loading

موسوعة قانون العقوبات​

الأحكام

1- حالة الضرورة التي تسقط المسئولية هي التي تحيط بشخص وتدفعه إلى الجريمة ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره ولم يكن لإرادته دخل فى حلوله. ويشترط فى حالة الضرورة التي تسقط المسئولية الجنائية أن تكون الجريمة التي ارتكبها المتهم هي الوسيلة الوحيدة لدفع الخطر الحال به، لما كان ذلك وكان الحكم المطعون فيه قد تساند فى قضائه بامتناع مسئولية المطعون ضده إلى أنه لجأ إلى إقامة البناء بدون ترخيص لضرورة وقاية نفسه وماله بسبب خارج عن إرادته لا يد له فيه ولا فى قدرته منعه، وهو تهدم البناء بسبب هبوط الأمطار، فإن هذا الذي اتخذه الحكم أساساً لقضائه ينفي المسئولية الجنائية لا يصلح فى ذاته سبباً للقول بقيام حالة الضرورة الملجئة إلى ارتكاب جريمة إقامة البناء بدون ترخيص وبأن إعادة البناء كانت الوسيلة الوحيدة لدفع خطر حال على النفس أو وشيك الوقوع، وإذ كان الحكم قد اتخذ من واقعة تهدم البناء على هذا النحو ذريعة للقول بقيام حالة الضرورة التي تسقط المسئولية الجنائية، فقد كان يتعين عليه أن يستظهر الصلة بين واقعة تهدم البناء بسبب هطول الأمطار والضرورة التي ألجأت المطعون ضده إلى إقامته على خلاف أحكام القانون، وأن يستجلي هذا الأمر ويستظهره بأدلة سائغة للوقوف على ما إذا كانت الجريمة التي ارتكبها المطعون ضده هي الوسيلة الوحيدة لدفع خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره, ولم يكن لإرادته دخل فى حلوله، أو أنه كان فى وسعه أن يتجنب ارتكابها بالالتجاء إلى وسائل أخرى يتمكن بها من وقاية نفسه أو غيره من ذلك الخطر الجسيم الحال بفرض قيامه، مما قصر الحكم فى بيانه.

(الطعن رقم 1133 لسنة 45 ق - جلسة 1975/11/02 س 26 ص 675 ق 147)

2- حالة الضرورة التى تسقط المسئولية هى التى تحيط بشخص وتدفعه الى الجريمة ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره ولم يكن لإرادته دخل فى حلوله ، ويشترط فى حالة الضرورة التى تسقط المسئولية الجنائية أن تكون الجريمة التى ارتكبها المتهم هى الوسيلة الوحيدة لدفع الخطر الحال به ، كما أنه من المقرر أن طاعة الرئيس لا تمتد بأى حال الى ارتكاب الجرائم ، وأنه ليس على المرءوس أن يطيع الأمر الصادر اليه من رئيسه بإرتكاب فعل يعلم هو أن القانون يعاقب عليه ، وإذ كان ما أورده الحكم المطعون فيه على السياق المتقدم يستفاد منه الرد على دفاع الطاعن من أنه كان مكرها على تنفيذ أوامر رؤسائه وإتيان الأفعال التى يؤثمها القانون ، ويسوغ به اطراحه لدافعه بإرتكاب الواقعة صدوعا لتلك الأوامر ، فإن ما ينعاه الطاعن على الحكم بقالة القصور فى التسبيب فى هذا الخصوص يكون غير سديد .

(الطعن رقم 5732 لسنة 63 ق - جلسة 1995/03/08 س 46 ص 488 ق 75)

3- لما كان ما أثاره الطاعن الثاني من أن إكراها أدبياً ومعنوياً ومادياً قد وقع عليه إذ إن أولاده الثلاثة يعملون بالشرطة ويخشى عليهم من سلطان الأول ، هو فى حقيقته دفع بامتناع المسئولية الجنائية لقيام حالة الضرورة المنصوص عليها فى المادة 61 من قانون العقوبات ، وكان من المقرر أن الأصل فى القانون أن حالة الضرورة التي تسقط المسئولية هي التي تحيط بالشخص وتدفعه إلى ارتكاب الجريمة وقاية لنفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره ولم يكن لإرادته دخل فى حلوله ، وكان ما يدعيه الطاعن لا تقوم به حالة الضرورة ، فلا على الحكم إن هو التفت عنه .

(الطعن رقم 14934 لسنة 83 ق - جلسة 2014/02/04)

4- لما كان الحكم المطعون فيه قد عرض لدفاع الطاعنة وحاصله أنها كانت تحت تاثير الإكراه والضرورة الملجئة عند توقيعها علي الشيك وخلص فى منطق سليم وتدليل سائغ إلي اطراحه وكان الفعل الذي يتوافر به الإكراه أو الضرورة هو من الموضوع الذي يستقل به قاضيه بغير معقب وكانت العلاقة الزوجية فى ذاتها لاتصلح سنداً للقول بقيام الضرورة الملجئة إلي ارتكاب الجرائم أو خرق محارم القانون ، فضلاً عن أن حاله الضرورة لاتتوافر إلا إذا وجد خطر يهدد النفس ولاتتوافر إذا كان الخطر يهدد المال فحسب .

(الطعن رقم 11823 لسنة 61 ق - جلسة 1998/10/01 س 49 ص 973 ق 131)

5 - من المقرر أن حالة الضرورة المنصوص عليها وفق المادة 61من قانون العقوبات هي أن يجد الإنسان نفسه في ظروف تهدده بالخطر لا سبيل إلا تلافيه إلا بارتكاب جريمة ، والقول بتوافر حالة الضرورة فلابد من توافر شروط معينة أولاً: خطر على النفس أو على الغير ، ثانياً: أن يكون الخطر جسيماً وحالاً ، ثالثاً: ألا يكون لإرادة الجاني دخل في حلول الخطر ، رابعاً: أن تكون الجريمة ارتكبت للوقاية من الخطر ، خامساً: ألا يكون في قدرة الجاني منع الخطر بوسيلة أخرى ، ذلك هي الشروط الواجب توافرها للقول بانعدام المسئولية الجنائية .

( الطعن رقم 7834 لسنة 90 ق - جلسة 6 / 2 / 2021 ) 

شرح خبراء القانون

الإكراه وحالة الضرورة :

تمهيد نص الشارع على هذا السبب لإمتناع المسئولية في المادة 61 من قانون العقوبات ، فقرر أنه «لا عقاب على من ارتكب جريمة ألجأته إلى إرتكابها ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره ولم يكن لإرادته دخل في حلوله ولا فى قدرته منعه بطريقة أخرى »، وقد تضمن هذا النص بياناً لشروط امتناع المسئولية ، سواء أتعلقت بالخطر الذي يهدد الفاعل أم بالفعل الذي يرتكبه وتمتنع مسئوليته عنه، ويبدو لأول وهلة أن هذا النص خاص بحالة الضرورة ، ولكن الحقيقة أنه يشمل الإكراه المعنوي كذلك بإعتباره صورة من الضرورة، أما الإكراه المادي فلا تصدق عليه ألفاظ النص، ولم يرد في شأنه نص في القانون، وتعليل ذلك تقدير الشارع أن حكمه من الوضوح بحيث يغني عن نص يقرره صراحة .

ولا صعوبة في تبرير امتناع المسئولية بالإكراه المعنوي أو حالة الضرورة، فالإرادة غير حرة وإن كانت مميزة، ويعني أنه قد انتفى عنها أحد الشروط المتطلبة لتكون ذات قيمة قانونية، ومن ثم فهي غير صالحة ليقوم بها الركن المعنوي للجريمة.

ونعرض أولاً للإكراه المادي ، ثم نبحث في الإكراه المعنوي وحالة الضرورة.

الإكراه المادي

تعريف الإكراه المادي هو محو إرادة الفاعل على نحو لا تنسب إليه فيه غير حركة عضوية أو موقف سلبي مجردين من الصفة الإرادية.

وبهذا التعريف يتضح الدور القانوني للإكراه المادي : فهو بمحوه الإرادة يمحو الفعل ذاته ، إذ الإرادة عنصر أساسي فيه، فالحركة العضوية والموقف السلبي غير الإراديين لا يقوم بهما فعل إيجابي أو امتناع في لغة القانون ، وإذا انمحي الفعل زال الركن المادي للجريمة، إذ لا قيام لهذا الركن بغیر فعل، ومن ثم لا يكون محل للبحث في الركن المعنوي للجريمة، ويعني ذلك أن الإكراه المادي ليس مانع مسئولية، إذ محل البحث في امتناع المسئولية أن تتوافر الإرادة ثم يثور التساؤل حول ما لها من قيمة قانونية .

 أما إذا كانت الإرادة أصلاً غير متوافرة فلا محل للبحث في قيمتها، وعلى هذا النحو يتضح الفرق بين الإكراه المادي من ناحية والإكراه المعنوي أو حالة الضرورة من ناحية أخرى :

فالأول تمحى به الإرادة فينتفي الركن المادي ، والثاني تزول فيه عن الإرادة صفة الحرية فينتفي الركن المعنوي .

وتجمع بين الإكراه المادي في كل حالاته إستحالة أن ينسب إلى المتهم أنه تصرف على نحو معین، أي استحالة أن ينسب إليه أنه أتي فعلاً، فثمة قوة لا سيطرة له عليها أفقدته سيطرته على أعضاء جسمه فسخرتها في حركة أو إمتناع على نحو معين، فماديات الجريمة تنسب إلى هذه القوة لا إلى من سيطرت عليه ، فإن كانت قوة إنسانية نسبت الجريمة إلى من صدرت عنه وكان مسئولاً عنها ما لم يخل دون ذلك سبب، أما إذا كانت غير إنسانية فلا قيام الجريمة، ويعني ذلك أنه سواء نوع القوة التي محت الإرادة : فقد تكون قوة طبيعية كالفيضان يقطع المواصلات فيحول بين المتهم وبين الذهاب إلى المحكمة لأداء شهادته أو الرياح تطفيء المصباح الذي وضعه المتهم على حفرة بالطريق العام أو الإعصار يلقي به إلى شواطئ دولة أصدرت قراراً بإبعاده عن إقليمها؛ وقد تكون قوة حيوان كدابة تجمح فيعجز قائدها عن السيطرة عليها فتصبب شخصاً بجروح أو الحشرات تتلف غلالاً أؤتمن المتهم عليها فيعجز عن تسليمها؛ وقد تكون قوة انسانية كمن يمسك بيد غيره ويحركها على نحو يثبت به بیانات مخالفة الحقيقة في محرر، ومن يحمل بين يديه غيره ثم يدفعه على طفل فيقتله أو يصيبه بجروح، وسواء كذلك أن تكون القوة خارجة عن جسم المتهم كالوضع في الحالات السابقة، أو أن تكون كامنة فيه كما لو أصيب بشلل مفاجيء فوقع على طفل فقتله ، أو غلبه النوم في سفر طويل فجاوز المسافة التي دفع أجرها، وعلة المساواة بين مصادر القوة هي اتحاد آثارها، بإعتبار أن الإرادة تنمحي في كل الحالات ، فيتمحى الفعل وينتفي الركن المادي .

الإكراه المادي والقوة القاهرة والحادث الفجائي : قدمنا أن الإكراه المادي يتسع لجميع الحالات التي تسيطر فيها على جسد المتهم قوة تسخره على نحو معين ، أي « قوة قاهرة » فتنمحي بذلك إرادته ، ومن ثم يكون الإكراه المادي والقوة القاهرة تعبيرين مترادفين، ولكن تخصص أحياناً دلالة الإكراه المادي ، فتقتصر على حالة ما إذا كانت القوة إنسانية ؛ أما سائر حالاتها كالقوة الطبيعية أو قوة الحيوان فيطلق عليها تعبير «القوة القاهرة» وأهمية هذا التخصيص أن الإكراه المادى في مدلوله الضيق يبقى الجريمة قائمة ، وإن نسبت إلى من صدر الإكراه عنه دون من خضع له ؛ أما القوة القاهرة فتنفي الجريمة إطلاقاً، والفرق الأساسي بين الإكراه المادي أو القوة القاهرة من ناحية وبين «الحادث الفجائي» من ناحية أخرى : فالحادث الفجائي لا يمحو الإرادة، بل أنه لا يجردها من التمييز وحرية الإختيار، ولكن يزيل عنها العمد والخطأ فيجردها بذلك من الصفة «الإجرامية»، ومن ثم لا يقوم بها الركن المعنوي للجريمة، مثال ذلك قائد السيارة الذي يصيب شخصاً إندفع فجأة من طريق جانبي فكان تفاديه مستحيلاً .

شروط الإكراه المادي :

ترد شروط الإكراه المادي كافة إلى وجوب أن يكون من شأنه محو الإرادة، ذلك أنه إذا ثبت أن الإرادة كان لها نصيب في السيطرة على الفعل أو النتيجة الإجرامية ، فليس للإكراه المادي محل، وهذه الشروط التالية : كون القوة التي صدر الإكراه عنها غير متوقعة، وكون مقاومتها مستحيلة.

فالشرط الأول يعنى ألا يكون المتهم قد توقع خضوعه للقوة التي أكرهته على الفعل ، وألا يكون ذلك في استطاعته ، إذ كان متعيناً عليه عند التوقع الفعلي أو عند استطاعة هذا التوقع أن يتفادى الخضوع لهذه القوة ، فإن كان لم يفعل فمعنى ذلك أنه كان لإرادته نصيب في هذا الخضوع وفی الفعل أو الامتناع الذي صدر عنه ، فلا يكون للإكراه المادي محل : فمن يعلم بخطورة دابة وجموحها عند سماعها أصوات غير مألوفة لها فيمتطيها في طريق مزدحم بالسيارات فتجمح وتصيب شخصاً يكون مسئولاً عن ذلك ، ومن يضبط في الطريق العام في حالة سكر بين فيقبض عليه ف لا يذهب إلى المحكمة لأداء شهادته يسأل عن إمتناعه .

والشرط الثاني يعني أن يكون من المستحيل على المتهم أن يتجنب الفعل أو الإمتناع الذي تقوم به الجريمة، أما إذا كان من شأن القوة التي وجهته إلى السلوك الإجرامي أن جعلت اجتنابه أمراً عسيراً عليه ، فإن الإكراه المادي لا يتوافر بذلك، إذ ما زال لإرادته وجودها، وقد كان في وسعه أن يوجهها إلى التغلب على هذه الصعوبات، فإن لم يفعل فمعنى ذلك أنه قد استعمل إرادته على نحو ما، ويناقض ذلك القول بتوافر الإكراه المادي : فمن يستحم فتسرق ملابسه أو تذهب بها الرياح فيظهر عارياً لا ينسب إليه الفعل الفاضح المخل بالحياء، ولكن من تصرفه صعوبات المواصلات عن الذهاب إلى المحكمة لأداء شهادته يسأل عن امتناعه، وتطبيقاً لذلك، فإنه إذا كان المتهم قام بتحويل عملة أجنبية إلى الخارج وكان ينبغي عليه طبقاً للقانون إستيراد البضائع التي حولت عنها تلك العملة ، فإن ارتفاع الأسعار في الخارج لا يعتبر قوة قاهرة تعفيه من الإلتزام القانوني.

الإكراه المعنوي وحالة الضرورة

تعريف الإكراه المعنوي : الإكراه المعنوي هو ضغط شخص على إرادة آخر لحمله على توجيهها إلى سلوك إجرامي، ومن ثم كان أهم ما يميز الإكراه المعنوي أمرين : صدوره عن إنسان، وصدوره بقصد الحمل على فعل أو امتناع معين . وينقص الإكراه المعنوي من حرية الإختيار : ذلك أنه ينذر بشر إن لم يوجه الخاضع له إرادته إلى السلوك المطلوب منه، ولا جدال في الفقه حول تأثير الإكراه المعنوي على المسئولية ، ولكن الجدل قد يثور حول تحديد شروطه، إذ ليس كل إكراه مانعاً من المسئولية، وإنما يتعين أن ينقص من حرية الإختيار على نحو يجرد الإرادة من القيمة القانونية .

وللإكراه المعنوي صورتان :

صورة تفترض استعمال العنف للتأثير على الإرادة، مثال ذلك حبس شخص أو ضربه وتهديده باستمرار ذلك حتى يقبل ارتكاب الجريمة، وتلحق بالعنف كل الوسائل المادية التي تؤثر على الإرادة دون أن تعدمها، كإعطاء شخص مادة مخدرة أو مسكرة على نحو لا يفقده الوعي ولكن يقلل منه، أما الصورة الثانية فتتجرد من العنف ويقتصر الإكراه على مجرد التهديد، مثال ذلك تهديد شخص بالقتل إن لم يزور محرراً أو تهديد أم بإختطاف ابنها إن لم ترتكب الزنا، والصورة الأولى من الإكراه المعنوي تقترب من الإكراه المادي بإعتبارها تفترض عنفاً ، ولكنها تفترق عنه في أن العنف لا يبلغ حد السيطرة على أعضاء الجسم وتسخيرها في ارتكاب الجريمة، وإنما يقتصر على مجرد التاثير على الإرادة لحملها على اتجاه معين عن طريق إشعارها في صورة محسوسة بالإيلام المنتظر إن لم تتجه على النحو المطلوب .

تعریف حالة الضرورة :

حالة الضرورة هي مجموعة من الظروف تهدد شخصا بالخطر ، وتوحي إليه بطريق الخلاص منه بارتكاب فعل إجرامي معين ، والغالب في حالة الضرورة أنها ليست ثمرة عمل الإنسان، وإنما هي وليدة قوى الطبيعة، وإذا كانت من عمل إنسان فهي ليست بقصد حمل شخص على ارتكاب فعل إجرامي معين، وإنما يتعين على من يهدده الخطر أن يتصور الوسيلة إلى تفاديه مستوحياً الظروف المحيطة به، ومثال الضرورة أن تغرق سفينة فيتعلق شخصان بقطعة من الخشب طافية ثم يتبين أنها لا تقوى على حملها معاً فيبعد أحدهما الآخر عنها فينجو بنفسه ويهلك زميله، أو أن تشتعل النار في مبنى فيندفع شخص إلى الفرار فيصيب طفلاً بجروح أو يقتله، أو أن يقضى الطبيب على الجنين إنقاذاً لحياة الأم في ولادة عسرة، أو أن يشهد شخص بناء حاصرت فيه النيران سكانه فيحطم باب مسكن مجاور ویستولى على الماء المملوك لحائزه ويستعمله في إطفاء الحريق ؛ أو أن يجرى ممرض عملية جراحية لشخص يهدده الموت في ظروف يستحيل فيها الاستعانة بطبيب.

الفرق بين الإكراه المعنوي وحالة الضرورة :

الفرق الأساسي بينهما أن الخاضع للإكراه المعنوى يحدد له السلوك المطلوب منه لكي يتفادى الخطر المهدد به، ولكن من يوجد في حالة ضرورة لا يحدد له ذلك ، بل عليه أن يلحظ الظروف المحيطة به، ويتصور وسيلة اجتناب الخطر، وثمة فارق آخر : فالإكراه يصدر عن إنسان دائماً، ولكن ظروف الضرورة يغلب ألا تكون من خلق الإنسان، وتضيق حرية الإختيار عند الإكراه المعنوي أكثر مما تضيق في حالة الضرورة : ذلك أن من يصدر عنه الإكراه يعين لمن يخضع له طريقاً محدداً کی يسلكه، أما من يوجد في حالة ضرورة فعليه أن يتصور طريق الخلاص منها ، وقد تتعدد الطرق أمامه ويستطيع أن يختار من بينها، ويعني ذلك أن تبرير إمتناع المسئولية واضح بالنسبة للإكراه، ولكنه أقل وضوحاً في حالة الضرورة.

