loading

موسوعة قانون العقوبات​

المذكرة الإيضاحية

نصت المادة 43 من الدستور على أن ( الملك ) له الحق في العفو وتخفيض العقوبة.

ونصت المادة 152 منه على إن العفو الشامل لا يكون إلا بقانون فلا حاجة إلى النص على ذلك في قانون العقوبات .

ولذا اقتصر المشروع في هذا الباب على بيان الآثار المترتبة على كل منهما .

الأحكام

1-المراقبة التى فرضها الشارع فى المادة 28 من قانون العقوبات و ما نص عليه منها فى الفقرة الثانية من المادة 75 من هذا القانون تندرجان تحت وصف واحد هو أن كلاً منهما عقوبة تبعية مصدرها القانون ، و لا تحتاج فى توقيعها إلى حكم القضاء إلا أنهما ما زالتا تختلفان فى السبب الذى جعله الشارع أساساً لتوقيع كل منهما . ذلك بأن المراقبة المفروضة بالمادة 28 إنما يتحملها المحكوم عليهم لجرائم معينة بالنص و لمدة مساوية لمدة العقوبة بدون أن تزيد على خمس سنين فى حين أن المراقبة المنصوص عليها فى الفقرة الثانية من المادة 75 لا تفرض إلا عند العفو عن محكوم عليه بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لأى جناية بغض النظر عن وصفها ، و ذلك عقب صدور الحكم بها أو فى أثناء تنفيذها و قد حدد الشارع أمدها بخمس سنين ما لم ينص أمر العفو على إنقاصها أو التجاوز عنها جملة .

(الطعن رقم 1410 لسنة 25 ق - جلسة 1956/03/13 س 7 ع 1 ص 324 ق 97)

2- ليست المحكمة ملزمة بتقصي أسباب إعفاء المتهم من العقاب فى حكمها إلا إذا دفع بذلك أمامها، فإذا هو لم يتمسك أمام المحكمة بقيام سبب من تلك الأسباب فلا يكون له أن ينعى على حكمها إغفاله التحدث عن ذلك.

(الطعن رقم 471 لسنة 20 ق - جلسة 1950/10/16 س 2 ع 1 ص 51 ق 22)

3- إن القانون رقم 241 لسنة 1952 الصادر بالعفو عن الجرائم السياسية قد عرف الجريمة السياسية بأنها هي التي تكون قد ارتكبت بسبب أو غرض سياسي، والمذكرة التفسيرية لهذا القانون قد أوضحت علته بقولها إن هذا النوع من الجرائم، الإجرام فيه نسبي لم تدفع إليه أنانية ولم يحركه غرض شخصي. فإذا كان الحكم المطعون فيه قد بنى قضاءه بقبول التظلم وإدراج اسم المطعون ضده بكشف من شملهم العفو طبقاً للقانون السالف الذكر على ما جاء بحكم محكمة الجنايات العسكرية العليا الصادر ضده من أن الحادث الذي وقع من المتظلم إنما كان رد فعل لما ارتكبته قوات الاحتلال فى منطقة القتال فى اليوم السابق مباشرة على اليوم الذي أرتكب فيه الحادث (تلاف مخزن خمور) من اعتداءات استشهد من جرائها كثير من جنود الأمن المصريين الذين كانوا يقومون بالدفاع عن النفس وعن أرض الوطن مما أثار سخط المصريين جميعاً، ولا شك أن هذا الباعث هو سياسي ولم يثبت أن المتظلم كان يرضي شهوة فى نفسه أو يرمي إلى مغنم شخصي - فهذا الحكم يكون على صواب فيما قضى به من قبول التظلم.

(الطعن رقم 4 لسنة 23 ق - جلسة 1953/07/07 س 4 ع 3 ص 1107 ق 375)

4- متى كان الإعتداء الذى وقع من الطاعن على المجنى عليه لا يرجع لسبب أو لغرض سياسى و إنما وقع لخصومة قديمة بينهما و كان الحكم قد نفى حصول تجمهر و قال إن المتهمين تجمعوا عرضاً على مقربة من منزل أحدهم بمناسبة عيد الأضحى و لم يكن تجمعهم فى ذلك المكان لغرض غير مشروع أو بقصد إرتكاب جريمة و كان الطاعن لم يستعمل حقه فى التظلم وفق أحكام المرسوم بقانون رقم 241 لسنة 1952 بشأن العفو الشامل - فلا محل لما يثيره الطاعن من إنطباق قانون العفو عليه . أما ما ينعاه على المحكمة من أنها أخطأت فى تأويل القانون المذكور حين إعتبرت جرائم الشروع فى القتل من الجرائم المستثناة التى لا يشملها العفو أسوة بجرائم القتل فإن هذا الخطأ فى التأويل لم يكن له أثر فى الحكم ما دام الثابت أن الجريمة على أية حال لا ينطبق عليها القانون لأنها لم ترتكب لغرض أو لسبب سياسى .

(الطعن رقم 443 لسنة 24 ق - جلسة 1954/05/10 س 5 ع 3 ص 604 ق 205)

5-إن المرسوم بقانون رقم 241 لسنة 1952 قد جرى فى المادة الأولى منه على "أن يعفي عفواً شاملاً عن الجنايات والجنح والشروع فيهما التي ارتكبت لغرض أو لسبب سياسي وتكون متعلقة بالشئون الداخلية للبلاد وذلك فى المدة من 26 أغسطس سنة 1936 إلى 23 يوليه سنة 1952 وتأخذ حكم الجريمة السابقة كل جريمة أخرى اقترنت بها أو تقدمتها أو تلتها وكان القصد منها التأهب لفعلها أو تسهيلها أو ارتكابها بالفعل أو مساعدة مرتكبيها أو شركائهم على الهرب والتخلص من العقوبة أو إيوائهم أو إخفاء أدلة الجريمة". وإذ كان مؤدى هذا النص أن الجرائم التي ارتكبت لسبب أو غرض سياسي هي التي تستهدف أغراضاً سياسية أو تقوم على سبب سياسي، فإن الحكم المطعون فيه إذ قضى بأن الجريمة المسندة للطاعنين (تحطيم حانة) لم ترتكب تحقيقاً لهذه الأغراض بل ارتكبت لتحقيق غرض ديني بحت وأسس قضاءه على ذلك برفض التظلم - لا يكون قد أخطأ فى شيء.

(الطعن رقم 3 لسنة 23 ق - جلسة 1953/04/21 س 4 ع 3 ص 737 ق 267)

6- الأصل ألا يسأل الإنسان إلا عن الجرائم التى يقارفها بنفسه سواء أكان بوصفه فاعلاً أصلياً لها أم شريكاً للفاعل الأصلى فيها بطريقة من طرق الإشتراك المحددة فى القانون ، و إذ نص الشارع فى قانون التجمهر على مساءلة المتجمهرين عن الجرائم التى تقع تنفيذاً للغرض المقصود من التجمهر كشركاء فيها متى كانوا عالمين بهذا الغرض ، لم يرد الخروج على تلك القاعدة الأساسية فى المسئولية الجنائية ، أو تغيير قواعد الإشتراك كما هى معروفة قانوناً ، و إنما أراد فى الحدود التى رسمها تغليظ العقاب على المتجمهرين متى وقع أثناء التجمهر ، و تنفيذاً للغرض المقصودة منه جرائم أخرى ، و ذلك بمجازاتهم عن التجمهر بالعقوبات المقررة لتلك الجرائم . و إذن فمتى كان المتظلم لم يحكم عليه فى جريمة قتل مما إستثناه المرسوم بقانون رقم 241 لسنة 1952 و إنما حكم عليه فى جريمة تجمهر بالعقوبة المقررة لجريمة القتل العمد التى وقعت فى أثنائه ، و كان مناط الإستثناء الوارد بقانون العفو إنما هو بالجريمة التى يقارفها الجاني لا بالعقوبة التى توقع عليه ،و كانت جرائم التجمهر فى شتى صورها غير مستثناة من العفو ، متى كان ذلك و كانت الجريمة التى دين بها المتظلم ، و إن وقعت إنتقاماً منهم لقريبهم الذى قتل أولاً ، إلا أنه لا يمكن تجزئة الواقعتين و فصل الدفع إليهما عن السبب الذى أرتكبت من أجله الجريمة الأولى ، و قد وقعت هذه الجريمة فى أعقابها و إتخذت لجنه الإنتخاب بالذات مسرحاً لها فإن الحكم إذ قضى بإنطباق العفو الشامل على المتظلم لأن الإستثناء الوارد فى القانون لا يسرى عليه و لأن الجريمة التى قارفها قد وقعت لسبب سياسى يكون صحيحاً فى القانون .

(الطعن رقم 33 لسنة 23 ق - جلسة 1953/12/01 س 5 ع 1 ص 123 ق 41)

شرح خبراء القانون

العفو الشامل :

هو تجريد الفعل من الصفة الإجرامية بحيث يصير له حكم الأفعال التي لم يجرمها الشارع أصلاً والعفو الشامل بذلك يخرج الفعل من نطاق النموذج الإجرامي على الرغم من مطابقته له، ومن ثم يتخذ صورة الاستثناء الوارد على نص التجريم، إذ تعنى آثاره علم تطبيق ذلك النص على الفعل الذي صدر العفو عنه وثمة وجه الشبه من هذه الناحية بين العفو الشامل وسبب الإباحة: فكلاهما يزيل عن الفعل وصفه الإجرامي، وينفي الركن الشرعي للجريمة ؛ ولكن تفرق بينهما الإعتبارات التي تعلل كلا منهما: فالعفو الشامل يستهدف إسدال النسيان على الفعل في حين يعلل سبب الاباحة أن الفعل لم يعد منتجاً اعتداء على حق يريد الشارع كفالة حماية له أو لم يعد منتجاً اعتداء على حقوق المجتمع في مجموعها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن طابع الموضوعية والعموم أبرز في سبب الإباحة منه في العفو الشامل: فسبب الإباحة يطبق على فئة من الأفعال الإجرامية تتميز بنوع الاعتداء الذي تنتجه عادة، في حين يطبق العفو الشامل على مجموعة من الأفعال يحددها ارتكابها في ظروف واقعية معينة، ومن ثم كان نطاق سبب الإباحة أشمل من نطاق العفو الشامل.

علة العفو الشامل:

علة العفو الشامل هى التهدئة الاجتماعية بإسدال النسيان على جرائم ارتكبت في ظروف سيئة اجتماعياً، فيريد الشارع بنسيان هذه الجرائم أن تحذف من الذاكرة الاجتماعية الظروف السابقة كي يتهيأ المجتمع أو يمضي في مرحلة جديدة من حياته لا تشوبها ذكريات هذه الظروف. ولذلك يصدر العفو الشامل عقب فترات من الإضطراب السياسي، ويكون موضوعه أفعالاً ذات صلة بهذا الاضطراب.

خصائص العفو الشامل: يتميز العفو الشامل بطابع موضوعی، فهو ينصب على مجموعة من الجرائم فيزيل ركنها الشرعي، ومن ثم يستفيد منه جميع المساهمين فيها . وهو يتميز باتصاله بالنظام العام، إذ يقوم على اعتبارات مستمدة من مصلحة المجتمع، ومن ثم لا يجوز للمحكوم عليه رفضه. ويتميز بعد ذلك بطابعه الجنائي، فآثاره تقتصر على الصفة الإجرامية للفعل، ويعني ذلك أنه لا شأن له بجوانب الفعل الأخرى، إلا إذا نص قانون العفو الشامل على غير ذلك. وفي النهاية، يتميز العفو الشامل بأثر رجعي يعود إلى وقت ارتكاب الفعل، وبناء عليه يفترض أنه لم تكن لهذا الفعل منذ لحظة ارتكابه صفة إجرامية قط.

