موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثاني،
وزيد الإيضاح في المادة 80 بالتصريح في نصها على عقاب من يحصل على سر من أسرار الدفاع قصد تسلمه لدولة أجنبية أو لأحد ممن يعملون لمصلحتها أو قصد مجرد إفشائه لتلك الدولة لو لمن يعمل لمصلحتها فإنه وإن كان الإفشاء دخل في مدلول التسليم بمعناه في مقام هذا النص إلا أنه رؤى إضافته صراحة تلافياً لكل شك أو تأويل .
الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الطبعة السادسة الكتاب الأول 2016،
جاء بالمذكرة الإيضاحية للقانون رقم 40 لسنة 1940 تعليقا على المادة 80 عقوبات أنه «لما كان من آثار تسلیم سر إلى دولة أجنبية - بل هو في الغالب من أهم آثاره أن يصبح السر غير صالح لأن ينتفع به، يجب أن يعتبر من حيث آثارها شبيها بتسليم السر، ويجب لذلك أن يكون العقاب على العملين واحدا».
1- يشترط لتطبيق المادة 80 من القانون رقم40 لسنة1940 المتعلقة بجناية تسليم سر من أسرار الدفاع عن البلاد إلى دولة أجنبية أو الحصول على السر بهذا القصد توافر شرطين أساسيين أولهما أن يكون الشئ ذا طبيعة سرية وثانيهما أن يكون متعلقاً بالدفاع عن البلاد و تقدير ذلك موكول إلى محكمة الموضوع فى كلا الأمرين ولها فى سبيل ذلك أن تستعين بمن ترى الإستعانة به كما أن لها أن تأخذ برأيه أو لا تأخذ به دون معقب عليها ما دامت المحكمة أبانت فى حكمها الأسانيد التي استندت إليها فى استخلاص النتيجة التي انتهت إليها فى طبيعة السر وفي علاقته بالدفاع عن البلاد وكان استخلاصها لهذه النتيجة استخلاصاً سائغاً يؤدى إليها.
(الطعن رقم 1519 لسنة 27 جلسة 1958/05/13 س 9 ع 2 ص 505 ق 135)
2- يعاقب القانون على مجرد الحصول على أسرار الدفاع بقصد تسليمها وعلى تسليمها لدولة أجنبية أو لأحد ممن يعملون لمصلحتها ولو لم تكن تلك الدولة الأجنبية فى حالة حرب مع مصر وكل ما اشترطه النص أن تكون مصر نفسها فى حالة حرب تباشرها قواتها النظامية.
(الطعن رقم 1519 لسنة 27 جلسة 1958/05/13 س 9 ع 2 ص 505 ق 135)
3- إن مفهوم نص المادة 80 أن السر قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً وأن مسئولية ناقل السر قائمة إذا ما حصل على سر معنوي وأبلغه إلى دولة أجنبية أو لمن يعمل لمصلحتها كما تكون قائمة إذا كان قد حصل على سر مادي و سلمه
(الطعن رقم 1519 لسنة 27 جلسة 1958/05/13 س 9 ع 2 ص 505 ق 135)
4- إن المادة 80 لم تفرق فى استحقاق العقاب بين من حصل على السر ومن توسط فى توصيله إلى الدولة الأجنبية أو من يعمل لمصلحتها وجاء نصها عاماً حين ذكرت تسليم سر من أسرار الدفاع عن البلاد بأية صورة وعلى أي وجه وبأية وسيلة لدولة أجنبية أو لأحد مأموريها أو لشخص آخر يعمل لمصلحتها.
(الطعن رقم 1519 لسنة 27 جلسة 1958/05/13 س 9 ع 2 ص 505 ق 135)
5- إن المادة 80 قصدت إلى التعميم والإطلاق يدل على ذلك ما جاء بالمذكرة الإيضاحية للقانون إذ جاء بها "أن المهم فى أمر هذه الجريمة هو الغرض الذي يرمي إليه الجاني فغير ذي بال الصورة التي يجري بها تحقيق هذا الغرض أو الوسائل التي تستعمل فى ذلك. كما أنه ليس من المهم أن يكون السر قد علم بأكمله فإن عبارة "بأي وجه من الوجوه" يراد بها أن تطبق العقوبة ولو لم يفش من السر إلا بعضه وكذلك لو كان السر أفشي على وجه خاطئ أو ناقص".
(الطعن رقم 1519 لسنة 27 جلسة 1958/05/13 س 9 ع 2 ص 505 ق 135)
6- إن سكوت السلطات عن المتهمين فترة زمنية لا يعنى فى شيء أن الأسرار التى أفشوها لا تتعلق بالدفاع عن البلاد .
(الطعن رقم 1519 لسنة 27 جلسة 1958/05/13 س 9 ع 2 ص 505 ق 135)
7- إن ترامى أسرار الدفاع إلى طائفة من الناس لا يرفع عنها صفة السرية ولا يهدر ما يجب لها من الحفظ والكتمان .
(الطعن رقم 1519 لسنة 27 جلسة 1958/05/13 س 9 ع 2 ص 505 ق 135)
ملحوظة 1: بموجب قانون حالة الطوارئ رقم 162 لسنة 1958، وقرار رئيس الجمهورية رقم 290 لسنة 2021 بمد حالة الطوارئ المعلنة بقرار رئيس الجمهورية رقم 174 لسنة 2021 في جميع أنحاء البلاد لمدة ثلاثة أشهر تبدأ من 24 /7 /2021، وبتفويض رئيس مجلس الوزراء في اختصاصات رئيس الجمهورية المنصوص عليها في القانون المشار إليه، فقد صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1664 لسنة 2021 المنشور في الجريدة الرسمية، العدد 28 (مكرر) في 18 يوليو 2021، والذي تضمن إحالة الجريمة موضوع هذا النص إلى محاكم أمن الدولة طوارئ، وذلك خلال فترة سريان قرار رئيس الجمهورية بمد حالة الطوارئ.