علة امتناع المسئولية :

يعلل امتناع المسئولية بتجرد الإرادة من الحرية ، فإذا هدد الخطر المتهم أو شخصاً مقرباً إليه ، فإن غرائزه تسيطر عليه وتدفعه إلى الخلاص من هذا الخطر ، وتوصد أمامه كل طريق آخر لا يكون من شأنه هذا الخلاص ، ومن ثم لا يكون أمامه غير طريق واحد أو طرق محددة لا يملك اختيار سواها، أما إذا هدد الخطر شخصاً لا تربطه به صلة، كالطبيب يقضي على الجنين إنقاذاً للأم ، أو من يرى شخصاً تحاصره النيران فيستولي على الماء المملوك للغير ليطفئها به، فإن حرية الإختيار يضيق من الوجهة الإجتماعية نطاقها، إذ أن تقاليد المهنة أو البيئة أو مجرد الشعور بالتضامن الاجتماعي يحمل الشخص على إختيار طريق معين ويستبعد عليه اختيار طريق سواه، ويعني ذلك أن إرادته لا تتمتع بالحرية في الاختيار على النحو الذي يصلح لتقوم به المسئولية.

شروط الإكراه المعنوي وحالة الضرورة :

حدد الشارع شروط حالة الضرورة في المادة 61 من قانون العقوبات، ولكنه لم يشر إلى شروط الإكراه المعنوي، وليس بمقبول القول بأن الشارع لا يتطلب في الإكراه شروطاً، إذ من الإكراه صورة قليلة الخطر بحيث لا يمكن القول بأن الشارع أراد أن تمتنع المسئولية فيها . ونعتقد أن الشروط التي تذكرها المادة 61 من قانون العقوبات تتصرف كذلك إلى الإكراه المعنوي، إذ من السائغ اعتبار الإكراه صورة من الضرورة تتصرف إليه شروطهاً، ومن ثم تكون عبارة «ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم ... » منطبقة على الإكراه كذلك.

ونبين فيما يلي هذه الشروط :

يفترض الإكراه المعنوي وحالة الضرورة خطراً يهدد من يتعرض لهما، وفعلاً يرتكب تحت تأثير التهديد به، وثمة شروط يتعين أن تتوافر في الخطر، وشروط يتعين أن تتوافر في الفعل الذي يرتكب تحت تأثير التهديد به، فشروط الخطر هي : كونه مهدداً النفس وجسيماً وحالاً وكون إرادة المتهم ليس لها دخل في حلوله، أما شروط الفعل فهى : أن من شأنه التخلص من الخطر وأنه الوسيلة الوحيدة لذلك، ونعرض فيما يلى لشروط الخطر ثم شروط الفعل، ونبين في النهاية الأثر المترتب على توافر هذه الشروط .

شروط الخطر :

تهديد الخطرللنفس : يريد الشارع بهذا الشرط أن يستبعد حالة الضرورة إذا كان الخطر يهدد المال، ولكن الصعوبة التي يثيرها هذا الشرط هي تحديد ما يعنيه الشارع «بالنفس»، نعتقد أنه يريد الإشارة إلى مجموعة الحقوق المتصلة بالنفس ، أي اللصيقة بالشخص، والضابط المميز لهذه الحقوق أنها غير داخلة في دائرة التعامل، وهي تشمل الحقوق في الحياة وسلامة الجسم والحرية والعرض والشرف والإعتبار، وبذلك يكون اللفظ «النفس» في حالة الضرورة عين مدلوله في الدفاع الشرعي، ونعتقد أن كل تخصيص لهذا المدلول بإستبعاد الخطر الذي يهدد بعض الحقوق السابقة يفتقر إلى السند القانوني، إذ الشارع قد استعمل لفظ «النفس» مرسلاً دون أن يلحقه بقيد، وقد صرح القانون بأنه سواء لديه أن يهدد الخطر نفس مرتكب الفعل أو يهدد نفس شخص سواه، وسواء كذلك أن تربط بينهما صلة من قرابة أو صداقة أو ألا تكون بينهما صلة على الإطلاق.

كون الخطر جسيماً :

لا قيام لحالة الضرورة إلا إذا كان الخطر جسيماً، فالخطر اليسير لا يؤثر في الإرادة على النحو الذي يمحو حريتها فيجردها من القيمة القانونية، وأهم ما يثيره هذا الشرط هو تحديد ضابط الجسامة : نعتقد أن هذا الضابط لا يقوم على أساس التفرقة بين الحقوق المتصلة بالنفس والقول بأن أهمها كالحياة وسلامة الجسم والحرية هي التي يعد الخطر المهدد لها جسيماً في حين أن الخطر الذي يهدد سواها لا يعد جسيماً، إذ يتناقض ذلك التحديد السابق لمدلول «النفس»، والقول بأن كل الحقوق المتصلة بها تقوم بتهديدها حالة الضرورة، والرأي عندنا أن هذا الضابط يتعين تحديده على أساس ما بين جسامة الخطر وانتفاء حرية الإرادة من صلة ، ومن ثم كان متصوراً وفقاً لهذا الضابط أن يعد الخطر الذي يهدده أي حق من حقوق النفس خطراً جسيماً وفي تقديرنا أن الخطر يعد جسيماً إذا كان ينذر بضرر غير قابل للإصلاح أو يغلب احتمال عدم قابليته للإصلاح على إحتمال قابليته له أو يتساوى الإحتمالان، أما إذا كان احتمال إصلاحه أرجح من احتمال كونه غير قابل للإصلاح ، فالخطر المهدد به ليس جسيماً، وتطبيق هذا الضابط يقتضي دراسة ظروف كل واقعة ، وتحديد الضرر الذي ينذر به الخطر ، ومدى ما تبعثه هذه الظروف من أمل في إصلاحه، وقد قضى بأنه «ليس في صغر سن المتهم وإقامته مع المتهم الآخر وحاجته إليه ما يجعل حياته في خطر جسيم لو لم يشترك معه في إحراز المواد المخدرة ».

 كون الخطر حالاً :

يتطلب الشارع هذا الشرط لأن التأثير على إرادة المتهم في الصورة التي تتجرد فيها من الحرية فتمتنع المسئولية لا يكون له محل إلا إذا كان الخطر حالاً، أما الخطر المستقبل فهو غير محقق، ولدى المهدد به فسحة من الوقت يستطيع خلالها أن يتدبر وسيلة الخلاص منه دون أن يكون مضطراً إلى ارتكاب جريمة، وإذا كان الخطر قد تحقق ، فتحول إلى إعتداء فعلى فلا محل للبحث في شروط دفعه، إذ ما عاد يقبل بفعلاً، وإنما قد يقبل إصلاحاً، وهذا ما لا شأن لحالة الضرورة به.

والضابط في الحلول أن يكون السير العادي للأمور مهدداً - على نحو يقيني أو محتمل - بأن يتحول الوضع الذي يواجه المتهم إلى مساس فعلی بحق له ما لم يرتكب فوراً الفعل الذي من شأنه دفع هذا الخطر ، ويرجع في تحديد السير العادي للأمور إلى القواعد المستمدة من الخبرة العامة السائدة في بيئة المتهم، ويعد الخطر حالاً في إحدى صورتين : إذا كان الإعتداء المهدد به على وشك الوقوع ، وإذا كان الإعتداء قد بدأ ولكن لم ينته بعد، ويعد الخطر غير حال في إحدى صورتين : إذا كان الإعتداء المهدد به مستقبلاً، وإذا كان الإعتداء قد تحقق بالفعل وانتهى .

ألا يكون لإرادة المتهم دخل في حلول الخطر: علة هذا الشرط أن الإنتقاص من حرية الإختيار يفترض أن المتهم قد فوجيء بحلول الخطر فلم يكن في الفترة بين علمه بإحاطته به واضطراره إلى ارتكاب الفعل الذي درأه به فسحة من الوقت تمكنه من التفكير في إتيان فعل سواه لا يمس حقوق غيره، أما إذا كانت إرادة المتهم قد اتجهت إلى تحقيق الوضع المهدد بالخطر، فمعنى ذلك أنه توقع حلوله وكان في استطاعته أن يتدبر وسيلة التخلص منه على نحو لا يمس حقوق غيره ، فإن لم يتدبر ذلك وارتكب الفعل الماس بحقوق الغير، فلا وجه لإدعائه بأن إرادته لم تكن حرة حين ارتكبه، وعلى أساس من هذه العلة نقرر أن محل انتفاء هذا الشرط أن يكون المتهم قد أنشأ الوضع المهدد بالخطر عمداً، كمن يغرق عمداً سفينة ثم يضطر في سبيل إنقاذ نفسه إلى قتل شخص زاحمه وسيلة النجاة، أو من يحرق عمداً مكاناً ثم يضطر في سبيل الفرار من النيران إلى إصابة شخص اعترض طريقه، أو من ينضم إلى عصابة من المجرمين ثم يرتكب جريمة محتجاً بتهديد زملائه له، ويؤيد هذا الرأي عبارة الشارع التي تتطلب « ألا يكون المتهم قد أنشأ الخطر على نحو إرادي » وإتجاه الإرادة إلى إنشاء الخطر يعنى توافر القصد المتجه إلى ذلك: أما إذا أنشأ المتهم الخطر على نحو اتصف فيه سلوكه بالخطأ غير العمدي ، فله أن يحتج بحالة الضرورة إذا ما ارتكب الفعل الذي درأه به : فمن يحرق عن غير عمد مكاناً ثم يرتكب فعلاً نجاة بنفسه لا يسأل عن هذا الفعل، وإذا كان الخطأ مصحوباً بالتوقع ، كمن أجري في مكان تجربة علمية خطرة متوقعاً إحتمال إفضائها إلى اشتعال النيران ومعتمداً على احتياطيات غير كافية اللحيلولة دون ذلك، ولكن هذه الإحتياطات لم تحل دون الحريق فارتكب فعلا للنجاة بنفسه، فله أن يحتج بحالة الضرورة، والحجة في ذلك أمران : الأول ، عبارة النص التي قصرت إستبعاد حالة الضرورة على صورة ما إذا تعمد المتهم إنشاء الخطر ، وليس الخطأ مع التوقع عمداً، والثاني ، أنه إذا توقع المتهم نشوء الخطر فهو يعتمد على احتياطاته ويعتقد جدواها ، أي يتوقع ألا ينشأ الخطر، فإذا ما نشأ على الرغم من ذلك تحققت المفاجأة التي تجعل في غير استطاعته أن يدرأه بفعل غير الذي ارتكبه .

هل يشترط أن يكون الخطر حقيقاً ؟ هل تنتفي حالة الضرورة إذا كان الخطر وهمياً ؟

أي اعتقد المتهم قيامه فارتكب الفعل الذي أراد أن يدرأ به ثم تبين أنه لا وجود له في الحقيقة، مثال ذلك من يكون في بناء فيعتقد - عند مشاهدته دخاناً - نشوب حريق فيندفع لإنقاذ نفسه، فيصدم في طريقه طفلاً فيصيبه بجروح، نعتقد أن حالة الضرورة تقوم بالخطر الوهمي ، إذ هي تعتمد على أسس نفسية مردها إلى التأثير على الإرادة إلى الحد الذي ينقص من حرية الإختيار، وبديهي أنه إذا اعتقد المتهم قيام الخطر الوهمي كان لهذا الإعتقاد تأثيره على إرادته، وقد يبلغ ذلك الحد الذي ينفي عنها حريتها ، ولكن يتعين أن يكون هذا الإعتقاد مستنداً إلی أسباب معقولة کی تنتفى المسئولية في كل صورها ، فإن لم يستند إلى هذه الأسباب سئل المتهم مسئولية غير عمدية إن كان القانون يعاقب على فعله كجريمة غير عمدية.

 يتعين ألا يلزم القانون بتحمل الخطر: إذا كان القانون يلزم المتهم بمواجهة الخطر ومكافحته بأساليب ليس من بينها الفعل المرتكب، فلا يكون له إذا ما ارتكبه أن يحتج بحالة الضرورة ، إذ يعني هذا الإلتزام إستبعاد القانون هذه الحالة في ظروف معينة ، فيكون هذا الإستبعاد بمثابة قيد وارد على النص العام الذي حده شروط الضرورة : فالقانون يلزم المحكوم عليه بتحمل إيلام العقوبة ، ومن ثم لم يكن المحكوم عليه بالإعدام أن يحتج بحالة الضرورة للخلاص من تنفيذ الحكم فيه ؛ والقانون يلزم الجندى بمواجهة خطر العمليات الحربية ؛ ويلزم رجل الشرطة بمواجهة الخطورة الناشئة عن مكافحة المجرمين ؛ ويلزم رجل المطافئ بمواجهة الخطورة الناشئة من مكافحة الحرائق ؛ ومن ثم لم يكن لأحد من هؤلاء أو لغيرهم دفع هذه المخاطر عن غير الأسلوب الذي يصرح به القانون .

شروط فعل الضرورة

صرح القانون بتطلب شرطين في فعل الضرورة : الأول ، أن يكون من شأنه التخلص من الخطر ؛ والثاني أن يكون الوسيلة الوحيدة لذلك، ونرى فيما يلي ما إذا كان القانون يتطلب بالإضافة إليهما شروطاً أخرى .

 

أن يكون من شأن الفعل التخلص من الخطر: يتطلب الشارع بهذا الشرط علاقة بين الخطر والفعل ، وهذه العلاقة موضوعية مردها إلى اتجاه  الفعل في ذاته ، وما إذا كان هذا الاتجاه هو إلى الخطر وكان من شأن اتصاله أن يدرأه، وعلة هذا الشرط أن حرية الإختيار لا تنتقص إلا الإحساس المتهم بتهديد الخطر وحرصه على درئه ، فما يكون من شأنه ذلك تنتقص بالنسبة له حرية الإختيار ، وما لا يكون ذلك من شأنه ، أي لا يكون مرتكباً تحت تأثير التهديد بالخطر ، لا يكون وجه لإنتقاص حرية الاختيار عند إرتكابه، فإذا اشتعلت النار في بناء فقتل أحد المهددين بالحريق الشخص الذي أشعلها، لم يكن له أن يدفع بإمتناع مسئوليته ، إذ ليس من شأن هذا الفعل الخلاص من خطر الموت حرقاً .

 أن يكون الفعل هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من الخطر: 

علة هذا الشرط أن حالة الاضطرار إلى الفعل التي تبرر امتناع المسئولية عنه لا يكون لها محل إلا إذا كان هذا الفعل هو الوسيلة الوحيدة المتعينة للتخلص من الخطر ، إذ لو وجدت وسائل أخرى فلا اضطرار إلى الفعل ، لأن فی الاستطاعة الإلتجاء إلى هذه الوسائل، فمن كان يستطيع التخلص من الخطر عن طريق الهرب يسأل إذا ارتكب فعلاً أهدر به حق غيره في سبيل التخلص من هذا الخطر ؛ ومن يهدده خطر حريق اشتعل في مسرح فيقتل من اعترض فراره عن طريق بابه الرئيسي ، ويثبت علمه بإستطاعة النجاة عن طريق باب خلفي يكون مسئولاً عن القتل .

هل يشترط اتجاه إرادة المتهم إلى التخلص من الخطرة يقرر الشارع امتناع المسئولية لأن الإرادة قد انتفت عنها حرية الإختيار، باعتبارها قد اتجهت تحت ضغط التهديد بالخطر إلى محاولة التخلص منه، فإن اتجهت على نحو آخر كالانتقام من شخص فلا يصدق عليها وصف الإضطرار، إذ لا إضطراراً في غير مجال التخلص من الخطر ؛ ولا يغير من هذا الحكم أن يترتب على الفعل دفع الخطر : فمن يرى عدوه ينافس شخصاً في التعلق بقطعة طافية من الخشب ويحاول كل منهما النجاة بنفسه من الغرق ، فيبعد عنها عدوه بدافع الانتقام فيغرق ، لا يستطيع الدفع بإمتناع مسئوليته ، ولو ترتب على فعله إنقاذ الشخص الآخر، ولكن إذا أراد المتهم درء الخطر وأراد في الوقت نفسه غرضاً آخر كان له الاحتجاج بحالة الضرورة ، إذ اتجاه الإرادة إلى درء الخطر كاف للقول بإنتقاص حريتها في الإختيار، وفي رأينا أن الشارع قد أشار إلى هذا الشرط ، إذ قد تطلب علاقة بين الفعل والخطر دون أن يصرح بنوعها، ومن ثم كان المنطق مقتضياً تطلب هذه العلاقة في كل صورها، وقد أشرنا في الشرط الأول (اشتراط أن يكون من شأن الفعل التخلص من الخطر) إلى هذه العلاقة في صورتها الموضوعية، وبإشتراط اتجاه الإرادة إلى التخلص من الخطر نشير إلى هذه العلاقة في صورتها الشخصية .

هل يشترط أن يكون الفعل عمدياً ؟ هل يعني اشتراط اتجاه الإرادة إلى التخلص من الخطر أن تكون متجهة كذلك إلى المساس بحق معين كوسيلة لدرء الخطر ؟ لا تلازم بين الأمرين : فقد تتجه الإرادة إلى التخلص من الخطر عن طريق فعل لا يمس حقاً، ولكن تسير الأمور على غير ما كان متوقعا فيصيب الفعل حقاً؛ وفي هذا الوضع تتوافر شروط حالة الضرورة على الرغم من أن الفعل ليس عمدياً ، مثال ذلك أن تشتعل النار في بناء فيحاول شخص النجاة بنفسه فيصيب غير عامد شخصاً اعترض طريق فراره .

هل يشترط التناسب بين الخطر والفعل و لم يصرح الشارع بتطلب هذا الشرط ، ولكنا نعتقد أنه مستفاد من اشتراط كون الفعل هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من الخطر ، ذلك أنه إذا كان في استطاعة المهدد به أن يدرأه عن طريق فعل ذی جسامة معينة ، ولكنه فضل درأه عن طريق فعل أكثر جسامة ، فليس هذا الأخير هو الوسيلة الوحيدة لدرء الخطر، ومن ثم لا تمتنع المسئولية عنه، وعلى أساس من هذا الاستخلاص نستطيع تحديد معيار التناسب : هو أن يكون الفعل المرتكب أقل الأفعال - التي من شأنها درء الخطر والتي كانت في وسع المتهم - من حيث الجسامة، ولا محل للبحث عن معيار ذلك في اشتراط المساواة أو التقارب بين جسامة الخطر وجسامة الفعل، إذ لا يستند هذا المعيار إلى علة ذلك الشرط، بالإضافة إلى أن ظروف الضرورة قد تجتم تفاوتاً في هذه الجسامة : فمن استطاع درء خطر عن طريق فعل يهدد المال يسأل إذا درأه عن طريق فعل يؤذي النفس ، ومن استطاع درء خطر عن طريق فعل يهدد نفساً واحدة يسأل إذا درأه عن طريق فعل يؤذي نفوساً عديدة : فإذا كان ربان السفينة يستطيع إنقاذ ركابها من الغرق إذا ألقي بعض حمولتها من البضائع ، ولكنه ألقى ببعض ركابها فهو مسئول عن فعله ؛ ومن هدده آخر بالقتل إن لم يضع سماً في طعام معد الأشخاص كثيرين ، وكان في وسعه التخلص من الخطر المهدد به بقتله من يهدده ، ولكنه لم يفعل بل وضع السم في الطعام ، فهو مسئول عن فعله.

