحالة لم تكن متوافرة في الحقيقة وقت الفعل على نحو تمتنع به المسئولية .
الصلة بين الحجر وإمتناع المسئولية :
يوقع الحجر على المجنون والمعتوه .. ويوقعه القاضي ، وتبطل بقوة القانون كل التصرفات التي تصدر بعد تسجيل قرار الحجر (المادتان 113، 114 من القانون المدني)، ويعني ذلك أن القانون المدني يعتبر الحجر قرينة غير قابلة لإثبات العكس على الجنون أو العته، ومن ثم كان مستتبعاً البطلان بقوة القانون، ولكن ليس للحجر هذا الأثر بالنسبة لإمتناع المسئولية الجنائية، أي أنه ليس قرينة مطلقة على ذلك، ومن ثم كان متعينا على القاضي الذي يدفع أمامه بجنون المتهم أو عاهة عقله على نحو أفقده الشعور أو الاختيار وقت الفعل، ويحتج الإثبات ذلك بقرار الحجر الذي وقع عليه ولم يرفع بعد أن يتحقق بصفة خاصة من حالته وقت الفعل ، فإن ثبت لديه تمتعه بالشعور والاختيار، فله أن يقرر مسئوليته على الرغم من قرار الحجر.
الجنون المتقطعة من الجنون نوع متقطع يتخذ صورة نوبات دورية تفصل بينها فترات إفاقة، ومن عاهات العقل هذا النوع كذلك كالصرع، وتطبيق شرط المعاصرة على هذه الأنواع يقتضى القول بأنه إذا ارتكب الفعل أثناء النوبة امتنعت مسئولية مرتكبه عنه، أما إذا ارتكب خلال الإفاقة فالمسئولية عنه تظل قائمة ، إذ تعني الإفاقة احتفاظ المتهم بشعوره واختياره.
الآثار المترتبة على امتناع المسئولية :
القاعدة في تحديد هذه الأثار: إذا توافرت شروط امتناع المسئولية فالأثر المترتب عليها هو انتفاء الركن المعنوي للجريمة واستحالة توقيع العقاب ، ويعني ذلك التزام سلطة التحقيق بعدم السير في إجراءات الدعوى إذا ثبت لها ذلك ، والتزام القضاء الحكم بالبراءة إذا كانت الدعوى قد أحيلت إليه، وهذا الأثر عام يمتد إلى الجنايات والجنح والمخالفات ، سواء في ذلك العمدية وغير العمدية ، وامتناع المسئولية يقتصر على من توافرت هذه الشروط بالنسبة له دون غيره ممن ساهموا معه في الجريمة .
القيود التي ترد على القاعدة السابقة : محل هذه القيود أن يكون فقد المتهم شعوره أو اختياره راجعاً لإرادته ، فإذا توقع الأفعال الإجرامية التي أقدم عليها حين فقده الشعور أو الاختيار وأرادها فهو مسئول عنها مسئولية عمدية ، وإذا كان في استطاعته توقعها والحيلولة دونها فهو مسئول عنها مسئولية غير عمدية فمن يقبل أن ينومه الغير تنويماً مغناطيسياً متوقعاً إقدامه أثناء نومه على فعل معین ومريداً هذا الفعل ونتيجته يسأل عنه عمداً ، أما إذا كان في استطاعته توقعه وتوقع نتيجته الإجرامية والحيلولة دونها ، فهو مسئول مسئولية غير عمدية ؛ وغنى عن البيان أن من ينومه ويدفعه إلى هذا الفعل يكون مسئولاً عنه كذلك، ومن يكون مصاباً باليقظة النومية فيترك قرب فراشة أشياء خطرة كسلاح أو مادة الإشعال الحريق، ويكون في استطاعته توقع إقدامه على استعمالها في ارتكاب جريمة، يسأل عنها مسئولية غير عمدية .
سلطة القضاء في إثبات امتناع المسئولية :
التحقق من توافر شروط امتناع المسئولية من شأن قاضي الموضوع ، إذ يتطلب بحثاً في وقائع الدعوى وظروفها ؛ ولا فرق في ذلك بين الشروط المختلفة لإمتناع المسئولية، فسواء أن يتعلق البحث بالعاهة أو بما ترتب عليها من فقد الشعور أو الاختيار أو بمعاصرة ذلك الفعل، ويترتب على ذلك أنه لا رقابة لمحكمة النقض على ما يثبته قاضي الموضوع في ذلك ، سواء أقبل الدفع بإمتناع المسئولية أم رفضه ، بشرط أن يكون قد سبب حكمه تسبيباً كافياً ، ولا يقبل الدفع بإمتناع المسئولية لأول مرة أمام محكمة النقض ، وفي الغالب من الأحوال يقتضي التحقق من امتناع المسئولية الإستعانة برأي خبير مختص ، وليس من شأن الخبير أن يقرر ما إذا كان المتهم مسئولاً جنائياً عن أفعاله أم غير مسئول ، وإنما تقتصر مهمته على بيان ما إذا كان المتهم يعاني انحرافاً متعلقاً بميدان خبرته ومدى خطورة هذا الإنحراف ، وعلى القاضي أن يستخلص من تقرير الخبير ما لإرادة المتهم من قيمة قانونية دون أن يكون ملزماً بما أثبته الخبير من وقائع أو انتهى إليه من نتائج .
وليس القاضي ملزما بأن يستعين بخبير : فقد يرى الأمر من الوضوح بحيث يستطيع البت فيه بنفسه ، كما لو كانت مظاهر المرض واضحة لديه أو قدر أن الدفع بامتناع المسئولية غير جدي لأن القرائن تكذبه، ويتقيد القاضي حين يرفض الإستعانة بخبير، أو يرفض الدفع بامتناع المسئولية بأن يسبب رفضه تسبيباً كافياً، ومن ثم لم يكن له أن يقتصر على الرفض غير المسبب ، وليس له من باب أولى أن يقتصر على الرفض الضمني المستخلص من نطقه بالعقوبة، ومن حق القاضي أن يقرر امتناع مسئولية المتهم ولو لم يدفع بذلك، إذ من واجبه أن يتحقق من توافر كل أركان الجريمة وعناصر المسئولية عنها حتى يكون من حقه أن ينطق بالعقوبة ، ثم أنه ليس من شروط امتناع المسئولية أن يدفع المتهم به ، ولا يعد تسبيبا كافيا أن يستند القاضي في اعتباره المتهم مسئولاً عن أفعاله إلى أنه لم يقدم الدليل على امتناع مسئوليته، أو إلى أنه «لم يبد أنه مجنون في الوقت المناسب أثناء المحاكمة»، ولا يلام القاضي حين يغفل الإشارة إلى تمتع المتهم بقواه العقلية إلا إذا دفع دفعاً جدياً بإمتناع مسئوليته لجنون أو عاهة في العقل .
التدابير الاحترازية عند ثبوت امتناع المسئولية : قدر الشارع أنه مما يهدد المجتمع بالخطر أن يطلق سراح متهم ثبت امتناع مسئولية الجنون أو عاهة في العقل ، وثبتت في الوقت نفسه خطورته بإرتكابه جريمته ، فنص في المادة 342 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه « إذا صدر أمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى أو حكم ببراءة المتهم وكان ذلك بسبب عاهة في عقله تأمر الجهة التي أصدرت الأمر أو الحكم إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة عقوبتها الحبس بحجز المتهم في أحد المحال المعدة للأمراض العقلية إلى أن تأمر الجهات المختصة بإخلاء سبيله »، وهذا التدبير يقي المجتمع خطورة هذا الشخص ، وعلى الرغم من انطوائه على سلب الحرية فهو ليس عقوبة ، إذ لا محل لعقوبة إذا امتنعت المسئولية ، وإنما هو تدبیر احترازي، وغنى عن البيان أنه لا محل لهذا التدبير إلا إذا ثبت من التحقيق الإبتدائي أو من المحاكمة ارتكاب المجنون الجريمة، وإلا ما كان للسلطة القضائية شأن به، وكان أمره للسلطة الإدارية شأنه شأن أي مجنون.
الغيبوبة الناشئة عن سكر غير اختیاری :
نص الشارع على هذا السبب المانع من المسئولية الجنائية في المادة 62 من قانون العقوبات ، فقرر أنه «لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل : ...... الغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه أو على غير علم منه بها » . وقد حدد الشارع في هذا النص شروط امتناع المسئولية ، فتطلب أن يكون السكر غير اختیاری ، واشترط أن يترتب عليه فقد الشعور أو الاختيار في العمل، وأن يعاصر ذلك وقت ارتكاب الفعل، ويتضح بذلك أن الحكم الذي يقرره هذا النص خاص بالسكر غير الأختیاری ، أما السكر الاختياري فلم يبين القانون حكمه صراحة، وقد أشار الشارع إلى علة امتناع المسئولية ، وهي فقد «الشعور» أي التمييز ، أو فقد «الاختيار» أي حرية الاختيار ، وهما الشرطان المتطلبان لتكون الإرادة ذات قيمة قانونية ، فيؤدی إنتفاؤهما إلى أن تتجرد من القيمة فلا يتوافر الركن المعنوي للجريمة .
العلاقة بين الجنون أو عاهة العقل وبين الغيبوية : جمع الشارع بين هذا السببين لامتناع المسئولية في نص واحد وتطلب فيهما نفس الشرط ، وهو « فقد الشعور أو الاختيار في العمل وقت ارتكاب الفعل»، ورتب عليهما ذات الأثر القانوني ، وهو انتفاء المسئولية والعقاب، ولهذا الجمع ما يبرره، فبينهما تقارب من حيث الآثار النفسية، فالتمييز في الحالتين ينحرف والسيطرة على الإرادة تنتقص على نحو محسوس : وهما في النهاية قد يختلطان ، إذ قد يؤدي الإدمان على السكر إلى تسمم كحولي مفض إلى اختلال العقل، ولكن بينهما فروقاً واضحة : فالأصل في الجنون أو عاهة العقل أنه غير اختياري ، ولكن السكر قد يكون اختيارياً ، بل أن حالات السكر الاختياري أكثر حدوثاً في العمل من حالات السكر غير الاختیاری، ومن ثم كان السكر في أحد نوعيه في حاجة إلى أحكام لا محل لها إذا كنه بصدد جنون أو عاهة في العقل، وعلى الرغم من تقارب آثارهما النفسية ، فثمة فارق واضح بينهما : فالجنون وعاهة العقل حالتان مرضيتان في الغالب ولهما قدر من الإستقرار ، ومن ثم كانت آثارهما على نفسية المصاب عميقة ، إذ تعني تغيراً شاذاً في شخصيته بحيث يمكن القول بأنه بعد إصابته شخص مختلف عنه قبل الإصابة ؛ ولكن الغيبوبة حالة عارضة وليست لها صفة المرض ، وهي لا تغير من الشخصية ، وإنما تظهرها على حقيقتها مع إضفاء المبالغة على عناصرها وخصائصها ، فما تكشف عنه تصرفات السكران من عواطف و انفعالات وعادات ... هي له بالفعل ، وكل ما يضفيه السكر إليها أن تظهر في صورة متضخمة ، لأن سيطرة السكران علی إرادته تقل ، فلا يستطيع التحكم في شخصيته بحيث لا يظهر منها غير الجانب المتفق مع القيم الاجتماعية ؛ أما ما تكشف عنه تصرفات المجنون فليس من عناصر شخصيته العادية ، وإنما هو شذوذ مرضي لا صلة بينه وبين هذه الشخصية ؛ ومن ثم ساغ أن نقول إن تأثير الجنون على الشخصية کیفی ، ولكن تأثير السكر عليها كمي .
أنواع السكر:
يجرى الفقه على التمييز بين أنواع متعددة من السكر فينقسم من حيث سببه إلى اختیاری و غیر اختيارى ؛ ولهذا التقسيم أهميته القانونية ، فالثاني دون الأول قد صرح الشارع بحكمه، وينقسم من حيث أثره إلى سكر مفض إلى الجنون وسكر بسيط ، ولهذا التقسيم أهميته كذلك : فالأول يعد مانع مسئولية دون خلاف ويخضع لأحكام الخاصة بالجنون أو عاهة العقل ، أما الثاني فمتميز عن الجنون وفي حاجة إلى أحكام خاصة به ، وينقسم السكر من حيث أثره كذلك إلى کلى ، وهو ما أفقد الشعور أو الاختيار ؛ وجزئي ، وهو ما أنقص منهما أو من أحدهما فقط، وأهمية هذا التقسيم أن الأول وحده هو الذي تمتنع به المسئولية ، أما الثاني فلا يمنعها وإن ساغ إعتباره ظرفاً مخففاً للعقاب .
التمييز بين السكر غير الاختياري والسكر الاختیاری : فنبين الحكم الذي صرح به الشارع للأول ، و نحاول استخلاص الحكم الذي يقرره الثاني .
السكر غير الاختياري
لا يثير بيان حكم السكر غير الاختیاری صعوبة ، فهو كما صرح به القانون - امتناع المسئولية الجنائية ؛ وهذا الحكم لا يقرره القانون إلا إذا توافرت للسكر شروط معينة نستظهرها فيما يلي ، ممهدين لها بتحديد المراد بالسكر وبيان متى يعد غير اختیاری .
السكر : عبر الشارع عن السكر بأنه « غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيا كان نوعها » ؛ والمراد بالسكر « حالة عارضة ينحرف فيها الوعي أو تضعف السيطرة على الإرادة نتيجة لمادة أدخلت في الجسم » . فالسكر في ذاته حالة نفسية ، وإن كان مرجعه إلى تأثير مواد معينة على مادة الجسم وخاصة خلايا المخ والسكر حالة مؤقتة ، ومن ثم فالغيبوبة المستمرة ولو كان منشئوها إدمان الخمور أو المخدرات لا تعد في ذاتها سكراً ، وإنما تلحق بعاهة العقل والسكر حالة عارضة مصطنعة ، أي وليدة تأثير مواد خارجية ، وليست أصيلة في الجسم ، فالغيبوبة الناشئة عن تسمم داخلي مراجعه إفراز الجسم مواد معينة وعجزه عن التخلص منها لا تعد سكراً ، وإنما تلحق بعاهة العقل وقد عبر القانون عن المواد التي تحدث السكر بأنها « عقاقير مخدرة » ، وهذا التعبير ينبغي أن يفهم في أوسع المعانی ، فليس بشرط أن تكون من قبيل «المخدرات» في المعنى الذي يحدده القانون رقم 182 لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والإتجار فيها ، فقد تكون المادة « عقارا مخدرا » على الرغم من عدم ورودها في الجداول الملحقة بهذا القانون ، بإعتبارها تؤثر في الوعي أو الإرادة على النحو الذي يعد سكراً ؛ وتعد المواد الكحولية بكل أنواعها وأسمائها « عقاقير مخدرة »، وسواء لدى القانون كيفية إدخال « العقار المخدر » في الجسم : سواء أن يكون ذلك عن طريق الفم أو الشم أو الحقن أو امتصاص مسام الجلد أو أية كيفية أخرى متصورة.
متى يعد السكر غير اختياري: نص القانون على صورتين يكون السكر فيهما غير اختياري : الأولى ، أن يتناول المتهم المادة المخدرة قهراً عنه ؛ والثانية ، أن يتناولها على غير علم منه بها .
فالصورة الأولى ، تفترض أن تناول المادة كان تحت تأثير إكراه مادي أو معنوي أو استجابة لضرورة كعلاج مرض أو التهيؤ لجراحة .
والصورة الثانية تفترض الوقوع في غلط ، أي تناول المادة المخدرة اعتقاداً بأنه ليس من شأنها التخدير، ويخلص من ذلك أن الصورة التي لا يوصف فيها السكر بأنه « غير اختیاری » هي صورة ما إذا علم من تناول المادة بخصائصها واتجهت إرادته وهي حرة إلى تناولها : فالسكر غير الاختياري هو السكر غير العمدي ، سواء أرجع إلى خطأ أم تجرد منه أما السكر الاختياري فهو العمدی.
فقد الشعور أو الاختيار في العمل : هذا الشرط هو بعينه الشرط الذي يتطلبه القانون الامتناع المسئولية بناءً على الجنون أو عاهة العقل ، وعلته أن انتفاء الشعور أو الاختيار هو الذي يجرد الإرادة من القيمة للقانونية ويجعل امتناع المسئولية متعيناً ولا يتطلب القانون فقد الشعور والاختيار معاً ، ولكنه يكتفي بفقد أحدهما ولا يعني هذا الشرط زوال الشعور أو الاختيار تماماً ، وإنما يعني الإنتقاص من أحدهما على نحو محسوس بحيث لا يكون محل لإعتداد القانون بالإرادة فإذا لم يتوافر هذا الشرط ، فكان المتهم على الرغم من سكره محتفظاً بشعوره واختياره فالمسئولية تظل قائمة.
معاصرة فقد الشعور أو الاختيار لإرتكاب الفعل : يردد الشارع بهذا الشرط القاعدة العامة القاضية بأن مانع المسئولية لا ينتج أثره إلا إذا كان متحققاً وقت ارتكاب الفعل فإذا انتفى هذا الشرط ، فكان فقد الشعور أو الاختيار سابقاً على لحظة ارتكاب الفعل أو لاحقاً عليها في حين كان المتهم محتفظاً بهما لحظة الفعل ، فالمسئولية لا تمتنع .
سلطة القضاء في إثبات السكر: التحقق من وجود المتهم في حالة سكر وتحديد نوع سكره وما إذا كان اختيارياً أو غير اختياري ، وبيان تأثيره على الشعور والاختيار ، كل ذلك من شأن قاضي الموضوع دون رقابة تباشرها عليه محكمة النقض ، فإذا فصل في هذه الأمور وانتهى بناءً على أدلة سائغة إلى مسئولية المتهم أو عدم مسئوليته ، فلا محل للطعن في حكمه، ويلزم القاضي بالرد على دفاع المتهم بإنعدام مسئوليته بناءً على السكر ، فإن أغفل الرد أو رد عليه دون استناد إلى أدلة سائغة ، كما لو أغفل بيان ما إذا « كان المتهم فاقد الشعور والاختيار بسبب حالة السكر أم لا »
فحكمه قاصر التسبيب ، ولا محل لهذا الإلتزام إذا كان المتهم لم يدفع بإنعدام مسئوليته بسبب سكره، ولا يقبل منه هذا الدفع لأول مرة أمام محكمة النقض طالما أن الحكم المطعون فيه لا يبين منه أن المتهم كان فاقد الشعور أو الاختيار بسبب السكر.
السكر الاختياري
السكر الاختياري كما قدمنا هو السكر العمدى ، ويفترض العلم بطبيعة المادة المخدرة واتجاه الإرادة إلى تناولها والمشكلة التي يثيرها السكر الاختياري تدور حول تحديد مسئولية من سكر بإختياره ثم ارتكب جريمة لم يكن مصمماً عليها قبل سكره : هل يسأل عنها وما نوع مسئوليته وما أساسها ؟ وبذلك تخرج من نطاق هذه المشكلة حالة من صمم على الجريمة ثم سكر کی يستمد الجرأة عليها ، إذ لا يثور شك في مسئوليته عنها، فالفعل الإجرامي ينتمي إلى طائفة الأفعال الحرة من حيث سببها، وقد سبق بيان حكمها، وقد قدمنا أن الشارع لم يصرح بحكم السكر الاختياري ، ولذلك يثور التساؤل حول ما إذا كان الشارع قد بين هذا الحكم ضمنا حينما نص على السكر غير الاختياري ، أم أنه قد سكت عن بيانه فيتعين الرجوع إلى القواعد العامة في المسئولية، اختلفت الآراء في الإجابة على هذا التساؤل.
حكمه القواعد العامة في السكر الاختياري : يرى بعض الفقهاء أن المادة 62 من قانون العقوبات قد اقتصرت على بيان حكم السكر غير الاختياري ، أما السكر الاختياري فليس في القانون نص يبين حكمه ، ولذلك لا يكون من مفر من الاحتكام إلى القواعد العامة . وهذه القواعد تأبى أن يسأل السكران مسئولية عمدية ، إذ هو فاقد الشعور لا يدري ما يفعل ، فلا يمكن أن ينسب إليه أنه قد وجه إرادته إلى مخالفة القانون ولكن هذه القواعد لا تأبى أن يسأل مسئولية غير عمدية على أساس الإهمال وعدم الإحتياط ، ووجه الإهمال أنه تناول المادة المخدرة بغير حساب لدرجة أفقدته الوعي، وتطبيق هذا الرأي يؤدي إلى أنه إذا ارتكب السكران اختياراً جريمة يعاقب القانون عليها سواء أكانت عمدية أم غير عمدية كالقتل أو الجرح أو الضرب أو الحريق كان مسئولاً عنها بإعتبارها جريمة غير عمدية ؛ أما إذا ارتكب جريمة لا يعاقب القانون عليها إلا إذا كانت عمدية كالتزوير أو هتك العرض أو السرقة فلا يسأل عنها، والحجة الأساسية التي يعتمد عليها هذا الرأي أن مسئولية السكران عمداً تتطلب نصاً صريحاً في القانون لأنها تخالف القواعد العامة ، ويشيرون كذلك إلى أن القوانين التي أخذ عنها النص الخاص بالسكر ، وهي القانون الإيطالي الصادر سنة 1889(المادة 48) والقانون الهندي (المادة 86) ، قد حرصت على النص صراحة على المسئولية العمدية للسكران بإختياره ، فإذا كان الشارع لم ينقل عنها هذا الحكم ، فمعنى ذلك أنه أراد مخالفتها واستبعاد هذه المسئولية.