ملحوظة 2 : انتهت حالة الطوارئ بانتهاء المدة المنصوص عليها في قرار رئيس الجمهورية رقم 290 لسنة 2021 المشار إليه أعلاه، دون تمديد، وعليه يعود الاختصاص بنظر الجريمة موضوع هذه المادة إلى المحاكم العادية والقاضي الطبيعي، طالما لم تتم إحالة المتهم إلى محكمة أمن الدولة طوارئ قبل انتهاء الفترة المشار إليها.
(مركز الراية للدراسات القانونية)
وواقع الأمر أنه ليس أهم للدولة من حماية أسرار الدفاع عنها، مما لا يجوز معه أن يتوان المشرع عن النص على أشد العقاب صرامة لتأكيد حماية هذه الأسرار التي تتعلق بوجود الدولة وبقائها بين الأمم، وقد زادت أهمية أسرار الدفاع واتسع نطاقها بعد أن تغيرت أساليب الحرب، فلم تعد قاصرة على المجال العسكري، بل أصبحت حرباً شاملة تمس جميع المصادر الحيوية للأمة وجميع خططها العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية.
وتفترض هذه الجريمة توافر ما يعد من أسرار الدفاع، وتقتضي ركناً مادياً هو التسليم أو الإفشاء أو الحصول على السر أو إتلافه أو جعل السر غير صالح للإنتفاع به، وذلك بالإضافة إلى ركنها المعنوي.
الشرط المفترض - أسرار الدفاع
اختلفت التشريعات في تحديد المراد بأسرار الدفاع إلى مذهبين :
(أ) ذهبت بعض التشريعات إلى عدم وضع تعریف محدد الأسرار الدفاع، وإعتبارها فكرة واسعة تختلف وتتنوع إلى صور كثيرة مما لا يجوز معه تقييدها بتعريف ضيق محدد، وقد أدى هذا الاتجاه إلى تحويل القضاء سلطة واسعة في تفسير النصوص، مما قد يؤدي إلى الانحراف عن قاعدة شرعية التجريم.
(ب) ذهبت بعض التشريعات الأخرى إلى محاولة تعريف أسرار الدفاع وتعدادها في صيغ عامة، وقد ميز كل من القانونين الفرنسي والإيطالي بين الأسرار الطبيعية والأسرار الحكمية، وفقاً لما إذا كانت السرية تنبثق من طبيعة الشيء ذاته أو بناء على أمر السلطة المختصة.
وقد أعتنق المشرع المصري المذهب الثاني.
يتحقق هذا الإنتهاك في عدة صور، هي :
تسليم السر أو إفشائه لدولة أجنبية أو لأحد مما يعملون لمصلحتها، أو الحصول عليه بقصد تسليمه أو إفشائه لدولة أجنبية أو لأحد ممن يعملون لمصلحتها، وكذلك إتلافه أو جعله غير صالح للإنتفاع به لمصلحة دولة أجنبية.
وقد بينا المقصود بالدولة الأجنبية ومن يعمل لمصلحتها عند شرح جرائم السعي أو التخابر، فيتعين الرجوع إليه، ويلاحظ هنا أن المشرع لم يتطلب توافر صفة العداء في الدولة الأجنبية، وعلى ذلك فلا عبرة بمدى علاقة هذه الدولة بالوطن في مقام تجريم هذا الفعل والعقاب عليه، ونعرض فيما يأتي لشرح صور هذا النوع من إنتهاك الأسرار .
1- التسليم :
يراد بتسليم السر نقل وعائه المادي إلى حيازة الغير بأية صورة وعلى أي وجه، والأصل أن يتحقق التسليم بالمناولة المادية للسر، إلا أنه يتحقق أيضاً بتمكين الغير من الإستيلاء عليه، كأن يترك الجاني مستودع السر مفتوحاً أو ظاهراً أو دون حراسة حتى يتمكن الغير من الإطلاع عليه أو تصويره أو نسخه، ولا عبرة بما إذا كان التسليم قد تم مباشرة أو عن طريق أحد الوسطاء.
ويفترض التسليم وقوعه على الوعاء المادي للسر، سواء تمثل هذا الوعاء في الكيان المادي للسر، كالسلاح أو الآلة، أو ورد في الكتابة التي أفرغ فيها مضمونه، صورته أو البيانات المتعلقة به، وفي هذا يتميز عن الإفشاء الذي يرد على مضمون السر أو معناه دون وعائه المادي، ولا عبرة بما إذا كان التسليم قد ورد على وعاء السر كله أو بعضه، أو أن يكون الغير قد تمكن من معرفة السر بوضوح إلى تفسير الرموز المدون بها.
2- الإفشاء :
أما الإفشاء، فيتحقق بإطلاع من يحيط بالسر أو يحوز وعاءه المادي شخصاً معيناً يستأثره لذلك لم تأمنه الدولة على السر أو على مضمون هذا السر، ولا عبرة بما إذا كان المفشي هو المؤتمن على السر أو غيره كما بينا فيما تقدم، أما المفشي إليه السر، فإنه يجب أن يكون شخصاً معيناً، أي ألا يكون عدداً غير متميز من الناس، وإلا إختلط مدلول الإنشاء مع الإذاعة كما سنبين فيما يأتي، على أن هذا لا يحول دون المعاقبة على إذاعة السر لمصلحة دولة أجنبية، بوصف ذلك إفشاء، كما لو تم عن طريق إذاعة بعض الأسرار في تصريح صحفي، لكونها تتضمن إنشاء بحكم الضرورة بل هي تفوقه خطورة وجسامة.