 آثار الإكراه المعنوي أو حالة الضرورة :

امتناع المسئولية : يترتب على توافر الإكراه المعنوي أو حالة الضرورة بالشروط السابقة أن تمتنع مسئولية من ارتكب الفعل ، ويستفيد من امتناع المسئولية كل شخص آخر ساهم في هذا الفعل، وليست علة ذلك كون مانع المسئولية علي الأثر ، وإنما العلة أن شروط الإكراه أو الضرورة يغلب توافرها بالنسبة لكل من يساهم في الفعل، إذ أن القانون يجعل درء مرتكب الفعل الخطر الذي يهدد غيره سبباً لإمتناع مسئوليته بنفس الصورة التي تمتنع بها مسئوليته لو ارتكب هذا الفعل لدرء خطر يهدده نفسه، ويعني ذلك أن القانون يقرر لكل مساهم سبباً خاصاً به لإمتناع مسئوليته .

سلطة القضاء في إثبات حالة الضرورة :القول بتوافر شروط الإكراه أو حالة الضرورة أو انتفاء هذه الشروط من شأن قاضي الموضوع، إذ يتطلب ذلك بحثاً في وقائع الدعوى وظروفها، ولا يشترط «أن يتحدث الحكم عن كل ركن من أركان حالة الضرورة في عبارة مستقلة، بل يكفي أن يكون ذلك مستفاداً من الظروف والملابسات طبقاً للواقعة»، ويلتزم القاضي بالرد على دفع المتهم بالإكراه أو الضرورة بإعتباره دفعاً جوهرياً، ولا يلام حين يغفل الرد إلا إذا دفع المتهم بأحدهما ، أو كان واضحاً من وقائع الدعوى كما بينها الحكم، ولا يجوز إبداء هذا الدفع لأول مرة أمام محكمة النقض، ويجوز للقاضي من تلقاء نفسه أن يعتبر حالة الضرورة أو الإكراه متوافراً، إذ أنه يلتزم قبل إدانة المتهم أن يتحقق من توافر كل أركان الجريمة وشروط المسئولية عنها.

 

(شرح قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ محمود نجيب حسني، الطبعة السابعة 2012 دار النهضة العربية،  الصفحة:  622)

موانع المسئولية

  هي الأسباب التي من شأنها إسقاط المسئولية الجنائية عن الجاني لأنها تؤثر في شرطي تحملها وهما الإدراك وحرية الإختيار فتفقدهما أو تفقد أحدهما وهذه الأسباب شخصية تتصل بالفاعل ولا شأن لها بالجريمة فهي تبقى على أصلها من التحريم ويترتب على ذلك نتيجتان :

 الأولى أن مانع المسئولية لا ينتج أثره إلا فيمن توافر فيه من الجناة أما غيره من الفاعلين للجريمة معه والشركاء فيها فتبقى مسئوليتهم عنها كاملة.

والثانية أنه مادامت الصفة الجنائية للفعل باقية فقد يلزم الفاعل بتعويض ما ينتج عنه من الضرر على الرغم من عدم مسئوليته عنه جنائياً وفي ذلك تختلف موانع المسئولية عن أسباب الإباحة السابق الكلام فيها، ونص المادة 61 عقوبات لا يذكر شيئاً عن الإكراه المادي ولكن ذلك لا يعني أن القانون لا يجعله مانعاً للمسئولية بل أن الشارع لم ينص عليه صراحة لأنه مانع لها يغير حاجة إلى نص لأن المكره مادياً لم يعمل حتى يكون مسئولاً عن عمله فهو بالإكراه مجرد آلة مسخرة ومع ذلك تمتنع المسئولية في الإكراه المادي والذي يحققه على أية حال النص الجديد لأنه يجعل ما دونه مانعاً للمسئولية فهو يمنعها من باب أولى وبذلك يكون النص متضمناً في حصر منع المسئولية ثلاثة أمور تتدرج نزولاً من حيث أثرها في إرادة الجاني وهي الإكراه المادي والإكراه المعنوي وحالة الضرورة .

 الإكراه المادي :

الإكراه المادي هو الذي يسلب الإرادة بالكلية ويمنع الإختيار فيدفع الشخص إلى المحظور بقوة مادية لا قبل له في التغلب عليها بحيث يكون عاجزاً مطلقاً عن تجنب الفعل بأي ثمن ويسمى الإكراه في هذه الحالة بالقوة القاهرة فلا يكفي أن تكون هناك صعوبة في تجنب الفعل مهما كانت الصعوبة عظمية بل يجب أن تكون هناك استحالة مطلقة وقد تأتي القوة القاهرة من فعل شخص آخر كما إذا ادعى شخص للشهادة أمام المحكمة فقبض على آخرون ومنعوه بالقوة أو كما إذا نام شخص شخصاً آخر تنويماً مغنطيسياً ضد إرادته وأمره بإرتكاب جريمة وهو نائم فإرتكبها وقد تأتي القوة القاهرة من الطبيعة كما إذا سقط الشاهد مغشياً عليه في الطريق وهو ذاهب للمحكمة ولم يفق إلا بعد إنتهاء الجلسة ففي هذه الأحوال ليس للشخص إرادة ولا إختيار وليس في وسعة تجنب الفعل بأي وسيلة من الوسائل .

وينبغي إعتبار القوة القاهرة أو الحادث الفجائي من أسباب امتناع المسئولية إذا أدى أيهما إلى عدم إرادة المتهم ولا إرادة له إذا اتفقت حريته في الإختيار كما هي الحال في القوة القاهرة المعاصرة لتصرفه أو السابقة عليه فإذا انهار بناء بفعل زلزال أو فيضان فجائي أو غارة جوية كان صاحب البناء غير مسئول جنائياً عن إصابة من قد يصاب من جراء الانهيار الذي يعد من صور القوة القاهرة أو الحادث الفجائي ومصدر انتفاء مسئوليته هو انتفاء إرادته التي أعدمتها القوة القاهرة أما إذا تداخلت القوة القاهرة بعد صدور نشاط إرادي - صادر عن أدراك - من الجاني فتوسطت بين هذا النشاط وبين النتيجة النهائية فإنها تعد من أسباب انقطاع السبية بين الأمرين فإذا صدم الجاني بسبب خطئه في قيادة سيارة عابر سبيل محدثاً به إصابة بسيطة لكن توفى المجني عليه فيما بعد من سقوط جدار عليه بسبب زلزال يكون هذا الزلزال قوة قاهرة من شأنها أن تقطع السببية - بين خطأ قائد السيارة ووفاة المجنى عليه فلا تعتبر الواقعة قتلاً خطأ بل إصابة خطأ فحسب، ولا يختلف الوضع عن ذلك شيئاً في الجرائم العمدية إذ أن طبيعة السببية واحدة لا تختلف في الجرائم العمدية عنها في الجرائم غير العملية ففي جميع الأحوال يسأل الجاني عن القدر المتيقن في حقه فحسب.

 الإكراه المعنوي :

يوجد خلاف واضح بين نوعي الإكراه المادي والمعنوي ففي الإكراه المادي لا يقوم المكره بسلوك ما بينما في الإكراه المعنوي يقوم المكره تحت تأثير التهديد بضرر جسيم حال بالفعل المكون للجريمة الذي تنعدم مسئوليته عنه ذلك أن الإكراه المعنوي إذا بلغ تأثره الذي يرغم الشخص المتوسط على سلوك سبيل الجريمة فإنه يعدم القدر اللازم من حرية الإختيار للمساءلة الجنائية ومن ثم ينتفى عن صاحبه، الخطأ أو الإسناد المعنوي والإكراه المعنوي على هذا النحو عدا صورة من صور الضرورة ومن ثم يجب توافر شروط المادة 61 لنفی المسئولية عما يكره معنوياً على إرتكاب المظهر المادي للجريمة.

ويمكن القول أن الدفاع الشرعي ما هو إلا حالة من أحوال الإكراه الأدبی أو الضرورة فإن من دافع عن نفسه يجد أنه مهدداً بخطر لا سبيل لتجنبه إلا بارتكاب الجريمة وإنما الفرق بينهما أنه في الدفاع الشرعي يقع الضرر على جاني لمنعه من إرتكاب جنايته أما في حالة الإكراه أو الضرورة فإن الضرر يقع على برئ لدفع ضرر قد لا يكون له دخل في حلوله في الدفاع الشرعي يذهب الشخص ضحية عمله أما في الإكراه فقد ذهب ضحية عمل غيره.

حالة الضرورة :

حالة الضرورة هي أن يجد الإنسان نفسه في ظروف تهدده بخطر لا سبيل إلى تلافيه إلا بارتكاب جريمة ولا يكون هذا الخطر قد وجه إليه عمداً بقصد إلجائه إلى إرتكابها فهي تتفق مع الإكراه المعنوي في أن الجاني لا يجد سبيلاً للخلاص من الشر المحدق به إلا بسلوك سبيل الجريمة وتتميز عنه في أنه في الإكراه يهدد بالشر لحمله على سلوك هذا السبيل أما في حالة الضرورة فهو يسلكه من نفسه بغير أن يقصد أحد إلجائه إليه والجريمة التي تقع في هذه الظروف تسمى " جريمة الضرورة " وبعبارة أخرى فإن الإكراه الأدبي هو حمل الشخص على ارتكاب الجريمة بتخويفه وإنزال الرعب في نفسه أما الضرورة فهي إذعان الشخص لظرف قاهر يواجهه فيرتكب فعلاً لوقاية نفسه أو نفس غيره فإذا كان الغالب أن الإكراه منشؤه تسلط إرادة آخر بالتهديد تسلطاً يؤثر على إختيار أو إرادة الجاني حتى كاد يستنفذها كما سلف القول فحالة الضرورة ظرف يوجد فجأة يتولد عنه خطر مائل لا حيلة للإنسان فيه إلا أن يرتكب الجريمة.

 شروط حالة الضرورة :

يجب أن تتوافر في حالة الضرورة أو الإكراه الأدبي الشروط الآتية حتی تسقط المسئولية عن الجاني.

 1- خطر على نفس المكره أو نفس غيره :

وإذا فالخطر على المال لا يكفي لرفع المسئولية عن الجاني خلافاً للدفاع الشرعي فإنه يكون عن النفس أو المال، وبعبارة أخرى فإن الخطر هنا ينبغى أن يتهدد نفس الجاني أو نفس غيره فلا يكفي الخطر الذي يتهدد المال وحده للتذرع بحالة الضرورة ويجب أن تفسر عبارة "النفس" هنا على مقتضى التفسير الواسع الذي تفسر به عبارة " جريمة على النفس" في الدفاع الشرعي فيدخل في معناها ما يهدد الحياة أو الجسم كما يدخل فيها ما يمس الحياء لو احترقت ملابس امرأة في حريق فکسر عامل الإنقاذ صندوقاً وأخذ منه رداء وستر به عورتها.

وقد يكون الخطر مهددا للحرية الشخصية ويعتبر مانعاً من المسئولية الجنائية كمن يحجز في غرفة بغير وجه حق فيكسر باباً أو نافذة للهرب إسترداداً لحريته، ولاشك أن الإنسان يعتبر أنه في حالة ضرورة إذا كان الخطر لاحقاً بأقاربه أو أعزائه كمن يرى أولاده على وشك الموت جوعاً فيسرق ليطعمهم ومن المقرر أن الإكراه هو من الأسباب الشخصية التي إذا توافرت في الفاعل الأصلي فلا يستفيد منها الشريك.

وغني عن البيان أنه يخرج من معنى الخطر هنا ما يكون منه مشروعاً بأن يكون مأموراً به كحالة المحكوم بإعدامه فمن يساعده على الهرب لا يجوز أن يدفع بحالة الضرورة، أو يكون الموجه إليه ملزماً قانوناً بمواجهته كحالة الجندي في الحرب فلا يجوز له أن يدفع مسئوليته عن الفرار من الميدان بحالة الضرورة وهذا القدر مفهوم بداهة بغير حاجة إلى التصريح به في النص.

 2- أن يكون الخطر جسيماً : 

لا يشترط القانون في الاعتداء الذي يبيح الدفاع أن يكون جسيما ولكنه يشترط في حالة الضرورة أن يكون الخطر جسيما ويبرره أن جريمة الضرورة تقع على برئ بينما الدفاع على معتد فإذا كان الأذى الذي ينجم عن الخطر ضئيلاً فإنه لا يجيز الإعفاء من المسئولية وجسامة الخطر تقدرها محكمة الموضوع وفقاً لمعيار مجرد هو معيار الشخص المتوسط الذي يوجد في ظروف المتهم فإذا كانت هذه الظروف تلجئه إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة صح تطبيق المادة 61 عليه.

وعموماً فقد قيل بأن الخطر الجسيم هذا الذي من شأنه أن يحدث ضرراً لا يمكن جبره أو لا يجبر ألا بتضحيات كبيرة وقد فسره البعض بأنه الخطر الذي يهدد الشخص في حياته أو فقد عضو من أعضائه أو فقد حريته وهو ما تفيده بعض أحكام القضاء.

3- أن يكون الخطر حالاً :

وقد ورد هذا الشرط في عبارة النص " خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره ... " ومعنى هذا الشرط أن يكون الخطر محدقاً بالشخص وليس خطر مستقبلاً قريباً أو بعيداً فمن يهدد غيره بالقتل عندماً يعود من رحلة أن لم يضع سما في طعام عدوه فلا يعتبر أنه إزاء خطر حال، ويعد الخطر حالا في أحد صورتين :

إذا كان الإعتداء المهدد به على وشك الوقوع وإذا كان الإعتداء قد بداً ولكن لم ينته بعد. ويعد الخطر غير حال في إحدى صورتين إذا كان الإعتداء المهدد به مستقبلاً وإذا كان الإعتداء قد تحقق بالفعل وانتهى.

والأصل أن يكون الخطر جدياً فالخطر الوهمي لا يصلح أساساً لحالة الضرورة ولكن ذلك ليس لازماً بصفة مطلقة فقد يكون الخطر وهمياً ومع ذلك يعتد به وذلك إذا كان لدى الشخص من الأسباب الجدية بحسب الظروف والملابسات التي كان فيها ما يدعوه إلى الإعتقاد بحلول خطر، والأمر يرجع إلى ظروف كل واقعة ويقدره بالنظر إلى حالة الجاني بظروفه التي كان فيها.

 4- ألا يكون لإرادة الجاني دخل في حلول الخطر :

إذا كان الخطر الجسيم الذي هدد نفس مرتكب الجريمة أو نفس غيره قد نجم عن فعل عمدی صادر منه فلا محل لأن يتذرع بعد ذلك بحالة الضرورة وورد في تعليقات الحقانية مثال لهذه الحالة بأن الشخص الذي يتأمر مع آخرين على ارتكاب جريمة ليس له أن يدفع بأنه كان في حالة إكراه أدبي بدعوى أنه كان يريد في آخر لحظة أن يعدل عن إرتكاب الجريمة ولكن منعه رفقاؤه عن ذلك.

وأهمية هذا الشرط لا تخفى لأنه ليس للإنسان أن يرتكب أمراً محرماً ثم يرتكب جريمة في سبيل النجاة مما أحدثه بيده فمن يضع النار عمداً في منزل جاره ليحرقه فيشتعل بسرعة وعند محاولة الفرار بنفسه من خطر النار يدفع أو يصدم إنساناً فيوقعه على الأرض فيصاب إصابة قاتلة لا يعتبر مكرهاً لأن إرادته هي التي أنشأت ذلك الخطر من أول الأمر، والمراد بالإرادة هنا تعمد الفعل أي تعمد الجاني أحداث الخطر، فإذا وقعت الجريمة بإهماله فله أن يدفع بأنه كان مكرها أو في حالة ضرورة فمن يشعل ناراً للتدفئة بغير أن يحتاط ويفر منها عند اشتعالها بقوة فصدم طفلاً ويقتله لا مسئولية عليه لأنه كان مكرهاً، ولأن فعل الحريق لم يأت عمداً بل وقع على غير قصد منه.

 5- أن تكون الجريمة ارتكبت للوقاية من الخطر :

وهو أساس الإعفاء وبصريح النص بقوله : "ضرورة وقاية نفسه .... إلخ" فإذا كان الجاني قد انتهز فرصة حلول الخطر وارتكب الجريمة لشفاء غل أو ضغينة فلا يعفى من المسئولية ولو توافرت باقي الشروط في الظاهر فلو أن شخصاً وجد عدواً له نازع آخر خشبة وهما في الماء للنجاة بواسطتها من الغرق فتدخل بينهما وأبعد خصمه عنها يقصد إغراقه فلا يجوز له أن يدفع بحالة الضرورة ولو أن فعله قد مكن منافس خصمه من النجاة من الغرق وذلك لأن الجاني لم يقصد بعمله وقاية غيره وإنما قصد قتل خصمه .  

6- ألا يكون في قدرة الجاني منع الخطر بوسيلة أخرى :

وهذا الشرط مذكور في نهاية نص المادة 61 ع أيضاً والمقصود هو أن يكون ارتكاب جريمة معينة لا مفر منه فإذا كان ميسوراً إرتكاب فعل أقل جسامة کالجرح والضرب بدل القتل وجب الإلتجاء إليه أو اللجوء إلى الفرار من وجه الخطر أو إتلاف منقول دون إزهاق روح فلو أوشكت مركب على الغرق فأمر ربانها بإلقاء بعض ركابها في الماء فغرقوا وكان في مقدوره أن يخفف محمولها من البضائع بإلقاء جانب منه فلا يجوز له التمسك بحالة الضرورة.

وتقديراً ما إذا كان الجاني يستطيع تفادي الخطر بوسيلة أخرى غير الجريمة أو بجريمة أخف من الجريمة التي ارتكبها أو لا يستطيع ذلك يكون بالنظر إلى حالة الجاني الشخصية وظروفه وقت الجريمة كما هو الشأن في حالة الدفاع الشرعي.

 أثر الضرورة في المسئولية :

حالة الضرورة والإكراه بنوعية إذا توافرت شروطها المتقدمة تقوم المسئولية الجنائية وحدها لأن الجريمة ينقصها شرط حرية الإرادة والإختيار وهو من شروط ركنها الأدبي العام أما المسئولية المدنية فتبقى قائمة لأن حالة الضرورة و الإكراه من الأسباب الشخصية لانعدام المسئولية الجنائية وليست من أسباب الإباحة التي تعدم المسؤوليتين ونص المادة 61 ذكر عبارة "ولا عقاب على من ارتكب ... إلخ" مما يدل على أن قصد الشارع اتجه لإسقاط المسئولية الجنائية وحدها وفضلاً عن ذلك فإن صاحب الحق الذي تحمل التضحية قد أصابه أذى لقاء ما التمسه الجاني بفعله من منفعة هي صيانة نفسه أو نفس غيره.

ومن الناحية المدنية يحول الإكراه المادي دون إمكان المساءلة بالتعويض طالما توافرت له شروط القوة القاهرة أو الحادث الفجائي ما لم يوجد نص أو اتفاق على غير ذلك (م 165 مدني) أما حالة الضرورة فهي لا تحول دون إمكان المسالة المدنية بالتعويض الذي يراه القاضي مناسباً (م168 مدنی) أي بتعويض مخفف وهذه المسئولية المدنية تكفى بذاتها كما تنفي صفة الإباحة عن الجريمة التي تقع دفعا للخطر في حالة الضرورة وتتمشى مع موقف التشريع الجنائي عند إعتبارها من  أسباب امتناع مسئولية الجاني اللاصقة بشخص لا من أسباب إباحة الفعل في ذاته إذ أن أسباب الإباحة تحول دون إمكان المسئوليتين الجنائية والمدنية معاً.