وهذا الرأي محل للنقد : فلا فارق من حيث القيمة القانونية بين نص يقرر الحكم صراحة ونص يقرره ضمناً ، فإذا استطعنا وفقاً لقواعد التفسير القطع بأن النص يعبر ضمنا عن قصد الشارع تقرير حكم معين للسكر الاختياري ، فإن تطبيق هذا الحكم يكون متعيناً ، ولذلك يجب قبل الرجوع إلى القواعد العامة البحث فيما إذا كانت المادة 62 من قانون العقوبات قد بينت ضمناً حكم السكر الاختیاری، وليست الإشارة إلى القانون الإيطالي والهندي حاسمة : فإذا كان الشارع قد نقل عنهما حكم السكر غير الاختیاری دون السكر الاختياري فليس معنى ذلك حتماً أنه أراد مخالفتهما بالنسبة للأخير ، بل الأرجح أنه قدر كفاية النص الذي أورده لبيان حكم النوعين ، فهذا النص يقرر صراحة حكم أحد النوعين ويشير ضمناً إلى حكم الآخر وليس من شأن القواعد العامة في المسئولية أن تقود إلى النتائج التي يقول بها هذا الرأي ، فإذا قلنا بأن القصد الجنائي لا يتوافر لدى السكران لأن فاقد الشعور لا يدري ما يفعل ، فإن المنطق يحتم القول بأن الخطأ غير العمدي لا يتوافر لديه كذلك ، إذ الخطأ يفترض إرادة معتبرة قانوناً اتجهت إلى الفعل دون نتيجته ، والسكران لا تتوافر لديه هذه الإرادة ، لأن فقده الشعور يجردها من القيمة القانونية، أما القول بأن وجه الخطأ لدى السكران هو تناوله المادة المخدرة بغير حساب لدرجة أفقدته الوعي فمحل للنظر، فليس تناول المادة المخدرة هو الفعل المكون للجريمة ، إذ ليس من شأنه إحداث النتيجة الإجرامية ، ولا يمكن القول بأن القانون يقيم عليه الركن المادي للجريمة ، وليس بسائغ أن نقول بأن الخطأ بإعتباره الركن المعنوي للجريمة غير العمدية قد توافر بالإهمال الذي عاصر تناول المادة المخدرة في حين أن ركنها المادي قد توافر بالفعل الذي ارتكبه الجاني بعد سكره، إذ يخالف هذا القول القاعدة الأساسية التي تقضي بوجوب تعاصر أركان الجريمة ، وتطبيق هذه القاعدة يقتضي أن يكون الركن المعنوي متوافراً لحظة ارتكاب الفعل ؛ أما إذا توافر في لحظة سابقة في حين لم يكن له وجود وقت الفعل لتجرد الإرادة من قيمتها القانونية ، فإن قيام المسئولية الجنائية لا يكون له محل، وبذلك يتضح أن النتيجة المنطقية لهذا الرأي هي إنكار المسئولية الجنائية للسكران بإختياره ، سواء في ذلك العمدية وغير العمدية وهذه النتيجة غير مقبولة ، لأنها تهدد المجتمع بالخطر، بالإضافة إلى أنها تعارض النص الصريح للقانون، فإذا كان الشارع قد وضع شروطاً لامتناع مسئولية السكران ، فإن انتفاء بعض هذه الشروط أو كلها يستتبع القول بأنه ليس الامتناع المسئولية محل، وفي تعبير آخر ، فإنه إذا جعل الشارع من شروط امتناع المسئولية أن يكون السكر غير اختياري ، فإن القول بإمتناع المسئولية إذا كان السكر اختيارياً يعنى إهدار نص القانون في إشارته إلى وجوب کون السكر المانع من المسئولية سكراً غير اختیاری.
خطة الشارع في شأن السكر الاختياري : تحرص أغلب التشريعات الحديثة على وضع نصوص تستبعد بها تطبيق القواعد العامة على الجرائم التي يرتكبها السكران باختياره ، وتقرر هذه النصوص مسئوليته عنها، ولهذه الخطة ما يبررها، فالقواعد العامة تقود إلى إنكار مسئولية السكران بإختياره ، سواء في ذلك المسئولية العمدية وغير العمدية وهذه النتيجة غير مقبولة ، فليس من المنطق أن تكون في يد المتهم الوسيلة للتخلص من المسئولية عن جرائمه ، بأن يسكر ويستمد من سكره الحصانة من العقاب ، وليس من المنطق كذلك أن يكون السكر وهو في ذاته مخمور ، وقد يكون معاقباً عليه سبباً للتخلص من المسئولية ، أي سبباً في مزايا بحيث يكون السكران أفضل وضعاً من غير السكران، وهذه النتيجة بعد ذلك لا تتفق مع مصلحة المجتمع ، فالجرائم التي ترتكب أثناء السكر ليست قليلة ومرتكبوها خطرون دون شك على المجتمع ، ولذلك تقتضى المصلحة التغليظ في عقابهم لا التسامح معهم ونعتقد أن القانون المصري ينتمي إلى هذه التشريعات ، وكل ما يميزه أن نصه يقرر حكم السكر الاختياري ضمناً ، لأنه قدر أن استخلاصه ميسور فلم يجد حاجة إلى التصريح به، وتطور القانون المصري يؤيد هذا النظر ، فالقانون القديم الصادر سنة 1883 لم يكن يتضمن نصوصاً خاصة بالسكر ، شأنه في ذلك شأن قانون العقوبات الفرنسي ، وعند وضع قانون سنة 1904 تبين لواضعه أنه من الملائم وضع نص في هذا الشأن ، وكان غرضه تجنب الخلاف الذي ثار في الفقه الفرنسي وامتد إلى الفقه والقضاء في مصر ؛ ولم يكن حكم السكر الاضطراری محلاً للخلاف ، إذ الإجماع منعقد على امتناع المسئولية به ، ولكن محل الخلاف هو السكر الاختياري ، ولذلك لم يكن معقولاً أن ينسب إلى الشارع أنه أراد أن يقصر حكمه على حالة ليست محل خلاف وأن يغفل الحالة محل الخلاف ، خاصة وأن القوانين التي استعان بها في وضع نصه قد بينت في وضوح حكم هذه الحالة.
والذي نراه أن الشارع يقرر مسئولية السكران بإختياره عن كل ما يرتكبه من جرائم أثناء سكره ، لا فرق في ذلك بين المسئولية العمدية والمسئولية غير العمدية ، ولا فرق بالنسبة للجرائم العمدية بين ما يكتفي فيه القانون بالقصد العام وما يتطلب لقيامه توافر القصد الخاص، وأساس هذه المسئولية هو افتراض القانون أن السكران بإختياره تتوافر لديه إرادة معتبرة قانوناً ، وأن شأنه في ذلك هو شأن غير السكران، وعلى الرغم من أن هذه المسئولية تخالف القواعد العامة، فإن القول بها يستند إلى إرادة الشارع الذي يسعه مخالفة هذه القواعد، والحجة في هذا الرأي أن الشارع قد نص في المادة 62 من قانون العقوبات على امتناع مسئولية السكران اضطراراً ، ويعني ذلك أنه قرر حكماً ، هو امتناع المسئولية ، وربطه بعلة ، هي السكر الاضطراري ، فإذا انتفت هذه العلة فكان السكر اختيارياً ، فلا يكون لهذا الحكم محل ، أي أنه لا يكون محل لأن تمتنع المسئولية وعلى هذا النحو ، نرى أن استخلاص حكم السكر الاختياري من المادة 62 من قانون العقوبات عن طريق مفهوم المخالفة ميسور ، وأن الشارع كان محقاً حينما قدر أن هذا الحكم ليس في حاجة إلى نص صريح ونلاحظ بعد ذلك أن خطة القانون هي بيان موانع المسئولية ، وافتراض أن كل من لم يتوافر لديه أحد هذه الموانع هو مسئول عن أفعاله ، فالأصل هو المسئولية والاستثناء امتناعها ، فإذا كان الشارع قد اقتصر على النص على امتناع مسئولية السكران اضطراراً فإن ذلك يعني اعتباره السكران اختیاراً خاضعاً للأصل العام ، وهو مسئوليته عن أفعاله، ولا يمكن أن يفسر ذلك بالإحالة إلى القواعد العامة، إذ تعترض هذا التفسير النتائج المهدرة لمصالح المجتمع التي يؤدي إليها تطبيق هذه القواعد والتي لا يتصور أن يكون الشارع قد ارتضاها، وندعم هذا الرأي بملاحظة الموضع الذي اختاره الشارع للنص على امتناع مسئولية السكران اضطراراً، هذا الموضع هو نفس النص الذي خصصه للجنون أو عاهة العقل، وبالإضافة إلى ذلك فقد أخضع المانعين لذات الشرط ، وهو « فقد الشعور أو الاختيار في العمل وقت ارتكاب الفعل » ، ويعني ذلك أنه نظر إلى الغيبوبة الناشئة عن السكر على أنها حالة شبيهة بالجنون أو عاهة العقل ، وهذا التشابه لا محل له إلا إذا كان السكر اضطرارياً ، إذا يكون كالجنون عارضا أصاب شخصاً دون أن تتجه إليه إرادته ، ولا محل لهذا التشابه إذا كان السكر اختيارياً ، إذ لا يكون الجنون اختيارياً وهذا الرأي هو الذي يعطي النص الخاص بالسكر الاضطراري قيمة قانونية ، فلو كان كل ما يهدف إليه الشارع هو أن يقرر امتناع مسئولية السكران اضطراراً ، فما كانت به حاجة إلى نص خاص بذلك ، إذ القواعد العامة تغني عنه ؛ ولكن إذا قلنا أن الشارع يقرر فيه ضمناً حكم السكر الاختياري ، فعندئذ تكون له قيمة .
مذهب القضاء في تحديد مسئولية السكران باختياره : القضاء مستقر على أن السكران باختياره يسأل عن كل جرائمه : فمتى تحقق أن « الجاني قد تعاطي الخمر بمحض اختياره فليس لسكره في هذه الحالة تأثير ما في مسئوليته الجنائية » ، « فالقانون في هذه الحالة يجري عليه حكم المدرك التام الإدراك ، مما ينبني عليه توافر القصد الجنائي لديه »، ولا يفرق القضاء في ذلك بين المسئولية العمدية وغير العمدية ، وقد استخلص هذا الحكم من المادة 62 من قانون العقوبات عن طريق مفهوم المخالفة : فإذا كانت الغيبوبة المانعة من المسئولية هي الناشئة عن عقاقير مخدرة تناولها الجاني قهراً عنه أو على غير علم منه بها ، « كان مفهوم ذلك أن من يتناول مادة مخدرة مختاراً وعن علم بحقيقة أمرها يكون مسئولاً عن الجرائم التي تقع منه وهو تحت تأثيرها » .
ولكن القضاء أورد على مذهبه تحفظاً : فإذا كان القانون يتطلب في الجريمة قصدا خاصاً كالقتل العمد أو التزوير أو السرقة فإن السكران باختياره لا يسأل عنها، وإنما يسأل عن جريمة أخرى تقوم بالقصد العام إن كان لمثل هذه الجريمة وجود في القانون ، فإن لم يكن لها وجود فلا يسأل جنائياً على الإطلاق ؛ وفي تعبير آخر فإن القضاء لا يقبل نسبة القصد الخاص إلى السكران ، ولكنه يقبل نسبة القصد العام إليه ، ولذلك لا يسأل على أساس أنه قد توافر لديه القصد الخاص ، ولكن يسأل على أساس توافر القصد العام لديه والحجة في ذلك أن الشارع لا يكتفي في ثبوت القصد الخاص « باعتبارات وافتراضات قانونية ، فإن القصد الجنائي باعتباره واقعة يجب أن يكون ثبوتها بناءً على حقيقة الواقع » ، أي « يجب التحقق من قيامه من الأدلة المستمدة من حقيقة الواقع »؛ وقد أشار القضاء التدعيم رأيه إلى القانون الهندي الذي أخذ عنه النص المصرى واستقر فيه هذا التفسير وتطبيقاً لهذا التحفظ ، فإنه إذا اتهم السكران بقتل عمد فلا يسأل عن هذه الجريمة لأنها تتطلب - في رأى القضاء - قصداً خاصاً قوامه نية إزهاق الروح ، ولكنه يسأل عن جرح أو ضرب أفضى إلى الموت باعتباره جريمة تقوم بماديات القتل وتكتفي بالقصد العام، أما إذا اتهم السكران بتزوير أو سرقة ، فلا سبيل إلى مسئوليته عن أيهما ، لأنه إذا نفينا القصد الخاص في كل منهما فلا قيام للجريمة .
وهذا التحفظ يفتقر إلى السند القانوني ويناقض المبدأ الذي يرد عليه، فالتسليم بمسئولية السكران باختياره عن كل جريمة يرتكبها سواء أكانت عمدية أم غير عمدية أساسه أن الشارع قد افترض توافر الإرادة المعتبرة قانوناً لديه وأجرى عليها حكم الإرادة المتوافرة لدى « المدرك التام الإدراك » ؛ فإذا سلمنا بذلك كان متعيناً الإعتراف لهذه الإرادة بكل قيمتها ، ومن ذلك صلاحيتها لأن يقوم بها القصد الخاص، وليس ثمة فارق بين القصد العام والقصد الخاص من حيث جوهر كل منهما ، إذ لا بد فيهما من إرادة معتبرة قانوناً متجهة إلى نتيجة إجرامية ، وكل الفارق بينهما أن القصد الخاص يقتضي أن تتجه هذه الإرادة إلى واقعة ليست من ماديات الجريمة في حين يكتفي القصد العام بمجرد اتجاهها إلى النتيجة الإجرامية ، وهذا الفارق يتعلق بمدى اتجاه الإرادة وكيفيته ولكنه لا يمس جوهر القصد ، فهو فی نوعية واحد، والقول بأن القصد الخاص لا تكفي في ثبوته الاعتبارات والافتراضات القانونية وأن ثبوته يجب أن يستند إلى أدلة مستمدة من حقيقة الواقع ، هذا القول يصدق كذلك على القصد العام ، إذ لا يفترضه القانون ، وإنما يتعين أن يقوم الدليل عليه ، وهو بدوره إرادة حقيقية ذات اتجاه حقیقی، وإذا كان المراد بهذا القول أن القصد الخاص لا يتوافر بمجرد ارتكاب الفعل الإجرامي ، لأنه يتصور ارتكاب هذا الفعل لأغراض أخرى ، ولأنه إذا كان مرتكبه مفيقاً وعالماً بما يفعل فقد لا يكون هذا القصد متوافراً لديه، فالرد عليه أن القصد العام كذلك لا يتوافر بمجرد ارتكاب الفعل ، وقد يتبين انتفاؤه لدى المفيق الذي ارتكب هذا الفعل ، فلا بد من إقامة الدليل عليه ، وهذا الدليل يجب أن يستمد من حقيقة الواقع ، وشأنه في ذلك شأن القصد الخاص سواء بسواء، ونحن نعتقد أن إثبات توافر القصد الخاص لدى السكران میسور ، فهذا القصد يستخلص من القرائن : فنيه ازهاق الروح مثلاً تستخلص من استعمال أداة قاتلة أو الإعتداء في مقتل أو سبق تهديد المجنى عليه بالقتل .. ، وهذه القرائن تتوافر بالنسبة للسكران كما تتوافر بالنسبة اللمفية ، فإذا سلمنا بأن القانون يعتبر السكران باختياره ذا إرادة معتبرة ، فلا صعوبة تواجهنا إذا اقتنعنا بدلالة هذه القرائن واستخلصنا منها تجاه هذه الإرادة على النحو الذي يقوم به القصد الخاص .
(شرح قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ محمود نجيب حسني، الطبعة السابعة 2012 دار النهضة العربية، الصفحة: 591)
شروط امتناع المسئولية الجنائية للجنون أو عاهة في العقل :
الشرط الأول : ثبوت الجنون أو عاهة العقل :
لم يشأ المشرع أن يعبر عن حالات اضطراب القوى العقلية بتعبير طبي، إذ أن أي تعبير طبي لن يكون شاملاً لكافة الحالات التي تضطرب فيها القوى العقلية، وهذا المسلك سليم من الناحية التشريعية، فهو لا يكلف القاضي البحث في نوع المرض العقلي المصاب به المتهم، فيكفي أن يتحقق من ثبوت الاضطراب في القوى العقلية أياً كان نوع المرض، مادام هذا الاضطراب يؤدي إلي فقدان الإدراك أو الاختيار.
وتحديد المقصود بالجنون أو عاهة العقل من شأن الأطباء والمتخصصين، علي أنه يمكن القول بأن الجنون يشمل الحالات الذهنية وهي الأمراض الناتجة عن خلل في العقل، والحالات العصبية وهي الأمراض الناشئة عن اضطراب الجهاز العصبي.
ولذلك فهو في اعتقادنا أوسع نطاقاً من تعبير عاهة العقل الذي يشير إلي النوع الأول فقط .
وعلى أية حال فليس من الضروري أن ينشأ الجنون أو عاهة العقل عن مرض عضوي، فقد يرجع إلي مرض نفسي .
وحتى اليوم لم يتفق المتخصصون علي رأي واحد .
فالأطباء العقليون يرون أن أي اضطراب في القوى العقلية لابد أن يكون سببه عضوية، بينما يرى الأخصائيون النفسيون أن هناك حالات من الاضطراب في القوى العقلية ترجع لأسباب نفسية بحتة.
حالات اضطراب القوى العقلية :
وأكثر حالات اضطراب القوى العقلية انتشاراً هي :
(1) الضعف العقلي : ويعني وقوف الملكات في نموها دون النضج الطبيعي وهو علي درجات، أحطها - العته ثم البلة ثم الحمق أي الغباء الشديد، ولا ينفي الحمق علي الإدراك أو الاختيار ولكن يخفف منها.
(2) الصرع : ويتخذ صورة نوبات يفقد المصاب خلالها شعوره وإرادته، فلا يسيطر علي أعضاء جسمه، وتعرض له قبل النوبة دوافع لا يستطيع مقاومتها وقد تحمله علي ارتكاب الجرائم.
ومن الصرع نوع لا يتخذ فيه المرض عوارض جسدية، وإنما يقتصر تأثيره على القوى الذهنية، لذلك يسمى الصرع النفسي.
(3) الفصام : وهي نوع من الهستيريا، يعاني المصاب بها من ازدواج الشخصية، ولا يذكر المصاب وهو في إحدى الشخصيتين ما اقترفه من الأفعال حينما تكون له الشخصية الأخرى.
(4) جنون العقائد الوهمية : وفي هذه الحالة يعاني المريض من أفكار تتسلط عليه ولا يستطيع مقاومتها.
ومن أمثلة ذلك أن يعتقد المريض أنه ضحية اضطهاد أو أنه نبي مرسل أو يتقمص شخصية تاريخية معروفة.
وهذا النوع من الجنون يدفع إلى ارتكاب الجرائم تحت تأثير الأفكار المتسلطة، فمن يعتقد أنه ضحية اضطهاد قد يقتل من يعتقد أنه يضطهده .
(5) جنون السرقة: وهذا المرض يدفع المصاب إلى ارتكاب السرقات بالرغم من علمه بما يقدم عليه. ولكنه لا يستطيع كبح جماح رغباته ، ومن أنواع هذا الجنون ...... جنون الحريق وجنون العرض، ففيها يدفع المريض إلى حرق الأشياء أو علي عرض أعضائه التناسلية.
هل يعدم التنويم المغناطيسي المسئولية :
التنويم المغناطيسي هو افتعال حالة نوم غير طبيعي، تتغير فيها الحالة الجسمانية والنفسية للنائم ويتغير خلالها الأداء العقلي الطبيعي، ويتقبل فيها النائم الإيحاء ويتغير خلالها منه لتبريره أو إخضاعه للمنطق.
وتتسم حالة التنويم المغناطيسي بإستعداد ظاهر لقبول الإيحاء، لأنها تقصر الاتصال الخارجي للنائم علي شخص المنوم وتخضعه له بإرتباط إيحائي.
وتتم عملية التنويم المغناطيسي من شخص لديه خبرة في هذا المجال، بواسطة طرق مختلفة، مثل تثبيت العينين علي أجسام متوهجة.
وتتميز ظاهرة التنويم المغناطيسي بالتعقيد الشديد، فليس كل فرد يمكن تنويمه مغناطيسياً، فالبعض يمكن أن ينوم بدرجة يسيرة، وآخرون يمكن تعميق درجة نومه إلي مدي متفاوت .
ومن المعروف أنه من 80% إلي 90% من الأفراد لديهم قابلية للنوم المغناطيسي من الدرجة اليسيرة، وأن حوالي 15% فقط يمكن الوصول بهم إلى درجة النوم المغناطيسي العميق .
والنوم المغناطيسي العميق يمكن أن يتيح ارتباطاً إيحائياً بين المنوم والنائم، يستمر بعد الإستيقاظ من حالة النون ويسمي النوم المغناطيسي اللاحق، وفيها ينفذ الشخص وهو في حالة اليقظة الأمر الذي أوحى له به المنوم وهو نائم، وعندما ينفذ هذا الأمر لا يعي أن المنوم قد أوحي له به، وإنما يجد نفسه مسوقاً إليه محاولاً إيجاد تبرير ذاتي له.
والنوم المغناطيسي من الدرجة اليسيرة لا يسلب النائم القدرة علي الإدراك والاختيار، فهو يستطيع أن يمتنع عن تنفيذ ما يوحي إليه به المنوم إذا كان لا يتفق مع رغبته.
أما النوم المغناطيسي العميق فهو يؤدي إلى إفقاد النائم هاتين القدرتين وينفي بالتالي مسئوليته الجنائية.
الجنون الكلي والجزئي :
يكون الجنون كلياً إذا كان من شأنه أن يعدم في الشخص الشعور أو الاختيار وهو بذلك يعدم الأهلية الجنائية.
أما الجنون الجزئي فيقصد به الاضطرابات العقلية التي تنقضي فقط من إدراك الشخص وقدرته على الاختيار، وبالتالي تنقص من أهليته الجنائية.
والمشرع المصري عالج في المادة (1/ 62) عقوبات حالة الجنون الكلي الذي من شأنه فقدان الشعور أو الاختيار بصفة مطلقة. أما الجنون الجزئي فلم يتعرض له المشرع وبالتالي لم يعترف بنقصان الأهلية الجنائية في تلك الفروض، فالأهلية الجنائية كما نظمها المشرع المصري.
أما أن تكون متوافرة أو غير متوافر كلية، أما الأهلية الناقصة فلا تأثير لها علي المسئولية الجنائية، وللقاضي في هذه الحالة أن يلائم العقوبة بما يتفق والظروف الشخصية للجاني في إطار سلطته التقديرية.
الآثار المترتبة علي فقدان الشعور والاختيار وقت ارتكاب الجريمة :
إن فقدان الشعور والاختيار وقت ارتكاب الجريمة لسبب عاهة ينفي الأهلية الجنائية وبالتالي تنتفي المسئولية الجنائية.
ومعنى ذلك أن الجنون وعاهة العقل تؤثر فقط علي الركن المعنوي للجريمة بنفي المفترض لقيامه وهو الأهلية الجنائية.
وعلي ذلك فالجريمة المرتكبة في حالة جنون أو عاهة عقلية يتوافر في شأنها الركن المادي وعدم المشروعية وتنتفي فقط المسئولية الجنائية، ومفاد ذلك أن الجنون أو عاهة العقل يعتبر من موانع المسئولية .
إثبات الجنون أو عاهة العقل : لا شك أن الكشف عن اضطراب القوى العقلية ليس بالأمر الهين، خصوصاً إذا كان الجنون من النوع الهادئ، وقد يتظاهر البعض بالجنون تخلصا من المسؤولية ولذلك فإن القضاء يلجأ عادة لأهل الخبرة للإسترشاد بآرائهم ، وإثبات الجنون أمر موضوعي يفصل فيه قاضي الموضوع دون رقابة عليه من محكمة النقض.