ويتعين أن يكون إطلاع الغير على السر أمراً مخالفاً للقانون، فلا جريمة إذا صرح المسئولون عن السر فإفضائه إلى شخص معين. فترامي أسرار الدفاع إلى طائفة من الناس لا يرفع عنها صفة السرية ولا يهدد ما يجب لها من الحفظ والكتمان، ولا عبرة بوسيلة الإفشاء، فيستوي تحقيقه بالإفضاء شفوياً إلى الغير، سراً أو علناً أو كتابة .
ولا شترط أن يرد الإنشاء على السر حرفياً، وإنما يتحقق بمجرد إطلاع الغير على معناه أو مضمونه ولو كان بطريقة موجزة، ويفترض الإنشاء علم الجاني بالسر بخلاف التسليم الذي قد يتحقق بنقل حيازة وعائه المادي من شخص لا يحيط به.
ويستوي أن يقع الإنشاء على السر كله أو بعضه، أو أن يتم على وجه خاطئ أو ناقص، طالما أن جزءاً من السر ذاته سرب إلى الغير عن طريق هذا الإفشاء.
الحصول على السر :
يراد بالحصول على السر التمكن من حيازة وعائه المادي أو الإلمام بمضمونه أو معناه ولو لم يعقبه تسليم أو إفشاء أو إتلاف، فلا يشترط حيازته وإنما يكفي مجرد الإلمام به عن طريق الحفظ أو التصوير .
ويتعين صدور عمل إيجابي من الجاني للحصول على السر، فلا يكفي لوقوع هذه الصورة من الجريمة بمجرد الإحاطة بالسر عرضاً بسماع حدیث دار أمامه أو العثور عليه ضمن مستندات تركة آلت إليه، دون إخلال بمعاقبته على الصور الأخرى لجريمة إنتهاك أسرار الدفاع، كالإفشاء والتسليم إن وقع منه فعل من ذلك، ولا عبرة بوسيلة الحصول على السر، فيستوي أن يتم ذلك مباشرة أو عن طريق الوساطة، أو باستخدام وسيلة غير مشروعة، ويستوي أن يتم ذلك بطريق الغش أو بدونه.
الإتلاف :
يتحقق إتلاف السر بإعدام وجوده (أي وعائه المادي) متمثلاً في كيانه وذاتيته أو الكتابة التي أفرغ فيها، وهو ما يسمى بالإتلاف العام. وقد يكون الإتلاف جزئياً، فيرد على جزء مادي من وعاء السر ويؤدي إلى فقد بعض آثاره أو تغيير وجه استعماله، وإنه وإن كانت المادة 80 من القانون رقم 40 لسنة 1940 تنص على الإتلاف الجزئي صراحة، ثم خلا النص الجديد من ذلك، إلا أن السكوت لا يحول دون إعتبار الإتلاف الجزئي - بحسب طبيعته - إنتهاكاً للسر، أسوة بالإتلاف التام.
جعل السر غير صالح للإنتفاع به :
يتحقق ذلك بالتعطيل الكامل أو الجزئي لمنفعة السر، أو بعبارة أخرى: جعل السر غير صالح بصفة مطلقة أو نسبية لتحقيق الغرض الذي أنشئ السر من أجله، ويستوي أن يرد على الوعاء المادي للسر أو على مضمونه ومعناه، ويشترك هذا الفعل مع إتلاف السر في أن كل منهما يصيب فحوى السر ومضمونه وما يتميز به، إلا أنه لا يشترط فيه أن يرد على الوعاء المادي للسر كما هي الحال في الإتلاف، هذا إلى جانب أنه لا يشترط فيه أن يصل إلى حد التشويه التام أو الجزئي للسر، بل يقتصر على مجرد تعييبه على نحو معين مما من شأنه ألا يحقق غرضه المطلوب، والواقع من الأمر أن دائرة هذا الفعل تتسع لمعنى الإتلاف وليس العكس، ولا عبرة بالوسيلة التي يلجأ إليها الجاني في تحقيق غرضه، كما يستوي أن يصبح السر غير صالح للإنتفاع به بصفة دائمة أو مؤقتة، كله أو جزؤه.
الركن المعنوي :
يتعين التمييز بين إنتهاك أسرار الدفاع لمصلحة دولة أجنبية وبين إنتهاكها لغير هذه المصلحة.
انتهاك الأسرار لمصلحة دولة أجنبية
هذه جريمة عمدية، ومن ثم يتعين بادئ ذي بدء توافر القصد الجنائي العام، وهو إتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب إحدى صور ركنها المادي مع علمه بها، فلا عبرة بالباعث الذي دفع الجاني إلى ارتكاب جريمته طالما تحقق هذا القصد. ولا يجوز الإدعاء بعدم العلم بأن الأمر موضوع الجريمة هو من أسرار الدفاع، لأن الجهل به هو جهل بقانون العقوبات الذي تولى بذاته مهمة التعريف بها، وهو ما لا يقبل الإعتذار به، على أنه يجوز الإدعاء بالغلط في الإباحة بدعوى الإعتقاد أن الدولة قد رفعت حجاب السرية عن أمر أو واقعة ما، وعلى المتهم عبء إثبات هذا الدفاع.