 إثبات حالة الضرورة :

إثبات حالة الضرورة يكون على عاتق من يدفع بها ولقاضي الموضوع سلطة تقدير الوقائع التي يستخلص منها توافر شروط الضرورة أو تخلفها وعليه أن يبين في حكمه الوقائع التي يستخلصها في هذا الخصوص ليتسنى لمحكمة النقض مراقبة ما إذا كانت الشروط التي يحتمها القانون في المادة 61 متوافرة أم لا.

(موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الأول ،  الصفحة: 618)

تمهيد : نص المشرع على الإكراه وحالة الضرورة كسبب لامتناع المسئولية في المادة (61) من قانون العقوبات، وقد تضمن النص بياناً لشروط إمتناع المسئولية سواء ما تعلق منها بالخطر الذي يهدد الفاعل أم بالفعل الذي يرتكبه وتمتنع مسئوليته عنه.

ويبدو لأول وهلة أن هذا النص خاص بحالة الضرورة، ولكن الحقيقة أنه يشمل الإكراه المعنوي كذلك بإعتباره صورة من الضرورة، أما الإكراه المادي فلا تنطبق عليه ألفاظ النص، ولم يرد في شأنه نص في القانون، وتعليل ذلك هو تقدير المشرع أم أحكام الإكراه المادي من الوضوح بحيث يغني عن نص يقررها صراحة.

ولا صعوبة في تبرير امتناع المسئولية بالإكراه المعنوي أو حالة الضرورة، فالإرادة غير حرة وأن كانت مميزة، ويعني ذلك أنه قد انتفى عنها الشروط المتطلبة لتكون ذات قيمة قانونية، ومن ثم فهي غير صالحة ليقوم بها الركن المعنوي للجريمة.

وسوف نتعرض أولاً بالبحث في الإكراه المادي ثم نعقبه بالإكراه المعنوي وحالة الضرورة.

 الإكراه المادي :

يعرف بالإكراه المادي بأنه الحالة التي يتعرض فيها الشخص لقوة مادية من آخر تعجزه عن المقاومة وتجعل جسده مجرد أداة لتحقيق الجريمة، كأن يدفع أية بكرا على صبي فيصاب الصبي بجروح، أو أن يمسك أحدهم بإصبع أخر ويرغمه على طبع بصمته على محرر.

والإكراه المادي ينفي الركن المادي للجريمة، لأن المكره لا ينسب إليه السلوك، فإرادته ليست معيبة وحسب، ولكنها منعدمة كلية.

وإذا كان الإكراه المادي يمحو الجريمة بالنسبة للمكره، إلا أنها تقوم بالنسبة الشخص الذي أكرهه مستخدماً جسده كأداة في مباشرة السلوك الإجرامي.

ولذلك فإن من صدرت عنه أفعال الإكراه يعد فاعلاً أصلياً للجريمة.

القوة القاهرة :

تتفق القوة القاهرة والإكراه المادي في أنهما ينفيان الركن المادي للجريمة، غير أنهما يختلفان في أمرين :

أولهما : أن الإكراه المادي لابد أن يصدر عن إنسان، أما القوة القاهرة فقد ترجع إلى قوى طبيعية، كإعصار يدفع شخصا على طفل فيصيبه، أو قد تنشأ عن فعل حيوان، كحصان يجمح فجأة براكبه فيصيب أحد المارة .

ثانيهما : أنه في الإكراه المادي يوجد فاعل يسأل عن الجريمة وهو من صدرت عنه أفعال الإكراه، أما في القوة القاهرة فلابد توجد جريمة لأنه لا يوجد إنسان تنسب إليه.

 الحادث الطارئ :

من أمثلة الحادث الطارئ أو الفجائي، أن يندفع طفل فجأة في وسط الطريق فتصدمه سيارة تسير بسرعة عادية فتصيبه، ويتضح من هذا المثال الفارق بين الحادث الطارئ لا ينتفي الركن المادي للجريمة، لأن سلوك قائد السيارة لم يتجرد من الإدارة، ولكن مسئوليته تنتفي لأن إرادته لا يمكن أن توصف بأنها مذنبة، فهو لم يتعمد إحداث النتيجة، كما أنها إرادة مجردة عن الخطأ، ولذلك فأن الحادث الطارئ ينفي الركن المعنوي للجريمة.

شروط الإكراه المادي والقوة القاهرة والحادث الطارئ :

 يشترط فيها جميعاً شرطان :

الأول: أن تكون القوة التي أفقدت الشخص السيطرة على النتيجة التي حدثت غير متوقعة. فإذا كان قد توقع فعلاً تعرضه للقوة التي سيطرت عليه، أو كان قد توقع تعرضه لها في استطاعته، فيعني ذلك في وسعه تفادي النتيجة.

فالمرأة المتزوجة التي تتوقع أن من يراودها عن نفسها يتربص لها في مكان معين وتذهب إلى ذلك المكان بمفردها لا يمكنها أن تدفع بأنها أكرهت على إرتكاب الزنا.

ومن يقود سيارة بسرعة كبيرة وينفجر أحد إطاراتها فتنقلب ويصاب ركابها، لا يستطيع أن يحتج بالقوة القاهرة أو الحادث الطارئ، لأن عليه أن يتوقع حدوث أي أمر لا يستطيع تجنبه وهو يقود السيارة بهذه السرعة الكبيرة.

الشرط الثاني : أن يكون من المستحيل على المتهم أن يتجنب الفعل أو الامتناع الذي تقوم به الجريمة، أما إذا كان من شأن القوة التي وجهته إلى السلوك الإجرامي أن جعلت اجتذابه أمراً عسيراً عليه فإن الإكراه المادي لا يتوافر بذلك، فمن يتزرع بصعوبة المواصلات لامتناعه عن الذهاب للمحكمة لأداء الشهادة يسأل عن امتناعه.

ويترتب على توافر هذين الشرطين عدم توقيع أية عقوبة على من تعرض للقوة، كما أنه يلزم بتعويض الضرر الذي يصيب الغير من جراء فعله.

 الإكراه المعنوي وحالة الضرورة

 المقصود بحالة الضرورة :

هي الحالة التي يجد فيها الشخص أن خطورة جسيمة يوشك أن يقع على نفسه أو غيره ولا تكون أمامه من وسيلة لدفع الخطر إلا بإرتكاب فعل يعد جريمة.

أما الإكراه المعنوي، كصورة متميزة لحالة الضرورة، ففيه ينشأ الخطر الذي يواجهه الشخص من تهديد الغير الذي يفرض عليه ارتكاب الفعل المكون للجريمة، ما يميز بين الإكراه المغوي وحالة الضرورة بالرغم من أن الإكراه المعنوي صورة من صور الضرورة وتنطبق عليه ذات الشروط اللازمة لقيامها.

 إلا أنه يتميز بأمرين :

أولهما : أن الخطر الذي يواجهه الشخص يصدر دائماً عن إنسان يتعمد التأثير على إرادة المكره، أما في حالة الضرورة فهو يرجع لقوى الطبيعية أو فعل حيوان.

حتى إذا نشأ الخطر بسبب إنسان، كما لو وجد شخص عدوه أمامه فجأة، مخاف منه وهرب مسرعاً فاصطدم بطفل فأصابه، فإن الخطر في هذه الحالة لم يكن متعمداً بقصد التأثير على إرادة الشخص.

ثانيهما : أن في الإكراه المعنوي يلزم من يصدر عنه الخطر الشخص المكره بالقيام بالسلوك المجرم، ولكن من يوجد في حالة ضرورة لا يحد له أحد السلوك الذي يقوم به، بل يلجأ إليه من تلقاء نفسه تلافياً للخطر الذي يتعرض له.

ولذلك ففي الإكراه المعنوي يكون هناك شخص مسئول عن الجريمة من صدر عنه الخطر، أما في حالة الضرورة فلا يوجد مسئول يسند إليه الفعل المرتكب.

والإكراه المعنوي يعد في جميع الأحوال من موانع المسئولية الجنائية، ذلك أن الشخص المعتاد إذا تعرض للخطر تنتفي لديه القدرة على الإختيار، ولا يجد أمامه من سبيل غير القيام بالسلوك الذي يفرض عليه، لذلك فهو ينفي الركن المعنوي للجريمة.

أما الضرورة فهي في أغلب حالاتها تؤثر على إرادة من يحدق به الخطر فتنتفي لديه القدرة على الاختيار. ومن أمثلة ذلك أن تشتعل النار في مبنى ويتدافع من به للفرار فيصيب أحدهم طفلاً بجراح أو يقتله، وكحالة ركاب السفينة الغارقة إذا تدافع ركابها نحو قارب فغرق البعض نتيجة هذا التزاحم.

ففي الزحام هذين المثالين يؤثر الخطر على إرادة الشخص ويرغمه على ارتكاب الفعل المكون للجريمة.

فالرجل المعتاد إذا تعرض لهذه الظروف يفقد خياره ويضطر لأن يسلك ذات السلوك.

والتكييف القانوني للضرورة في هذه الحالة يقتضي إعتبارها من موانع المسئولية لأنها تتفي أحد الشرطين الذين تقوم عليهما، وتؤدي إلى إنتفاء الركن المعنوي للجريمة.

على أن هناك صوراً من الضرورة لا تتأثر فيها قدرة الشخص على الإختيار، وذلك عندما يكون الخطر غير محدق بالشخص نفسه أو بمن يهمه أمره، كالطبيب الذي يجري عملية جراحية لمريض لإنقاذ حياته دون أن يحصل على رضائه، أو إذا ضحى بالجنين إنقاذاً لحياة الأم في ولادة متعسرة.

أولاً : شروط الخطر:

يشترط في الخطر الذي يهدد المكره أو المضطر، ويدفعه إلى إرتكاب الجريمة، توافر عدة شروط هي:

(أ) أن يكون الخطر مهدداً للنفس :

يعني ذلك استبعاد الخطر الذي يهدد المال، فإذا كان الخطر مهدداً للمال فقط وفلا تمتنع المسئولية عن الجريمة المرتكبة لدفع هذا الخطر.

لذلك لا يعني من المسئولية من يضحي بحياة الغير أو بأمواله في سبيل حماية ماله أو مال غيره من الهلاك.

وتطبيقاً لهذه يعفي من المسئولية التوافر حالة الضرورة الطبيب الذي يضحي بالجنين في ولادة متعسرة لإنقاذ حياة الأم، أو الشخص الذي يكسر أبواب منزل - وجده يحترق لينقذ من بداخله من السكان الذين لا تربطهم به صلة على الإطلاق،

وقد ذهب رأي قديم إلى ضرورة تقييد الإعفاء من المسئولية حين يكون الخطر مهددا نفس الغير بتطلب أن يكون هذه الغير من أقارب الجاني أو أعزاءه حتی يتحقق معنى الإكراه أو الضرورة . 

وهذا الرأي لا سند له من نص القانون الذي ورد لفظ "الغير" مطلقاً من كل قید بصفة هذا الغير أوصلته بالفاعل، هذا فضلاً عن أن هذا التقييد لا مبرر له من ناحية علة انتفاء المسئولية في حالة الإكراه أو الضرورة التي تتوافر في الحالتين بالقدر ذاته، كما أن من شأن هذا التقييد إذا أخذ به أن يقضي على الشعور بالتضامن من الاجتماعي الذي يدفع الفرد إلى مساعدة من هم حالة خطر على دفع هذا الخطر بالوسائل الملائمة سواء جمعتهم به صلة قرابة أو صداقة أو جواز أو كان غريباً عنهم لا تربطه بهم أي صلة على الإطلاق.

وأخيراً فإن هذا الرأي يتعارض مع ما تفرضه تقاليد بعض المهن من التزامات على من يمارسونها، فوفقاً لهذا الرأي لا تمتنع مسئولية الطبيب الذي يجرى جراحة المصاب في حادث إنقاذاً لحياته إذا كان في حالة غيبوبة تحول دون الحصول على موافقته مقدماً، ولا الطبيب الذي يضحي بحياة الجنين لإنقاذ حياة الأم.

(ب) أن يكون الخطر جسيماً: والخطر يعد جسيماً إذا كان من شأن تحققه إنزال ضرر لا يمكن إصلاحه أو يغلب على الظن احتمال عدم قابليته للإصلاح مطلقاً أو قابليته للإصلاح بتضحيات كبيرة سواء كان الخطر يهدد الحياة أو سلامة الجسم أو الحرية أو العرض أو الشرف والإعتبار.

فإذا كان احتمال إصلاح الضرر بغير تضحيات كبيرة راجحة، فالخطر المهدد بهذا الضرر لا يتوافر له شرط الجسامة الذي يتطلبه القانون .

وواضح أو معیار تحید جسامة الخطر يغلب عليه الطابع الشخصي، الذي يراعى ظروف الشخص عندما ارتكب الجريمة تحت ضغط الضرورة، لذلك يكون تحديد جسامة الخطر من المسائل التي يفصل فيها القاضي وفقاً لظروف كل واقعة، وهو ما يقضى تحديد الضرر الذي كان به يهدد مرتكب جريمة الضرورة، والعوامل التي أحاطت به عند ارتكاب الجريمة وتحكمت في تقديره لمدى قابلية الضرر به الإصلاح.

والغالب أن يكون الخطر جسيمة حين يهدد حياة الشخص، أو سلامة جسمه حين يهدد حياة الشخص، أوسلامة جسمه بجروح شديدة أو بفقد أحد الأعضاء، أوحين يهدد العرض أو الشرف والسمعة.

لكن الخطر الجسيم على الحياة لا يتوافر من مجرد تهديد شخص لأخر بعدم الإنفاق عليه، ولو كان هو والده الذي يعوله.

كما لا يتوافر الخطر الجسيم على النفس بالنسبة للسارق الذي يدفع مسئوليته عن السرقة بوجوده في حالة بطالة وعدم إمكان حصوله على المال اللازم لا طعام نفسه.

والأصل في الخطر الجسيم أن يكون جدية، فإذا كان وهمياً اعتقد المتهم في وجوده دون أن يكون له وجود حقیقی انتفت حالة الضرورة .

(ج) أن يكون الخطر حالاً :

وحلول الخطر لا يعني حدوثه فعلا بل يكفي أن يكون وشيك الوقوع وأن لم يقع بالفعل.

وإذا اعتقد الفاعل بناء على أسباب معقولة أن الضرر الذي يتهدده قد صار وقوعه وشيكاً، فارتكب جريمة الضرورة لدفعه قبل أن يتحقق بالفعل انتفت مسئوليته عن الجريمة ولو ثبت بعد ذلك أن الخطر لم يكن حالاً إلا في مخيلة الفاعل وأن الخطر الذي دفعه بالجريمة كان موجوداً لكنه لم يكن وشيك الوقوع.

ولم يتطلب القانون في الخطر الحال أن يكون غير مشروع لكن هذا الشرط بديهي بحيث يعد قيداً على حالة الضرورة دون حاجة إلى التصريح به في نص القانون الذي يقرره.

كما يكون الخطر مشروعاً إذا كان القانون يلزم من يتعرض له بمواجهته، كما هو الحال بالنسبة للجندي الذي يواجه خطر العمليات الحربية أو رجل الشرطة الذي يواجه خطر الإرهاب، فلا يجوز لأي من هؤلاء أن يحتج بحالة الضرورة لدفع مسئوليته عن التقاعس أو التخلص من أداء واجبه في مكافحة هذا الخطر.

(د) ألا يكون لإرادة المتهم دخل في حلول الخطر:

وعلة هذا الشرط الذي ذكره المشرع صراحة في نص المادة (61) من قانون العقوبات بقوله "ولم يكن لإرادته دخل في حلوله"، أن من يحدث خطرة بإرادته لا يكون قد فوجئ بحلوله على نحو يضطره إلى دفعه عن طريق ارتكاب الجريمة، إذ تكون لديه فسحة من الوقت لكي يتدبر سبل الخلاص من هذا الخطر دون المساس بحقوق الغير.

فمن يشعل النار في مكان بقصد إحراقه لا يجوز له الإحتجاج بحالة الضرورة إذا أصاب أو قتل إنسانا أثناء محاولته الهرب لإنقاذ نفسه .

وتشير عبارة نص المادة (61) من قانون العقوبات، التي تتطلب عدم اتجاه إرادة الجاني إلى إيجاد الخطر، أي ألا يكون الخطر قد نجم عن عمدی صدر منه.

وهذا التفسير تفرضه علة تطلب هذا الشرط وهي توقع المتهم لحالة الخطر التي اتجهت إرادته إلى إحداثها.

فإذا كان الخطر قد نشأ بسبب خطأ الجاني، ولم يكن نتيجة فعل عمدی من جانبه، بل نشأ عن إهماله وعدم احتياطه،كان له أن يحتج بحالة الضرورة لنفي مسئوليته عن الفعل المرتكب لمواجهة هذا الخطر.

فمن تسبب خطأ في إشعال حريق في مكان ماء ثم عندما حاول النجاة بنفسه من النيران أصاب إنساناً أو قتله، يستطيع أن يدفع مسئوليته بحالة الضرورة ولا أهمية لكون الخطأ مهما كان جسيماً لا يستوي مع تعمد إنشاء الخطر في استبعاده حالة الضرورة.

 ثانياً : شروط فعل الضرورة :

يشترط في الفعل الذي يدفع به المضطر الخطر الذي يهدد نفسه أو نفس غيره حتى تمتع المسئولية الجنائية عنه توافر ثلاثة شروط ، صرح القانون بشرطين فيها ويستفاد الثالث من اشتراط القانون لزوم فعل الضرورة ومن طبيعة حالة الضرورة.

(أ) أن يكون قد ارتكب للوقاية من الخطرة :

صرح القانون بهذا الشرط عندما تطلب أن يكون الجريمة قد فرضتها على الجاني "ضرورة وقاية نفسه أو غيره...... ويعني ذلك أن القانون يتطلب علاقة معينة بين فعل الضرورة والخطر الذي ارتكب الفعل لدفعه.

 هذه العلاقة لها جانب موضوعي وجانب نفسي : 

فالجانب الموضوعي للعلاقة : بين فعل الضرورة والخطر مقتضاه أن يكون من شأن الفعل المرتكب النجاة من الخطر الذي يهدد مرتكبه.

أما الجانب النفسي للعلاقة : بين فعل الضرورة والخطر، فيفرضه أساس امتناع المسئولية الذي ذكره المشرع في قوله "ضرورة وقاية نفسه أو غيره" ومقتضاه أن تكون إرادة مرتكب جريمة الضرورة متجه تحت ضغط التهديد بالخطر إلى وقاية نفسه من هذا الخطر بإرتكاب الجريمة.

(ب) عدم استطاعة دفع الخطر بوسيلة أخرى :

صرح القانون بهذا الشرط عندما تطلب ألا يكون في قدرة الجاني منع الخطر من التحول إلى ضرر فعلی بطريقة أخرى غير الجريمة التي ارتكبها، ويعني هذا الشرط أن الجريمة المرتكبة كانت هي الوسيلة الوحيدة أمام الجاني لتفادي الخطر الذي كان يتهدده، وهذا الإعتبار هو الذي يبرر إمتناع مسئولية مرتكب الجريمة.

(ج) التناسب بين الخطر وفعل الضرورة :

لم يرد شرط التناسب بين الضرر الذي ينذر به الخطر وبين الجريمة المرتكبة للوقاية منه في نص المادة (61) من قانون العقوبات المصري.

وهذا الشرط تفرضه طبيعية حالة الضرورة، والتي تقييد الإعتداء على حقوق الغير بالقدر الضرورة لدرء الخطر الذي يتهدد الفاعل، وإذا الضرورة تقدر بقدرها دون إفراط أو تفريط .