وللمحكمة أن تتحقق بنفسها من توافر حالة الجنون، فهي ليست ملزمة بندب خبير لفحص حالة المتهم إذا طلب ذلك.
على أنه يتعين عليها إذا رفضت هذا الطلب أن ترد عليه بأسباب كافية وإلا كان حكمهاً مشوباً بعيب القصور في التسبيب وإخلال بحق الدفاع.
والمحكمة غير مقيدة برأي الخبير، في رأيه استشاري، تطبيقاً لمبدأ "القاضي هو خبير الخبراء".
وقد تعرض هذا المبدأ لنفد من الفقه الحديث، فهو يقوم علي أساس مناف للمنطق، فللقاضي إذا رفض رأي الخبير فقد تعارض مع نفسه، إذ يعني ذلك أنه أراد أن يفصل بنفسه في مسألة سبق أو اعترف في بادئ الأمر بأن الخبير يتمتع فيها بمعرفة ودراية تفوق معرفته الخاصة.
والقاضي ليس ملزماً قانوناً بالرجوع للخبير في مسائل معينة من غير المنطقي إهدار آرائهم. وإذا لم يقتنع برأي الخبير فإن له أن يندب خبيراً آخر، وجاز له القانون أن يناقش الخبير في تقريره وأن يكلفه بإعادة النظر فيه.
وعلى أية حال فإن محكمة النقض قد سارت في العديد من أحكامها لما ذهب إليه الفقه الحديث حيث قررت بأن انتداب الخبراء وتقدير آرائهم في المسائل الفنية البحتة يخرج نطاق سلطة القاضي التقديرية، المبحث الثاني: الغيبوبة الناشئة عن عقاقير مخدرة أو مسكرة.
السكر والتخدير غير الاختياري :
يشترط لقيام هذا المانع من موانع المسؤولية
(1) أن يكون الشخص فاقد الإدراك أو الاختيار في عمله: بمعنى أنه لا يمكنه التمييز الخير والشر، بين ما هو موافق للقانون وما هو مخالف له، أي فاقد التقدير للأمور، لا يمكنه الهيمنة علي ملكات عقله وتفكيره وإرادته.
فإن كان لم يصل إلى هذا الحد وكان السكر أو التخدير غير اختياري كان ذلك داعياً لتخفيف العقاب، فالإعفاء من المسئولية ناجم عن انعدام الأهلية.
(2) أن يكون ذلك وقت ارتكاب الفعل. فالعبرة في فقد الإدراك أو الاختيار بوقت الجريمة لا يعد ذلك. فإذا لم يكن السكر تاماً وقت ارتكاب الجريمة بأن كان يميز بين الأمور بوعي تام أو ناقص فلديه تمييز وإدراك واختيار فإنه يسأل جنائياً.
(3) أن يكون فقد الإدراك والاختيار راجعا لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة: ولم ينص المشرع علي السكر بالذات حتى لا تكون الغيبوبة ناشئة عن نوع معين من المواد، لذا نص علي فقدان الشعور لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيا كان نوعها سواء كانت خمور أو مخدرات من أي نوع، كما يلاحظ أن الفرق بين الجنون، والسكر أو الغيبوبة الناشئة عن عقاقير مخدرة هو أن فقدان الشعور والاختيار في السكر والغيبوبة وقتي وعرض يزول بمجرد انتهاء مفعول السكر أو المخدر، أما في حالة الجنون فقدان الشعور والاختيار له صفة الاستمرار والدوام حتى لو كان متقطعاً .
والجنون عارض أهلية مطلق حتى لو تسبب فيه الإنسان بسبب سوء التغذية أو بسبب الإدمان علي المخدرات أو المشروبات الكحولية، أما السكر فنسبي من ناحية سببه ومن ناحية تأثيره ولا يكون عارضاً من عوارض الأهلية إلا إذا كان غير اختياري ولا يكون كذلك إلا في حالات نادرة .
(4) ويجب التطبيق الفقرة الثالثة من المادة (62) عقوبات: أن يكون الشخص قد تتناول المسكر أو المخدر قهراً عنه أو علي غير علم منه به أي إلا بإكراهه علي أخذه سواء أكان هذا الإكراه مادياً كحقنه به رغم أنفه أو معنوياً عن طريق تهديده، بإلحاق الأذى به إن لم يتناوله أو كان بخداعه وغشه في المادة بأن يتناولها عالماً بأنها غير مخدرة أو مسكرة حال كونها في الواقع مخدرة أو مسكرة.
أثر التخدير أو السكر الاختياري علي المسئولية الجنائية.
تحرص بعض التشريعات على النص صراحة على أن التخدير أو السكر الاختياري لا ينفي المسئولية الجنائية ولا يخفف منها.
وقد خلا القانون المصري من النص على ذلك، فأثار ذلك خلافاً في الفقه والقضاء، وهناك رأي في الفقه المصري يقرر أن السكران بإختياره لا يسأل إلا علي أساس الإهمال، ولا يمكن أن يسأل بوصف العمد، لأن الإنسان لا يمكن أن تنسب إليه نية أو إرادة وهو في حالة غيبوبة.
وذهب رأي آخر إلى أنه يسأل بوصف العمد بإعتبار أن الجريمة المرتكبة نتيجة محتملة لسلوكه.
ويرد علي هذا الرأي بأن المشرع حصر مسئولية الجاني عن النتائج المحتملة في حالات محددة، وليست حالة من بينه.
والرأي الراجح في الفقه المصري والذي نأخذه به، يري أن السكران بإختياره يسأل عن أية جريمة يرتكبها ولو كانت الجريمة العمدية المرتكبة مما يتطلب فيها القانون توافر القصد الجنائي الخاص.
وسند هذا الرأي أنه مادام القانون قد نص على إعفاء السكران بغير اختياره من المسئولية الجنائية فإن ذلك يعني بمفهوم المخالفة مساءلة السكران باختياره عن جميع الجرائم، ولا يجوز أن يكون السكر وهو في ذاته مؤثم دينياً ، سبباً لامتناع مسئولية السكران أو التخفيف منها.
وكانت محكمة النقض تأخذ بهذا الرأي، غير أنها اعتبار من السنة 1946 قيدت من نطاق مسئولية السكران باختياره، فقررت أنه لا يسأل عن القصد الخاص في الجرائم التي تتطلب توافر هذا القصد، كالسرقة والتزوير والقتل الذي تعتبره من الجرائم التي يتعين توافر القصد الخاص فيها.
وبناءاً على قضاء محكمة النقض فإن السكران باختياره الذي يرتكب جريمة قتل لا يسأل إلا عن ضرب أفضي إلي موت.
ووفقا لهذا القضاء يخفف المسئولية في حالات ارتكاب جريمة وفقاً لهذا القضاء يخفف المسئولية في حالة ارتكاب جريمة تقوم على القصد الخاص إذا كان القانون يعاقب علي النتيجة على أساس القصد العام وحده.
حكم السكر لمدمن (الإدمان)
إن إدمان السكر والمخدرات تنشأ عنه اضطرابات عقلية ونفسية مزمنة بحيث تؤثر على قدرة الشخص في تفهم قيمة سلوكه كما تؤثر على قدرته علي الاختيار.
وهذا الإدمان يخضع في حكمه للسكر الاختياري بحيث لا ينفي الأهلية ولا يؤثر علي المسئولية الجنائية لمرتكب الجريمة. كل ذلك ما لم يتحول الإدمان إلي مرض عقلي أو عاهة عقلية ففي هذه الحالة تتحدد المسئولية الجنائية وفقا للقواعد التي تحكم انعدام الأهلية الجنائية أو عاهة في العقل.
(الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الأول، الصفحة : 803)
إن الأهلية الجنائية هي مجموعة العوامل النفسية اللازم توافرها في الشخص لكي يمكن نسبة الواقعة إليه بوصفه فاعلها عن إدراك وإرادة، وبعبارة أخري نقول أن الأهلية الجنائية، في رأينا، هي أهلية الإسناد.
فالقانون يتطلب فيمن يسأل جنائياً أن يكون متمتعاً يمكنة نفسية خاصة يستطيع من خلالها أن يميز قيمة أفعاله مدركاً النتائج التي تترتب عليها، وهذه المكنة النفسية هي التي تسمح بعد ذلك بمساءلة الشخص جنائياً عن الوقائع التي يحققها بسلوكه.
وتقوم الأهلية الجنائية أو أهلية الإسناد على عنصرين الأول : الإدراك أو الشعور والثاني : هو الاختيار. ولذلك نص المشرع في المادة 1/62 عقوبات على أنه (لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار فى عمله وقت ارتكاب الفعل).
ومكنة الإدراك أو الشعور لا قصد بها مجرد استعداد الشخص لتفهم ما يحيط له وإنما قدرته على تفهم القيمة الاجتماعية للأفعال التي يرتكبها، أما مكنة الاختيار فهي قدرة الشخص على تحقيق إرادته استقلالاً عن الظروف والدوافع المختلفة.
ولتوافر الأهلية لابد من تواجد العنصرين السابقين معاً، فهناك من الأشخاص من يتفهم حقيقة الأفعال ويميز الخير من الشر في محيطها، إلا أنه لظروفه النفسية الخاصة لا يستطيع أن يوائم بين إرادته وبين الأفعال التي يحققها، ومن ناحية أخري قد يستطيع الشخص تحقيق إرادته استقلالاً عن الدوافع المختلفة ومع ذلك تنقصه القدرة على تفهم قيمة أفعاله وما يمكن أن تصل إليه من نتائج.
والأهلية بالتحديد السابق هي حالة تثبيت للشخص تتوقف على ظروف لا دخل لإرادته فيها ويلزم أن تتوافر تلك الأهلية في لحظة ارتكاب الجريمة حتى يمكن بعد ذلك مساءلته عنها أما إذا لم تتوافر في تلك اللحظة السابقة فأن الشخص يعتبر معدوم الأهلية وبالتالي تنتفي مسئوليته الجنائية عن الأفعال التي حققها، وإذا كانت الأهلية لا تتوقف على إرادة الشخص أما إذا كانت الأهلية قد انتفت بسبب راجع لإرادة الجاني فسوف نرى أنه يكون مسئولاً جنائياً بالرغم من فقدان الشعور والاختيار وقت ارتكاب الجريمة.
غير أن الأهلية الجنائية بوصفها حالة تثبت للشخص وفقا للقدرات النفسية المتطلبة قانوناً تفترق عن الإدراك والإرادة اللازم توافرها في الحركات العضوية لكي يتواجد السلوك الإنساني ومعنى ذلك أن الأهلية قد تتوافر في الشخص ورغم ذلك يأتي السلوك مجرداً من الإدراك أو الإرادة، ومعني ذلك أن الأهلية تثبت متى كانت قدرات الشخص النفسية تسمح له عموماً بتفهم قيمة أفعاله وتحقيق إرادته كما يشاء أما إرادية السلوك فهي علاقة بين العمل المتحقق وبين إرادة الشخص. ولذلك فإن الإكراه المادي يعدم السلوك ولا يعدم الأهلية الجنائية، كما أن الحركات العضوية التي يأتيها الشخص وهو في حالة نوم ينتفي عنها صفة السلوك الإنساني الذي يأخذه المشرع بعين الإعتبار ولا تنتفي عنه الأهلية الجنائية فقدرة الشخص على الاختيار شيء والاختيار الفعلي شيء آخر فالأول مناطة الأهلية الجنائية والثاني مناط المسئولية الجنائية عن فعل معين.
وأسباب انعدام الأهلية تتحقق في طائفتين من الأفراد الأولي: هي طائفة الأشخاص الذين لم يكتمل نموهم العقلي والنفسي بسبب صغر السن والثانية: هي طائفة الأشخاص الذين أصابهم مرض أو عاهة عقلية ذلك أن الأهلية الجنائية مناطها النمو النفسي والعقلي الذي يسمح بالمساءلة الجنائية عن الأفعال.
اعتبر المشرع الجنون وعاهة العقل من الأسباب التي تؤثر على أهلية الشخص فتنفيها وذلك بتأثيرها على القدرة على الإدراك أو الاختيار فقد نصت المادة 62 عقوبات على أنه «لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل إما لجنون أو عاهة في العقل».
ويقصد بالجنون أو عاهة العقل جميع الأمراض التي تؤثر على المكنات العقلية للفرد بحيث تؤدي إلى فقدان الإدراك أو الاختيار والمكنات العقلية هذه تشمل جميع العمليات العقلية البسيطة منها والمعقدة بما فيها الإدراك والإنتباه والذاكرة والتخيل والتقدير وغير ذلك من العمليات المختص بها العقل.
ولا يلزم أن يؤثر الاضطراب العقلي على الإدراك والاختيار معاً، بل يكفي أن يباشر أثره على أي منهما دون الآخر،فالأهلية تنعدم إذا كان الاضطراب العقلي من شأنه أن يحول دون حرية الفرد في تحقيق إرادته وفقاً للبواعث المختلفة نظراً لأنه خاضع لتأثير باعث واحد لا يستطيع التخلص منه كما هو الشأن في التتبع أو الإضطهاد.
وقد ثار خلاف حول ما إذا كان يندرج تحت الجنون وعاهة العقل الاضطرابات التي تلحق الجانب النفسي للفرد كما هو الشأن في السيكوباتية، فذهب البعض إلى أنه يجب اعتبارها من موانع الأهلية بينما يذهب البعض الآخر مؤيدا باتجاه القضاء في عدم اعتبارها ضمن الأمراض التي تعدم الأهلية بتأثيرها على الإدراك والإرادة.
ضرورة توافر فقدان الإدراك والاختيار وقت ارتكاب الجريمة :
إن انعدام الأهلية كأثر الجنون وعاهة العقل يتطلب أن يكون الاضطراب العقلي قد أحدث أثره في الإدراك والاختيار وقت ارتكاب الجريمة، وهذا ما نصت عليه صراحة المادة 62/1 عقوبات، ولذلك فإن المرض العقلي المتقطع لا ينفي المسئولية إذا كانت الجريمة قد ارتكبت في فترات الإفاقة بالرغم من تأثيره على الجانب النفسي للشخصية في تلك الفترات.
ويكفي أن يتحقق فقدان الشعور والاختيار وقت ارتكاب الجريمة دون تطلب علاقة سببية بين المرض العقلي وارتكاب الجريمة، ومع ذلك ففي حالات الجنون الجزئي الذي يصيب جانبا دون آخر من جوانب الشخصية فإنه يلزم الإرتباط السببي بين المرض وبين ارتكاب الجريمة كما هو الشأن في التتبع والاضطهاد والحريق والسرقة، فإذا كانت الجريمة غير مرتبطة بالمرض في هذه الفروض فإن المسئولية الجنائية تثبت في حق الجاني، كما لو قام المصاب بهذيان التتبع بجريمة تزوير أو إختلاس مثلاً.
ومتى ثبت تمتع الجاني بالشعور والاختيار وقت ارتكاب الجريمة كان مسئولاً جنائياً ولا يؤثر علي تلك المسئولية ظهور المرض عليه بعد ذلك، فظهور المرض العقلي بعد ارتكاب الجريمة يحدث آثاراً إجرائية تتعلق بإجراءات رفع الدعوى والمحاكمة إذا كان المرض قد ظهر قبل الحكم البات، أو بإجراءات التنفيذ العقابي إذا كان قد ظهر بعد الحكم البات، وقد تكفل تنظيم هذه الآثار الإجرائية قانون الإجراءات الجنائية. فقد نصت المادة 339 /1 إجراءات على أنه «إذا ثبت أن المتهم غير قادر على الدفاع عن نفسه بسبب عاهة فى عقله طرأت بعد وقوع الجريمة يوقف رفع الدعوى الجنائية عليه أو محاكمته حتى يعود إليه رشده». كما نصت المادة 487 إجراءات على أنه إذا أصيب المحكوم عليه بعقوبة مقيدة للحرية بجنون وجب تأجيل تنفيذ العقوبة حتى يبرأ، أما العقوبات الأخرى وهي الإعدام والعقوبات المالية كالغرامة فتنفذ دون أن يكون للجنون تأثير مانع من التنفيذ.
الجنون الكلي والجزئي :
يكون كلياً إذا كان من شأنه أن يعدم في الشخص الشعور أو الاختيار وهو بذلك يعدم الأهلية الجنائية.
أما الجنون الجزئي فيقصد به الاضطرابات العقلية التي تنقص فقط من إدراك الشخص وقدرته على الاختيار وبالتالي تنقص من أهليته الجنائية.
والمشرع المصري عالج في المادة 1/ 62 عقوبات شالة الجنون الكلي الذي من شأنه فقدان الشعور أو الاختيار بصفة مطلقة، أما الجنون الجزئي فلم يتعرض له المشرع وبالتالي لم يعترف بنقصان الأهلية الجنائية في تلك الفروض، فالأهلية الجنائية كما نظمها المشرع المصري إما أن تكون متوافرة أو غير متوافرة كلياً.
أما الأهلية الناقصة فلا تأثير لها على المسئولية الجنائية، وللقاضي في هذه الحالة أن يلائم العقوبة بما يتفق والظروف الشخصية للجاني في إطار سلطته التقديرية.
الآثار المترتبة على فقدان الشعور والاختيار وقت ارتكاب الجريمة :
إن فقدان الشعور والاختيار وقت ارتكاب الجريمة لسبب عاهة ينفي الأهلية الجنائية وبالتالي تنتفي المسئولية الجنائية، ومعنى ذلك أن الجنون وعاهة العقل تؤثر فقط على الركن المعنوي للجريمة بنفي المفترض لقيامه وهو الأهلية الجنائية. وعلى ذلك فالجريمة المرتكبة في حالة جنون أو عاهة عقلية يتوافر في شأنها الركن المادي وعليم المشروعية وتنتفي فقط المسئولية الجنائية، ومفاد ذلك أن الجنون أو عاهة العقل يعتبر من موانع المسئولية.
التدابير الاحترازية التي توقع على المصابين بعاهة عقلية :
نظمت هذه التدابير بقانون الإجراءات الجنائية على الوجه التالي :
إذا كانت الجريمة ارتكبت أثناء المرض العقلية امتنعت المسئولية وبالتالي يمكن لسلطات التحقيق أن تصدر أمراً بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية كما يمكن الحكم ببراءة المتهم إذا كانت المحكمة قد ثبت لها ارتكاب الجريمة في حالة جنون أو عاهة عقلية، وفي كلا الفرضين أي سواء صدر أمر بعدم وجود وجه أو حكم بالبراءة تأمر الجهة التي أصدرت الأمر أو الحكم بالبراءة بحجز المتهم في أحد المحال المعدة للأمراض العقلية إلى أن تأمر الجهات المختصة بإخلاء سبيله إم 342)، غير أن شرط الأمر بالإيداع هو أن تكون الواقعة جناية أو جنحة عقوبتها الحبس، وفي غضون ذلك لا يجوز الأمر بالإيداع من تلك الجهات.
إذا ظهرت حالة الجنون أو عاهة العقل بعد ارتكاب الجريمة وقبل الحكم فيها وكانت الواقعة جناية أو جنحة عقوبتها الحبس جاز لسلطة التحقيق أو المحاكمة إصدار الأمر بحجز المتهم في أحد المحال المعدة للأمراض العقلية، وتخصم المدة التي يقضيها المتهم في هذا المحل من مدة العقوبة التي يحكم بها (م 2/ 299 341 إجراءات) .
إذا أصيب المحكوم عليه بعقوبة مقيدة للحرية بجنون جاز للنيابة العامة أن تأمر بإيداعه في أحد المحال المعدة للأمراض العقلية وتستنزل المدة التي يقضيها في هذا المحل من مدة العقوبة المحكوم بها (م 487 إجراءات، 35 من القانون رقم 396 لسنة 1956 في شأن تنظيم السجون)، وبطبيعة الحال إذا لم يؤمر بالإيداع في هذه الحالة أوقف تنفيذ العقوبة إلى زوال سبب الوقف وتعيين مباشرة التنفيذ.
ثالثاً : الغيبوبة الناشئة عن السكر والمواد المخدرة :
إن الاضطرابات الناشئة عن السكر من شأنها أن تؤثر على الشعور والاختيار. فتناول المسكر يحدث تغييرات جسيمة في الحالة العقلية للإنسان بحيث يفقد القدرة على تفهم النتائج التي يمكن أن تترتب على أفعاله، كما يؤثر على الإرادة بتعطيل أو تقليل فاعلية الضبط النفسي للبواعث المختلفة.
وقد نظم المشرع المصري أثر السكر على الأهلية مفرقاً فيها بين نوعين من السكر: الأول: السكر الاختياري: والثاني السكر، الاختياري وقد أعطي للأول قيمة قانونية بالنسبة للأهلية الجنائية ومغفلاً أدني أثر بالنسبة للسكر الاختياري. فقدان الشعور والاختيار الغيبوبة ناشئة عن السكر لا يؤثر على الأهلية الجنائية للجاني إلا في أحوال السكر غير الاختياري، أما الغيبوبة الناشئة عن السكر الاختياري فلا تأثير لها على أهلية الجاني وبالتالي يسأل عن أفعاله التي يرتكبها في تلك الحالة، وسوف نتناول نوعي السكر في البنود التالية، السكر غير الاختياري :
نظمت المادة 62 عقوبات حكم السكر غير الاختياري، فنصت على أنه لا عقاب على من يكون فاقد الشعور الاختياري في عمله وقت ارتكاب الفعل، لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة (أياً كان نوعها إذا أخذها قهراً عنه أو على غير علم منه بها).
من النص السابق يتضح أن المشرع يجعل للسكر أثراً مانعاً للأهلية بالنسبة للأفعال المرتكبة أثناء الغيبوبة متى كان لا يمكن نسبية خطأ إلى الجاني تسبب في حالة السكر وبالتالي لا يمكن توجيه أي لوم إلى إرادته في هذا الشأن، وتتحقق تلك الفروض في حالات القوة القاهرة وأيضاً في الحالات التي يتناول فيها المسكر على غير علم من الجانى بأن ما يتناوله يعتبر مسکراً، كما لو قدمه إليه آخرون على أنه مادة غير مسكرة بطريق الحيلة والخداع أو كان هو حسن النية فيما يتناوله جاهلاً حقيقة ما يتناوله، معتقداً أنها مادة غير مسكرة، وكل ذلك مشروط بألا يمكن نسبة خطأ للجاني.
ويشترط لإنتفاء المسؤولية الجنائية بسبب السكر غير الاختياري ما يأتي :
1- أن تتحقق حالة الغيبوبة بفقدان الجاني لشعوره أو اختياره.
ويلزم أن تكون حالة السكر وما ينشأ عنها من غيبوبة كاملة، فإذا كانت الغيبوبة جزئية، أي أن فقدان الشعور والاختيار كان جزئياً فإن المسئولية الجنائية تظل قائمة وكل ما هناك أن المحكمة تقدر درجة النقص في مكنات الشعور والاختيار وتختار العقوبة المتناسبة معها في نطاق السلطة التقديرية للقاضي.
