ملحوظة 1: بموجب قانون حالة الطوارئ رقم 162 لسنة 1958، وقرار رئيس الجمهورية رقم 290 لسنة 2021 بمد حالة الطوارئ المعلنة بقرار رئيس الجمهورية رقم 174 لسنة 2021 في جميع أنحاء البلاد لمدة ثلاثة أشهر تبدأ من 24 /7 /2021، وبتفويض رئيس مجلس الوزراء في اختصاصات رئيس الجمهورية المنصوص عليها في القانون المشار إليه، فقد صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1664 لسنة 2021 المنشور في الجريدة الرسمية، العدد 28 (مكرر) في 18 يوليو 2021، والذي تضمن إحالة الجريمة موضوع هذا النص إلى محاكم أمن الدولة طوارئ، وذلك خلال فترة سريان قرار رئيس الجمهورية بمد حالة الطوارئ.
ملحوظة 2 : انتهت حالة الطوارئ بانتهاء المدة المنصوص عليها في قرار رئيس الجمهورية رقم 290 لسنة 2021 المشار إليه أعلاه، دون تمديد، وعليه يعود الاختصاص بنظر الجريمة موضوع هذه المادة إلى المحاكم العادية والقاضي الطبيعي، طالما لم تتم إحالة المتهم إلى محكمة أمن الدولة طوارئ قبل انتهاء الفترة المشار إليها.
(مركز الراية للدراسات القانونية)
ويهدف هذا النص إلى حماية مصلحة الدولة عند مباشرتها للعمليات الحربية وهو ما يتعلق بأمنها وسيادتها واستقلالها.
وتقتضي هذه الجريمة ركناً مادياً هو السعي أو التخابر لدى دولة أجنبية معادية أو أحد ممن يعمل لمصلحتها، كما بينا في الجريمة المنصوص عليها في المادة (77 ب) عقوبات، إلا أن القانون تطلب في هذه الجريمة أن تكون الدولة الأجنبية معادية كما اشترط توافر قصد جنائي خاص في هذه الجريمة .
الدولة المعادية
لا يكفي مجرد السعي أو التخابر مع دولة أجنبية أو أحد ممن يعملون لمصلحتها أيا كانت هذه الدولة، بل يجب أن تكون دولة معادية .
والواضح أن هذه الجريمة تتطلب السعي أو التخابر لدى دولة معادية، وأنها لا تقع إلا إذا قصد الجاني معاونة هذه الدولة في عملياتها الحربية أو الإضرار بالعمليات الحربية، واشتراط وجود عملیات حربية قائمة بين البلاد والدولة الأجنبية يفيد حتماً أن هذه الجريمة تتعلق بالحرب أو تقع في زمن الحرب، فلا يكفي إذا بمجرد أن تكون الدولة قد قامت بأعمال عدائية لا تصل إلى حد الحرب حتى تعد الدولة معادية في حكم هذا النص. ويقودنا هذا البحث عن التساؤل عن ماهية حالة الحرب؟
حالة الحرب:
الأصل أن يتعين الرجوع إلى فقه القانون الدولي العام لتحديد معنى الحرب. ومن المقرر بادئ ذي بدء أن الحرب هي صراع بين دولتين، وأن الحرب قد تقوم بين دولة وبين بعض الثوار القائمين في وجهها، بل بين هيئتين في دولة واحدة تريد كل منهما أن تستولي على سلطة الحكم بشرط أن يتم الاعتراف للفريقين بصفة المحاربين.
وقد ثار البحث في إحدى قضايا الجاسوسية الكبرى التي ارتكبت في الآونة الأخيرة عما إذا كانت الجمهورية في حالة حرب مع القوات الإسرائيلية التي تحتل أرض فلسطين أم لا، وذلك قبل حرب يونيو سنة 1967. وقد سنحت الفرصة أمام محكمة النقض لكي ترسي المقصود بحالة الحرب في جرائم الاعتداء على أمن دولة الخارجي، فقالت بصحة ما انتهت إليه محكمة الجنايات من قيام حالة الحرب بين مصر وإسرائيل استناداً إلى اتساع العمليات الحربية بين مصر والدول العربية من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى، ومن امتداد زمن هذه العمليات، ومن تدخل الأمم المتحدة وعقد الهدنة التي لا تكون إلا بين متحاربين وإصدار مصر التشريعات المؤسسة على قيام حالة الحرب كإنشاء مجلس الغنائم ومن اعتراف بعض الدول بإسرائيل كدولة.
وقد اشترط البعض لوقوع هذه الجريمة أن تكون هناك حرب قائمة أو معلنة، والحرب القائمة هي التي تتم بأعمال العدوان التي لا يسبقها إعلان بالحرب. بخلاف الحرب المعلنة، فهي التي يسبقها هذا الإعلان سواء كان مشروطاً أو مسبباً. إلا أن قانون العقوبات المصري قد أعطى لحالة الحرب معنى أوسع من ذلك، فنص في الفقرة ج من المادة (85/ 1) على أنه تعتبر حالة قطع العلاقات السياسية في حكم حالة الحرب، وتعد من زمن الحرب الفترة التي يحدق فيها خطر الحرب متى انتهت بوقوعها فعلاً. وبذا يبين أن قانون العقوبات المصري يتمتع باستقلال قانوني في صدد تفسير معنى الحرب، ويتعين الأخذ به في تحديد معنى الدولة المعادية. فلا يكفي لتوافر حالة الحرب أن تقرر الدولة اتخاذ إجراءات داخلية مما تتخذ في الحرب ما لم تتوافر حالة الحرب بالمعنى الذي يقصده قانون العقوبات. ويستوي أن تكون الحرب قائمة فعلاً في جميع إقليم، أو في جزء منه أو أن ترتكب الجريمة في المنطقة التي تباشر فيها الحرب أو في غيرها من المناطق.