وقد تطلب القانون ثلاث صور لوقوع الجريمة، هي : الحصول على السر، و إتلافه، وجعله غير صالح للانتفاع به، قصداً جنائياً خاصاً متميزاً ففي صورة الحصول على السر يتعين إتجاه إرادة الجاني إلى تسليم السر أو إفشائه لدولة أجنبية أو أحد ممن يعملون لمصلحتها، فإذا ارتكب الجاني فعله بسبب الفضول أو تحقيقا لباعث آخر لا تقع الجريمة، ولا شك في أن حرص الجاني على الحصول على السر رغم أنه لا صفة له في حفظه أو إستعماله - يصلح أن يعد قرينة ضد المتهم على توافر القصد الخاص في حقه، متى كانت ظروف الوقائع ترشح لهذا القصد، وفي صورتي الإتلاف وجعل السر غير صالح للانتفاع به يتعين أن يتجه قصد الجاني إلى تحقيق مصلحة الدولة الأجنبية، فإذا استهدف الجاني من ذلك تحقيق باعث آخر كالإضرار بمن عهد إليه بالمحافظة على السر - لا تقوم الجريمة.
عاقبت المادة 80 عقوبات على هذا الفعل بالإعدام، سواء وقعت الجريمة في حالة الحرب أو السلم، ويلاحظ أن المادة 80 عاقبت بالحبس والغرامة أو إحداهما علی تسلیم دولة أجنبية أو أحد ممن يعملون لمصلحتها أخباراً أو معلومات أو أشياء أو وثائق خاصة بالمصالح الحكومية أو الهيئات العامة أو المؤسسات ذات النفع العام، وصدر أمر من الجهة المختصة بعدم نشره أو إذاعته، إلا أن محال ذلك يقتصر على ما لا يعد من أسرار الدفاع، وإلا تعين تطبيق (المادة 80 عقوبات).(الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الطبعة السادسة الكتاب الأول 2016، الصفحة:65)
تفترض هذه الجريمة توافر ما يعتبر من أسرار الدفاع وتقتضي رکناً هو التسليم أو الإفشاء أو الحصول على السر أو إتلافه أو جعل السر غير صالح و للإنتفاع به وذلك بالإضافة إلى ركنها المعنوي.
ويشترط لتوافر السر الذي هو من أسرار الدفاع أن تسبغ الدولة على واقعة أو شئ ما وصفة السرية بحيث يتعين بقاؤه محجوباً من غير من كلف بحفظه أو استعماله ما لم يتقرر إباحة إذاعته على الناس كافة دون تمييز وتتحقق إرادة الدول في إضفاء السرية ، أما صراحة بالتنبيه بعدم إذاعته وإما بالنظر إلى طبيعة الواقعة أو الشئ موضوع السر في ظروف معينة فليس بشرط إذن لتوافر السرية أن ينبه على حافظ السر بعدم إذاعته متى كانت طبيعته تنطق بالسرية.
يتمثل النشاط الإجرامي للمتهم في إحدى صور ثلاث:
الصورة الأولى: هي قيام الجاني بتسليم سر لدولة أجنبية أو لأحد ممن يعملون لمصلحتها أو أفشى إليها بأية صورة وعلى أية صورة وعلى أي وجه وبأية وسيلة سراً من أسرار الدفاع ويقصد بواقعة تسليم السر نقل أو إعطاء وعائه المادي إلى حيازة دولة أجنبية أو لأحد مأموریها ممن يعملون لمصلحتها أو تمكين الغير من حيازته بما يتفق مع طبيعته والإفشاء يدخل في مدلول التسليم المقصود بالنص ويقصد به الإفضاء بالسر إلى الغير أو تمكينه مع الاطلاع على مضمونه دون نقل وعائه المادي إلى حيازة الغير، ويقع تسليم السر بطرق كثيرة منها على سبيل المثال ما يكون بالنقل أو التصوير أو الرسومات أو إعطاء معلومات كتابة أو شفوياً للغير أو بالإتصال اللاسلكي أو تليفونياً أو تلغرافياً أو بالشفرة أو بالراديو أو الكتابة بالحبر السري وغير ذلك من الوسائل الأخرى الحديثة أو القديمة.
الصورة الثانية : هي الحصول على سر من أسرار الدفاع بقصد تسليمه أو إفشائه لدولة أجنبية أو لأحد ممن يعملون لمصلحتها بالفعل المادي هنا هو مجرد التوصل إليه أو الحصول عليه بنقل حيازته المادية بأي وسيلة وعلى أي وجه. أو تصويره أو الاطلاع على مضمونه والإنشاء بمضمون السر وغير ذلك من الطرق الأخرى التي تؤدي للتوصل أو الحصول على أحد أسرار الدفاع.
الصورة الثالثة : هي الإتلاف لمصلحة دولة أجنبية شيئاً يعتبر سراً من أسرار الدفاع أو جعله غير صالح لأن ينتفع به والإتلاف وهو إعدام السر ذاته إعدام الوثائق والمستندات والمحررات والرسومات والخطط العسكرية أو الخطط القومية وبالجملة كل ما يعتبر سراً من أسرار الدفاع والإتلاف نوعان الكلى ويتحقق بإعدام الوعاء المادي جميعه لأحد أسرار الدفاع أما الإتلاف الجنائي فيتحقق بإعدام جزء من الوعاء المادي جميعه لأحد أسرار الدفاع، أما الإتلاف الجزئي فيتحقق بإعدام جزء من الوعاء المادي للسر وجعل جزء منه غير صالح للإستعمال أو الإنتفاع به ولافرق بين النوعين في وقوع الجريمة فهي تقع تامة بتحقيق أحدهما أو الاثنين معاً كإعدام جزء من وثيقة أو إتلاف الجزء الباقي منها بحيث يضحى غير ذی فائدة أو منفعة من وجوده.