2 - أن يكون الفعل قد ارتكب أثناء حالة الغيبوبة الناشئة عن السكر.
3 - ألا يكون لإرادة الجاني دخل في إحداث حالة السكر سواء عمداً أو خطأ، وهذا ما عبر عنه المشرع بأن يكون الجاني قد أخذ العقاقير المخدرة قهراً عنه أو على غير علم منه بها .
وجدير بالذكر أن المشرع تحدث عن العقاقير المخدرة قاصداً بها جميع المواد التي من شأنها أن تحدث اضطرابات داخلية تؤدي إلى فقدان الشعور الاختيار، وعليه فيدخل فيها المواد المخدرة بالمعنى الدقيق وأيضاً المواد الكحولية.
2- السكر الاختياري :
لا شك أن التأثيرات العقلية والنفسية التي يحدثها السكر من فقدان للشعور والاختيار لا تختلف باختلاف ما إذا كان السكر اختيارياً أو غير اختياري، فالشخص الذي يتناول المسكر ويفقد شعوره لا يكون مدركاً لقيمة أفعاله وما يترتب عليها من نتائج بغض النظر عن موقف إرادته من واقعة السكر ذاتها.
ونظراً لفقدان الشعور والاختيار وهما مناط الأهلية الجنائية بصفة عامة، فقد ثار خلاف في الفقه والقضاء حول حدود مسئولية الجاني الذي يرتكب الجريمة وهو في حالة سكر اختياري ، والأساس القانوني لتلك المسئولية.
ذلك أن المشرع لم ينظم سوى حالة السكر غير الاختياري واعتد بها في نفي المسئولية الجنائية بالشروط التي ذكرناها.
(قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ مأمون محمد سلامة، الطبعة الأولى 2017 الجزء الثالث، الصفحة : 318)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 30 .
الفصل الثاني
الأهلية الجنائية
(مادة 31) لا يكون أهلاً للمسئولية الجنائية من لم يتم سبع سنوات هجرية وقت ارتكاب السلوك المكون للجريمة.
ويكون سن البلوغ في تطبيق أحكام هذا القانون بإتمام ثماني عشرة سنة هجرية ، ما لم يثبت البلوغ قبل ذلك بالأمارات الطبيعية ، ويكون التحقق من السن عند الاقتضاء بوثيقة رسمية، فإن لم توجد فبواسطة خبير.
(مادة 32)
تطبق الأحكام الواردة في قانون الإجراءات الجنائية والقانون رقم (31) لسنة (1974) بشأن الأحداث فيما لم يرد به نص في هذا القانون.
(مادة 33)
لا يكون أهلاً للمسئولية الجنائية من كان وقت ارتكاب الفعل فاقد التمييز أو الاختيار:
(أ) إما لجنون أو آفة عقلية.
(ب) وإما لتناوله قهراً عنه أو دون علم منه عقاقير مخدرة أو مسكرة أياً كان نوعها فإذا تناول هذه المواد عن علم واختيار، تكون مسئوليته الجنائية كاملة ولو كانت الجريمة ذات قصد خاص.
(مادة 34)
لا يكون أهلاً للمسئولية الجنائية من كان وقت ارتكاب الجريمة فاقداً لحرية الاختيار لوقوعه تحت تأثير تهديد بإنزال ضرر جسيم حال على النفس أو العرض أو المال.
(مادة 35)
لا مسئولية على من ارتكب فعلاً دفعته إلى ارتكابه ضرورة الوقاية من خطر جسيم محدق به أو بالغير يصيب النفس أو العرض أو المال، إذا لم يكن هو قد تسبب فيه عمداً ، ولم يكن في استطاعته دفعه بوسيلة أخرى، وبشرط أن يكون الفعل الذي ارتكبه متناسبا مع جسامة الخطر الذي توقاه.
ومع ذلك فإن الضرورة لا تجيز قتل النفس، وفي هذه الحالة تراعى أحكام الدية المنصوص عليها في هذا القانون .
ولا يعتبر في حالة ضرورة من أوجب عليه القانون مواجهة ذلك الخطر.
أسباب الإباحة
المواد من (14) إلى (16)):
عالجت هذه النصوص أسباب إباحة الجرائم، والأصل في الشريعة الإسلامية أن الأفعال المحرمة محظورة على الكافة، ما لم تقتض ظروف الأفراد إباحتها، وذلك باعتبار أن هؤلاء الذين تباح لهم الأفعال المحرمة يأتونها في الواقع لتحقيق غرض أو أكثر من أغراض الشارع تقتضيها طبيعة الأشياء، وصالح الجماعة، وصالح الأفراد، وتحقيق غايات الشارع وقد وضع الفقه الإسلامي الضوابط والشروط التي تؤدي إلى إباحة الفعل المحظور.
وقد بينت المادة الرابعة عشرة أول سبب من أسباب الإباحة، وهو استعمال الحق. فنصت على أنه لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالاً لحق مقرر بمقتضى الشريعة أو القانون، وذلك بشرط التزام حدود الحق ومن تطبيقات ذلك: حق التأديب المقرر في الشريعة الإسلامية، والحق في ممارسة مهنة الطب وبالنسبة إلى هذا الحق الأخير، فإن الشريعة الإسلامية لا تقتصر على جعل ممارسة الطب حقا، بل تعتبره واجباً يتعين على شخص بذاته أداؤه في بعض الحالات.
وبالنسبة لحق التأديب سواء كان للأب على ابنه، أو المعلم على المتعلم، أو الزوج على الزوجة، فإن سبب الإباحة قد تأسس على نصوص الكتاب الكريم (مثل حق الزوج أو على السنة النبوية.
وقد أوضحت السنة النبوية حدود هذا الحق بحيث لا يخلف استعمال الحق إصابة، أو يمتهن الكرامة الإنسانية، وهو أمر مفصل في كتب الفقه، وكذلك في سائر الصور التي تبيح حق التأديب، وجدير بالذكر أن ضوابط استعمال هذا الحق في الشرع الإسلامي يتفق معها ما استقر عليه التطبيق القضائي في مصر منذ زمن بعيد.
وقد عني النص باشتراط التزام حدود الحق، حتى تتوافر الإباحة. وغني عن البيان أن حسن النية هو من حدود الحق، ولا حاجة للنص عليه صراحة.
ونصت المادة الخامسة عشرة على أداء الواجب كسبب للإباحة فالواجبات توضع لصالح الجماعة فإذا أدى الموظف واجبه، كان عمله مباحا، فالقتل مثلا محرم على الكافة ولكنه مباح إذا كان عقوبة؛ لأن العقوبة ليست عدواناً، ومن الواجب تنفيذها، وقد تناول الفقهاء المسلمون إباحة القتل إذا كان الفاعل يقوم بتنفيذ حد من حدود الله أو القصاص من شخص حكم عليه بهذه العقوبة.
ويستوي في هذا الشأن أن يكون مصدر الواجب هو نص القانون، أو أمر رئيس يوجب القانون طاعته. وللرؤساء على الأفراد حق الطاعة، فقد قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ). إلا أن واجب الطاعة مقيد غير مطلق، فليس لأمر أن يأمر بما يخالف القانون، وليس لمأمور أن يطيع فيها يخالف القانون، سواء كان موظفا أو غير موظف. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وقال صلى الله عليه وسلم : «من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه»، والآية الكريمة والأحاديث الشريفة الواردة في هذا الشأن واضحة في اشتراط أن تكون الطاعة في أمر لا يعد إتيانه جريمة.
وقد عني النص بتعليق الإباحة على التزام حدود الواجب أو الأمر، فإذا خرج عن هذه الحدود ظل الفعل تحت طائلة التجريم وفي هذه الحالة يتوقف تحديد مسئولية الجاني على مدى توافر القصد الجنائي أو الخطأ غير العمدي لديه ويعالج الفقه الإسلامي حالة تجاوز حدود الأمر، فيخرج الأمر عن دائرة المشروعية، ويقع في دائرة التجريم، والفروع التي أوردها الفقهاء تفسح مجالاً للتخفيف من المسئولية بإعتبار توفر حسن النية عند من يجاوز حدود الأمر دون قصد العدوان.
ونصت المادة السادسة عشرة على حق الدفاع الشرعي کسبب من أسباب الإباحة، ولا خلاف بين الفقهاء المسلمين على أن الدفاع الشرعي، ويسمونه إصطلاحاً : (دفع الصائل) شرع ليحمي الإنسان نفسه أو غيره من الاعتداء على النفس والعرض والمال وقد أباح الشرع التوقي من كل مؤذ، سواء كان آدماً أو غيره، وبناء على ذلك يجوز دفع كل صائل من آدمي أو بهيمة على نفس أو عرض أو مال، فإن لم يندفع إلا بالقتل فقتله الحصول عليه فلا ضان، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد، وصرح الفقهاء بأنه يجوز قتل الباغي دفعاً لا قصداً ، وهناك من الأدلة الشرعية ما يفيد أن الفعل يكون مباحاً ، وينتفي عنه وصف الجريمة، ويدخل في دائرة المشروعية في هذه الحالات.
والأصل في الدفاع الشرعي قوله تعالى: (فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) ، وروى عبد الله بن عمرو عن رسول الله قال: «من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد».
وقوله صلى الله عليه وسلم " للرجل: «قاتل دون أهلك». وقد جاء في حاشية الدسوقي (جـ (4) - ص (349)): «أن المقاتلة واجبة على من يتعرض له المحارب، إذا خاف على نفسه أو أهله القتل أو الجرح أو الفاحشة بأهله، ولا فائدة لقتاله إلا قتله، كما ورد أن المرأة إذا أرادها رجل عنوة فقتلته لتحصن نفسها، فلا شيء عليها ودمه هدر». (المغني لابن قدامة، ج (7)).
وروى أبو هريرة عن رسول الله أنه قال: «لو أن أمرءاً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح»، وكما أقرت الشريعة الدفاع الشرعي لرد اعتداء الإنسان عن نفس المدافع أو عرضه أو ماله، كذلك أقرته لدفع الاعتداء عن نفس الغير أو عرضه أو ماله، وللدفاع الشرعي شروط لابد من توافرها حتى يظل في منطقة الإباحة، وهي أن يكون هناك خطر حال يعد جريمة ضد النفس أو العرض أو المال، ولو تعلق ذلك بالغير، وأن يتعذر الالتجاء إلى السلطات العامة لاتقاء هذا الخطر في الوقت المناسب، وأن يكون ارتكاب الجريمة هو الوسيلة الوحيدة للدفاع، وأن تكون هذه الجريمة متناسبة مع الاعتداء، بحيث تكون هي الوسيلة الوحيدة الممكنة لشخص معتاد في مثل الظروف التي أحاطت بالمدافع.
وقد وضع الفقهاء المسلمون ضوابط استعمال حق الدفاع الشرعي ودفع الصائل: فيجب أن يكون الاعتداء جسيماً وحالاً ، مثل شهر سيف على المسلمين (ابن عابدين، ج(5) ص (362))، وصرح بعض الفقهاء بأنه يتعين الكف عن المهاجم عند إدباره (شرائع الإسلام ج (2) ص (262))، وكذلك لو ضربه فعطله لا يثني عليه وإلا ضمن، وينبغي أن يكون الاعتداء حقيقيا، فلا يقتل من دخل عليه بيته لاجئاً إليه وليس مكابراً له (المبسوط، ج (29) ص (72))، ولا يجوز القتل دفاعاً إذا قدر الحصول عليه على النجاة بنفسه وأهله وماله بلا مشقة أو مضرة، وإمكان الاستغاثة بالناس لها وزنها في تقدير ما يلزم لرد العدوان، ومن ذلك أيضاً اختلاف الزمان والمكان (بدائع الصنائع جـ (9)) ولا تكاد هذه القواعد تختلف عما استقر عليه الفقه والقضاء في حق الدفاع الشرعي.
ولقد تكفلت المادة (33) من المشروع بتحديد عوارض الأهلية الجنائية، فنصت الفقرة على الجنون والآفة العقلية، والشريعة الإسلامية لا تثبت الحدود على المجنون وعلى المعتوه؛ لأن شرط قيام الحدود بالاتفاق العقل، وبالنسبة إلى الجرائم العمدية التي توجب القصاص أو الدية فمن المتفق عليه أن الدية تجب على العاقلة وهم عصبة الجاني، أو تجب في ماله.
وقد نصت الفقرة الثانية على حالة السكر غير الاختياري فهو مذهب للعقل، وبه تنتفي الأهلية الجنائية كاملة، ولو كانت الجريمة ذات قصد خاص، ويتفق هذا النص مع ما ذهب إليه الراجح في الفقه الإسلامي من أن السكران باختياره مؤاخذ بأفعاله مؤاخذة كاملة، ولا يعد السكر شبهة تسقط الحد؛ لأنه معصية، ولأن الحدود شرعت بسبب المعاصي، وهذا ما نص عليه صاحب کشف الأسرار (السكر لا يصلح شبهة دارئة؛ لأنه حصل بسبب هو معصية؛ فلا يصلح سبباً لتخفيف الحد، لكن يؤخر إلى الصحو ؛ لأن المقصود هو الانزجار ولا يحصل بإقامة الحد في حال السكر).
وقد بينت المادة (34) تأثير الإكراه على المسئولية الجنائية، فنصت على أن لا يكون أهلاً للمسئولية الجنائية من كان وقت ارتكاب الجريمة فاقداً لحرية الاختيار؛ لوقوعه تحت تأثیر تهدید بإنزال ضرر جسیم حال على النفس أو العرض، ومن المقرر في الفقه الإسلامي أن الإكراه الملجئ يرفع المسئولية الجنائية عن كل فعل محرم، وقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وروي أن عمار بن یاسر أخذه الكفار فأرادوه على الشرك بالله فأبى عليهم، فلما غطوه في الماء حتى كادت روحه تزهق أجابهم إلى ما طلبوا، فانتهى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل يمسح الدموع من عينيه، ويقول: «أخذك المشركون فغطوك في الماء وأمروك أن تشرك بالله ففعلت، فإن أخذوك مرة أخرى فافعل ذلك بهم». وروي أن عمر بن الخطاب قال: ليس الرجل أميناً على نفسه إذا أوجعته أو ضربته أو أوثقته.
مادة (230):
مع مراعاة ما نص عليه هذا القانون من شروط خاصة للعقاب بالقصاص، يشترط للعقاب بالقصاص أو للحكم بالدية أن يكون المجني عليه معصوم الدم، ويعتبر غير معصوم الدم إذا تحققت في شأنه إحدى الحالات الآتية:
الأولى: إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله قصاصاً، وكان الجاني من أولياء الدم. الثانية: إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله حداً.
الثالثة: إذا كان حربياً غير مستأمن، والحربي هو غير المسلم التابع لدولة غير إسلامية بينها وبين دولة إسلامية حرب معلنة أو فعلية.
ولا تخل أحكام الحالتين الأولى والثانية بمعاقبة الجاني بالعقوبة التعزيرية المقررة.
الإيضاح
ثمة شروط عامة يتعين توافرها - كأصل عام - للعقاب على جرائم الاعتداء على ما
دون النفس التي تسري في شأنها أحكام المشروع، ونجمل هذه الشروط في:
1- انتفاء أسباب الإباحة.
2- أن يكون المجني عليه معصوم الدم.
فأما عن أسباب الإباحة فقد أورد القانون هذه الأسباب في المواد من (14) إلى (16)، ومن (523) إلى (529) كممارسة الحق أو القيام بواجب، والدفاع المشروع والضرورة، والإكراه.
وهذه الأسباب منضبطة، ومن السهل على القاضي تطبيقها، ولا تعدم في الأسس التي تقوم عليها سندا من الفقه الإسلامي في عمومه برحابته وتعدد الآراء فيه.
ففيما يتعلق بممارسة الحق، فإن الشريعة تعطي (على سبيل المثال) الأب ولاية التأديب بالنسبة إلى أولاده الصغار الذين هم دون البلوغ، وللمعلم أياً كان - مدرساً أو معلم حرفة - تأديب الصغير، وللولي والوصي تأديب من تحت ولايته أو وصايته، وحق التأديب ممنوح لهؤلاء بشروط منها: أن يكون التأديب لذنب فعله الصغير، وأن يكون الضرب غير مبرح متناسبا مع حالة الصغير وسنه، وألا يكون على الوجه والمواضع المخوفة، وأن يكون بقصد التأديب، وألا يسرف فيه، فإذا وقع الضرب في هذه الحدود وترتب عليه أذى من أنواع الإيذاء التي نص عليها المشروع – فلا مسئولية على المؤدب؛ لأن الفعل مباح، وإنما ترتب المسئولية إذا انحرف المؤدب بحق التأديب، سواء كان هذا الانحراف مقصوداً، أو عن خطأ وإهمال، وتترتب المسئولية بحسب الجريمة التي يشكلها هذا الانحراف.
ومن أمثلة أداء الواجب: قيام الطبيب بواجبه من جراحة ونحوها، وقيام الجندي بواجبه في الميدان، وقيام الموظف بأداء وظيفته، كل ذلك في إطار الحدود الشرعية المرسومة، فالشرطي الذي يضطر إلى ملاحقة اللص الهارب بإطلاق النار عليه فيلحق به أذى في جسمه رغم احتياطه، وقيامه بالواجب في الحدود المقررة - لا عقاب علیه طالما، تم إطلاق النار بقصد أداء الواجب.
وأما الدفاع المشروع: فأصله مقرر في الشريعة تحت أحكام دفع الصائل، والأصل في دفع الصائل قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
... (سورة البقرة، الآية: 195). ودفع الصائل مقرر في الشريعة؛ لدفع الاعتداء على النفس أو المال أو العرض، والشريعة تجيز دفع الصائل، ولو استلزم الأمر قتل المعتدي، طالما لم تكن هناك ثمة وسيلة لدفعه إلا بذلك، وعلى هذا، فإذا استلزم دفع المعتدي إيذاءه بأي من أنواع الإيذاء المنصوص عليها في المشروع، فلا يكون في ذلك جريمة، وإنما هو فعل مباح.
على أنه يشترط لإباحة الفعل بسبب دفع الصائل أن يكون الاعتداء حالا، وألا يمكن
دفعه بطريق آخر غير ما وقع، وأن يدفع الاعتداء بالقدر اللازم لدفعه فقط.
وأما إباحة الفعل للضرورة فاصله في الشريعة - بوجه عام - قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ (الأنعام، الآية: 119)، وقوله:فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( البقرة، الآية: 173).
فمن أكره على الفعل إكراهاً تماماً ملجئاً، يعتبر في حالة ضرورة في منطق الرأي القائل برفع العقوبة عن المكره (بفتح الراء). وكذلك الجائع المشرف على الهلاك في الصحراء إذا منعه الطعام من وجد عنده، ولم يكن ثمة وسيلة للحصول على الطعام إلا بالإقدام على فعل يتضمن إيذاء مانع الطعام.
ومن الشروط الأساسية للضرورة أن يكون الشخص في حالة إرغام تام على ارتكاب الفعل، وألا يكون ثمة وسيلة للخروج من حالة الضرورة إلا بما أتاه من فعل، وأن يكون الفعل بالقدر اللازم لدفع الضرورة فقط.
كذلك تعتبر إباحة الفعل دفاعا عن النفس أو العرض أو المال من تطبيقات الضرورة بوجه عام؛ لأن الفاعل في هذه الصور يجد نفسه مضطراً إلى الفعل، لدفع الاعتداء، طالما أنه لم يتسن دفعه بأية وسيلة أخرى على ما سلف بيانه عند تناول حكم دفع الصائل.
(تراجع المادة (35) من هذا القانون ومذكرتها الإيضاحية).
مبدأ المساواة في العقوبة:
ومتى توافرت الشروط العامة للعقاب، فلا فرق بعد ذلك بين الذكر والأنثى في شريعة القصاص، وهذا قول عامة أهل العلم، ومنهم: النخعي، والشعبي، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأهل المدينة، والشافعي، وإسحاق، والحنفية، وغيرهم. وقد استدل ابن القيم على ذلك بها ثبت في الصحيحين من أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها - أي حلي -، فأخذ فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، وكذلك الشأن بالنسبة للخنثى؛ لأنه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى.
ولا تفرقة بين الناس بسبب مناصبهم أو أوضاعهم، فهم جميعا أمام القصاص والدية سواء، فلا فرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، وصحيح وعليل. بل لقد أجمع الفقهاء على أن السلطان يجب عليه أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من الرعية؛ إذ ليس بينه وبين العامة فرق في أحكام الله تعالى، وورد في بعض الآثار المدونة أن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتص من نفسه (تبيين الحقائق للزيلعي الحنفي، المطبعة الأميرية 1315هـ الجزء السادس ص (102) إلى (105) - المغني ج (8) ص (261)).
وأما بالنسبة إلى الشرط الذي يجب توافره في المجني عليه، وهو أن يكون معصوم الدم - فالمقصود به ألا يكون دمه مهدراً لأحد الأسباب الشرعية التي تجيز ذلك.
وقد اعتبرت المادة (230) المجني عليه غير معصوم الدم، إذا تحققت في شأنه إحدى الحالات الآتية:
الأولى: إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله قصاصاً، وكان الجاني من أولياء الدم. الثانية: إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله حداً.
الثالثة: إذا كان حربياً غير مستأمن.
وقد آثر المشروع الأخذ برأي أبي يوسف ومحمد في خصوص اعتداء ولي دم القتيل على من ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله قصاصاً، متى وقع هذا الاعتداء على بدنه بما دون القتل، فقد جاء في بدائع الصنائع ج- (7) ص (304) ما نصه: «ولو كان له على رجل قصاص في النفس، فقطع يده، ثم عفا عن النفس، وبرأت اليد - ضمن دية اليد، في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: ومحمد لا ضمان عليه (وجه) قولهما أن نفس القاتل بالقتل، وصارت حقا لولي القتيل، والنفس اسم لجملة الأجزاء، فإذا قطع يده فقد استوفى حق نفسه، فلا يضمن، ولهذا لو قطع يده ثم قتله لا يجب عليه ضمان اليد، ولو لم تكن اليد حقه لوجب الضمان عليه، دل أنه بالقطع استوفي حق نفسه، فبعد ذلك إن عفا عن النفس، فالعفو ينصرف إلى القائم لا إلى المستوفي، كمن استوف بعض دينه ثم أبرأ الغريم أن الإبراء ينصرف إلى ما بقي لا إلى المستوفي، كذا هذا، وغني عن البيان أن من ارتكب جريمة توجب قتله قصاصاً مهدر الدم في حق أولياء دم القتيل فحسب، أما بالنسبة لمن سواهم من غير الأولياء فهو محقون الدم؛ إذ قد يعفو عنه الأولياء، ومن ثم فحكمه يختلف عمن ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله حداً وعن الحربي؛ لأن كليهما مهدر الدم عند الشارع.