السلطة المختصة بالعفو الشامل: نصت المادة 149 من دستور سنة 1971 وكذلك تنص المادة 56 من الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 30 مارس سنة 2011 على أن «العفو الشامل لا يكون إلا بقانون»، وتعليل ذلك أن العفو الشامل هو تعطيل التطبيق نص القانون إزاء بعض الأفعال، فهو مساس بالقوة القانونية للنص، ومن ثم لا تملكه سوى السلطة التي اختصت بإسباغ القوة القانونية على النص.

آثار العفو الشامل: حددت آثار العفو الشامل المادة 76 من قانون العقوبات في قولها «العفو الشامل يمنع أو يوقف السير في إجراءات الدعوى أو يمحو حكم الادانة. ولا يمس حقوق الغير إلا إذا نص القانون الصادر بالعفو على خلاف ذلك». وتجمل آثار العفو الشامل في تجريد الفعل بأثر رجعي من صفته الإجرامية. ويختلف تحديد هذه الآثار باختلاف ما إذا صدر قبل الحكم البات أو بعده: فإذا صدر قبل ذلك الحكم انقضت به الدعوى الجنائية، وإذا رفعت على الرغم من العفو قضت المحكمة بعدم قبولها. وإذا صدر بعد الحكم البات زال ذلك الحكم بأثر رجعي فتقضى جميع آثاره، سواء في ذلك العقوبات الأصلية أو التبعية أو التكميلية أو سائر آثاره الجنائية: فلا يعتد بهذا الحكم كسابقة في العود، ولا يجوز للمحكوم عليه أن يطلب رد اعتباره عنه. ويزيل العفو الشامل الصفة الإجرامية للفعل في جميع صورها، وتطبيقاً لذلك فإنه لا يجوز بعد صدور العفو الشامل عن الفعل واصفاً إياه بوصف إجرامي معين أن يلاحق مرتكبه عنه بوصف إجرامي آخر.

ولكن آثار العفو الشامل تتصرف إلى الصفة الإجرامية للفعل فحسب، فإن كان قد سبب ضرراً فحق المضرور في تعويضه لا يتأثر بالعفو، وقد حرص الشارع على تأكيد ذلك في المادة 76 من قانون العقوبات (الفقرة الثانية). وقد ينص قانون العفو على خلاف ذلك، إذا أراد الشارع ألا تثور ذكريات الجريمة على أي وجه كان، ولو بصفتها فعلاً ضاراً؛ وتقضي العدالة في هذه الحالات بأن يضمن القانون لمن أصابهم الضرر الحصول على التعويض الذي يستحقونه من الخزانة العامة.

 

ولا تأثير للعفو الشامل على التنفيذ العقابي الذي تم قبل صدوره، فذلك وضع واقعي تحقق بالفعل فلا محل للمساس به، وكان وقت إجرائه مطابقاً للقانون. وتطبيقاً لذلك، فإنه لا يجوز للمحكوم عليه أن يطالب بتعويض عن الأضرار التي أصابته بتنفيذ العقوبة السالبة للحرية فيه قبل صدور قانون العفو الشامل. (شرح قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ محمود نجيب حسني، الطبعة السابعة 2012 دار النهضة العربية،  الصفحة:   1036)

العفو الشامل

العفو الشامل هو تجريد الفعل من الصفة الإجرامية بحيث يصير له حكم الأفعال التي لم يجرمها المشرع أصلاً.

والعفو الشامل بذلك يخرج الفعل من نطاق النموذج الإجرامي على الرغم من مطابقته له، ومن ثم يتخذ صورة الإستثناء الوارد على نص التجريم، إذ تعني آثاره عدم تطبيق ذلك النص على الفعل الذي صدر العفو عنه.

علة العفو الشامل:

علة العفو الشامل هي التهدئة الإجتماعية بإسدال ستار النسيان على جرائم ارتكبت في ظروف سيئة اجتماعياً فيريد الشارع بنسيان هذه الجرائم أن تحذف من الذاكرة الاجتماعية الظروف السابقة كي يتهيأ المجتمع أو يمضي في مرحلة جديدة من حياته لا تشوبها ذكريات هذه الظروف.

ولذلك يصدر العفو الشامل عقب فترات من الاضطراب السياسي ويكون موضوعه أفعال ذات صلة بهذا الاضطراب.

خصائص العفو الشامل يتميز العفو الشامل بطابع موضوعي، فهو ينصب على مجموعة من الجرائم فيزيل ركنها الشرعي، ومن ثم يستفيد منه جميع المساهمين فيها. 

وهو يتميز باتصاله بالنظام العام، إذ يقوم على اعتبارات مستمدة من مصلحة المجتمع، ومن ثم لا يجوز للمحكوم عليه رفضه. ويتميز بعد ذلك بطابعه الجنائي، فأثاره تقتصر على الصفة الإجرامية للفعل، ويعني ذلك أنه لا شأن له بجوانب الفعل الأخرى، إلا إذا نص قانون العفو الشامل على غير ذلك.

وفي النهاية يتميز العفو الشامل بأثر رجعي يعود إلى وقت ارتكاب الفعل، وبناء عليه يفترض أنه لم تكن لهذا الفعل منذ لحظة ارتكابه صفة إجرامية قط.

السلطة المختصة بالعفو الشامل :

نصت المادة (149) من الدستور الدائم الصادر عام 1971 والمقابلة للمادة 155 من دستور 2014 على أن : "العفو الشامل لا يكون إلا بقانون". وتعليل ذلك أن العفو الشامل هو تعطيل التطبيق نص القانون إزاء بعض الأفعال، فهو مساس بالقوة القانونية للنص، ومن ثم لا تملكه سوى السلطة التي اختصت بإسباغ القوة القانونية على النص.

آثار العفو الشامل

أما العفو عن الجريمة فإنه يمحو الجريمة، أي يزيل صفة الجريمة عن الفعل، كما يمحو حكم الإدانة وجميع ما يترتب عليه من آثار، ولذلك يسمى بالعفو الشامل.

وقد نصت المادة (76) على أن  "العفو الشامل يمنع أو يوقف السير في إجراءات الدعوى أو يمحو حكم الإدانة ولا يمس حقوق الغير إلا إذا نص القانون الصادر بالعفو على خلاف ذلك". أي أنه إذا صدر قانون بالعفو الشامل وكانت الدعوى لم ترفع بعد فإنها لا ترفع، وإن كانت قد رفعت يوقف السير في إجراءاتها، وإذا كان قد حكم فيها نهائياً بالإدانة فإن هذا العفو يمحو حكم الإدانة بجميع ما يترتب عليه من آثار، فإن كان الشخص قد دفع بناءاً عليه غرامة فإنه يستردها، وإن كان قد صودر له شيء استعمله في ارتكاب الجريمة استرده إلا إذا كان ذلك الشيء مما تعد حيازته أو استعماله أو صناعته أو بيعه أو عرضه للبيع جريمة في ذاته فإنه يبقى مصادراً طبقاً للمادة (30/ 2 عقوبات لأن هذا من قبيل الإجراءات الوقائية لا العقوبات.

وإذا كان الشخص قد أدخل السجن لينفذ عليه حكم بعقوبة مقيدة للحرية أفرج عنه فوراً، كما أن هذا الحكم لا يعتبر سابقة في العود ولا يترتب عليه الحرمان من أي حق من الحقوق.

إلا أن العفو الشامل لا يمحو عن الفعل صفة الفعل الضار وبالتالي لا يمتد  تأثيره لحقوق الغير في التعويض.

ولكن عادة ينص قانون العفو على سقوط الدعوى المدنية أيضاً عن هذا الفعل، وفي هذه الحالة تقوم الدولة بتعويض المضرورين من جرائه.

والعفو الشامل يصدر عادة بالنسبة للجرائم السياسية، ولكن ليس هناك ما يمنع قانوناً من صدوره بمناسبة جريمة عادية، وكل سوابق العفو الشامل في مصر كانت بصدد جرائم سياسية، مثال ذلك المرسوم بقانون رقم 241 لسنة 1952 بالعفو الشامل عن الجرائم التي ارتكبت لغرض سياسي في المدة من 26 أغسطس سنة 1936 إلى 27 يوليو سنة 1952.

ولا تأثير للعفو الشامل على التنفيذ العقابي الذي تم قبل صدوره، فذلك وضع واقعي تحقق بالفعل، فلا محل للمساس به، وكان وقت إجرائه مطابقاً للقانون، وتطبيقاً لذلك فإنه لا يجوز للمحكوم عليه أن يطالب بتعويض عن الأضرار التي أصابته بتنفيذ العقوبة السالبة للحرية ضده قبل صدور قانون العفو الشامل. (الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة السادسة 2016 المجلد الثاني،  الصفحة: 3 )

العفو عن العقوبة هو إقالة المحكوم عليه من تنفيذها كلها أو بعضها أو إبدالها بعقوبة أخف منه قانوناً

(المادة 74 عقوبات) وهي وسيلة لا غنى عنها لتحقيق العدالة في بعض الأحوال فقد تصدر العقوبة نتيجة لخطأ القضائي لا سبيل إلى إصلاحه بالوسائل المقررة في القانون كما أنه وسيلة للتخفيف من قسوة العقوبات إلى حد دون ما يسمح به القانون للقاضي وأخيراً قد يكون من حسن السياسة العفو عن جزء من العقوبة لمن ينفذ جانباً منها وهو حسن السلوك. ولم يعلق القانون العفو على طلب من المحكوم عليه كما أنه لا يتوقف على قبوله له فليس له أن يرفض عفواً صدر من ولي الأمر لأن تنفيذ العقوبات وإسقاطها ليس من حق المحكوم عليه بل من حقوق المجتمع ممثلا في ولي الأمر.    

ويبني على ذلك أن العفو تنازل من الهيئة الاجتماعية عن كل أو بعض حقوقها المترتبة على الجريمة ويلجأ إليه لأسباب مختلفة منها الرغبة في إسدال الستار على جريمة أو جرائم من نوع معين لأنها ترجع إلى عهد بغيض تقضي المصلحة بعدم تجديد ذكره ويكون بالعفو غير التام ويلجأ إليه في حالة الخطأ القضائي الذي لا سبيل إلى إصلاحه بالطرق القضائية أو التخفيف من شدة قانون العقوبات في ظروف تبرر ذلك.

 ممن يصدر العفو عن العقوبة ومضمونه :

ويصدر العفو عن العقوبة بقرار من رئيس الجمهورية والذي له العفو الكامل عن العقوبة أو عن جزء منها أو إبدالها بعقوبة أخرى. والأصل أن قرار العفو لا يصدر إلا بعد ضرورة الحكم بالعقوبة باتاً فإذا صدر قبل ذلك فلا ينتج أثره لأن الدعوى الجنائية تكون قائمة والذي يسقط الدعوى هو العفو الشامل. وإن كانت محكمة النقض قد نصت بأن صدور العفو عن العقوبة أثناء نظر الطعن أمام محكمة النقض يخرج الأمر من يد القضاء ويتعين على المحكمة التقرير بعدم جواز نظر الطعن.