والتناسب بين جسامة الخطر الذي يهدد من يوجد في حالة ضرورة وجسامة الفعل الذي يدفع به حالة الضرورة، ولا يقاس بمعيار حسابي مجرد، مؤداه ضرورة المساواة بين الأمرين أو رجحان أحدهما على الآخر بفارق بسيط، فظروف الضرورة قد تفرض على الشخص مواجهة الخطر بفعل تزید جسامة على ما كان يتهدده من خطر زيادة واضحة.

وكذلك فإن معيار التناسب هو أن تكون الجريمة المرتكبة أهون ما كان في وسع الفاعل من وسائل لتفادي الخطر في الظروف التي ارتكب فيها، والعبرة في ذلك هي بتقدير الرجل العادي لو وجد في ذات الظروف التي تصرف فيها المتهم.

وإذا توافرت ظروف الضرورة لكن الفاعل تجاوز القدر المناسب من الضرر، فأحدث بالغير ضرراً أشد مما يستلزمه دفع الخطر الذي كان يهدده، تحققت مسئوليته عن الجريمة المرتكبة وإن جاز للقاضي أن يراعي ذلك عند تقدير العقوبة وفقاً لنظام الظروف القضائية المخففة.

آثار الإكراه أو حالة الضرورة :

إمتناع المسئولية :

يترتب على توافر الإكراه المعنوي أو حالة الضرورة بالشروط المسابقة أن تمتنع مسئولية من ارتكب الفعل، ويستفيد من امتناع المسئولية كل شخص آخر ساهم في هذا الفعل، وليست علة كون مانع المسئولية عام الأثر، وإنما العلة أن شروط الإكراه أو الضرورة يغلب توافرها بالنسبة لكل من يساهم في الفعل، وإذ أن القانون يجعل درء مرتكب الفعل الخطر الذي يهدد غيره سبباً لإمتناع مسئولية بنفس الصورة التي تمتنع بها مسئولية لو أرتكب هذا الفعل لدرء خطر يهدده نفسه، ويعني ذلك أن القانون يقرر لكل مساهم سببا خاصاً به لإمتناع مسئولية.

سلطة القاضي في إثبات حالة الضرورة :

القول بتوافر شروط الإكراه أو حالة الضرورة أو انتفاء هذه الشروط من شأن قاضي الموضوع، وإذ يتطلب ذلك بحثاً في الوقائع الدعوى وظروفها.

ويلزم القاضي بالرد على دفع المتهم بالإكراه أو الضرورة بإعتباره دفعاً جوهريا، ولا يجوز إبداء هذا الدفع لأول مرة أمام محكمة النقض ويجوز للقاضي من تلقاء نفسه أن يعتبر حالة الضرورة أو الإكراه متوافرة، إذ أنه يلتزم قبل إدانة المتهم أن يتحقق من توافر كل أركان الجريمة وشروط المسئولية عنها.

(الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الأول،  الصفحة : 697)

ويستفاد من النص السابق أن المشرع أراد معالجة الحالات التي تخرج عن نطاق الإكراه المعنوي والتي يكون فيها إرتكاب الجريمة راجعاً إلى ظروف، وقد تكون طبيعية أو من فعل الغير، لا يستطيع الإنسان دفعها إلا بإرتكاب الجريمة، ومثال ذلك ارتكاب الجريمة هروباً من حريق شب في المكان الذي يتواجد فيها الشخص ويهدده في حياته أو فراراً من آخرين يتبعونه لقتله أو إيذاء جسيماً .

وحالة الضرورة تختلف عن الدفاع الشرعي و إن تشابهت معه في بعض شروطها، فالضرورة تتطلب أن يكون الخطر حالاً يهدد النفس ولا يمكن تجنبه إلا بإرتكاب الجريمة، وهي شروط تتفق مع الدفاع الشرعي، إلا أن الضرورة تختلف عن الدفاع الشرعي في الأتي: أولاً: أن الضرورة لا تتطلب أن يكون الخطر ناشئاً عن فعل غير مشروع للغير، إذ يستوي مع فعل الخير أيضاً الأخطار الناشئة عن ظواهر طبيعية. ثانياً: أن فعل رد الخطر في الضرورة لا يوجه إلى مصدره وإنما يوجه إلى شخص ثالث لا علاقة له بالخطر، وثالثاً: أن الضرورة قاصرة على الخطر الجسيم المهدد للنفس بينما الدفاع الشرعي لا يتطلب في الخطر جسامة معينة كما لا يقتصر على الخطر ضد النفسي وإنما يمتد أيضاً إلى المال في الحدود المنصوص عليها .

وقد اختلف الفقه في تكييف الضرورة، وانقسم الفقه إلى رأيين :

الأول : يعتبرها مانعاً من موانع المسئولية .

والثاني : يعتبرها سبباً من أسباب الإباحة.

وأساس الرأي الأول هو ما تباشره حالة  الضرورة على الإراده  بحيث تفقد تلك الأخيرة مقومات تكوينها الطبيعي نظراً لضغط ظرف الضرورة  عليها.

على حين يستند أنصار الرأي الثاني إلى أن الضغط الإرادي ليس هو أساس عدم العقاب على جريمة الضرورة نظراً لأن المشرع يجيز للغير أن يرتكب الجريمة لدرء الخطر المهدد به شخص آخر، ومعنى ذلك أن أساس عدم العقاب لا يستند إلى ظروف الجاني الشخصية وإنما إلى علة في ذات الفعل المرتكب في حالة الضرورة، وتتمثل هذه العلة في أن المصالح المتعارضة، أي مصلحة مرتكب جريمة الضرورة ومصلحة المعتدى عليه بسبب الضرورة تكون في موقف متساو إزاء القانون حيث يستوي لديه الإضرار بمصلحة المعتدي والمعتدى عليه، وبالتالي يفقد الفعل مقومات الإضرار بمصلحة محمية جنائية الأمر الذي ينفي عنه الصفة غير المشروعة، ومعنى ذلك أن حالة الضرورة تمثل سببا من أسباب الإباحة لإنعدام الضرر الإجتماعي.

وهذا ما يفسر جواز الاستناد إليها من الغير الذي يدفع ضرراً جسيماً على نفس شخص آخر بإرتكاب الجريمة.

والواقع هو أن عدم العقاب على جريمة الضرورة إنما يرجع إلى عدم توافر الظروف العادية للتكوين الإرادي وفقاً لبواعث الجاني، وإنما ترتكب الجريمة بضغط الظروف الخارجية المهددة بخطر جسيم على النفس، وسواء أكان هذا الخطر يهدد الشخص نفسه أو غيره فالعبرة هي بطبيعة التكوين الإرادي بالنسبة لمرتكب الجريمة، فإذا كانت ظروف الضرورة هي التي دعت الغير للتدخل لإنقاذ ثالث فلا شك في تأثير تلك الظروف على إرادته عند اتخاذ قراره بارتكاب الجريمة إنقاذاً للغير، والمشرع في هذا راعي القيم والاعتبارات الاجتماعية التي تدعو الأفراد إلى المساهمة في دفع الخطر المحدق بالغير ولو لم تربطه به سوي الصلة الإنسانية.

ويترتب على اعتبار الضرورة مانعاً للمسئولية أن الفعل المرتكب دفعاً للخطر الجسيم يظل فعلاً غير مشروع جنائية، وبالتالي يجوز لغير دفعه إستعمالاً للدفاع الشرعي، وهذه النتيجة ما كان يمكن التسليم بها فيما لو اعتبرت حالة الضرورة سبباً للإباحة، إذ في هذه الحالة يتعين على الغير تحمل فعل الضرورة بالرغم من أنه ليس له دخل في حدوثها، وهو أمر لا يستقيم والعدالة فضلاً عن تعارضه والمنطق السليم.

شروط حالة الضرورة :

يشترط لتوافر حالة الضرورة وبالتالي لإمتناع المسئولية شروط خاصة بالخطر وشروط خاصة بالفعل .

 أما شروط الخطر فهي :

 1- وجود خطر جسيم يهدد النفس :

ومفاد ذلك أن تكون هناك ظروف تهدد بالضرر الذي يلحق الشخص في نفسه. ولذلك يخرج عن نطاق حالة الضرورة الخطر الذي يهدد المال، ويقصد بالخطر المهدد للنفس ذات المعنى السابق بيانه في الدفاع الشرعي، فيستوي أن يكون الخطر يهدد الشخص في حياته أو سلامة جسمه أو يهدده في شرفه وإعتباره وحريته، فالحقوق المعنوية اللصيقة بالشخص يمكن درء الخطر المهدد لها استناداً إلى الضرورة، فمن تفقد ملابسها أثناء إستحمامها بالبحر يمكن أن تستحوذ على منقولات - مملوكة للغير ستراً لعورتها إستناداً إلى الضرورة، ومن ينتزع خطاباً من آخر ويمزقه عند تقديمه لثالث لإثبات علاقة غير مشروعة مع أنثي متزوجة يمكنه الإحتجاج بحالة الضرورة.

ولا يلزم أن يكون الخطر يهدد الشخص في نفسه، بل يجوز للشخص الاحتجاج بحالة الضرورة بالنسبة للخطر المهدد لنفس الغير، والضرورة في ذلك تتماثل والدفاع الشرعي.

ولا يكفي وجود خطر يهدد النفس، بل يلزم أن يكون الخطر جسيماً.

ويكون الخطر جسيماً إذا كان يهدد بضرر جسيم يصيب الشخص في نفسه.

وجسامة الضرر لا تتحدد وفقاً لمعيار شخصي يتوقف على تقدير مرتكب جريمة الضرورة، وإنما يتحدد بمعايير موضوعية مستفادة من النظام القانوني الجنائي، ولذلك فإن الخطر الوهمي لا يكفي لإنعقاد حالة الضرورة وإن كان يمكن أن يؤثر على درجة المسئولية الجنائية للشخص في صورة العمد أو الخطأ غير العمدي.

ويرى البعض أن الخطر يكون جسيماً إذا كان يهدد بضرر لا يمكن جبره إلا بتضحيات كبيرة كفقد الحياة أو فقد عضو من أعضاء الجسم، غير أن الضرر الجسيم في هذا المعنى وإن عبر عن بعض صور الجسامة إلا أنه لا يحيط بها، ولذلك فإن جسامة الضرر يجب أن تترك لتقدير القاضي يستخلصها بالإستعانة بالنظام القانوني الجنائي.

وغني عن البيان أن الخطر يشترط أن يكون حالاً، فالخطر المستقبل لا تتوافر بصدده ضرورة دفعه، كما أن الخطر المنتهى الذي تحقق موضوعه أي الضرر لا يبرر الضرورة إذ أن دفعه يصبح غير ذي موضوع، غير أن حلول الخطر لا يفيد حلول الضرر، فالضرورة تتوافر بحلول الخطر الذي يهدد بوقوع ضرر ولو لم يقع ذلك فعلاً.

2- ألا يكون لإرادة الشخص دخل في حلول الخطر:

يذهب البعض إلى أنه يلزم للاحتجاج بالضرورة ألا يكون الشخص قد تسبب في حلول الخطر بفعل إرادي ولو لم يتعمد حدوث الخطر. فمن يتسبب بخطئه في حريق لا يصح له الإحتجاج بحالة الضرورة لإنقاذ حياته، بينما يذهب البعض الآخر إلى قصر هذا الشرط على حالات التسبب العمدي  في حلول الخطر .

والحقيقة هي أن الرأي الأول يضيق من نطاق حالة الضرورة بما يخرجها عن الغرض الذي من أجله وجدت، ولذلك فإن الفقه المصري يكاد ينعقد إجماعه على جواز الاحتجاج بحالة الضرورة في قروض التسبب تغير العمدي في حلول الخطر.

3- ألا يكون هناك واجب قانوني يفرض على الشخص مواجهة الخطر:

ومفاد هذا الشرط أنه لا يجوز الإحتجاج بحالة الضرورة بالنسبة للأشخاص المكلفين بحكم وظائفهم أو بمقتضى قاعدة قانونية أن يواجهوا الخطر، فلا يجوز لرجل شرطة إطفاء الحرائق مثلاً إرتكاب جريمة في سبيل درء الخطر المحدق به أثناء قيامه بعمله، كما لا يجوز للطبيب الممارس أن يمتنع عن علاج مریض خوفاً من العدوى.

شروط فعل الضرورة :

 يشترط في الفعل الذي يرتكب درءاً للخطر الجسيم على النفس ما يأتي :

1- أن يكون الفعل لازماً لتجنب الخطرة : وقد عبر المشرع عن هذا الشرط «ولا في قدرته منعه بطريقة أخرى »، فجريمة الضرورة تتوافر حينما لا يكون في إستطاعة الشخص تجنب الخطر إلا بارتكاب الفعل المكون لها، ولذلك لا يكفي أن يكون الفعل ضرورياً لتجنب الخطر بل يجب أن يكون لازماً في الوقت ذاته، فإذا كان في مكنه  الشخص تجنب الخطر بوسيلة أخرى خلاف ارتكابه الجريمة فإن حالة الضرورة تنتفي، فالذي يمكنه إتقاء الخطر بالهروب دون إضرار بالآخرين لا يجوز له الإحتجاج بالضرورة إذا ما جابه الخطر مرتكباً لجريمة ضد نفس الغير أو ماله.

ومعنى ذلك أن الضرر المتحقق بجريمة الضرورة يجب ألا يفوق في جسامته الضرر المهدد لنفس الشخص أو لنفس غيره، فإجهاض الحامل التي تشكل الولادة خطر على حياتها تتحقق به حالة الضرورة، ومن ناحية أخرى لا يجوز الاحتجاج بحالة الضرورة في الإجهاض المرتكب حفاظاً على شرف وسمعة الحامل، ففي تلك الحالة لا يكون هناك تناسب بين الضرر المهدد به وبين الضرر المتحقق بجريمة الضرورة، ومع ذلك فهناك من يرى جواز الاحتجاج بحالة الضرورة بالنسبة للأنثى التي حملت نتيجة اغتصاب إذا ما أقدمت على الإجهاض.( قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ مأمون محمد سلامة، الطبعة الأولى 2017 الجزء الثالث،  الصفحة :  407)

الفقة الإسلامي

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 30 .

 

 

(مادة 16) 

لا جريمة إذا ارتكب الفعل لمواجهة خطر حال يعد جريمة ضد النفس أو العرض أو المال، ولو تعلق ذلك بالغير، وكان من المتعذر الالتجاء إلى السلطات العامة لاتقاء هذا الخطر في الوقت المناسب، متى كان هذا الدفاع لازماً و متناسباً لدفع الخطر المذكور. 

(مادة 35) 

لا مسئولية على من ارتكب فعلاً دفعته إلى ارتكابه ضرورة الوقاية من خطر جسيم محدق به أو بالغير يصيب النفس أو العرض أو المال، إذا لم يكن هو قد تسبب فيه عمداً ، ولم يكن في استطاعته دفعه بوسيلة أخرى، وبشرط أن يكون الفعل الذي ارتكبه متناسبا مع جسامة الخطر الذي توقاه. 

ومع ذلك فإن الضرورة لا تجيز قتل النفس، وفي هذه الحالة تراعى أحكام الدية 

المنصوص عليها في هذا القانون . ولا يعتبر في حالة ضرورة من أوجب عليه القانون مواجهة ذلك الخطر.  

أسباب الإباحة 

المواد من (14) إلى (16)): 

عالجت هذه النصوص أسباب إباحة الجرائم، والأصل في الشريعة الإسلامية أن الأفعال المحرمة محظورة على الكافة، ما لم تقتض ظروف الأفراد إباحتها، وذلك باعتبار أن هؤلاء الذين تباح لهم الأفعال المحرمة يأتونها في الواقع لتحقيق غرض أو أكثر من أغراض الشارع تقتضيها طبيعة الأشياء، وصالح الجماعة، وصالح الأفراد، وتحقيق غايات الشارع وقد وضع الفقه الإسلامي الضوابط والشروط التي تؤدي إلى إباحة الفعل المحظور. 

وقد بينت المادة الرابعة عشرة أول سبب من أسباب الإباحة، وهو استعمال الحق. فنصت على أنه لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالاً لحق مقرر بمقتضى الشريعة أو القانون، وذلك بشرط التزام حدود الحق ومن تطبيقات ذلك: حق التأديب المقرر في الشريعة الإسلامية، والحق في ممارسة مهنة الطب وبالنسبة إلى هذا الحق الأخير، فإن الشريعة الإسلامية لا تقتصر على جعل ممارسة الطب حقا، بل تعتبره واجباً يتعين على شخص بذاته أداؤه في بعض الحالات. 

وبالنسبة لحق التأديب سواء كان للأب على ابنه، أو المعلم على المتعلم، أو الزوج على الزوجة، فإن سبب الإباحة قد تأسس على نصوص الكتاب الكريم (مثل حق الزوج أو على السنة النبوية. 

وقد أوضحت السنة النبوية حدود هذا الحق بحيث لا يخلف استعمال الحق إصابة، أو يمتهن الكرامة الإنسانية، وهو أمر مفصل في كتب الفقه، وكذلك في سائر الصور التي تبيح حق التأديب، وجدير بالذكر أن ضوابط استعمال هذا الحق في الشرع الإسلامي يتفق معها ما استقر عليه التطبيق القضائي في مصر منذ زمن بعيد. 

وقد عني النص باشتراط التزام حدود الحق، حتى تتوافر الإباحة. وغني عن البيان أن حسن النية هو من حدود الحق، ولا حاجة للنص عليه صراحة. 

ونصت المادة الخامسة عشرة على أداء الواجب كسبب للإباحة فالواجبات توضع لصالح الجماعة فإذا أدى الموظف واجبه، كان عمله مباحا، فالقتل مثلا محرم على الكافة ولكنه مباح إذا كان عقوبة؛ لأن العقوبة ليست عدواناً، ومن الواجب تنفيذها، وقد تناول الفقهاء المسلمون إباحة القتل إذا كان الفاعل يقوم بتنفيذ حد من حدود الله أو القصاص من شخص حكم عليه بهذه العقوبة. 

ويستوي في هذا الشأن أن يكون مصدر الواجب هو نص القانون، أو أمر رئيس يوجب القانون طاعته. وللرؤساء على الأفراد حق الطاعة، فقد قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ). إلا أن واجب الطاعة مقيد غير مطلق، فليس لأمر أن يأمر بما يخالف القانون، وليس لمأمور أن يطيع فيها يخالف القانون، سواء كان موظفا أو غير موظف. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وقال صلى الله عليه وسلم : «من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه»، والآية الكريمة والأحاديث الشريفة الواردة في هذا الشأن واضحة في اشتراط أن تكون الطاعة في أمر لا يعد إتيانه جريمة. 

وقد عني النص بتعليق الإباحة على التزام حدود الواجب أو الأمر، فإذا خرج عن هذه الحدود ظل الفعل تحت طائلة التجريم وفي هذه الحالة يتوقف تحديد مسئولية الجاني على مدى توافر القصد الجنائي أو الخطأ غير العمدي لديه ويعالج الفقه الإسلامي حالة تجاوز حدود الأمر، فيخرج الأمر عن دائرة المشروعية، ويقع في دائرة التجريم، والفروع التي أوردها الفقهاء تفسح مجالاً للتخفيف من المسئولية بإعتبار توفر حسن النية عند من يجاوز حدود الأمر دون قصد العدوان. 