ويلاحظ أن حالة الحرب أو ما في حكمها تعد شرطة مفترضاً في هذه الجريمة إذ هي لازمة لإسباغ صفة العداء على الدولة التي حصل السعي والتخابر معها، فهي ليست مجرد ظرف مشدد كما في المادة (77 د).
وأخيراً، فإن المقصود بالدولة هنا يتسع للحكومة وجيشها وكافة المنظمات والجمعيات والأفراد في هذه الدولة والذين يساهمون بنشاط معين في العمليات العسكرية.
القصد الجنائي:
يتعين بادئ ذي بدء توافر القصد الجنائي العام بأن يعلم الجاني بأنه يسعى ويتخابر مع دولة معادية أو أحد يعمل لمصلحتها.
وفضلاً عن هذا القصد الجنائي العام، يستلزم القانون توافر قصد جنائي خاص هو اتجاه نية الجاني إلى أحد غرضين. الأول: معاونة الدولة المعادية في عملياتها. الثاني: الإضرار بالعمليات الحربية لجمهورية مصر العربية.
ولا يشترط لتحقق الغرض الأول أن تكون العمليات الحربية الأجنبية قد شنت بالفعل، إذ يكفي أن تكون الدولة المعادية قد اعتزمت القيام بهذه العمليات ولو لم تكن قد قامت بتنفيذها وقت السعي أو التخابر. ومن صور هذه المعاونة تزويد العدو بالبيانات والإرشادات المتعلقة بالدفاع عن البلاد، وتمكينه من وسيلة أو أكثر من وسائل المواصلات أو تقديم التسهيلات له لدخول إقليم البلاد. هذا، ويعد مد العدو بالمواد التموينية من ضروب المعاونة نظراً لأهميتها القصوى في صمود العدو واستمراره في عملياته الحربية. ولا يشترط أن تكون المعاونة قد تحققت بالفعل، فمن يتخابر مع دولة معادية للحصول على أسرار الدفاع لتسليمها إليها بقصد معاونتها في عملياتها الحربية تقع منه هذه الجريمة بصرف النظر عن عدم تمكينه من تحقيق هذه المعاونة بسبب افتضاح أمره وهكذا فإن المعونة إما أن تكون إستراتيجية أو عسكرية أو اقتصادية.
كما لا يشترط لتحقيق الغرض الثاني أن يكون الجاني قد تمكن بالفعل من الإضرار بالعمليات الحربية الوطنية، بل يكفي مجرد تحقيق النية ولو لم يعقبها التنفيذ ومن صور هذا القصد أن يسعى الجاني إلى تثبيط همم الجنود وحثهم على الاستسلام أو أن يسعى إلى امتناع موظفي السكة الحديد عن تسيير القطارات التي تحمل الجنود والمؤن إلى ميدان القتال. هذا، ويعد قصد معاونة الدولة المعادية في عملياتها الحربية منطوياً بالضرورة على توافر قصد الإضرار بالعمليات الحربية الوطنية، فمثلا کشف المواقع الحربية أو مواقع وإقامة رجال الجيش وقادته مما يمكن العدو من ضرب هذه المواقع والإضرار بالعمليات الحربية الوطنية.
فإذا لم يتجه قصد الجاني إلى تحقيق أي من الغرضين المتقدمين، وانصرفت نيته إلى مجرد تحقيق المنفعة، فإن فعله لا يندرج تحت حكم هذه المادة، دون إخلال بانطباق المادة (77 د) إذا كان من شأن ما أتاه من أفعال الإضرار بالمركز الحربي للبلاد. على أنه يجب أن يلاحظ أنه متى توافر القصد الجنائي على معاونة العدو في عملياته الحربية ضد الجمهورية أو على الإضرار بعملياتها الحربية لم يحل دون وقوع الجريمة أن يكون الباعث عليها هو مجرد الحصول على الربح. ويستوي في هذه الجريمة أن يكون الباعث على ارتكابها في نظر الجاني هو الانتقام أو الكراهية أو الحقد أو الطمع، طالما أن القصد الخاص قد توافر في حق الجاني وفقاً لأحد الفرضين سالفة الذكر.
العقوبة:
عقوبة هذه الجريمة هي الإعدام، ولو لم يتحقق قصد الجاني من ارتكابها. (الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الطبعة السادسة الكتاب الأول 2016، الصفحة: 47 ).
لا يكفي لأعمال هذا النص مجرد السعى أو التخابر مع دولة أجنبية أو أحد ممن يعملون في مصلحتها أياً كانت هذه الدولة بل يجب أن تكون دولة معادية. - والركن المادي هو السعي أو التخابر معها أما الركن المعنوي ففضلاً عن استلزام القصد الجنائي العام والمراد به هو أن يعلم الجاني بأنه يسعى ويتخابر مع دولة معادية أو مع أحد يعمل لمصلحتها فإن المشرع قد استلزم توافر قصد جنائى خاص هو اتجاه نية الجاني لأحد غرضين .
(الأول) معاونة الدولة المعادية في عملياتها التي لايشترط أن تكون قد شنت بالفعل وإنما يكفي أن تكون الدولة المعادية قد اعتزمت القيام بهذه العمليات ولو لم تكن قد قامت بتنفيذها وقت السعي أو التخابر.