والعفو عن العقوبة يكون بإسقاطها كلها أو بعضها أو بإبدالها بعقوبة أخف مقررة قانوناً (المادة 1/ 74 من قانون العقوبات) وأبدال العقوبة جائز بأية عقوبة أخرى ينص عليها أمر العفو كأن ينص على إبدال عقوبة الإعدام بعقوبة سجن مؤبد أو مشدد أو بعقوبة سجن أو بعقوبة حبس إما إذا صدر العفو بإبدال العقوبة بأخف منها مطلقاً ولم تبين في أمر العفو العقوبة التي توقع بدلاً من العقوبة المحكوم بها فإن كانت هذه هي الإعدام فإن إبدالها يكون بعقوبة السجن المؤبد المادة 1/ 75 من قانون العقوبات ).

 وحق العفو مقرر في أغلب التشريعات الرئيس الدولة يباشره بواسطة حكومته وتنص المادة 1/ 149 من الدستور على أن " لرئيس الجمهورية حق العفو عن العقوبة أو تخفيفها.

والعفو ملزم للمحكوم عليه فلا يجوز له بعد صدور العفو أن يقبل تنفيذ العقوبة لأنه منحه من رئيس الدولة قصد بها إقرار العدالة ورعاية الصالح العام والعفو يؤثر على العقوبة الأصلية وقد يمتد إلى غيرها من العقوبة إذا نص فيه على ذلك والأصل أن العفو عن العقوبة المحكوم بها يقتضي أما إسقاطها كلها أو بعضها أو إبدالها بعقوبة أخف منها مقررة قانوناً. والعقوبات الأصلية تكون محلا للعفو سواء كانت مقررة للجنايات أو للجنح بما فيها الغرامة وعبارة النص عامة لم تستثنی نوعاً من هذه العقوبات. وقد يسقط العفو العقوبة كلها وقد يقتصر على جزء منها فقط فيسمى عفواً جزئياً كأن يصدر عن عقوبة الحبس دون الغرامة أو عن جزء من عقوبة السجن المشدد أو عقوبة السجن وقد يقتصر على تخفيف العقوبة فينص على استبدال عقوبة السجن بالسجن المؤبد أو استبدال عقوبة الحبس بعقوبة السجن وليس بلازم قانوناً أن تكون العقوبة المخففة هي التالية في الدرجة للعقوبة المحكوم بها.

وبالنسبة لمراقبة البوليس فقد يعفى المحكوم عليه منها أيضاً إذا تناول أمر العفو ذلك صراحة. ومفاد ذلك أنه إذا اقتصر أمر العفو على العقوبة الأصلية فلا يؤثر على غيرها من عقوبات تبعية وآثار جنائية إلا إذا نص فيه على خلاف ذلك كما وأن العفو لا يمحو الحكم ولا يمحو آثاره الجنائية إلا بنص خاص في أمر العفو.

 العفو الشامل :

يهدف العفو الشامل أو العفو عن الجريمة إلى محو الآثار الجنائية المترتبة على بعض الجرائم ونظراً لأن في ذلك تعطيل الأحكام قانون العقوبات والإجراءات الجنائية فلا يصدر العفو الشامل إلا بقانون يحدد الأفعال الإجرامية التي تخضع لأحكامه ويعتبر بمثابة استثناء على أحكام قانون العقوبات لا يستبعد من العفو الشامل إلا مرتكبي الجرائم المحددة فيه قبل صدوره أو في الفترة الزمنية التي حددها قانون العفو فلا يسري العفو على الجرائم المرتكبة بعد صدور.

ويترتب على العفو الشامل محو الآثار الجنائية المترتبة على ارتكاب الجريمة وينفي عنها الصفة غير المشروعة وبالتالي يمحو الأحكام الصادرة بالعقوبة من أجلها ويزول جميع آثارها الجنائية ولا يؤثر العفو الشامل على حقوق الغير المترتبة لهم عن الجريمة كالتعويضات والمصاريف والرد إلا إذا نص قانون العفو على خلاف ذلك " مادة 76/2 عقوبات " غير أنه في هذه الحالة

تتولى الدولة تعويض الغير لحقه من أضرار وبعبارة أخرى يقتصر تأثير العفو على العقوبات فهو لايمنع من تنفيذ المصادرة المحكوم بها وفقاً للمادة 30 /2 من قانون العقوبات ولا يمس الحقوق المدنية أو التعويضات التي حكم بها لمن أصابه ضرر من الجريمة ذلك أن العفو لا يمحو عن الفعل وصفة الضار وإذا كان للمجتمع أن يتنازل عن حقه في معاقبة الجاني أو تنفيذ العقوبة التي صدرت عليه فليس له أن يتصرف في حق شخص لفرد من الأفراد واستثناء من هذا يجوز النص في قانون العفو على سقوط الدعوى المدنية أو الحكم فيها رغبة في عدم إثارة الجريمة على أي وجه وعندئذ يجب على الحكومة أن تعوض من لحقه ضرر كما هو الشأن في نزع الملكية للمنفعة العامة ( تراجع المادة 76 من قانون العقوبات ). (موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الأول،  الصفحة: 670)

الفقة الإسلامي

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 59 .    

 

(مادة 77) 

العفو الشامل عن العقوبة التعزيرية يمنع أو يوقف السير في إجراءات الدعوى، أو يمحو حكم الإدانة. 
ولا يمس حقوق الغير إلا إذا نص القانون الصادر بالعفو على خلاف ذلك. 

العفو عن العقوبة التعزيرية، والعفو الشامل

 وقد نصت المواد من (75) إلى (77) على أحكام العفو عن العقوبة التعزيرية والعفو الشامل، وهي تقابل المواد من (74) إلى (76) من قانون العقوبات الحالي. 

ومن المتفق عليه في الشريعة الإسلامية أن لولي الأمر حق العفو کاملاً في جرائم التعازير، فله أن يعفو عن الجريمة، وله أن يعفو عن العقوبة كلها أو بعضها، وإذا عفا ولي الأمر في جرائم التعازير عن الجريمة أو العقوبة - فإن عفوه لا يؤثر على حقوق المجني عليه. 

سقوط القصاص

( المواد من ( 250) إلى ( 256)) 

العفو، والصلح، وفوات محل القصاص

مادة (250): يسقط القصاص بالعفو أو بالصلح أو بفوات محل القصاص. 

مادة (251): 

1- العفو عن القصاص يكون على الدية أو الجزء المقدر منها، ويجوز أن يكون عفواً مطلقاً متى كان صريحاً في الإبراء منها، وفي الحالة الأخيرة لا يقبل العدول عنه. 

2- والعفو يكون للمجني عليه إذا كان كامل الأهلية ، فإذا لم يكن كذلك قام أبوه مقامه في طلب القصاص، وكان للأب أو لغيره ممن ينوب عن المجني عليه المطالبة بالدية أو الصلح على مال لا يقل عنها، وللمجني عليه الذي صار كامل الأهلية قبل تنفيذ الحكم - الحق في طلب القصاص أو غيره مما تقدم .

3- تنوب النيابة العامة عن عديم الأهمية أو ناقصها إذا لم يكن له نائب ، أو كان نائبه مجهولاً أو غائباً ، أو تعذر إعلانه ، أو أعلن ولم يحدد موقفه ، وتكون لها كافة الحقوق المقررة لغير الأب ممن ينوب عن المجني عليه. 

مادة (252):1- يثبت العفو أمام النيابة العامة أو قاضي التحقيق والمحكمة بحسب الأحوال. 

2- ويظل للمجني عليه ولمن قام مقامه في طلب القصاص الحق في العفو إلى ما قبل تنفيذ الحكم. 

مادة (253): إذا حصل العفو عن القصاص قبل تنفيذ الحكم به، فعلى النيابة العامة تقديم القضية إلى المحكمة التي أصدرت الحكم في الموضوع حسب الأحوال؛ للنظر في الحكم بالدية أو بالجزء المقدر منها دون الإخلال بالعقوبة التعزيرية المقررة. 

مادة (254): في الاعتداء الموجب للقصاص يجوز أن يتم الصلح على الدية المحددة أو على ما هو أكثر أو أقل منها. 

مادة (255): لا يعتد بالصلح إلا إذا تم إثباته أمام النيابة العامة أو قاضي التحقيق  أو المحكمة في أية حالة كانت عليها الدعوى. 

مادة (256): إذا سقط القصاص بفوات محله قبل تنفيذ الحكم به - اتبعت أحكام المادة (253) من هذا القانون، دون الإخلال بالعقوبة التعزيرية المقررة. 

الإيضاح 

هنا أيضاً أخذ المشروع بأحكام تتفق في أسسها مع الأسس التي سبق الأخذ بها في باب الجناية على النفس، فالقصاص - سواء أكان في النفس أم فيها دون النفس - يسقط بالعفو، والصلح، وفوات محل القصاص، وهذه الأسباب الثلاثة هي التي نصت عليها المادة (250) ، وغني عن البيان أن سقوط القصاص هو حالة من حالات امتناع عقوبة القصاص. 

وقد بينت المادة (251) أحوال العفو، وهو النزول عن الحق في القصاص مقابل الدية الكاملة أو الجزء المقدر منها، واشترطت لكي يكون العفو مطلقاً - أي على غير دية - أن يكون صريحا في الإبراء منها، وفي هذه الحالة لا يقبل العدول عنه؛ لأن العفو يترتب عليه سقوط الحق في القصاص، ومتى سقط هذا الحق فإنه لا يجوز إحياؤه بالعدول عن العفو وطلب القصاص؛ إذ القاعدة أن الساقط لا يعود (المغني جـ (8) ص (336) وما بعدها). ومن ثم فإن مجرد العفو إنما يفيد العفو عن القصاص فقط مع بقاء الحق في الدية المحددة التي لا يتوقف اقتضائها على رضا الجاني، ويكون العفو بطبيعة الحال من المجني عليه إذا كان كامل الأهلية؛ لأن العفو إسقاط ، وقد يقترن بالإبراء من الدية ، فوجب أن يكون المجني عليه من أهل الإسقاط ، فإذا لم يكن كذلك قام أبوه مقامه في طلب القصاص، وكان للأب أو لغيره ممن ينوب عن المجني عليه (کالوصي على الصغير، والقيم على المحجور عليه) - المطالبة بالدية أو الصلح على مال لا يقل عنها؛ لأن الصلح على ما هو أقل من هذه الدية يخل بمصلحة عديم الأهلية أو ناقصها، وللمجني عليه الذي صار کامل الأهلية قبل تنفيذ الحكم - الحق في القصاص أو غيره مما تقدم. وتنوب النيابة العامة عن عديم الأهلية أو ناقصها إذا لم يكن له نائب، أو كان نائبه مجهولاً أو غائباً أو تعذر إعلانه، أو أعلن ولم يحدد موقفه، وتكون لها كافة الحقوق المقررة لغير الأب ممن ينوب عن المجني عليه. وقد وضعت الأحكام الواردة بالمادة (251) على نسق الأحكام التي سبق الأخذ بها في باب الجناية على النفس، واختص المشروع الأب وحده - إذا لم يكن المجني عليه کامل الأهلية - بأن يقوم مقام المجني عليه في طلب استيفاء القصاص؛ أخذا برأي الأحناف، ولأن الأب موفور الشفقة، ولكن المشروع لم يأخذ بها قيل من تجويز القود في الأطراف للوصي استحسانا، بل غلب المشروع الأخذ بالقياس ومقتضاه ألا يملك الوصي الاستيفاء في الطرف کما لا يملكه في النفس (المذهب الحنفي: نتائج الأفكار لقاضي زاده، تکملة فتح القدير مطبعة مصطفى محمد 1356 هـ ، الجزء الثامن ص (262) إلى (364)، حاشية رد المحتار لابن عابدین، مطبعة: مصطفى الحلبي 1386/ 1966 ، الجزء السادس ص (538) و(539))، ولا يخفى أن الأخذ بالقياس هو الأنسب لعديم الأهلية أو ناقصها ؛ لأنه يحفظ حقه في الدية في كافة أحوال العمد مثلما هو محفوظ في حالة الخطأ ، في حين أن القصاص غالباً ما لا يشفي له صدراً وهو على هذه الحال، بينما يحول بينه وبين الدية، ومن المقرر أن القصاص قد شرع للتشفي ودرك الثأر.