ونصت المادة السادسة عشرة على حق الدفاع الشرعي کسبب من أسباب الإباحة، ولا خلاف بين الفقهاء المسلمين على أن الدفاع الشرعي، ويسمونه إصطلاحاً : (دفع الصائل) شرع ليحمي الإنسان نفسه أو غيره من الاعتداء على النفس والعرض والمال وقد أباح الشرع التوقي من كل مؤذ، سواء كان آدماً أو غيره، وبناء على ذلك يجوز دفع كل صائل من آدمي أو بهيمة على نفس أو عرض أو مال، فإن لم يندفع إلا بالقتل فقتله الحصول عليه فلا ضان، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد، وصرح الفقهاء بأنه يجوز قتل الباغي دفعاً لا قصداً ، وهناك من الأدلة الشرعية ما يفيد أن الفعل يكون مباحاً ، وينتفي عنه وصف الجريمة، ويدخل في دائرة المشروعية في هذه الحالات. 

 والأصل في الدفاع الشرعي قوله تعالى: (فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) ، وروى عبد الله بن عمرو عن رسول الله قال: «من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد». 

وقوله صلى الله عليه وسلم " للرجل: «قاتل دون أهلك». وقد جاء في حاشية الدسوقي (جـ (4) - ص (349)): «أن المقاتلة واجبة على من يتعرض له المحارب، إذا خاف على نفسه أو أهله القتل أو الجرح أو الفاحشة بأهله، ولا فائدة لقتاله إلا قتله، كما ورد أن المرأة إذا أرادها رجل عنوة فقتلته لتحصن نفسها، فلا شيء عليها ودمه هدر». (المغني لابن قدامة، ج (7)). 

وروى أبو هريرة عن رسول الله أنه قال: «لو أن أمرءاً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح»، وكما أقرت الشريعة الدفاع الشرعي لرد اعتداء الإنسان عن نفس المدافع أو عرضه أو ماله، كذلك أقرته لدفع الاعتداء عن نفس الغير أو عرضه أو ماله، وللدفاع الشرعي شروط لابد من توافرها حتى يظل في منطقة الإباحة، وهي أن يكون هناك خطر حال يعد جريمة ضد النفس أو العرض أو المال، ولو تعلق ذلك بالغير، وأن يتعذر الالتجاء إلى السلطات العامة لاتقاء هذا الخطر في الوقت المناسب، وأن يكون ارتكاب الجريمة هو الوسيلة الوحيدة للدفاع، وأن تكون هذه الجريمة متناسبة مع الاعتداء، بحيث تكون هي الوسيلة الوحيدة الممكنة لشخص معتاد في مثل الظروف التي أحاطت بالمدافع. 

وقد وضع الفقهاء المسلمون ضوابط استعمال حق الدفاع الشرعي ودفع الصائل: فيجب أن يكون الاعتداء جسيماً وحالاً ، مثل شهر سيف على المسلمين (ابن عابدين، ج(5) ص (362))، وصرح بعض الفقهاء بأنه يتعين الكف عن المهاجم عند إدباره (شرائع الإسلام ج (2) ص (262))، وكذلك لو ضربه فعطله لا يثني عليه وإلا ضمن، وينبغي أن يكون الاعتداء حقيقيا، فلا يقتل من دخل عليه بيته لاجئاً إليه وليس مكابراً له (المبسوط، ج (29) ص (72))، ولا يجوز القتل دفاعاً إذا قدر الحصول عليه على النجاة بنفسه وأهله وماله بلا مشقة أو مضرة، وإمكان الاستغاثة بالناس لها وزنها في تقدير ما يلزم لرد العدوان، ومن ذلك أيضاً اختلاف الزمان والمكان (بدائع الصنائع جـ (9)) ولا تكاد هذه القواعد تختلف عما استقر عليه الفقه والقضاء في حق الدفاع الشرعي.  

وبينت المادة (35) حكم الضرورة، فنصت على أنه لا مسئولية على من ارتكب فعلاً دفعته إلى ارتكابه ضرورة الوقاية من خطر جسيم محدق به أو بالغير يصيب النفس أو العرض أو المال، إذا لم يكن هو قد تسبب فيه عمداً ولم يكن في استطاعته دفعه بوسيلة أخرى وبشرط أن يكون الفعل الذي ارتكبه متناسبا مع جسامة الخطر الذي توقاه ومع ذلك فإن الضرورة لا تجيز قتل النفس ، وفي هذه الحالة تراعى أحكام الدية المنصوص عليها في هذا القانون، ولا يعتبر في حالة ضرورة من أوجب عليه القانون مواجهة ذلك الخطر. 

ويلحق الفقه الإسلامي الضرورة بالإكراه من حيث الحكم، وإن اختلفت عن الإكراه في سبب الفعل، ففي الإكراه يدفع المكره إلى إتيان شخص آخر بأمره المكره بإتيان الفعل ويجبره على إتيانه، أما في حالة الضرورة فلا يدفع الفاعل إلى إتيان الفعل شخص آخر، وإنها يوجد الفاعل في ظروف يقتضيه الخروج منها أن يرتكب الفعل المحرم لينجي نفسه أو غيره من التهلكة، كمن يركب مع آخرين قارباً مملوءاً بالأمتعة يكاد يغرق لنقل حمولته، فإن نجاة الركاب تقتضي تخفيف حمولة القارب، وإلقاء بعض الأمتعة التي تثقله في الماء، ففي هذا المثال أدت حالة الضرورة إلى إتلاف الأمتعة في سبيل نجاة الركاب، والأساس الشرعي لحالة الضرورة هو نفس الأساس الذي يقوم عليه الإكراه، وهو الإكراه الذي بعدم الاختيار، فالمضطر حين يرتكب الجريمة لا يختار في الواقع، وإنما يضطر إلى إتيانها اضطراراً ، ومن المتفق عليه في الفقه أنه ليس للضرورة أثر على جرائم القتل ، فليس للمضطر بأي حال أن يقتل غيره حماية لنفسه من التهلكة، فإذا كانت جماعة وقارب مشرف على الغرق لنقل حمولته، فليس لأحدهم أن يلقي غيره في الماء ؛ ليخفف حمولة القارب، ولينجي نفسه وغيره من الهلكة ومع ذلك فإنه في حالة قتل النفس تراعى أحكام الدية المنصوص عليها في هذا القانون . 

مادة (230): 

مع مراعاة ما نص عليه هذا القانون من شروط خاصة للعقاب بالقصاص، يشترط للعقاب بالقصاص أو للحكم بالدية أن يكون المجني عليه معصوم الدم، ويعتبر غير معصوم الدم إذا تحققت في شأنه إحدى الحالات الآتية: 

الأولى: إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله قصاصاً، وكان الجاني من أولياء الدم. الثانية: إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله حداً. 

الثالثة: إذا كان حربياً غير مستأمن، والحربي هو غير المسلم التابع لدولة غير إسلامية بينها وبين دولة إسلامية حرب معلنة أو فعلية. 

ولا تخل أحكام الحالتين الأولى والثانية بمعاقبة الجاني بالعقوبة التعزيرية المقررة. 

الإيضاح 

ثمة شروط عامة يتعين توافرها - كأصل عام - للعقاب على جرائم الاعتداء على ما 

دون النفس التي تسري في شأنها أحكام المشروع، ونجمل هذه الشروط في: 

1- انتفاء أسباب الإباحة. 

2- أن يكون المجني عليه معصوم الدم. 

فأما عن أسباب الإباحة فقد أورد القانون هذه الأسباب في المواد من (14) إلى (16)، ومن (523) إلى (529) كممارسة الحق أو القيام بواجب، والدفاع المشروع والضرورة، والإكراه. 

وهذه الأسباب منضبطة، ومن السهل على القاضي تطبيقها، ولا تعدم في الأسس التي تقوم عليها سندا من الفقه الإسلامي في عمومه برحابته وتعدد الآراء فيه. 

ففيما يتعلق بممارسة الحق، فإن الشريعة تعطي (على سبيل المثال) الأب ولاية التأديب بالنسبة إلى أولاده الصغار الذين هم دون البلوغ، وللمعلم أياً كان - مدرساً أو معلم حرفة - تأديب الصغير، وللولي والوصي تأديب من تحت ولايته أو وصايته، وحق التأديب ممنوح لهؤلاء بشروط منها: أن يكون التأديب لذنب فعله الصغير، وأن يكون الضرب غير مبرح متناسبا مع حالة الصغير وسنه، وألا يكون على الوجه والمواضع المخوفة، وأن يكون بقصد التأديب، وألا يسرف فيه، فإذا وقع الضرب في هذه الحدود وترتب عليه أذى من أنواع الإيذاء التي نص عليها المشروع – فلا مسئولية على المؤدب؛ لأن الفعل مباح، وإنما ترتب المسئولية إذا انحرف المؤدب بحق التأديب، سواء كان هذا الانحراف مقصوداً، أو عن خطأ وإهمال، وتترتب المسئولية بحسب الجريمة التي يشكلها هذا الانحراف. 

ومن أمثلة أداء الواجب: قيام الطبيب بواجبه من جراحة ونحوها، وقيام الجندي بواجبه في الميدان، وقيام الموظف بأداء وظيفته، كل ذلك في إطار الحدود الشرعية المرسومة، فالشرطي الذي يضطر إلى ملاحقة اللص الهارب بإطلاق النار عليه فيلحق به أذى في جسمه رغم احتياطه، وقيامه بالواجب في الحدود المقررة - لا عقاب علیه طالما، تم إطلاق النار بقصد أداء الواجب. 

وأما الدفاع المشروع: فأصله مقرر في الشريعة تحت أحكام دفع الصائل، والأصل في دفع الصائل قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ

 ... (سورة البقرة، الآية: 195). ودفع الصائل مقرر في الشريعة؛ لدفع الاعتداء على النفس أو المال أو العرض، والشريعة تجيز دفع الصائل، ولو استلزم الأمر قتل المعتدي، طالما لم تكن هناك ثمة وسيلة لدفعه إلا بذلك، وعلى هذا، فإذا استلزم دفع المعتدي إيذاءه بأي من أنواع الإيذاء المنصوص عليها في المشروع، فلا يكون في ذلك جريمة، وإنما هو فعل مباح. 

على أنه يشترط لإباحة الفعل بسبب دفع الصائل أن يكون الاعتداء حالا، وألا يمكن 

دفعه بطريق آخر غير ما وقع، وأن يدفع الاعتداء بالقدر اللازم لدفعه فقط. 

وأما إباحة الفعل للضرورة فاصله في الشريعة - بوجه عام - قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ (الأنعام، الآية: 119)، وقوله:فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( البقرة، الآية: 173). 

فمن أكره على الفعل إكراهاً تماماً ملجئاً، يعتبر في حالة ضرورة في منطق الرأي القائل برفع العقوبة عن المكره (بفتح الراء). وكذلك الجائع المشرف على الهلاك في الصحراء إذا منعه الطعام من وجد عنده، ولم يكن ثمة وسيلة للحصول على الطعام إلا بالإقدام على فعل يتضمن إيذاء مانع الطعام. 

ومن الشروط الأساسية للضرورة أن يكون الشخص في حالة إرغام تام على ارتكاب الفعل، وألا يكون ثمة وسيلة للخروج من حالة الضرورة إلا بما أتاه من فعل، وأن يكون الفعل بالقدر اللازم لدفع الضرورة فقط. 

 

كذلك تعتبر إباحة الفعل دفاعا عن النفس أو العرض أو المال من تطبيقات الضرورة بوجه عام؛ لأن الفاعل في هذه الصور يجد نفسه مضطراً إلى الفعل، لدفع الاعتداء، طالما أنه لم يتسن دفعه بأية وسيلة أخرى على ما سلف بيانه عند تناول حكم دفع الصائل. 

(تراجع المادة (35) من هذا القانون ومذكرتها الإيضاحية). 

مبدأ المساواة في العقوبة: 

ومتى توافرت الشروط العامة للعقاب، فلا فرق بعد ذلك بين الذكر والأنثى في شريعة القصاص، وهذا قول عامة أهل العلم، ومنهم: النخعي، والشعبي، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأهل المدينة، والشافعي، وإسحاق، والحنفية، وغيرهم. وقد استدل ابن القيم على ذلك بها ثبت في الصحيحين من أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها - أي حلي -، فأخذ فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، وكذلك الشأن بالنسبة للخنثى؛ لأنه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى. 

ولا تفرقة بين الناس بسبب مناصبهم أو أوضاعهم، فهم جميعا أمام القصاص والدية سواء، فلا فرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، وصحيح وعليل. بل لقد أجمع الفقهاء على أن السلطان يجب عليه أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من الرعية؛ إذ ليس بينه وبين العامة فرق في أحكام الله تعالى، وورد في بعض الآثار المدونة أن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتص من نفسه (تبيين الحقائق للزيلعي الحنفي، المطبعة الأميرية 1315هـ الجزء السادس ص (102) إلى (105) - المغني ج (8) ص (261)). 

وأما بالنسبة إلى الشرط الذي يجب توافره في المجني عليه، وهو أن يكون معصوم الدم - فالمقصود به ألا يكون دمه مهدراً لأحد الأسباب الشرعية التي تجيز ذلك. 

وقد اعتبرت المادة (230) المجني عليه غير معصوم الدم، إذا تحققت في شأنه إحدى الحالات الآتية: 

الأولى: إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله قصاصاً، وكان الجاني من أولياء الدم. الثانية: إذا ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله حداً. 

الثالثة: إذا كان حربياً غير مستأمن. 

وقد آثر المشروع الأخذ برأي أبي يوسف ومحمد في خصوص اعتداء ولي دم القتيل على من ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله قصاصاً، متى وقع هذا الاعتداء على بدنه بما دون القتل، فقد جاء في بدائع الصنائع ج- (7) ص (304) ما نصه: «ولو كان له على رجل قصاص في النفس، فقطع يده، ثم عفا عن النفس، وبرأت اليد - ضمن دية اليد، في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: ومحمد لا ضمان عليه (وجه) قولهما أن نفس القاتل بالقتل، وصارت حقا لولي القتيل، والنفس اسم لجملة الأجزاء، فإذا قطع يده فقد استوفى حق نفسه، فلا يضمن، ولهذا لو قطع يده ثم قتله لا يجب عليه ضمان اليد، ولو لم تكن اليد حقه لوجب الضمان عليه، دل أنه بالقطع استوفي حق نفسه، فبعد ذلك إن عفا عن النفس، فالعفو ينصرف إلى القائم لا إلى المستوفي، كمن استوف بعض دينه ثم أبرأ الغريم أن الإبراء ينصرف إلى ما بقي لا إلى المستوفي، كذا هذا، وغني عن البيان أن من ارتكب جريمة توجب قتله قصاصاً مهدر الدم في حق أولياء دم القتيل فحسب، أما بالنسبة لمن سواهم من غير الأولياء فهو محقون الدم؛ إذ قد يعفو عنه الأولياء، ومن ثم فحكمه يختلف عمن ثبت ارتكابه جريمة توجب قتله حداً وعن الحربي؛ لأن كليهما مهدر الدم عند الشارع. 

ومثال من ارتكب جريمة توجب قتله حداً المرتد، فمن قطع يد مرتد لا يضمن وإن كان متعديا في القطع ( المرجع السابق ص (204)). والمحارب - وهو الذي يقطع الطريق على الناس - لو ارتكب جريمة قتل - مسلماً كان أو غير مسلم - فعقوبة المحارب في هذه الصورة هي قتله حدا بموجب أحكام الشريعة الإسلامية، ولذلك لا تكون لديه حصانة ولا يعاقب قاتله أو من اعتدى عليه باعتبار أنه ارتكب جريمة قتل أو اعتداء، وإنما يعاقب تعزیراً باعتباره متعدياً على حق السلطة العامة في إقامة الحدود؛ لأن إقامة الحدود لیست موکولة للأفراد، وإنها معقودة للسلطة العامة. ويلاحظ أن مناط انتفاء قيام جريمة الاعتداء على ما دون النفس - هو أن تثبت الجريمة الموجبة للقتل حداً قبل المجني عليه بالدليل الشرعي، أما إذا لم تثبت على هذا الوجه اعتبر المجني عليه معصوم الدم، وعوقب الجاني على الجريمة باعتبارها اعتداء على ما دون النفس. 

وقد عنيت هذه المادة بتحديد المقصود بالحربي؛ حتى لا تختلف الآراء في هذا الشأن، فنصت على أن الحربي: هو غير المسلم التابع لدولة غير إسلامية، بينها وبين دولة إسلامية حالة حرب معلنة أو فعلية. وغني عن البيان أن الحربي لا يعتبر غير معصوم الدم إلا إذا كان وجوده في الدولة غير مشروع، أما إذا لجأ للدولة مثلاً طالباً الأمان وأجابته الدولة إلى ذلك، كما إذا دخلها بمقتضى جواز سفر - فإنه مستأمن معصوم الدم (حاشية الدر المختار لابن عابدين الحنفي، مطبعة مصطفى الحلبي 1386/ 1966، الجزء الرابع ص (166))، وبهذه المناسبة تجدر الإشارة بصفة خاصة إلى أن كل كافر - عدا الحربي غير المستأمن - يعتبر معصوم الدم، وبذلك يعتبر الذمي معصوم الدم. 

ويلاحظ أنه إذا كان الاعتداء على غير معصوم الدم في الحالتين الأولى والثانية من هذه المادة - لا يوجب القصاص أو الدية، إلا أنه لا يمنع من المساءلة التعزيرية، وهذا ما تكفلت به الفقرة الأخيرة من هذه المادة، أما الحربي غير المستأمن فمباح الدم على الإطلاق بغير خلاف، وقيل: إنه أشبه بالخنزير ولا دية فيه لذلك ولا كفارة (المغني ج (8) ص (255)). 

مادة (231): 1- المجنون أو من به عاهة في العقل أو غير البالغ يعتبر عمده في حكم الخطأ، وتجب فيه الدية. 

مادة (232): 

1- مع عدم الإخلال بالدية تطبق على جرائم الاعتداء على ما دون النفس التي تقع من غير البالغ الأمارات الطبيعية - أحكام القانون رقم (31) لسنة 1974 بشأن الأحداث. 

2- ومع ذلك يجوز الحكم بالضرب بعصا رفيعة من خمس إلى ثلاثين، بدلاً من التدبير المقرر بقانون الأحداث أو بالإضافة إليه. 

الإيضاح 

إن الشريعة الإسلامية وإن اشترطت للقصاص أن يكون الجاني عاقلاً بالغاً کما سیلي بيان ذلك عند إيضاح أحكام القصاص، إلا أنها لم تشترط ذلك في خصوص الدية؛ لأن الدية ملحوظ فيها أنها حق للمجني عليه الذي لا شأن له بالظروف الخاصة بالفاعل، ولذلك فإذا كان الفاعل غير عاقل أو غير بالغ، فإن ذلك وإن منع عنه القصاص إلا أنه لا يمنع الدية، ونظراً لأن جمهور الفقهاء يذهب إلى أنه ليس للمجنون وللصبي قصد يعتد به، لذلك فإنهم اعتبروا الفعل الواقع من أيها في حكم الخطأ حتى ولو كان عمدا، وذلك فيها يتعلق بأحكام الدية فلم يوجبوها في ماله، وإنما أوجبوها على عاقلته، على ما سيبين فيها بعد. (المغني ج (8) ص (262)، (267)). 

على أن امتناع القصاص بالنسبة إلى الصغير لا يمنع من تأديبه عن الجرائم التي تقع منه على النحو الذي يتفق مع سنه ويتناسب مع جسامة الجريمة المنسوبة إليه، ومن المعلوم أن الصبي - وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية - يمر بمرحلتين:

الأولى: مرحلة عدم التمييز. وهي تبدأ من تاريخ ولادته حتى تمام السابعة. 

والثانية: مرحلة التمييز. وتبدأ من تمام السابعة حتى البلوغ. 