(الثاني) الإضرار بالعمليات الحربية المصرية بل يكفي مجرد تحقيق النية ولو لم يعقبها التنفيذ ومن صور هذا القصد أن يسعى الجاني إلى تثبيط همم الجنود وحثهم على الاستسلام أو أن يسعى إلى امتناع موظفي السكة الحديد عن تسيير القطارات التي تحمل الجنود والمؤن إلى القتال .
لا يتصور الشروع في جريمتي السعي والتخابر للأسباب التالية:
(1) أن المشرع جرم السعي أو التخابر وقرر لهما عقوبة واحدة وهي الإعدام فالجريمة في كل منهما تقع تامة بمجرد السعي أو التخابر بصرف النظر عما إذا كان مرتكب هذا النشاط الإجرامي المتهم أو الدولة الأجنبية أو ممن يعمل لمصلحتها حتى إذا أوقف فعله أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادته فيه.
(2) لو فرضنا جدلاً أن الأفعال التي من شأنها أن تقرب المتهم إلى الدولة الأجنبية أو من يعمل لمصلحتها هي مجرد عزم على ارتكاب الجريمة أو أعمال تحضيرية فهي لا تعتبر شروعاً عملاً بنص المادة (45/ 2) عقوبات فضلاً عن أن كل ذلك يخالف قصد وروح التشريع.
(3) اعتبر المشرع السعي أو التخابر جريمة تامة وحدد عقوبتها فعملاً بقاعدة لا اجتهاد مع صراحة النص فلا يتصور الشروع في السعي أو التخابر والقول بغير ذلك هو تحميل النص القانوني أكثر مما يحتمل . (موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثاني، الصفحة: 12)
إذا كانت الدولة في حالة حرب مع مصر، فمعنى ذلك أن العلاقات معها لم تعد عادية"، ولا يكون ثمة محل لتجريم الاتصال بها للقيام بأعمال عدائية، كما هو الشأن في المادة (77 ب) .
ويكون الخطر في اتصال شخص بهذه الدولة المعادية، سواء في صورة سعي لديها أو تخابر معها لمعاونتها في عملياتها الحربية، وهذا الخطر هو ما تواجهه بالفعل المادة (77 ج) عقوبات.
محل الحماية :
ومحل الحماية الجنائية هو مصلحة الدولة في المحافظة على وضع أو حالة المحاربين بها من كل فعل ضار أو ذي خطر لا يتدخل مرتكبه في أعمال الحرب ذاتها مباشرة، وإنما يمارس عمله غير المباشر عن طريق السعى أو التخابر علی الوسائل الملائمة لخدمة العدو في عملياته الحربية.
ويواجه هذا النص حالة الشخص الذي يقف عند مجرد السعى أو التفاهم مع العدو على وسائل تلائم غرضه في إعانته أو الإضرار في العمليات الحربية المصرية.
فالسعي أو التخابر يعد بالبداهة خطوة سابقة على تحقيق الغرض ذاته بالتدخل في تقديم العون بالعمليات الحربية.
الجاني :والجاني في هذه الجريمة هو بضريح النص "كل شخص"، فيستوي إذن أن يكون مصرياً أو أن يكون أجنبياً.
كما أنه وفقاً للمادة الثانية من قانون العقوبات لا تفرقه بين ارتكاب الفعل في مصر أو في الخارج، إذ أنه يخضع في الحالتين لحكم القانون المصري. ويعفي من "المحاكمة أعضاء التمثيل الدبلوماسي لما لهم من حصانة مطلقة.
الاتصال المباشر بدولة معادية :
والسعي أو التخابر في هذه الجناية ينبغي أن يكون مع "دولة معادية"، ونص المادة (77 ج) صريح في هذا المعنى إذ يقول "كل من سعى لدى دولة معادية أو تخابر معها...". فالجريمة إذن من جرائم الحرب ، والنص يفيد معنى الاتصال المباشر بالدولة المعادية بالذات أو ما في حكمها. أي أنه يجب أن يكون تفاهم الجاني مع الدولة التي تعد طرفاً ضد الجمهورية في فترة الحرب دون غيرها، فلا ينطبق حكم هذه الجناية إذا حصل الاتصال بدولة "محايدة" لإعانة دولة معادية".
الركن المادي:
في هذه الجناية الركن المادي هو السعى أو التخابر، فبأي الفعلين تتم الجريمة، ولو لم ينفذ الفعل الذي يحقق الغرض من السعى أو التخابر، وهو إعانة العدو في عملياته الحربية أو الإضرار بالعمليات الحربية المصرية، والسعي هو نشاط إيجابي من جانب واحد، لدى الدولة الأجنبية المعادية أو من يعمل لمصلحتها. و يتخذ صورة في هذه الجريمة بما يلائم الغرض منها.
فيصح إذن أن يكون بنصح العدو أو بتحريضه على اتخاذ إجراء معين، أو بالدس لديه، أو حتى بغرض التفاهم على القيام بالعمل الذي يحقق إعانته في عملياته الحربية. ومن أمثلته أن يعرض شخص استعداده تسليم شيء مما أعد للدفاع عن البلاد أو مما يستعمل في ذلك، أو أن يرسل إلى قوات العدو خطابات يتهم فيها أشخاصاً بالشيوعية وبالتربص بانتهاز الفرص لمقاومته، لأن هذا العمل من شأنه إرضاء السلطة الأجنبية وخدمة مشروعاتها إذا اقتضى الحال.