ومثال من ارتكب جريمة توجب قتله حداً المرتد، فمن قطع يد مرتد لا يضمن وإن كان متعديا في القطع ( المرجع السابق ص (204)). والمحارب - وهو الذي يقطع الطريق على الناس - لو ارتكب جريمة قتل - مسلماً كان أو غير مسلم - فعقوبة المحارب في هذه الصورة هي قتله حدا بموجب أحكام الشريعة الإسلامية، ولذلك لا تكون لديه حصانة ولا يعاقب قاتله أو من اعتدى عليه باعتبار أنه ارتكب جريمة قتل أو اعتداء، وإنما يعاقب تعزیراً باعتباره متعدياً على حق السلطة العامة في إقامة الحدود؛ لأن إقامة الحدود لیست موکولة للأفراد، وإنها معقودة للسلطة العامة. ويلاحظ أن مناط انتفاء قيام جريمة الاعتداء على ما دون النفس - هو أن تثبت الجريمة الموجبة للقتل حداً قبل المجني عليه بالدليل الشرعي، أما إذا لم تثبت على هذا الوجه اعتبر المجني عليه معصوم الدم، وعوقب الجاني على الجريمة باعتبارها اعتداء على ما دون النفس.
وقد عنيت هذه المادة بتحديد المقصود بالحربي؛ حتى لا تختلف الآراء في هذا الشأن، فنصت على أن الحربي: هو غير المسلم التابع لدولة غير إسلامية، بينها وبين دولة إسلامية حالة حرب معلنة أو فعلية. وغني عن البيان أن الحربي لا يعتبر غير معصوم الدم إلا إذا كان وجوده في الدولة غير مشروع، أما إذا لجأ للدولة مثلاً طالباً الأمان وأجابته الدولة إلى ذلك، كما إذا دخلها بمقتضى جواز سفر - فإنه مستأمن معصوم الدم (حاشية الدر المختار لابن عابدين الحنفي، مطبعة مصطفى الحلبي 1386/ 1966، الجزء الرابع ص (166))، وبهذه المناسبة تجدر الإشارة بصفة خاصة إلى أن كل كافر - عدا الحربي غير المستأمن - يعتبر معصوم الدم، وبذلك يعتبر الذمي معصوم الدم.
ويلاحظ أنه إذا كان الاعتداء على غير معصوم الدم في الحالتين الأولى والثانية من هذه المادة - لا يوجب القصاص أو الدية، إلا أنه لا يمنع من المساءلة التعزيرية، وهذا ما تكفلت به الفقرة الأخيرة من هذه المادة، أما الحربي غير المستأمن فمباح الدم على الإطلاق بغير خلاف، وقيل: إنه أشبه بالخنزير ولا دية فيه لذلك ولا كفارة (المغني ج (8) ص (255)).
مادة (231): 1- المجنون أو من به عاهة في العقل أو غير البالغ يعتبر عمده في حكم الخطأ، وتجب فيه الدية.
مادة (232):
1- مع عدم الإخلال بالدية تطبق على جرائم الاعتداء على ما دون النفس التي تقع من غير البالغ الأمارات الطبيعية - أحكام القانون رقم (31) لسنة 1974 بشأن الأحداث.
2- ومع ذلك يجوز الحكم بالضرب بعصا رفيعة من خمس إلى ثلاثين، بدلاً من التدبير المقرر بقانون الأحداث أو بالإضافة إليه.
الإيضاح
إن الشريعة الإسلامية وإن اشترطت للقصاص أن يكون الجاني عاقلاً بالغاً کما سیلي بيان ذلك عند إيضاح أحكام القصاص، إلا أنها لم تشترط ذلك في خصوص الدية؛ لأن الدية ملحوظ فيها أنها حق للمجني عليه الذي لا شأن له بالظروف الخاصة بالفاعل، ولذلك فإذا كان الفاعل غير عاقل أو غير بالغ، فإن ذلك وإن منع عنه القصاص إلا أنه لا يمنع الدية، ونظراً لأن جمهور الفقهاء يذهب إلى أنه ليس للمجنون وللصبي قصد يعتد به، لذلك فإنهم اعتبروا الفعل الواقع من أيها في حكم الخطأ حتى ولو كان عمدا، وذلك فيها يتعلق بأحكام الدية فلم يوجبوها في ماله، وإنما أوجبوها على عاقلته، على ما سيبين فيها بعد. (المغني ج (8) ص (262)، (267)).
على أن امتناع القصاص بالنسبة إلى الصغير لا يمنع من تأديبه عن الجرائم التي تقع منه على النحو الذي يتفق مع سنه ويتناسب مع جسامة الجريمة المنسوبة إليه، ومن المعلوم أن الصبي - وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية - يمر بمرحلتين:
الأولى: مرحلة عدم التمييز. وهي تبدأ من تاريخ ولادته حتى تمام السابعة.
والثانية: مرحلة التمييز. وتبدأ من تمام السابعة حتى البلوغ.
ومن المقرر أن الصبي في المرحلة الأولى غير مسئول جنائياً، أما في المرحلة الثانية - وهي مرحلة التمييز - فيجوز تعزيره عن الجرائم التي يرتكبها بأوجه التعزير المناسبة التي أوردتها نصوص القانون رقم (31) لسنة 1974 بشأن الأحداث، ولذا فقد أوردت الفقرة الأولى من هذه المادة حكماً عاماً يقضي بتطبيق أحكام قانون الأحداث على جرائم الاعتداء على ما دون النفس، التي تقع من غير البالغ مع عدم الإخلال بالدية، وذلك باعتبار أن هذه الأحكام لا تتعارض مع ما هو مقرر في الشريعة الغراء من مسئولية عقابية، وذلك حتى لا يترتب عليها أي أثر يلحق بسمعة الصغير أو مستقبله؛ حماية له ورعاية لظروفه؛ إذ إن مناط المسئولية الجنائية الكاملة في الإسلام هو البلوغ، ومن ثم لا يجوز أن تترتب على العقوبات التي تفرض تعزيراً على الصغير لتأديبه وتقويمه - الآثار التي تترتب على المسئولية الجنائية الكاملة، وإلا كان في ذلك إهدار للظروف المتعلقة بصغر السن وقصور التمييز. هذا، وقد أجازت الفقرة الثانية من المادة المذكورة الحكم بالضرب بعصاً رفيعة من خمس إلى ثلاثين، بدلاً من التدبير المقرر بقانون الأحداث أو بالإضافة إليه.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السابع ، الصفحة / 161
أَوَّلاً: الْجُنُونُ:
الْجُنُونُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ: أَجَنَّهُ اللَّهُ فَجُنَّ، فَهُوَ مَجْنُونٌ، بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول.
وَأَمَّا عِنْدَ الأْصُولِيِّينَ فَإِنَّهُ: اخْتِلاَلٌ لِلْعَقْلِ يَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ الأْفْعَالِ وَالأْقْوَالِ عَلَى نَهْجِ الْعَقْلِ.
وَالْجُنُونُ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الأْدَاءِ، فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْعِبَادَاتِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ.
وَفِي زَكَاةِ مَالِ الْمَجْنُونِ خِلاَفٌ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُنُونِ الْمُطْبَقِ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمُعَامَلاَتُ، فَحُكْمُهُ فِيهَا حُكْمُ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِ لاِنْتِفَاءِ تَعَقُّلِهِ لِلْمَعَانِي.
وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ، فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا الْجُنُونُ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ يَرِثُ وَيَمْلِكُ لِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ، وَالْمُتْلَفَاتُ بِسَبَبِ أَفْعَالِهِ مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ.
وَتَفْصِيلُ الأْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْجُنُونِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جُنُونٍ).
ثَانِيًا: الْعَتَهُ:
الْعَتَهُ فِي اللُّغَةِ: نُقْصَانُ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ دَهْشٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: آفَةٌ تُوجِبُ خَلَلاً فِي الْعَقْلِ، فَيَصِيرُ صَاحِبُهَا مُخْتَلَطَ الْكَلاَمِ، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ، وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ.
وَالْمَعْتُوهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأْدَاءِ الْقَاصِرَةِ، إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيِّ كَمَا جَاءَ فِي التَّلْوِيحِ، إِلاَّ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ: أَنَّ امْرَأَةَ الْمَعْتُوهِ إِذَا أَسْلَمَتْ لاَ يُؤَخَّرُ عَرْضُ الإْسْلاَمِ عَلَيْهِ، كَمَا لاَ يُؤَخَّرُ عَرْضُهُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ بِخِلاَفِ الصَّبِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، فَإِنَّ الصِّبَا مُقَدَّرٌ بِخِلاَفِ الْعَتَهِ وَالْجُنُونِ. وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَتَهٍ).
ب - السُّكْرُ:
مِنْ مَعَانِي السُّكْرِ: زَوَالُ الْعَقْلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَسْكَرَهُ الشَّرَابُ: أَيْ أَزَالَ عَقْلَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلإْنْسَانِ مِنْ تَنَاوُلِ الْمُسْكِرِ، يَتَعَطَّلُ مَعَهَا عَقْلُهُ، فَلاَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الأْمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ.
وَالسُّكْرُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَخَاصَّةً إِنْ كَانَ طَرِيقُهُ مُحَرَّمًا، كَأَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُسْكِرَ مُخْتَارًا عَالِمًا بِأَنَّ مَا يَشْرَبُهُ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ.
وَخُلاَصَةُ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي السُّكْرِ هُوَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا الْمُسْكِرَ مُسْقِطًا لِلتَّكْلِيفِ وَلاَ مُضَيِّعًا لِلْحُقُوقِ، وَلاَ مُخَفِّفًا لِمِقْدَارِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ السَّكْرَانِ، لأِنَّهُ جِنَايَةٌ، وَالْجِنَايَةُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهَا صَاحِبُهَا. وَتَفْصِيلُ الأْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالسُّكْرِ مَحَلُّهَا مُصْطَلَحُ: (سُكْرٍ).
د-السَّفَهُ:
السَّفَهُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: خِفَّةٌ تَعْتَرِي الإْنْسَانَ فَتَبْعَثُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِخِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، مَعَ عَدَمِ الاِخْتِلاَلِ فِي الْعَقْلِ.
وَإِنَّمَا كَانَ السَّفَهُ مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ؛ لأِنَّ السَّفِيهَ بِاخْتِيَارِهِ يَعْمَلُ عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّفَهِ وَالْعَتَهِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمَعْتُوهَ يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، بِخِلاَفِ السَّفِيهِ فَإِنَّهُ لاَ يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ لَكِنْ تَعْتَرِيهِ خِفَّةٌ، فَيُتَابِعُ مُقْتَضَاهَا فِي الأْمُورِ الْمَالِيَّةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَرَوِيَّةٍ فِي عَوَاقِبِهَا؛ لِيَقِفَ عَلَى أَنَّ عَوَاقِبَهَا مَحْمُودَةٌ أَوْ مَذْمُومَةٌ.
وَالسَّفَهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الأْهْلِيَّةِ بِقِسْمَيْهَا، وَلاَ يُنَافِي شَيْئًا مِنَ الأْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالسَّفِيهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرِيعَةَ رَاعَتْ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، فَقَرَّرَتْ أَنْ يُمْنَعَ السَّفِيهُ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ صِيَانَةً لَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (سَفَهٍ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / السادس عشر ، الصفحة / 99
جُنُونٌ
التَّعْرِيف:
الْجُنُونُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ جُنَّ الرَّجُلُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، فَهُوَ مَجْنُونٌ: أَيْ زَالَ عَقْلُهُ أَوْ فَسَدَ، أَوْ دَخَلَتْهُ الْجِنُّ، وَجَنَّ الشَّيْءَ عَلَيْهِ: سَتَرَهُ.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ وَالأْصُولِيُّونَ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا:
أَنَّهُ اخْتِلاَلُ الْعَقْلِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الأْفْعَالِ وَالأْقْوَالِ عَلَى نَهْجِهِ إِلاَّ نَادِرًا.
وَقِيلَ: الْجُنُونُ اخْتِلاَلُ الْقُوَّةِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الأْشْيَاءِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ الْمُدْرِكَةِ لِلْعَوَاقِبِ بِأَنْ لاَ تَظْهَرَ آثَارُهَا، وَأَنْ تَتَعَطَّلَ أَفْعَالُهَا.
وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ بِأَنَّهُ: اخْتِلاَلُ الْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا إِدْرَاكُ الْكُلِّيَّاتِ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الدَّهَش:
2 - الدَّهَشُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ دَهِشَ، يُقَالُ دَهِشَ الرَّجُلُ أَيْ تَحَيَّرَ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ مِنْ ذَهْلٍ أَوْ وَلَهٍ، وَدُهِشَ أَيْضًا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَهُوَ مَدْهُوشٌ. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى الْمُتَحَيِّرِ وَعَلَى ذَاهِبِ الْعَقْلِ، وَقَدْ جَعَلَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَدْهُوشَ الَّذِي ذَهَبَ عَقْلُهُ دَاخِلاً فِي الْمَجْنُونِ.
ب - الْعَتَه:
3 - الْعَتَهُ فِي اللُّغَةِ: نُقْصَانُ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ دَهَشٍ. وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأْصُولِيِّينَ آفَةٌ تُوجِبُ خَلَلاً فِي الْعَقْلِ فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْكَلاَمِ، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ، وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ، وَكَذَا سَائِرُ أُمُورِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ، أَنَّ الْمَعْتُوهَ قَلِيلُ الْفَهْمِ مُخْتَلِطُ الْكَلاَمِ، فَاسِدُ التَّدْبِيرِ، لَكِنْ لاَ يَضْرِبُ وَلاَ يَشْتُمُ بِخِلاَفِ الْمَجْنُونِ.
وَصَرَّحَ الأْصُولِيُّونَ بِأَنَّ حُكْمَ الْمَعْتُوهِ حُكْمُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، إِلاَّ أَنَّ الدَّبُوسِيَّ قَالَ: تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ احْتِيَاطًا، وَقَالَ صَدْرُ الإْسْلاَمِ: إِنَّ الْعَتَهَ نَوْعُ جُنُونٍ فَيَمْنَعُ أَدَاءَ الْحُقُوقِ جَمِيعًا.
ج - السَّفَه:
4 - السَّفَهُ لُغَةً: نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ وَالتَّحَرُّكُ، يُقَالُ: تَسَفَّهَتِ الرِّيَاحُ الثَّوْبَ: إِذَا اسْتَخَفَّتْهُ، وَحَرَّكَتْهُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ أَيْ خَفِيفٌ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: خِفَّةٌ تَبْعَثُ الإْنْسَانَ عَلَى الْعَمَلِ فِي مَالِهِ بِخِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً. قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَالسَّفَهُ لاَ يُوجِبُ خَلَلاً، وَلاَ يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
وَقِيلَ السَّفَهُ صِفَةٌ لاَ يَكُونُ الشَّخْصُ مَعَهَا مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ كَأَنْ يَبْلُغَ مُبَذِّرًا يُضَيِّعُ الْمَالَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ الْجَائِزِ، وَأَمَّا عُرْفًا: فَهُوَ بَذَاءَةُ اللِّسَانِ وَالنُّطْقُ بِمَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ.
وَفِي جَوَاهِرِ الإْكْلِيلِ: السَّفِيهُ: الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الَّذِي لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ فَهُوَ خِلاَفُ الرَّشِيدِ.
د - السُّكْر:
5 - اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ السُّكْرِ:
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: السُّكْرُ نَشْوَةٌ تُزِيلُ الْعَقْلَ، فَلاَ يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنَ الأْرْضِ، وَلاَ الرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَصَرَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّ تَعْرِيفَ السُّكْرِ بِمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ فِي السُّكْرِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ، وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ فَهُوَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ كُلِّهِمْ: اخْتِلاَطُ الْكَلاَمِ وَالْهَذَيَانُ. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا تَعْرِيفُ الشَّافِعِيِّ لِلسَّكْرَانِ: بِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَطَ كَلاَمُهُ الْمَنْظُومُ، وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ.
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعَادَةِ، فَإِذَا انْتَهَى تَغَيُّرُهُ إِلَى حَالَةٍ يَقَعُ عَلَيْهِ فِيهَا عَادَةً اسْمُ السَّكْرَانِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِالسَّكْرَانِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ الأْقْرَبُ.
وَقِيلَ: السُّكْرُ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلإْنْسَانِ مِنِ امْتِلاَءِ دِمَاغِهِ مِنَ الأْبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، فَيَتَعَطَّلُ مَعَهُ الْعَقْلُ الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الأْمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ.
هـ - الصَّرْع:
6 - الصَّرْعُ لُغَةً: عِلَّةٌ تَمْنَعُ الدِّمَاغَ مِنْ فِعْلِهِ مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ، فَتَتَشَنَّجُ الأْعْضَاءُ.
أَقْسَامُ الْجُنُونِ :
7- جَاءَ فِي كَشْفِ الأْسْرَارِ: الْجُنُونُ يَكُونُ أَصْلِيًّا إِذَا كَانَ لِنُقْصَانٍ جُبِلَ عَلَيْهِ دِمَاغُهُ وَطُبِعَ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَبُولِ مَا أُعِدَّ لِقَبُولِهِ مِنَ الْعَقْلِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ.
وَيَكُونُ عَارِضًا: إِذَا زَالَ الاِعْتِدَالُ الْحَاصِلُ لِلدِّمَاغِ خِلْقَةً إِلَى رُطُوبَةٍ مُفْرِطَةٍ، أَوْ يُبُوسَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا يُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعِلاَجِ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الأَْدْوِيَةِ. وَالْجُنُونُ الأْصْلِ يُّ لاَ يُفَارِقُ الْعَارِضَ فِي شَيْءٍ مِنَ الأْحْكَامِ.
8- وَيَنْقَسِمُ الْجُنُونُ أَيْضًا إِلَى مُطْبِقٍ وَغَيْرِ مُطْبِقٍ:
وَالْمُرَادُ بِالْمُطْبِقِ الْمُلاَزِمُ الْمُمْتَدُّ. وَالاِمْتِدَادُ لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ عَامٌّ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعِبَادَاتِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ قَدْرَ الاِمْتِدَادِ الْمُسْقِطِ فِي الصَّلَوَاتِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبِصَيْرُورَتِهَا سِتًّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَفِي الصَّوْمِ بِاسْتِغْرَاقِ الشَّهْرِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَفِي الزَّكَاةِ بِاسْتِغْرَاقِ الْحَوْلِ كُلِّهِ فِي الأْصَحِّ، وَغَيْرُ الْمُمْتَدِّ مَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.
فَالْجُنُونُ إِنْ كَانَ مُمْتَدًّا سَقَطَ مَعَهُ وُجُوبُ الْعِبَادَاتِ فَلاَ تُشْغَلُ بِهَا ذِمَّتُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْتَدٍّ وَهُوَ طَارِئٌ لَمْ يَمْنَعِ التَّكْلِيفَ وَلاَ يَنْفِي أَصْلَ الْوُجُوبِ؛ لأِنَّ الْوُجُوبَ بِالذِّمَّةِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ، وَلِذَلِكَ يَرِثُ وَيَمْلِكُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْتَدٍّ، وَكَانَ أَصْلِيًّا فَحُكْمُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حُكْمُ الْمُمْتَدِّ؛ لأِنَّهُ نَاطَ الإْسْقَاطَ بِالْكُلِّ مِنَ الاِمْتِدَادِ وَالأْصَالَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الطَّارِئِ فَيُنَاطُ الإْسْقَاطُ بِالاِمْتِدَادِ.
أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الأْهْلِيَّةِ :
9 - الْجُنُونُ مِنْ عَوَارِضِ أَهْلِيَّةِ الأْدَاءِ وَهُوَ يُزِيلُهَا مِنْ أَصْلِهَا، فَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ آثَارُهَا الشَّرْعِيَّةُ؛ لأِنَّ أَسَاسَ أَهْلِيَّةِ الأْدَاءِ فِي الإْنْسَانِ التَّمْيِيزُ وَالْعَقْلُ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ.
وَلاَ يُؤَثِّرُ الْجُنُونُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ؛ لأِنَّ هَا ثَابِتَةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ أَيًّا كَانَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ؛ لأِنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلْوُجُوبِ هِيَ حَيَاتُهُ الإْنْسَانِيَّةُ.
وَمَا وَجَبَ عَلَى الْمَجْنُونِ بِمُقْتَضَى أَهْلِيَّتِهِ لِلْوُجُوبِ مِنْ وَاجِبَاتٍ مَالِيَّةٍ يُؤَدِّيهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ.
فَإِذَا جَنَى عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ يُؤَاخَذُ مَالِيًّا لاَ بَدَنِيًّا، فَفِي الْقَتْلِ يَضْمَنُ دِيَةَ الْقَتِيلِ وَلاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه : «عَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ» وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأْصُولِيِّ.
أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْجِنَايَاتِ :
20 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْجُنُونَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الأْهْلِيَّةِ يَطْرَأُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَذْهَبُ بِهِ، وَلِذَلِكَ تَسْقُطُ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْخِطَابُ لِعَدَمِ وُجُودِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةُ فَهْمِ دَلِيلِ التَّكْلِيفِ.
فَالْجُنُونُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَسَبَ الْبَيَانِ السَّابِقِ، وَلاَ حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ، لأِنَّهُ إِذَا سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالإْثْمُ فِي الْمَعَاصِي فَالْحَدُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ كَالضَّمَانِ وَنَحْوِهِ فَلاَ يَسْقُطُ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ تَكْلِيفًا لَهُ، بَلْ هُوَ تَكْلِيفٌ لِلْوَلِيِّ بِأَدَاءِ الْحَقِّ الْمَالِيِّ الْمُسْتَحَقِّ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ، فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جَرَائِمُ، أُخِذَ بِهَا مَالِيًّا لاَ بَدَنِيًّا، وَإِذَا أَتْلَفَ مَالَ إِنْسَانٍ وَهُوَ مَجْنُونٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِذَا قَتَلَ فَلاَ قِصَاصَ وَتَجِبُ دِيَةُ الْقَتِيلِ، كَذَلِكَ لاَ يَتِمُّ إِحْصَانُ الرَّجْمِ وَالْقَذْفِ إِلاَّ بِالْعَقْلِ، فَالْمَجْنُونُ لاَ يَكُونُ مُحْصَنًا لأِنَّهُ لاَ خِطَابَ بِدُونِ الْعَقْلِ.