ويكفى توافر القصد الجنائى العام في الصورة الأولى حتى تقع الجريمة تامة أما في الصورتين الثانية والثالثة فضلاً عن توافر القصد الجنائي العام فيجب توافر القصد الخاص حتى تقع الجريمة تامة كاملة، والمقصود بالقصد الخاص هو أن تكون نية أو غرض الجاني من الحصول على سر الدفاع تسليمه أو إفشائه الدولة أجنبية أو لأحد مما يعملون لمصلحتها وذلك بالنسبة للصورة الثانية، والمقصود به في الصورة الثالثة هو أن يكون قصد أو غاية الجاني إتلاف الوعاء المادي للسر كلياً أو جزئياً لمصلحة دولة أجنبية شيئاً يعتبر من أسرار الدفاع أو جعله غير صالح لأن ينتفع به، ولا عبرة بالبواعث والأسباب فى الصور الثلاث لأن البواعث والأسباب ليست عنصرا من عناصر أية جريمة في الصور الثلاث.(موسوعة هرجة الجنائية، التعليق على قانون العقوبات، المستشار/ مصطفى مجدي هرجة، (دار محمود) المجلد الثاني، الصفحة: 34 )
ونص المادة (80) عقوبات التي نحن بصددها يتناول أخطر جنايات الأمن الخارجي للدولة من حيث أثرها على فاعلية الدفاع، ومن حيث كثرة وقوعها من الخونة والجواسيس، وهذا النص يتناول بالحماية الجنائية أسرار الدفاع التي بينتها المادة (85) عقوبات.
ولما كان انتهاك هذه الأسرار في زمن السلم لا يقل ضراوة عنة في زمن الحرب، فان القانون لم يفرق بين وقوع الأفعال الإجرامية التي بينها هذا النص في زمن السلم وبين وقوعها في زمن الحرب.
كما أن النص ينطبق على كل شخص مصرياً كان أم من الأجانب، وسواء وقع الفعل منه في إقليم الدولة أو في الخارج، وفقاً لما تقضي به المادة الثانية عقوبات، وتتحقق الجناية وفقاً للمادة (80) عقوبات في إحدى صور ثلاث :
الصورة الأولى:
تسليم أو إفشاء سر من أسرار الدفاع إلى دولة أجنبية، وفعل "تسلیم" السر يعني إعطاءه، أو تمكين الغير من حيازته بما يتفق مع طبيعته، وهذا يتضمن "الإفشاء" وهو الإفضاء بالسر إلى الغير أو تمكينه من الإطلاع عليه، فالإفضاء بالسر يعد نوعاً من نقله، ولكن المشرع نص مع ذلك على "الإفشاء" ليقطع كل لبس أو تحويل في حالة نقل السر إلى الغير دون إعطاء وعائه المادي کالوثيقة أو الشيء الدال عليه، ويقع تسليم السر، أي تمكين الغير من حيازته، بوسائل شتى، كالنقل أو الرسم أو أخذ صورة من وثيقته، أو إملاء مضمونها، أو إعطائها للغير ليطلع عليها، أو بكتابة المعلومات له ولو برموز خاصة، أو بإخباره بها شفوياً، أو غير ذلك.
ولكن لا شك في أنه لا عبرة بنوع الوسيلة، إذ نص المادة صريح في أن الفعل يقع بأي وسيلة، كما أنه لا فرق بين أن يكون تسليم السر أو الإفضاء به مما يضيف إلى ما لدى الدولة الأجنبية من معلومات، أو يكون قد سبق لها العلم به من خائن أو جاسوس غير المتهم، لأنه حتى في حالة سبق نقله فان الجاني بفعله يؤكد للدولة صحة ما نقل إليها، بل انه ينطبق حتى ولو لم يفشي أو يسلم من السر إلا بعضه، وكذلك لو كان السر قد نقل على وجه خاطيء في بعض أجزائه أو ناقص. وإنما يشترط أن يكون تسليم السر أو إنشائه حاصلاً لدولة أجنبية أو ما في حكمها، أو لأي شخص آخر يعمل لمصلحتها، سواء في ذلك أن تكون هذه الدولة معادية أو غير معادية.
القصد الجنائي :
يبدو أن الجناية في هذه الصورة لا تتطلب غير القصد الجنائي العام، وهو علم الجاني بأنه يسلم أو يفشي سراً للدفاع عن البلاد إلى دولة أجنبية أو أحد ممن يعملون لمصلحتها، فهذا القدر ذاته ينطوي على الخيانة، ولا إعتداد بعد ذلك ببواعث الجاني الدافعة، إذ يستوي أن يكون مدفوعاً بالحقد على الدولة أو الطمع لدى غيرها في مال أو منفعة، أو بغير ذلك.
الصورة الثانية :
وهي الحصول على سر الدفاع بقصد تسليمه أو إفشائه إلى دولة أجنبية، فالفعل المادي فيها هو مجرد الحصول على السر، أي التوصل إليه والتمكن من حيازته بأية وسيلة وعلى أي وجه.
والمفهوم في هذه الصورة، أن الجاني لا صفة له في المحافظة على السر أو الإحاطة به، وإنما هو خائن أو جاسوس يسعى للإستحواذ عليه بأية طريقة بقصد تسليمه أو إفشائه لدولة أجنبية، ولذلك فقد اكتفى القانون في تمام مادية الجريمة بمجرد الحصول على السر، متى قامت هذه النية لدى الجاني، حتى ولو لم يحصل تسليمه أو إفشائه للدولة الأجنبية فعلاً .