أما التخابر فهو التفاهم أو تبادل الاتفاق بين إرادتين على الوسائل الملائمة لتحقيق الغرض الذي بينه النص، وهو إعانة العدو في عملياته الحربية أو الإضرار بالعمليات الحربية المصرية، ولا اعتداد بصورته أو وسيلته، كما في السعي. ومن أمثلته تفاهم شخص على أن يضع نفسه في خدمة الجاسوسية للدولة المعادية، وقبوله العودة من الخارج تحقيقاً لهذا الغرض لكي يحصل على معلومات حربية، مثل مكان الوحدات، وأسماء القادة الحربيين، ونقط إلقاء القنابل، وتفاهم شخص على أن يعمل على تعطيل حركة المصانع الكهربائية للدولة أثناء الحرب واستلامه فعلاً صندوقاً أرسل إليه على أن به خزفاً وهو يحتوي في الحقيقة على أنابيب معدنية ومواد ناسفة وأجهزة صنعت في الدولة المعادية لهذا الغرض .
وغني عن البيان أن هذه الجريمة شكلية، لأن ركنها المادي يتم بارتكاب فعل السعي أو التخابر، ولو لم يتحقق الغرض أو النتيجة التي يهدف إليها الجاني. ومن ثم لا يتصور الشروع فيها.
الركن المعنوي :
وهذه الجناية لا تقع إلا عمدية، والقصد اللازم فيها هو القصد الجنائي الخاص، فلابد إذن فضلاً عن علم الجاني بجانب الواقع وعلى الأخص أن يتصل بدولة معادية من أن تكون لديه غاية معينة يهدف إليها من وراء سعيه أو تخابره، وهذه الغاية هي بصريح النص 'إعانة العدو في عملياته الحربية أو الإضرار بالعمليات الحربية المصرية.
العقوبة:
هي الإعدام. ويجوز للمحكمة أن تقضي فضلاً عن ذلك بغرامة لا تتجاوز عشرة آلاف جنيه وفقاً لنص المادة (83) عقوبات. (الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثاني، الصفحة: 37)
قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة، إعداد لجنة تقنين الشريعة الاسلامية بمجلس الشعب المصري، قانون العقوبات، الطبعة الأولى 2013م – 1434هـ، دار ابن رجب، ودار الفوائد، الصفحة 157 .
الفصل الأول
الجرائم الماسة بأمن الوطن الخارجي
(مادة 285)
يعاقب بالإعدام :
(أ) كل من ارتكب عمدا فعلا يؤدي إلى المساس باستقلال الوطن، أو وحدته، أو سلامة أراضيه.
(ب) كل مصري رفع السلاح على مصر، أو التحق بأي وجه بصفوف دولة معادية، أو بالقوات المسلحة لدولة في حالة حرب مع مصر، أو بقوة مسلحة لجماعة معادية المصر ليست لها صفة المحاربين.
(جـ) كل من تدخل لمصلحة العدو في تدبير لزعزعة إخلاص القوات المسلحة، أو إضعاف روحها، أو روح الشعب المعنوية، أو قوة المقاومة عندهما.
(د) كل من حرض جنداً في زمن الحرب على الانخراط في خدمة دولة أجنبية، أو سهل ذلك لهم، وكذا من تدخل عمداً بأية كيفية في جمع جند، أو رجال، أو أموال، أو مؤن، أو عتاد، أو تدبير شيء من ذلك، لمصلحة دولة في زمن حرب مع مصر، أو جماعة مقاتلة لها صفة المحاربين.
(هـ) كل من سهل للعدو دخول إقليم الوطن، أو سلمه جزءا من أراضيه أو منشآت أو مواقع عسكرية أو موانئ أو ترسانات أو مخازن أو مصانع، أو سفناً أو طائرات أو وسائل مواصلات، أو أسلحة أو ذخائر أو مهمات حربية أو مؤناً أو أغذية ، أو غير ذلك مما أعد للدفاع عن الوطن أو ما يستعمل في ذلك، أو خدمة بأن نقل إليه أخباراً ، أو كان له مرشداً .
(مادة 286)
يعاقب بالسجن المؤبد أو المؤقت كل من أعان العدو عمدا بأية وسيلة أخرى لم تذكر فيما تقدم.
هذا وقد ارتأى المشروع ألا وجه لتقسيم جرائم الكتاب الثالث (الجرائم التعزيرية) إلى جرائم مضرة بالمصلحة العامة، وأخرى مضرة بمصلحة الأفراد؛ ذلك بأن كافة الجرائم تضر بالمصلحة العامة بصفة مباشرة أو غير مباشرة من خلال إضرارها بالمصلحة الخاصة.
خيانة، ذلك أن واجب الولاء للوطن لا يقوم إلا فيمن يتصف بصفة مواطن، وهو من يحمل الجنسية المصرية، فإذا انحسرت عنه فلا يجوز أن يطلق على جريمته وصف الخيانة، وهكذا في كل حالة فيما يرد من نصوص هذا الفصل، إذا ارتكبت الجريمة من مواطن مصري يقصد تعريض سلامة الوطن للخطر، وتشمل جرائم هذه المادة جرائم المساس باستقلال الوطن أو وحدته أو سلامة أراضيه، أو رفع المصري السلاح ضد الوطن، أو التحاقه بصفوف بلد معاد، أو بالقوات المسلحة لبلد في حالة حرب مع مصر، وكذلك الحال إذا التحق المصري بقوة مسلحة لجماعة معادية لمصر ليست لها صفة المحاربين، كما تضمن جرائم التدخل لمصلحة العدو لزعزعة إخلاص القوات المسلحة، أو إضعاف روحها المعنوية، أو روح الشعب المعنوية، أو قوة المقاومة عندهما، وكذلك من حرض أو سهل لجند الانخراط في خدمة دولة أجنبية، أو سهل ذلك لهم، أو تدخل بأية كيفية في جمع جند أو رجال أو أموال أو غيرها مما ورد بالنص، أو تدبير شيء من ذلك، وذلك كله المصلحة دولة إبان حربها مع مصر، أو جماعة لها صفة المحاربين تقاتل مصر، وكذلك من عمل على تسهيل دخول العدو إقليم الوطن، أو تسليمه جزءاً من أراضيه أو منشأة أو مواقع عسكرية أو سفناً أو طائرات، أو غير ما تقدم مما جاء به النص، متى كان ذلك قد أعد للدفاع عنه، كما أن من يخدم العدو وينقل أخباراً له أو عمل له مرشداً - يدخل في نطاق التأثيم الوارد بالنص.