 

وقد أوجبت المادة (252) أن يثبت العفو أمام النيابة العامة، أو قاضي التحقيق، أو المحكمة بحسب الأحوال، وهذا حكم تقتضيه المصلحة العامة بالنظر إلى أهمية العفو، سواء في مجال القصاص أم في مجال الدية. كما أبقت المادة للمجني عليه ولمن قام مقامه في طلب القصاص - وهو أبوه إذا لم يكن كامل الأهلية - الحق في العفو إلى ما قبل التنفيذ ، ولا يحول دون العفو أن يكون المجني عليه أو الأب قد سبق له أن طلب القصاص. وغني عن البيان أن عفو الأب لا يكون إلا على الدية ، ما لم يتصالح على مال لا يقل عنها (تبيين الحقائق ج (6) ص (107)). 

هذا وقد تناولت المادة (253) حالة العفو عن القصاص قبل تنفيذ الحكم به - على ضوء ما سبق الأخذ به في باب الجناية على النفس -، فأوجبت على النيابة العامة تقديم القضية إلى المحكمة التي أصدرت الحكم في الموضوع حسب الأحوال ؛ إذ قد تكون هي محكمة النقض، كما لو حكمت في الموضوع لتقديم طعن للمرة الثانية ، وذلك للنظر في الحكم بالدية أو بالجزء المقدر منها دون الإخلال بتوقيع العقوبة التعزيرية المقررة. 

كذلك بينت المادة (254) أحوال سقوط القصاص بالصلح، والفارق الجوهري بين العفو والصلح أن العفو يصدر من جانب المجني عليه دون توقف على رضا الجاني، أما الصلح فهو عقد بين المجني عليه وبين الجاني، ومن ثم فهو لا يتم إلا برضا الطرفين. وقد نصت هذه المادة على أنه يجوز أن يتم الصلح - في الاعتداء الموجب للقصاص - على الدية المحددة أو على ما هو أكثر أو أقل منها. 

ونصت المادة (255) من المشروع على عدم الاعتداد بالصلح إلا إذا تم إثباته أمام النيابة العامة، أو قاضي التحقيق، أو المحكمة في أية حالة كانت عليها الدعوى. وهذا الحكم يتماثل مع إثبات العفو الوارد في المادة (252) من المشروع، وأساس الحكم الاحتياط في مسألة مهمة كإسقاط القصاص بالصلح، ويلاحظ أن هذا الحكم لا يمنع بذاته من أن يتم الصلح بوصفه عقدا من العقود خارج مجلس القضاء، وإنما يتطلب النص في هذه الحالة إثباته فقط، ويستطيع الطرفان إثبات العقد في محضر تحقيق النيابة العامة، أو قاضي التحقيق، أو أمام المحكمة، فيثبت في أوراق الدعوى، ويكون للنيابة، أو قاضي التحقيق، أو المحكمة بحسب الأحوال أن تراقب شروط صحة الصلح، وغير ذلك من الآثار التي تترتب عليه. 

وأخيراً فإن القصاص يسقط كذلك بفوات محله قبل تنفيذ الحكم به، وهو ما تضمنه نص المادة (256) من المشروع، وهذا أمر متفق عليه في مذاهب الفقه الإسلامي، فإذا قطع الجاني يمني رجل، وكان الجاني فاقداً يمناه - فلا قصاص من الأصل لعدم وجود الطرف المماثل، أما إذا فقد يمناه، في أي وقت قبل التنفيذ، فإن القصاص يسقط؛ لأنه لا يجوز أخذ طرف آخر غير الطرف المائل للطرف الذي وقعت عليه الجناية، ومن باب أولى يسقط القصاص بموت الجاني، إذ بموته يفوت محل القصاص (حاشية الدسوقي جـ (4) ص (254))، على أن سقوط القصاص بفوات محله لا يخل بحق المجني عليه في الدية أو الجزء المقدر منها؛ أخذا مذهبي الشافعية والحنابلة على وجه الخصوص - (خلافة للمرجع السابق (254)، ولبدائع الصنائع ج- (7) ص (246))، ولأن القاعدة عندهما أن ما ضمن بسبين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر كذوات الأمثال، ولأن القتل المضمون - وكذلك الجناية على ما دون النفس المضمونة - إذا سقط فيها القصاص من غير إبراء، ثبت المال العقوبة ص (604) و (605))، ومن ثم فقد أوجبت المادة (256) - في حالة سقوط القصاص بفوات محله قبل تنفيذ الحكم به - اتباع الأحكام الواردة بالمادة (253) من هذا المشروع دون الإخلال بالعقوبة التعزيرية المقررة بطبيعة الحال. 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 284

سُقُوطُ التَّعْزِيرِ بِالْعَفْوِ :

الْعَفْوُ جَائِزٌ فِي التَّعْزِيرِ  إِذَا كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِ الرَّسُولِ صلي الله عليه وسلم  :  «تَجَافُوا عَنْ عُقُوبَةِ ذَوِي الْمُرُوءَةِ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ»  وَقَوْلُهُ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»  وَقَوْلُهُ فِي الأْنْصَارِ: «اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» ، «وَقَوْلُهُ لِرَجُلٍ - قَالَ لَهُ: إِنِّي لَقِيتُ امْرَأَةً فَأَصَبْتُ مِنْهَا دُونَ أَنْ أَطَأَهَا -: أَصَلَّيْتَ مَعَنَا؟ فَرَدَّ عَلَيْهِ بِنَعَمْ، فَتَلاَ  إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).   فَالإْمَامُ لَهُ الْعَفْوُ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ  إِذَا تَعَلَّقَ التَّعْزِيرُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي تَارِكِ الصَّلاَةِ. وَقَالَ الإْصْطَخْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ: وَمَنْ طَعَنَ عَلَى أَحَدِ الصَّحَابَةِ، وَجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ تَأْدِيبُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. وَقَالَ الْبَعْضُ: إِنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّعْزِيرِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، أَوْ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، يَجِبُ امْتِثَالُ الأْمْرِ فِيهِ، فَهُنَا لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عِنْدَهُمْ، بَلْ يَجِبُ التَّعْزِيرُ، لاِمْتِنَاعِ تَطْبِيقِ الْحَدِّ.

وَقَالَ الْبَعْضُ: إِنَّ الْعَفْوَ يَكُونُ لِمَنْ كَانَتْ مِنْهُ الْفَلْتَةُ وَالزَّلَّةُ، وَفِي أَهْلِ الشَّرَفِ وَالْعَفَافِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَشَخْصُ الْجَانِي لَهُ اعْتِبَارٌ فِي الْعَفْوِ.

وَ إِذَا كَانَ التَّعْزِيرُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ فَقَدْ قِيلَ كَذَلِكَ: إِنَّ لِوَلِيِّ الأْمْرِ تَرْكَهُ، وَالْعَفْوَ عَنْهُ، حَتَّى وَلَوْ طَلَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِيهِ، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ التَّعْزِيرِ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ، مِثْلُ الْقِصَاصِ، فَلَيْسَ لِوَلِيِّ الأْمْرِ هُنَا تَرْكُهُ بِعَفْوٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ.

وَ إِذَا عَفَا وَلِيُّ الأْمْرِ عَنِ التَّعْزِيرِ فِيمَا يَمَسُّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ، وَكَانَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالتَّعْزِيرِ حَقُّ آدَمِيٍّ كَالشَّتْمِ، فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الآْدَمِيِّ، فَعَلَى وَلِيِّ الأْمْرِ الاِسْتِيفَاءُ؛ لأِنَّ الإْمَامَ لَيْسَ لَهُ - عَلَى الرَّاجِحِ - الْعَفْوُ عَنْ حَقِّ الْفَرْدِ.

وَ إِذَا عَفَا الآْدَمِيُّ عَنْ حَقِّهِ فَإِنَّ عَفْوَهُ يَجُوزُ، وَلَكِنْ لاَ يَمَسُّ هَذَا حَقَّ السُّلْطَةِ. وَقَدْ فَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي هَذَا الْمَجَالِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

أ -  إِذَا حَصَلَ عَفْوُ الآْدَمِيِّ قَبْلَ التَّرَافُعِ، فَلِوَلِيِّ الأْمْرِ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّعْزِيرِ أَوِ الْعَفْوِ.

ب - وَ إِذَا حَصَلَ بَعْدَ التَّرَافُعِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْعِقَابِ عَنْ حَقِّ السُّلْطَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

الأْوَّلُ: فِي قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الأْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ، لأِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَغْلَظُ وَيَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْعَفْوِ، فَكَانَ حُكْمُ التَّعْزِيرِ لِحَقِّ السُّلْطَةِ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ.

وَالثَّانِي - وَهُوَ الأْظْهَرُ - أَنَّ لِوَلِيِّ الأْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ مَعَ الْعَفْوِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ التَّرَافُعِ مُخَالَفَةً لِلْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لأِنَّ التَّقْوِيمَ مِنَ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الحادي والعشرون ، الصفحة / 53

عَفْوِ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ:

إِذَا عَفَا جَمِيعُ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ صَغِيرٌ وَلاَ مَجْنُونٌ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَتَسْقُطُ الدِّيَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأِنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا أَيْ مُتَعَيِّنًا عِنْدَهُمْ، فَلَيْسَ لِلأْوْلِيَاءِ أَنْ يُجْبِرُوا الْجَانِيَ عَلَى دَفْعِ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا لَهُمْ أَنْ يَعْفُوا مَجَّانًا أَوْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ، فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْعَفْوِ فَلاَ بَدِيلَ لَهُ مِنَ الدِّيَةِ، إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ التَّرَاضِي وَالصُّلْحِ بَيْنَ الأْوْلِيَاءِ وَالْجَانِي، وَإِذَا حَصَلَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ جَازَ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا بِرِضَا الْجَانِي؛ لأِنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لِلأْوْلِيَاءِ أَنْ يَعْفُوا عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْعَفْوَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلدِّيَةِ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ فَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ؛ لأِنَّ الْقَتْلَ لَمْ يُوجِبِ الدِّيَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْعَفْوُ إِسْقَاطُ شَيْءٍ ثَابِتٍ، لاَ إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ.

وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ: تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا تُرِكَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَوَدُ وَجَبَ الآْخَرُ أَيِ الدِّيَةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُخَيَّرُ الأْوْلِيَاءُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ». وَحَيْثُ إِنَّ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهَا وَلَوْ سَخِطَ الْجَانِي؛ لأِنَّهَا أَقَلُّ مِنْ حَقِّهِ.

وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلاَ دِيَةٍ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْقَوَدِ، فَلَهُ الدِّيَةُ؛ لاِنْصِرَافِ الْعَفْوِ إِلَى الْقَوَدِ فِي مُقَابَلَةِ الاِنْتِقَامِ، وَالاِنْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْلِ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثلاثون ، الصفحة /  167

عَفْو

التَّعْرِيفُ :

مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ فِي اللُّغَةِ الإْسْقَاطُ، قَالَ تَعَالَى:  ( وَاعْفُ عَنَّا) وَالْكَثْرَةُ، وَمِنْهُ قوله تعالى : (حَتَّى عَفَوْا) أَيْ: كَثُرُوا، وَالذَّهَابُ وَالطَّمْسُ وَالْمَحْوُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: عَفَتِ الدِّيَارُ، وَالإْعْطَاءُ، قَالَ ابْنُ الأْعْرَابِيِّ: عَفَا يَعْفُو: إِذَا أَعْطَى، وَقِيلَ: الْعَفْوُ مَا أَتَى بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ الْعَفْوَ غَالِبًا بِمَعْنَى الإْسْقَاطِ وَالتَّجَاوُزِ.

الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :

أ - الصَّفْحُ :

الصَّفْحُ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَأَصْلُهُ: الإْعْرَاضُ بِصَفْحَةِ الْوَجْهِ عَنِ التَّلَفُّتِ إِلَى مَا كَانَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ).

 قَالَ الرَّاغِبُ: وَالصَّفْحُ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) وَقَدْ يَعْفُو الإْنْسَانُ وَلاَ يَصْفَحُ.

ب - الْمَغْفِرَةُ :

الْمَغْفِرَةُ مِنَ الْغَفْرِ مَصْدَرُ غَفَرَ، وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: الصَّبْغُ أَغْفَرُ لِلْوَسَخِ، أَيْ أَسْتَرُ.

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَسْتُرَ الْقَادِرُ الْقَبِيحَ الصَّادِرَ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ وَلاَ يَقْتَضِي إِيجَابَ الثَّوَابِ، وَالْمَغْفِرَةَ تَقْتَضِي إِسْقَاطَ الْعِقَابِ وَهُوَ: إِيجَابُ الثَّوَابِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهَا إِلاَّ الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّوَابِ.

ج - الإْسْقَاطُ :

الإْسْقَاطُ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لاَ إِلَى مَالِكٍ.

وَالْعَفْوُ عَلَى إِطْلاَقِهِ أَعَمُّ مِنَ الإْسْقَاطِ لِتَعَدُّدِ اسْتِعْمَالاَتِهِ.

د - الصُّلْحُ :

الصُّلْحُ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ

وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَالصُّلْحُ أَعَمُّ مِنَ الْعَفْوِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :

يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعَفْوِ بِاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ خَالِصًا لِلْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْحُدُودِ مَثَلاً، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ رَفْعِ الأْمْرِ إِلَى الْحَاكِمِ.

وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الْعَفْوَ فِي الْجُمْلَةِ لِلأْسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الشَّارِعُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ تَفَضُّلاً مِنْهُ وَرَحْمَةً وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِسْقَاط ف 39 وَمَا بَعْدَهَا).

الْعَفْوُ فِي الْعُقُوبَاتِ:

أَوَّلاً - الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).

وَلأِنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِيهِ إِذْ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ، فَجَازَ لِمُسْتَحِقِّهِ تَرْكُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.

وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى نَدْبِ الْعَفْوِ وَاسْتِحْبَابِهِ لقوله تعالى :فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)  قَالَ الْجَصَّاصُ: نَدَبَهُ إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه : «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ» .

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْعَفْوُ إِحْسَانٌ وَالإْحْسَانُ هُنَا أَفْضَلُ، وَاشْتُرِطَ أَلاَّ يَحْصُلَ بِالْعَفْوِ ضَرَرٌ، فَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ ضَرَرٌ فَلاَ يُشْرَعُ.

 

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ الْعَفْوِ إِلاَّ فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ، وَهُوَ الْقَتْلُ لأِخْذِ الْمَالِ؛ لأِنَّهُ فِي مَعْنَى الْحِرَابَةِ، وَالْمُحَارِبُ إِذَا قَتَلَ وَجَبَ قَتْلُهُ، وَلاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ؛ لأِنَّ الْقَتْلَ لِدَفْعِ الْفَسَادِ فِي الأْرْضِ، فَالْقَتْلُ هُنَا حَقٌّ لِلَّهِ لاَ لِلآْدَمِيِّ، وَعَلَى هَذَا يُقْتَلُ حَدًّا لاَ قَوَدًا.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، حَتَّى لاَ يَمْلِكَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلاً.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِمَّا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَحَدُهُمَا لاَ بِعَيْنِهِ، فَلِلْوَلِيِّ خِيَارُ التَّعْيِينِ، إِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ.

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ وَأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عِنْدَ سُقُوطِهِ، وَلِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)،وَالْمَكْتُوبُ لاَ يُتَخَيَّرُ فِيهِ؛ وَلأِنَّهُ مُتْلَفٌ يَجِبُ بِهِ الْبَدَلُ فَكَانَ بَدَلُهُ مُعَيَّنًا كَسَائِرِ أَبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ، وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ سِنِّ الرُّبَيِّعِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ»،فَعُلِمَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يُخَيِّرِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)،أَوْجَبَ الاِتِّبَاعَ بِمُجَرَّدِ الْعَفْوِ وَلَوْ أَوْجَبَ الْعَمْدَ بِالْقِصَاصِ عَيْنًا لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ عِنْدَ الْعَفْوِ الْمُطْلَقِ، فَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآْيَةَ ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) الآْيَةَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ»،وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ فِي الإْلْزَامِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ مَشَقَّةً، وَبِأَنَّ الْجَانِيَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ فَلاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ كَالْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ نَفْسَ الْقَتِيلِ مَضْمُونَةٌ أَصْلاً بِالْقَوَدِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ بِجِنْسِ الْمُتْلَفِ فَكَانَ الْقَوَدُ هُوَ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَإِنْ سَقَطَ الْجِنْسُ وَهُوَ الْقَوَدُ وَجَبَ الْبَدَلُ وَهُوَ الدِّيَةُ حَتَّى لاَ يَفُوتَ ضَمَانُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ.

الْعَفْوُ عَنِ الْقَاتِلِ :

إِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَاتِلِ مُطْلَقًا صَحَّ وَلَمْ تَلْزَمْهُ عُقُوبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لأِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاحِدٌ وَقَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالأْوْزَاعِيُّ: يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ سَنَةً.

وَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَوَدِ مُطْلَقًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ عَلَى الْجَانِي، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا بِأَلاَّ يَظْهَرَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ بِقَرَائِنِ الأْحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْعَفْوِ؛ لأِنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، فَإِذَا سَقَطَ بِالْعَفْوِ لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأِنَّ الْعَفْوَ إِسْقَاطُ ثَابِتٍ لاَ إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ عَفَا مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلاَ دِيَةٍ فَلَهُ الدِّيَةُ لاِنْصِرَافِ الْعَفْوِ إِلَى الْقَوَدِ؛ لأِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الاِنْتِقَامِ، وَالاِنْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْلِ؛ وَلأِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ تَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ، وَإِذَا قَالَ وَلِيُّ الدَّمِ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ أَوْ عَنْ جِنَايَتِكَ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.

عَفْوُ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ :

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْقَاتِلِ؛ لأِنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الآْخَرِ ضَرُورَةً؛ لأِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ، إِذِ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الآْخَرِ مَالاً بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي الله عنهما فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا أَوْجَبَا عِنْدَ عَفْوِ بَعْضِ الأْوْلِيَاءِ عَنِ الْقِصَاصِ لِلَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا عَنْهُ نَصِيبَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ،،وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهما وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.

 

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الأْنْسَابِ وَالأْسْبَابِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَمَنْ عَفَا مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثُبُوتُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ابْتِدَاءً لِكُلِّ وَارِثٍ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَةِ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ:

الأْوَّلُ: أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْعَصَبَةِ الذُّكُورِ خَاصَّةً؛ لأِنَّ الْقِصَاصَ لِرَفْعِ الْعَارِ فَاخْتَصَّ بِهِمْ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْوَارِثُونَ بِالنَّسَبِ دُونَ السَّبَبِ لاِنْقِطَاعِهِ بِالْمَوْتِ فَلاَ حَاجَةَ لِلتَّشَفِّي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ لَهُمُ الْعَفْوُ فِي الْجُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الْقِيَامُ بِالدَّمِ، وَإِنَّ الْمَقْتُولَ عَمْدًا إِذَا كَانَ لَهُ بَنُونَ بَالِغُونَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ فَإِنَّ الْقِصَاصَ قَدْ بَطَلَ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْبَنَاتِ وَلاَ الأْخَوَاتِ قَوْلٌ مَعَ الْبَنِينَ وَالإْخْوَةِ فِي الْقِصَاصِ أَوْ ضِدِّهِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ.

وَقَالُوا: إِنَّ حَقَّ النِّسَاءِ فِي الاِسْتِيفَاءِ مَشْرُوطٌ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ : أَنْ يَكُنَّ وَارِثَاتٍ، احْتِرَازًا عَنِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَأَنْ لاَ يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ فِي الدَّرَجَةِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ أَصْلاً أَوْ يُوجَدْ أَنْزَلُ، كَعَمٍّ مَعَ بِنْتٍ أَوْ أُخْتٍ، فَخَرَجَتِ الْبِنْتُ مَعَ الاِبْنِ وَالأْخْتُ مَعَ الأْخِ، فَلاَ كَلاَمَ لَهَا مَعَهُ فِي عَفْوٍ وَلاَ قَوَدٍ، وَأَنْ يَكُنَّ عَصَبَتَهُ لَوْ كُنَّ ذُكُورًا، فَلاَ كَلاَمَ لِلْجَدَّةِ مِنَ الأْمِّ، وَالأْخْتِ مِنَ الأْمِّ، وَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ كُنَّ الْوَارِثَاتِ مَعَ عَاصِبٍ غَيْرِ مُسَاوٍ فَلَهُنَّ وَلَهُ الْقَوَدُ، قَالُوا: وَلاَ يُعْتَبَرُ عَفْوٌ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ، كَالْبَنَاتِ مَعَ الإْخْوَةِ سَوَاءٌ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَسَامَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، كَأَنْ حُزْنَ الْمِيرَاثَ كَالْبِنْتِ مَعَهَا أُخْتٌ لِغَيْرِ أُمٍّ مَعَ الأْعْمَامِ وَثَبَتَ قَتْلُ مُوَرِّثِهِنَّ بِقَسَامَةٍ مِنَ الأْعْمَامِ، فَلِكُلٍّ الْقَتْلُ، وَلاَ عَفْوَ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِهِمْ، فَلَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلاَ كَلاَمَ لِلْعَصَبَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ.