لاَ جِزْيَةَ عَلَى الْمَجْنُونِ :
21 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ جِزْيَةَ عَلَى الْمَجْنُونِ؛ لأِنَّ الْجِزْيَةَ شُرِعَتْ جَزَاءً عَنِ الْكُفْرِ وَحَمْلاً لِلْكَافِرِ عَلَى الإْسْلاَمِ، فَتَجْرِي مَجْرَى الْقَتْلِ، فَمَنْ لاَ يُعَاقَبُ بِالْقَتْلِ، لاَ يُؤْخَذُ بِالْجِزْيَةِ، وَالْمَجْنُونُ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ، فَلاَ جِزْيَةَ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (جِزْيَةٌ).
________________________________________________
قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ مأمون محمد سلامة، الطبعة الأولى 2017 الجزء الثالث،
وحكم السكر غير الاختياري في الفقه الإسلامي هو انتفاء الأثم بالنسبة للسكر وبالنسبة للجرائم المرتكبة في حالة السكر. وهذا باتفاق الفقهاء، ويأخذ حكم السكر غير الاختياري السكر المياح للعلاج أو الجراحي كذلك السكر في حالة الضرورة الملجئة. وانتفاء الإثم يترتب عليه عدم المسا علة الجنائية وما يترتب عليها من عقوبات وقصاص ولكنها لا تمنع من تعويض الإضرار المدنيه .
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 101 ، 102 ، 103 ، 104 ، 105 .
تحريم شرب الخمر
(مادة 159)
يحرم شرب الخمر وتعاطيها، وحيازتها وإحرازها ، وصنعها وتحضيرها وإنتاجها ، وجلبها واستيرادها وتصديرها والاتجار فيها، وتقديمها وإعطاؤها وإهداؤها، وترويجها ونقلها، والدعوة إليها والإعلان عنها.
(مادة 160)
کل مسكر خمر سواء أسكر قليله أو كثيره، وسواء كان خالصاً أم مخلوطاً .
(مادة 161)
يشترط للعقاب على الجرائم المنصوص عليها في هذا الباب - أن يكون الجاني بالغاً عاقلاً قاصداً ارتكاب الفعل عن علم واختيار وبلا ضرورة.
(مادة 162)
كل من شرب خمراً ، عوقب حداً بالجلد أربعين جلدة.
(مادة 163)
إثبات جريمة الشرب المعاقب عليها حذا، يكون في مجلس القضاء بإحدى الوسيلتين الآتيتين:
الأولى : إقرار الجاني قولاً او كتابة ولو مرة واحدة، ويشترط أن يكون الجاني بالغاً عاقلاً مختاراً وقت الإقرار، غير متهم في إقراره، وأن يكون إقراره صريحاً واضحاً منصباً على ارتكاب الجريمة بشروطها، ويقبل الرجوع عن الإقرار إلا ما قبل الحكم النهائي.
الثانية: شهادة رجلين بالغين عاقلين عدلين مختارين غير متهمين في شهادتها مبصرین ، قادرين على التعبير قولاً أو كتابة ، وذلك عند تحمل الشهادة وعند أدائها.
وتثبت عند الضرورة بشهادة رجل وامرأتين أو أربع نسوة، ويفترض في الشاهد العدالة، ما لم يقم الدليل على غير ذلك قبل أداء الشهادة .
ويشترط أن تكون الشهادة بالمعاينة لا نقلاً عن قول الغير، وصريحة الدلالة على وقوع الجريمة بشروطها.
(مادة 164)
لا يجوز إبدال عقوبة الحد ولا العفو عنها.
(مادة 165)
إذا رجع المقر عن إقراره، ولم تكن الجريمة ثابتة إلا به، أو إذا لم يتوافر أي من الشروط المنصوص عليها في المادة (163) - يعزر الجاني بالجلد بما لا يقل عن عشر جلدات، ولا يجاوز ثلاثين جلدة.
(مادة 166)
يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة - كل من تعاطى الخمر عن غير طريق الشرب.
(مادة 167)
يعزر بالجلد ثلاثين جلدة ، وبغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تجاوز خمسة آلاف جنيه - كل من صدر أو جلب أو استورد أو أنتج أو استخرج أو صنع أو حضر خمراً ، أو اشترك في فعل مما ذكر، وكان ذلك بقصد الاتجار .
(مادة 168)
يعزر بالجلد عشرين جلدة، وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز ألفي جنيه:
(أ) كل من حاز أو أحرز أو اشترى أو باع أو روج أو سلم أو تسلم أو نقل أو قدم خمراً ، وكان ذلك بقصد الاتجار، وكل من توسط أو اشترك في أي فعل ما ذكر، وكذلك كل من أعلن عنها، أو دعا إليها بأية صورة.
(ب) كل من أدار أو أعد أو هيأ مكاناً لشرب الخمر أو تعاطيها.
(مادة 169)
يعزر بالجلد خمس عشرة جلدة، وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تجاوز ثلاثمائة جنيه - كل من حاز أو أحرز أو اشترى أو أنتج أو استخرج أو صنع أو أحضر أو سلم أو نقل خمراً ، أو توسط أو اشترك في فعل مما ذكر، وكان ذلك لغرض الشرب أو التعاطي.
(مادة 170)
ترفع الدعوى من رئيس النيابة أو من يقوم مقامه ، بإحالتها إلى محكمة الجنايات مباشرة.
(مادة 171)
إذا لم يكن الجاني بالغا بالأمارات الطبيعية وقت ارتكاب الجريمة - يعزر على الوجه التالي:
1- إذا كان الجاني قد أتم السابعة ولم يتم الثانية عشرة - فللقاضي أن يوبخه في الجلسة، أو أن يأمر بتسليمه إلى أحد والديه، أو إلى ولي نفسه، أو بإيداعه إحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية المبينة في القانون رقم (31) لسنة 1974 بشأن الأحداث.
2- وإذا كان قد أتم الثانية عشرة ولم يتم الخامسة عشرة يعاقب بضربه بعصا رفيعة بها لا يتجاوز عشرین ضربة، كما يجوز بالإضافة إلى ذلك الحكم بإيداعه إحدى المؤسسات المذكورة في البند السابق.
3- وإذا كان قد أتم الخامسة عشرة ولم يتم الثامنة عشرة - يعاقب بجلده من عشر إلى عشرين جلدة.
(مادة 172)
لا تسري أحكام هذا الباب على أي فعل مما ورد فيه يكون محله کحولاً ، إذا كان لغير غرض الشرب أو التعاطي.
(مادة 173)
مع عدم الإخلال بأحكام المادة (52) من هذا القانون، يجب في حالة الحكم بالإدانة في الحالة المنصوص عليها في المادة (167) - الحكم بمصادرة الآلات والأدوات والمواد التي استعملت فعلاً في إنتاج الخمر ، ووسائل النقل التي استخدمت في تقلها بقصد الاتجار فيه، متى كان صاحب هذه الوسائل يعلم أنه ينقل خمراً بقصد الاتجار فيه.
ويجب في حالة الحكم بالإدانة في الحالة المنصوص عليها في البند (ب) من المادة (168) - الحكم بإغلاق المكان الذي وقعت فيه الجريمة، ولا يرخص بإعادة فتحه إلا لغرض مشروع.
(مادة 174)
لا يجوز الأمر بإيقاف تنفيذ عقوبة الغرامة المحكوم بها تطبيقاً لأحكام هذا الباب.
(مادة 175)
لا تنقضي الدعوى الجنائية عن الجريمة الحدية، كما لا يمتنع سماع الشهادة عليها أو الإقرار بها بمضي المدة.
ولا تسقط العقوبة الحدية المحكوم بها بمضي أية مدة.
(مادة 176)
يتكرر الحد بتكرار فعل الشرب بعد تمام تنفيذ الحد ، فإذا تعددت جرائم الشرب قبل تمام التنفيذ في أي منها، فلا ينفذ على الجاني إلا حد واحد.
ولا يتداخل حد الشرب فيها سواه من الحدود.
(مادة 177)
إذا عاد الجاني بعد إتمام تنفيذ العقوبة إلى ارتكاب أي من الجرائم المعاقب عليها تعزيراً في هذا الباب - تكون عقوبة الغرامة مثلي المقررة أصلاً للجريمة ، وذلك فضلاً عن الحكم بالعقوبات الأخرى المقررة.
كما يستتبع صدور حكم على العائد حرمانه من الحصول على ترخيص بقيادة المركبات الآلية، أو إلغاء هذا الترخيص لمدة سنة.
وتعتبر الجرائم المنصوص عليها في هذا الباب متماثلة في العود.
ويجوز للمحكمة في حالة الحكم بالإدانة - أن تأمر بإيداع من ثبت إدمانه على شرب الخمر أو تعاطيها إحدى المصحات التي تخصص لهذا الغرض، إلى أن تأمر بالإفراج عنه بناء على طلب النيابة العامة بعد التحقق من شفائه، وعلى المصحة أن تخطر النيابة فور شفائه.
تحريم الخمر وإقامة حد الشرب
في تحريم الخمر:
يتجه التشريع الإسلامي دوماً إلى ربط الأحكام بما يصلح العباد، ومن قرأ قوله سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)) (المائدة:90 ، 91 )
عرف كيف يتجه الشارع إلى تقويم شئون العباد والحيلولة بينهم وبين الفساد، وكيف
يوجههم إلى توخي مقاصد الشريعة والوقوف على أسرارها.
وقد أمر الله تعالى في محكم كتابه باجتناب الخمر؛ لما تنطوي عليه من مفاسد، وبين أنها رجس من عمل الشيطان، وأن الفلاح منوط باجتنابها.
وهذا التحريم ثابت على نحو قاطع بكتاب الله في الآيتين سالفتي الذكر؛ حيث قرنها بالأنصاب وهي حجارة كانت حول الكعبة يذبحون عندها قرابينهم للأصنام، ووصفها بأنها رجس من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها، وهو أبلغ ألفاظ النهي والتحريم، وبين أن ترکها مدعاة لفلاح المسلمين.
وتحريمها ثابت كذلك بالسنة، فقد روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام». رواه أبو داود والإمام أحمد، كما روى أبو داود عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها».
وروى الشيخان عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام».
وقد أجمعت الأمة الإسلامية في ضوء تلك النصوص على تحريم الخمر، بل نص الفقهاء على أن مستحل الخمر کافر؛ لإنكاره ما علم من الدين بالضرورة.
ويقصد الشارع الإسلامي حفظ الضروريات الخمس، وهي الدين والنفس والعقل والمال والنسل، فكل ما يصون هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يفوتها فهو مفسدة.
فالمحافظة على العقل أمر ضروري يتطلبه الدين ذلك، بأن العقل في الإنسان هو مناط التكليف ومرجع المسئولية؛ لذلك حرص الشارع الحكيم على حفظ العقل من المسكرات التي تجعل عليه غشاوة تحول بينه وبين التمييز بين الحسن والقبيح، فيقدم السكارى على أفعال لا يشعرون بنتائجها إلا بعد إفاقتهم، حيث يكون الندم، وما أكثر ما يقدم شاربو الخمر على قتل الأنفس، واستباحة الأعراض، وبعثرة الأموال، واستهداف الخصومات والشحناء، وارتكاب کل جرم! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيما رواه النسائي والبيهقي: «الخمر أم الخبائث».
وعلى ما سبقت الإشارة إليه فإن الخمر حرمت؛ لأنها مفسدة للفرد في عقله وآدميته،
إذ تخرج الإنسان عن وعيه وتفقده إدراكه حتى يبلغ مرتبة الهذيان، وفي ذلك امتهان للعقل، وهو أشرف ما كرم الله به الإنسان، كما أنها مفسدة خلقية اجتماعية ودينية؛ إذ توقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وتصرفهم عن ذكر الله وعن الصلاة، فغيبوبة السكر تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم وعقله؛ ليكون موصلا الله في كل حين، والخمر حليفة الميسر وقرينة الجريمة.
وقد أثبتت الاتجاهات العلمية والطبية أن للخمر أثرها البالغ على صحة الإنسان وأجهزة جسمه وخاصة الجهاز الهضمي والجهاز العصبي والقلب، وعلى الحواس وخاصة حاسة الإبصار، وعلى الصحة النفسية والعقلية، ذلك أن الكحول وهو العنصر الفعال المسكر الذي تحتوي عليه جميع أنواع الخمور بنسب متفاوتة يؤثر على صحة الإنسان تأثيراً أشد ما يكون بالنسبة للمدمنين، وتدل الأبحاث على علاقة كبيرة بين الخمر وبين حوادث الطريق، ويقول فقهاء علم الإجرام: إن الخمر تضاعف الرغبة في الجريمة، وتساعد على تغليب الدوافع إليها، وإن أشد الأفراد خطورة على المجتمع هم الذين يجمعون بين الميل الإجرامي والميل إلى تعاطي الخمر (الإدمان)، وكثيراً ما يلجأ العدو إلى انتزاع الأسرار من الأفراد عن طريق الخمر، التي تفك عقدة ألسنتهم فتنساب بأسرار الوطن الخطيرة.
وهكذا فإن الخمر تعطي المجتمع إنسانا منحلاً مريضاً لا يتمتع بقدرات الشخص السوي، وحين تصل به إلى عادة الإدمان يصير الكحول عنصراً أساسياً في جسمه، يتطلب دوماً الإرواء. وقد ذكر علماء الطب الشرعي أن الإدمان قد يفضي إلى مظاهر الجنون التي منها الهذيان، الارتعاش، الجنون، الهوس الكحولي، والعته الكحولي.
ومن أجل ذلك اتجهت بعض الدول إلى تحريم الخمر تحريماً تاماً، ومن ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية عدلت المادة (18) من دستورها في سنة 1919 لحظر صنع المشروبات المسكرة أو بيعها أو نقلها أو تصديرها، لما استبان لها من شتى الأضرار البالغة المترتبة على شرب المسكرات.
وقد أنشئت بكثير من الدول جمعيات المقاومة الخمور وإبعاد الناس عن شرورها، ويشتد ساعد الدعوة إلى تحريم الخمر، حتى لا تكاد تخلو دولة في الوقت الحاضر من جماعات من المصلحين يستصرخون حكوماتهم أن تبادر إلى تحريمها بعد ما ثبت من أضرارها الوبيلة.
وقد عقد في المدة من 29 من نوفمبر سنة 1975 إلى 5 من ديسمبر من العام نفسه - المؤتمر السادس للمسكرات والاعتماد على العقاقير، الذي أعده المجلس الدولي للمسكرات ومكافحة الإدمان بلوزان (سويسرا) والمنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي بالتعاون مع وزارة الصحة بدولة البحرين، واشتركت فيه منظمة الصحة العالمية ووفود من ثلاث عشرة دولة عربية منها جمهورية مصر العربية، وأسهم فيه علماء وخبراء من الولايات المتحدة وسويسرا وألمانيا الغربية.
وقد أوصى المؤتمر في مجال الوقاية العامة الشاملة بما يلي:
1- الاستفادة من تطبيق الشريعة الإسلامية، وكيفية علاجها لمشكلة تعاطي المسكرات والمخدرات.
2- الاهتمام بالأسرة لتنشئة أفرادها التنشئة الصالحة؛ لوقاية المجتمع من مشاكل
تعاطي المسكرات والمخدرات.
3- توفير الضمان والرعاية الاجتماعية لأسر المدمنين، والعمل على حماية أفرادها.
4- تضمين المناهج الدولية في كافة مراحلها النوعية الفعالة الأضرار الناجمة عن تعاطي المسكرات والمخدرات، ونشر الوعي بين فئات الشعب؛ لتحصينهم ضد ذلك التعاطي، وإعطاء الشباب عناية خاصة؛ وقاية لهم وحفاظا على طاقاتهم ومستقبلهم.
5- تجنيد وسائل الإعلام؛ لتبصير الناس بالمضار المؤكدة علمياً للمسكرات والمخدرات.
6- مناشدة الدول التي تسمح بتعاطي المسكرات باتخاذ الإجراءات اللازمة للوصول إلى منع ذلك التعاطي أو الحد منه، والاجتهاد الصادق في هذا السبيل وفقاً لظروف كل بلد.
7- إلزام المصانع المنتجة للمسكرات بوضع عبارة بارزة بأن: «محتويات هذه العبوة قد تدمر صحتك»، وذلك باللغات المناسبة، أسوة بما يحدث مع الشركات المنتجة للسجائر، كما يجب منع الدعاية للمنتجات الكحولية منعاً باتاً في أي من وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وتليفزيون و سینما وغيرها.
على أن أنجح الأساليب لتحريم الخمر هو أسلوب الإسلام، الذي يخاطب الفرد من ناحية دينه وقلبه وإيمانه، فالتحريم فيه يعتمد على قوة العقيدة الدينية في النفوس، والإيمان بأن التحريم صادر عن الشارع الإلهي الحكيم، الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
ولئن كان الإسلام قد حرم الخمر، على ما سبق، فإن كلاً من اليهودية والمسيحية قد
حرمتها كذلك، فقد ورد في العهد القديم الإصحاح (23) ما نصه:
(29) «لمن الويل لمن الشقاوة لمن المخاصمات لمن الكرب لمن الجروح بلا سبب لمن ازمهرار العين (30) للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج (31) لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقوقة (32) في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان».
کا ورد في العهد الجديد: «رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنتوش» - الإصحاح (5) - ما نصه:
(11) «وأما الآن فكتبت إليكم: إن كان أحد مدعو أخاً زانياً أو طماعاً أو عابد وثن أو شتاماً أو سكيراً أو خاطفاً أن لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا».
وورد في الإصحاح (6) منها ما نصه:
(10) «ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله».
وورد فيه: «رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس»، الأصحاح (5) (18): «ولا
تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح».
وورد فيه: «رسالة بولس الرسول الأولى إلى تيموثاوس، الإصحاح (5) ما نصه:
(23) «لا تكن فيما بعد شراب ماء، بل استعمل خمراً قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة»، ومن هذا يبين أن العهد القديم يحرم حتى مجرد النظر إلى الخمر، وأما ما ورد في رسالة بولس الرسول إلى تيموثاوس إنها كان علاجاً لحالة فردية لمريض بذاته.
ولقد كان من نتائج الحقائق العلمية المسلمة - في شأن ما ينجم عن الخمر من آثار بالغة الخطورة بالإنسان جسدياً وعقلياً ونفسياً - أن دعا المصلحون وقادة الفكر إلى العمل على مكافحتها؛ لأن شربها وتعاطيها هو المدخل الطبيعي إلى الإدمان، بما يترتب عليه من نكبات للمدمنين، وفساد في المجتمعات يورثها الانحلال والرذيلة وضياع القيم.
وانطلاقاً مما تقدم ونزولاً من المشرع على واجبه في حماية المواطنين كافة - مسلمين كانوا أو غير مسلمين، ومراعاة منه لقاعدة إقليمية القانون العقابي بما يوجب سريان أحكامه على المقيمين على أرض الدولة جميعهم دونما استثناء بسبب الديانة أو الجنسية، وحرصا على ما تقتضيه المصلحة العامة؛ لأن الخمر لا تعد حلالاً في أي دين.
المحلى جـ(11) ص (450)).
(أبو زهرة ج (2) ص (189)، (243)).
مبدأ التحريم:
تنص المادة (159) على مبدأ تحريم الخمر، فتحرم شربها وتعاطيها وحيازتها وإحرازها وصنعها وتحضيرها وإنتاجها وجلبها واستيرادها وتصديرها ونقلها والاتجار فيها والدعوة إليها والإعلان عنها وتقديمها وإعطاءها وإهداءها، فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمول إليه، وآكل ثمنها». رواه أبو داود. قال ابن قدامة في المغني جـ (9) ص (138) مطبعة العاصمة: «وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر، وأجمعت الأمة على تحريمها».
تعريف الخمر:
تكفلت المادة (160) بتحديد المقصود بالخمر، فأخذت في هذا الشأن با استقر عليه جمهور الفقهاء، ومنهم المالكية والشافعية والحنابلة من أن الخمر هي كل شراب مسكر أیاً كانت المادة التي استخرج منها، وسواء أسكر قليله أو كثيره. وحجة هذا الرأي ما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن أبي مسلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع - وهو شراب يتخذ من العسل في اليمن - فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام»». أخرجه البخاري.
وقال يحيى بن معين: هذا أصح حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر، وما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام». وما رواه جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام». أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي. (بداية المجتهد، طبعة: صبیح، جـ (1) ص (378)).
وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من العنب خمراً، وإن من العسل خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن الحنطة خمراً، وأنا أنهاكم عن كل مسكر». وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام» - والفرق: مکیال معروف بالمدينة، وهو ستة عشر رطلاً - رواه أبو داود، وقال عمر رضي الله عنه: «نزل تحريم الخمر من العنب والعسل والحنطة والشعير، والخمر: ما خامر العقل». ولم يعترض أحد من الصحابة على ذلك.
ولم يأخذ المشروع برأي أبي حنيفة وسائر فقهاء الكوفة الذين يرون قصر الخمر المحرمة لعينها على الشراب المستخرج من النيئ من ماء العنب بعد ما غلى واشتد وقذف بالزبد ثم سكن عن الغليان، وصار صافياً مسكراً.
وأما الأشربة المسكرة الأخرى وهي التي أطلق عليها على وجه العموم اصطلاح الأنبذة، فإنه لا يقام الحد على شاربها إلا إذا بلغ درجة السكر، وحجتهم في ذلك حديث أبي عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حرمت الخمر لعينها والسكر من غيرها». إلا أن الفقهاء الآخرين ضعفوا هذا الحديث؛ لأن بعض رواته روی: «والمسكر من غيرها»، وقد قيل: إن خبر ابن عباس موقوف عليه، وأنه يحتمل بالسكر المسكر من كل شراب؛ إذ إنه روى هو وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مسكر حرام». ومن ثم فكل ما كان مسكراً، سواء أكان متخذاً من الثمار كالعنب والرطب والتين، أو من الحبوب كالحنطة والشعير، أو الحلويات كالعسل، وسواء أكان مطبوخاً أو نيئاً، وسواء أكان معروفاً باسم قديم كالخمر والطلاء، أو باسم مستحدث كالعرق والكونياك والشمبانيا و الويسكي والبيرة والبراندي والروم والفودكا والجن والسيدر، ونحوها من الأنواع والأسماء الشائعة اليوم، وذلك لما رواه أحمد وأبو داود عن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليشربن أناس من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها» .
راجع في شأن ما تقدم
1- المغني جـ (9) (مطبعة: العاصمة) ص (140).
2- المبسوط (مطبعة: السعادة) ج (24) ص (2) - (4).
3- حاشية ابن عابدين (دار سعادات) ج (3) ص (224)، (225).
4 - نهاية المحتاج ج (8) (مطبعة: الحلبي) ص (9).
5- بداية المجتهد ج (1) ص (377).
6- فتح القدير ج (4) ص (182)، (183).
7- الإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع (الطبعة: الميمنية) ج (4) ص (157)، (158).