وحتى لا يفلت من يعين العدو عمدا بوسيلة غير ما ورد بنص المادة (285)، فقد رأى المشرع أن يكون نص المادة (286) نصاً فيه من المرونة والاتساع ما يواجه الحالات التي لم يشملها نص المادة (285)؛ وذلك تحسبا لما قد يستجد من وسائل غير معروفة الآن، أو ما عساه يكون موجودا منها وليس في الحسبان.
کا تکفل نص المادة (287) بعقاب كل من يؤدي لقوات العدو أو فرد فيها خدمة، مقابل حصوله على فائدة أو منفعة أو وعد بها، وذلك لنفسه أو لغيره، وبصرف النظر عن طبيعة المنفعة أو الفائدة، ويستوي في التجريم أن تكون الخدمة المؤداة لقوات العدو أو إلى فرد في هذه القوات، ويؤثم نص المادة (288) من المشروع الإتلاف والتخريب أو التعطيل الأشياء أعدت للدفاع عن الوطن، أو مما يستعمل للدفاع عنه، وألحق بها جعل هذه الأشياء غير صالحة ولو بصفة مؤقتة للاستعمال فيها أعدت له، أو كان ما أتاه من شأنه أن يسفر عن حادث، كما أثم أيضا بذات العقوبة الواردة بالنص الإساءة عمداً في صنع أو إصلاح شيء من الأشياء المتقدمة، وجعل النص من حالة الحرب ظرفاً مشدداً، فغلظ العقوبة ورفعها إلى الإعدام.
وتعالج المادتان (289)، (290) من المشروع الإخلال العمد الناشئ عن إهمال أو تقصير في تنفيذ الالتزامات التعاقدية المفروضة عليه، بموجب عقد من العقود المنصوص عليها، بين من يأتي هذا الإخلال وجهة من الجهات المبينة بالنص، متى كان ذلك في زمن الحرب، وكان محل التعاقد يتعلق بحاجات القوات المسلحة، أو الحاجات الضرورية للمدنيين، كما ساوى المشرع في العقاب بين جريمة الإخلال العمدي سالفة الذكر وجريمة الغش في شيء من العقود السابق بيانها، وجعل المشرع عقوبة الجريمة العمدية السجن المؤقت، فإذا كان الإخلال أو الغش بقصد الإضرار بالدفاع عن الوطن أو بعمليات قواته المسلحة - كان ذلك ظرفا مشددا يغلظ العقوبة لتكون الإعدام، إذ الجريمة في هذه الحالة هي خيانة للوطن بمعنى الكلمة، هذا والفقرة الأخيرة من المادة (289) من المشروع يتسع حكمها ليشمل سريان الأحكام الواردة في النص على المتعاقدين من الباطن والوكلاء والوسطاء والبائعين، متى كان الإخلال أو الغش يرجع إلى فعلهم، ومن البداهة أنه لا بد أن يتوافر بفعلهم القصد الجنائي العام، فضلا عن القصد الخاص حسب الأحوال.
أما إذا كان الإخلال في تنفيذ ما ذكر من التزامات كلها أو بعضها نتيجة إهمال أو تقصير فتكون الجريمة جنحة عقوبتها الحبس، أو الغرامة التي لا تجاوز ألفي جنيه، أو إحدى هاتين العقوبتين.
والمادة (291) من المشروع تتناول بالعقاب كل من قدم سكناً أو مأوى أو طعاماً أو لباساً أو غير ذلك من صور المساعدة لجندي من جنود العدو المكلفين بعملية الاستكشاف، أو غير ذلك من الأعمال، أو ساعده على الهرب، وتتناول الفقرة الثانية من المادة تسهیل فرار أسير حرب أو أحد رعايا العدو المعتقلين بأمر من جهة الاختصاص، ومناط التأثيم الوارد في المادة هو أن يكون الجاني عالماً بصفة من يقدم له المساعدة، أو يسهل له الفرار، فضلا عن علمه بمهمة جندي العدو على ما ورد بنص الفقرة الأولى.
والمادتان (292)، (293) من المشروع تؤثمان السعي لدى دولة أجنبية معادية أو غير معادية والتخابر معها، أو مع أحد ممن يعملون لمصلحتها، متى كان من شأن ذلك - إذا كان السعي والتخابر مع دولة معادية - الإضرار بالعمليات الحربية لمصر، أو بمركزها الحربي أو السياسي أو الاقتصادي، فإذا كان السعي والتخابر مع دولة أجنبية ليست معادية أو مع أحد ممن يعملون لمصلحتها - فإن الجريمة لا تتحقق إلا إذا كان ذلك لتقوم هذه الدولة بأعمال عدائية ضد مصر.