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ :

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ عَمْدًا إِذَا عَفَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ اعْتُبِرَ عَفْوُهُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ جَازَ الْعَفْوُ اسْتِحْسَانًا، وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسًا؛ لأِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْلِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْلِ، وَالْفِعْلُ لاَ يَصِيرُ قَتْلاً إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ. وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْقَتْلَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَالِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمَقْتُولِ الْعَفْوُ عَنْ دَمِهِ بَعْدَ إِنْفَاذِ مَقْتَلِهِ وَقَبْلَ زُهُوقِ رُوحِهِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: لأِنَّ لِلْقِصَاصِ سَبَبًا وَهُوَ إِنْفَاذُ الْمَقَاتِلِ وَشَرْطًا وَهُوَ زُهُوقُ الرُّوحِ، فَإِنْ عَفَا الْمَقْتُولُ عَنِ الْقِصَاصِ قَبْلَهُمَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَفْوُهُ، وَعَفْوُهُ بَعْدَهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَا بَيْنَهُمَا فَيَنْفُذُ إِجْمَاعًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قُطِعَ فَعُفِيَ عَنْ قَوَدِهِ وَأَرْشِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْرِ فَلاَ شَيْءَ، وَإِنْ سَرَى لِلنَّفْسِ فَلاَ قِصَاصَ فِي نَفْسٍ وَلاَ طَرَفٍ؛ لأِنَّ السِّرَايَةَ تَوَلَّدَتْ مِنْ مَعْفُوٍّ عَنْهُ، فَصَارَتْ شُبْهَةً دَافِعَةً لِلْقِصَاصِ.

وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لاَ يَلْزَمُ عَفْوُهُ، وَلِلأْوْلِيَاءِ الْقِصَاصُ أَوِ الْعَفْوُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الإْبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ.

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَمَّا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا

يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا قَالَ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنِ الْقَطْعِ أَوِ الْجِرَاحَةِ أَوِ الشَّجَّةِ أَوِ الضَّرْبَةِ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ؛ لأِنَّ الْعَفْوَ وَقَعَ عَنْ ثَابِتٍ وَهُوَ الْجِرَاحَةُ أَوْ مُوجِبُهَا وَهُوَ الأْرْشُ فَيَصِحُّ الْعَفْوُ وَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي إِتْلاَفِ مَالِهِ فَلاَ ضَمَانَ بِإِتْلاَفِهِ.

حُكْمُ السِّرَايَةِ :

وَإِنْ سَرَى الْجُرْحُ إِلَى النَّفْسِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَاتَ الْمُصَابُ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ بِالإْجْمَاعِ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لأِنَّ لَفْظَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ، وَكَذَا لَفْظُ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا عَنِ الْقَتْلِ فَيَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ الْعَفْوُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ عَفَا ثُمَّ مَاتَ.

نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ: إِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْيَدِ، لاَ غَيْرُ، لاَ إِشْكَالَ، وَإِنْ قَالَ: عَنِ الْيَدِ وَمَا تَرَامَى إِلَيْهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلاَ إِشْكَالَ، وَإِنْ قَالَ: عَفَوْتُ، فَقَطْ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَفَا عَمَّا وَجَبَ لَهُ فِي الْحَالِ وَهُوَ قَطْعُ الْيَدِ.

وَعِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي حَقِّ الأْوْلِيَاءِ - لاَ الْمَقْطُوعِ - إِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الْجُرْحِ دُونَ مَا تَرَامَى إِلَيْهِ وَهِيَ:

أَحَدُهَا: أَنَّ لِلأْوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا وَيَقْتُلُوا وَيُرَدُّ الْمَالُ وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِالصُّلْحِ لاَ فِي الْخَطَأِ وَلاَ فِي الْعَمْدِ.

الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمْدِ فَيُخَيَّرُونَ فِيهِ، وَالْخَطَأِ فَلاَ يُخَيَّرُونَ وَلَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ عُضْوُ شَخْصٍ فَعَفَا عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ قَوَدًا أَوْ أَرْشًا فَلاَ قِصَاصَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لاَ قِصَاصَ فِي الطَّرْفِ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ سَلَمَةَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَفْوِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الإْبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَإِنْ قَالَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ الْعَفْوُ؛ لأِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ وَلَمْ يَضْمَنِ الْجَانِي السِّرَايَةَ لِلْعَفْوِ عَنْهَا.

عَفْوُ الْوَلِيِّ بَعْدَ الْجَرْحِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ :

نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْجَانِي بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْقِيَاسُ أَلاَّ يَصِحَّ عَفْوُهُ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ يَصِحُّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْلِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْلِ، وَالْفِعْلُ لاَ يَصِيرُ قَتْلاً إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَمْ يَصِحَّ.

أَمَّا الاِسْتِحْسَانُ فَلَهُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُرْحَ مَتَى اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلاً مِنْ حِينِ وُجُودِهِ. فَكَانَ عَفْوًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ.

الثَّانِي: أَنَّ الْقَتْلَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَالِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ؛ وَلأِنَّهُ إِذَا وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِ الْقَتْلِ كَانَ الشَّرْعُ تَعْجِيلَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ،

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْجِنَايَةِ الْخَطَأِ :

إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ، وَسَوَاءٌ يَذْكُرُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْ.

أَمَّا إِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَفْوُ فِي حَالِ صِحَّةِ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَرَضِ بِأَنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لأِنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الدِّيَةِ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ يَسْقُطُ عَنِ الْعَاقِلَةِ وَثُلُثَاهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عَفْوُ الْمَقْتُولِ - وَلَوْ قَبْلَ إِنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ - عَنْ قَاتِلِهِ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مِنْهُ وَصِيَّةً بِالدِّيَةِ لِلْعَاقِلَةِ، فَتَكُونُ فِي ثُلُثِهِ، فَإِنْ حَمَلَهَا نَفَذَتْ قَهْرًا عَلَى الْوَرَثَةِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَلْفَانِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَدِيَتُهُ أَلْفٌ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ سَقَطَ عَنِ الْقَاتِلِ مَعَ عَاقِلَتِهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، إِلاَّ أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ الزَّائِدَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا بِالْمَالِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَرَحَ حُرٌّ رَجُلاً خَطَأً فَعَفَا عَنْهُ ثُمَّ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أَمْ عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ ؟ وَفِيهِ خِلاَفٌ، فَإِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، أَوْ: أَسْقَطْتُ الدِّيَةَ عَنْهُمْ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الدِّيَةِ، فَهَذَا تَبَرُّعٌ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ فَيَنْفُذُ إِذَا وَفَّى الثُّلُثُ بِهِ، وَيُبَرَّءُونَ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُمْ مُتَأَصِّلِينَ أَمْ مُتَحَمِّلِينَ، وَإِنْ قَالَ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ، لَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: يُلاَقِيهِ الْوُجُوبُ ثُمَّ يُحْمَلُ عَنْهُ، صَحَّ، وَالْمَذْهَبُ الأْوَّلُ؛ لأِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْوُجُوبِ يَنْتَقِلُ عَنْهُ فَيُصَادِفُهُ الْعَفْوُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا إِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِاعْتِرَافِ الْعَاقِلَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْقَاتِلُ وَأَنْكَرَتِ الْعَاقِلَةُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَيَكُونُ الْعَفْوُ تَبَرُّعًا عَلَى الْقَاتِلِ فَفِيهِ الْخِلاَفُ. وَلَوْ عَفَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْعَاقِلَةِ أَوْ مُطْلَقًا صَحَّ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْجَانِي لَمْ يَصِحَّ؛ لأِنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ صَحَّ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَنِ الْجَرْحِ الْخَطَأِ اعْتُبِرَ خُرُوجُ الْجِنَايَةِ وَسِرَايَتُهَا مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ عَنِ الْجَانِي مِنْ دِيَةِ السِّرَايَةِ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ مِنَ الدِّيَةِ أَوْ وَصَّى لَهُ بِهَا فَهُوَ وَصِيَّةٌ لِقَاتِلٍ، وَتَصِحُّ لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْجِنَايَةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَصَّى لَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ.

وَتُعْتَبَرُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْوَصِيَّةُ بِهَا لِلْقَاتِلِ مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ وَالْوَصَايَا.

وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَارِثُهُ الْقَاتِلَ مِنَ الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لَمْ يَصِحَّ الإْبْرَاءُ؛ لأِنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ؛ لأِنَّ الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْعَاقِلَةَ صَحَّ؛ لأِنَّهُ أَبْرَأَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَيْهَا كَالدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا.

وَمَنْ صَحَّ عَفْوُهُ مَجَّانًا فَإِنْ أَوْجَبَ الْجُرْحُ مَالاً عَيْنِيًّا كَالْجَائِفَةِ وَجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَكَوَصِيَّةٍ، يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ؛ لأِنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ.

عَفْوُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ :

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَافِي أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً بَالِغًا، فَلاَ يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا؛ لأِنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ فَلاَ يَمْلِكَانِهِ،وَيَنْظُرُ لِلصِّغَارِ وَلِيُّهُمْ فِي الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ.

وَلأِبِي الْمَعْتُوهِ أَنْ يُقِيدَ مِنْ جَانِيهِ؛ لأِنَّ لأِبِيهِ وِلاَيَةً عَلَى نَفْسِهِ فَيَلِيهِمَا كَالإْنْكَاحِ، وَيُصَالِحُ لأِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمَعْتُوهِ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ، فَلَمَّا مَلَكَ الاِسْتِيفَاءَ فَلأَنْ يَمْلِكَ الصُّلْحَ أَوْلَى، هَذَا إِذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِلاَّ لاَ يَصِحُّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَلاَ يَعْفُو؛ لأِنَّهُ إِبْطَالٌ لِحَقِّهِ، وَلِلْوَصِيِّ الصُّلْحُ فَقَطْ؛ لأِنَّ وِلاَيَةَ الْقِصَاصِ تَابِعَةٌ لِوِلاَيَةِ النَّفْسِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالأْبِ، وَالصَّبِيُّ كَالْمَعْتُوهِ وَالْقَاضِي كَالأْبِ فِي الأْحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ.

وَأَمَّا الْحَجْرُ لِلْفَلَسِ: فَلَوْ عَفَا الْمُفْلِسُ عَنِ الْقِصَاصِ سَقَطَ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنْ قِيلَ: مُوجِبُ الْقَتْلِ أَحَدُ الأْمْرَيْنِ، فَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ عَنِ الْمَالِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ الْمَالُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ دُفِعَ إِلَى غُرَمَائِهِ.

وَعَفْوُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَعَفْوُ الْوَرَثَةِ عَنِ الْقِصَاصِ مَعَ نَفْيِ الْمَالِ إِذَا كَانَ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّةٌ كَعَفْوِ الْمُفْلِسِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ يَصِحُّ مِنْهُ إِسْقَاطُ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الدِّيَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْلِسِ عَلَى الأْصَحِّ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا قَالَ الْبُهُوتِيُّ - إِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجُزْ لآِخَرَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلَيْسَ لأِبِيهِمَا اسْتِيفَاؤُهُ كَوَصِيٍّ وَحَاكِمٍ، فَإِنْ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إِلَى نَفَقَةٍ فَلِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ الْعَفْوُ إِلَى الدِّيَةِ دُونَ وَلِيِّ الصَّغِيرِ نَصًّا؛ لأِنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ فِي حَالَةٍ مُعْتَادَةٍ يُنْتَظَرُ فِيهَا إِفَاقَتُهُ وَرُجُوعُ عَقْلِهِ، بِخِلاَفِ الصَّبِيِّ.

أَمَّا الْمُفْلِسُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَيَصِحُّ عَفْوُهُمَا عَنِ الْقِصَاصِ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُفْلِسُ الْقِصَاصَ لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ إِجْبَارُهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ الْمُفْلِسُ الْعَفْوَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لأِنَّ فِيهِ حَظًّا لِلْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَعْفُو مَجَّانًا؛ لأِنَّ الْمَالَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ إِذَا قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا، صَحَّ عَفْوُهُ عَنْهُ مَجَّانًا.

أَمَّا السَّفِيهُ وَوَارِثُ الْمُفْلِسِ وَالْمَرِيضُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْعَفْوِ مِنْ هَؤُلاَءِ مَجَّانًا؛ لأِنَّ الدِّيَةَ لَمْ تَتَعَيَّنْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُفْلِسِ.

الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ :

أ - فِي الْعَمْدِ :

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ جَائِزٌ؛ لأِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْوَلِيِّ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الإْسْقَاطِ وَالْمَحَلُّ قَابِلاً لِسُقُوطٍ، وَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ؛ وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ - وَهُوَ الْحَيَاةُ - يَحْصُلُ بِهِ؛ لأِنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ أَخْذِ الْمَالِ عَنْ صُلْحٍ وَتَرَاضٍ تَسْكُنُ الْفِتْنَةُ فَلاَ يَقْصِدُ الْوَلِيُّ قَتْلَ الْقَاتِلِ فَلاَ يَقْصِدُ الْقَاتِلُ قَتْلَهُ، فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِدُونِهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)،الآْيَةَ، قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ أَوْ مِنْ خِلاَفِ جِنْسِهَا، حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاوِتَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ عَفَا أَوْ صَالَحَ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ قَبْلَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدِّيَةِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ الدِّيَةِ أَمْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ بِأَنْ صَالَحَ عَلَى مِائَتَيْنِ مِنَ الإْبِلِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ الأْمْرَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ كَالصُّلْحِ مِنْ أَلْفٍ عَلَى أَلْفَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقَوَدُ بِعَيْنِهِ، صَحَّ عَلَى الأْصَحِّ وَثَبَتَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ، وَمُقَابِلُ الأَْصَحِّ يَقُولُ: الدِّيَةُ خِلْفَةً فَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا.

ب - فِي الْخَطَأِ:

ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لأِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ هُنَا تَمَكُّنُ الرِّبَا.

عَفْوُ الْمُوَكِّلِ دُونَ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ :

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَكَّلَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا فَاقْتَصَّ الْوَكِيلُ جَاهِلاً عَفْوَهُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الأَْظْهَرُ وُجُوبُ دِيَةٍ وَأَنَّهَا عَلَيْهِ لاَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَتَكُونُ حَالَّةً فِي الأْصَحِّ مُغَلَّظَةً فِي الْمَشْهُورِ وَهِيَ لِوَرَثَةِ الْجَانِي، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْعَافِي؛ لأِنَّهُ مُحْسِنٌ بِالْعَفْوِ، وَالثَّانِي يَقُولُ: نَشَأَ عَنْهُ الْغُرْمُ، وَمُقَابِلُ الأَْظْهَرِ يَقُولُ: عَفْوُهُ بَعْدَ خُرُوجِ الأْمْرِ مِنْ يَدِهِ لَغْوٌ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: لاَ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِغَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ؛ لأِنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَتِهِ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِذَا وَكَّلَ وَكِيلاً بِالْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيلُ فَلِكُلِّ مَنْ عَلِمَ بِالْعَفْوِ - وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ مُتَّهَمًا - مَنْعُهُ إِذَا أَرَادَ الْقِصَاصَ وَلَوْ بِالْقَتْلِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

ثَانِيًا - الْعَفْوُ فِي الْحُدُودِ:

يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْحَدَّ الْوَاجِبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ عَفْوَ فِيهِ وَلاَ شَفَاعَةَ وَلاَ إِسْقَاطَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْحَاكِمِ وَثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (حَدّ وَتَعْزِير).

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَذْفِ.

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ لاَ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ أَوِ الصُّلْحَ أَوِ الإْبْرَاءَ بَعْدَمَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ؛ لأِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لاَ حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلاَ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ إِذَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ فَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ أَوِ الإْبْرَاءُ أَوِ الصُّلْحُ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَفَا الْمَقْذُوفُ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ أَوْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ فَذَلِكَ بَاطِلٌ وَيَرُدُّ بَدَلَ الصُّلْحِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ كَمَا قَالَ أَصْبَغُ: سَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: لاَ يَجُوزُ عَفْوُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَ الإْمَامَ إِلاَّ ابْنٌ فِي أَبِيهِ وَالَّذِي يُرِيدُ سَتْرًا، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّهُ يُرِيدُ سَتْرًا فَعَفَا إِنْ بَلَغَ الإْمَامَ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ سِرًّا، فَإِنْ خَشِيَ أَنْ يُثْبِتَ الْقَاذِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَجَازَ عَفْوَهُ، وَإِنْ أُمِنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ عَفْوُهُ.

أَمَّا قَبْلَ بُلُوغِ الإْمَامِ فَجَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ الْعَفْوُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَرَوَى أَشْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِلاَزِمٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ فِيهِ؛ لأِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي»،وَالتَّصَدُّقُ بِالْعِرْضِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْعَفْوِ عَمَّا يَجِبُ لَهُ؛ وَلأِنَّهُ لاَ خِلاَفَ أَنَّهُ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِمُطَالَبَتِهِ فَكَانَ لَهُ الْعَفْوُ كَالْقِصَاصِ.

ثَالِثًا - الْعَفْوُ فِي التَّعْزِيرِ :

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَفْوِ فِي التَّعْزِيرِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ لِلإْمَامِ الْعَفْوَ فِي التَّعْزِيرِ الْوَاجِبِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، بِخِلاَفِ مَا كَانَ لِجِنَايَةٍ عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّ الْعَفْوَ فِيهِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ،وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ وَجَبَ كَالْحُدُودِ، إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الإْمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مِنَ الْمَلاَمَةِ وَالْكَلاَمِ مَصْلَحَةٌ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا إِذَا كَانَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الآْدَمِيِّ وَانْفَرَدَ بِهِ حَقُّ السَّلْطَنَةِ كَانَ لِوَلِيِّ الأْمْرِ مُرَاعَاةُ حُكْمِ الأْصْلَحِ فِي الْعَفْوِ وَالتَّعْزِيرِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ : إِنَّ الْحَدَّ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْعَفْوُ وَالشَّفَاعَةُ، لَكِنْ يَجُوزُ فِي التَّعْزِيرِ الْعَفْوُ عَنْهُ وَتَسُوغُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ، فَإِنْ تَفَرَّدَ التَّعْزِيرُ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَحُكْمِ التَّقْوِيمِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ جَازَ لِوَلِيِّ الأْمْرِ أَنْ يُرَاعِيَ الأْصْلَحَ فِي الْعَفْوِ أَوِ التَّعْزِيرِ، وَجَازَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ مَنْ سَأَلَ الْعَفْوَ عَنِ الذَّنْبِ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ»،وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالتَّعْزِيرِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ كَالتَّعْزِيرِ فِي الشَّتْمِ وَالْمُوَاثَبَةِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلْمَشْتُومِ وَالْمَضْرُوبِ، وَحَقُّ السَّلْطَنَةِ لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ فَلاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الأْمْرِ أَنْ يُسْقِطَ بِعَفْوٍ حَقَّ الْمَشْتُومِ وَالْمَضْرُوبِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لَهُ حَقَّهُ مِنْ تَعْزِيرِ الشَّاتِمِ وَالضَّارِبِ، فَإِنْ عَفَا الْمَضْرُوبُ وَالْمَشْتُومُ كَانَ وَلِيُّ الأْمْرِ بَعْدَ عَفْوِهِمَا عَلَى خِيَارِهِ فِي فِعْلِ الأْصْلَحِ مِنَ التَّعْزِيرِ تَقْوِيمًا وَالصَّفْحِ عَنْهُ عَفْوًا، فَإِنْ تَعَافَوْا عَنِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ سَقَطَ التَّعْزِيرُ لآِدَمِيٍّ، وَاخْتُلِفَ فِي سُقُوطِ حَقِّ السَّلْطَنَةِ عَنْهُ وَالتَّقْوِيمِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ.

وَالثَّانِي، وَهُوَ الأَْظْهَرُ أَنَّ لِوَلِيِّ الأْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْعَفْوِ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي يَعْلَى الْفَرَّاءِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَعْزِير ف 57).

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الرابع والثلاثون ، الصفحة /  158

الْعَفْوُ عَنِ الْكَبَائِرِ:

يَخْتَلِفُ الْمَقْصُودُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْكَبَائِرِ بِحَسَبِ نَوْعِ الْكَبِيرَةِ، هَلْ هِيَ اعْتِدَاءٌ عَلَى مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوِ اعْتِدَاءٌ عَلَى مَا فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْعَبْدِ، كَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ:

فَالْعَفْوُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّوْعِ الأْوَّلِ هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالآْخِرَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتُبْ مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ فَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ لقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : «تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ قَالَ: فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ».

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْكَبَائِرُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ تُغْفَرُ لِمَنْ أَقْلَعَ عَنْهَا قَبْلَ الْمَوْتِ، وَقَدْ يَغْفِرُ لِمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ مَاتَ عَلَى الذُّنُوبِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ تَكُنْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الإْشْرَاكِ وَغَيْرِهِ مَعْنًى، إِذِ التَّائِبُ مِنَ الشِّرْكِ أَيْضًا مَغْفُورٌ لَهُ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَبَائِرِ الَّتِي فِيهَا اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ فَالْحُكْمُ فِي الْعَفْوِ عَنْهَا فِيهِ تَفْصِيلٌ:

أ - إِنْ كَانَتِ الْكَبِيرَةُ جِنَايَةً عَلَى النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهَا عَمْدًا عُدْوَانًا فَلأِوْلِيَاءِ الدَّمِ - أَوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ بَقِيَ حَيًّا - الْمُطَالَبَةُ بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ أَوِ الْعَفْوِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَفْوٌ. ف 18 وَمَا بَعْدَهَا).

ب - وَإِذَا كَانَتِ الْكَبِيرَةُ سَرِقَةً يَجُوزُ عَفْوُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَنِ السَّارِقِ قَبْلَ بُلُوغِ الإْمَامِ، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 72).