8- منتهى الإرادات للفتوحي (مطبعة: الجيل) ج (2) ص (457).
9- الفروع للمقدسي بن مفلح (دار مصر) الطبعة الثانية، ج (6) ص (99).
10 - الروضة البهية في فقه الشيعة الجعفرية (دار الكتاب العربي)، ج (2) ص (371).
11 - البحر الزخار في فقه الزيدية (الطبعة الأولى ج (5) ص (192)).
12- مشروع الموسوعة الفقهية الكويتية - طبعة تمهيدية - الموضوع (1)، الأشربة.
وحجة جمهور الفقهاء أقوى وأوضح، فقد ثبت من حال الشرع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر، وجميع الأشربة المسكرة تخمر العقل، سواء كانت مستخرجة من العنب أو من غيره، فوجب أن يكون حكمها واحد، وحديث : «ما أسكر كثيره فقليله حرام»، وحديث: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام». نص حاسم يشمل بالتحريم جميع المسكرات.
على أن عنصر السكر في جميع أنواع الخمور هو الكحول، وهذا العنصر لا يتولد من العنب فقط وإنما من كثير من المواد الأخرى، وهو ما حسمه العلم وكشفت عنه التجارب. وقد نقل الشيخ رشيد رضا عن الإمام محمد عبده في تفسير المنار: «أن الخمر نوعان: نوع يخمر تخميراً، ونوع يقطر تقطيراً، وأقوى الخمور سماً وأشدها ضرراً ما كانت مقطرة، وهو ما يعبر عنها بالأشربة الروحية...، ولم يختلف الصحابة في تحريم ما كان عندهم من خمر البسر والتمر والحنطة والشعير وغيرها». وقد تعددت في عصرنا أسماء المشروبات الكحولية، وكلها من شأنها الإسکار حتى مما كان مصدره الشعير وهو (البيرة). والنصوص الشرعية السالف ذكرها تشمل بعمومها كل ما يجد من أصناف المسكرات.
وبناء على ما تقدم عرفت المادة (160) الخمر بها يفيد أنها كل ما من شأنه الإسكار، سواء أسكر قليله أو كثيره، والعبرة في الإسكار بالشخص العادي، فهو الذي تبنى الأحكام على أساسه.
ولا يغير من طبيعة السكر أن يخفف أو يمزج بغيره كالماء أو الصودا، طالما أن الخمر بعد تخفيفها أو خلطها بغيرها لا تزال محتفظة بالعنصر الفعال في السكر، وهو الكحول، وأنه يسكر ولو في الكثير منه دون القليل.
وليس معنى تحريم الخمر دون التعرض لغيرها حل العناصر الجامدة التي تؤثر على العقل وتخدر الجسم (المخدرات)، فإنه لا شك في حرمتها على ما أوضحه الفقهاء وأفتى به العلماء، إلا أن الخلاف في شأنها ثار فيها إذا كانت تعتبر بذاتها خمراً يقام الحد على متعاطيها، أم أنها تعتبر من قبيل الخمر علة باعتبار أنها تثبط العقل شأنها شأن الخمر، ولئن كان ثمة رأي يسوي بين الخمر والمخدرات فيما يتعلق بإقامة حد الشرب (ابن تيمية وابن القيم)، إلا أن المشرع آثر الرأي الذي اتجه إلى عدم إقامة حد الشرب في حالات تعاطي المخدرات باعتبار أن الخمر تطلق عادة على الأشربة المسكرة، ولا يمنع ذلك من فرض أقصى العقوبات على تعاطي المخدرات والاتجار فيها، مما يدخل في باب التعزير المتروك للسلطة التشريعية.
الشروط التي يجب توافرها في الجاني:
(أ) نصت المادة (161) على بيان هذه الشروط، وهي: العقل، والبلوغ، والاختيار
والقصد، وانتفاء الضرورة، وشرط العقل برفع المسئولية الجنائية عمن كان وقت ارتكاب الفعل قد فقد عقله لعاهة أو جنون.
وشرط البلوغ يلاحظ بشأنه أنه وإن كان الأصل فيه شرعاً أن يكون بالأمارات الطبيعية للبلوغ، فإذا لم تظهر يعول على السن، وهو في رأي جمهور الفقهاء (15) سنة، وفي رأي أبي حنيفة (18) سنة للفتى و(17) سنة للفتاة، إلا أن المشروع قد جعل السن - وهي (18) سنة - قرينة على البلوغ؛ مراعاة لتيسير التطبيق، وتفادياً للصعوبات العملية على أن تسقط هذه القرينة بثبوت البلوغ بالأمارات الطبيعية.
ويحسب السن بالتقويم الهجري؛ لأن الفقهاء إنها حددوا السن على أساس هذا التقويم، ويسهل حساب السن بالتقويم الهجري متى علم السن بالتقويم الميلادي.
ويشترط توافر القصد الجنائي لدى الفاعل، فجميع الجرائم المنصوص عليها في المشروع هي جرائم عمدية : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، فيجب أن يعلم الفاعل أن ما يشربه أو ما يحوزه أو يصنعه أو يقدمه أو يتعامل فيه... - هو خمر، فلا عقاب على من ارتكب الفعل عن خطأ أو غلط أو جهل بموضوعها، کمن شربها على أنها عصير غير مسكر، وكمن نقلها أو حازها وهو لا يعلم هذا، مع ملاحظة أن العلم بتحريم الفعل مفترض لأنه لا يعذر المرء بجهله القانون الجنائي، ولأن تحريم الخمر معلوم من الدين بالضرورة؛ ولأنه (لا يقبل في دار الإسلام العذر بجهل الأحكام).
ولا عقاب إذا ارتكب الفاعل الجريمة تحت تأثير الإكراه الذي لا يستطيع له دفعاً: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ » [النحل: 106)، «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». وصدق الله ورسوله.
ولا عقاب إذا كان ثمة ضرورة كأن يضطر لشرب الخمر؛ لدفع غصة لا يتسنى إزالتها إلا بها؛ لعدم وجود سوائل أخرى، وبالقدر الذي يزيل تلك الغصة فقط لقوله تعالى : وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: 119]
(أ) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173]
(ب) قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 145).
(ج) مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ (سورة النحل، آية: 106].
ولأن (الضرورات تبيح المحظورات)، والضرورة تقدر بقدرها.
يراجع بشأن الشروط الواجب توافرها في الفاعل المراجع الآتية:
1- المغني جـ(9) ص (142)، ص (143).
2- الفروع جـ (7) ص (99).
3- منتهى الإرادات جـ (2) ص (476).
4 - الإقناع ج (4) ص (158).
5- شرح الخرشي (المطبعة: الأميرية) ج (8) ص (108).
6- نهاية المحتاج جـ (8) ص (10)، (11).
7- ابن عابدين ج (3) ص (223).
8- حاشية الدسوقي (الحلبي) ج (4) ص (352).
9- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج- (7) ص (39).
10 - المحلى لابن حزم (الإمام) ج(11) ص (450).
11 - البحر الزخار جـ (5) ص (191).
12- أبو زهرة - الجريمة - جـ (1) ص (463).
13- عبد القادر عودة - التشريع الجنائي - جـ (1) ص (602).
ويشترط لإقامة الحد أن يكون تعاطي الخمر بطريق الشرب، فلا يقام الحد على من تعاطاها بغير طريق الفم، کمن استعطى بها أو تعاطاها بطريق الحقن أو الشرج، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وفي ذلك انظر المراجع الآتية:
1- بداية المجتهد ص (368).
2- الإقناع جـ (4) ص (159)، (160).
3- نهاية المحتاج ج (8) ص (10).
4- حاشية الدسوقي ج (4) ص (352)، حيث يقول: «إن الحد مختص بالمائعات، أما اليابسات التي تؤثر في العقل فليس فيها إلا الأدب»، ثم قال: «إن وصل من الأنف و نحوه کالأذن والعين فلا حد فيه ولو أسكر بالفعل».
5- الشرح الكبير للدردير «الشرب لا يكون إلا بالفم إذا وصل لحلقه، ولو لم يصل
لجوفه لا الأنف ونحوه، فلا حد فيه ولو وصل لجوفه».
6- ابن عابدين ص (228)، ص (229) «الأشربة المائعة، حتى إن الشافعية القائلين بلزوم الحد بالقليل مما أسكر كثيره - خصوه بالمائع».
۷- المغني لابن قدامة ص (141).
ومن المراجع السابقة يبين أن جمهور الفقهاء ذهب إلى أن الحد لا يقام إلا في حالة تعاطي الخمر بطريق الشرب، أما تعاطيها بطريق الفم بغير الشرب، كما لو أضيفت إلى مواد أخرى غير سائلة وظلت في الخليط الجامد محتفظة بخاصيتها المسكرة، أو تعاطيها بغير طريق الفم كالاحتقان بها خالصة أو مخلوطة - فقد اختلف الفقهاء في شأن إقامة الحد في مثل هذه الصور، ومن ذلك أن صاحب الإقناع يقول: «ولا يخفى أن غير الشراب كالخمر المنعقدة مثله، والمأكول كالمشروب، وأن الخمر المنعقدة يقال لها: شراب، بالنظر إلى أصلها». ويرى صاحب المغني إقامة الحد على من استعطى بها، ويذكر الخلاف في ذلك وفي الاحتقان ص (141). وقد رأى المشروع عدم إقامة الحد في هذه الحالات؛ رغبة في تضييق نطاق الجريمة الحدية، وجعلها في حدود القدر المتفق عليه عند جمهور الفقهاء مع العقاب في تلك الحالات تعزيراً.
ويتحقق الشرب الموجب للحد أياً كان المقدار الذي شرب قليلاً أو كثيراً، وسواء أدى إلى السكر أو لم يؤد؛ لأن الحد مقرر لمجرد الشرب: «ما أسكر كثيره فقليله حرام». قال الحافظ النسائي: «تحريم قليل كل مسكر وكثيره صح في عدة أحاديث وثبت بالإجماع، ولا خلاف بين أهل العلم أن السكر بكلية لا يحدث عن الشربة الأخيرة دون الأولى والثانية بعدها» أي أن السكر يكون بمجموع ما يشرب لا بالقدر الأخير فقط، وما قل من الشراب المسكر محرم؛ لسد الذريعة، إذ القليل منه يدعو إلى الكثير، فيفضي ذلك بالشارب إلى طلب المزيد حتى يصل إلى مرحلة السكر، ولو لم يقصد إليها منذ البداية هذا إلى أن تحريم الشرب ذاته أمر يمكن الانصياع إليه بالامتناع عن الشرب كلية، أما تحريم السكر مع إباحة الشرب فهو أمر يعسر التزامن؛ لأن الناس إذا شربوا لا يستطيعون تحديد القدر الذي يؤدي بهم إلى السكر إلا بطريق الظن الذي قد يخطئ ويصيب، وخاصة أن القدر المسكر يختلف باختلاف أنواع الخمور وباختلاف استعداد الأشخاص، فكان الأولى أن يغلق باب السكر بسد الطريق المؤدي إليه وهو الشرب.
حد الشرب:
عقوبة الشرب لم ترد في القرآن، وقد روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، وعن عقبة بن الحارث قال: «جيء بالنعمان - أو ابن النعمان - شارباً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن كان في البيت أن يضربوه، فكنت فيمن ضربه فضربناه بالنعال والجريد». رواهما أحمد والبخاري، وعن أبي سعيد الخدري قال: «جلد على عهد رسول الله في الخمر بنعلين أربعين، فلما كان زمن عمر جعل بدل كل نعل سوطاً». رواه أن رسول الله ضرب في الخمر أربعين (بداية المجتهد). وعن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه». رواه أحمد. وقال علي بن أبي طالب: «إنه إذا سكر هذي، وإذا هذي، افترى فحدوه حد المفتري». وروي أنه في عهد عثمان بن عفان جيء بالوليد بن عقبة، وقد شهد عليه رجلان، أحدهما شهد أنه شربها، والآخر شهد بأنه تقيأها، فطلب عثمان من على جلده، فطلب علي من محمد بن عبد الله بن جعفر جلده، وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: «أمسك. ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي». رواه مسلم.
وقد رأى جمهور الفقهاء - بناء على ما تقدم - أن عقوبة شارب الخمر حد وليست تعزيراً، ومصدر الحكم في ذلك ما استخلصوه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله، ثم فعل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وفي ذلك يقول ابن قدامة في المغني ص (141): «إن الحد ثبت بالإجماع، ولم تبق فيه شبهة». ويراجع بشأن رأي الجمهور في ذلك:
1- البدائع ص (57).
2- فتح القدير ص (80).
3- بداية المجتهد ص (368).
4 - الدرر، وحاشية ابن عابدين ص (227).
5- الزيلعي ص (168).
6- حاشية الدسوقي ص (352).
7- منتهى الإرادات ص (476).
8- الفروع ص (101).
9- الإقناع ص (159).
10 - الروضة ص (372).
11- البحر الزخار ص (195).
12- المحلي (442).
هذا وإن كان ابن حزم قد نقل في المحلى ص (440) الخلاف بشأن ما إذا كانت عقوبة شارب الخمر حداً أو تعزيراً، وبعض شراح أحاديث الأحكام الصنعاني في سبل السلام، وبعض أصحاب كتب التفسير كالشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا في تفسير المنار – يرون أنه تعزیر. وقد أخذ المشروع با اتفق عليه الجمهور.
مقدار الحد:
وقع الخلاف في مقدار الحد: هل هو ثمانون جلدة أم أربعون؟
قال ابن قدامة في المغني جـ (9) ص (141)، ص (142): «في قدر الحد روايتان: إحداهما: أنه ثمانون، وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة ومن تبعهم... ذلك أن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين. فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة في الشام، وقال علي في المشورة: «إنه إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، فحدوه حد المفتري». أي: حد القاذف. والثانية: أن الحد أربعون، وهو اختيار أبي بكر، وهو مذهب الشافعي؛ لأن عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين، ثم قال: «جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي». رواه مسلم». ثم قال ابن قدامة: «فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رآه الإمام». .
تراجع في الخلاف على مقدار الحد المراجع من (1) إلى (13) المشار إليها آنفا في شأن أن عقوبة شارب الخمر حد. وقد اختار المشروع مذهب الشافعي؛ لما ورد في المراجع السابقة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر أربعين (بداية المجتهد)، وأن أبا بكر شاور أصحاب الرسول: كم بلغ ضرب الرسول لشارب الخمر؟ فقدروه بأربعين، كذلك ضرب علي في الخمر أربعين في خلافة عثمان، وأن فعل النبي وأبي بكر وعلي لا يجوز ترکه بفعل غيره.
عقوبة الجلد:
وهي عقوبة بدنية قررها الشارع الحكيم؛ لما تحدثه من ألم بدني ونفسي بشخص الجاني، وهي فعالة في الحد من انتشار الجريمة، وهي ملائمة لجريمة شرب الخمر التي يقدم الجاني عليها بدافع من رغبته في اللذة والتمتع واللهو والهروب من بعض المتاعب النفسية، فتصده خشية الإيلام بالجلد عن اقتراف إثم الشرب، كما تردعه هذه العقوبة البدنية الفورية عن الرجوع إلى هذه الجريمة، وهي إلى جانب فعاليتها تجنب الفرد والمجتمع مضار العقوبات السالبة للحرية كالسجن والحبس، وما تنفقه الدولة في هذا السبيل، فضلاً عن استفحال عدوى الإجرام داخل السجون.
يراجع التشريع الجنائي الإسلامي للقاضي عبد القادر عودة جـ(1) ص (648).
ومن أجل ذلك نادى بعض الفقهاء الجنائيين بتخصيص عقوبة الجلد للسكارى والفاسقين ومرتكبي أعمال النهب وكسر الأسوار وإتلاف المزروعات وقتل المواشي، وعلى كل من يرتكب جرائم لها صفة القسوة أو عدم المبالاة، ويضيفون إلى ذلك قولهم: إنه إذا كان تفوق العقوبات البدنية على غيرها يظهر جلياً عندما يكون الغرض حفظ النظام بين طائفة فاسقة كما في السجون - فإن الجلد يجب أن يكون من وسائل التأديب الجوهرية في العقوبات التي يقصد بها التربية؛ إذ الضرب يمتاز على كل العقوبات بأنه يشعر بخوف حقيقي.
عقوبة العائد إلى الشرب:
جاء في الإقناع ص (162): «والحد عند الشافعية أربعون، ويجوز للإمام عندهم أن يزيد على ذلك حتى يبلغ به ثمانين على الأصح، والزيادة عن الأربعين على وجه التعزير»، ومثله في نهاية المحتاج ج (8) ص (13).
ولما كانت قواعد الشرع الإسلامي تسمح باعتبار المدمن على شرب الخمر الذي لم يصلحه تكرار العقاب - مريضاً - فينبغي معالجته بوضعه في إحدى المصحات التي تعد المعالجة المدمنين تحت الرقابة الطبية والتوجيه الديني، وهو ما أشار إليه المشروع. يقول ابن تيمية: «العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم».
فإذا شرب للمرة الرابعة بعد حده على الشرب ثلاث مرات، قال ابن حزم في المحلى جـ (11) ص (442)، ص (448): قالت طائفة: يقتل. وقالت طائفة: لا يقتل. فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ائتوني برجل أقيم عليه حد في الخمر، فإن لم أقتله فأنا كاذب.
وقال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وغيرهم: لا قتل عليه، وأن هذا قول عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وأما حديث: «فإن شرب الرابعة فاقتلوه». فمنسوخ. وقال ابن حزم: يقتل في الرابعة؛ لأن القول بالنسخ في ذلك باطل، ومن أخبار القتل في الرابعة ما روي عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شارب الخمر: «إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه».
ومنها كذلك ما روي عن أبي هريرة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب الرابعة... - ذکر كلمة معناها: فاقتلوه -.
وجاء في الإقناع ج (4) ص (159) أن حديث القتل إذا شرب الرابعة نسخ، وساق الأخبار الدالة على أنه أقيم عليه حد الشرب ولم يقتل، وأضاف أن الإجماع استقر على ذلك إلا من شذ، وأشار إلى ابن حزم. وجاء في البحر الزخار جـ (5) ص (192) أنه لا قتل عليه، بل يجد كلما شرب.
ولذلك لم ينص المشروع على إعدام الشارب إذا شرب للمرة الرابعة.
الإثبات في جريمة الحد:
لا تثبت جرائم الحدود إلا بوسائل إثبات محددة، وقد حددت المادة وسيلتين للإثبات هما: الإقرار في مجلس القضاء ولو مرة واحدة، وشهادة رجلين على الأقل. ورأت اللجنة أن يكون الأصل هو شهادة رجلين إلا أنه يجوز عند الضرورة الإثبات بشهادة رجل وامرأتين أو أربع نسوة، وذلك على النحو الذي أخذت به اللجنة في حد السرقة، ولا يعتبر من وسائل الإثبات الرائحة؛ إذ قد يكون الشخص شرب الخمر خطأ عن غير قصد أو مجها قبل أن تصل إلى حلقه، كما قد تكون الرائحة بسبب آخر غير شرب الخمر، وفيما يلي بيان بآراء الفقهاء بهذا الشأن:
1- المغني ج(9) ص (143)، (144): «ويثبت حد الشرب بالإقرار أو البينة، ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم، وإذا رجع عن إقراره قبل رجوعه. ولا يعتبر مع الإقرار وجود رائحة، ولا يجب الحد بوجود رائحة الخمر من فيه قول أكثر أهل العلم؛ لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء، ثم مجها أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرهاً. وإن عمر لم يحد بوجود الرائحة. وإن وجد سكران أو تقاياً الخمر فعن أحمد: لاحد عليه».
2- بداية المجتهد ص (368): «اتفق الفقهاء على أنه يثبت بالإقرار بشهادة عدلين، واختلفوا في ثبوته بالرائحة، فقال مالك وأصحابه وجمهور أهل الحجاز: يجب الحد بالرائحة إذا شهد بها عند الحاكم شاهدان عدلان. وخالف الشافعي وأبو حنيفة وجمهور أهل العراق وطائفة من الحجاز وجمهور علماء البصرة، فقالوا: لا يثبت الحد بالرائحة».
3- المبسوط ج (24) ص (31): «ولا يحد المسلم بوجود ريح الخمر فيه حتى يشهد الشهود عليه بشربها أو يقر؛ لأن ريح الخمر شاهد زور، فقد يوجد ريح الخمر بغير خمر، وقد يكون شربها مكرهاً أو مضطراً. لدفع العطش، فلا يجوز أن يعتمد ريحها في إقامة الحد عليه. ولو أقر ثم رجع لا يقام الحد عليه، ولا يحد بإقراره في حال سكره من الخمر، والإصرار على الإقرار بالسبب لا بد منه لإيجاب حد الخمر».
4- البدائع ج (7) ص (46): «الحدود كلها يشترط في البينة عليها الذكورة بالأصالة، فلا تقبل شهادة النساء، ولا الشهادة على الشهادة».
5- حاشية ابن عابدين ص (226): «لو وجد سكران لا يحد من غير إقرار ولا بينة، لكنه يعزر بمجرد الريح أو السكر، ولا يثبت الشرب بالرائحة ولا بتقایؤ الخمر، بل بشهادة رجلين يسألهما الإمام عن ماهيتها: كيف شرب؟ لاحتمال الإكراه، ومتى شرب؟ الاحتمال التقادم، وأين شرب؟ لاحتمال شربه في دار الحرب، ويجب التثبت من عدالة الشهود کا يثبت الحد إقراره مرة صاحياً. وقال أبو يوسف: لا بد من إقراره مرتين».
6- وفي الإقناع لأبي شجاع ج (4) ص (163): «يثبت حد الشرب بأحد أمرين:
البينة، وهي شهادة رجلين أنه شرب خمراً، أو شرب منه غيره، فسكر منه. كما يثبت بالإقرار ولا يثبت بريح خمر وسكر وقيء؛ لاحتمال الغلط والإكراه. ولا يشترط في الشهادة والإقرار تفصيل، بل يكفي الإطلاق، ويقبل رجوعه عن الإقرار، لأن كل ما ليس من حق آدمي يقبل الرجوع فيه».
7- الروضة ص (۳۷۳): «ويثبت بشهادة عدلين، أو الإقرار مرتين، ولو شهد أحدهما
بالشرب والآخر بالقيء قيل: يحد؛ لما روي عن علي في حق الوليد». .
8- البحر ص (194): «وطريقة الشهادة، ولا تقبل النساء، ويكفي شهادة أحدهما على الشرب، والثاني على القيء، ولا يكفي قوله مرة؛ إذ هو حق الله الخالص، فإن وجد سكران حد کالقيء، ما لم يدع شبهة، والشم كالقيء»..
9- حاشية الدسوقي والشرح الكبير ص (153).