والمادة (294) من المشروع تعاقب على الإتلاف العمدي أو إخفاء أو اختلاس أو تزوير الأوراق والوثائق المتعلقة بأمن الدولة، أو المتعلقة بأية مصلحة قومية أخرى للوطن، فإذا كان القصد منها الإضرار بمركز البلاد الحربي أو السياسي أو الاقتصادي أو الإضرار بمصلحة.
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / العاشر ، الصفحة / 161
تَجَسُّسٌ
التَّعْرِيفُ:
التَّجَسُّسُ لُغَةً: تَتَبُّعُ الأْخْبَارِ، يُقَالُ: جَسَّ الأْخْبَارَ وَتَجَسَّسَهَا: إِذَا تَتَبَّعَهَا، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، لأِنَّهُ يَتَتَبَّعُ الأْخْبَارَ وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الأْمُورِ، ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنِيِّ اللُّغَوِيِّ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّحَسُّسُ:
التَّحَسُّسُ هُوَ: طَلَبُ الْخَبَرِ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَسَّاسٌ لِلأْخْبَارِ أَيْ: كَثِيرُ الْعِلْمِ بِهَا، وَأَصْلُ الإْحْسَاسِ: الإْبْصَارُ، وَمِنْهُ قوله تعالى (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) أَيْ: هَلْ تَرَى، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْوِجْدَانِ وَالْعِلْمِ بِأَيِّ حَاسَّةٍ كَانَتْ، وَقَدْ قُرِئَ قوله تعالى (وَلاَ تَجَسَّسُوا) بِالْحَاءِ «وَلاَ تَحَسَّسُوا» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّجَسُّسَ غَالِبًا يُطْلَقُ عَلَى الشَّرِّ، وَأَمَّا التَّحَسُّسُ فَيَكُونُ غَالِبًا فِي الْخَيْرِ.
ب - التَّرَصُّدُ:
التَّرَصُّدُ: الْقُعُودُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ الرَّصَدِيُّ: الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الطَّرِيقِ يَنْظُرُ النَّاسَ لِيَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا . فَيَجْتَمِعُ التَّجَسُّسُ وَالتَّرَصُّدُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَتَبُّعُ أَخْبَارِ النَّاسِ، غَيْرَ أَنَّ التَّجَسُّسَ يَكُونُ بِالتَّتَبُّعِ وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِ الأْخْبَارِ وَلَوْ بِالسَّمَاعِ أَوِ الاِنْتِقَالِ، أَمَّا التَّرَصُّدُ فَهُوَ الْقُعُودُ وَالاِنْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ.
التَّنَصُّتُ:
التَّنَصُّتُ هُوَ: التَّسَمُّعُ. يُقَالُ: أَنْصَتَ إِنْصَاتًا أَيِ: اسْتَمَعَ، وَنَصَتَ لَهُ أَيْ: سَكَتَ مُسْتَمِعًا، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّجَسُّسِ؛ لأِنَّ التَّنَصُّتَ يَكُونُ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً.
حُكْمُ التَّجَسُّسِ التَّكْلِيفِيِّ:
التَّجَسُّسُ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ ثَلاَثَةٌ: الْحُرْمَةُ وَالْوُجُوبُ وَالإْبَاحَةُ.
فَالتَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الأْصْلِ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لقوله تعالى (وَلاَ تَجَسَّسُوا) لأِنَّ فِيهِ تَتَبُّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَايِبِهِمْ وَالاِسْتِكْشَافَ عَمَّا سَتَرُوهُ. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإْيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ).
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ إِلاَّ عَنِ الإْمَامِ وَالْوَالِي وَأَحَدِ الشُّهُودِ الأْرْبَعَةِ فِي الزِّنَى.
وَقَدْ يَكُونُ التَّجَسُّسُ وَاجِبًا، فَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ قَالَ: اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ أَرَى أَنْ يُطْلَبُوا فِي مَظَانِّهِمْ وَيُعَانَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقْتَلُوا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأْرْضِ بِالْهَرَبِ . وَطَلَبُهُمْ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ وَتَتَبُّعِ أَخْبَارِهِمْ.
وَيُبَاحُ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ بَعْثُ الْجَوَاسِيسِ لِتُعْرَفَ أَخْبَارُ جَيْشِ الْكُفَّارِ مِنْ عَدَدٍ وَعَتَادٍ وَأَيْنَ يُقِيمُونَ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ يُبَاحُ التَّجَسُّسُ إِذَا رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ أَنَّ فِي بَيْتِ فُلاَنٍ خَمْرًا، فَإِنْ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودٌ كَشَفَ عَنْ حَالِ صَاحِبِ الْبَيْت، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ أُخِذَ، وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فَلاَ يُكْشَفُ عَنْهُ. وَقَدْ سُئِلَ الإْمَامُ مَالِكٌ عَنِ الشُّرْطِيِّ يَأْتِيهِ رَجُلٌ يَدْعُوهُ إِلَى نَاسٍ فِي بَيْتٍ اجْتَمَعُوا فِيهِ عَلَى شَرَابٍ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ لاَ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلاَ يَتَتَبَّعُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ يَتَتَبَّعُهُ.
وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى مُرْتَكِبِي الْمَعَاصِي؛ لأِنَّ قَاعِدَةَ وِلاَيَةِ الْحِسْبَةِ: الأْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ .
التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ:
الْجَاسُوسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ سُؤَالِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ، فَقَالَ: وَسَأَلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجَوَاسِيسِ يُوجَدُونَ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الإْسْلاَمِ مَعْرُوفِينَ فَأَوْجِعْهُمْ عُقُوبَةً، وَأَطِلْ حَبْسَهُمْ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً.