ومن المقرر أن الصبي في المرحلة الأولى غير مسئول جنائياً، أما في المرحلة الثانية - وهي مرحلة التمييز - فيجوز تعزيره عن الجرائم التي يرتكبها بأوجه التعزير المناسبة التي أوردتها نصوص القانون رقم (31) لسنة 1974 بشأن الأحداث، ولذا فقد أوردت الفقرة الأولى من هذه المادة حكماً عاماً يقضي بتطبيق أحكام قانون الأحداث على جرائم الاعتداء على ما دون النفس، التي تقع من غير البالغ مع عدم الإخلال بالدية، وذلك باعتبار أن هذه الأحكام لا تتعارض مع ما هو مقرر في الشريعة الغراء من مسئولية عقابية، وذلك حتى لا يترتب عليها أي أثر يلحق بسمعة الصغير أو مستقبله؛ حماية له ورعاية لظروفه؛ إذ إن مناط المسئولية الجنائية الكاملة في الإسلام هو البلوغ، ومن ثم لا يجوز أن تترتب على العقوبات التي تفرض تعزيراً على الصغير لتأديبه وتقويمه - الآثار التي تترتب على المسئولية الجنائية الكاملة، وإلا كان في ذلك إهدار للظروف المتعلقة بصغر السن وقصور التمييز. هذا، وقد أجازت الفقرة الثانية من المادة المذكورة الحكم بالضرب بعصاً رفيعة من خمس إلى ثلاثين، بدلاً من التدبير المقرر بقانون الأحداث أو بالإضافة إليه. 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثامن والعشرون ، الصفحة / 191

ضَرُورَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1 - الضَّرُورَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِضْطِرَارِ، وَالاِضْطِرَارُ: الاِحْتِيَاجُ الشَّدِيدُ . تَقُولُ: حَمَلَتْنِي الضَّرُورَةُ عَلَى كَذَا وَكَذَا، وَقَدِ اضْطُرَّ فُلاَنٌ إِلَى كَذَا وَكَذَا.

وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيِّ: بِأَنَّهَا النَّازِلُ مِمَّا لاَ مَدْفَعَ لَهُ .

وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: بُلُوغُ الإْنْسَانِ حَدًّا إِنْ لَمْ يَتَنَاوَلِ الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ، كَالْمُضْطَرِّ لِلأْكْلِ وَاللُّبْسِ بِحَيْثُ لَوْ بَقِيَ جَائِعًا أَوْ عُرْيَانًا لَمَاتَ، أَوْ تَلِفَ مِنْهُ عُضْوٌ، وَهَذَا يُبِيحُ تَنَاوُلَ الْمُحَرَّمِ .

 الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْحَاجَةُ:

2 - الْحَاجَةُ فِي اللُّغَةِ: تُطْلَقُ عَلَى الاِفْتِقَارِ، وَعَلَى مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ. 

وَاصْطِلاَحًا: هِيَ كَمَا عَرَّفَهَا الشَّاطِبِيُّ - مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ، وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي - فِي الْغَالِبِ - إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَلَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ .

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْحَاجَةُ كَالْجَائِعِ الَّذِي لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَأْكُلُ لَمْ يَهْلَكْ، غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ وَهَذَا لاَ يُبِيحُ الْمُحَرَّمَ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، أَنَّ الْحَاجَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ فَهِيَ دُونَ الضَّرُورَةِ، وَمَرْتَبَتُهَا أَدْنَى مِنْهَا وَلاَ يَتَأَتَّى بِفَقْدِهَا الْهَلاَكُ .

ب - الْحَرَجُ:

3 - الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الضِّيقِ، وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى كُلِّ مَا تَسَبَّبَ فِي الضِّيقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ وَاقِعًا عَلَى الْبَدَنِ أَمْ عَلَى النَّفْسِ أَمْ عَلَيْهِمَا مَعًا .

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ أَنَّ الضَّرُورَةَ هِيَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْحَرَجِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْفِيفِ .

ج - الْعُذْرُ:

4 - الْعُذْرُ نَوْعَانِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ. وَالْعُذْرُ الْعَامُّ: هُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَهُ الشَّخْصُ غَالِبًا فِي بَعْضِ الأْحْوَالِ كَفَقْدِ الْمَاءِ لِلْمُسَافِرِ، فَيَسْقُطُ قَضَاءُ الصَّلاَةِ، وَقَدْ يَكُونُ نَادِرًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَدُومَ كَالْحَدَثِ الدَّائِمِ وَالاِسْتِحَاضَةِ وَالسَّلَسِ وَنَحْوِهِ، فَيَسْقُطُ الْقَضَاءُ أَيْضًا، أَمَّا النَّادِرُ الَّذِي لاَ يَدُومُ وَلاَ بَدَلَ مَعَهُ كَفَقْدِ الطَّهُورَيْنِ وَنَحْوِهِ، فَيُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا الْعُذْرُ الْخَاصُّ: فَهُوَ مَا يَطْرَأُ لِلإْنْسَانِ أَحْيَانًا، كَالاِنْشِغَالِ بِأَمْرٍ مَا عَنْ أَدَاءِ الصَّلاَةِ، فَهَذَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ .

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَبَيْنَ الْعُذْرِ أَنَّ الْعُذْرَ نَوْعٌ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُخَفَّفَةِ لِلأْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الضَّرُورَةِ.

د - الْجَائِحَةُ.

5 - الْجَائِحَةُ فِي اللُّغَةِ: الشِّدَّةُ، تَجْتَاحُ الْمَالَ مِنْ سَنَةً أَوْ فِتْنَةٍ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَوْحِ بِمَعْنَى الاِسْتِئْصَالِ وَالْهَلاَكِ، يُقَالُ: جَاحَتْهُمْ الْجَائِحَةُ وَاجْتَاحَتْهُمْ، وَجَاحَ اللَّهُ مَالَهُ وَأَجَاحَهُ بِمَعْنًى: أَيْ أَهْلَكَهُ بِالْجَائِحَةِ .

وَالْجَائِحَةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلضَّرُورَةِ.

هـ - الإْكْرَاهُ:

6 - الإْكْرَاهُ لُغَةً: حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى شَيْءٍ لاَ يَرْضَاهُ، يُقَالُ: أَكْرَهْتُ فُلاَنًا إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَى مَا لاَ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَعَرَّفَهُ الْبَزْدَوِيُّ بِأَنَّهُ: حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِلُ عَلَى إِيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ.

(ر: إِكْرَاهٌ ف 1).

وَقَدْ يُؤَدِّي الإْكْرَاهُ إِلَى الضَّرُورَةِ كَالإْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ.

الأْدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ فِي الأْحْكَامِ:

7 - الأْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ نَوْعَانِ: أَحْكَامٌ كُلِّيَّةٌ شُرِعَتِ ابْتِدَاءً، وَلاَ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُكَلَّفُونَ دُونَ بَعْضٍ، وَلاَ بِبَعْضِ الأْحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ.

وَأَحْكَامٌ شُرِعَتْ لِعُذْرٍ شَاقٍّ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مَعَ الاِقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ .

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَمَلِ بِالأْحْكَامِ الاِسْتِثْنَائِيَّةِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ، وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ بِمَبْدَأَيِ الْيُسْرِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ اللَّذَيْنِ هُمَا صِفَتَانِ أَسَاسِيَّتَانِ فِي دِينِ الإْسْلاَمِ وَشَرِيعَتِهِ.

أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَفِيهِ عِدَّةُ آيَاتٍ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ وَاعْتِبَارِهَا فِي الأْحْكَامِ.

مِنْهَا قوله تعالى: ) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وقوله تعالى: ) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) .

فَهَاتَانِ الآْيَتَانِ، وَغَيْرُهُمَا تُبَيِّنُ تَحْرِيمَ تَنَاوُلِ مَطْعُومَاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَالْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ اسْتِثْنَاءَ حَالَةِ الضَّرُورَةِ حِفَاظًا عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْهَلاَكِ، وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّحْرِيمِ - كَمَا قَالَ الْبَزْدَوِيُّ - إِبَاحَةٌ، إِذِ الْكَلاَمُ صَارَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ . 

وَأَمَّا الأْحَادِيثُ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا.

مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ فَمَتَى يَحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةُ؟ قَالَ: إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا، وَلَمْ تَغْتَبِقُوا، وَلَمْ تَحْتَفِئُوا، فَشَأْنُكُمْ بِهَا» .

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ كَانُوا بِالْحَرَّةِ مُحْتَاجِينَ قَالَ: فَمَاتَتْ عِنْدَهُمْ نَاقَةٌ لَهُمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، فَرَخَّصَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْلِهَا، قَالَ: فَعَصَمَتْهُمْ بَقِيَّةَ شِتَائِهِمْ أَوْ سَنَتِهِمْ» .

وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَكْفِيهِ.

8 - شُرُوطُ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ:

يُشْتَرَطُ لِلأْخْذِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ مَا يَلِي:

أ - أَنْ تَكُونَ الضَّرُورَةُ قَائِمَةً لاَ مُنْتَظَرَةً، وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الرُّخَصِ مِنْهَا:

يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِتَحَقُّقِ الإْكْرَاهِ خَوْفَ الْمُكْرَهِ إِيقَاعَ مَا هُدِّدَ بِهِ فِي الْحَالِ بِغَلَبَةِ ظَنِّهِ  وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَقَوْلُ الْمُكْرِهِ «لأَقْتُلَنَّكَ غَدًا» لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ .

قَالَ الشَّيْخُ عَمِيرَةُ: لَوْ كَانَتِ الْحَاجَةُ غَيْرَ نَاجِزَةٍ فَهَلْ يَجُوزُ الأْخْذُ لِمَا عَسَاهُ يَطْرَأُ؟ الظَّاهِرُ لاَ، كَاقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِمَا عَسَاهُ يَكُونُ مِنَ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ .

يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ: الصَّوَابُ الْوُقُوفُ مَعَ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، إِلاَّ فِي الْمَشَقَّةِ الْمُخِلَّةِ الْفَادِحَةِ فَإِنَّ الصَّبْرَ أَوْلَى، مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى دَخْلٍ فِي عَقْلِ الإْنْسَانِ أَوْ دِينِهِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى الصَّبْرِ، لأِنَّهُ لاَ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ إِلاَّ مَنْ يُطِيقُهُ، فَأَنْتَ تَرَى بِالاِسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ لاَ يَلْحَقُ بِهَا تَوَهُّمُهَا، بَلْ حُكْمُهَا أَخَفُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأْحْوَالِ فَإِذًا: لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ بِحَقِيقِيَّةٍ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْعِلَّةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلرُّخْصَةِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ كَانَ الْحُكْمُ غَيْرَ لاَزِمٍ .

ب - أَلاَّ يَكُونَ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَسِيلَةٌ أُخْرَى إِلاَّ مُخَالَفَةُ الأْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ) وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) . مَعْنَى الضَّرُورَةِ - هُنَا -: هُوَ خَوْفُ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الأْكْلَ وَقَدِ انْطَوَى تَحْتَهُ مَعْنَيَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَجِدُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا، وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفَ بَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَكِلاَ الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِالآْيَةِ عِنْدَنَا .

ج - يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ مُرَاعَاةُ قَدْرِ الضَّرُورَةِ، لأِنَّ مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَتَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الأْصْلِ قَرَّرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لاَ يَأْكُلُ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ .

د - يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يُرَاعِيَ عِنْدَ دَفْعِ الضَّرُورَةِ مَبْدَأَ دَرْءِ الأْفْسَدِ فَالأْفْسَدِ، وَالأْرْذَلِ فَالأْرْذَلِ، فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِحَيْثُ لَوِ امْتَنَعَ مِنْهُ قُتِلَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْرَأَ مَفْسَدَةَ الْقَتْلِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ، لأِنَّ صَبْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأْسْبَابِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ دَرْءُ الْقَتْلِ بِالصَّبْرِ، لإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ، وَاخْتِلاَفِهِمْ فِي الاِسْتِسْلاَمِ لِلْقَتْلِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ الْمُجْمَعِ عَلَى وُجُوبِ دَرْئِهَا عَلَى دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي وُجُوبِ دَرْئِهَا .

هـ - أَلاَّ يَقْدَمَ الْمُضْطَرُّ عَلَى فِعْلٍ لاَ يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ بِحَالٍ .

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الإْكْرَاهُ عَلَى الْمَعَاصِي أَنْوَاعٌ:

نَوْعٌ يُرَخَّصُ لَهُ فِعْلُهُ وَيُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ، كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَشَتْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَرْكِ الصَّلاَةِ، وَكُلُّ مَا يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ.

وَنَوْعٌ يَحْرُمُ فِعْلُهُ وَيَأْثَمُ بِإِتْيَانِهِ كَالزِّنَى وَقَتْلِ مُسْلِمٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوِهِ، أَوْ ضَرْبِهِ ضَرْبًا مُتْلِفًا، أَوْ شَتْمِهِ أَوْ أَذِيَّتِهِ .

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ وَالأْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا (ر: مُصْطَلَح: رُخْصَة).

9 - حَالاَتُ الضَّرُورَةِ:

بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ

 أَهَمَّ حَالاَتِ الضَّرُورَةِ ما يلي: -

1 - الاِضْطِرَارِ إِلَى تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ.

2 - الاِضْطِرَارِ إِلَى النَّظَرِ وَاللَّمْسِ لِلتَّدَاوِي.

3 - الاِضْطِرَارِ إِلَى إِتْلاَفِ نَفْسٍ أَوْ فِعْلِ فَاحِشَةٍ.

4 - الاِضْطِرَارِ إِلَى أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ وَإِتْلاَفِهِ.

5 - الاِضْطِرَارِ إِلَى قَوْلِ الْبَاطِلِ .

10 - الْحَالَةُ الأْولَى:

الاِضْطِرَارُ إِلَى تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ:

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُضْطَرِّ . لِلأْدِلَّةِ السَّابِقَةِ.

إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقْصُودِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ، وَمِقْدَارِ مَا يَأْكُلُهُ الْمُضْطَرُّ مِنَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، وَتَفْصِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي تُبِيحُهَا الضَّرُورَةُ وَتَرْتِيبِهَا عِنْدَ التَّعَدُّدِ، وَأَثَرِ الضَّرُورَةِ فِي رَفْعِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْخِلاَفِيَّةِ:

أ - الْمَيْتَةُ:

إِذَا كَانَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الاِضْطِرَارُ بِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فِي مَخْمَصَةٍ، أَوْ بِإِكْرَاهٍ مِنْ ظَالِمٍ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهَا أَمْ يَجُوزُ لَهُ الاِمْتِنَاعُ مِنَ الأْكْلِ حَتَّى يَمُوتَ؟.

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ - وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - إِلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ .

وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي يَخَافُ الْهَلاَكَ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ إِذَا وَجَدَ مَيْتَةً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ دَمًا فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ آثِمًا  قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ) وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )  وَلاَ شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يَمُوتَ يُعْتَبَرُ قَاتِلاً لِنَفْسِهِ مُلْقِيًا بِهَا إِلَى التَّهْلُكَةِ، لأِنَّ الْكَفَّ عَنِ التَّنَاوُلِ فِعْلٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الإْنْسَانِ، وَلأِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حَلاَلٌ .

وَقَالَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - فِي وَجْهٍ - وَأَبُو يُوسُفَ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - إِنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ، فَلَوِ امْتَنَعَ عَنِ التَّنَاوُلِ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَمَاتَ. «فَلاَ إِثْمَ وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» أَنَّ طَاغِيَةَ الرُّومِ حَبَسَهُ فِي بِيَعٍ، وَجَعَلَ مَعَهُ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِمَاءٍ وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٍّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، حَتَّى مَالَ رَأْسُهُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَخَشُوا مَوْتَهُ، فَأَخْرَجُوهُ فَقَالَ: قَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي لأِنِّي مُضْطَرٌّ وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لأِشْمِتَكَ بِدِينِ الإْسْلاَمِ .

وَلأِنَّ إِبَاحَةَ الأْكْلِ رُخْصَةٌ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الرُّخَصِ، وَلأِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَالأْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَفَارَقَ الْحَلاَلَ فِي الأْصْلِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ .

مِقْدَارُ مَا يَأْكُلُهُ الْمُضْطَرُّ مِنَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ أَكْلُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الشِّبَعِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ - وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لاَ يَأْكُلُ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ، وَلاَ يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ، لأِنَّ آيَةَ: ) فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ )  دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَاسْتَثْنَتْ مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ، فَإِذَا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الأْكْلُ لِلآْيَةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ كَحَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُضْطَرَّ، وَثَمَّ لَمْ يُبَحْ لَهُ الأْكْلُ كَذَا هَاهُنَا .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ لإِطْلاَقِ الآْيَةِ، وَلِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ «أَنَّ رَجُلاً نَزَلَ الْحَرَّةَ فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: 

اسْلُخْهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ، فَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَكُلُوهَا»  وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلأِنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ، وَلأِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا، وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ إِلَى حَالَةِ وُجُودِهِ حَتَّى يَجِدَ .

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الزَّوَالِ، فَمَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً كَحَالَةِ الأْعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَازَ الشِّبَعُ، لأِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ عَادَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ، وَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْبُعْدِ مَخَافَةَ الضَّرُورَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَيُفْضِي إِلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَلَفِهِ، بِخِلاَفِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَمِرَّةً فَإِنَّهُ يَرْجُو الْغِنَى عَنْهَا بِمَا يَحِلُّ .

ب - ذَبْحُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ لِلضَّرُورَةِ:

كُلُّ حَيَوَانٍ حَيٍّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لاَ تُؤْكَلُ يَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ قَتْلُهُ بِذَبْحٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَبْحٍ، لِلتَّوَصُّلِ إِلَى أَكْلِهِ.

قَالَ الْجَصَّاصُ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لآِيَاتِ الضَّرُورَةِ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الضَّرُورَةَ فِي هَذِهِ الآْيَاتِ، وَأَطْلَقَ الإْبَاحَةَ فِي بَعْضِهَا، لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلاَ صِفَةٍ، وَهُوَ قوله تعالى ) وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ )  فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُودَ الإْبَاحَةِ بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ فِي كُلِّ حَالٍ وُجِدَتِ الضَّرُورَةُ فِيهَا .

ج - تَنَاوُلُ مَا حُرِّمَ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ:

تَنَاوُلُ مَا حُرِّمَ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا حُرِّمَ لِكَوْنِهِ يَقْتُلُ الإْنْسَانَ إِذَا تَنَاوَلَهُ كَالسُّمُومِ، فَإِنَّهُ لاَ تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ، لأِنَّ تَنَاوُلَهُ اسْتِعْجَالٌ لِلْمَوْتِ، وَقَتْلٌ لِلنَّفْسِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.

وَالآْخَرُ: مَا حُرِّمَ لِنَجَاسَتِهِ وَيُمَثِّلُ لَهُ الْفُقَهَاءُ بِالتِّرْيَاقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى خَمْرٍ وَلُحُومِ حَيَّاتٍ: (ر: سُمٌّ).

د - شُرْبُ الْخَمْرِ لِضَرُورَةِ الْعَطَشِ وَالْغَصَصِ:

يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ شُرْبُ الْخَمْرِ إِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا لإِسَاغَةِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَيَرَى ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ ضَرُورَةَ الْغَصَصِ تَدْرَأُ الْحَدَّ وَلاَ تَمْنَعُ الْحُرْمَةَ .

وَأَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلأْصَحِّ أَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْعَطَشِ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ كَمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ شُرْبِ الْخَمْرِ لِضَرُورَةِ الْعَطَشِ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ تَرُدُّ ذَلِكَ الْعَطَشَ .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ - إِلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ .

هـ - تَنَاوُلُ الْمُضْطَرِّ لَحْمَ إِنْسَانٍ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ آدَمِيًّا حَيًّا مَحْقُونَ الدَّمِ لَمْ يُبَحْ لَهُ قَتْلُهُ، وَلاَ إِتْلاَفُ عُضْوٍ مِنْهُ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، لأِنَّهُ مِثْلُهُ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبْقِيَ نَفْسَهُ بِإِتْلاَفِهِ . 

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَجَدَ آدَمِيًّا مَعْصُومًا، مَيِّتًا فَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ وَأَشْهَرِهِمَا أَكْلَهُ، لأِنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَعْظَمُ .

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي وَجْهٍ - أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَيْسَ لَهُ أَكْلُ ابْنِ آدَمَ وَلَوْ مَاتَ  لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ جَوَّزْنَا الأْكْلَ مِنَ الآْدَمِيِّ الْمَيِّتِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ بِلاَ خِلاَفٍ، حِفْظًا لِلْحُرْمَتَيْنِ.

قَالَ: لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ طَبْخُهُ وَشَيُّهُ، بَلْ يَأْكُلُهُ نِيئًا، لأِنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِذَلِكَ، وَفِي طَبْخِهِ هَتْكٌ لِحُرْمَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ الإْقْدَامُ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ سَائِرِ الْمَيْتَاتِ، فَإِنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَهَا نِيِّئَةً وَمَطْبُوخَةً .

11 - تَرْتِيبُ الْمُحَرَّمَاتِ:

إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً - وَنَحْوَهَا - مِنْ مَحْظُورَاتِ الأْطْعِمَةِ وَالأْشْرِبَةِ وَوَجَدَ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا لِلْغَيْرِ فَأَيُّهُمَا يَأْخُذُهُ؟ 

ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُلُ طَعَامِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، لأِنَّ إِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ بِالنَّصِّ، وَإِبَاحَةَ مَالِ الْغَيْرِ بِالاِجْتِهَادِ، وَالنَّصُّ أَقْوَى، وَلأِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَحُقُوقَ الآْدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالتَّضْيِيقِ، وَلأِنَّ حَقَّ الآْدَمِيِّ تَلْزَمُهُ غَرَامَتُهُ وَحَقَّ اللَّهِ لاَ عِوَضَ لَهُ .

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ مَنْ وَجَدَ طَعَامَ الْغَيْرِ لاَ تُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ، لأِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلاَلِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ .

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ تَقْدِيمَ طَعَامِ الْغَيْرِ عَلَى الْمَيْتَةِ نَدْبًا إِنْ لَمْ يَخَفِ الْقَطْعَ أَوِ الضَّرْبَ أَوِ الأْذَى وَإِلاَّ قَدَّمَ الْمَيْتَةَ .

وَرَوَى أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ: يَشْرَبُ الْمُضْطَرُّ الدَّمَ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلاَ يَقْرَبُ ضَوَالَّ الإْبِلِ - وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ - وَيَشْرَبُ الْبَوْلَ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، لأِنَّ الْخَمْرَ يَلْزَمُ فِيهَا الْحَدُّ فَهِيَ أَغْلَظُ .

وَالْمُضْطَرُّ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا وَوَجَدَ مَيْتَةً وَصَيْدًا حَيًّا صَادَهُ مُحْرِمٌ أَوْ أَعَانَ عَلَى صَيْدِهِ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَيْتَةَ عَلَى الصَّيْدِ الْحَيِّ الَّذِي صَادَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، بِهَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ .

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ يَأْكُلُ الصَّيْدَ وَيَفْدِيهِ، لأِنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُهُ، وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لاَ تَحِلُّ الْمَيْتَةُ لِغِنَاهُ عَنْهَا .

12 - أَثَرُ الضَّرُورَةِ فِي رَفْعِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:

قَالَ شَارِحُ أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، فَهَلْ تَصِيرُ مُبَاحَةً، أَوْ تَبْقَى عَلَى الْحُرْمَةِ وَيَرْتَفِعُ الإْثْمُ؟

فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لَكِنْ يُرَخَّصُ فِي الْفِعْلِ إِبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ كَمَا فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.

وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا (الْحَنَفِيَّةُ) إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .

ثُمَّ ذَكَرَ لِلْخِلاَفِ فَائِدَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: إِذَا صَبَرَ حَتَّى مَاتَ لاَ يَكُونُ آثِمًا عَلَى الأْوَّلِ بِخِلاَفِهِ عَلَى الآْخَرِ.

الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ حَرَامًا فَتَنَاوَلَهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الأْوَّلِ وَلاَ يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي .

وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: رُخْصَةٌ، وَالْمُلْحَقُ الأْصُولِيُّ).

13 - تَنَاوُلُ الْمُضْطَرِّ الْمَيْتَةَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ:

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ الأْكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ) فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ) قَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلاَ عَادٍ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا خَرَجَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَلاَ رُخْصَةَ لَهُ، فَإِنْ تَابَ وَأَقْلَعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ حَلَّ لَهُ الأْكْلُ .

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ - وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ.

وَلِلْعُلَمَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ حَوْلَ اسْتِبَاحَةِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ .

رُخَصُ السَّفَرِ يُنْظَرُ فِي: (سَفَرٌ / ف 10 - 15).

14 - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى النَّظَرِ وَاللَّمْسِ لِلتَّدَاوِي:

يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا لِضَرُورَةِ التَّدَاوِي .

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يُبَاحُ لِلطَّبِيبِ النَّظَرُ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ الأْجْنَبِيَّةِ مِنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ .

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَالنَّظَرُ وَاللَّمْسُ مُبَاحَانِ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلاَجٍ وَلَوْ فِي فَرْجٍ لِلْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى ذَلِكَ وَلأِنَّ فِي التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ حَرَجًا، فَلِلرَّجُلِ مُدَاوَاةُ الْمَرْأَةِ وَعَكْسُهُ وَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوِ امْرَأَةٍ .

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ جَوَازِ مُعَالَجَةِ الطَّبِيبِ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يُنْظَرُ: (عَوْرَةٌ). 

15 - الاِضْطِرَارُ إِلَى الْعِلاَجِ بِالنَّجِسِ وَالْمُحَرَّمِ:

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي وَجْهٍ - إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجِسِ  لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» .

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ الاِسْتِشْفَاءِ بِالْحَرَامِ عِنْدَ تَيَقُّنِ حُصُولِ الشِّفَاءِ فِيهِ، كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَالْخَمْرِ عِنْدَ الْعَطَشِ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ، وَلاَ يُجِيزُونَ الاِسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ الَّذِي لاَ يُتَيَقَّنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهِ .

وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ تَيَقُّنَ حُصُولِ الشِّفَاءِ فِيهِ وَعَدَمَ وُجُودِ دَوَاءٍ غَيْرِهِ .

وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْخَمْرِ، سَوَاءٌ فِيهِ جَمِيعُ النَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْمُسْكِرِ .

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجِسِ وَحُكْمِ التَّدَاوِي بِهِ لِتَعْجِيلِ الشِّفَاءِ: (ر: تَدَاوِي).

16 - الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى إِتْلاَفِ النَّفْسِ أَوِ ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ:

الْقَتْلُ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإْكْرَاهِ:

وَتَحْتَهُ صُورَتَانِ:

الأْولَى: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَأْتِي فِي الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ،

وَالأْخْرَى: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَتْلِ غَيْرِهِ وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:

أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الإْقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلاَ انْتِهَاكُ حُرْمَتِهِ بِجَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَصْبِرُ عَلَى الْبَلاَءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَسْأَلَ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ .

قَالَ الصَّاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَوْ قَالَ لَكَ ظَالِمٌ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْ فُلاَنًا أَوْ تَقْطَعْهُ قَتَلْتُكَ، فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَرْضَى بِقَتْلِ نَفْسِهِ وَيَصْبِرَ .

وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ وُقُوعِ الْقَتْلِ، أَوْ قَطْعِ الْعُضْوِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإْكْرَاهِ يُنْظَرُ فِي: (إِكْرَاهٌ، وَقِصَاصٌ).

الْقَتْلُ لِضَرُورَةِ الدِّفَاعِ:

إِذَا صَالَ صَائِلٌ عَلَى إِنْسَانٍ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ  وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا وُجُوبَ دَفْعِ الصَّائِلِ بِمَا إِذَا كَانَ الصَّائِلُ كَافِرًا أَوْ بَهِيمَةً .

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ - أَنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّائِلِ .

وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: صِيَالٌ).

الزِّنَى تَحْتَ تَأْثِيرِ الإْكْرَاهِ:

يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الزِّنَى لاَ يُبَاحُ وَلاَ يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ بِالإْكْرَاهِ وَإِنْ كَانَ تَامًّا، وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِكْرَاه وَزِنًى).

17 - الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ وَإِتْلاَفِهِ:

إِذَا اضْطُرَّ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ طَعَامًا لِغَيْرِهِ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لأِحَدٍ أَخْذُهُ مِنْهُ، لأِنَّهُ سَاوَاهُ فِي الضَّرُورَةِ وَانْفَرَدَ بِالْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ حَالِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَمَاتَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، لأِنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ، لأِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْيَاءُ نَفْسِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ فَلَزِمَهُ بِذَلِكَ، كَمَا يَلْزَمُهُ بَذْلُ مَنَافِعِهِ وَإِنْجَاؤُهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرِيقِ، لأِنَّ الاِمْتِنَاعَ عَنْ بَذْلِهِ إِعَانَةٌ عَلَى قَتْلِ الْمُضْطَرِّ  وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» .

فَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ فَلِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ مِنْهُ، لأِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ دُونَ مَالِكِهِ، فَجَازَ لَهُ أَخْذُهُ كَغَيْرِ مَالِهِ، فَإِنِ احْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى قِتَالٍ فَلَهُ الْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُتِلَ الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ وَعَلَى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ آلَ أَخْذُهُ إِلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ فَهُوَ هَدْرٌ، لأِنَّهُ ظَالِمٌ بِقِتَالِهِ فَأَشْبَهَ الصَّائِلَ، إِلاَّ أَنْ يُمْكِنَ أَخْذُهُ بِشِرَاءٍ أَوِ اسْتِرْضَاءٍ فَلَيْسَ لَهُ الْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، لإِِمْكَانِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ دُونَهَا .

وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي أَثَرِ الاِضْطِرَارِ فِي إِبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ يُنْظَرُ فِي: (إِتْلاَفٌ، وَضَمَانٌ).

إِتْلاَفُ مَالِ الْغَيْرِ لِضَرُورَةِ إِنْقَاذِ السَّفِينَةِ:

إِذَا أَشْرَفَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْغَرَقِ جَازَ إِلْقَاءُ بَعْضِ أَمْتِعَتِهَا فِي الْبَحْرِ، وَيَجِبُ الإِْلْقَاءُ رَجَاءَ نَجَاةِ الرَّاكِبِينَ إِذَا خِيفَ الْهَلاَكُ، وَيَجِبُ إِلْقَاءُ مَا لاَ رُوحَ فِيهِ، لِتَخْلِيصِ ذِي الرُّوحِ، وَلاَ يَجُوزُ إِلْقَاءُ الدَّوَابِّ إِذَا أَمْكَنَ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَإِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِلْقَاءِ الدَّوَابِّ أُلْقِيَتْ لإِنْقَاذِ الآْدَمِيِّينَ، وَالْعَبِيدُ فِي ذَلِكَ كَالأْحْرَارِ، وَلاَ سَبِيلَ لِطَرْحِ الآْدَمِيِّ بِحَالٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا .

إِتْلاَفُ مَالِ الْغَيْرِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإْكْرَاهِ:

مَنْ أُكْرِهَ عَلَى إِتْلاَفِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ .

وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُنْظَرُ فِي: (إِكْرَاهٌ، وَضَمَانٌ).

18 - الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَوْلِ الْبَاطِلِ:

النُّطْقُ بِالْكُفْرِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإْكْرَاهِ:

مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى خَشَى عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْلَ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإْيمَانِ، وَلاَ تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ، وَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا .

وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: رُخْصَةٌ ف 13، وَإِكْرَاهٌ ف 24) 

الاِضْطِرَارُ إِلَى الْكَذِبِ:

يَحِلُّ الْكَذِبُ فِي أُمُورٍ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، فَفِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُولُ خَيْرًا وَيُنْمِي خَيْرًا» .

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ - أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ -: «وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: الْحَرْبُ وَالإْصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا».

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَذِبَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ وَيُثَابُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَلَى قَدْرِ رُتْبَةِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الْوُجُوبِ فِي حِفْظِ الأْمْوَالِ وَالأْبْضَاعِ وَالأْرْوَاحِ .

الاِضْطِرَارُ إِلَى التَّقِيَّةِ:

تَجُوزُ التَّقِيَّةُ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ إِلَيْهَا دَفْعًا لِتَلَفِ النَّفْسِ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ.

قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لاَ بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ التَّقِيَّةِ وَإِنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ مَا هُوَ فَرْضٌ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ .

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْعَمَلِ بِالتَّقِيَّةِ: (ر: تَقِيَّةٌ فِقْرَةُ 5).

19 - الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ النَّاظِمَةُ لأِحْكَامِ الضَّرُورَةِ:

وَضَعَ الْفُقَهَاءُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ لِضَبْطِ أَحْكَامِ الضَّرُورَةِ، وَتَوْضِيحِ مَعَالِمِهَا الْعَامَّةِ وَتَنْظِيمِ آثَارِهَا، وَأَهَمُّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ هِيَ:

الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ .

الأْصْلُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قوله تعالى: ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )  وقوله تعالى: ) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )  وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ.

هَذَا وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَعَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى . قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ النَّصِّ بِخِلاَفِهِ فَلاَ .

وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الأْسْبَابِ وَضَوَابِطِ الْمَشَقَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي التَّخْفِيفِ: (ر: تَيْسِيرٌ. فِقْرَةُ 32 - 41).

إِذَا ضَاقَ الأْمْرُ اتَّسَعَ:

هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَيْنَهُمَا تَقَارُبٌ فِي الْمَآلِ، وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَتْ مَشَقَّةٌ فِي أَمْرٍ يُرَخَّصُ فِيهِ وَيُوَسَّعُ.

وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:

أ - شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي لاَ يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ دَفْعًا لِحَرَجِ ضَيَاعِ الْحُقُوقِ.

ب - قَبُولُ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلاَدَةِ ضَرُورَةَ حِفْظِ الْوَلَدِ وَنَسَبِهِ.

ح - إِبَاحَةُ خُرُوجِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ بَيْتِهَا أَيَّامَ عِدَّتِهَا إِذَا اضْطُرَّتْ لِلاِكْتِسَابِ .

الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ:

قَاعِدَةٌ أُصُولِيَّةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّصِّ وَهُوَ قوله تعالى: ) إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ )  وَالاِضْطِرَارُ: الْحَاجَةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْمَحْظُورُ الْمَنْهِيُّ عَنْ فِعْلِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَمْنُوعَ شَرْعًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ .

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَتَعَلَّقُ أَصْلاً بِقَاعِدَةِ (الضَّرَرُ يُزَالُ) وَمِنْ فُرُوعِهَا: جَوَازُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا:

مَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ فَالتَّجْوِيزُ عَلَى قَدْرِهَا وَلاَ يَتَجَاوَزُ عَنْهَا .

وَمِنْ فُرُوعِهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ حَالَ الْحَرْبِ إِذَا تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ بَأْسَ بِالرَّمْيِ عَلَيْهِمْ لِضَرُورَةِ إِقَامَةِ فَرْضِ الْجِهَادِ، لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْكُفَّارَ دُونَ الأْطْفَالِ، وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ: (ر: دِيَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ).

مَا جَازَ لِعُذْرٍ بَطَلَ بِزَوَالِهِ:

هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُكَمِّلَةٌ لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ، فَالْقَاعِدَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ يُعْمَلُ بِهَا أَثْنَاءَ قِيَامِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُبَيِّنُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ بَعْدَ زَوَالِ حَالِ الضَّرُورَةِ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ مَا جَازَ فِعْلُهُ بِسَبَبِ عُذْرٍ مِنَ الأْعْذَارِ، أَوْ عَارِضٍ طَارِئٍ مِنَ الْعَوَارِضِ فَإِنَّهُ تَزُولُ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِزَوَالِ حَالِ الْعُذْرِ، لأِنَّ جَوَازَهُ لَمَّا كَانَ بِسَبَبِ الْعُذْرِ فَهُوَ خَلَفٌ عَنِ الأْصْلِ الْمُتَعَذِّرِ، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالأْصْلِ، فَلَوْ جَازَ الْعَمَلُ بِالْخَلَفِ - أَيْضًا - لَلَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالأْصْلِ فَلاَ يَجُوزُ كَمَا لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ .

الاِضْطِرَارُ لاَ يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ:

الاِضْطِرَارُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَقْتَضِي تَغْيِيرَ الْحُكْمِ مِنَ الْحُرْمَةِ إِلَى الإْبَاحَةِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَفِي بَعْضِهَا التَّرْخِيصُ فِي فِعْلِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْحُرْمَةِ - كَكَلِمَةِ الْكُفْرِ - إِلاَّ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لاَ يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ، وَإِلاَّ لَكَانَ مِنْ قَبِيلِ إِزَالَةِ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ.

وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ لَوْ اضْطُرَّ إِنْسَانٌ بِسَبَبِ الْجُوعِ فَأَكَلَ طَعَامَ آخَرَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ فِي الْقِيمِيَّاتِ وَمِثْلَهُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ .

وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: إِتْلاَفٌ وَضَمَانٌ).

حَالُ الضَّرُورَةِ:

122 - الضَّرُورَةُ: نَازِلَةٌ لاَ مَدْفَعَ لَهَا، أَوْ كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الأُْصُولِ: نَازِلَةٌ لاَ مَدْفَعَ لَهَا إِلاَّ بِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ يُبَاحُ فِعْلُهُ لأِجْلِهَا.

وَمِنَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي أَحْوَالِ الضَّرُورَةِ:

1 - حَرِيقٌ وَقَعَ فِي مَحَلَّةٍ، فَهَدَمَ رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ، بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ، وَبِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَ السُّلْطَانِ، حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْ دَارِهِ، ضَمِنَ وَلَمْ يَأْثَمْ.

قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ لاَ يَضْمَنُ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ لَهُ وِلاَيَةً عَامَّةً، يَصِحُّ أَمْرُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ. وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْخَانِيَّةِ .

2 - يَجُوزُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ كَمَا يَجُوزُ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ مَعَ ضَمَانِ الْبَدَلِ إِذَا اضْطُرَّ .

3 - لَوِ ابْتَلَعَتْ دَجَاجَةٌ لُؤْلُؤَةً، يُنْظَرُ إِلَى أَكْثَرِهِمَا قِيمَةً، فَيَضْمَنُ صَاحِبُ الأْكْثَرِ قِيمَةَ الأْقَلِّ .

4 - إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الإْجَارَةِ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، لَمْ يُحْصَدْ بَعْدُ، فَإِنَّهُ يُتْرَكُ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَى، بِأَجْرِ الْمِثْلِ إِلَى إِدْرَاكِهِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، لأِنَّ  لَهُ نِهَايَةً .