10 - الخرشي جـ (7) ص (109).
11- المحلى لابن حزم جـ (11) ص (173) - (180).
12- أبو زهرة، الجريمة، القسم العام ص (77): «حد الشرب من حدود الله التي يتجلى فيها حق الله كاملاً، وهو يثبت بالإقرار وبشهادة اثنين، وتكرار الإقرار فيه ليس بشرط عند أبي حنيفة والشافعي، وتكرار الإقرار شرط عند أبي يوسف، وعند من شرط الإقرار عند الحنابلة، وذلك لأنه حق الله تعالى، ولا بد من الإصرار فيه على القول، كما هو الشأن في كل حقوق الله تعالى».
ويجوز الرجوع في الإقرار قبل صدور الحكم النهائي من محكمة الجنايات، جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج (4) ص (307): «وإذا أقر طائعاً بالسرقة ثم رجع عن إقراره قبل رجوعه عنه - فلا يحد، وكذا يقبل رجوع الزاني والشارب والمحارب، ولو بلا شبهة في إقراره، نحو: كذبت في إقراري. كما لو رجع بشبهة كأخذت مالي المرهون أو المودع خفية، فسميته سرقة». وتراجع كذلك ص (383) من المرجع ذاته.
فإذا لم يتوفر أحد الدليلين الشرعيين للإثبات فلا يقام الحد، على أنه إذا قام دلیل من غيرهما يقتنع به القاضي، كأن تكون الشهادة من رجل واحد، أو الشهادة على شهادة، أو يرجع المقر عن إقراره قبل الحكم وتقبل المحكمة رجوعه، أو تقوم قرينة على الشرب کالرائحة أو السكر - فإن الحد يدرأ بالشبهة، ولكن قد يقتنع القاضي بثبوت جريمة ذات وصف آخر فيستبدل بالحد التعزير. يراجع في ذلك على سبيل المثال حاشية ابن عابدين ج (3) ص (226)، (227)، والتشريع الجنائي الإسلامي للمرحوم القاضي عبد القادر عودة جـ (1) ص (214) - (216).
هل يسقط حد الشرب بالتقادم:
اختلف الفقهاء فيما إذا كانت الشهادة على الحد أو الإقرار به لا تسمع إذا حدث بشأنها التقادم، بأن مضت مدة كان يمكن خلالها للشاهد أو المقر أن يتقدم للقضاء، ولم يتقدم، وقد لخص الكمال بن الهمام مذاهب الفقهاء بهذا الشأن في فتح القدير جـ (4) ص (62) بقوله: «والحاصل أن في الشهادة بالحدود القديمة والإقرار بها أربعة مذاهب:
1- رد الشهادة بها وقبول الإقرار بها سوى الشرب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
2- ردها وقبول الإقرار حتى بالشرب القديم كالزنا والسرقة، وهو قول محمد بن الحسن.
3- قبولها، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد.
4- ردها، ونقل هذا عن ابن أبي ليلى.
وحجة القائلين بقبول الشهادة والإقرار مهما تقادم العهد على الواقعة - أن الشهادة على ما يوجب الحد كالشهادة على غيرها من حقوق العباد، سواء أكانت أموالاً أم دماء، ولما كان التقادم لا يسقط العقوبة في هذه الجرائم ولا يمنع سماع الشهادة فيها، فكذلك التقادم هنا، وإن أساس قبول الشهادة هو الصدق، وصدق الشهادة لا يتأثر بالتأخير ما دام الشهود عدولاً لم تعلق بعدالتهم ريبة، ولا يصح أن ترد شهادتهم لافتراض الضغن أو التهمة، فإن رد شهادة العدل يجب أن يكون مبنياً على أمور مستيقنة تقع في العدالة، لا على أمور مفروضة أو مظنونة.
أما قول أبي حنيفة وأبي يوسف بمنع سماع الشهادة لجريمة قديمة، وقبول الإقرار بالحدود عدا حد الشرب، فإن حجته في منع سماع الشهادة أن التأخير جعل الشاهد متهما؛ إذ الشاهد مامور باداء الشهادة فوراً لإقامة حد الله او بالستر على أخيه المسلم، فلما لم يشهد فور المعاينة حتى تقادم العهد دل ذلك على اختياره جهة الستر، فإذا شهد بعد ذلك دل على أن الضغينة حملته على ذلك فلا تقبل شهادته؛ لما روي عن عمر أنه قال: «أيها قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته، فإنها شهدوا عن ضعف، ولا شهادة لهم». ولم ينقل أنه أنكر عليه منکر...، ولأن التأخير يورث تهمة، ولا شهادة لمتهم.
والحنفية يرون ذلك في الحدود الثلاثة: الزنى والسرقة وشرب الخمر، إلا إذا كان التقادم لعذر ظاهر فتجوز الشهادة وإن تأخرت. ولم يقدر أبو حنيفة للتقادم تقديراً، وفرض ذلك إلى كل حاكم في زمانه، أما أبو يوسف ومحمد فقدراه بشهر؛ لأن الشهر أدنى الأجل، فكل ما دونه في حكم العاجل، ولأبي حنيفة أن التأخير قد يكون لعذر والأعذار مختلفة، فتعذر التوقيت فيه تفويض إلى اجتهاد القاضي. (البدائع ج- (7) ص (46)، (47)، (48)). أبو زهرة ج (1) ص (82) وما بعدها.
وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يشترط قيام الرائحة وقت أداء الشهادة في حد
الشرب، وأن التقادم عندهما بزوال الرائحة. (حاشية ابن عابدين ص (227)).
وأما الإقرار بالشرب القديم فيقبل عند محمد ولا يقبل عند الشيخين أبي حنيفة وأبي
يوسف. قال في الفتح: والمذهب قولها إلا أن قول محمد أرجح.
جاء في البدائع ص (51): «عدم التقادم شرط لصحة الإقرار عند الشيخين، وعند محمد ليس بشرط بناء على أن قيام الرائحة شرط صحة الإقرار والشهادة عندهما ولهذا لا يبقى مع التقادم. وعند محمد ليس بشرط، ولو لم يتقادم العهد ولكن ريحها لا يوجد منه، لم يصح الإقرار عندهما خلافاً له، وإنها تعتبر الرائحة إذا لم يكن سكران، فأما إذا كان سكران فإن السكر أدل على الشرب من الرائحة». .
ووجهة نظر أبي حنيفة وأبي يوسف في أن الإقرار بالشرب يقبل ولو تقادمت الواقعة - أن المقر يخبر عن نفسه فلا يتهم في قوله. والقول بأن التقادم يمنع إقامة الحد حجته أن حد الشرب ليس موضوع إجماع الفقهاء إلا إذا كانت رائحة الخمر، فهو مقرر بإجماع الصحابة وقد كان إجماعهم على شارب أتى وأثر الخمر ما زال فيه، أما إذا كانت آثار الخمر قد ذهبت فإنه لا يكون إجماع على إقامة الحد؛ لأن عبد الله بن مسعود اشترط لإقامته أن يؤتى بالشارب وأثر الخمر ما زال قائما، والتقادم يذهب بأثرها، سواء كان الأثر رائحة أو كان سكرا. (البدائع ص (47) - (51)، ابن عابدين ص (227) - (229)، أبو زهرة الجريمة ج (1) ص (84)، (85)، عبد القادر عودة ج(1) ص (780)، (781)).
وقال ابن أبي ليلى: إن الحدود تسقط بالتقادم سواء كان طریق ثبوتها هو البينة أو الإقرار، فهذه العقوبات للزجر والردع، وذلك يكون إبان وقوعها، وتأخيرها يذهب بمعنى الردع فيها، ولمظنة أن يكون المجرم قد تاب وإقراره مظنة التوبة وتطهير النفس.
أما سقوط العقوبة الحدية بعد الحكم بها فيرى الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، والإمام زفر أن الحد المحكوم به لا يسقط بتأخير إقامته إذا تقرر بالحكم
وثبت، وليس الأحد أن يعطله، وإلا لوجد مبرر لهرب الجناة وفرارهم، ولسهل على الولاة الظالمين أن يسقطوا الحدود بتأخير إقامتها.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: إن القضاء إمضاء للشهادة فهو حكم بمقتضاها، ولما كان تقادم الجريمة يمنع الشهادة فيها، ويمنع الحكم بالحد – فهو كذلك يمنع إقامة الحد (ابن عابدین ج (3) ص (229) - فتح القدير والهداية ج (4) ص (164) حيث يقول: لو هرب بعدما ضرب بعض الحد، ثم أخذ بعدما تقادم الزمان - لم يحد؛ لأن الإمضاء من القضاء في باب الحدود. أبو زهرة ص (86) - (91)).
والخلاصة: أن رأي الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأحمد أن التقادم لا يمنع الشهادة على الشرب أو الإقرار به، كما أنه لا يسقط الحد بعد الحكم به. وقال ابن حزم: إن ذلك قول الظاهرية، والأوزاعي والليث وغيرهما (المحلى ص (179)).
في حين يرى الحنفية أن التقادم يمنع سماع الشهادة على الشرب ويمنع الإقرار به واختلفوا في مدته فقال محمد شهر وقال الصاحبان ذهاب الرائحة. كما يسقط التقادم الحد المحكوم به، وقيل في الاستدلال على ذلك أن الحد أو الهرب يقاس على الرجوع عن الإقرار، وأن التأخير ينسي الناس أمر الجريمة والعقوبة، والفاعل تكون عنده مظنة التوبة مع ملاحظة أنه كلما قام عذر امتنع التقادم، فإذا كان تأخير الشهادة مثلا لمرض أو سفر طويل أو نحو ذلك - فإن التأخير لا يعد مسوغاً لمنع سماع الدعوى، ومع قيام العذر يبقى الإثبات سليماً والدعوى واضحة (الفيح جـ (4) ص (161)).
وقد أخذ المشروع في المادة (175) برأي الأئمة الثلاثة؛ لسلامة أدلته.
وصف جريمة الشرب:
ولا يثور هذا البحث في كتب الفقه الإسلامي بداهة؛ لأن تقسيم الجرائم إلى جنایات وجنح ومخالفات هو تقسيم وضعي حديث، وقد نص القانون رقم (89) لسنة 1974 في شأن تحريم الخمر وإقامة حد الشرب في الجمهورية العربية الليبية على أن: كل جريمة يعاقب عليها بالجلد حدا أو تعزيرا تعتبر جنحة. ونص الاقتراح بمشروع قانون بتعديل قانون العقوبات تعديلاً يصبح بمقتضاه قانوناً إسلاماً كاملاً ، المقدم إلى مجلس الشعب من العضو الدكتور إسماعيل علي معتوق على أن: الجرائم المعاقب عليها بالجلد تكون جنحاً بينما الجرائم التي يعاقب عليها بالإعدام أو القطع تكون جنايات. وإذا كانت جرائم الحدود عامة وهي كبرى الجرائم في نظر الشارع الإسلامي؛ لتعقلها بصون الضرورات الخمس - فقد بات من المتعين على المشرع أن ينزل عليها ما يجري على كبرى الجرائم وفق التقسيم - الوضعي وهي الجنايات - فيما لم يورده من أحكام خاصة استوجبتها طبيعة هذه الجريمة كجريمة حدية.
التعدد:
إذا تعددت جرائم الشرب قبل إقامة الحد، فلا يقام إلا حد واحد فقط. (الإقناع جـ (4) ص (159) ، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي ج (3) ص (207 )) حيث يقول: ومن شرب مراراً فحد فهو لكله ؛ لأن المقصود من إقامة الحد حقاً لله إخلاء العالم من الفساد، والانزجار عن مباشرة سببه في المستقبل وهو يحصل بحد واحد. وانظر في ذلك الروضة البهية ج (2) ص (373)، والبحر الزخار ج (5) ص (191)، فتح القدير ج (4) ص (208)، المغني ج (9) ص (54). فإذا شرب بعد إقامة الحد فيقام عليه حد آخر.
فإذا ارتكب مع جريمة الشرب جريمة أخرى من جرائم الحدود، فيجب إيقاع حد لكل واحدة منها على حدة؛ لعدم حصول المقصود بالبعض؛ إذ الأعراض مختلفة، فالمقصود بحد الزنى صيانة الأنساب، وبحد القذف صيانة الأعراض، وبحد الشرب صيانة العقول، فلا يحصل لكل جنس إلا ما قصد بشرعه. (الزيلعي المرجع السابق ص (207)، والمغني ج (9) ص (54)).
على أنه إذا تعددت الجرائم وكانت عقوبة إحداها الإعدام، فيكتفى بالإعدام دون جلد، على ما رآه جمهور الفقهاء (المغني ج (9) ص (54)) ما كانت حدود فيها قتل أحاط القتل بذلك كله ، وإن لم يكن قتل استوفيت كلها وبدئ بالأخف فالأخف. عدا الشافعي الذي لا يعترف بنظرية الجب في العقوبات (مختصر المزني، وهامش الأم ج (5) ص (173) و (179)) (عبد القادر عودة ج (1) ص (749)، (750)).
التوبة وأثرها في العقوبة:
يرى الحنابلة في الراجح عندهم وبعض الحنفية وبعض الشافعية وبعض المالكية والشيعة الإمامية أن التوبة تسقط الحدود التي هي حق الله، ومنها حد الشرب إذا اقترن بالتوبة الإصلاح.
ویروون عن المالكية والحنفية وبعض الشافعية والحنابلة والظاهرية والزيدية والإباضية في أرجح الآراء لديهم أن حدود الزنا والسرقة والشرب لا تسقط بالتوبة، سواء أكانت التوبة قبل الرفع إلى الحاكم أم بعده (المغني ج (8) ص (299)، فتاوى ابن تيمية ج (4) ص (252)، الدر المختار وحاشية ابن عابدین ج (3) ص (159)، مغني المحتاج ج (4) ص (189)، الفروق للقرافي ج (4) ص (181)، القوانين الفقهية لابن جزي ص (392)، المختصر النافع ص (297) ، شرح النيل ج (7) ص (950)، المحلى لابن حزم ج (11) ص (153) إلى ص (157)، وهو يرى أن الله لم يستثن تائباً من غير تائب ، ولم يصح عنده نص أصلاً بإسقاط الحد عن التائب).
وقد أخذت اللجنة بهذا الرأي ، فلم ترتب على التوبة أثراً.
الخصومة:
حد الشرب خالص حق الله كحد الزنا.
ولا خلاف في أن الخصومة ليست بشرط في هذين الحدين وفي سائر الحدود الخالصة الله؛ لأنها تقام حسبة، فلا يتوقف ظهورها على دعوى العبد. (البدائع ج (7) ص (50)).
حيازة الخمر أو إحرازها:
لا يجوز حيازة الخمر أو إحرازها؛ لأنها نجس، وهي مال غير متقوم واجب الإهدار، ثم إن حيازة الخمر أو إحرازها فيه معنى المحافظة عليها ما يتعارض مع تحریمها، فوق أنه قد يقصد به تعاطيها أو يغرئ على ذلك، لذلك وجب حظر حيازتها وإحرازها.
ويلاحظ أن مفهوم الحيازة في القانون الجنائي يختلف عن مفهومها في القانون المدني، فلقد تناولها القانون المدني بقصد تحدید آثارها وتقرير حمايتها، أما القانون الجنائي فإنه يعرض لها بقصد تحریمها في بعض الصور، ويقصد بالحيازة في المشروع الراهن الاستئثار بالخمر على سبيل الملك والاختصاص، ولا يشترط أن يرتبط ذلك بوضع اليد المادي عليها، فيجوز أن يكون الشخص حائرا لها بالرغم من أنها لا توجد تحت يده في الواقع، ومثال ذلك أن يقوم بشراء الخمر، ثم يتركها عند المشتري حيناً ، أو يطلب نقلها إليه بواسطة شخص، أو يودعها مالكها لدى شخص آخر، والمالك في هذه الصور وأمثالها يعتبر حائزاً ، أما من يضع يده عليها من الناحية الواقعية فإنه يعتبر محرزاً.
والإحراز: هو الاستيلاء على الخمر استيلاءً مادياً أو السيطرة الفعلية عليها، فالخادم الذي يشتري الخمر لمن يعمل عنده أو يحمل له الخمر - يعتبر محرزاً ، وكذلك ناقلها من مكان إلى آخر أيا كانت وسيلة النقل، وتقوم الجريمة بطبيعة الحال متى توافرت أركانها، ومنها الشروط التي يجب أن تتوافر في الفاعل.
صنع الخمر والتعامل فيها وتقديمها وإنتاجها والإعلان عنها:
حظر المشروع صنع الخمر وتحضيرها خالصة أو مخلوطة ، أو الاشتراك أو المعاونة في شيء من ذلك، كما حظر التعامل فيها بأية صورة من الصور، وهذا الحظر يقتضيه تحریم الخمر ذاتها ؛ حتى يمتنع وجودها، فلا يتيسر الحصول عليها بأي سبيل، وقد رئي النص على التحضير إلى جانب الصنع، إذ قد تكون هناك صور لتحضير الخمر دون أن تدخل هذه الصور في مفهوم الصنع، كما لو ترکت مادة للتخمير فتصير خمراً بفعل الطبيعة المحض.
وعني المشروع بالنص على الاشتراك أو المعاونة في الصنع أو التحضير؛ ليشمل الحالات التي لا يقوم الفاعل فيها بالصنع أو التحضير بنفسه، وإنما يشارك أو يعاون فيها على وجه ما، کالعمال والمباشرين في مصنع للخمر، وكموردي المواد المصنع وهم يعلمون أنه يقوم بصنع الخمر.
والتعامل يشمل البيع والشراء والمقايضة والجلب والاستيراد والتصدير، كما يشمل كذلك اعتبار الخمر تعويضا عن ضرر أو بدلا عن منفعة، وما إلى ذلك من كافة صور التعامل.
وقد رئي النص على التوسط في التعامل بالذات (كالسمسرة)؛ حتى يشمله الحظر بالنص الصريح.
وفوق أن تحريم أوجه النشاط السابقة مما يقتضيه تحريم الخمر، فإن هذا التحريم يجد أساسه كذلك من نهي الله تعالى عن التعاون على الإثم والعدوان.
روى البخاري ومسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام».
وأخرج مسلم والنسائي وأحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها». رواه أبو داود، وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وأكل ثمنها». رواه أبو داود. المغني ص (138)، وفي نهاية المحتاج ص (9): «لعن رسول الله في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، وساقيها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وواهبها، وآكل ثمنها».
وفي باب الأشربة بموسوعة الكويت الفقهية جاء برقم (33): «يحرم على المسلم الانتفاع بالخمر؛ لأن الله تعالى أمرنا باجتنابها وفي الانتفاع بها اقترابها، فيحرم على المسلم تمليكها وتملكها بأي سبب من أسباب الملك الاختيارية أو الإرادية كالبيع والشراء والهبة ونحو ذلك؛ لأن كل هذا انتفاع بالخمر، والانتفاع بها حرام على المسلم، قال النبي : «إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع». فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها. رواه مسلم». (كما ورد بالمرجع ذاته ص (25)، (26): يكره للمسلم أن يسقي الخمر أو المسكر للذمي. ويكره أن يسقي الدواب الخمر؛ لأنه نوع انتفاع بالخمر، واقتراب منها على قصد التمول).
الفاعل الذي لم يتم الثامنة عشرة:
تبدأ مرحلة التمييز في تمام السابعة، فيجوز تأديب الصبي بوسائل التوجيه والتوعية، فإذا أتم الثانية عشرة ولم يتم الخامسة عشرة وجب تأديبه بالضرب بعصا رفيعة، وإذا جاوز الخامسة عشرة ولم يتم الثامنة عشرة يؤدب بجلده من عشر إلى عشرين جلدة، وكل ذلك ما لم يثبت من الأمارات الطبيعية أنه قد بلغ قبل السن المذكورة، فتطبق عليه عقوبة البالغ.
ومسئولية الحدث وفقا للمشروع يشترط لها العقل والاختيار والقصد، وهي مسئولية تأديبية ووقائية وليست جنائية؛ حتى لا يترتب عليها أثر يلحق الضرر بسمعة الصغير أو مستقبله.
التعزير بالغرامة:
نصت بعض مواد المشروع على العقاب بالغرامة، ويقتضي ذلك أن نذكر أن بعض الفقهاء ذهب إلى عدم جواز التعزير بها، مثل الحنفية عدا أبا يوسف. وفي الزيلعي ص (208): أنه يجوز التعزير بأخذ المال إن رأى القاضي ذلك أو الولي، وهذا مبني على اختيار من قال به من المشايخ استنادا لقول أبي يوسف (فتح القدير ج (4) ص (212) وقال بعض الحنابلة أنه لا يجوز (المغني ص (159)) التعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ولا يجوز قطع شيء منه ولا جرحه ولا أخذ ماله؛ لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد يقتدى به، ولأن الواجب أدب، والتأديب لا يكون بالإتلاف). وفي منتهى الإرادات ص (479): ويحرم تعزیر بحلق لحية، وقطع طرف، وجرح وأخذ مال أو إتلافه). على أنه ورد أن بعض الحنابلة قالوا بجواز التعزير بالمال (کشاف القناع). وورد أن في مذهب مالك أن التعزير لا يختص بفعل معين ولا قول معين، فقد عزر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ شطر مال مانع الزكاة وصادر عمر شطر أموال عماله.
وحجة الفقهاء الذين يذهبون إلى عدم جواز التعزير بالمال هي خشية إغراء الحكام الظلمة بمصادرة أموال الناس بالباطل، غير أن توقيع عقوبة الغرامة عن طريق القضاء وانتظام الرقابة على مال الدولة - يبدد هذه الحشية. وقد أحيل في شأن جواز التعزير بالغرامة إلى كتب تبصرة الحكام لابن فرحون، والحسبة في الإسلام لابن تيمية، والطرق الحكمية لابن القيم .
المصادرة والغلق:
إذا حرمت الخمر بنص الشرع، وحظرت جميع أوجه النشاط المتعلقة بها - فقد وجب النص في المشروع على الحكم بمصادرة الخمر التي يتم ضبطها وإحراقها أو إعدامها (في المغني لابن قدامة ص (154): روى أبو سعيد: سئل رسول الله و عن خمر ليتيم، فقال: « أهرقوه». رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).
وروي عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فقال: «أحرقها».
قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: «لا». بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج (1) ص (381).
ونص مصادرة الآلات والأدوات والمواد التي استعملت فعلا في إنتاج الخمر، ووسائل النقل التي استخدمت في نقلها بقصد الاتجار فيها، متى كان صاحب هذه الوسائل يعلم أنه ينقل خمرا بقصد الاتجار فيه.
ونص على عقوبة غلق المحال المعدة لوجه من أوجه النشاط المحرمة بمقتضى القانون.
وبعد، فإن خير ختام هو التذكير بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91). (المائدة: 90 ، 91 ) .