وَقَالَ الإْمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلاً - مِمَّنْ يَدَّعِي الإْسْلاَمَ - عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ إِلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ، وَلَكِنَّ الإْمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِثْلَهُ لاَ يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لاَ يُقْتَلُ لأِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ فَلاَ يَخْرُجُ عَنِ الإْسْلاَمِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَلَ فِي الإْسْلاَمِ، وَلأِنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَ الطَّمَعُ، لاَ خُبْثُ الاِعْتِقَادِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ، وَبِهِ أُمِرْنَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَأَرَادَ عُمَرُ رضي الله عنه قَتْلَهُ، فَقَالَ الرَّسُولُ لِعُمَرِ: (مَهْلاً يَا عُمَرُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْلِ مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَدْرِيٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا، وَعَلَيْهِ دَلَّتْ قِصَّةُ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ، فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهُمْ، وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ).
وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ، وَلاَ يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ، لأِنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَهُ، فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لاَ يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَهُ أَيْضًا. أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى. وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فَإِنَّهُ لاَ يَصِيرُ نَاقِضًا لأِمَانِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لأِنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لاَ يَحِلُّ لَهُ وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ.
فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَ الأْمَانَ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ: أَمَّنَّاكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَمَّنَّاكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ أَخْبَرْتَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ أَمَانَ لَكَ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَلاَ بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛ لأِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَقَدْ عُلِّقَ أَمَانُهُ هَاهُنَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ عَيْنًا، فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ كَانَ حَرْبِيًّا لاَ أَمَانَ لَهُ فَلاَ بَأْسَ بِقَتْلِهِ.
وَإِنْ رَأَى الإْمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلاَ بَأْسَ بِهِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنَ الأْسَرَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الأْوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَاهُنَا لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ. فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَلاَ بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا، لأِنَّهَا قَصَدَتْ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلاَ بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَمَا إِذَا قَاتَلَتْ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا لأِنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى.
وَإِنْ وَجَدُوا غُلاَمًا لَمْ يَبْلُغْ، بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَيْئًا وَلاَ يُقْتَلُ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، فَلاَ يَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ بِهَا، بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ. وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إِذَا قَاتَلَ فَأُخِذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ إِذَا قَاتَلَتْ فَأُخِذَتْ أَسِيرَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا.
وَالشَّيْخُ الَّذِي لاَ قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا. وَإِنْ جَحَدَ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي وَجَدُوهُ مَعَهُ إِنَّمَا وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذَهُ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، لأِنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْلِ. فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لأِنَّهُ مُكْرَهٌ، وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَمْ بِالْقَتْلِ، وَلاَ يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إِلاَّ بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ، أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَيُقْبَلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، لأَِنَّهُ حَرْبِيٌّ فِينَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ.
وَإِنْ وَجَدَ الإْمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، إِلَى مَلِكِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الإْمَامَ يَحْبِسُهُ، وَلاَ يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ لأِنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ، وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، فَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ: فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الإْسْلاَمِ يَوْمًا وَاحِدًا؛ لأِنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَطْهِيرُ دَارِ الإْسْلاَمِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إِمَاطَةِ الأَْذَى فَهُوَ أَوْلَى .
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْتَأْمَنَ يُقْتَلُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لأِهْلِ الْحَرْبِ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ: يُقْتَلُ وَلاَ يُسْتَتَابُ وَلاَ دِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارِبِ. وَقِيلَ: يُجْلَدُ نَكَالاً وَيُطَالُ حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَقِيلَ: يُقْتَلُ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ، وَقِيلَ: إِلاَّ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ. وَقِيلَ: يُقْتَلُ إِنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّلَ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) مَا يَأْتِي:
مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُ عَدَدَهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِذَلِكَ، إِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنِ الدِّينِ. وَإِذَا قُلْنَا: لاَ يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَلْ يُقْتَلُ بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لاَ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الإْمَامُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ قُتِلَ لأِنَّهُ جَاسُوسٌ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ - وَهُوَ صَحِيحٌ - لإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الأْرْضِ، وَلَعَلَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ إِنَّمَا اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لأِنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا، فَقَالَ الأْوْزَاعِيُّ: يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ، وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إِلاَّ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَى الإْسْلاَمِ فَيُقْتَلاَنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي اللع عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم(أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَصَاحَ: يَا مَعْشَرَ الأْنْصَارِ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخَلَّى سَبِيلَهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إِلَى إيمَانِهِ، مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ).
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ: أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ يُعَزَّرُ وَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ. وَإِنْ كَانَ ذَا هَيْئَةٍ (أَيْ مَاضٍ كَرِيمٍ فِي خِدْمَةِ الإْسْلاَمِ) عُفِيَ عَنْهُ لِحَدِيثِ حَاطِبٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلاَلَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الأْمَانِ ذَلِكَ فِي الأْصَحِّ، وَفِي غَيْرِهِ يُنْتَقَضُ بِالشَّرْطِ .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَهْدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَشْيَاءَ وَمِنْهَا: تَجَسَّسَ أَوْ آوَى جَاسُوسًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَلُ عَلَى أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ يُقْتَلُ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلاَلَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، لأِنَّهُ لاَ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ. وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلاَ يُقْتَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ.
التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ:
التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ لِمَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ سِلاَحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ صَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ - يَشْتَرِطُ لَهُ النَّبِيُّ أَنْ يَرْجِعَ - أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ حُذَيْفَةُ: فَمَا قَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى.. أَنْ قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي أَيْ دَعَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم حُذَيْفَةَ فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ الرَّسُولُ: يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَفْعَلُونَ، وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا . قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لاَ تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرٌ وَلاَ نَارٌ وَلاَ بِنَاءٌ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَنْظُرْ كُلُّ امْرِئٍ مَنْ جَلِيسُهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي إِلَى جَنْبِي فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ...» إِلَخْ فَهَذَا دَلِيلُ جَوَازِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ.
تَجَسُّسُ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ:
سَبَقَ أَنَّ الأْصْلَ تَحْرِيمُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا).
وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ وَلِيِّ الأْمْرِ لِوُرُودِ نُصُوصٍ خَاصَّةٍ تَنْهَى أَوْلِيَاءَ الأْمُورِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ النَّاسِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ» فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم«إِنَّ الأْمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ».
وَلَكِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى رَعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ التَّجَسُّسِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلاً خَلاَ بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوِ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لاَ يُسْتَدْرَكُ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمُ الإْقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالإْنْكَارِ.
أَمَّا مَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ فَلاَ يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلاَ كَشْفُ الأْسْتَارِ عَنْهُ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ فَقَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الإْيقَادِ فِي الأْخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ. فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ، وَعَنِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَدَخَلْتَ. فَقَالَ: هَاتَانِ بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا سُتِرَ مِنَ الْمُنْكَرِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ هَلْ يُنْكَرُ؟ فَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي الْمُنْكَرِ يَكُونُ مُغَطًّى، مِثْلَ طُنْبُورٍ وَمُسْكِرٍ وَأَمْثَالِهِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مُغَطًّى لاَ يُكْسَرُ. وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يُكْسَرُ.
فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَلاَهِي الْمُنْكَرَةِ مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهُ خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْبَاطِنِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُهَنَّا الأْنْبَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَبْلٍ فِي جِوَارِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ فِي الرَّجُلِ يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ قَالَ: يَأْمُرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ جَمَعَ عَلَيْهِ الْجِيرَانَ وَيُهَوِّلُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْجَصَّاصُ عِنْدَ لقوله تعالى (وَلاَ تَجَسَّسُوا) نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَالسَّتْرُ، ثُمَّ قَالَ: نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ التَّجَسُّسِ، بَلْ أَمَرَ بِالسَّتْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ إِصْرَارٌ. ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قِيلَ لَهُ: هَذَا فُلاَنٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ .
تَجَسُّسُ الْمُحْتَسِبِ:
الْمُحْتَسِبُ هُوَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ. قَالَ تَعَالَى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ لَكِنَّ الْمُحْتَسِبَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ وِلاَيَتِهِ، لَكِنَّ غَيْرَهُ فُرِضَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ.
وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلاَ أَنْ يَهْتِكَ الأْسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الاِسْتِتَارِ بِهَا، فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ» .
فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِتَارُ قَوْمٍ بِهَا لأِمَارَاتٍ دَلَّتْ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ رَجُلاً خَلاَ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ رَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لاَ يُسْتَدْرَكُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصُرَ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلاَ كَشْفُ الأْسْتَارِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
عِقَابُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ:
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ»
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَحِلُّ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الْمُطَّلِعِ حَالَ الاِطِّلاَعِ، وَلاَ ضَمَانَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنْ فَقَأَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَالْخَبَرُ مَنْسُوخٌ، وَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ لقوله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ، وَالْخَبَرُ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَكَلَّمُ بِالْكَلاَمِ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ «أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ لَمَّا مَدَحَهُ قَالَ لِبِلاَلٍ: قُمْ فَاقْطَعْ لِسَانَهُ» وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَطْعَ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فَقْءَ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ: أَنْ يَعْمَلَ بِهِ عَمَلاً حَتَّى لاَ يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ.
وَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُ الدَّارِ ضَمِنَ، لأِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالأْخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلاَفٌ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْمُطَّلِعِ إِلاَّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا لاَ ضَمَانَ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِدُونِ فَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
أَمَّا إِذَا تَجَسَّسَ وَانْصَرَفَ فَلَيْسَ لِلْمُطَلَّعِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ اتِّفَاقًا. وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيلِ: (دَفْعُ الصَّائِلِ) .
أَمَّا عُقُوبَةُ الْمُتَجَسِّسِ فَهِيَ التَّعْزِيرُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مُعَيَّنٌ، وَالتَّعْزِيرُ يَخْتَلِفُ وَالْمَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى الإْمَامِ (ر: تَعْزِيرٌ ).
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الثاني عشر ، الصفحة / 263
أ - التَّعْزِيرُ بِالْقَتْلِ :
الأْصْلُ: أَنَّهُ لاَ يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ الْقَتْلَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْقَتْلِ تَعْزِيرًا فِي جَرَائِمَ مُعَيَّنَةٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ، مِنْ ذَلِكَ: قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إِذَا تَجَسَّسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَهَبَ إِلَى جَوَازِ تَعْزِيرِهِ بِالْقَتْلِ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَتَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ. وَمِنْ ذَلِكَ: قَتْلُ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالْجَهْمِيَّةِ. ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ التَّعْزِيرَ بِالْقَتْلِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنَ الْجَرَائِمِ، إِذَا كَانَ جِنْسُهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ، كَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللِّوَاطُ أَوِ الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ . وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ إِذَا لَمْ يَنْقَطِعْ شَرُّهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَرْفَجَةَ الأْشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» .