أما ما يحدث من خطوات قبل الحصول على السر فيصح أن يعد من قبيل الشروع متى توافرت شروطه وفقاً للقواعد العامة، ولا يشترط أن يكون الجاني قد حصل على السر بأكمله، إذ تتحقق الجناية ولو لم يعلم به إلا على وجه خاطيء أو ناقص في بعض أجزائه أو معظمها.
القصد الجنائي :
والقصد في هذه الصورة خاص. فيجب فوق علم الجاني بأنه يتوصل إلى الحصول على سر للدفاع أن تكون غايته من وراء ذلك تسليم السر إلى دولة أجنبية، ولو كانت غير معادية، أو إلى أحد ممن يعملون لمصلحتها، ولا عبرة بعد ذلك بالبواعث الدافعة له على إرتكاب الفعل.
وتتحمل سلطة الاتهام عبء إثبات القصد الجنائي، وإن كان لا يخفي ما قد تواجهه في بعض الأحوال من صعوبة في إثبات النية الخاصة.
الصورة الثالثة :
وهي إتلاف سر من أسرار الدفاع، أو جعله غير صالح لأن ينتفع به، والإتلاف هو إعدام ذاتية السر وإفقاده كيانه، بأي وسيلة كانت. وهو لا يصدق إلا على الأسرار التي لها وعاء مادي كالوثائق أو الأسلحة أو غيرها من الأشياء.
ولا فرق بين إتلاف السر كله وإتلاف جزء منه، فالجريمة تتحقق في الحالتين. أما جعل السر غير قابل لأن ينتفع به فهو تعييبه على وجه ما، ويعد التعييب في الواقع نوعاً من الإتلاف الجزئي، فمن يمحو جزءاً من وثيقة سرية أو يغير فيها، أو يفسد جزءاً من جهاز سري، بحيث لا يمكن الإنتفاع بالوثيقة أو الجهاز يعد متلفاً لها جزئياً.
القصد الجنائي :
والقصد اللازم في هذه الجناية هو القصد الخاص، فيجب أن يكون الجاني عالماً بأنه يتلف سراً للدفاع، أو يجعله غير صالح لأن ينتفع به، كلياً أو جزئياً، وأن تكون غايته من وراء ذلك خدمة دولة أجنبية، أياً ما كان الباعث له على ذلك، وعبء إثبات القصد الجنائي يقع على عاتق سلطة الإتهام وفقاً للقواعد العامة.
العقوبة :
هي الإعدام، سواء حصل الفعل في زمن الحرب أو السلم، وتطبيق المادة (46) مع المادة (80) التي نحن بصددها إذا كانت الواقعة من قبيل الشروع، وفي الحالتين يجوز للمحكمة أن تقضي بالغرامة المبينة بالمادة (83 عقوبات.(الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، المستشار/ إيهاب عبد المطلب، الطبعة العاشرة 2016 المجلد الثاني، الصفحة: 84)
الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي 1433 هـ - 2012 م الجزء / الخامس ، الصفحة / 292
إِفْشَاءُ السِّرِّ
التَّعْرِيفُ:
الإْفْشَاءُ لُغَةً: الإْظْهَارُ، يُقَالُ: أَفَشَا السِّرَّ: إِذَا أَظْهَرَهُ، فَفَشَا فَشْوًا وَفُشُوًّا، وَالسِّرُّ هُوَ مَا يُكْتَمُ، وَالإْسْرَارُ خِلاَفُ الإْعْلاَنِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإْشَاعَةُ:
2 - إِشَاعَةُ الْخَبَرِ: إِظْهَارُهُ وَنَشْرُهُ، وَالشُّيُوعُ: الظُّهُورُ.
ب - الْكِتْمَانُ:
الْكِتْمَانُ. الإْخْفَاءُ: يُقَالُ: كَتَمْتُ زَيْدًا الْحَدِيثَ: أَيْ أَخْفَيْتُهُ عَنْهُ، فَهُوَ ضِدُّ الإْفْشَاءِ.
ج - التَّجَسُّسُ:
هُوَ تَتَبُّعُ الأْخْبَارِ، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، لأِنَّهُ يَتَتَبَّعُ الأْخْبَارَ، وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الأْمُورِ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي الشَّرِّ فَالتَّجَسُّسُ: السَّعْيُ لِلْحُصُولِ عَلَى السِّرِّ.
د - التَّحَسُّسُ:
هُوَ الاِسْتِمَاعُ إِلَى حَدِيثِ الْغَيْرِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : «وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» وَالتَّحَسُّسُ إِنْ كَانَ لإِذَاعَةِ أَخْبَارِ النَّاسِ السَّيِّئَةِ فَهُوَ كَإِفْشَاءِ السِّرِّ فِي الْحُرْمَةِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّحَسُّسُ لإِشَاعَةِ الْخَيْرِ، كَمَا فِي قوله تعالي : ( يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ).
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَنْوَاعُ السِّرِّ:
يَتَنَوَّعُ السِّرُّ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
أ - مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِكِتْمَانِهِ.
ب - مَا طَلَبَ صَاحِبُهُ كِتْمَانَهُ.
ج - مَا مِنْ شَأْنِهِ الْكِتْمَانُ وَاطُّلِعَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْخُلْطَةِ أَوِ الْمَهْنَةِ.
النَّوْعُ الأْوَّلُ: مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِكِتْمَانِهِ:
مِنَ الأْمُورِ مَا يَحْظُرُ الشَّرْعُ إِفْشَاءَهُ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ حَسَبَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِفْشَائِهِ مِنْ ضَرَرٍ. فَمِمَّا لاَ يَجُوزُ إِفْشَاؤُهُ:
مَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَالَ الْوِقَاعِ، فَإِنَّ إِفْشَاءَ مَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ حَالَ الْجِمَاعِ أَوْ مَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم «إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» وَالْمُرَادُ مِنْ نَشْرِ السِّرِّ، ذِكْرُ مَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ مِنْ أُمُورِ الْوَقَاعِ وَوَصْفِ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَمَا يَجْرِي مِنَ الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَمَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْوِقَاعِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ، فَذِكْرُهُ مَكْرُوهٌ، لأِنَّهُ يُنَافِي الْمُرُوءَةَ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».
فَإِنْ دَعَتْ إِلَى ذِكْرِهِ حَاجَةٌ، وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ فَهُوَ مُبَاحٌ. كَمَا لَوِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ عِنِّينٌ، أَوْ مُعْرِضٌ عَنْهَا، أَوْ تَدَّعِي عَلَيْهِ الْعَجْزَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَتْهُ صَحِيحًا فَلاَ كَرَاهَةَ فِي الذِّكْرِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : «إِنِّي لأَفْعَلُ ذَلِكَ، أَنَا وَهَذِهِ، ثُمَّ نَغْتَسِلُ» وَقَالَ لأِبِي طَلْحَةَ: «أَعَرَّسْتُمُ اللَّيْلَةَ» ؟ وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي عَدَمِ جَوَازِ إِفْشَاءِ مَا يَجْرِي مِنَ الرِّجَالِ حَالَ الْوَقَاعِ.
وَإِفْشَاءُ السِّرِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الإْيذَاءِ وَالتَّهَاوُنِ بِحَقِّ أَصْحَابِ السِّرِّ مِنَ الْجِيرَانِ وَالأْصْدِقَاءِ وَنَحْوِهِمْ. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ».
وَقَالَ: «الْحَدِيثُ بَيْنَكُمْ أَمَانَةٌ». وَقَالَ الْحَسَنُ إِنَّ مِنَ الْخِيَانَةِ أَنْ تُحَدِّثَ بِسِرِّ أَخِيكَ».
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا طَلَبَ صَاحِبُهُ كِتْمَانَهُ:
مَا اسْتَكْتَمَكَ إِيَّاهُ الْغَيْرُ وَائْتَمَنَكَ عَلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ بَثُّهُ وَإِفْشَاؤُهُ لِلْغَيْرِ، حَتَّى أَخَصَّ أَصْدِقَاءِ صَاحِبِ السِّرِّ، فَلاَ يَكْشِفُ شَيْئًا مِنْهُ وَلَوْ بَعْدَ الْقَطِيعَةِ بَيْنَ مَنْ أَسَرَّ وَمَنْ أَسَرَّ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ لُؤْمِ الطَّبْعِ وَخُبْثِ الْبَاطِنِ.
وَهَذَا إِذَا الْتَزَمْتَ بِالْكِتْمَانِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَلْتَزِمْ، فَلاَ يَجِبُ الْكِتْمَانُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَصُّهُ: عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: «كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ». «وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِهَا. فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : أَيُجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامِي فِي حِجْرِي مِنَ الصَّدَقَةِ ؟ فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم . فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأْنْصَارِ عَلَى الْبَابِ، حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم أَيُجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حِجْرِي. وَقُلْنَا: لاَ تُخْبِرْ بِنَا. فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَنْ هُمَا ؟ قَالَ: زَيْنَبُ. قَالَ: أَيُّ الزَّيَانِبِ ؟ قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: نَعَمْ، وَلَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ». قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي -: «لَيْسَ إِخْبَارُ بِلاَلٍ بِاسْمِ الْمَرْأَتَيْنِ بَعْدَ أَنِ اسْتَكْتَمَتَاهُ بِإِذَاعَةِ سِرٍّ وَلاَ كَشْفِ أَمَانَةٍ، لِوَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُمَا لَمْ تُلْزِمَاهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَلِمَ أَنَّهُمَا رَأَتَا أَنْ لاَ ضَرُورَةَ تُحْوِجُ إِلَى كِتْمَانِهِمَا.
(ثَانِيهِمَا) أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ جَوَابًا لِسُؤَالِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم لِكَوْنِ إِجَابَتِهِ أَوْجَبَ مِنَ التَّمَسُّكِ بِمَا أَمَرَتَاهُ بِهِ مِنَ الْكِتْمَانِ.
وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْتَزَمَ لَهُمَا بِذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَا سَأَلَتَاهُ (أَيْ وَلَمْ يَلْتَزِمْ لَهُمَا بِالْكِتْمَانِ) وَلاَ يَجِبُ إِسْعَافُ كُلِّ سَائِلٍ.
وَقَدْ تَتَضَمَّنُ الْغِيبَةُ إِفْشَاءً لِلسِّرِّ فِيمَا إِذَا كَانَ الأْمْرُ الْمَكْرُوهُ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ الْغَيْرَ فِي غِيَابِهِ مِنَ الأْمُورِ الْخَفِيَّةِ، أَوْ مِمَّا يَطْلُبُ صَاحِبُهُ كِتْمَانَهُ، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنِ الْغِيبَةِ فِي قوله تعالي : ( وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ )
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلي الله عليه وسلم : «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ. قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَهَتَّهُ» وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (غِيبَةٌ).
النَّوْعُ الثَّالِثُ.
- مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِمُقْتَضَى الْمَهْنَةِ، كَالطَّبِيبِ وَالْمُفْتِي وَأَمِينِ السِّرِّ وَغَيْرِهِمْ.
- وَمِمَّا يَكُونُ أَحْيَانًا مِنَ الإْفْشَاءِ الْمُحَرَّمِ لِلسِّرِّ النَّمِيمَةُ: وَهِيَ لُغَةً تَبْلِيغُ الْخَبَرِ عَلَى وَجْهِ الإْفْسَادِ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي اصْطِلاَحِ الْعُلَمَاءِ، وَأَكْثَرُ إِطْلاَقِهَا عَلَى مَنْ يَنِمُّ قَوْلَ الْغَيْرِ إِلَى الْمَقُولِ فِيهِ، أَيْ يَنْقُلُهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ سِرًّا قَدِ اسْتَكْتَمَهُ إِيَّاهُ، كَأَنْ يَقُولَ فُلاَنٌ يَقُولُ فِيكَ: كَذَا وَكَذَا.
وَالنَّمِيمَةُ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، لِقَوْلِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم : «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» أَيِ النَّمَّامُ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الإْفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ تَجِبُ النَّمِيمَةُ كَمَا إِذَا سَمِعَ إِنْسَانٌ شَخْصًا يَتَحَدَّثُ بِإِرَادَةِ إِيذَاءِ إِنْسَانٍ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ أَنْ يُحَذِّرَ الْمَقْصُودَ بِالإْيذَاءِ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْذِيرُهُ بِغَيْرِ ذِكْرِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى التَّحْذِيرِ، وَإِلاَّ ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نَمِيمَةٌ).
مَا يَجُوزُ فِيهِ السَّتْرُ وَالإْفْشَاءُ، وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ:
نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحُدُودِ الشَّهَادَةُ وَالسَّتْرُ، لَكِنَّ السَّتْرَ أَفْضَلُ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم : «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ «لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ».
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْمُتَهَتِّكَ الَّذِي لاَ يُبَالِي بِإِتْيَانِ الْمَحْظُورَاتِ وَلاَ يَتَأَلَّمُ لِذِكْرِهِ بِالْمَعَاصِي. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: يَقُولُ الشَّاهِدُ عَلَى السَّرِقَةِ: أَخَذَ، لاَ سَرَقَ، إِحْيَاءً لِلْحَقِّ وَرِعَايَةً لِلسَّتْرِ. وَإِذَا طَعَنَ فِي الشُّهُودِ يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمُ الْقَاضِيَ جَهْرًا أَوْ سِرًّا عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ فِي الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي أَوِ التَّرْكِ، إِلاَّ فِي الْحُدُودِ فَالتَّرْكُ فِيهَا أَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنَ السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي غَيْرِ الْمُتَجَاهِرِ بِفِسْقِهِ، وَأَمَّا الْمُجَاهِرُ فَيُرْفَعُ أَمْرُهُ. وَكَوْنُ التَّرْكِ مَنْدُوبًا هُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْمَوَّاقِ: سَتْرُ الإْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَاجِبٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَرْكُ الرَّفْعِ وَاجِبًا.
وَقَالَ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا وَقَعَ فِي مَجْلِسٍ مِمَّا يُكْرَهُ إِفْشَاؤُهُ إِنْ لَمْ يُخَالِفِ الشَّرْعَ يَجِبُ كِتْمَانُهُ. وَإِنْ خَالَفَ الشَّرْعَ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، كَالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَكَ الْخِيَارُ، وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْعَبْدِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ ضَرَرٌ لأِحَدٍ مَالِيٌّ لاَ بَدَنِيٌّ، أَوْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَالْقِصَاصِ وَالتَّضْمِينِ، فَعَلَيْكَ الإِْعْلاَمُ إِنْ جَهِلَ، وَالشَّهَادَةُ إِنْ طَلَبَ، وَإِلاَّ فَالْكَتْمُ.
اسْتِعْمَالُ الْمَعَارِيضِ لِتَجَنُّبِ إِفْشَاءِ السِّرِّ:
- الْمَعَارِيضُ فِي الْكَلاَمِ هِيَ التَّوْرِيَةُ بِالشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ».
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَا فِي الْمَعَارِيضِ مَا يَكْفِي الرَّجُلَ عَنِ الْكَذِبِ ؟ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا إِذَا اضْطُرَّ الإْنْسَانُ إِلَى الْكَذِبِ لِتَجَنُّبِ إِفْشَاءِ السِّرِّ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْرِيَةٌ) (وَتَعْرِيضٌ).
وَقَالَ إِمَامُ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَيُعَدُّ الْحَدِيثُ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ أَخُوهُ أَمَانَةً، وَلاَ يُفْشِيهَا لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَإِذَا حَدَّثَ بِهِ أَحَدًا أَدَّاهُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَاخْتَارَ أَجْوَدَ مَا سَمِعَ.
تَجَنُّبُ الإْفْشَاءِ فِي الْحَرْبِ:
كِتْمَانُ أَسْرَارِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْعَدُوِّ مَطْلُوبٌ، لأِنَّ السِّرَّ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْعَدُوِّ فَيَسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ.
وَلِذَلِكَ جَازَ الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ تَجَنُّبًا لإِفْشَاءِ أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَدُوِّ.
وَمِنَ الْكِتْمَانِ أَلاَّ يَذْكُرَ قَائِدُ الْجَيْشِ لِجُنُودِهِ الْوَجْهَ الَّذِي يُرِيدُونَ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّه صلي الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَى بِغَيْرِهَا .
أَمَّا السَّعْيُ لِلْحُصُولِ عَلَى أَسْرَارِ الْعَدُوِّ فَهُوَ مَطْلُوبٌ، لاِتِّقَاءِ شَرِّهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم يَسْتَطْلِعُ أَخْبَارَ الْعَدُوِّ.