ج - وَإِذَا كَانَتِ الْكَبِيرَةُ حِرَابَةً وَتَابَ الْمُحَارِبُونَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ سَقَطَ عَنْهُمْ حَدُّ الْحِرَابَةِ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الصَّلْبِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ النَّفْيِ، لاَ إِنْ تَابُوا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْحَالَتَيْنِ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُمْ حُقُوقُ الْعِبَادِ مِنَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا وَالدِّيَاتِ وَغَرَامَةِ الْمَالِ فِيمَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (حِرَابَةٌ ف 24).

د - لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ بَعْدَ أَنْ تَبْلُغَ الإِْمَامَ، كَمَا تَحْرُمُ الشَّفَاعَةُ وَطَلَبُ الْعَفْوِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا».

هـ - الْعَفْوُ فِي الْكَبَائِرِ الَّتِي فِيهَا تَعْزِيرٌ جَائِزٌ لِلإْمَامِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الْعَفْوِ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ قُدَامَةَ مَا لَوْ كَانَ التَّعْزِيرُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (عَفْوٌ ف 32).

أَثَرُ التَّوْبَةِ فِي انْتِفَاءِ الْفِسْقِ عَنْ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، وَأَثَرُهَا فِي تَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ:

ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ رَأْيُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَصَفْوَانِ بْنِ سُلَيْمٍ، إِلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ، وَلاَ بُدَّ مَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ؛ لأَِنَّهَا فَرْضٌ لاَزِمٌ عَلَى الْعِبَادِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ (الْجَدُّ) الْحَدُّ يَرْفَعُ الإِثْمَ وَيَبْقَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْفِسْقِ، مَا لَمْ يَتُبْ وَتَظْهَرْ تَوْبَتُهُ.

وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِمُجَرَّدِهِ كَفَّارَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ».

قَالَ الْمِنْهَاجِيُّ: التَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تُسْقِطُ الإْثْمَ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا إِقْلاَعٌ، وَنَدَمٌ، وَعَزْمٌ أَنْ لاَ يَعُودَ، وَتَبْرِئَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ حَقٍّ مَالِيٍّ إِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، كَمَنْعِ زَكَاةٍ أَوْ غَصْبٍ، بِرَدِّهِ أَوْ بَدَلِهِ إِنْ تَلِفَ، قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَيُعْتَبَرُ رَدُّ الْمَظْلِمَةِ وَأَنْ يَسْتَحِلَّهُ أَوْ يَسْتَمْهِلَهُ، وَهَذَا فِي الأْمْوَالِ، أَمَّا فِي مِثْلِ الْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ فَقَدْ قَالَ الْكَرْمِيُّ: لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْهَا إِعْلاَمُهُ وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ، بَلْ يَحْرُمُ إِعْلاَمُهُ (أَيْ: لِدَرْءِ الْفِتْنَةِ) ثُمَّ قَالَ الْمِنْهَاجِيُّ: أَمَّا التَّوْبَةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي تَعُودُ بِهَا الشَّهَادَةُ وَالْوِلاَيَةُ فَالْمَعَاصِي إِنْ كَانَتْ قَوْلِيَّةً شُرِطَ فِيهَا الْقَوْلُ، فَيَقُولُ فِي الْقَذْفِ: قَذْفِي بَاطِلٌ وَلاَ أَعُودُ إِلَيْهِ، أَوْ مَا كُنْتَ مُحِقًّا فِي قَذْفِي.

وَهَلْ مِنْ شُرُوطِ تَوْبَتِهِ إِصْلاَحُ الْعَمَلِ وَالْكَفُّ عَنِ الْمَعْصِيَةِ سَنَةً؟ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ كَافٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُشْتَرَطُ صَلاَحُ حَالِهِ أَوِ الزِّيَادَةُ فِي صَلاَحِهَا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ظُهُورُ أَفْعَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهِ

وَالتَّقَرُّبُ بِالطَّاعَاتِ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ بِسَنَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَقْوَالٌ: فَفِي الْخَانِيَّةِ: الْفَاسِقُ إِذَا تَابَ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ زَمَنٌ تَظْهَرُ فِيهِ التَّوْبَةُ، ثُمَّ بَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِسَنَةٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَالْمُعَدِّلِ، وَفِي الْخُلاَصَةِ: وَلَوْ كَانَ عَدْلاً فَشَهِدَ بِزُورٍ ثُمَّ تَابَ وَشَهِدَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُدَّةٍ.

وَهَذَا فِي الْكَبَائِرِ كُلِّهَا عَدَا الْقَذْفَ فَفِيهِ خِلاَفٌ، بَعْدَ الاِتِّفَاقِ عَلَى زَوَالِ اسْمِ الْفِسْقِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ:

ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ إِنْ تَابَ سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْبَتُهُ قَبْلَ الْحَدِّ أَمْ بَعْدَهُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا)، وَقَالُوا: الاِسْتِثْنَاءُ فِي سِيَاقِ الْكَلاَمِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ إِلاَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ذَلِكَ خَبَرٌ، وَلأِنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْفِسْقِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ، لَكِنَّ مَالِكًا اشْتَرَطَ أَنْ لاَ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ فِي مِثْلِ الْحَدِّ الَّذِي أُقِيمَ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمَسْرُوقٌ وَشُرَيْحٌ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ إِذَا كَانَتْ تَوْبَتُهُ بَعْدَ الْحَدِّ، وَقَالُوا: إِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ فِي الآْيَةِ عَائِدٌ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الْفِسْقُ، وَلاَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، لأِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالتَّأْبِيدِ، وَلأِنَّ الْمَنْعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ جُعِلَ مِنْ تَمَامِ عُقُوبَةِ الْقَاذِفِ، وَلِهَذَا لاَ يَتَرَتَّبُ الْمَنْعُ - عِنْدَهُمْ - إِلاَّ بَعْدَ الْحَدِّ، وَمَا كَانَ مِنَ الْحُدُودِ وَلَوَازِمِهَا لاَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، فَلَوْ قَذَفَ وَلَمْ يُحَدَّ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قَذْفٌ ف 21).

تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ إِلَى أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، لقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا)، وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ).

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ».

وَذَهَبَ الأْصُولِيُّونَ - كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْقَطْعِ تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ، وَالْمَشِيئَةُ ثَابِتَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، قَالُوا وَلاَ ذَنْبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ وَاجِبًا بِاجْتِنَابِ ذَنْبٍ آخَرَ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَطَعْنَا لِمُجْتَنِبِ الْكَبَائِرِ وَمُمْتَثِلِ الْفَرَائِضِ بِتَكْفِيرِ صَغَائِرِهِ قَطْعًا لَكَانَتْ لَهُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ الَّذِي نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لاَ تِبَاعَةَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ نَقْضٌ لِعُرَى الشَّرِيعَةِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»، فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى الْيَسِيرِ كَمَا جَاءَ عَلَى الْكَثِيرِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ الصَّغَائِرَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لَكِنْ بِضَمِيمَةٍ أُخْرَى إِلَى الاِجْتِنَابِ، وَهِيَ إِقَامَةُ الْفَرَائِضِ.

وَاخْتُلِفَ هَلْ شَرْطُ التَّكْفِيرِ لِلصَّغَائِرِ عَدَمُ مُلاَبَسَتِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الْكَبَائِرِ أَوْ لاَ يُشْتَرَطُ؟ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ عَنِ الْجُمْهُورِ الاِشْتِرَاطَ، لِظَاهِرِ حَدِيثِ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتُ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ، قَالُوا: وَالشَّرْطُ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الاِسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: مُكَفِّرَاتُ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ الْكَبَائِرَ.

وَيُسَاعِدُ ذَلِكَ مُطْلَقُ الأْحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّكْفِيرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ.

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / التاسع والثلاثون ، الصفحة / 277

حَقُّ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ:

لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْقَوَدَ لاَ يَجِبُ إِلاَّ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ بَعْدَ اجْتِمَاعِ شُرُوطِهِ، وَأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ (أَوْلِيَاءِ الدَّمِ)، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْحَقِّ هَلْ يَثْبُتُ لَهُمُ ابْتِدَاءً أَمْ بِطَرِيقِ الإْرْثِ عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؟ وَمَنْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْهُمْ؟ وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلاً بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ جَمِيعِهِمْ، الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، مِنْ ذَوِي الأْنْسَابِ وَالأْسْبَابِ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَأَمْلاَكِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ.

وَعَلَى ذَلِكَ، فَمَتَى انْتَقَلَ الْحَقُّ لِلْوَرَثَةِ، فَهُمْ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءُوا اقْتَصُّوا، وَإِنْ شَاءُوا  عَفَوْا، وَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِيهِ، لأِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالاً، وَلاَ يَكُونُ لِلْعَافِي شَيْءٌ مِنْهُ، وَلأِنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مَجَّانًا بِرِضَاهُ.

وَإِذَا انْقَلَبَ الْقِصَاصُ إِلَى مَالٍ بِعَفْوِ الْوَرَثَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ يَكُونُ لِلْمَوْرُوثِ أَوَّلاً، فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَتَنْفُذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ.

وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْعَصَبَاتِ الذُّكُورِ مِنْ وَرَثَتِهِ خَاصَّةً، لأِنَّهُ ثَبَتَ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ، كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ.

وَالثَّالِثُ: لأِبِي حَنيِفَةَ وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ مَوْرُوثًا عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ، لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ التَّشَفِّي وَدَرْكُ الثَّأْرِ، وَالْمَيِّتُ لاَ يَجِبُ لَهُ إِلاَّ مَا يَصْلُحُ لِحَاجَتِهِ مِنْ تَجْهِيزِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ، وَالْقِصَاصُ لاَ يَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ وَقَعَتْ عَلَى وَرَثَتِهِ مِنْ وَجْهٍ، لاِنْتِفَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَأْنِسُونَ بِهِ وَيَنْتَصِرُونَ، وَيَنْتَفِعُونَ بِمَالِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، لِحُصُولِ التَّشَفِّي لَهُمْ وَلِوُقُوعِ الْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّهِمْ، لاَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ التَّوَارُثُ كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلَكِنْ إِذَا انْقَلَبَ ذَلِكَ الْحَقُّ مَالاً، فَإِنَّهُ يَصِيرُ عِنْدَئِذٍ مَوْرُوثًا، لأِنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً إِنَّمَا كَانَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ صُلُوحِهِ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ، فَإِذَا انْقَلَبَ مَالاً بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ أَوِ الْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ - وَالْمَالُ يَصْلُحُ لِحَوَائِجِ الْمَيِّتِ مِنَ التَّجْهِيزِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا - ارْتَفَعَتِ الضَّرُورَةُ، وَصَارَ الْوَاجِبُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَالُ، إِذِ الْخُلْفُ إِنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الأْصْلُ، فَيَثْبُتُ الْفَاضِلُ عَنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ لِوَرَثَتِهِ خِلاَفَةً لاَ أَصَالَة.

أَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُورَثُ عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَلاَ يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، وَثُبُوتُهُ لِوَرَثَتِهِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ عَنْهُ لاَ ابْتِدَاءً وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ فِي الأْطْرَافِ لاَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ إِلاَّ إِذَا طَالَبَ بِهِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُطَالِبْ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِوَفَاتِهِ.