loading
المذكرة الإيضاحية

مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الثاني ، الصفحة : 219

مذكرة المشروع التمهيدي :

1- إذا كان محل الالتزام مبلغاً من النقود فكثرة تقلبات سعر القطع تجعل تعيين السعر الذي يجب الوفاء على أساسه أهمية خاصة عند اختلاف هذا السعر في وقت الوفاء عنه في وقت نشوء الالتزام وينبغي التفريق في هذا الصدد بين فروض مختلفة .

(أ) فإذا كان الدين مقوما بالنقود المصرية فلا يكون المدين ملزماً إلا بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها أي أثر في الوفاء وعلى هذا النحو يربح الملتزم من جراء انخفاض قيمة النقود ويصاب من وراء ارتفاعها بالخسارة .

(ب) وإذا كان الدين مقدراً بنقد أجنبي المدين بالخيار بين الوفاء بالعدد المذكور في العقد من هذا النقد الأجنبي وبين الوفاء بنقود مصرية تحتسب على أساس سعر القطع في الزمان والمكان الذين يتم الوفاء فيهما على أن المدين إذا تخلف عن الوفاء في ميعاد الاستحقاق بتقصير منه فيلزم بالوفاء على أساس أعلى السعرين : سعر القطع يوم حلول الأجل أو سعره يوم الوفاء كل هذا دون إخلال بحق الدائن في المطالبة فوائد التأخر من يوم رفع الدعوى .

2- على أن القواعد المتقدمة لا تتعلق بالنظام العام فهي تطبق مال يتفق المتعاقدان على ما يخالفها فيجوز الاتفاق على أن يكون الوفاء بالذهب أو بالنقد الورقي محسوباً بسعر الذهب ( شرط الوفاء بالذهب ) إذا كان الدين قد عقد بنقود مصرية فإذا كان الدين مقدراً بنقد أجنبي جاز الاتفاق على أن يكون الوفاء بالعملة الأجنبية مع مراعاة قيمتها بالنسبة لسعر القطع.

وتظل هذه الاتفاقات جميعها على حكم الإباحة مادام أن سعراً إلزامياً لم يقرر بالنسبة لورق النقد فهي في هذه الصورة لا تلحق ضرراً بالمدين لأن النقد الورقي يحتفظ بقيمته بالنسبة للذهب ما لم يقرر له سعر إلزامي تم انها لا تخالف نصاً من نصوص القانون إذ المفروض أن القانون لم يحدد للعملة الورقية قيمة معينة .

ويختلف الحكم إذا تقرر العملة الورقية سعر إلزامي , فكثيراً ماتطرأ على قيمة النقود الورقية في صلتها بالذهب تقلبات مائية و بهذا يستهدف المدن الأخطار الجسيمة أضف إلى ذلك أن القيمة الإسمية للنقد الورقي تصبح مفروضة بمقتضى نص قانوني آمر بعدم الخروج عليه باتفاق المتعاقدين ولهذا يعتبر اشتراط الدفع بالذهب أو على أساس قيمة الذهب باطلا في حالة تقرير سعر الزامی ( حتى في المعاملات الدولية - المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 ، قارن القانون الفرنسي الصادر في 25 يونية سنة 1928 التقويم السنوي للتشريع الفرنسي سنة 1928 )، ويترتب على بطلان الشرط، بطلان العقد بأسره إذا كان الشرط هو الدافع الحافز على التعاقد .

ومع ذلك فيجوز الاتفاق على أن يتم الوفاء بنقود أجنبية تحسب بسعر قطعها إذا كان الدين قد عقد بنقد أجني ، وليس في هذا مساس بنص في القانون لأن النقد الأجنبي ليس له سعر إلزامي أصلاً ثم إن العدل يقضي من ناحية أخرى بأن يتم الوفاء في المعاملات الدولية على أساس سعر القطع الذي يمثل العلاقة بين النقد الوطني. والنقد الأجنبي.

المشروع في لجنة المراجعة

تليت المادة 186 من المشروع 

واقترح حذفها لأنها تقرر حكماً في مسائل اقتصادية متغيرة يحسن تركها القانون خاص .

وبعد المناقشة وافقت اللجنة على ذلك مع استبقاء الفقرة الأولى على أن يحذف منها العبارة الأخيرة ( ما لم يتفق المتعاقدان على خلاف ذلك ) فيصبح النص الذي . أقرته اللجنة هو ما يأتي :

إذا كان محل الالتزام نقوداً فلا يكون المدين ملزماً إلا بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي أثر ثم قدمته في المشروع النهائي تحت رقم 138 بالنص الآتي :

إذا كان محل الالتزام نقوداً التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي أثر.

المشروع في مجلس النواب

 وافق المجلس على المادة دون تعديل تحت رقم 138 .

المشروع في مجلس الشيوخ

مناقشات لجنة القانون المدني :

وافقت اللجنة على المادة بالإجماع دون تعديل وأصبح رقمها 134 .

مناقشات المجلس :

وافق المجلس على المادة دون تعديل . 

الأحكام

1- الأصل فى الإلزام قضاء بأداء كبلغ من النقود أن يكون بالعملة الوطنية وكان الثابت بالأوراق أن الحكم المطعون فيه قد ألزم الطاعن بأداء قيمة التعويض بالدولار الامريكى دون أن يكون هناك اتفاق بين الخصوم على أداء التعويض بالعملة الأجنبية قد أخطأ فى تطبيق القانون.

(الطعن رقم 6278 لسنة 63 جلسة 1995/11/27 س 46 ع 2 ص 1235 ق 241)

2- النص فى المادة السادسة من القانون رقم 97 لسنة 1976 بشأن تنظيم التعامل بالنقد الأجنبى فى فقرتها الأولى على أن " للمصارف المعتمدة القيام بأية عملية من عمليات النقد الأجنبى بما فى ذلك قبول الودائع و التعامل والتحويل للداخل و الخارج والتشغيل والتغطية فيما تحوزه من أرصدة بالنقد الأجنبى وذلك مع مراعاة أحكام المادتين"3"و"4" والنص فى المادة الأولى من القانون رقم 118 لسنة 1975 فى شأن الاستيراد والتصدير على أن "يكون استيراد احتياجات البلاد السلعية عن طريق القطاعين العام والخاص ، وذلك وفق أحكام الخطة العامة للدولة وفى حدود الموازنة النقدية السارية ....... ويصدر وزير التجارة قراراً بتحديد الإجراءات والقواعد التى تنظم عمليات الإستيراد ....... " وقررت المادة الأولى من القرار الوزارى رقم 15 لسنة1980 -الصادر من نائب رئيس الوزراء للشئون المالية - المنطبق على واقعة الدعوى - أن "للقطاع الخاص الاستيراد من الخارج بقصد الإتجار أو التصنيع عن طريق مصارف القطاع العام التجارية الأربعة ، أو أحد المصارف التجارية المعتمدة التى يصدر بتحديدها قرار من وزير الاقتصادية، ....... وبالشروط التالية:1- ..... 2- ..... 3-..... 4- ..... على المستورد سداد قيمة السلعة المطلوب استيرادها بالعملات الحرة للمصرف الذى سيتولى فتح الاعتماد على النحو التالى ........ " مما مفاده أن استيراد السلع عن طريق القطاع الخاص فى ظل أحكام القانونين رقمى 118 لسنة 1975 و 97 لسنة1976 والقرار الوزارى رقم 15 لسنة 1980 تلزم المستورد بسداد القيمة بالعملات الحرة للمصرف فاتح الاعتماد فيقع عليه عبء تدبير العملة من النقد الاجنبى ، و لا تثريب عليه فى سبيل ذلك إن اتفق مع البنك فاتح الاعتماد على تغذية حسابه الحر بالعملة الحرة المطلوبة مقابل عملة محلية من موارده الخاصة وعن طريق عملياته المصرفية لما كان ذلك وكان الحكم المطعون فيه قد خلص بأسباب سائغة إلى أن الاعتمادين المستندين قد تم سداد قيمتها بالعملة الحرة التى دبرها البنك الطاعن لحساب المطعون ضدهما مقابل قيمتهما بالجنيه المصرى عن طريق عملياته المصرفية فإن النعى يكون على غير أساس .

(الطعن رقم 1019 لسنة 61 جلسة 1993/04/26 س 44 ع 2 ص 221 ق 177)

3- لما كانت المادة 93 من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 97 لسنة 1976 بتنظيم التعامل بالنقد الأجنبى تنص على أنه يجوز إبرام عقود التأمين مع الهيئة العامة للتأمينات الإجتماعية وشركات التأمين بالنقد الأجنبى، مع الوفاء بالقيمة التأمينيه ، أو أى تعويضات تستحق فى نطاقها بالنقد الأجنبى ، . . . فلا على الحكم المطعون فيه ان أجابها إلى طلبها وقضى بالإازام بالدولار الأمريكى.

(الطعن رقم 500 لسنة 60 جلسة 1991/05/13 س 42 ع 1 ص 1103 ق 173)

4- إذ كان الحكم لم يحدد مقدار الدين موضوع الدعوى بالجنيهات الاسترلينية حتى يكون مطالبا ببيان أسس التحويل إلى العملة المحلية بل حدده إبتداء بالعملة الأخيرة من واقع المستندات المقدمة على أنه هو المبلغ المستحق فى ذمة المورثة مقابل نفقات علاجها و إقامتها بالخارج مع مراعاة سعر العملة وقت الإتفاق ثم وقت الحكم و مصاريف و عمولات التحويل بعد الأذن به ، و إذا كانت هذه الأسباب سائغة و تكفى لحمل الحكم فإن النعى عليه يكون على غير أساس .

(الطعن رقم 352 لسنة 43 جلسة 1977/07/26 س 28 ع 1 ص 1556 ق 269)

5- إذ كان الحكم المطعون فيه لم يصدر معلقاً على شرط ، و إنما قضى بالمبلغ على تركة مورثة الطاعنين و المطعون عليها الثانية ، غير أنه راعى فى التنفيذ ما رسمة المشرع فى المادة الخامسة من القانون رقم 84 لسنة 1947 المعدل بالقانون 57 لسنة 1950 عن كيفية تنفيذ الإلتزام بالمبالغ المستحقة الدفع لأشخاص غير مقيمين فى مصر إذ اعتبر دفعها على الوجه المبين فيها مبرئاً لذمة المدين قبل الدائن غير المقيم ، فان النعى على الحكم يكون فى غير محله .

(الطعن رقم 352 لسنة 43 جلسة 1977/07/26 س 28 ع 1 ص 1556 ق 269)

6- إذ كان من مقتضى الأمر العالى الصادر فى 2 أغسطس سنة 1964 أن يكون للجنيه الورق نفس القيمة الفعلية التى للجنيه الذهب وأن كل ما يدفع من تلك الأوراق يكون دفعاً صحيحاً ومبرئاً للذمة كما لو كان الدفع حاصلاً بالعملة الذهبية ، فإن كل ما يلزم به الناقل الجوى وفقاً للفقرتين الأولى والرابعة من المادة 22 من إتفاقية فارسوفيا هو عدد من الجنيهات المصرية الورقية مساو لعدد الجنيهات الذهبية المشتملة على ذهب يعادل وزن الذهب الذى يشتمل عليه 125 ألف فرنك فرنسى "التعويض المحدد بالإتفاقية" وذلك على أساس أن وزن الذهب فى الجنيه الواحد هو ما حدده القانون رقم 185 لسنة 1951 " بمقدار 2.55187 جرام " .

(الطعن رقم 366 لسنة 33 جلسة 1967/04/27 س 18 ع 2 ص 907 ق 138)

7- التشريع الخاص بشرط الذهب فى مصر - وهو ما صدر بشأنه الأمر العالى فى 2 أغسطس سنة 1914 بفرض السعر الإلزامى للعملة الورقية ثم المرسوم بقانون رقم 35 لسنةة 1935 الذى نص على بطلان شرط الذهب فى العقود التى يكون الإلتزام بالوفاء فيها ذا صبغة دولية - تتعلق أحكامه بالنظام العام ، ومن مقتضى تلك الأحكام بطلان شرط الذهب فى المعاملات الداخلية والخارجية على السواء وهو أمر راعى الشارع فيه المصلحة العامة المصرية ، ومن ثم فإنه لا يمكن القول بأن إنضمام مصر إلى إتفاقية فارسوفيا بالقانون رقم 593 لسنة 1955 من شأنه التأثير فى هذا التشريع الخاص بما يعد إلغاء له أو إستثناء من بطلان شرط الذهب يضاف إلى الإستثناءات الواردة فيه على سبيل الحصر وعلى ذلك فلا يعتد بالشرط الوارد فى إتفاقية فارسوفيا الذى يقضى بأداء التعويض بما يعادل قيمة الذهب المبينة له من العملة الوطنية إذ أن شرط الوفاء بعملة ورقية على أساس قيمتها ذهباً ليس إلا تحايلاً على القانون الذى فرض للعملة الورقية سعراً إلزامياً ولا جدوى من إبطال شرط الدفع بالذهب إذا لم يتناول البطلان هذه الصورة .

(الطعن رقم 366 لسنة 33 جلسة 1967/04/27 س 18 ع 2 ص 907 ق 138)

8- إنه و إن كان قد ورد فى نص المادة 5/4 من معاهدة سندات الشحن التى أصبحت نافذة المفعول فى مصر إعتبارا من 29 مايو سنة 1944 - تحديد لإلتزام الناقل أو السفينة بتعويض مقداره مائة جنيه إسترلينى ، كما نص فى المادة التاسعة منها على أنه ( يراد بالوحدات النقدية الواردة بها القيمة الذهبية) valeur or إلا أنه ليس لما ورد بهذين البندين أثر ما على التشريع الخاص بشرط الذهب فى مصر ، وهو ما صدر به مرسوم 2 أغسطس سنة 1914 ، ثم المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 ، و قد نص فى هذا الأخير على بطلان شرط الذهب " فى العقود التى يكون الإلتزام بالوفاء فيها ذا صبغة دولية " ، و لما كان هذا القانون معتبرا تشريعا خاصا متعلقا بالنظم النقدية و العملة وهى من النظام العام ، و مقررا بطلان شرط الذهب فى المعاملات الداخلية و الخارجية على حد سواء وهو أمر راعى الشارع فيه المصلحة العامة المصرية ، فإنه لا يمكن القول بأن إنضمام مصر إلى معاهدة بروكسل و إنفاذها فيها بمرسوم سنة 1944 من شأنه التأثير فى هذا التشريع الخاص بما يعد إلغاء له أو إستثناء من بطلان شرط الذهب يضاف إلى الإستثناءات الواردة فى ذلك التشريع على سبيل الحصر ، و قد بدت رغبة المشرع المصرى جلية فى الإبقاء على هذا التشريع الخاص بما تضمنه من أحكام خاصة ببطلان شرط الذهب و ما ورد فيه من إستثناءات ، فلم يتضمن التقنين المدنى الجديد نصوصا فى هذا المعنى ، بل إن لجنة المراجعة قد حذفت من المشروع التمهيدى نص المادة 187 التى كانت تتناول بالتنظيم ما تضمنه هذا التشريع الخاص ، وذلك إعتبارا بأن ذلك النص يقرر حكما فى مسائل إقتصادية متغيرة يحسن تركها لقانون خاص ، هو ذلك المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 ، وفى ذلك تأييد لما سبق بيانه من أن هذا التشريع الخاص يحكم المعاملات الداخلية و الخارجية ، و يقضى ببطلان شرط الذهب فى كليهما و سواء فى ذلك أكان المشروط هو وجوب الوفاء بالذهب ، أو كان المشروط الوفاء بما يعادل قيمة الذهب Valeur Or ذلك أن إشتراط الوفاء فى هذه الحالة الأخيرة بعملة ورقية على أساس قيمتها ذهبا ليس إلا تحايلا على القانون الذى فرض للعملة الورقية سعرا إلزاميا ، ولا جدوى من إبطال شرط الدفع بالذهب إذا لم يتناول البطلان هذه الصورة .

(الطعن رقم 95 لسنة 25 جلسة 1960/02/11 س 11 ع 1 ص 126 ق 20)

شرح خبراء القانون

تعيين محل الالتزام بدفع مبلغ من النقود:

إذا كان محل الالتزام نقودا فلا يكون المدين ملزماً إلا بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي أثر ما لم يتفق المتعاقدان على خلاف ذلك .

ويشترط في الالتزام النقدي كغيره من الالتزامات أن يكون محلاً معيناً بنوعه ومقداره، كخمسمائة جنيه مصرى مثلاً أو غير ذلك من الأرقام والعبرة في الوفاء بقيمتها الإسمية.

والأصل في الوفاء أن يكون بتسليم النقود المتفق عليها على أنه قد يقع بحوالة بريدية أو بشيك إذا قبل الدائن بذلك .

وفي هذه الحالة ومثيلاتها لا تبرأ ذمة المدين أي لا يتم الوفاء إلا بقبض الدين .

شرط الوفاء بالذهب :

إذا تقرر للعملة الورقية سعر قانونی وجب على الدائن قبولها حتى لو اتفق مع المدين على غير ذلك، وحتى لو لم يكن لهذه العملة سعر إلزامي فالسعر القانوني وحده كاف لجعل الدائن يستوفي حقه ومهما يكن من خلاف في هذه المسألة فإن الخلاف ليست له أهمية عملية إذا لم يكن للعملة الورقية سعر إلزامي، فإن الدائن الذي يريد الحصول على حقه ذهباً ولا يستوفيه ورقاً يستطيع أن يستبدل الذهب بالورق في أي وقت شاء .

غير أنه في أوقات الأزمات الاقتصادية وبخاصة في أوقات الحروب ترى الدولة نفسها مضطرة أن تسمح لبنك الإصدار بزيادة مقدار العملة الورق دون زيادة ما يقابلها من غطاء معدني وتسبب هذه الزيادة تضخماً، ويقتضي ذلك بطبيعة الحال أن تعفي الدولة بنك الإصدار من التزامه بإبدال نقود معدنية بالعملة الورقية، وهذا هو تقدير السعر الإلزامي، وإلا هرع الناس إلى البنك ليستبدلوا منه نقوداً معدنية بالعملة الورق وظهر لهم عجزه عن ذلك عجزاً يؤدي إلى إفلاسه.

فتقرير السعر القانوني يوجب قبول الوفاء بالعملة الورق مع جواز استبدالها من بنك الإصدار أما تقرير السعر الإلزامي فوق السعر القانوني فيفترض وجوب قبول العملة الورق في الوفاء، وامتناع استبدال قيمتها من بنك الإصدار.

ويترتب على زيادة مقدار العملة الورق عن الغطاء المعدني من جهة، وعلى منع إبدال نقود معدنية من جهة أخرى، أن يرتفع سعر الذهب في السوق أو بعبارة أخرى أن تنحط قيمة العملة الورق وتضعف قوتها الشرائية ومع ذلك فإن قيمتها في وفا الديون تبقى كما هي، فيفى المدين دينه من النقود عملة ورقية بقدر عددها الواجب عليه، وبقطع النظر عن انحطاط العملة الورقية وقت الوفاء فإذا انحطت قيمة العملة أفاد المدين من ذلك وخسر الدائن، وإذا ارتفعت أفاد الدائن وخسر المدين .

لذلك يكون من مصلحة الدائن الذي يتعاقد مع مدينة في ظروف يخشى معها تدهور قيمة العملة الورقية في المستقبل أن يشترط تفادياً لهذا الخطر أن يكون بالذهب أو أن يكون الدفع بالعملة الورق بقيمة الذهب.

لهذا جرت عادة الدائنين على أن يشترطوا في عقودهم شرط الذهب أي الدفع بالذهب أو بورق بقدر قيمة الذهب (شرط القيمة بالذهب).

إلا الشارع المصري أصدر تشريعين نص فيهما على بطلان شرط الذهب. نعرض لهما فيما يلى.

بطلان شرط الذهب في مصر: -

المرسوم الصادر في 2 أغسطس سنة 1914:

قضى المرسوم بقانون المذكور بأن يكون للعملة الورقية التي يصدرها البنك الأهلى قيمة الذهب - وهذا هو السعر القانوني - وبأن البنك لا يجبر على إبدال الورق بالذهب وهذا هو السعر الإلزامي - وهذا بصرف النظر عما يخالف ذلك من الشروط والاتفاقات الحاصلة أو التي تحصل بين أصحاب الشأن وواضح من هذا أن المشرع يقضي ببطلان شرط الذهب دون أن يفرق في ذلك بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية، بل إنه جعل لهذا التشريع أثراً رجعياً.

إلا أنه بالرغم من صراحة هذا النص وعموميته وتعلقه بالنظام العام اتخذ القضاء المختلط في أغلب أحكامه وجهة غير سليمة فتارة يقضي بصحة شرط الذهب، وتارة أخرى يفرق بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية فيحرمه في الأولى ويجيزه في ثانية على نهج القضاء الفرنسي. 

المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 :

اضطر المشرع إلى إصدار المرسوم رقم 45 لسنة 1935 لحسم ما نشب من خلاف في تفسير المرسوم الصادر في 2 أغسطس سنة 1914، بصدد المسألة التي قام فيها الخلاف الجوهرى، وهي قيمة شرط الذهب في المعاملات الخارجية أو المعاملات ذات الصبغة الدولية فنص على أنه: "تبطل شروط الدفع ذهباً في العقود التي يكون الالتزام بالوفاء فيها ذا صبغة دولية والتي تكون قد قومت بالجنيهات المصرية أو الاسترلينية أو بنقد أجنبي آخر كان متداولاً قانوناً في مصر (الفرنك والجنيه والترکی)، ولا يترتب عليها أي أثر ولا يجري هذا الحكم على الالتزام بالوفاء بمقتضى المعاهدات أو الاتفاقيات الخاصة بالبريد أو التلغراف أو التليفون".

والملاحظ أن البطلان لا يقتصر بعمل شرط الذهب، بل يمتد كذلك إلى كل شرط يعدل شرط الذهب في الغرض منه وفي نتيجته فيكون باطلاً شرط الدفع بعملة أجنبية إذا كان ملحوظاً في هذه العملة أنها تكون عادة مساوية للذهب ويكون باطلاً كذلك شرط الدفع وافق سعر بضاعة معينة إذا كان مقصوداً به التحايل على القانون.

وعلى ذلك فإن شرط الذهب وما يعدله يقع باطلاً سواء ورد في المعاملات الداخلية أو الخارجية أما أثر بطلان الشرط فيقتصر عليه، إلا إذا كان هو الدافع إلى التعاقد فحينئذ يبطل الشرط والعقد .

الاتفاق على الوفاء بعملة أجنبية :

يجوز الاتفاق على أن يتم الوفاء بنقود أجنبية تحتسب بسعر قطعها إذا كان الدين في عقد بنقد أجنبي، أو بنقد مصر، وليس في هذا مساس بنص في القانون لأن النقد الأجنبي ليس له سعر إلزامي أصلاً ثم إن العدل يقضي من ناحية أخرى بأن يتم الوفاء في المعاملات الدولية على أساس سعر القطع الذي يمثل العلاقة بين النقد الوطني والنقد الأجنبي. 

ويلاحظ ما قضى به المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 من بطلان شرط الدفع بعملة أجنبية إذا كان ملحوظاً في هذه العملة أنها تكون عادة مساوية للذهب. (موسوعة الفقه والقضاء والتشريع، المستشار/ محمد عزمي البكري، الجزء/ الأول الصفحة/383)

محل الإرادة - الغالب أن الأثر الذي يترتب على الإرادة يكون نشوء حق أو التزام أو انقضاءهما .

ولما كان كل من الحق والالتزام لابد له من محل يقوم فيه ، فان هذا المحل هو الذي تنعقد عليه الارادة ، ويشترط فيه أن يكون : 1- معيناً ، 2 - وممكناً ، 3- ومشروعاً (المواد 132 - 135 مدنی ).

فإذا كان المحل غير معين، كما اذا تعهدت أن أقوم لك ببناء ، دون تعيين نوع البناء وأوصافه ، أو اذا تعهدت أن أعطيك قمحاً دون تعيين مقدار القمح، استحال نشوء الحق أو الالتزام ، وكانت الأرادة كأنها لم تتجه إلى أثر قانونی ، فلا يعتبر لها وجود.

وإذا كان المحل غير ممكن ، كما إذا تعهدت بإحياء ميت أو بأقامة قصر في السماء ، فإن الالتزام به لا ينشأ، لأن المستحيل لا يلزم أحداً وتكون الإرادة عبثاً فلا يعتد بوجودها غير أنها لا تكون كذلك الا إذا كانت استحالة المحل استحالة مطلقة أعني الوفاء به غير ممكن في ذاته أما إذا كانت الاستحالة نسبية ، وهي تكون كذلك إذا كان المحل غير ممكن بالنسبة إلى من تعهد به فقط، ولكنه ممكن بالنسبة إلى غيره من أمثاله ، فلا تجعل الارادة عبثاً ولا تمنع انعقاد العمل القانوني وترتب أثره عليه .

وإذا كان المحل غير مشروع ، وهو يعتبر كذلك إذا كان مخالفاً للنظام العام أو للآداب العامة ، فان القانون لا يقره ، ولا يسمح للإرادة أن تتجه إليه ، وإن هي اتجهت إليه لا يرتب عليها أثراً ويعتبرها في حكم العدم - ومثل ذلك أن يتعهد شخص بقتل آخر، أو بتهريب مخدر، أو بإغواء إمرأة .  (الوافي في شرح القانون المدني، الدكتور/ سليمان مرقص، الطبعة الرابعة 1986 الجزء/ الاول  الصفحة/ 877)

سعر النقد :

لكل عملة سعر يتم التعامل فيها على أساسه، والأصل أن يحدد هذا السعر وفقاً للقوة الشرائية للعملة محسوبة على ما يعادلها من الذهب، فيحدد سعر الجنيه، بعد الوقوف على قوته الشرائية ، بما يعادل ذلك ذهباً، فنقول أن الجنيه يساوي كذا جرام من الذهب وهذا هو السعر القانوني أو الرسمي للعملة ويتطلب وجود غطاء للعملة من الذهب.

فإن كانت الدولة تطبق هذا السعر بالنسبة لعملتها، فإن من حق كل من يحوز هذه العملة أن يستبدلها ذهباً، أو يضمن تصرفاته شروطاً توجب الوفاء بالذهب، فتكون تلك الشروط صحيحة يلتزم المدين بها.

وقد تحدد الدولة سعرة لعملتها، لكنها لا تكون ملزمة باستبدال الذهب بالعملة إنما تقصر التعامل على العملة الورقية أو المعدنية وتضمن تشريعاتها ما يفيد أن الوفاء بهذه العملة يبرئ ذمة الدين وهذا هو السعر الإلزامي، بل قد تذهب الى النص على بطلان الشرط الذي يوجب على المدين الوفاء بالذهب أو بما يعادل الذهب، وهذا الشرط هو شرط الذهب الذي تناوله المشرع المصري في المرسوم الصادر في 2/8/1914 والمرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 .

شرط الذهب :

 صدر مرسوم 2/8/1914 ونص على بطلان شرط الذهب وجاء نصه عاماً ومع ذلك ثار الخلف بالنسبة للمعاملات الدولية، وإذ ذهبت بعض المحاكم - على نحو ما تضمنته المذكرة الإيضاحية للمرسوم رقم 45 لسنة 1935 - إلى انصراف أثر مرسوم 2/85/1914  إلى المعاملات الداخلية التي تتم في مصر دون المعاملات الخارجية.

وقد أدى ذلك بالمشرع إلى إصدار المرسوم رقم 45 لسنة 1935 ونص فيه صراحة على بطلان شرط الذهب في المعاملات الداخلية والخارجية على حد سواء، وبذلك يكون المشرع قد حسم هذا الخلف وأصبح شرط الذهب باطلاً بطلاناً مطلقاً أينما وجد لتعلقه بالنظام العام، ومن ثم فإن المحكمة تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها، ولا يجوز للدائن التنازل عن هذا البطلان ولا يرد عليه التقادم .

 مدى بطلان شرط الذهب أو الوفاء على أساس قيمة الذهب :

يلجأ الدائن الى شرط الذهب، حتى لا يضار بسبب إنخفاض قيمة العملة عند حلول أجل الوفاء، فيشترط أن يتم الوفاء بالذهب أو بما يعادل قيمة الالتزام ذهباً وهذا الشرط قد يؤدي إلى الإضرار بالمدين في حالة إنخفاض قيمة العملة عند الوفاء عما كانت عليه عند نشأة الالتزام، وقد لا يؤدي الى ذلك إذا ظلت العملة محتفظة بقيمتها، وقد أبطل المشرع هذا الشرط في جميع الحالات لا يتضمنه من عدم الثقة في العملة الوطنية، والشرط على هذا النحو، لا يكون هو الدافع الباعث على التعاقد ومن ثم يقتصر البطلان عليه وحده دون باقي العقد فيظل صحيحاً منتجاً لباقی آثاره .

إما إن كان الشرط هو الدافع الى التعاقد، كان ينصرف قصد الدائن إلى إستيفاء حقه ذهباً بصرف النظر عما يعتري سعر العملة من إنخفاض أو إرتفاع، بمعنى أنه ما تعاقد إلا بقصد الحصول على الذهب، فإن البطلان ينصرف الى العقد بأكمله.

ومتى قضى بالبطلان، فلا يكون للدائن الرجوع على المدين بالتعويض بسبب هذا البطلان حتى لا يستفيد من شرط جاء مخالفة للنظام العام، ولأن الضرر الذي يوجب التعويض وتتوفر به أركان المسئولية، هو الضرر الذي لا يترتب بسبب مخالفة نص في القانون.

واعتبار الشرط هو الدافع للتعاقد أو ليس دافعاً للتعاقد، هو مما يخضع فيه قاضي الموضوع لرقابة محكمة النقض.

ويلحق بشرط الذهب، الشرط الخاص بأن يتم الوفاء على أساس قيمة الذهب،ويتم ذلك باحتساب الدين بما يساويه ذهباً ثم يتم الوفاء بهذا القدر من الذهب سواء كان الوفاء معجلاً أو مؤجلاً ، لأن الوفاء إن كان معجلاً انطوى الاتفاق على عدم الثقة بالعملة الوطنية، وإن كان مؤجلاً انطوى على رغبة إلى أن في عدم تحمل انخفاض قيمة العملة.

نطاق شرط الذهب :

ينصرف بطلان شرط الذهب، إلى كافة التصرفات التي تلزم الدين بالوفاء بقيمة التزامه بالذهب، حتى لو كان تنفيذ هذا الشرط لا يؤدي الى الاضرار بالمدين بمساواة قيمة الالتزام عند الوفاء بما اتفق على قيمته ذهباً، ولما كان النص على البطلان واضحاً ومن ثم لا يصح البحث عن علة النص أو قصد الشارع منه.

ويبطل الشرط - أو العقد إن كان الشرط هو الباعث الدافع للتعاقد - أينما وجد، صريحاً كان أو ضمنياً، فيبطل في عقود البيع والتوريد والقرض والإيجار والوديعة الناقصة وغير ذلك من العقود التي يكون المقابل فيها ذهباً، فالثمن والأجرة وأي مقابل آخر يجب الوفاء به بالعملة الجارية.

أما عارية الاستعمال والوديعة غير الناقصة، فإن الوفاء فيهما يتم بالرد فمن يستعير حلية ذهبية أو يكون وديعة لها فإنه يلتزم بردها بذاتها، فإن كان الالتزام برد مثلها، خرج التصرف عن نطاق العارية أو الوديعة غير الناقصة، وقد يكون بيعا أو عارية ناقصة فيمتنع الرد بالذهب ويتم الوفاء وفقاً للقيمة وقت القبض، ويكون للمدين إثبات حقيقة التصرف بكافة طرق الإثبات حتى لو كان التزامه ثابتة بالكتابة لما ينطوي عليه التصرف من محايل على القانون .

ويخضع. القاضي في تكييفه للتصرف لرقابة محكمة النقض .

يستوي بعد ذلك أن يكون التصرف تم داخل إقليم الدولة أو خارجها طالما عرض النزاع على المحاكم المصرية، إذ يلتزم القاضي في هذه الحالة بتطبيق القانون المصرى دون أي قانون آخر تدل عليه قواعد الإسناد بإعتبار أن شرط الذهب مخالفة للنظام العام، وذلك على التفصيل الذي أوضحناه بالمادتين 19 و 28 من القانون المدني.

الوفاء بعملة أجنبية :

كان الوفاء بعملة أجنبية باطلاً في ظل العمل بالقانون رقم 80 لسنة 1947 بتنظيم الرقابة على عمليات النقد المعدل بالقانون رقم 157 لسنة 1950 متى أبرم التصرف في مصر أو تم الوفاء بها إذا كان التصرف قد أبرم خارجها إذ يشترط لصحة الوفاء في هذه الحالة متى كان الدائن غير مقيم بها ومحظور تحویل العمل إليه إيداعها بحساب بأحد المصارف التي يعينها القانون وتظل مجمدة حتى يتم صرفها وفقاً للشروط التي يحددها وزير المالية .

وإذ صدر القانون رقم 97 لسنة 1976 بتنظيم التعامل بالنقد الأجنبي فقد نص في المادة 19 منه على إلغاء القانون رقم 80 لسنة 1950 سالف الذكر، وجاع المذكرة الإيضاحية للقانون الجديد أنه قد تغيرت المعالم والظروف الاقتصادية عما كانت عليه عند صدور القانون رقم 80 لسنة 1950 ، وفي ضوء ذلك أصبح من الضروري تحرير المعاملات النقدية من القيود التي تغل يدها، وقد أجازت المادة الأولى من المشروع الاحتفاظ بالنقد الأجنبي في نطاق الموارد الناتجة عن غير عمليات التصدير السلعي والتي تستحق للأفراد والقطاع الخاص بصفة عامة وفي كافة الصور التي يكون عليها الاحتفاظ على أساس أن هذه المتحصلات غير واجبة الاسترداد الى جمهورية مصر العربية ويكون التعامل في النقد الأجنبي المحتفظ به داخل البلاد لإستعماله بمعرفة آخرين عن طريق المصارف المعتمدة والجهات المرخص لها بالتعامل بالنقد الأجنبي.

وأجازت المادة الثالثة للأشخاص الملتزمين باسترداد قيمة صادراتهم بتجنيب جزء منها تيسيراً لأعمالهم التي تتطلب نقد أجنبية، فأصبح التعامل بالنقد الأجنبي والوفاء به صحيحة في الحدود التي حددها هذا القانون.

وقد ورد بتقرير اللجنة الاقتصادية في تعليقها على مشروع القانون رقم 97 لسنة 1976 أن المادة الأولى أجازت للقطاع الخاص (شخص طبيعي أو معنوی) الاحتفاظ بكل ما يؤول إليه أو يملكه أو يحوزه من نقد أجنبي ناتج من غير عمليات التصدير السلعي والسياحة ولهم أن يقوموا بأية عملية من عمليات النقد الأجنبي بما في ذلك التحويل للداخل أو الخارج والتعامل داخلية بشرط أن يتم هذا التعامل عن طريق المصارف المعتمدة والجهات الأخرى المرخص لها بالتعامل في النقد الأجنبي. (أنظر في ظل القانون الملغى رقم 80 لسنة 1947 نقض 29/11/1976 و 19/4/1976 س 27 ص 1698 و 981 ونقض 26/7/1977 س 28 ص 1556) وأنظر انقضاء الالتزام بالوفاء بالمادة 323 فيما يلي.

الوفاء بالنقود :

تنص المادة 134 من القانون المدني على أنه إذا كان محل الالتزام نقوداً التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لإرتفاع قيمة هذه النقود أو لإنخفاضها وقت الوفاء أي أثر.

مفاد ذلك، أن المدين لا يلتزم بالوفاء إلا بقدر دينه الثابت بالعقد، سواء انخفضت قيمة النقود محل الالتزام مما يضر الدائن، أو ارتفعت قيمتها مما يضير المدين، ولذلك نص المشرع على بطلان شرط الذهب على التفصيل الذي أوضحناه فيما تقدم يستوي في ذلك أن يكون محل الالتزام نقداً محلياً أو أجنبية، على أنه إذا كان محل الالتزام نقداً محلياً وتضمن العقد شرطة يوجب الوفاء بالنقد الأجنبى وقع هذا الشرط باطلاً لما يدل عليه هذا الشرط من عدم الثقة بالنقد الأجنبي، فإن تعلق الشرط بأن يكون الوفاء بالنقد الوطني ولكن على أساس سعر القطع الذي يمثل العلاقة بين هذا النقد ونقد أجنبي كالدولار ما لم يكن هناك سعر تشجیعی فيكون الوفاء وفقاً له، فترى صحة هذا الشرط إن كان غير مؤثر في مقدار الالتزام بأن يظل الالتزام بقدر عدد النقود الواردة به، أما إذا أدى إلى زيادتها أو نقصانهاء وقع باطلا لمخالفته لنص المادة 134 من القانون المدني، وإذا كان الالتزام بعملة أجنبية، وعرض المدين الوفاء بما يعادلها من العملة المحلية، وفقاً للسعر المقرر وقت الوفاء، ما لم يوجد سعر تشجیعی فيكون هو الواجب الوفاء وفقاً له حتى لا يضار المدين ويثري الدائن على حسابه، ولا يجوز للدائن رفض هذا الوفاء لمخالفة ذلك للنظام العام. (المطول في شرح القانون المدني، المستشار/ أنور طلبة، المكتب الجامعي الحديث، الجزء/ الثاني  الصفحة/ 589 )

شرط الذهب : ويعني أن الدائن توقياً لانخفاض القيمة الفعلية للعملة الورقية عن سعرها الإلزامي ، يشترط أن يتم الوفاء له على أساس سعر الذهب ولا شبهة في بطلان هذا الشرط في المعاملات الداخلية لمخالفته للنظام العام ويذهب بعض الفقه إلى صحة الشرط بالنسبة إلى المعاملات الخارجية التي تقتضي خروج العملة من البلاد أو دخولها فيها كالشأن في الاستيراد والتصدير والقروض الخارجية  يراجع السنهوري بند 226 في استعراض حكم التشريع المصري وأحكام القضاء في هذا الشأن.  (التقنين المدني في ضوء القضاء والفقه، الأستاذ/ محمد كمال عبد العزيز، طبعة 2003 الصفحة/ 818 )

 

الفقة الإسلامي

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  التاسع  ، الصفحة /  167

الأْسْبَابُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِلاَزِمِ الْعَقْدِ

وَهِيَ:

الرِّبَا، وَمَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ، وَالْغَرَرُ.

وَفِيمَا يَلِي أَسْبَابُ النَّهْيِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرِّبَا.

36 - الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ - وَلَوْ حُكْمًا - خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ، مَشْرُوطٌ لأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فِي الْمُعَاوَضَةِ  . وَقَيْدُ الْحُكْمِيَّةِ، لإِدْخَالِ رِبَا النَّسِيئَةِ وَأَكْثَرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ؛ لأِنَّ الرِّبَا نَوْعَانِ: رَبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ.

وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأْمَّةِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَتِ الأْمَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ بِنَوْعَيْهِ: الْفَضْلِ وَالنَّسِيئَةِ، وَيَجْرِي رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا النَّسِيئَةِ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الصَّرْفِ وَتَفْصِيلُهُ فِي (الصَّرْفِ).

وَالرِّبَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَمْ يَحِلَّ فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ لقوله تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) وَفِي الْحَدِيثِ «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ. وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ» وَلَيْسَ الْقَصْدُ هُنَا ذِكْرُ أَحْكَامِ الرِّبَا وَشُرُوطِهِ وَمَسَائِلِهِ، بَلْ يُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ تَحْتَ عِنْوَانِ (رِبا).

وَالْقَصْدُ هُنَا التَّعَرُّفُ عَلَى أَحْكَامِ بَعْضِ الْبُيُوعِ الرِّبَوِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا فِي السُّنَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْبُيُوعِ مَا يَلِي:

أ - بَيْعُ الْعِينَةِ:

37 - هُوَ: بَيْعُ الْعَيْنِ بِثَمَنٍ زَائِدٍ نَسِيئَةً لِيَبِيعَهَا الْمُسْتَقْرِضُ بِثَمَنٍ حَاضِرٍ أَقَلَّ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ، كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُنَاكَ تَعْرِيفَاتٌ وَصُوَرٌ أُخْرَى اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا وَفِي حُكْمِهَا.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْعِينَةِ).

ب - بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ.

38 - الْمُزَابَنَةُ: بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى النَّخِيلِ بِتَمْرٍ مَجْذُوذٍ مِثْلَ كَيْلِهِ خَرْصًا (أَيْ ظَنًّا وَتَقْدِيرًا) وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدَّرَ الرُّطَبُ الَّذِي عَلَى النَّخِيلِ بِمِقْدَارِ مِائَةِ صَاعٍ مَثَلاً بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَالْحَزْرِ، فَيَبِيعَهُ بِقَدْرِهِ مِنَ التَّمْرِ  .

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ).

ج - بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ:

39 - الْمُحَاقَلَةُ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْلِ كَيْلِهَا خَرْصًا  .

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمُحَاقَلَةِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ».

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ)

د - بَيْعُ الْعَرَايَا:

40 - هُوَ: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ فِي الأْرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ  .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْعَرَايَا.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ الْعَرَايَا)

هـ - بَيْعُ الْعُرْبُونِ:

41 - بَيْعُ الْعُرْبُونِ هُوَ: أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ وَيَدْفَعَ إِلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ السِّلْعَةَ احْتَسَبَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَهُوَ لِلْبَائِعِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (بَيْعُ الْعُرْبُونِ).

و - النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ:

42 - وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنهقَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» .

وَفِي مَعْنَاهُ وَرَدَ أَيْضًا حَدِيثُ «عُثْمَانَ رضي الله عنهقَالَ: كُنْتُ أَبْتَاعُ التَّمْرَ مِنْ بَطْنٍ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَأَبِيعُهُ بِرِبْحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ إِذَا اشْتَرَيْتَ فَاكْتَلْ، وَإِذَا بِعْتَ فَكِلْ»  .

كَمَا وَرَدَ أَيْضًا حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنهماكَانَا يَبْتَاعَانِ التَّمْرَ، وَيَجْعَلاَنِهِ فِي غَرَائِرَ، ثُمَّ يَبِيعَانِهِ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، فَنَهَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَاهُ حَتَّى يَكِيلاَ لِمَنِ ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا»  .

وَهَذِهِ الأْحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مُكَايَلَةً، وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ تَسْلِيمُهُ بِالْكَيْلِ الأْوَّلِ  ، حَتَّى يَكِيلَهُ عَلَى مَنِ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي  .

وَنَصَّ ابْنُ الْهُمَامِ عَلَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رضي الله عنهم  .

وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ الْقَبْضَ قَبْلَ بَيْعِ الْمَبِيعِ فِي الْجُمْلَةِ. فَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ - كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ - أَوْ هُوَ شَرْطٌ فِي (صِحَّةِ) قَبْضِ الْمَنْقُولِ مَعَ نَقْلِهِ. كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ  .

لَكِنْ قَامَ الإْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَيْلِ فِيمَا بِيعَ جُزَافًا. وَاسْتِثْنَاءُ الْجُزَافِ مِنَ الشَّرْطِ كَانَ أَخْذًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ، أَوْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ  .

43 - وَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الأْمْثِلَةِ التَّطْبِيقِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِتَقَارُبِهِمَا فِيهَا.

الْمِثَالُ الأْوَّلُ:

لَوْ كَانَ لِبَكْرٍ طَعَامٌ مُقَدَّرٌ عَلَى زَيْدٍ، كَعَشَرَةِ آصُعٍ، وَلِعَمْرٍو عَلَى بَكْرٍ مِثْلُهُ، فَلْيَطْلُبْ بَكْرٌ مِنْ زَيْدٍ أَنْ يَكِيلَهُ لَهُ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي مِلْكِهِ، ثُمَّ يَكِيلُ بَكْرٌ لِعَمْرٍو، لِيَكُونَ الْقَبْضُ وَالإْقْبَاضُ صَحِيحَيْنِ؛ لأِنَّ الإْقْبَاضَ هُنَا مُتَعَدِّدٌ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ الْكَيْلُ، فَلَزِمَ تَعَدُّدُهُ؛ لأِنَّ الْكَيْلَيْنِ، قَدْ يَقَعُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ  .

فَلَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو: اقْبِضْ يَا عَمْرُو مِنْ زَيْدٍ عَنِّي مَالِي عَلَيْهِ لِنَفْسِكَ، فَفَعَلَ عَمْرٌو، فَالْقَبْضُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ صَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ لِوُجُودِ الإْذْنِ، وَهُوَ إِذْنُ الدَّائِنِ، وَهُوَ بَكْرٌ فِي الْقَبْضِ مِنْهُ لَهُ بِطَرِيقِ الاِسْتِلْزَامِ، فَأَشْبَهَ قَبْضُهُ قَبْضَ وَكِيلِهِ.

لَكِنَّ هَذَا الْقَبْضَ فَاسِدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمْرٍو، لِكَوْنِهِ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ؛ لأِنَّ قَبْضَهُ مَشْرُوطٌ بِتَقَدُّمِ قَبْضِ بَكْرٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلاَ يُمْكِنُ حُصُولُهُمَا، لِمَا فِيهِ مِنَ اتِّحَادِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ، وَمَا قَبَضَهُ عَمْرٌو مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، لأِنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكِيلُهُ الْمَقْبُوضُ لَهُ، وَهُوَ بَكْرٌ، لِلْقَابِضِ، وَهُوَ عَمْرٌو، وَيَصِحُّ قَبْضُهُ لَهُ.

وَالرِّوَايَةُ الأْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هِيَ: أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لأِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ نَائِبًا لَهُ فِي الْقَبْضِ، فَلَمْ يَقَعْ لَهُ، بِخِلاَفِ الْوَكِيلِ.

وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْمَقْبُوضُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ، وَهُوَ زَيْدٌ، لِعَدَمِ الْقَبْضِ الصَّحِيحِ.

بِخِلاَفِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِبَكْرٍ.

وَيَبْدُو أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الأْخِيرَةَ هِيَ الرَّاجِحَةُ، فَعَلَيْهَا مَتْنُ الإْقْنَاعِ.

وَلَوْ قَالَ: اقْبِضْهُ لِي، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ، صَحَّ الْقَبْضُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، لأِنَّهُ اسْتَنَابَهُ فِي قَبْضِهِ لَهُ، وَإِذَا قَبَضَهُ لِمُوَكِّلِهِ جَازَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَأَذِنَهُ فِي قَبْضِهَا عَنْ دَيْنِهِ.

هَذَا، وَإِنْ يَكُنِ الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ الْمِثَالُ الأْوَّلُ، فِي السَّلَمِ، لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ، لأِنَّهُ الَّذِي فِي كَلاَمِ الأْصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِثْلُ السَّلَمِ - كَمَا قَالُوا - دَيْنُ الْقَرْضِ وَالإْتْلاَفِ  .

الْمِثَالُ الثَّانِي:

44 - لَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو: احْضُرِ اكْتِيَالِي مِنْ زَيْدٍ لأِقْبِضَهُ لَكَ، فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ لِعَمْرٍو، لِعَدَمِ كَيْلِهِ، وَيَكُونُ بَكْرٌ قَابِضًا لِنَفْسِهِ لاِكْتِيَالِهِ إِيَّاهُ  .

الْمِثَالُ الثَّالِثُ:

45 - لَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو، خُذْهُ بِهَذَا الْكَيْلِ الَّذِي قَدْ شَاهَدْتَهُ، فَأَخَذَهُ بِهِ صَحَّ، لأِنَّهُ شَاهَدَ كَيْلَهُ وَعَلِمَهُ، فَلاَ مَعْنَى لاِعْتِبَارِ كَيْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً  .

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ»  ...

وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ.

وَلأِنَّهُ قَبَضَهُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَبَضَهُ جُزَافًا.

الْمِثَالُ الرَّابِعُ:

46 - لَوْ قَالَ بَكْرٌ لِعَمْرٍو: احْضُرْنَا حَتَّى أَكْتَالَهُ لِنَفْسِي، ثُمَّ تَكْتَالَهُ أَنْتَ، وَفَعَلاَ، صَحَّ بِغَيْرِ إِشْكَالٍ.

وَلَوِ اكْتَالَ بَكْرٌ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ عَمْرٌو بِذَلِكَ الْكَيْلِ الَّذِي شَاهَدَهُ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ.

وَلَوْ تَرَكَهُ فِي الْمِكْيَالِ، وَدَفَعَهُ إِلَى عَمْرٍو، لِيُفَرِّغَهُ لِنَفْسِهِ صَحَّ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْضًا صَحِيحًا؛ لأِنَّ اسْتِدَامَةَ الْكَيْلِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ، وَلاَ مَعْنَى لاِبْتِدَاءِ الْكَيْلِ هَاهُنَا، إِذْ لاَ يَحْصُلُ بِهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ.

وَمَعَ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ أَسْنَدَ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ عَدَمَ صِحَّةِ الْقَبْضِ، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وَقَرَّرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي لَهُ فِي الْمِكْيَالِ إِجْرَاءً لِصَاعِهِ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَصَّ عَلَى أَنَّ الاِسْتِدَامَةَ فِي نَحْوِ الْمِكْيَالِ كَالتَّجْدِيدِ، فَتَكْفِي  .

الْمِثَالُ الْخَامِسُ:

47 - لَوْ دَفَعَ بَكْرٌ إِلَى عَمْرٍو دَرَاهِمَ، فَقَالَ: اشْتَرِ لَكِ بِهَا مِثْلَ الطَّعَامِ الَّذِي لَكِ عَلَيَّ، فَفَعَلَ، لَمْ يَصِحَّ، لأِنَّهُ فُضُولِيٌّ إِذِ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ؛ لأِنَّ دَرَاهِمَ بَكْرٍ لاَ يَكُونُ عِوَضُهَا لِعَمْرٍو.

وَالشَّافِعِيَّةُ يُعَلِّلُونَ بِأَنَّهُ: لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ، وَالدَّرَاهِمُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِهَا بَطَلَ الشِّرَاءُ، وَإِنِ اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ الشِّرَاءُ لَهُ، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ فَفَعَلَ، صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَمْ يَصِحَّ الْقَبْضُ لِنَفْسِهِ  .

وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ حَقَّ الإْنْسَانِ  لاَ يَتَمَكَّنُ غَيْرُهُ مِنْ قَبْضِهِ لِنَفْسِهِ، وَضَمِنَهُ الْغَرِيمُ الْقَابِضُ لاِسْتِيلاَئِهِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قَبْضَهُ لِنَفْسِهِ فَرْعٌ عَنْ قَبْضِ مُوَكِّلِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ.

وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا (وَاقْبِضْهُ لِي) ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ، فَفَعَلَ، جَازَ، لأِنَّهُ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: صَحَّ الشِّرَاءُ وَالْقَبْضُ الأْوَّلُ دُونَ الثَّانِي، لاِتِّحَادِ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ، دُونَ الأْوَّلِ  .

لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَاسُوهُ عَلَى مَسْأَلَةِ شِرَاءِ الْوَالِدِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَهِبَتِهِ لَهُ، وَقَبْضِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ يَمْنَعُونَ الْقِيَاسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَلَوْ بِوَكَالَةٍ عَنْهُمَا.

كَمَا يَمْنَعُهُ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، لأِنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ، فَقَبْضُهُ كَلاَ قَبْضٍ  .

الْمِثَالُ السَّادِسُ:

48 - اشْتَرَى اثْنَانِ طَعَامًا، فَقَبَضَاهُ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنَ الآْخَرِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَسِمَاهُ:

أ - فَيُحْتَمَلُ أَنْ لاَ يَجُوزَ ذَلِكَ، لأِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَهُ مُنْفَرِدًا، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَقْبُوضِ.

ب - وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ، لأِنَّهُ مَقْبُوضٌ لَهُمَا، يَجُوزُ بَيْعُهُ لأِجْنَبِيٍّ، فَجَازَ بَيْعُهُ لِشَرِيكِهِ، كَسَائِرِ الأْمْوَالِ.

وَلَوْ تَقَاسَمَاهُ وَافْتَرَقَا، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ الَّذِي كَالَهُ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ طَعَامًا، فَاكْتَالَهُ وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ بَاعَهُ إِيَّاهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ.

أَمَّا لَوْ تَقَاسَمَاهُ وَلَمْ يَفْتَرِقَا، وَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ  . كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمِثَالِ الرَّابِعِ.

49 - وَقَدْ تَنَاوَلَ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَنَاوُلاً خَاصًّا، بِالنَّصِّ وَالتَّفْصِيلِ وَالتَّعْلِيلِ. فَقَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ مِنْهُمْ: مَنِ اشْتَرَى مَكِيلاً مُكَايَلَةً (أَيْ بِشَرْطِ الْكَيْلِ) أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً (أَيْ بِشَرْطِ الْوَزْنِ) فَاكْتَالَهُ أَوِ اتَّزَنَهُ، ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً، لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَلاَ أَنْ يَأْكُلَهُ، حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَذَلِكَ لِحَدِيثَيْ جَابِرٍ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما الْمَذْكُورَيْنِ سَابِقًا

وَلأِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الآْخَرِينَ حَرَامٌ، فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.

وَلأِنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَالْعَدَّ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، فَأَصْلُ الْقَبْضِ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ، فَكَذَا تَمَامُهُ  .

وَقَدْ قَيَّدَ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ بِالشِّرَاءِ، لأِنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ إِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ.

كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ الإْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ، وَهُوَ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ، حَتَّى لَوْ بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ فَاسِدًا، بَعْدَ قَبْضِهِ مُكَايَلَةً، لَمْ يَحْتَجِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي إِلَى إِعَادَةِ الْكَيْلِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لأِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، كَالْقَرْضِ  .

كَمَا أَلْحَقُوا بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَعْدُودَ الَّذِي لاَ يَتَفَاوَتُ، كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ، إِذَا اشْتَرَى مُعَادَّةً. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَأَفْسَدَ الْبَيْعَ قَبْلَ الْعَدِّ ثَانِيًا لاِتِّحَادِ الْجَامِعِ، وَهُوَ: وُجُوبُ تَعَرُّفِ الْمِقْدَارِ، وَزَوَالُ احْتِمَالِ اخْتِلاَطِ الْمَالَيْنِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ لِلْبَائِعِ، خِلاَفًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ الثَّانِي قَبْلَ الْعَدِّ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمَعْدُودَ مَعَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي مَتْنِ الْكَنْزِ وَالتَّنْوِيرِ.

وَاسْتَثْنَوْا مِنَ الْمَوْزُونِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ قَبْلَ الْوَزْنِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ أَوِ السَّلَمِ، كَبَيْعِ التَّعَاطِي، فَإِنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ فِي الْمَوْزُونَاتِ إِلَى وَزْنِ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا، لأِنَّهُ صَارَ بَيْعًا بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْوَزْنِ.

وَيُلاَحَظُ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ - كَغَيْرِهِمْ - الْمَبِيعَ مُجَازَفَةً، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ اشْتَرَى مُكَايَلَةً، لأِنَّ كُلَّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ لِلْمُشْتَرِي، فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ اخْتِلاَطُ الْمِلْكَيْنِ.

وَكَذَلِكَ مَا إِذَا بَاعَ الثَّوْبَ مُذَارَعَةً، لأِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي، إِذِ الذَّرْعُ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ، لاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، بِخِلاَفِ الْقَدْرِ  .

وَيَبْدُو أَنَّ تَحْدِيدَ الأْذْرُعِ لَيْسَ لَهُ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ فِي أَيَّامِهِمْ؛ لأِنَّ الثَّوْبَ فِي زَمَانِهِمْ، يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكْفِي كِسَاءً وَاحِدًا، فَلاَ تَضُرُّ الزِّيَادَةُ فِيهِ، وَلاَ تَخْتَلِطُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، بِخِلاَفِ الأْثْوَابِ وَالأْقْمِشَةِ فِي أَيَّامِنَا، حَيْثُ تُقْتَطَعُ مِنْهَا أَذْرُعٌ لِتُخَاطَ ثِيَابًا، فَإِنَّهَا مُقَابَلَةٌ بِالثَّمَنِ، وَتُعْتَبَرُ مِنَ الْقَدْرِ.

وَمَعَ أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ أَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ قَبْلَ إِعَادَةِ الْكَيْلِ، لَكِنَّ الشُّرَّاحَ فَسَّرُوهُ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ لأِنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ خَبَرُ آحَادٍ، لاَ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ الْقَطْعِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ  .

وَمَعَ ذَلِكَ، فَلاَ يُقَالُ لآِكِلِهِ: إِنَّهُ أَكَلَ حَرَامًا، فَقَدْ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّهُ: لَوْ أَكَلَهُ، وَقَدْ قَبَضَهُ بِلاَ كَيْلٍ، لاَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَكَلَ حَرَامًا، لأِنَّهُ أَكَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ آثِمٌ، لِتَرْكِهِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْكَيْلِ.

50 - وَمَعَ أَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ إِعَادَةِ الْكَيْلِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِفَسَادِهِ.

وَهَذِهِ عِبَارَةُ الإْمَامِ  مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: إِذَا اشْتَرَيْتَ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ، فَاشْتَرَيْتَ مَا يُكَالُ كَيْلاً، وَمَا يُوزَنُ وَزْنًا، وَمَا يُعَدُّ عَدًّا، فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَكِيلَهُ وَتَزِنَهُ وَتَعُدَّهُ، فَإِنْ بِعْتَهُ قَبْلَ أَنْ تَفْعَلَ، وَقَدْ قَبَضَتْهُ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ  .

وَعَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ رحمه الله  تعالي عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْفَاسِدَ هُوَ الْبَيْعُ الثَّانِي، وَهُوَ بَيْعُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ كَيْلِهِ، وَأَنَّ الأْوَّلَ وَقَعَ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ بَيْعٍ حَتَّى يَكِيلَهُ، فَإِذَا بَاعَهُ قَبْلَ كَيْلِهِ، وَقَعَ الْبَيْعُ الثَّانِي فَاسِدًا؛ لأِنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُ الْكَيْلِ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، فَإِذَا بَاعَهُ قَبْلَ كَيْلِهِ، فَكَأَنَّهُ بَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَبَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ قَبْضِهِ لاَ يَصِحُّ  .

51 - وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَّخِذَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بَعْدَ شِرَائِهِ هَذِهِ الصُّوَرَ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

الأْولَى: أَنْ يَشْتَرِيَ مُكَايَلَةً، وَيَبِيعَ مُكَايَلَةً، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي مِنَ الْمُشْتَرِي الأْوَّلِ أَنْ يَبِيعَهُ، حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ لِنَفْسِهِ، كَمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي الأْوَّلِ، لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلاِحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ  .

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُجَازَفَةً، وَيَبِيعَ كَذَلِكَ مُجَازَفَةً، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ، لِعَدَمِ الاِفْتِقَارِ إِلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُكَايَلَةً، وَيَبِيعَ مُجَازَفَةً، فَلاَ يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي إِلَى كَيْلٍ، لأِنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً، مَلَكَ جَمِيعَ مَا كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ، فَكَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.

الرَّابِعَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ مُجَازَفَةً، وَيَبِيعَ مُكَايَلَةً، فَيَحْتَاجَ إِلَى كَيْلٍ وَاحِدٍ، إِمَّا كَيْلُ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَيْلُ الْبَائِعِ بِحَضْرَتِهِ؛ لأِنَّ الْكَيْلَ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيمَا بِيعَ مُكَايَلَةً، لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إِلَى تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ الْوَاقِعِ مَبِيعًا، وَأَمَّا الْمُجَازَفَةُ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

فَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الأْخِيرَةِ، تَخْرُجُ هَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي حَقَّقَهَا ابْنُ عَابِدِينَ - رحمه الله  - وَهِيَ:

إِذَا مَلَكَ زَيْدٌ طَعَامًا، بِيعَ مُجَازَفَةً أَوْ بِإِرْثٍ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ عَمْرٍو مُكَايَلَةً سَقَطَ هُنَا صَاعُ الْبَائِعِ؛ لأِنَّ مِلْكَهُ الأْوَّلَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْكَيْلِ، وَبَقِيَ الاِحْتِيَاجُ إِلَى كَيْلٍ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مِنْ عَمْرٍو بِلاَ كَيْلٍ، فَهُنَا فَسَدَ الْبَيْعُ الثَّانِي فَقَطْ. ثُمَّ إِذَا بَاعَهُ عَمْرٌو مِنْ بَكْرٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ كَيْلٍ آخَرَ لِبَكْرٍ، فَهُنَا فَسَدَ الْبَيْعُ الأْوَّلُ وَالثَّانِي، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا  .

52 - وَبِصَدَدِ الْكَيْلِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا، نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ:

أ - لاَ مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ كَالَهُ لِنَفْسِهِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي عَنْ شِرَائِهِ هُوَ، لأِنَّهُ لَيْسَ صَاعَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَهُوَ الشَّرْطُ بِالنَّصِّ.

ب - وَلاَ مُعْتَبَرَ بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي، بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي؛ لأِنَّ الْكَيْلَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ؛ لأِنَّ بِهِ يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا، وَلاَ تَسْلِيمَ إِلاَّ بِحَضْرَتِهِ.

ج - وَإِنْ كَالَهُ أَوْ وَزَنَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ، بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي، فَفِيهِ اخْتِلاَفُ الْمَشَايِخِ:

قِيلَ: لاَ يُكْتَفَى بِهِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ مَرَّتَيْنِ، احْتِجَاجًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: كَفَاهُ ذَلِكَ، حَتَّى يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ إِذَا قَبَضَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لأِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ صَيْرُورَةُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِكَيْلٍ وَاحِدٍ، وَتَحَقَّقَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ.

وَقَدْ بَحَثَ الْبَابَرْتِيُّ، فِي الاِكْتِفَاءِ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَنَظَرَ إِلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ فِي الأْصْلِ، بِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَقَرَّرَ: أَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ الاِكْتِفَاءُ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا، وَقَالَ: وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَيْلَيْنِ عَزِيمَةٌ، وَالاِكْتِفَاءَ بِالْكَيْلِ الْوَاحِدِ رُخْصَةٌ، أَوْ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، لَكَانَ ذَلِكَ مَدْفَعًا جَارِيًا عَلَى الْقَوَانِينِ (أَيِ الْقَوَاعِدِ) لَكِنْ لَمْ أَظْفَرْ بِذَلِكَ  .

ز - بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ:

53 - الْكَالِئُ مَأْخُوذٌ مِنْ: كَلأَ الدَّيْنَ يَكْلأَ، مَهْمُوزٌ بِفَتْحَتَيْنِ، كُلُوءًا: إِذَا تَأَخَّرَ، فَهُوَ كَالِئٌ بِالْهَمْزِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ، فَيَصِيرُ مِثْلَ الْقَاضِي.

وَكَانَ الأْصْمَعِيُّ لاَ يَهْمِزُهُ. قَالَ: هُوَ مِثْلُ الْقَاضِي، وَلاَ يَجُوزُ هَمْزُهُ.

وَبَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ هُوَ: بَيْعُ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: صُورَتُهُ: أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الأْجَلُ يَقُولُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ: لَيْسَ عِنْدِي طَعَامٌ وَلَكِنْ بِعْنِي إِيَّاهُ إِلَى أَجَلٍ. فَهَذِهِ نَسِيئَةٌ انْقَلَبَتْ إِلَى نَسِيئَةٍ. فَلَوْ قَبَضَ الطَّعَامَ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ كَالِئًا بِكَالِئٍ  .

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِذْ هُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ  .

وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ»، وَقَالَ: «هُوَ النَّسِيئَةُ بِالنَّسِيئَةِ»  .

وَفُسِّرَ أَيْضًا بِبَيْعِ الدَّيْنِ، كَمَا وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةٍ.

وَفِي بَيْعِ الدَّيْنِ صُورَتَانِ: بَيْعُهُ مِنَ الْمَدِينِ نَفْسِهِ، وَبَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ بَيْعِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَجُمْهُورُهُمْ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - لاَ يُجِيزُهُ، إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ.

وَفِيمَا يَلِي عَرْضٌ لأِهَمِّ الصُّوَرِ وَالتَّقَاسِيمِ الَّتِي يَطْرَحُهَا الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الصَّدَدِ، مَعَ تِبْيَانِ أَحْكَامِهَا.

54 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: وَيَتَّخِذُ الْعَقْدُ عَلَى الدَّيْنِ عِنْدَهُمْ صُوَرًا شَتَّى:

أ - فَسْخُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ أَيْ إِسْقَاطُهُ فِي شَيْءٍ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ عَنْ وَقْتِ الْفَسْخِ، سَوَاءٌ أَحَلَّ الدَّيْنُ الْمَفْسُوخُ أَمْ لاَ، إِنْ كَانَ الْمُؤَخَّرُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ جِنْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَفْسُوخُ فِيهِ مُعَيَّنًا كَالْعَقَارِ، أَمْ كَانَ مَنَافِعَ ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَرُكُوبِ دَابَّةٍ. فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُوَ مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ الأْنْوَاعِ تَحْرِيمًا، وَتَحْرِيمُهُ بِالْكِتَابِ.

ب - بَيْعُ الدَّيْنِ بِدَيْنٍ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَوْ حَالاً: وَهَذَا مَمْنُوعٌ بِالسُّنَّةِ.

فَمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى زَيْدٍ، وَلآِخَرَ دَيْنٌ عَلَى عَمْرٍو، فَبَاعَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَيْنَهُ بِدِينٍ صَاحِبِهِ، كَانَ مُحَرَّمًا بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ.

أَمَّا بَيْعُهُ بِمُعَيَّنٍ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ كَعَقَارٍ، أَوْ بِمَنْفَعَةِ ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، كَمَا لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ دَيْنٌ عَلَى عَمْرٍو، فَبَاعَ زَيْدٌ ذَلِكَ الدَّيْنَ لِخَالِدٍ بِمَا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ.

وَقَدِ اعْتُبِرَ الْعَقَارُ وَمَنَافِعُ الذَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ قَبِيلِ الْحَاضِرِ وَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُهُ؛ لأِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُضْمَنُ فِي الذِّمَّةِ إِذْ لاَ تَثْبُتُ الْمُعَيَّنَاتُ فِي الذِّمَّةِ فَهُمَا نَقْدٌ بِهَذَا الْمَعْنَى. أَيْ حَاضِرٌ يُنْقَدُ وَلاَ يَثْبُتُ بِالذِّمَّةِ.

ج - تَأْخِيرُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ عَيْنٌ، فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ ابْتِدَاءِ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا مِنَ ابْتِدَاءِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شَغَلَ ذِمَّةَ صَاحِبِهِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ  .

أَمَّا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ غَيْرَ عَيْنٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَرْطٍ.

فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلاَثِ يُقَالُ لَهُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لُغَةً، إِلاَّ أَنَّ فُقَهَاءَ الْمَالِكِيَّةِ سَمُّوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِاسْمٍ يَخُصُّهُ.

هَذِهِ أَقْسَامُ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْكَامُهَا.

أَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ بِالنَّقْدِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ حَيًّا حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَجْلِسَ الْبَيْعِ، وَأَقَرَّ بِالدَّيْنِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَأْخُذُهُ الأَْحْكَامُ (أَيْ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ)، وَبِيعَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ بِيعَ بِجِنْسِهِ وَكَانَ مُتَسَاوِيًا، لاَ أَنْقَصَ وَلاَ أَزْيَدَ، وَلَيْسَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ وَلاَ عَكْسَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَدِينِ عَدَاوَةٌ.

 وأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهَذَا احْتِرَازٌ مِنْ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فَإِنْ وُجِدَتْ تِلْكَ الشُّرُوطُ جَازَ بَيْعُهُ، وَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْهَا مُنِعَ الْبَيْعُ  .

55 - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ: جَوَازُ الاِسْتِبْدَالِ عَنِ الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ.

وَمَذْهَبُهُ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَنْعُ  .

وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ نَفْسُهُ دَلِيلُ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، حَدِيثُ «ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الإْبِلَ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّنَانِيرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ إِذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ».

قَالُوا: وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ  .

وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ: حَدِيثُ: «إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ»  .

فَإِنِ اسْتَبْدَلَ بِمُوَافِقٍ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، كَدَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ، اشْتُرِطَ قَبْضُ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ.

وَإِنِ اسْتَبْدَلَ بِغَيْرِ مُوَافِقٍ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، كَمَا لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ  .

أَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، فَبَاطِلٌ فِي الأْظْهَرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ. كَمَا لَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا مِنْ زَيْدٍ بِمِائَةٍ لَهُ عَلَى عَمْرٍو، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ.

وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، يَصِحُّ، وَصَحَّحَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ، مُخَالِفًا لِلرَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، نَظَرًا لاِسْتِقْرَارِ الدَّيْنِ، كَبَيْعِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ.

لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا قَبْضُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِهِمَا فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الأْكْثَرِينَ يُخَالِفُهُ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمَحَلِّيُّ  .

أَمَّا لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو دَيْنَانِ عَلَى شَخْصٍ، فَبَاعَ زَيْدٌ عَمْرًا دَيْنَهُ بِدَيْنِهِ، بَطَلَ قَطْعًا بِلاَ خِلاَفٍ، اتَّفَقَ الْجِنْسُ أَوِ اخْتَلَفَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ»  .

56 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ بُطْلاَنُ بَيْعِ الدَّيْنِ بِدَيْنٍ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا.

وَذَكَرُوا لَهُ صُوَرًا، سِوَى مَا وَافَقُوا فِيهِ مَذْهَبَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الصُّوَرِ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَقَالَ فِي ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لاَ يَجُوزُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاعٌ

57 - بَقِيَ أَنْ نُشِيرَ إِلَى مَوْقِفِ الْحَنَفِيَّةِ الْمُتَمَيِّزِ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ بَيْعِ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ التَّصَرُّفَ الْجَائِزَ فِي الدَّيْنِ، هُوَ تَمْلِيكُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَوْ بِعِوَضٍ، وَلاَ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا نَقَلَهُ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ ابْنِ مَلِكٍ.

وَاسْتَثْنَوْا ثَلاَثَ صُوَرٍ أَجَازُوا فِيهَا تَمْلِيكَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ.

الأْولَى: إِذَا سَلَّطَ الدَّائِنُ غَيْرَهُ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ وَكِيلاً قَابِضًا لِلْمُوَكِّلِ، ثُمَّ لِنَفْسِهِ.

الثَّانِيَةُ: الْحَوَالَةُ وَاسْتِثْنَاءُ جَوَازِهَا إِجْمَاعٌ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ.

الثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ.

وَمَعْنَى عَدَمِ الْجَوَازِ هُنَا: عَدَمُ الاِنْعِقَادِ، وَبِذَلِكَ عَبَّرَ الْكَاسَانِيُّ فَقَالَ: وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؛ لأِنَّ الدَّيْنَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ. وَلَوْ شَرَطَ التَّسْلِيمَ عَلَى الْمَدِينِ لاَ يَصِحُّ أَيْضًا، لأِنَّهُ شَرَطَ التَّسْلِيمَ عَلَى غَيْرِ الْبَائِعِ، فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ.

وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، لأِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْعَجْزُ عَنِ التَّسْلِيمِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى التَّسْلِيمِ هَاهُنَا.

وَنَظِيرُهُ بَيْعُ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْغَاصِبِ، وَلاَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ، إِذَا كَانَ الْغَاصِبُ مُنْكِرًا، وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمَالِكِ  .

وَيُمْكِنُ لِزِيَادَةِ التَّفْصِيلِ وَالتَّصْوِيرِ، فِي بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، مُرَاجَعَةُ مُصْطَلَحِ: (رِبا، صَرْف، دَيْن).

بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ:

58 - وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» وَفِي لَفْظٍ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيِّ بِالْمَيِّتِ» وَيَتَوَزَّعُ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى النِّقَاطِ التَّالِيَةِ:

أَوَّلاً: هَلِ اللَّحْمُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ؟

59 - هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خِلاَفِيَّةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ كَالأْصْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَعْدَهَا.

(أ) فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالأْصَحُّ  عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هُوَ أَنَّ اللَّحْمَ أَجْنَاسٌ، بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ:

فَالإْبِلُ بِأَنْوَاعِهَا - الْعَرَّابِ وَالْبَخَاتِيِّ وَالْهَجِينِ، وَذِي السَّنَامَيْنِ، وَذِي السَّنَامِ الْوَاحِدِ - كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَكَذَا لُحُومُهَا.

وَالْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ جِنْسٌ وَاحِدٌ.

وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ جِنْسٌ وَاحِدٌ  . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا صِنْفَيْنِ؛ لأِنَّ الْقُرْآنَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ، فَقَالَ(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ).. (وَمِنَ الإْبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)

 

وَالْوَحْشُ أَصْنَافٌ: بَقَرُهَا صِنْفٌ، وَغَنَمُهَا صِنْفٌ، وَظِبَاؤُهَا صِنْفٌ.

وَالطَّيْرُ أَصْنَافٌ، كُلُّ مَا انْفَرَدَ بِاسْمٍ وَصِفَةٍ فَهُوَ صِنْفٌ.

ب - وَالأْظْهَرُ  عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ: أَنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ  .

(ج) وَيَبْدُو مِنْ تَمْثِيلِ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِبَيْعِ لَحْمٍ بَقَرِيٍّ بِكَبْشٍ حَيٍّ، وَلِغَيْرِ الْجِنْسِ بِبَيْعِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ بِلَحْمِ طَيْرٍ أَوْ سَمَكٍ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ لُحُومَ الأْنْعَامِ جِنْسًا، وَلُحُومَ الطَّيْرِ جِنْسًا، وَلُحُومَ الأْسْمَاكِ جِنْسًا.

وَنَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ عَلَى أَنَّ اللُّحُومَ عِنْدَ مَالِكٍ ثَلاَثُهُ أَصْنَافٍ: فَلَحْمُ ذَوَاتِ الأْرْبَعِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الطُّيُورِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الْحِيتَانِ صِنْفٌ  .

ثَانِيًا: بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ:

60 - لاَ يَسْتَجِيزُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْعَ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، كَلَحْمِ شَاةٍ بِشَاةٍ حَيَّةٍ، وَذَلِكَ:

لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ - كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ - وَلأِنَّهُ مَالٌ رِبَوِيٌّ، بِيعَ بِمَا فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ مَعَ جَهَالَةِ الْمِقْدَارِ، فَلَمْ يَجُزْ كَبَيْعِ السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ.

وَلأِنَّهُ بَيْعُ مَعْلُومٍ - وَهُوَ اللَّحْمُ - بِمَجْهُولٍ وَهُوَ الْحَيَوَانُ، وَهُوَ الْمُزَابَنَةُ، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ  .

فَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ: أَنْ يُبَاعَ حَيَوَانٌ مُبَاحُ الأْكْلِ بِلَحْمٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَيْضًا الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بِلاَ خِلاَفٍ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْبَيْعَ، وَلَكِنْ: مِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ (لأِنَّ أَحَدَهُمَا مَوْزُونٌ، وَالآْخَرُ مَعْدُودٌ) فَبَنَوْا عَلَيْهِ جَوَازَ بَيْعِهِمَا مُجَازَفَةً، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، لأِنَّهُ بَاعَ الْجِنْسَ بِخِلاَفِ الْجِنْسِ.

وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا، وَبَنَوْا مَذْهَبَهُمَا - أَيْ مَذْهَبَ الشَّيْخَيْنِ - عَلَى أَنَّ الشَّاةَ لَيْسَتْ بِمَوْزُونَةٍ، فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ، مُجَازَفَةً وَمُفَاضَلَةً؛ لأِنَّ رِبَا الْفَضْلِ يَعْتَمِدُ اجْتِمَاعَ الْوَصْفَيْنِ: الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، لَكِنْ بِشَرْطِ التَّعْيِينِ كَمَا عَبَّرَ الْحَصْكَفِيُّ (أَيِ التَّقَابُضَ) أَوْ يَدًا بِيَدٍ، كَمَا عَبَّرَ الْكَاسَانِيُّ - وَقَالَ: هُوَ الصَّحِيحُ - وَالْبَابَرْتِيُّ.

أَمَّا نَسِيئَةً فَلاَ يَجُوزُ، لأِنَّهُمَا عِنْدَئِذٍ سَلَمٌ، وَهُوَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النَّهْرِ.

لَكِنَّ الإْمَامَ مُحَمَّدًا، شَرَطَ فِي جَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِي فِي الشَّاةِ، لِيَكُونَ لَحْمُ الشَّاةِ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ مِنَ اللَّحْمِ، وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ الإْسْقَاطِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ عَمَلاً بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.

وَلأِنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ نَسِيئَةً، فَكَذَا مُتَفَاضِلاً، كَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ  .

ثَالِثًا: بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ:

61 - كَبَيْعِ الشَّاةِ الْحَيَّةِ بِلَحْمِ الإْبِلِ أَوِ الْبَقَرِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَبَيْعِ الشَّاةِ الْحَيَّةِ بِلَحْمِ طَيْرٍ أَوْ سَمَكٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ  .

أَجَازَ هَذِهِ الصُّورَةَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ الأْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ، عَلَيْهَا مَتْنُ الإْقْنَاعِ.

وَعَلَّلَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، بِأَنَّهُمَا أَصْلاَنِ مُخْتَلِفَانِ، فَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا (مُطْلَقًا) مُجَازَفَةً، نَقْدًا وَنَسِيئَةً، لاِنْعِدَامِ الْوَزْنِ وَالْجِنْسِ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَصْلاً  .

وَمَعَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوا - عَلَى اصْطِلاَحِهِمْ فِي أَجْنَاسِ اللُّحُومِ - بَيْعَ اللَّحْمِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُطْلَقًا، لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِأَنْ يَكُونَ حَالاً. أَمَّا إِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ فَلاَ يَجُوزُ، إِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ لاَ يُرَادُ لِلْقَنِيَّةِ، وَإِلاَّ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَحْمٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لأَِجَلٍ.

كَمَا قَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللُّحُومَ أَجْنَاسٌ، وَعَلَّلُوا الْجَوَازَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ. قَالُوا: وَهَذَا فِي الْمَأْكُولِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَوَجْهُ الْجَوَازِ فِيهِ هُوَ: أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا.

وَعَلَّلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِجَوَازِهِ: بِأَنَّهُ مَالُ الرِّبَا بِيعَ بِغَيْرِ أَصْلِهِ فَجَازَ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِالأْثْمَانِ.

وَلَمْ يُجِزْ هَذِهِ الصُّورَةَ - أَعْنِي بَيْعَ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ - الشَّافِعِيَّةُ فِي الأْظْهَرِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلاَ الْحَنَابِلَةُ فِي الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، وَصَرَّحُوا بِالْبُطْلاَنِ، وَذَلِكَ: لِعُمُومِ نَصِّ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقِينَ.

وَلأِنَّ اللَّحْمَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ  .

وَيُلاَحَظُ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ الْحَنْبَلِيِّ صَرَّحَ بِأَنَّ سَبَبَ الاِخْتِلاَفِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي اللَّحْمِ، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لاَ يُجِيزُونَ الْبَيْعَ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ أَجْنَاسٌ يُجِيزُونَهُ  .

كَمَا يُلاَحَظُ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ: أَطْلَقُوا اللَّحْمَ فِي الْحَدِيثِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لَحْمَ سَمَكٍ أَوْ أَلْيَةٍ أَوْ كَبِدًا أَوْ طِحَالاً. وَأَطْلَقُوا الْحَيَوَانَ، حَتَّى لَوْ كَانَ سَمَكًا أَوْ جَرَادًا، مَأْكُولاً كَالإْبِلِ، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ كَالْحِمَارِ، فَبَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ مُطْلَقًا فِي الأْظْهَرِ  .

رَابِعًا: بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ.

62 - الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى جَوَازِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ بَاعَهُ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ جَازَ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ  .

كَمَا عَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنَ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: بِأَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ هُوَ بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِأَصْلِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا. لَكِنَّ الأَْظْهَرَ عِنْدَهُمْ - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - تَحْرِيمُ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ بِإِطْلاَقٍ لِلْحَدِيثِ  .

بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ:

63 - وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلمسُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَلاَ إِذًا» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ يُبَاعُ رُطَبٌ بِيَابِسٍ»  

وَلاَ يَسْتَجِيزُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْبَيْعَ، وَنَحْوَهُ: كَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وَاللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَالْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ بِالْيَابِسَةِ، وَذَلِكَ:

لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، قَالُوا: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْجَفَافِ، وَإِلاَّ فَالنَّقْصُ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ الآْنَ  .

وَلأِنَّهُ جِنْسٌ فِيهِ الرِّبَا، بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، عَلَى وَجْهٍ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، فَلَمْ يَجُزْ.

وَعِبَارَةُ الْخِرَقِيِّ وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الرَّطْبِ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، إِلاَّ الْعَرَايَا  .

وَرُبَّمَا اعْتَبَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْمُزَابَنَةِ، وَهِيَ - بِتَفْسِيرِ ابْنِ جُزَيٍّ - بَيْعُ شَيْءٍ رَطْبٍ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رِبَوِيًّا أَمْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ، فَتَمْتَنِعُ فِي الرِّبَوِيِّ، لِتَوَقُّعِ التَّفَاضُلِ وَالْغَرَرِ، وَتَمْتَنِعُ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيِّ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ، وَلِلْغَرَرِ  .

64 - وَتَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ - رحمه الله  تعالي بِالْقَوْلِ بِالْجَوَازِ - كَمَا يَقُولُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ وَمُتُونُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَيْهِ.

وَنَصَّ الْحَصْكَفِيُّ عَلَى أَنَّهُ: يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ، أَوْ بِتَمْرٍ مُتَمَاثِلاً.. فِي الْحَالِ لاَ الْمَآلِ، خِلاَفًا لَهُمَا، فَلَوْ بَاعَ مُجَازَفَةً لَمْ يَجُزِ اتِّفَاقًا  .

وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأْصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»  .

فَفِي وَجْهِ الاِسْتِدْلاَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ:

الرُّطَبُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرًا، أَوْ لاَ يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ تَمْرًا، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ»، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَمْرٍ، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ:

«إِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ». وَلَمْ يَأْخُذْ بِحَدِيثِ النَّهْيِ السَّابِقِ لأِنَّهُ دَائِرٌ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ مِمَّنْ لاَ يُقْبَلُ حَدِيثُهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ

وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، فَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً» وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا  .

وَلاِسْتِكْمَالِ مَبْحَثِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ التَّفَاصِيلِ وَالأَْحْكَامِ. يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (رِبا).

بَيْعٌ وَسَلَفٌ:

65 - وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ  » وَفِي رِوَايَةٍ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَحَادِيثَ، أَفَتَأْذَنُ لَنَا بِكِتَابَتِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَكَانَ أَوَّلَ مَا كَتَبَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ: لاَ يَجُوزُ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَاحِدٍ، وَلاَ بَيْعٌ وَسَلَفٌ جَمِيعًا، وَلاَ بَيْعُ مَا لَمْ يُضْمَنْ»... الْحَدِيثَ  .

وَقَدْ فَسَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رحمه الله  تعالي السَّلَفَ وَالْبَيْعَ بِأَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: أَبِيعُكَ دَارِي هَذِهِ بِكَذَا وَكَذَا، عَلَى أَنْ تُقْرِضَنِي كَذَا وَكَذَا.

وَبِهَذَا تَئُولُ الْمَسْأَلَةُ إِلَى مَوْضُوعِ الْبَيْعِ بِشَرْطٍ، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِذَلِكَ، فِي الْجُمْلَةِ.

وَصَرَّحَ ابْنُ جُزَيٍّ بِأَنَّ الْبَيْعَ بِاشْتِرَاطِ السَّلَفِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لاَ يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنْ يَكُنْ بُطْلاَنُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ رِوَايَةً وَاحْتِمَالاً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ  .

وَالْمَالِكِيَّةِ، حِينَمَا تَحَدَّثُوا عَنْ بُيُوعِ الآْجَالِ - وَهِيَ بُيُوعٌ ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، لَكِنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى  مَمْنُوعٍ - مَنَعُوا بَيْعَ مَا كَثُرَ قَصْدُ النَّاسِ إِلَيْهِ، تَوَصُّلاً إِلَى الرِّبَا الْمَمْنُوعِ، كَأَنْ كَانَ جَائِزًا فِي الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لِلتُّهْمَةِ، وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ، وَمَثَّلُوا لَهَا: بِاجْتِمَاعِ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، أَوْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، أَوْ ضَمَانٍ بِجُعْلٍ.

وَصَوَّرُوا الْبَيْعَ وَالسَّلَفَ بِصُوَرٍ ثَلاَثٍ:

الأْولَى: بَيْعٌ جَائِزٌ فِي الظَّاهِرِ يُؤَدِّي - كَمَا يَقُولُ الدَّرْدِيرُ - إِلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ لِلتُّهْمَةِ، عَلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا الْبَيْعَ وَالسَّلَفَ الْمَمْنُوعَ.

وَذَلِكَ كَأَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَيْنِ بِدِينَارَيْنِ لِشَهْرٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ نَقْدًا، فَآلَ الأْمْرُ  إِلَى أَنَّ الْبَائِعَ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ سِلْعَةً وَدِينَارًا نَقْدًا؛ لأِنَّ السِّلْعَةَ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهَا مُلْغَاةٌ كَمَا يَقُولُ الدُّسُوقِيُّ ثُمَّ أَخَذَ عَنْهُمَا عِنْدَ الأْجَلِ دِينَارَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنِ السِّلْعَةِ وَهُوَ بَيْعٌ، وَالآْخَرُ عَنِ الدِّينَارِ وَهُوَ سَلَفٌ.

فَهَذِهِ الصُّورَةُ تُؤَدِّي إِلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي مَنْعِهِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ بَشِيرٍ وَتَابِعُوهُ، وَغَيْرُهُمْ  .

وَحَيْثُ تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبَيْعُ، مُنِعَتْ عِنْدَهُمْ، لِتُهْمَةِ قَصْدِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ.

الثَّانِيَةُ: بَيْعٌ وَسَلَفٌ بِشَرْطٍ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي. وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَمْنُوعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لأِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالْقَرْضِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ، إِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْبَائِعِ، أَوْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُثَمَّنِ - أَيِ الْمَبِيعِ - إِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ صَادِرًا مِنَ الْمُشْتَرِي، فَفِيهِ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا.

الثَّالِثَةُ: بَيْعٌ وَسَلَفٌ بِلاَ شَرْطٍ، لاَ صَرَاحَةً وَلاَ حُكْمًا، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ  .

بَيْعٌ وَشَرْطٌ:

66 - وَرَدَ النَّهْيُ فِي السُّنَّةِ عَنْ (بَيْعٍ وَشَرْطٍ) وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ»  . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْع، وَشَرْط)

أَسْبَابُ النَّهْيِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرَرِ

67 - هَذَا هُوَ السَّبَبُ الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِلاَزِمِ الْعَقْدِ، وَكَانَ الأْوَّلُ هُوَ الرِّبَا.

وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ، فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَغَيْرِهِ مِمَّا سَيَأْتِي.

وَالْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْخَطَرُ.

وَلَهُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ تَعْرِيفَاتٌ شَتَّى.

فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا طُوِيَ عَنْكَ عِلْمُهُ.

وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْغَرَضِ، وَالثَّانِي عَلَى خِلاَفِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا انْطَوَتْ عَنَّا عَاقِبَتُهُ، أَوْ: مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَغْلَبِهِمَا أَخْوَفُهُمَا.

وَيَرَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْغَرَرَ وَالْخَطَرَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا جُهِلَتْ عَيْنُهُ.

وَيَرَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ: فَالْخَطَرُ: مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ وُجُودُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْنِي فَرَسَكَ بِمَا أَرْبَحُ غَدًا.

وَالْغَرَرُ: مَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ، وَيُشَكُّ فِي تَمَامِهِ، كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا  .

68 - وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صُوَرٌ يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا الْغَرَرُ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ، مِنْهَا: كَوْنُ الْمَبِيعِ مَالاً مَوْجُودًا مَمْلُوكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَلاَ مَا سَيُخْرِجُهُ الصَّيَّادُ فِي شَبَكَتِهِ، وَلاَ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ الْجَمَلِ الشَّارِدِ. إِلَخْ.

وَالْغَرَرُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ وُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ مِلْكِيَّةِ الْبَائِعِ لَهُ، أَوْ قُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَهَذَا يُوجِبُ بُطْلاَنَ الْبَيْعِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَالآْخَرُ: مَا يَرْجِعُ إِلَى وَصْفٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ مِقْدَارِهِ، أَوْ يُورِثُ فِيهِ أَوْ فِي الثَّمَنِ أَوْ فِي الأْجَلِ جَهَالَةً.

فَهَذَا مَحَلُّ خِلاَفٍ. تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (غَرَر).

وَفِيمَا يَلِي صُوَرُ الْغَرَرِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ فِيهَا بِخُصُوصِهَا، وَالْحُكْمُ الْفِقْهِيُّ فِيهَا، مِنَ الْبُطْلاَنِ أَوِ الْفَسَادِ. إِذِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ - كَمَا يَقُولُ النَّوَوِيُّ - أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ جِدًّا  . مِنْهَا: بَيْعُ الْحَصَاةِ وَبَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ وَبَيْعُ الْمُنَابَذَةِ. وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

وَمِنْهَا مَا يَلِي:

أ - بَيْعُ الْجَنِينِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ:

69 - وَهُوَ بَيْعُ الْحَمْلِ، كَمَا عَبَّرَتْ بَعْضُ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ  .

وَالْجَنِينُ هُوَ: الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَجِنَّةً، كَدَلِيلٍ وَأَدِلَّةٍ. وَمِثْلُ الْجَنِينِ أَيْضًا: الْمَلْقُوحُ وَالْمَلْقُوحَةُ، وَجَمْعُهُمَا مَلاَقِيحُ، وَهِيَ مَا فِي الأْرْحَامِ وَالْبُطُونِ مِنَ الأْجِنَّةِ، بِتَفْسِيرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْمَلاَقِيحِ بِمَا فِي ظُهُورِ الْفُحُولِ  .

وَوَرَدَ النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَيْعِ الْجَنِينِ مَا دَامَ مُجْتَنًّا حَتَّى يُولَدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأْنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ»  .

وَتَقَدَّمَ الإْجْمَاعُ - كَمَا صَرَّحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ - عَلَى بُطْلاَنِ هَذَا الْبَيْعِ (ر: ف 5) لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ وَلِلْغَرَرِ، فَعَسَى أَنْ لاَ يُولَدَ، وَلأِنَّ فِيهِ جَهَالَةً فِي صِفَتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَلأِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ.

وَذِكْرُهُ هُنَا لِلْغَرَرِ فَقَطْ، لَكِنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الأْوَّلِ   مِنْهُ، وَهُوَ الْغَرَرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ نَفْسِهِ، مِنْ حَيْثُ أَصْلُ وُجُودِهِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ مُسْتَوْجِبًا لِلْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، حَتَّى فِي اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ، الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ - وَبَيْنَ الْفَسَادِ.

ب - بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ:

70 - وَيُسَمَّى أَيْضًا الْمُخَاضَرَةَ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ.

وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ»

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ»  .

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «لاَ تَبْتَاعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا»  .

وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَعَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، قِيلَ: مَا يَزْهُو؟ قَالَ: يَحْمَارُّ أَوْ يَصْفَارُّ»  . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَنَسٍ حَتَّى تُزْهَى، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهَى؟ قَالَ: تَحْمَرُّ  ..

كَمَا جَاءَ بُدُوُّ الصَّلاَحِ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا». «وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاَحِهَا، قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهَا»  .

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ»  .

وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ التَّعْبِيرُ بِلَفْظٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ: التَّشْقِيحُ، وَهَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ فَقِيلَ: مَا تُشَقِّحُ؟. قَالَ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ، وَيُؤْكَلُ مِنْهَا»  .

مَعْنَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ:

71 - فَسَّرَ الْفُقَهَاءُ بُدُوَّ الصَّلاَحِ بِمَعَانٍ شَتَّى: فَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا فِي تَفْسِيرِهِ: أَنْ تُؤْمَنَ الْعَاهَةُ وَالْفَسَادُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ - كَالْكَرْلاَنِيِّ - فَسَّرَهُ بِأَنْ تَصْلُحَ الثَّمَرَةُ لِتَنَاوُلِ بَنِي آدَمَ، وَعَلَفِ الدَّوَابِّ  .

وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَّرُوهُ تَفْسِيرًا مُخْتَلِفًا نِسْبِيًّا: فَهُوَ فِي التَّمْرِ: أَنْ يَحْمَرَّ وَيَصْفَرَّ وَيَزْهُوَ، وَفِي الْعِنَبِ: أَنْ يَسْوَدَّ وَتَبْدُوَ الْحَلاَوَةُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِمَا مِنَ الثِّمَارِ: حُصُولُ الْحَلاَوَةِ، وَفِي الْخَسِّ وَالْعُصْفُرِ: أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِمَا، وَفِي سَائِرِ الْبُقُولِ: أَنْ تَطِيبَ لِلأْكْلِ، وَفِي الزَّرْعِ وَالْحَبِّ: أَنْ يَيْبَسَ وَيَشْتَدَّ  .

وَأَرْجَعَ الشَّافِعِيَّةُ بُدُوَّ الصَّلاَحِ فِي الثَّمَرِ وَغَيْرِهِ كَالزَّرْعِ، إِلَى ظُهُورِ مَبَادِئِ النُّضْجِ وَالْحَلاَوَةِ، فِيمَا لاَ يَتَلَوَّنُ مِنْهُ، أَمَّا فِيمَا يَتَلَوَّنُ فَبِأَنْ يَأْخُذَ فِي الْحُمْرَةِ أَوِ السَّوَادِ أَوِ الصُّفْرَةِ. وَذَكَرُوا ثَمَانِي عَلاَمَاتٍ يُعْرَفُ بِهَا بُدُوُّ الصَّلاَحِ. أَحَدُهَا: اللَّوْنُ، فِي كُلِّ ثَمَرٍ مَأْكُولٍ مُلَوَّنٍ، إِذَا أَخَذَ فِي حُمْرَةٍ، أَوْ سَوَادٍ أَوْ صُفْرَةٍ، كَالْبَلَحِ وَالْعُنَّابِ وَالْمِشْمِشِ وَالإْجَّاصِ.

ثَانِيهَا: الطَّعْمُ، كَحَلاَوَةِ الْقَصَبِ وَحُمُوضَةِ الرُّمَّانِ.

ثَالِثُهَا: النُّضْجُ وَاللِّينُ، كَالتِّينِ وَالْبِطِّيخِ.

رَابِعُهَا: بِالْقُوَّةِ وَالاِشْتِدَادِ، كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ.

خَامِسُهَا: بِالطُّولِ وَالاِمْتِلاَءِ، كَالْعَلَفِ وَالْبُقُولِ.

سَادِسُهَا: الْكِبَرُ كَالْقِثَّاءِ، بِحَيْثُ يُؤْكَلُ.

سَابِعُهَا: انْشِقَاقُ أَكْمَامِهِ، كَالْقُطْنِ وَالْجَوْزِ.

ثَامِنُهَا: الاِنْفِتَاحُ، كَالْوَرْدِ. وَمَا لاَ أَكْمَامَ لَهُ كَالْيَاسَمِينِ، فَظُهُورُهُ، وَيُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الأَْخِيرِ. وَوَضَعَ لَهُ الْقَلْيُوبِيُّ هَذَا الضَّابِطَ، وَهُوَ: بُلُوغُ الشَّيْءِ إِلَى صِفَةٍ أَيْ حَالَةٍ يُطْلَبُ فِيهَا غَالِبًا  .

وَوَضَعَ الْحَنَابِلَةُ هَذَا الضَّابِطَ: مَا كَانَ مِنَ الثَّمَرَةِ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ عِنْدَ صَلاَحِهِ، كَثَمَرَةِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ الأْسْوَدِ وَالإْجَّاصِ، فَبُدُوُّ صَلاَحِهِ بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِنَبُ أَبْيَضَ فَصَلاَحُهُ بِتَمَوُّهِهِ، وَهُوَ: أَنْ يَبْدُوَ فِيهِ الْمَاءُ الْحُلْوُ وَيَلِينَ وَيَصْفَرَّ لَوْنُهُ.

وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَلَوَّنُ كَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهِ، فَبِأَنْ يَحْلُوَ وَيَطِيبَ. وَإِنْ كَانَ بِطِّيخًا أَوْ نَحْوِهِ، فَبِأَنْ يَبْدُوَ فِيهِ النُّضْجُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، وَيُؤْكَلُ طَيِّبًا صِغَارًا وَكِبَارًا، كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ، فَصَلاَحُهُ بُلُوغُهُ أَنْ يُؤْكَلَ عَادَةً  .

وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ: هِيَ خَوْفُ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثُ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا  .

وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ  ؟»

حُكْمُ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ:

72 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - عَلَى أَنَّ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ، غَيْرُ جَائِزٍ وَلاَ صَحِيحٍ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِجُمْلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ

وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَصَّلُوا فِيهِ الْقَوْلَ، تَبَعًا لِتَقْيِيدِ الْعَقْدِ بِشَرْطٍ وَإِطْلاَقِهِ، وَلاَ يَخْلُو بَيْعُ الثَّمَرَةِ مِنْ هَذِهِ الأْحْوَالِ:

الأْولَى: أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الظُّهُورِ وَالْبُرُوزِ، أَيْ قَبْلَ انْفِرَاكِ الزَّهْرِ عَنْهَا وَانْعِقَادِهَا ثَمَرَةً، فَهَذَا الْبَيْعُ لاَ يَصِحُّ اتِّفَاقًا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الظُّهُورِ، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، بِشَرْطِ التَّرْكِ وَالتَّبْقِيَةِ عَلَى الشَّجَرِ حَتَّى تَنْضَجَ، فَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ إِجْمَاعًا، لأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ الْغَيْرِ.

أَوْ هُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ أَوْ هُوَ إِعَارَةٌ أَوْ إِجَارَةٌ فِي بَيْعٍ.

وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.

قَالُوا: وَمِثْلُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِشَرْطِ التَّرْكِ، بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ  .

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الظُّهُورِ، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، فَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ بِالإْجْمَاعِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِهِ وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، إِنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الثَّمَرَةِ، وَحُدُوثِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَارِّ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فِيهِ: «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ  ؟» وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا يُقْطَعُ، فَصَحَّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ بَدَا صَلاَحُهُ.

قَالُوا: وَالإْجْمَاعُ  عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْمَنْعِ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَفَارَقَ مَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، لأِمْنِ الْعَاهَةِ فِيهِ غَالِبًا، بِخِلاَفِ مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَبِهَذَا الْفَارِقِ يُشْعِرُ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ وَهُوَ: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ - أَيْ آفَةٌ أَهْلَكَتِ الثَّمَرَةَ - فَلاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ»  .

73 - غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَيَّدُوا هَذَا الْحُكْمَ، وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، بِقُيُودٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا انْفَرَدَ بِهِ فَرِيقٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، نُشِيرُ إِلَيْهَا فِيمَا يَلِي:

الشَّرْطُ الأْوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مُنْتَفَعًا بِهِ:

أ - فَالْحَنَفِيَّةُ - فِي الأْصَحِّ  مِنْ مَذْهَبِهِمْ - وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ عَلَى إِطْلاَقِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِشُمُولِ الاِنْتِفَاعِ لِمَا هُوَ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَآلُ، أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ - كَمَا يُعَبِّرُونَ.

فَمِثْلُ الْقَصِيلِ (وَهُوَ الْفَصْفَصَةُ الَّتِي يُعْلَفُ بِهَا الْحَيَوَانُ) وَالْحِصْرِمِ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لاِنْتِفَاعِ الْحَيَوَانِ وَانْتِفَاعِ الإْنْسَانِ  بِهِ  .

ب - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ فِي الْحَالِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ تَقْيِيدَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْوَجْهِ الَّذِي يُرَادُ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ مِنْهُ كَمَا فِي الْحِصْرِمِ، بِخِلاَفِ الْكُمَّثْرَى؛ لأِنَّ قَطْعَهُ فِي الْحَالِ إِضَاعَةُ مَالٍ - كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ - وَبِخِلاَفِ ثَمَرَةِ الْجَوْزِ، وَزَرْعِ التُّرْمُسِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ نَفْسِهِ، لِعَدَمِ النَّفْعِ بِالْمَبِيعِ - كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ  .

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ الْمُتَبَايِعَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَكْثُرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلاَ يَتَمَالَئُوا عَلَيْهِ.

وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنْ تَخَلَّفَ وَاحِدٌ، مُنِعَ الْبَيْعُ كَمَا يُمْنَعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ الْمَارِّ أَوِ الإْطْلاَقِ، كَمَا يَأْتِي.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَنْ لاَ يَكُونَ مَا بِيعَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ مُشَاعًا، بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا مُشَاعًا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ قَطْعُ مَا يَمْلِكُهُ، إِلاَّ بِقَطْعِ مَا لاَ يَمْلِكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ  .

74 - وَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا، إِضَافَةً إِلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْجَائِزَةِ، وَهِيَ بَيْعُ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، هَذِهِ الصُّوَرَ:

(1أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا مَعَ الشَّجَرِ، أَوِ الزَّرْعِ الأَْخْضَرِ مَعَ الأْرْضِ، وَلاَ يَخْتَلِفُ فِيهَا الْفُقَهَاءُ؛ لأِنَّ الثَّمَرَ فِيهَا وَالزَّرْعَ تَابِعَانِ لِلشَّجَرِ وَالأْرْضِ، اللَّذَيْنِ لاَ تَعْرِضُ لَهُمَا عَاهَةٌ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.

(2أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ لِمَالِكِ الأْصْلِ وَهُوَ الشَّجَرُ، أَوْ يَبِيعَ الزَّرْعَ لِمَالِكِ الأْرْضِ، لأِنَّهُ إِذَا بِيعَ مَعَ أَصْلٍ دَخَلَ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضَعِ احْتِمَالَ الْغَرَرِ فِيهِ، كَمَا احْتُمِلَتِ الْجَهَالَةُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ الشَّاةِ.

نَصَّ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَنَابِلَةُ، كَمَا نَصَّ عَلَى الأْولَى الْجَمِيعُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الصُّورَةَ التَّالِيَةَ:

(3أَنْ يَبِيعَ الأْصْلَ ، وَهُوَ الشَّجَرُ أَوِ الأْرْضُ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِفَتْرَةٍ مَا، قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ، وَقَبْلَ خُرُوجِهِمَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي، يَلْحَقُ الثَّمَرُ أَوِ الزَّرْعُ بِالأْصْلِ الْمَبِيعِ قَبْلَهُ  .

75 - الرَّابِعَةُ مِنْ أَحْوَالِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ:

أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ - عَلَى الْخِلاَفِ فِي تَفْسِيرِهِ: بِظُهُورِ النُّضْجِ وَالْحَلاَوَةِ وَالتَّمَوُّهِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَبِأَمْنِ الْعَاهَةِ وَالْفَسَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا هُوَ نَصُّ ابْنِ الْهُمَامِ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ.

وَسَيَأْتِي بَعْضُ التَّفْصِيلِ الْمَذْهَبِيِّ فِيمَا إِذَا تَنَاهَى عِظَمُ الثَّمَرَةِ أَوْ لَمْ يَتَنَاهَ.

غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْجَوَازَ فِي هَذِهِ الْحَالِ - زِيَادَةً عَلَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ بِتَفْسِيرِهِ عِنْدَهُمْ - بِأَنْ لاَ يَسْتَتِرَ بِأَكْمَامِهِ، كَالْبَلَحِ وَالتِّينِ وَالْعِنَبِ، وَالْفُجْلِ وَالْكَرَّاتِ وَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ. فَهَذَا النَّوْعُ يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، وَوَزْنًا بِالأْوْلَى.

أَمَّا مَا اسْتَتَرَ بِأَكْمَامِهِ - أَيْ بِغِلاَفِهِ - كَالْقَمْحِ فِي سُنْبُلِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَحْدَهُ جُزَافًا، وَيَجُوزُ كَيْلاً. وَإِنْ بِيعَ بِقِشْرِهِ أَيْ تِبْنِهِ، جَازَ جُزَافًا وَكَذَا كَيْلاً بِالأْوْلَى.

أَمَّا مَا اسْتَتَرَ بِوَرَقِهِ كَالْفُولِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، لاَ مُنْفَرِدًا وَلاَ مَعَ وَرَقِهِ، وَيَجُوزُ كَيْلاً  .

76 - الْخَامِسَةُ: أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ مُطْلَقًا، فَلاَ يَشْتَرِطُ قَطْعًا وَلاَ تَبْقِيَةً، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَحَلُّ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:

(أ) فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَإِنْ صَرَّحَ ابْنُ جُزَيٍّ بِأَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ - أَنَّ بَيْعَهَا كَذَلِكَ بَاطِلٌ: لإِطْلاَقِ النَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، وَلأِنَّ الْعَاهَةَ تُسْرِعُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ، لِضَعْفِهِ، فَيَفُوتُ بِتَلَفِهِ الثَّمَنُ، مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ  .

(ب) وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَرَّرُوا أَنَّهُ:

إِنْ كَانَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الأْكْلِ وَلاَ فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ، فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ: قِيلَ: لاَ يَجُوزُ، وَنَسَبَهُ قَاضِيخَانُ لِعَامَّةِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ لِلنَّهْيِ، وَلأِنَّ الْبَيْعَ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوَّمٍ، وَالثَّمَرُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجُوزُ، لأِنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي ثَانِي الْحَالِ (أَيِ الْمَآلِ) إِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْحَالِ

وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَوْ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، إِذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، أَوْ مُطْلَقًا  .

وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلاَثِ السَّابِقَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، هَذِهِ الصُّورَةَ أَيْضًا.

77 - السَّادِسَةُ: إِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ، وَقَدْ بَدَا صَلاَحُهَا وَنُضْجُهَا، وَلَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، وَشَرَطَ التَّرْكَ وَالتَّبْقِيَةَ إِلَى أَنْ يَتَنَاهَى عِظَمُهَا:

(أ) فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ - كَمَا يَنُصُّ ابْنُ قُدَامَةَ - جَوَازُ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ جَوَازُهُ بِإِطْلاَقٍ.

لأِنَّ الْحَدِيثَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، فَمَفْهُومُهُ إِبَاحَةُ بَيْعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ عِنْدَهُمُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ لِبُدُوِّ الصَّلاَحِ غَايَةٌ، وَلاَ فَائِدَةٌ فِي ذِكْرِهِ.

- «وَلأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَتَأْمَنَ الْعَاهَةَ» وَتَعْلِيلُهُ بِأَمْنِ الْعَاهَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّبْقِيَةِ؛ لأِنَّ مَا يُقْطَعُ فِي الْحَالِ لاَ يُخَافُ الْعَاهَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا بَدَا الصَّلاَحُ فَقَدْ أُمِنَتِ الْعَاهَةُ، فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ مُبْقًى، لِزَوَالِ عِلَّةِ الْمَنْعِ.

وَلأِنَّ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ يَجِبُ فِي الْمَبِيعِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ، فَإِذَا شَرَطَهُ جَازَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ نَقْلَ الطَّعَامِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ  .

(ب) وَالْحَنَفِيَّةُ قَرَّرُوا مُفَصِّلِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:

إِذَا شَرَطَ التَّرْكَ، وَلَمْ يَتَنَاهَ الْعِظَمُ وَالنُّضْجُ، فَقَدْ شَرَطَ فِيهِ الْجُزْءَ الْمَعْدُومَ، وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ بِمَعْنًى مِنَ الأْرْضِ وَالشَّجَرِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، فَكَأَنَّهُ ضَمَّ الْمَعْدُومَ إِلَى الْمَوْجُودِ، وَاشْتَرَاهُمَا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ  .

وَإِذَا شَرَطَ التَّرْكَ، وَقَدْ تَنَاهَى عِظَمُهَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ أَيْضًا، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لأِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ شَغْلُ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلأِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَمِثْلُهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَهَذَا لأِنَّهُ يَحْصُلُ فِي الْمَبِيعِ زِيَادَةُ جَوْدَةٍ وَطَرَاوَةٍ، وَلِلْمُشْتَرِي فِيهِ نَفْعٌ.

وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَقَدِ اسْتَحْسَنَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَالَ كَمَا قَالَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ: لاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، لِتَعَارُفِ النَّاسِ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، لأِنَّهُ شَرْطٌ فِي الْجُزْءِ الْمَعْدُومِ.

وَمَعَ أَنَّ الْبَابَرْتِيَّ وَالْكَرْلاَنِيَّ، مِنْ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ، لَمْ يُسَلِّمَا بِالتَّعَامُلِ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْكِ، بَلْ قَرَّرَا أَنَّ الْمُعْتَادَ هُوَ التَّرْكُ بِلاَ شَرْطٍ، وَالإْذْنُ فِي تَرْكِهِ بِلاَ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ، لاَ شَرْطِ التَّرْكِ. فَفِي نَقْلِ الْكَرْلاَنِيِّ عَنِ الأْسْرَارِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، لِعُمُومِ الْبَلْوَى  .

78 - وَإِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ مُطْلَقًا، فَلَمْ يَشْتَرِطِ التَّرْكَ وَلاَ الْقَطْعَ، وَلَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا، ثُمَّ تَرَكَهَا: فَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنٍ مُجَرَّدٍ مِنَ الْبَائِعِ، طَابَ لَهُ الْفَضْلُ وَالأْكْلُ. وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنٍ فِي ضِمْنِ الإْجَارَةِ ، بِأَنِ اسْتَأْجَرَ الأْشْجَارَ إِلَى وَقْتِ الإْدْرَاكِ، طَابَ لَهُ الْفَضْلُ أَيْضًا؛ لأِنَّ الإْجَارَةَ  بَاطِلَةٌ، لِعَدَمِ التَّعَارُفِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الأْشْجَارِ، وَلِعَدَمِ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي إِلَى اسْتِئْجَارِ الأْشْجَارِ، لأِنَّهُ يُمْكِنُهُ شِرَاءُ الثِّمَارِ مَعَ أُصُولِهَا، وَالأْصْلُ فِي الْقِيَاسِ بُطْلاَنُ الإْجَارَةِ ، وَأُجِيزَتْ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ، وَلاَ تَعَامُلَ فِي إِجَارَةِ الأَْشْجَارِ الْمُجَرَّدَةِ، فَبَقِيَ الإْذْنُ.

أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ فِي ذَاتِهِ، لِحُصُولِهِ بِجِهَةِ مَحْظُورِهِ، وَهِيَ حُصُولُهَا بِقُوَّةِ الأْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، فَيُقَوَّمُ ذَلِكَ قَبْلَ الإْدْرَاكِ وَبَعْدَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا.

أَمَّا إِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ بَعْدَمَا تَنَاهَى عِظَمُهَا، وَتَرَكَهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ؛ لأِنَّ هَذَا تَغَيُّرُ حَالَةٍ، لاَ تَحَقُّقُ زِيَادَةٍ  .

هَلْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ بَيْعِ الثَّمَرِ بُدُوُّ صَلاَحِ كُلِّهِ؟

79 - يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوَجْهٍ عَامٍّ، أَنَّهُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بُدُوُّ صَلاَحِ بَعْضِهِ - وَإِنْ قَلَّ - لِبَيْعِ كُلِّهِ، بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْعَقْدِ وَالْجِنْسِ وَالْبُسْتَانِ، وَالْحَمْلِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ - كَالشَّافِعِيَّةِ - أَوِ الْجِنْسِ عِنْدَ آخَرِينَ - كَالْمَالِكِيَّةِ - وَإِنْ شَرَطَ بَعْضُهُمْ خِلاَفًا لآِخَرِينَ صَلاَحَ كُلِّهِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ إِلاَّ بَيْعُ مَا بَدَا صَلاَحُهُ  . وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً: إِنْ كَانَتْ شَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبَدَا الصَّلاَحُ فِي بَعْضِ ثَمَرِهَا، جَازَ بَيْعُ جَمِيعِهَا بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلاَفًا.

ثَانِيًا: وَإِنْ بَدَا الصَّلاَحُ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ:

الأْوَّلُ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ الأْظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ الثَّمَرِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَوَجْهُهُ:

أَنَّهُ بَدَا الصَّلاَحُ مِنْ نَوْعِهِ مِنَ الْبُسْتَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَجَازَ بَيْعُ جَمِيعِهِ، كَالشَّجَرَةِ الْوَاحِدَةِ.

وَأَنَّ اعْتِبَارَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ فِي جَمِيعِهِ يَشُقُّ، وَيُؤَدِّي إِلَى الاِشْتِرَاكِ وَاخْتِلاَفِ الأْيْدِي، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ مَا بَدَا صَلاَحُهُ.

وَالْمَالِكِيَّةُ شَرَطُوا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، أَنْ لاَ تَكُونَ النَّخْلَةُ بَاكُورَةً، وَهِيَ الَّتِي تَسْبِقُ بِالزَّمَنِ الطَّوِيلِ، بِحَيْثُ لاَ يَحْصُلُ مَعَهُ تَتَابُعُ الطَّيِّبِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاكُورَةً لَمْ يَجُزْ بَيْعُ ثِمَارِ الْبُسْتَانِ بِطَيِّبِهَا، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَحْدَهَا  .

الآْخَرُ: هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ (وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بَيْعُ مَا بَدَا صَلاَحُهُ.

لأِنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَلأِنَّهُ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، فَأَشْبَهَ الْجِنْسَ الآْخَرَ، وَأَشْبَهَ الْجِنْسَ الَّذِي فِي الْبُسْتَانِ الآْخَرِ - كَمَا سَيَأْتِي -

80 - ثَالِثًا: إِنْ بَدَا الصَّلاَحُ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ أَشْجَارٍ مِنْ نَوْعٍ مَا، فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ؟

فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْجُهٌ:

الْوَجْهُ الأْوَّلُ: لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، هُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لاَ يَتْبَعُهُ، قَرَّرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ الأْوْلَى، وَذَلِكَ:

لأِنَّ النَّوْعَيْنِ قَدْ يَتَبَاعَدُ إِدْرَاكُهُمَا، فَلَمْ يَتْبَعْ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فِي بُدُوِّ الصَّلاَحِ، كَالْجِنْسَيْنِ.

وَلأِنَّ الْمَعْنَى هُنَا هُوَ تَقَارُبُ إِدْرَاكِ أَحَدِهِمَا مِنَ الآْخَرِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالاِشْتِرَاكِ، وَاخْتِلاَفِ الأْيْدِي، وَلاَ يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي النَّوْعَيْنِ، فَصَارَا فِي هَذَا كَالْجِنْسَيْنِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مُتَقَارِبَ الإْدْرَاكِ، فَبُدُوُّ صَلاَحِ بَعْضِهِ يَجُوزُ بِهِ بَيْعُ جَمِيعِهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ إِدْرَاكُ بَعْضِهِ تَأَخُّرًا كَثِيرًا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِيمَا أَدْرَكَ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الْبَاقِي  .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَلأِبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ مَا فِي الْبُسْتَانِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، قَاسُوهُ عَلَى إِكْمَالِ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِي التَّكْمِيلِ، فَيَتْبَعُهُ فِي

جَوَازِ الْبَيْعِ، وَيُصْبِحُ كَالنَّوْعِ الْوَاحِدِ  .

81 - رَابِعًا: إِنْ بَدَا صَلاَحُ الثَّمَرِ فِي أَحَدِ بُسْتَانَيْنِ (مُتَقَارِبَيْنِ) مِنْ دُونِ الآْخَرِ، وَقَدْ بَاعَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَالثَّمَرَةُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ: أَنَّ بُدُوَّ الصَّلاَحِ فِي شَجَرَةٍ مِنَ الْقَرَاحِ (الْمَزْرَعَةِ) صَلاَحٌ لَهُ وَلِمَا قَارَبَهُ وَجَاوَرَهُ، فَيَتْبَعُهُ، وَذَلِكَ: لأِنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ فِي الصَّلاَحِ، فَأَشْبَهَا الْقَرَاحَ الْوَاحِدَ. وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ الأْمْنُ مِنَ الْعَاهَةِ، وَقَدْ وُجِدَ. وَلاِجْتِمَاعِهِمَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَّرُوا الْقُرْبَ هُنَا وَالْجِوَارَ، بِتَلاَحُقِ الطَّيِّبِ بِالطَّيِّبِ عَادَةً، أَوْ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ.

وَابْنُ كِنَانَةَ مِنْهُمْ عَمَّمَ الْحُكْمَ فِي الْبَسَاتِينِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَلاَحَقُ طَيِّبَهُ بِطَيِّبِهِ.

وَابْنُ الْقَصَّارِ عَمَّمَ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمُتَجَاوِرَاتِ مِنَ الْبَسَاتِينِ، فَشَمِلَ الْبَلَدَ.

وَلَهُمْ قَوْلاَنِ فِي اشْتِرَاطِ تَلاَصُقِ الْبَسَاتِينِ، لَكِنَّهُمُ اسْتَظْهَرُوا أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْبَسَاتِينُ الْمُجَاوِرَةُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ الَّذِي فِيهِ الشَّجَرَةُ الْبَاكُورَةُ الَّتِي بَدَا صَلاَحُهَا. لَكِنَّهُمْ قَصَرُوا هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الثِّمَارِ، وَمِثْلُهَا الْمَقْثَأَةُ، أَمَّا الزُّرُوعُ فَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ يُبْسِ جَمِيعِ الْحَبِّ  .

الآْخَرُ: أَنْ لاَ يَتْبَعَ أَحَدُ الْبُسْتَانَيْنِ الآْخَرَ، وَهَذَا هُوَ الأْصَحُّ  وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَوْ كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ، وَذَلِكَ:

لأِنَّ مِنْ شَأْنِ اخْتِلاَفِ الْبِقَاعِ اخْتِلاَفُ وَقْتِ التَّأْبِيرِ - كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ - فَلاَ بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْبُسْتَانِ الآْخَرِ.

أَنَّ إِلْحَاقَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ بِاَلَّذِي بَدَا صَلاَحُهُ، هُوَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الاِشْتِرَاكِ، وَاخْتِلاَفِ الأْيْدِي، وَهَذَا الضَّرَرُ مُنْتَفٍ فِي الْبُسْتَانِ الآْخَرِ، فَوَجَبَ امْتِنَاعُ التَّبَعِيَّةِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْبُسْتَانَيْنِ الْمُتَبَاعِدَيْنِ  .

82 - خَامِسًا: إِنْ بَدَا الصَّلاَحُ فِي جِنْسٍ مِنَ الثَّمَرِ، لَمْ يَكْفِ فِي حِلِّ بَيْعِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، فَبُدُوُّ صَلاَحِ الْبَلَحِ لاَ يَكْفِي فِي حِلِّ بَيْعِ نَحْوِ الْعِنَبِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْبُسْتَانِ عِنَبٌ وَرُمَّانٌ، فَبَدَا صَلاَحُ الْعِنَبِ، لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الرُّمَّانِ

حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ - نَصَّ عَلَى هَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ بَاعَ كَذَلِكَ وَجَبَ شَرْطُ الْقَطْعِ فِي ثَمَرِ الآْخَرِ.

83 - أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ الْمَقَاثِئَ بِالثَّمَرِ، فِي الاِكْتِفَاءِ بِبُدُوِّ بَعْضِهَا، لِجَوَازِ بَيْعِ كُلِّهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكْبُرَ وَتَطِيبُ لِلأَْكْلِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِهِمَا، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَلاَ يَكْفِي فِي حِلِّ بَيْعِهِ يُبْسُ بَعْضِهِ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ يُبْسِ جَمِيعِ حَبِّهِ، وَذَلِكَ:

لأِنَّ حَاجَةَ النَّاسِ لأِكْلِ الثِّمَارِ رَطْبَةً لِلتَّفَكُّهِ بِهَا أَكْثَرُ.

وَلأِنَّ الثَّمَرَ إِذَا بَدَا صَلاَحُ بَعْضِهِ، يَتْبَعُهُ الْبَاقِي سَرِيعًا غَالِبًا، وَمِثْلُهُ نَحْوُ الْقِثَّاءِ، بِخِلاَفِ الزَّرْعِ، وَلَيْسَتِ الْحُبُوبُ كَذَلِكَ، لأِنَّهَا لِلْقُوتِ لاَ لِلتَّفَكُّهِ  .

وَبَقِيَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الأْصْلِ، وَهُوَ الاِكْتِفَاءُ فِي الْحَبِّ بِبُدُوِّ صَلاَحِ بَعْضِهِ وَإِنْ قَلَّ، بَلْ صَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ بِالاِكْتِفَاءِ بِاشْتِدَادِ بَعْضِ الْحَبِّ، وَلَوْ سُنْبُلَةً وَاحِدَةً، وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَيْنَا بِطِيبِ الثِّمَارِ عَلَى التَّدْرِيجِ، إِطَالَةً لِزَمَنِ التَّفَكُّهِ، فَلَوْ شَرَطَ طِيبَ جَمِيعِهِ، لأَدَّى إِلَى أَنْ لاَ يُبَاعَ شَيْءٌ؛ لأِنَّ السَّابِقَ قَدْ يَتْلَفُ، أَوْ تُبَاعُ الْحَبَّةُ، بَعْدَ الْحَبَّةِ، وَفِي كُلٍّ حَرَجٌ شَدِيدٌ  .

84 - وَلَمْ يُوَاجِهِ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهِيَ اشْتِرَاطُ بُدُوِّ صَلاَحِ كُلِّ الثَّمَرِ لِصِحَّةِ بَيْعِهِ، وَلاَ التَّفْصِيلاَتِ الَّتِي تَنْدَرِجُ فِيهَا؛ لأِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي أَصْلِهَا، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ (وَكَذَا الْحَبُّ وَنَحْوُهُ) أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَوْ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ إِذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا، وَيَجِبُ قَطْعُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ.

وَكُلُّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ خِلاَفِ الأْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ فِي اشْتِرَاطِ صَلاَحِ كُلِّ الثَّمَرِ، وَصَلاَحِ كُلِّ الْحَبِّ، إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُنْتَفَعُ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكُلُّهُ جَائِزُ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ.

وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَكْلاً وَلاَ عَلَفًا، قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ:

فَذَهَبَ السَّرَخْسِيُّ (وَشَيْخُ الإْسْلاَمِ خُوَاهَرْ زَادَهْ) إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ، لِلنَّهْيِ وَعَدَمِ التَّقَوُّمِ.

وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ - وَالأْصَحُّ  عِنْدَ الْمَرْغِينَانِيِّ - جَوَازُ بَيْعِهِ أَيْضًا، لأِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ مَآلاً، وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ حَالاً، بِاعْتِبَارِهِ مَالاً  .

لِهَذَا لَمْ يَبْحَثِ الْحَنَفِيَّةُ شَرْطِيَّةَ بُدُوِّ صَلاَحِ كُلِّ الثَّمَرِ وَلاَ بَعْضِهِ (وَكَذَا الْحَبُّ) وَعِبَارَةُ مُتُونِهِمْ فِي هَذَا صَرِيحَةٌ، وَنَصُّهَا:

  وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا، أَوْ قَدْ بَدَا، جَازَ الْبَيْعُ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ، وَإِنْ شَرَطَ تَرْكَهَا عَلَى النَّخْلِ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَقِيلَ: لاَ إِذَا تَنَاهَتْ، وَبِهِ يُفْتَى

بَيْعُ الْمُتَلاَحِقِ مِنَ الثَّمَرِ وَنَحْوِهِ:

85 - وَيَتَّصِلُ بِبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ - عَلَى الْخِلاَفِ الَّذِي فِيهِ - مَسْأَلَةُ مَا إِذَا بَاعَ ثَمَرَةً قَدْ بَدَا صَلاَحُهَا، وَكَانَتْ مِمَّا تُطْعَمُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ.

وَيَغْلِبُ تَلاَحُقُ ثَمَرِهَا، وَيَخْتَلِطُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا بِالْمَوْجُودِ، كَالتِّينِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ، وَكَذَا فِي الزَّرْعِ كَالْبِرْسِيمِ (وَهُوَ الْفَصْفَصَةُ) وَكَذَا فِي الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، وَتُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ الثَّمَرِ الْمُتَلاَحِقِ، وَفِيهَا بَعْضُ الْخِلاَفِ.

(أ) فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأْصَحُّ  عِنْدَهُمْ قِيَاسًا: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَذَلِكَ:

لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ، فَأَشْبَهَ هَلاَكَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، كَمَا يَقُولُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالْكَمَالُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى صَدْرِ التَّعْلِيلِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَّلَهُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّهُ جَمَعَ فِي الْعَقْدِ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَقْبَلُ الْبَيْعَ، وَحِصَّةُ الْمَوْجُودِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ  .

وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ ثَمَرَةٌ لَمْ تُخْلَقْ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، كَمَا لَوْ بَاعَهَا قَبْلَ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِبَيْعِ أُصُولِهِ.

وَمَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ، لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِمَا خُلِقَ، وَإِنْ كَانَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِمَا بَدَا صَلاَحُهُ، لأِنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فِي بَعْضِ الأْحْوَالِ  كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا مَا لَمْ يُخْلَقْ فَلاَ  .

86 - (ب) وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُهُ، وَهُوَ أَيْضًا مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَالْحَلْوَانِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ وَآخَرِينَ اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ بِجَعْلِ الْمَوْجُودِ أَصْلاً فِي الْعَقْدِ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ تَبَعًا لَهُ، مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ. وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَوَجَّهَهُ.

وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ هُوَ تَعَامُلُ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ تَعَامَلُوا بِبَيْعِ ثِمَارِ الْكَرْمِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَفِي نَزْعِ النَّاسِ مِنْ عَادَتِهِمْ حَرَجٌ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الإْمَامِ  مُحَمَّدٍ - رحمه الله  - أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ الْوَرْدِ عَلَى الأْشْجَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَرْدَ لاَ يَتَفَتَّحُ جُمْلَةً، بَلْ يَتَلاَحَقُ بَعْضُهُ إِثْرَ بَعْضٍ  .

وَبَدَا مِنْ هَذَا أَنَّ جَوَازَ بَيْعِ الْمُتَلاَحِقَاتِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِحْسَانِ الضَّرُورَةِ، عِنْدَ مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالَّذِينَ ذَهَبُوا مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ تَمَسَّكُوا بِالنُّصُوصِ، وَنَفَوُا الضَّرُورَةَ هُنَا:

لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَ الْبَائِعُ الأْصُولَ.

أَوْ يَشْتَرِيَ الْمُشْتَرِي الْمَوْجُودَ بِبَعْضِ الثَّمَنِ، وَيُؤَخِّرَ الْعَقْدَ فِي الْبَاقِي إِلَى وَقْتِ وُجُودِهِ.

أَوْ يَشْتَرِيَ الْمَوْجُودَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَيُبِيحُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الاِنْتِفَاعَ بِمَا يَحْدُثُ مِنْهُ. وَلِهَذَا قَرَّرُوا أَنَّهُ لاَ ضَرُورَةَ إِلَى تَجْوِيزِ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ مُصَادِمًا لِلنَّصِّ، وَهُوَ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإْنْسَانِ .

وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ رحمه الله  تعالي لاَ يَخْفَى تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فِي زَمَانِنَا، وَلاَ سِيَّمَا فِي مِثْلِ دِمَشْقِ الشَّامِ، كَثِيرَةِ الأْشْجَارِ وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَى النَّاسِ، لاَ يُمْكِنُ إِلْزَامُهُمْ بِالتَّخَلُّصِ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ أَفْرَادِ النَّاسِ لاَ يُمْكِنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَامَّتِهِمْ، وَفِي نَزْعِهِمْ عَنْ عَادَتِهِمْ حَرَجٌ - كَمَا عَلِمْتَ - وَيَلْزَمُ تَحْرِيمُ أَكْلِ الثِّمَارِ فِي هَذِهِ الْبُلْدَانِ، إِذْ لاَ تُبَاعُ إِلاَّ كَذَلِكَ.

وَالنَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم إِنَّمَا رَخَّصَ فِي السَّلَمِ لِلضَّرُورَةِ، مَعَ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، فَحَيْثُ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ هُنَا أَيْضًا، أَمْكَنَ إِلْحَاقُهُ بِالسَّلَمِ بِطَرِيقِ الدِّلاَلَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مُصَادِمًا لِلنَّصِّ، فَلِهَذَا جَعَلُوهُ مِنَ الاِسْتِحْسَانِ؛ لأِنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ الْجَوَازِ. وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْفَتْحِ الْمَيْلُ إِلَى الْجَوَازِ، وَلِذَا أَوْرَدَ لَهُ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، بَلْ إِنَّ الْحُلْوَانِيَّ رَوَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَمَا ضَاقَ الأْمْرُ  إِلاَّ اتَّسَعَ، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُسَوِّغٌ لِلْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ  .

87 - وَالْمَالِكِيَّةُ، الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ، قَسَّمُوا هَذِهِ الْمُتَلاَحِقَاتِ، وَهِيَ ذَاتُ الْبُطُونِ، إِلَى قِسْمَيْنِ:

مَا تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ.

وَمَا لاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ.

وَالَّذِي لاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ قِسْمَانِ: مَا لَهُ آخِرٌ، وَمَا لاَ آخِرَ لَهُ.

وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُهَا:

أَوَّلاً: مَا تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ، وَهُوَ الْمُنْفَصِلُ غَيْرُ الْمُتَتَابِعِ. وَذَلِكَ فِي الشَّجَرِ الَّذِي يُطْعِمُ فِي السَّنَةِ بَطْنَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ. فَهَذَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْبَطْنُ الثَّانِي بَعْدَ وُجُودِهِ وَقَبْلَ صَلاَحِهِ بِبُدُوِّ صَلاَحِ الْبَطْنِ الأْوَّلِ  ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَنْقَطِعُ الأْوَّلُ حَتَّى يَبْدُوَ طِيبُ الثَّانِي. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ.

وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ قَوْلاً بِالْجَوَازِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَطْنَ الثَّانِي يَتْبَعُ الأْوَّلَ فِي الصَّلاَحِ، لَكِنِ ابْنَ جُزَيٍّ جَعَلَ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اتِّفَاقًا  .

ثَانِيًا: مَا يَخْلُفُ وَيُطْعِمُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، وَلاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ، وَلَهُ آخِرٌ. (أَيْ نِهَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا) كَالْوَرْدِ وَالتِّينِ، وَكَالْمَقَاثِئِ مِنَ الْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالْجُمَّيْزِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ الْبُطُونِ بِبُدُوِّ صَلاَحِ الأْوَّلِ  .

قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: خِلاَفًا لَهُمْ، أَيْ لِلأْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ. فَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنَ الْمَذْكُورَاتِ، يُقْضَى لَهُ بِالْبُطُونِ كُلِّهَا، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي الْعَقْدِ.

وَلاَ يَجُوزُ فِي هَذَا التَّوْقِيتِ بِشَهْرٍ وَنَحْوِهِ، لاِخْتِلاَفِ حَمْلِهَا بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ  .

ثَالِثًا: مَا يُخْلَفُ وَيُطْعَمُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، وَلاَ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ وَهِيَ مُتَتَابِعَةٌ، لَكِنْ لاَ آخِرَ وَلاَ نِهَايَةَ لَهُ، أَيْ أَنَّ إِخْلاَفَهُ مُسْتَمِرٌّ، فَكُلَّمَا قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ خَلَفَهُ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ لَهُ آخِرٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ طُولَ الْعَامِ، كَالْمَوْزِ - فِي بَعْضِ الأْقْطَارِ - فَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلاَّ بِضَرْبٍ مِنَ الأْجَلِ، وَهُوَ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ، وَلَوْ كَثُرَ الأْجَلُ - عَلَى الْمَشْهُورِ - خِلاَفًا لاِبْنِ نَافِعٍ الَّذِي حَصَرَ الْجَوَازَ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِمَنْ نَفَى الزِّيَادَةَ عَلَى سَنَتَيْنِ.

وَمِثْلُ ضَرْبِ الأْجَلِ فِي الْجَوَازِ، اسْتِثْنَاءُ بُطُونٍ مَعْلُومَةٍ  .

ج - بَيْعُ السِّنِينَ:

88 - رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ»  . وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَبِيعَ مَا سَوْفَ تُثْمِرُهُ نَخْلَةُ الْبَائِعِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا أَوْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ مَنْعِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا  .

د - بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ:

89 - وَمِمَّا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِهِ لِلْغَرَرِ: السَّمَكُ فِي الْمَاءِ. وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه  «أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: لاَ تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّهُ غَرَرٌ» .

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ اصْطِيَادِهِ، كَمَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ إِذَا صِيدَ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ، وَأَنَّهُ فَاسِدٌ، لأِنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُمْلَكْ، وَفِيهِ غَرَرٌ كَثِيرٌ فَلاَ يُغْتَفَرُ إِجْمَاعًا، وَلأِنَّهُ لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلاَّ بَعْدَ اصْطِيَادِهِ، فَأَشْبَهَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ، كَمَا أَنَّهُ مَجْهُولٌ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ  .

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ - بِاصْطِلاَحِهِمْ فِيهِ - وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ فَاسِدٌ، إِذَا بِيعَ بِعَرْضٍ؛ لأِنَّ السَّمَكَ يَكُونُ حِينَئِذٍ ثَمَنًا وَالْعَرَضُ مَبِيعًا، وَاذَا دَخَلَتِ الْجَهَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَلَمْ يَكُنْ بَاطِلاً. فَإِنْ بِيعَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ، إِذْ يَتَعَيَّنُ كَوْنُ السَّمَكِ حِينَئِذٍ مَبِيعًا، وَالدَّرَاهِمُ أَوِ الدَّنَانِيرُ ثَمَنًا.

وَفِيهِ صُوَرٌ مِنَ الْجَوَازِ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ وَأَحْكَامٍ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى مَوْطِنِهِ مِنْ مُصْطَلَحِ (غَرَرٌ).

90 - وَمِثْلُ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ، بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِهِ.

وَلِلْحَنَفِيَّةِ - خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - تَفْصِيلٌ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ يَرْجِعُ بَعْدَ الإْرْسَالِ فَيَصِحُّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لاَ يَرْجِعُ بَعْدَ الإْرْسَالِ، فَلاَ يَصِحُّ.

أَمَّا بَيْعُهُ قَبْلَ صَيْدِهِ، فَبَاطِلٌ عِنْدَهُمْ، كَمَا هُوَ الإْجْمَاعُ  .

وَانْظُرْ بَعْضَ أَحْكَامِهِ، وَتَفْصِيلاَتِهِ، وَتَعْلِيلاَتِ الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ فِي مُصْطَلَحِ (غَرَر، بَيْع)

هـ - بَيْعُ الْعَبْدِ الآْبِقِ:

91 - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ» فَيَحْرُمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَيْعُهُ فِي الْجُمْلَةِ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْعَهُ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُ، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْجَوَازَ بِبَيْعِهِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ بِلاَ مَشَقَّةٍ لاَ تُحْتَمَلُ عَادَةً، وَبِلاَ مُؤْنَةٍ لَهَا وَقْعٌ.

وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ الْجَوَازِ، وَلَوْ عَلِمَ مَكَانَهُ أَوْ قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِهِ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ إِنْسَانٍ، جَازَ، لإِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ.

وَقِيسَ عَلَيْهِ: الْجَمَلُ الشَّارِدُ، وَالْفَرَسُ الْعَائِرُ وَالضَّالُّ إِلاَّ مَنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَالْمَغْصُوبُ إِلاَّ لِقَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَبَيْعُهُ مِنَ الْغَاصِبِ صَحِيحٌ قَطْعًا  .

وَهُنَاكَ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، تُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْع، غَرَر).

و - بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ:

92 - وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم أَنْ يُبَاعَ ثَمَرٌ حَتَّى يُطْعَمَ، أَوْ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ، أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ، أَوْ سَمْنٌ فِي لَبَنٍ»  .

وَالشَّوْكَانِيُّ يُصَرِّحُ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى فَسَادِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ مَجْهُولُ الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ، فَأَشْبَهَ الْحَمْلَ.

وَتَرَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْلِ بِفَسَادِهِ لاِخْتِلاَطِ الْمِلْكَيْنِ، أَوْ بُطْلاَنِهِ لِلشَّكِّ فِي وُجُودِهِ.

وَوَضَعَ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذَا وَأَمْثَالِهِ ضَابِطًا، وَهُوَ: أَنَّ كُلَّ مَا بِيعَ بِغِلاَفِهِ لاَ يَجُوزُ بِاسْتِثْنَاءِ الْحُبُوبِ فِي قِشْرِهَا وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ فِي (بَيْع، غَرَر).

ز - بَيْعُ الصُّوفِ وَهُوَ عَلَى الظَّهْرِ:

93 - وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا. (ف \ 92).

وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى فَسَادِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى جَوَازِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أَيْضًا عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ، بِشَرْطِ جَزِّهِ فِي الْحَالِ، وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: فِيهِ قُوَّةٌ

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ بِشَرْطِ جَزِّهِ خِلاَلَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ كَنِصْفِ شَهْرٍ. وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْفَسَادِ: النَّهْيُ الْوَارِدُ فِيهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ وَهِيَ لاَ تُفْرَدُ بِالْبَيْعِ، وَاخْتِلاَطُ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ لأِنَّهُ يَنْبُتُ مِنَ الأْسْفَلِ، أَوِ اتِّصَالُهُ بِالْحَيَوَانِ فَلَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ كَأَعْضَائِهِ، أَوِ الْجَهَالَةُ وَالتَّنَازُعُ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ.

وَأَبُو يُوسُفَ - رحمه الله  - يَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْقَصِيلِ (الْفَصْفَصَةُ، أَوِ الْبِرْسِيمُ) وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ الشَّعِيرُ يُجَزُّ أَخْضَرَ لِعَلَفِ الدَّوَابِّ  . وَفِيهِ تَفْصِيلاَتٌ وَصُوَرٌ تُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْع، غَرَر، جَهَالَة).

ح - بَيْعُ السَّمْنِ فِي اللَّبَنِ:

94 - وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه الْمُتَقَدِّمُ «... أَوْ سَمْنٌ فِي لَبَنٍ  » وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ لاَ يَمْتَازُ عَنْهُ، وَفِيهِ جَهَالَةٌ وَغَرَرٌ، ثُمَّ هُوَ مِنَ الأْشْيَاءِ الَّتِي فِي غُلُفِهَا، وَالَّتِي لاَ يُمْكِنُ أَخْذُهَا وَتَسْلِيمُهَا إِلاَّ بِإِفْسَادِ الْخِلْقَةِ. كَمَا يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِاسْتِثْنَاءِ الْحُبُوبِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ  .

ط - الثُّنْيَا (أَوِ اسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ فِي الْبَيْعِ):

95 - وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالثُّنْيَا، إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ» وَمَعْنَى الثُّنْيَا: الاِسْتِثْنَاءُ، وَهِيَ فِي الْبَيْعِ: أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، كَشَجَرَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ أَشْجَارٍ بِيعَتْ، صَحَّ الْبَيْعُ. وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً كَبَعْضِ الأْشْجَارِ، لَمْ يَصِحَّ  .

فَوَضَعَ الْفُقَهَاءُ لِذَلِكَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، وَهِيَ: أَنَّ مَا جَازَ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ. وَعَلَّقَ عَلَيْهَا ابْنُ عَابِدِينَ قَوْلَهُ: هَذِهِ قَاعِدَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، مُفَرَّعٌ عَلَيْهَا مَسَائِلُ  .

وَأَشَارَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ، وَسَمَّاهَا صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ ضَابِطًا. فَقَالَ: وَضَابِطُ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا  .

96 - وَإِلَيْكَ بَعْضُ التَّطْبِيقَاتِ:

(أ) لَوْ بَاعَ هَذَا الْقَطِيعَ إِلاَّ شَاةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، لَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ، وَلأِنَّهُ مَبِيعٌ مَجْهُولٌ فَلَمْ يَصِحَّ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ شَاةً تَخْتَارُهَا مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ بُسْتَانًا إِلاَّ شَجَرَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ  .

وَمَالِكٌ - رحمه الله  - أَجَازَ ذَلِكَ، فَلِلْبَائِعِ عِنْدَهُ أَنْ يَبِيعَ الْبُسْتَانَ، وَيَسْتَثْنِيَ خَمْسًا مِنْ شَجَرَاتِهِ؛ لأِنَّ الْبَائِعَ - فِي الْغَالِبِ - يَعْرِفُ جَيِّدَ شَجَرِ بُسْتَانِهِ وَرَدِيئَهُ، فَلاَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ أَنَّهُ يَخْتَارُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ، بِخِلاَفِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يُتَوَهَّمُ فِيهِ التَّنَقُّلُ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَيُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ بَيْنَ الطَّعَامَيْنِ إِنْ كَانَا رِبَوِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا؛ لأِنَّ الْمُنْتَقِلَ إِلَيْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا، وَالشَّكُّ فِي التَّمَاثُلِ كَتَحَقُّقِ التَّفَاضُلِ، وَيُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ إِنْ كَانَا مَكِيلَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا  .

(ب) لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الْقَمْحِ وَنَحْوِهِ، إِلاَّ قَفِيزًا أَوْ رِطْلاً: - جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لأِنَّ الثُّنْيَا هُنَا مَعْلُومَةٌ، فَصَارَ كَمَا لَوِ اسْتَثْنَى مِنْهَا جُزْءًا مُشَاعًا - كَمَا سَيَأْتِي-.

وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّ الْمَبِيعَ إِنَّمَا عُلِمَ بِالْمُشَاهَدَةِ لاَ بِالْقَدْرِ، وَالاِسْتِثْنَاءُ يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمُشَاهَدَةِ، لأِنَّهُ لاَ يَدْرِي كَمْ يَبْقَى فِي حُكْمِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَمْ يَجُزْ  .

(ج) لَوْ بَاعَ هَذَا الْقَطِيعَ إِلاَّ شَاةً مُعَيَّنَةً، أَوْ بَاعَ هَذَا الْبُسْتَانَ إِلاَّ شَجَرَةً بِعَيْنِهَا جَازَ ذَلِكَ؛ لأِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومٌ، وَلاَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ. وَالْمَبِيعُ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، لِكَوْنِ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، فَانْتَفَى الْمُفْسِدُ  .

(د) - لَوْ بَاعَ الصُّبْرَةَ إِلاَّ أَرْطَالاً مَعْلُومَةً: - جَازَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأِنَّهُ يَصِحُّ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَبْقَى أَكْثَرُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى، وَيَكُونُ اسْتِثْنَاءَ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ، كَمَا لَوِ اسْتَثْنَى رِطْلاً وَاحِدًا. وَكَذَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ لَوْ كَانَ اسْتِثْنَاءُ الأْرْطَالِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ ثَمَرٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ  .

وَعِنْدَ أَحْمَدَ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ الأْقْيَسُ بِمَذْهَبِهِ - لاَ يَجُوزُ هُنَا كَمَا فِي الصُّورَةِ الأْولَى، إِنْ جَهِلَ الْمُتَعَاقِدَانِ كَمِّيَّةَ أَرْطَالِهَا، لأِنَّ الْجَهْلَ بِذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِمَا يَبْقَى بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى  .

(هـ) لَوِ اسْتَثْنَى جُزْءًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ بَلْ شَائِعًا، كَرُبُعٍ وَثُلُثٍ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِالاِتِّفَاقِ، لِلْعِلْمِ بِالْمَبِيعِ فِي أَجْزَائِهِ، وَلِصِحَّةِ إِيرَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا  .

(و) َلَوْ بَاعَهُ أَرْضًا أَوْ دَارًا أَوْ ثَوْبًا، إِلاَّ ذِرَاعًا:

فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ: إِذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ يَعْلَمَانِ عِدَّةَ أَذْرُعِ الأْرْضِ أَوِ الدَّارِ أَوِ الثَّوْبِ، كَعَشَرَةٍ - مَثَلاً - صَحَّ الْبَيْعُ، وَكَانَ الْمَذْكُورُ مُشَاعًا فِيهَا، كَأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْعَشَرَ، وَإِنْ كَانَا لاَ يَعْلَمَانِ (كِلاَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا) لَمْ يَصِحُّ؛ لأِنَّ الْمَبِيعَ لَيْسَ مُعَيَّنًا وَلاَ مُشَاعًا، فَيَكُونُ مَجْهُولاً  .

97 - وَيُمْكِنُ تَطْبِيقُ قَاعِدَةِ: مَا جَازَ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْعَقْدِ، عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَهِيَ: مَا إِذَا بَاعَهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ هِيَ مِائَةُ ذِرَاعٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَمْ لاَ:

فَأَبُو حَنِيفَةَ لاَ يُجِيزُ الْعَقْدَ لِجَهَالَةِ الْمَوْضِعِ؛ لأِنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الأْرْضِ لاَ عَلَى شَائِعٍ، وَالدَّارُ تَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهَا وَأَجْزَاؤُهَا، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إِلَى النِّزَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ، لِعَدَمِ تَفَاوُتِ أَجْزَائِهَا.

وَالصَّاحِبَانِ يَقُولاَنِ: إِذَا سَمَّى جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ صَحَّ، وَإِلاَّ لَمْ يَصِحَّ، لِلْجَهَالَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ -

وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا جَوَازُ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَا جُمْلَةَ مِسَاحَةِ الأْرْضِ بِالذُّرْعَانِ؛ لأِنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ بِيَدِهِمَا إِزَالَتُهَا فَتُقَاسُ وَتُعْلَمُ نِسْبَةُ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ مِنْهَا، وَيَكُونُ الْبَيْعُ شَائِعًا فِي الأْرْضِ كُلِّهَا  .

وَإِذَا صَحَّ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى الْعَشَرَةِ، جَازَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْهُ.

98 - لَوْ بَاعَ شَاةً وَاسْتَثْنَى حَمْلَهَا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوِ اسْتَثْنَى بَعْضَ أَعْضَائِهَا، لأِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِفْرَادُ الْمَذْكُورِ بِالْعَقْدِ، فَكَذَا لاَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، فَصَارَ شَرْطًا فَاسِدًا - كَمَا يَقُولُ ابْنِ عَابِدِينَ - وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ  .

وَجَوَّزَ الْحَنَابِلَةُ اسْتِثْنَاءَ رَأْسِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَجِلْدِهِ وَسَوَاقِطِهِ وَسَلَبِهِ وَأَطْرَافِهِ، لأِنَّ «النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ - أَيْ مُهَاجِرًا - إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ رضي الله عنهما مَرُّوا بِرَاعِي غَنْمٍ، فَاشْتَرَيَا مِنْهُ شَاةً، وَشَرَطَا لَهُ سَلَبَهَا  » وَيُلْحَقُ الْحَضَرُ بِالسَّفَرِ عِنْدَهُمْ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ. وَعَنْ مَالِكٍ صِحَّةُ اسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورَاتِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ؛ لأِنَّ الْمُسَافِرَ لاَ يُمْكِنُهُ الاِنْتِفَاعُ بِالْجِلْدِ وَالسَّوَاقِطِ، فَجُوِّزَ لَهُ شِرَاءُ اللَّحْمِ دُونَهَا  .

أَسْبَابُ النَّهْيِ غَيْرِ الْعَقْدِيَّةِ:

99 - وَيُرَادُ بِهَا: مَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ، وَلاَ بِوَصْفٍ مُلاَزِمٍ لِلْعَقْدِ بِحَيْثُ لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ، فَمَا هُوَ بِرُكْنٍ وَلاَ بِشَرْطٍ  .

وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ هَذِهِ الأْسْبَابِ  إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ:

النَّوْعُ الأْوَّلُ: مَا يُؤَدِّي إِلَى تَضْيِيقٍ أَوْ إِيذَاءٍ أَوْ ضَرَرٍ: مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ. وَذَلِكَ كَالْغَبْنِ، وَبَيْعِ الْمُسْلِمِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَبَيْعِ السِّلاَحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ.

النَّوْعُ الآْخَرُ: مَا يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةٍ دِينِيَّةٍ بَحْتَةٍ، أَوْ عِبَادِيَّةٍ مَحْضَةٍ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ، وَبَيْعِ الْمُصْحَفِ مِنَ الْكَافِرِ.

النَّوْعُ الأْوَّلُ: الأْسْبَابُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الضَّرَرِ الْمُطْلَقِ

100 - مِنْ أَهَمِّ مَا يَشْمَلُهُ هَذَا النَّوْعُ، الْبُيُوعُ الآْتِيَةُ:

أ - التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الأْمِّ وَبَيْنَ وَلَدِهَا فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ:

101 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ هَذَا الْبَيْعِ، لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ فِي السُّنَّةِ فَمِنْ ذَلِكَ: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم «مَلْعُونٌ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا»  .

وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»  .

مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ هَذَا التَّفْرِيقِ:

102 - هَذَا التَّفْرِيقُ غَيْرُ جَائِزٍ - بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَعَلَى التَّفْصِيلِ الآْتِي فِي أَحْوَالِهِ - عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ:

مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بِالْبَيْعِ حَرَامٌ.

وَعِنْدَ مَالِكٍ: يَجِبُ فَسْخُهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُهُمَا فِي حَوْزٍ (أَوْ مِلْكٍ وَاحِدٍ). عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا سَيَأْتِي:

وَعِنْدَهُمَا (الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ): الْبَيْعُ بَاطِلٌ.

وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يُمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيقِ.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ مُفِيدٌ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَالْبَائِعُ آثِمٌ بِالتَّفْرِيقِ.

وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ، جَائِزٌ فِي سَائِرِ ذَوِي الأْرْحَامِ.

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.

وَتَفْصِيلُ أَدِلَّةِ هَذِهِ الاِتِّجَاهَاتِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِق).

103 - هَذَا وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَعْمِيمُ التَّحْرِيمِ، بِحَيْثُ يَشْمَلُ كُلَّ تَفْرِيقٍ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَصْرُهُ عَلَى التَّفْرِيقِ بِالْبَيْعِ بَيْنَ الأْمِّ الْوَالِدَةِ وَبَيْنَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُثْغِرْ (أَيْ لَمْ يُبَدِّلْ أَسْنَانَهُ) فَقَطْ.

وَالشَّافِعِيَّةُ قَصَرُوهُ عَلَى قَرَابَةِ الْوِلاَدِ مَهْمَا نَزَلَ، إِذَا كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا حَتَّى يُمَيِّزَ وَيَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ، فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ سَبْعَ سِنِينَ  .

وَتَفْصِيلُ الأْدِلَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (رِق).

حُكْمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أُمِّهِ:

104 - الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، جَوَازُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ وَبَيْنَ أُمِّهِ، وَأَنَّ التَّفْرِيقَ الْمَمْنُوعَ خَاصٌّ بِالْعَاقِلِ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْهُمْ: الْمَنْعُ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الأْمِّ وَبَيْنَ وَلَدِهَا فِي الْحَيَوَانِ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ أُمِّهِ بِالرَّعْيِ.

فَعَلَى هَذَا، لَوْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ لَمْ يُفْسَخْ. وَيُجْبَرَانِ عَلَى جَمْعِهِمَا فِي حَوْزٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَتَفْرِيقِ الْعَاقِلِ  .

105 - وَهَذَا الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، الَّذِينَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْبَهِيمَةِ وَوَلَدِهَا حَرَامٌ.

ثُمَّ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَالُوا:

يُكْرَهُ ذَبْحُ الأْمِّ الَّتِي اسْتَغْنَى الْوَلَدُ عَنْ لَبَنِهَا، وَيَحْرُمُ ذَبْحُهَا إِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ لَبَنِهَا، وَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَلاَ التَّصَرُّفُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَيَوَانُ مَأْكُولاً وَذَبْحُ الصَّغِيرِ وَهُوَ مَأْكُولٌ حَلاَلٌ قَطْعًا. وَبَيْعُهُ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَذْبَحُهُ قَبْلَ اسْتِغْنَائِهِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الأْمِّ قَبْلَ اسْتِغْنَائِهِ بَاطِلٌ - وَإِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِحِلِّهِ - لأِنَّهُ رُبَّمَا لاَ يَقَعُ الذَّبْحُ حَالاً أَوْ أَصْلاً، فَيُوجَدُ الْمَحْذُورُ، وَشَرْطُ الذَّبْحِ عَلَى الْمُشْتَرِي غَيْرُ صَحِيحٍ  .

نَعَمْ، إِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ نَذَرَ ذَبْحَهُ، وَشَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الذَّبْحَ، صَحَّ الْبَيْعُ وَكَانَ ذَلِكَ افْتِدَاءً، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي ذَبْحُهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ ذَبَحَهُ الْقَاضِي، وَفَرَّقَهُ الذَّابِحُ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَبَيْعُ الْوَلَدِ الْمُسْتَغْنِي عَنْ أُمِّهِ مَكْرُوهٌ إِلاَّ لِغَرَضِ الذَّبْحِ. وَذَبْحُهُمَا كِلَيْهِمَا لاَ يَحْرُمُ  .

وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب - بَيْعُ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا:

106 - الْمُرَادُ بِالْعَصِيرِ: عَصِيرُ الْعِنَبِ، أَيْ مَعْصُورُهُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ هَذَا الْبَيْعِ، وَهُوَ الأْصَحُّ  وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَيْلُولَتَهُ إِلَى الْخَمْرِ، فَإِنْ شَكَّ كُرِهَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ لِلصَّاحِبَيْنِ - أَشَارَ الْحَصْكَفِيُّ لِتَضْعِيفِهِ - بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَالْكَرَاهَةُ إِنْ أُطْلِقَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلتَّحْرِيمِ  .

وَعِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ: وَحُرِّمَ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا. وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى(وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإْثْمِ وَالْعُدْوَانِ) قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ «لُعِنَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: بِعَيْنِهَا، وَعَاصِرِهَا، وَمُعْتَصِرِهَا، وَبَائِعِهَا، وَمُبْتَاعِهَا، وَحَامِلِهَا، وَالْمَحْمُولَةِ إِلَيْهِ، وَآكِلِ ثَمَنِهَا، وَشَارِبِهَا، وَسَاقِيهَا  ».

وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَلِ كَمَا يَقُولُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّسَبُّبِ إِلَى الْحَرَامِ  .

وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ قَيِّمًا كَانَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه فِي أَرْضٍ لَهُ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ عِنَبٍ أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ زَبِيبًا، وَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يُبَاعَ إِلاَّ لِمَنْ يَعْصِرُهُ، فَأَمَرَهُ بِقَلْعِهِ، وَقَالَ: بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إِنْ بِعْتُ الْخَمْرَ. وَلأِنَّهُ يُعْقَدُ الْبَيْعُ عَلَى عَصْرٍ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ لِلْمَعْصِيَةِ، فَأَشْبَهَ إِجَارَةَ الرَّجُلِ أَمَتَهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِيَزْنِيَ بِهَا  .

وَالْقَوْلُ الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَنَقَلَ عَنْ هَذَا قَوْلَهُ: «بِعِ الْحَلاَلَ مِمَّنْ شِئْتَ» وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) وَقَدْ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ.

وَلأِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ، بَلْ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ بِشُرْبِهِ، وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَيْسَ الشُّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ؛ لأِنَّ الشُّرْبَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الْحَمْلِ، وَلَيْسَ الْحَمْلُ مِنْ ضَرُورَاتِ الشُّرْبِ، لأِنَّ الْحَمْلَ قَدْ يُوجَدُ لِلإْرَاقَةِ وَالتَّخْلِيلِ بِالصَّبِّ فِي الْخَلِّ، فَلَيْسَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْحَمْلِ، وَصَارَ كَالاِسْتِئْجَارِ لِعَصْرِ الْعِنَبِ، وَهَذَا قِيَاسٌ وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ كَمَا قَالَ الْكَرْلاَنِيُّ. لَكِنْ يَبْدُو أَنَّ الْمَذْهَبَ - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا، وَأَنَّهُ خِلاَفُ الأْوْلَى، فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا وَكَلِمَةُ لاَ بَأْسَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى.

وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا، هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتُونُ.

اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْبَائِعِ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي اتِّخَاذَ الْعَصِيرِ لِلْخَمْرِ:

107 - اشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ لِلْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْبَيْعِ: أَنْ يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي اتِّخَاذَ الْخَمْرِ مِنَ الْعَصِيرِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يُكْرَهْ بِلاَ خِلاَفٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْقُهُسْتَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ صَرِيحُ كَلاَمِ الْمَرْغِينَانِيِّ الآْنِفِ الذِّكْرِ.

وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ إِذَا عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ: إِمَّا بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا بِقَرَائِنَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَاكْتَفَوْا بِظَنِّ الْبَائِعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَعْصِرُ خَمْرًا أَوْ مُسْكِرًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ  .

108 - أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْبَائِعُ بِحَالِ الْمُشْتَرِي، أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَعْمَلُ الْخَلَّ وَالْخَمْرَ مَعًا، أَوْ كَانَ الْبَائِعُ يَشُكُّ فِي حَالِهِ، أَوْ يَتَوَهَّمُ:

فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الْجَوَازُ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ فِي حَالِ الشَّكِّ أَوِ التَّوَهُّمِ مَكْرُوهٌ  .

حُكْمُ بَيْعِ الْعَصِيرِ لِذِمِّيٍّ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا:

109 - إِنَّ مُقْتَضَى الْعُمُومِ وَالإْطْلاَقِ فِي مَنْعِ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَكَذَا مَا عَلَّلَتْهُ الشُّرُوحُ - كَمَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ - أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ مِنْهُمَا، وَأَنَّ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، يَرَوْنَ جَوَازَ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِنَ الْكَافِرِ. وَالأْصَحُّ  أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ وَلاَ فَرْقَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا.

وَالشَّافِعِيَّةُ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَقَالُوا بِحُرْمَةِ الْبَيْعِ لِلْعَاصِرِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا، لِحُرْمَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كُنَّا لاَ نَتَعَرَّضُ لَهُ بِشَرْطِهِ، أَيْ عَدَمَ إِظْهَارِهِ  .

الْحُكْمُ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ وَشُمُولِهِ لِغَيْرِهِ:

110 - عَمَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحُكْمَ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَلَمْ يُقْصِرُوهُ عَلَى الْعَصِيرِ، بَلْ عَدَّوْهُ إِلَى الْعِنَبِ نَفْسِهِ وَإِلَى الرُّطَبِ وَالزَّبِيبِ، فَهِيَ مِثْلُ الْعَصِيرِ فِي التَّحْرِيمِ، كُلَّمَا قُصِدَ بِهَا اتِّخَاذُ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَبَيْعُ نَحْوِ رُطَبٍ، كَعِنَبٍ، لِمُتَّخِذِهِ مُسْكِرًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا قُصِدَ بِهِ الْحَرَامُ، كَعِنَبٍ وَكَعَصِيرٍ لِمُتَّخِذِهِمَا خَمْرًا، وَكَذَا زَبِيبٌ وَنَحْوُهُ  .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَكَذَا يُمْنَعُ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ، عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لاَ يَجُوزُ.

وَتَرَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ: - فَذَهَبَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْهُمْ إِلَى: أَنَّ بَيْعَ الْعِنَبِ وَالْكَرْمِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا لاَ يُكْرَهُ. - وَنَقَلَ الْقُهُسْتَانِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ بَيْعَ الْعِنَبِ هُوَ أَيْضًا عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.

فَعِنْدَهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا. وَعِنْدَهُمَا يُمْنَعُ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا  .

حُكْمُ بَيْعِ الْعَصِيرِ لِمُتَّخِذِهِ خَمْرًا، مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْبُطْلاَنُ:

111 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ: إِلَى صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ. وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ النَّهْيَ - الْمُسْتَفَادَ مِنْ حَدِيثِ لَعْنِ الْعَاصِرِ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ أَوِ التَّحْرِيمَ؛ لأِنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ لِمَعْصِيَةٍ مُتَحَقِّقَةٍ أَوْ مُتَوَهَّمَةٍ - لاَ يَقْتَضِي الْبُطْلاَنَ هُنَا، لأِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَعَنْ لاَزِمِهَا، لَكِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِهِ، نَظِيرُ الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِذَاتِهِ لاَ لاَزِمِهَا، بَلْ هُوَ لِخَشْيَةِ تَفْوِيتِهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ  .

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَنَصُّوا عَلَى: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ، بِأَنْ عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي الْخَمْرِ بِشِرَاءِ الْعِنَبِ، بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ الْعِلْمُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لأِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا فَلَمْ يَصِحَّ، وَلأِنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ  .

بَيْعُ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِعْلُ مُحَرَّمٍ:

112 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْحَرَامُ، وَكُلَّ تَصَرُّفٍ يُفْضِي إِلَى مَعْصِيَةٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَيَمْتَنِعُ بَيْعُ كُلِّ شَيْءٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لاَ يَجُوزُ  .

113 - فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: بَيْعُ الأْمَةِ لأِهْلِ الْفَسَادِ، وَالأْرْضِ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً أَوْ خَمَّارَةً، وَبَيْعُ الْخَشَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ صَلِيبًا، وَالنُّحَاسُ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ نَاقُوسًا.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَكَذَا يُمْنَعُ أَنْ يُبَاعَ لِلْحَرْبِيَّيْنِ آلَةُ الْحَرْبِ، مِنْ سِلاَحٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ سَرْجٍ، وَكُلُّ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ فِي الْحَرْبِ، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ خِبَاءٍ أَوْ مَاعُونٍ.

وَأَمَّا بَيْعُ الطَّعَامِ لَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ يُونُسَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ: يَجُوزُ فِي الْهُدْنَةِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْهُدْنَةِ فَلاَ يَجُوزُ. وَالَّذِي فِي الْمِعْيَارِ عَنِ الشَّاطِبِيِّ: أَنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الَّذِي عَزَاهُ ابْنُ فَرْحُونَ فِي التَّبْصِرَةِ، وَابْنُ جُزَيٍّ فِي الْقَوَانِينِ لاِبْنِ الْقَاسِمِ.

وَذَكَرَ فِي الْمِعْيَارِ أَيْضًا عَنِ الشَّاطِبِيِّ: أَنَّ بَيْعَ الشَّمْعِ لَهُمْ مَمْنُوعٌ، إِذَا كَانُوا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى إِضْرَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لأِعْيَادِهِمْ فَمَكْرُوهٌ  .

114 - وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: بَيْعُ مُخَدِّرٍ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَعَاطَاهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ، وَخَشَبٍ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ آلَةَ لَهْوٍ، وَثَوْبِ حَرِيرٍ لِرَجُلٍ يَلْبَسُهُ بِلاَ نَحْوِ ضَرُورَةٍ. وَكَذَا بَيْعُ سِلاَحٍ لِنَحْوِ بَاغٍ وَقَاطِعِ طَرِيقٍ، وَدِيكٍ لِمَنْ يُهَارِشُ بِهِ، وَكَبْشٍ لِمَنْ يُنَاطِحُ بِهِ، وَدَابَّةٍ لِمَنْ يُحَمِّلُهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا.

كَمَا نَصَّ الشِّرْوَانِيُّ وَابْنُ قَاسِمٍ الْعَبَّادِيُّ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ مُسْلِمٍ كَافِرًا طَعَامًا، عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَأْكُلُهُ نَهَارًا فِي رَمَضَانَ، كَمَا أَفْتَى بِهِ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: لأِنَّ ذَلِكَ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ

115 - وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: بَيْعُ السِّلاَحِ لأِهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الْفِتْنَةِ، أَوْ إِجَارَةُ دَارِهِ لِبَيْعِ الْخَمْرِ فِيهَا، أَوْ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَهَذَا حَرَامٌ.

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ رحمه الله  تعالي - عَلَى مَسَائِلَ نَبَّهَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ فِي الْقَصَّابِ وَالْخَبَّازِ: إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، يَدْعُو عَلَيْهِ مَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ، لاَ يَبِيعُهُ، وَمِنْ يَخْتَرِطُ (يَصْنَعُ) الأْقْدَاحَ لاَ يَبِيعُهَا مِمَّنْ يَشْرَبُ فِيهَا (أَيِ الْخَمْرَ) وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الدِّيبَاجِ (أَيِ الْحَرِيرِ) لِلرِّجَالِ  .

116 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يُكْرَهُ بَيْعُ مَا لَمْ تَقُمِ الْمَعْصِيَةُ بِهِ، كَبَيْعِ الْكَبْشِ النَّطُوحِ، وَالْحَمَامَةِ الطَّيَّارَةِ، وَالْخَشَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُ مِنْهُ الْمَعَازِفَ. بِخِلاَفِ بَيْعِ السِّلاَحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ؛ لأِنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ، وَهِيَ الإْعَانَةُ عَلَى الإْثْمِ

وَالْعُدْوَانِ، وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. بِخِلاَفِ بَيْعِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّلاَحُ كَالْحَدِيدِ، لأِنَّهُ لَيْسَ مُعَدًّا لِلْقِتَالِ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الإْعَانَةِ.

وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، لأِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمَا، خِلاَفًا لِلإْمَامِ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، خِلاَفًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ  .

وَبَحَثَ الْحَنَفِيَّةُ نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الإْجَارَةِ ، كَمَا سَبَقَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا لَوْ آجَرَ شَخْصٌ نَفْسَهُ لِيَعْمَلَ فِي بِنَاءِ كَنِيسَةٍ، أَوْ لِيَحْمِلَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ، أَوْ لِيَرْعَى لَهُ الْخَنَازِيرَ، أَوْ آجَرَ بَيْتًا لِيُتَّخَذَ بَيْتَ نَارٍ، أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً، أَوْ يُبَاعَ فِيهِ الْخَمْرُ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأِنَّهُ لاَ مَعْصِيَةَ فِي عَيْنِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ كَشُرْبِهِ الْخَمْرَ وَبَيْعِهَا، فَفِي هَذَا يَقُولُ الْمَرْغِينَانِيُّ: إِنَّ الإْجَارَةَ  تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ (وَنَحْوِهِ) وَلِهَذَا تَجِبُ الأْجْرَةُ  بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَلاَ مَعْصِيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ، فَقَطَعَ نِسْبَتَهُ عَنْهُ  .

وَيَرَى الصَّاحِبَانِ كَرَاهَةَ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإْعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.

وَطَرَحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الضَّابِطَ: وَهُوَ أَنَّ مَا قَامَتِ الْمَعْصِيَةُ بِعَيْنِهِ، يُكْرَهُ بَيْعُهُ تَحْرِيمًا (كَبَيْعِ السِّلاَحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ) وَمَا لَمْ تَقُمْ بِعَيْنِهِ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا.

حُكْمُ بَيْعِ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ، مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْبُطْلاَنُ:

117 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) وَهُوَ أَيْضًا احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، لأِنَّهُ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا وَلاَ شَرْطًا.

غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا مَعَ ذَلِكَ، فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ السِّلاَحِ، عَلَى إِجْبَارِ الْمُشْتَرِي عَلَى إِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ.

يَقُولُ الدُّسُوقِيُّ: يُمْنَعُ أَنْ يُبَاعَ لِلْحَرْبِيَّيْنِ آلَةُ الْحَرْبِ، مِنْ سِلاَحٍ أَوْ كُرَاعٍ أَوْ سَرْجٍ، وَكُلِّ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ فِي الْحَرْبِ، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ خِبَاءٍ أَوْ مَاعُونٍ، وَيُجْبَرُونَ عَلَى إِخْرَاجِ ذَلِكَ.

كَمَا نَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ أَمَةً لِمَنْ يُكْرِهُهَا عَلَى الزِّنَى، وَدَابَّةً لِمَنْ يُحَمِّلُهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا، فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ هَذَيْنِ عَلَى مَالِكِهِمَا قَهْرًا عَلَيْهِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ بَاطِلٌ، لأِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَيْنٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا، فَلَمْ يَصِحَّ  .

ج - بَيْعُ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ:

118 - مِنْ صُوَرِهِ أَنْ يَتَرَاضَى الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى ثَمَنِ سِلْعَةٍ، فَيَجِيءَ آخَرُ، فَيَقُولَ: أَنَا أَبِيعُكَ مِثْلَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِأَنْقَصَ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ، أَوْ يَقُولَ: أَبِيعُكَ خَيْرًا مِنْهَا بِثَمَنِهَا أَوْ بِدُونِهِ - أَيْ بِأَقَلَّ مِنْهُ - أَوْ يَعْرِضَ عَلَى الْمُشْتَرِي سِلْعَةً رَغِبَ فِيهَا الْمُشْتَرِي، فَفَسَخَ الْبَيْعَ وَاشْتَرَى هَذِهِ  .

وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ»  .

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «لاَ يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ»  .

 

وَفِي لَفْظٍ: «لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، حَتَّى يَبْتَاعَ أَوْ يَذَرَ»  .

وَفِي لَفْظٍ: «لاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ»  .

وَفِي لَفْظٍ: «لاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ»  .

حُكْمُهُ:

119 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُحَرَّمٌ، لَكِنَّهُ لاَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ لِرُجُوعِ النَّهْيِ إِلَى مَعْنًى خَارِجٍ عَنِ الذَّاتِ وَعَنْ لاَزِمِهَا، إِذْ لَمْ يَفْقِدْ رُكْنًا وَلاَ شَرْطًا، لَكِنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى مُقْتَرِنٍ بِهِ، وَهُوَ خَارِجٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَهُوَ الإْيذَاءُ هُنَا. هَذَا تَعْلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَتَعْلِيلُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ عَرْضُ سِلْعَتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوْ قَوْلُهُ الَّذِي فَسَخَ الْبَيْعَ مِنْ أَجْلِهِ، وَذَلِكَ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ، وَلأِنَّهُ إِذَا صَحَّ الْفَسْخُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الضَّرَرُ، فَالْبَيْعُ الْمُحَصَّلُ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى، وَلأِنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ النَّجْشِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْبِيَاعَاتِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذِهِ الْكَرَاهَاتُ كُلُّهَا تَحْرِيمِيَّةٌ، لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا فِي الإْثْمِ، وَذَلِكَ لِلأْحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الإْيحَاشِ وَالإْضْرَارِ  .

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ حَرَامٌ، وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ لأِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإْضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ وَالإِْفْسَادِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ  .

120 - وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْبَيْعَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِمَا يَلِي:

(1أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ لُزُومِ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِبَقَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوِ الشَّرْطِ، وَكَذَا بَعْدَ اللُّزُومِ فِي زَمَنِ خِيَارِ الْعَيْبِ، إِذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ، عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ زَمَنَ الْخِيَارَيْنِ، فَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ مُضِيِّ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ لاَ يَحْرُمُ، لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْفَسْخِ إِذًا، وَلاَ مَعْنًى لَهُ.

(2أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَهُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي زَكَرِيَّا - (أَيْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ الأْوَّلِ  ، لِلَّذِي بَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ).

وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْعَ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ بِمَا إِذَا تَرَاضَى الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الْبَيْعِ  .

121 - وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ بَعْضَ الْفُرُوعِ وَالأْحْكَامِ، فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ، فَقَرَّرُوا:

أَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مَغْبُونًا فِي صَفْقَتِهِ، إِذِ النَّصِيحَةُ الْوَاجِبَةُ تَحْصُلُ بِالتَّعْرِيفِ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ. وَقَيَّدَ الْقَلْيُوبِيُّ الْحُرْمَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الرِّضَا بَاطِنًا.

مِثْلُ الْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ، أَنْ يَبِيعَ بَائِعٌ الْمُشْتَرِيَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ سِلْعَةً مِثْلَ الَّتِي اشْتَرَاهَا.

وَسَبَبُ الْمَنْعِ الْخَشْيَةَ مِنْ أَنْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ السِّلْعَةَ الأْولَى، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه.

يُمْنَعُ الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الأْمْرُ ، بِأَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ أَوْ يُعْرِضَ الْمُشْتَرِي عَنِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ أَعْرَضَ انْتَهَتْ مُدَّةُ الْمَنْعِ، وَجَازَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَبِيعَهُ.

مِثْلُ الْبَيْعِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى الْبَيْعِ غَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْعُقُودِ، كَالإْجَارَةِ  وَالْعَارِيَّةِ (أَيِ الاِسْتِعَارَةِ) وَالاِقْتِرَاضِ وَالاِتِّهَابِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُزَارَعَةِ، وَالْجَعَالَةِ. قَالَ الْحَنَابِلَةُ: فَتَحْرُمُ وَلاَ تَصِحُّ إِذَا سَبَقَتْ لِلْغَيْرِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإْيذَاءِ.

بَلْ نَصَّ الْبِرْمَاوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِكِتَابٍ (عَارِيَّةً) لِيُطَالِعَ فِيهِ، حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَسْأَلَ صَاحِبَهُ فِيهِ، أَيْ يَطْلُبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ لِيُطَالِعَ فِيهِ هُوَ أَيْضًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الإْيذَاءِ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا حُرْمَةَ طَلَبِ الْعَارِيَّةِ بَعْدَ عَقْدِهَا مُطْلَقًا  .

د - السَّوْمُ، وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ.

122 - أَمَّا السَّوْمُ عَلَى السَّوْمِ فَمِنْ صُوَرِهِ:

مَا إِذَا تَسَاوَمَ رَجُلاَنِ، فَطَلَبَ الْبَائِعُ بِسِلْعَتِهِ ثَمَنًا، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَجَاءَ مُشْتَرٍ آخَرَ، وَدَخَلَ عَلَى سَوْمِ الأْوَّلِ ، فَاشْتَرَاهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِذَلِكَ الثَّمَنِ نَفْسِهِ. لَكِنَّهُ رَجُلٌ وَجِيهٌ، فَبَاعَهُ مِنْهُ الْبَائِعُ لِوَجَاهَتِهِ.

123 - وَأَمَّا الشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ فَمِنْ صُوَرِهِ: أَنْ يَأْمُرَ شَخْصٌ الْبَائِعَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ لِيَشْتَرِيَهُ هُوَ بِأَكْثَرَ، أَوْ يَجِيءَ شَخْصٌ إِلَى الْبَائِعِ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ، لِيَدْفَعَ فِي الْمَبِيعِ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتُرِيَ بِهِ، لِيَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَعْقِدَ مَعَهُ  .

وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْعَ هَذَا الشِّرَاءِ أَوِ السَّوْمِ بِمَا إِذَا اتَّفَقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الثَّمَنِ أَوْ تَرَاضَيَا، أَوْ جَنَحَ الْبَائِعُ إِلَى الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجْنَحْ وَلَمْ يَرْضَهُ، فَلاَ بَأْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَزْيَدَ؛ لأِنَّ هَذَا بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ، وَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي.

وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْمَنْعَ بِأَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ قَبْلَ اللُّزُومِ، أَيْ زَمَنَ الْخِيَارِ - كَمَا عَبَّرَ الْقَاضِي - أَوْ يَكُونَ بَعْدَ اللُّزُومِ، وَقَدِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ - كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ -

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلِلسَّوْمِ عَلَى السَّوْمِ عِنْدَهُمْ صُوَرٌ:

الأْولَى: أَنْ يُوجَدَ مِنَ الْبَائِعِ تَصْرِيحٌ بِالرِّضَا بِالْبَيْعِ، فَهَذَا يَحْرُمُ السَّوْمُ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا فَلاَ يَحْرُمُ السَّوْمُ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ لاَ يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا أَوْ عَدَمِهِ، فَلاَ يَجُوزُ السَّوْمُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا.

الرَّابِعَةُ: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ. فَقَالَ الْقَاضِي: لاَ يَحْرُمُ السَّوْمُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَحْرُمُ  .

كَمَا قَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ وَقَعَ الإْذْنُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يَحْرُمْ؛ لأِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَقَدْ أَسْقَطَاهُ، وَلِمَفْهُومِ الْخَبَرِ السَّابِقِ: «حَتَّى يَبْتَاعَ أَوْ يَذَرَ»  .

وَقَرَّرُوا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ إِذْنُ الْمَالِكِ، لاَ الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ، إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَالِكِ، وَأَنَّ مَوْضِعَ الْجَوَازِ مَعَ الإْذْنِ إِذَا دَلَّتِ الْحَالُ عَلَى الرِّضَا بَاطِنًا، فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ ضَجَرًا وَحَنَقًا فَلاَ، كَمَا قَالَهُ الأْذْرَعِيُّ مِنْهُمْ  .

حُكْمُهُ:

124 - هَذَا الشِّرَاءُ أَوِ السَّوْمُ بِهَذِهِ الصُّوَرِ وَالْقُيُودِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لَكِنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ فِي وَجْهٍ مُحْتَمِلٍ لِلصِّحَّةِ عِنْدَهُمْ كَالْجُمْهُورِ. وَالْحَنَفِيَّةُ يَعْنُونَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، لاَ الْحُرْمَةَ.

أ - فَدَلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْوَجْهُ الْمُحْتَمَلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْحُرْمَةِ مَعَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ. حَدِيثُ «لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» الْمُتَقَدِّمُ  .

فَقَالَ الْمَحَلِّيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ الشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ.

وَأَشَارَ الْبُهُوتِيُّ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبَيْعِ، وَلأِنَّ الشِّرَاءَ يُسَمَّى بَيْعًا.

وَلأِنَّ فِيهِ إِيذَاءً، قَالَ الْمَحَلِّيُّ: الْمَعْنَى فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ: الإْيذَاءُ لِلْعَالِمِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ.

وَلأِنَّهُ إِذَا صَحَّ الْفَسْخُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الضَّرَرُ، فَالْبَيْعُ الْمُحَصِّلُ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى. وَلأِنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ النَّجْشِ  .

ب - وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْكَرَاهَةِ مَعَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَلاَ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَأَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا، وَعَنِ النَّجْشِ وَالتَّصْرِيَةِ، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ»  .

وَقَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَصٌّ فِي النَّهْيِ عَنِ الاِسْتِيَامِ، فَلاَ حَاجَةَ - كَمَا أَوْضَحَ ابْنُ الْهُمَامِ - إِلَى جَعْلِ لَفْظِ الْبَيْعِ فِي حَدِيثِ: «لاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ» جَامِعًا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَجَازًا، إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَرِدْ حَدِيثُ الاِسْتِيَامِ، وَلأِنَّ فِي ذَلِكَ إِيحَاشًا وَإِضْرَارًا بِهِ فَيُكْرَهُ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ، وَهُوَ الإِْيذَاءُ، فَكَانَ نَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعًا، فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ  .

ج - وَدَلِيلُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْبُطْلاَنِ، أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ  .

125 - وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْفُرُوعِ وَالتَّفْصِيلاَتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّوْمِ، وَالشِّرَاءِ عَلَى شِرَاءِ الآْخَرِينَ:

أ - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ السَّوْمَ عَلَى سَوْمِ الآْخَرِينَ مَكْرُوهٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَامُ عَلَيْهِ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا. وَقَالُوا: ذِكْرُ الأْخِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ قَيْدًا، بَلْ لِزِيَادَةِ التَّنْفِيرِ؛ لأِنَّ السَّوْمَ عَلَى السَّوْمِ يُوجِبُ إِيحَاشًا وَإِضْرَارًا، وَهُوَ فِي حَقِّ الأْخِ أَشَدُّ مَنْعًا، فَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الْغِيبَةِ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» إِذْ لاَ خَفَاءَ فِي مَنْعِ غِيبَةِ الذِّمِّيِّ  .

وَقَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ ذِكْرَ الرَّجُلِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الأْخِ لإِثَارَةِ الرِّقَّةِ وَالْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَسُرْعَةِ امْتِثَالِهِ، فَغَيْرُهُمَا مِثْلُهُمَا.

فَالذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُسْتَأْمَنُ مِثْلُ الْمُسْلِمِ. وَخَرَجَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ فَلاَ يَحْرُمُ  .

ب - أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ الإْجَارَةَ  بِالْبَيْعِ فِي مَنْعِ السَّوْمِ عَلَى السَّوْمِ، إِذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ  .

كَمَا أَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ جُمْلَةً مِنَ الْعُقُودِ، كَالْقَرْضِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، وَكُلُّهَا تَحْرُمُ وَلاَ تَصِحُّ لِلإْيذَاءِ  .

ج - أَلْحَقَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِالشِّرَاءِ عَلَى الشِّرَاءِ، تَحْرِيمَ طَلَبِ السِّلْعَةِ مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَكْثَرَ - وَالْبَائِعُ حَاضِرٌ - قَبْلَ اللُّزُومِ، لأِدَائِهِ إِلَى الْفَسْخِ أَوِ النَّدَمِ.

د - وَكَذَلِكَ قَاسَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَلاَمِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي التَّحْرِيمِ، مَا لَوْ طَلَبَ شَخْصٌ مِنَ الْبَائِعِ، فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، شَيْئًا مِنْ جِنْسِ السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ، بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ، لاَ سِيَّمَا إِنْ طَلَبَ مِنْهُ مِقْدَارًا لاَ يَكْمُلُ إِلاَّ بِانْضِمَامِ مَا بِيعَ مِنْهَا.

هـ - وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِحُرْمَةِ مَا ذُكِرَ، سَوَاءٌ أَبَلَغَ الْمَبِيعُ قِيمَتَهُ أَمْ نَقَصَ عَنْهَا - عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.

 و - وَتَكَلَّمُوا أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ تَعْرِيفِ الْمَغْبُونِ فِي الشِّرَاءِ بِغَبْنِهِ، فَصَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ لاَ مَحْذُورَ فِيهِ، لأِنَّهُ مِنَ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ، لَكِنَّهُ اسْتَظْهَرَ أَنَّ مَحَلَّهُ فِي غَبْنٍ نَشَأَ عَنْ نَحْوِ غِشِّ الْبَائِعِ، فَلَمْ يُبَالَ بِإِضْرَارِهِ، لأِنَّهُ آثِمٌ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا نَشَأَ لاَ عَنْ نَحْوِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ؛ لأِنَّ الْفَسْخَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَالضَّرَرُ لاَ يُزَالُ بِالضَّرَرِ.

وَصَرَّحَ الشِّرْوَانِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، وَجَبَ إِعْلاَمُ الْمُشْتَرِي بِهِ، وَهَذَا صَادِقٌ بِمَا إِذَا كَانَ الْبَائِعُ جَاهِلاً بِالْعَيْبِ، مَعَ أَنَّهُ لاَ تَقْصِيرَ مِنْهُ حِينَئِذٍ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْغَبْنِ؛ لأِنَّ الْمَلْحَظَ حُصُولُ الضَّرَرِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ هَذَا مَحَلُّ تَأَمُّلٍ، وَرَأَى أَنَّ وُجُوبَ النَّصِيحَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ تَعْرِيفِ الْمَغْبُونِ، وَإِنْ نَشَأَ الْغَبْنُ مِنْ تَقْصِيرِهِ، وَلَكِنَّهَا تَحْصُلُ بِالتَّعْرِيفِ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ  .

126 - وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ بِالْمُنَادَاةِ، وَيُسَمَّى بَيْعَ الدَّلاَلَةِ  . وَيُسَمَّى أَيْضًا: الْمُزَايَدَةَ. اسْتَثْنَوْهَا مِنَ الشِّرَاءِ عَلَى الشِّرَاءِ، وَمِنَ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ. وَهِيَ: أَنْ يُنَادَى عَلَى السِّلْعَةِ، وَيَزِيدَ النَّاسُ فِيهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى تَقِفَ عَلَى آخِرِ - زَائِدٍ فِيهَا فَيَأْخُذَهَا.

وَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ، فَصَحَّحُوهُ وَلَمْ يَكْرَهُوهُ. وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ قَصْدُ الإِْضْرَارِ بِأَحَدٍ، وَبِإِرَادَةِ الشِّرَاءِ، وَإِلاَّ حَرُمَتِ الزِّيَادَةُ، لأِنَّهَا مِنَ النَّجْشِ  .

127 - وَدَلِيلُ جَوَازِ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ:

مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ فَقَالَ لَهُ: مَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ يُلْبَسُ بَعْضُهُ، وَيُبْسَطُ بَعْضُهُ، وَقَعْبٌ يُشْرَبُ فِيهِ الْمَاءُ. قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا. فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا الأْنْصَارِيَّ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآْخَرِ قَدُومًا، فَائْتِنِي بِهِ. فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عُودًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلمهَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ»  .

قَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم لِيَبِيعَ بَيْعًا مَكْرُوهًا  .

وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَالُوا يَتَبَايَعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُزَايَدَةِ  .

وَأَنَّهُ بَيْعُ الْفُقَرَاءِ، كَمَا قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ، وَالْحَاجَةُ مَاسَةٌ إِلَيْهِ  .

وَلأِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنِ السَّوْمِ حَالَ الْبَيْعِ، وَحَالُ الْمُزَايَدَةِ خَارِجٌ عَنِ الْبَيْعِ  .

وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ (الْمُزَايَدَةِ) فِي مُصْطَلَحِهَا.

هـ - النَّجْشُ:

128 - النَّجْشُ هُوَ بِسُكُونِ الْجِيمِ مَصْدَرٌ، وَبِالْفَتْحِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَمِنْ مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ: الإْثَارَةُ. يُقَالُ: نَجَشَ الطَّائِرَ: إِذَا أَثَارَهُ مِنْ مَكَانِهِ. قَالَ الْفَيُّومِيُّ: نَجَشَ الرَّجُلُ يَنْجُشُ نَجْشًا: إِذَا زَادَ فِي سِلْعَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَلَيْسَ قَصْدُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا، بَلْ لِيَغُرَّ غَيْرَهُ، فَيُوقِعَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ.

وَأَصْلُ النَّجْشِ: الاِسْتِتَارُ؛ لأِنَّ النَّاجِشَ يَسْتُرُ قَصْدَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلصَّائِدِ: نَاجِشٌ لاِسْتِتَارِهِ  .

وَقَدْ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنْ يَزِيدَ الرَّجُلُ فِي الثَّمَنِ وَلاَ يُرِيدُ الشِّرَاءَ، لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ. أَوْ أَنْ يَمْدَحَ الْمَبِيعَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِيُرَوِّجَهُ  .

وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ، فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تَصُرُّوا الْغَنَمَ»  .

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّجْشِ»

أ - فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ حَرَامٌ، وَذَلِكَ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ، عَلَى مَا سَبَقَ. وَلِمَا فِيهِ مِنْ خَدِيعَةِ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ حَرَامٌ.

ب - وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا إِذَا بَلَغَتِ السِّلْعَةُ قِيمَتَهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ تَبْلُغْ فَلاَ يُكْرَهُ، لاِنْتِفَاءِ الْخِدَاعِ  .

ذَلِكَ حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ. أَمَّا حُكْمُهُ الْوَضْعِيُّ:

أ - فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ؛ لأِنَّ النَّجْشَ فِعْلُ النَّاجِشِ لاَ الْعَاقِدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ، وَالنَّهْيُ لِحَقِّ الآْدَمِيِّ فَلَمْ يَفْسُدِ الْعَقْدُ، كَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَبَيْعِ الْمَعِيبِ وَالْمُدَلَّسِ، بِخِلاَفِ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ؛ لأِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يَنْجَبِرُ بِالْخِيَارِ أَوْ زِيَادَةِ الثَّمَنِ.

ب - وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ النَّجْشِ، لأِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ فِي هَذَا الْبَيْعِ:

فَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: إِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِالنَّاجِشِ وَسَكَتَ، فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَلَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ، فَإِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ فَالْوَاجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى ثَمَنَ النَّجْشِ.

وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْبَائِعُ بِالنَّاجِشِ، فَلاَ كَلاَمَ لِلْمُشْتَرِي، وَلاَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَالإِْثْمُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ جَعَلُوا لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ عِنْدَ التَّوَاطُؤِ.

وَالأْصَحُّ  عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِتَفْرِيطِهِ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ أَكَانَ النَّجْشُ بِمُوَاطَأَةٍ مِنَ الْبَائِعِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، لَكِنْ إِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ غَبْنٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ فَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإْمْضَاءِ، كَمَا فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَإِنْ كَانَ يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ فَلاَ خِيَارَ لَهُ  .

وَفِيهِ أَحْكَامٌ تَفْصِيلِيَّةٌ تُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجْش).

و - تَلَقِّي الْجَلَبِ أَوِ الرُّكْبَانِ أَوِ السِّلَعِ:

129 - عَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَلَقِّي الْجَلَبِ، وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ بِتَلَقِّي السِّلَعِ. قَالَ خَلِيلٌ: كَتَلَقِّي السِّلَعِ أَوْ صَاحِبِهَا. وَعَبَّرَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنْهُمْ بِتَلَقِّي السِّلْعَةِ.

وَعَبَّرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِتَلَقِّي الرُّكْبَانِ.

وَالتَّلَقِّي: هُوَ الْخُرُوجُ مِنَ الْبَلَدِ الَّتِي يُجْلَبُ إِلَيْهَا الْقُوتُ (وَنَحْوُهُ).

وَالْجَلَبُ - بِفَتْحَتَيْنِ - بِمَعْنَى الْجَالِبِ، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْمَجْلُوبِ، فَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِتَلَقِّي السِّلَعِ فِي تَعْبِيرِ الْمَالِكِيَّةِ.

كَمَا أَنَّ الرُّكْبَانَ - فِي تَعْبِيرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - جَمْعُ رَاكِبٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِهِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، وَالْمُرَادُ الْقَادِمُ وَلَوْ وَاحِدًا أَوْ مَاشِيًا  .

حُكْمُ التَّلَقِّي التَّكْلِيفِيُّ:

130 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ التَّلَقِّي مُحَرَّمٌ، لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم: «لاَ تَلَقُّوا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ أَيْ صَاحِبُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ».

وَالْحَنَفِيَّةُ ذَهَبُوا إِلَى كَرَاهَةِ التَّلَقِّي، وَذَلِكَ لِلضَّرَرِ أَوِ الْغَرَرِ، أَوْ كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لأِنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ، وَالنَّهْيُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الإْضْرَارُ بِالْعَامَّةِ عَلَى التَّفْسِيرِ الأْوَّلِ   - الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عِنْدَهُمْ - وَتَغْرِيرُ أَصْحَابِ السِّلَعِ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَرَرٌ أَوْ غَرَرٌ فَلاَ بَأْسَ، وَلاَ يُكْرَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالْكَرْلاَنِيُّ وَالْكَاسَانِيُّ وَالزَّيْلَعِيُّ وَالْحَصْكَفِيُّ، لاِنْعِدَامِ الضَّرَرِ  .

فَقَوْلُ ابْنِ قُدَامَةَ: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ  . لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ. وَفَسْخُ الْمَكْرُوهِ - مِنَ الْبِيَاعَاتِ - وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِرَفْعِ الإْثْمِ، وَهِيَ عِنْدَ الإْطْلاَقِ عِنْدَهُمْ لِلتَّحْرِيمِ، كَمَا هُنَا، وَكَمَا فِي كُلِّ بَيْعٍ مَكْرُوهٍ.

حُكْمُ التَّلَقِّي الْوَضْعِيُّ:

131 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ التَّلَقِّي صَحِيحٌ، وَلاَ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَعَلَّلَ الصِّحَّةَ:

بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ، وَالْخِيَارُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ.

وَلأِنَّ النَّهْيَ لاَ لِمَعْنًى فِي الْبَيْعِ، بَلْ يَعُودُ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ الْخَدِيعَةِ، يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْمُصَرَّاةِ. وَفَارَقَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْخِيَارِ، إِذْ لَيْسَ الضَّرَرُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ، أَنَّ التَّلَقِّي فَاسِدٌ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ النَّهْيِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأْوَّلُ أَصَحُّ  .

ز - بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي:

132 - وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا رَوَاهُ جَابِرٌ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: «لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»  .

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَنْ يَكُونَ الْحَاضِرُ سِمْسَارًا لِلْبَادِي، لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنَ الإِْضْرَارِ بِأَهْلِ الْبَلَدِ لاِرْتِفَاعِ السِّعْرِ، وَفُسِّرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِلْمَنْعِ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلاَتٌ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ وَالصِّحَّةُ أَوِ الْبُطْلاَنُ.

وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي).

النَّوْعُ الثَّانِي: الأْسْبَابُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ عِبَادِيَّةٍ مَحْضَةٍ

أ - الْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ:

133 - أَمَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ عِنْدَ النِّدَاءِ (الأْذَانِ) يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ تَعَالَى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)  . وَالأْمْرُ  بِتَرْكِ الْبَيْعِ نَهْيٌ عَنْهُ.

وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُحَرَّمٌ لِهَذَا النَّصِّ.

غَيْرَ أَنَّ لِلْجُمُعَةِ أَذَانَيْنِ، فَعِنْدَ أَيِّ الأْذَانَيْنِ يُعْتَبَرُ مَوْرِدُ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ.

أ - فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَالطَّحَاوِيِّ، أَنَّهُ الأَْذَانُ الَّذِي جَرَى بِهِ التَّوَارُثُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَهُوَ أَذَانُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ، وَالإْمَامُ  عَلَى الْمِنْبَرِ، فَيَنْصَرِفُ النِّدَاءُ إِلَيْهِ. وَلِهَذَا قَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالأْذَانِ الثَّانِي  .

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:

مَا رُوِيَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإْمَامُ  عَلَى الْمِنْبَرِ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَكَثُرَ النَّاسُ، زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ».

وَفِي رِوَايَةٍ «زَادَ الثَّانِيَ».

وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى دَارٍ فِي السُّوق ِ»، يُقَالُ لَهَا: الزَّوْرَاءُ وَتَسْمِيَةُ الأْذَانِ الأْوَّلِ   فِي أَيَّامِنَا، أَذَانًا ثَالِثًا؛ لأِنَّ الإْقَامَةَ - كَمَا يَقُولُ ابْنُ الْهُمَامِ تُسَمَّى أَذَانًا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ» - وَلأِنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ هَذَا الأْذَانِ يَشْغَلُ عَنِ الصَّلاَةِ، وَيَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى فَوَاتِهَا، أَوْ فَوَاتِ بَعْضِهَا  .

 

ب - وَالْقَوْلُ الأْصَحُّ  وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الأْئِمَّةِ، أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْبَيْعُ عِنْدَ الأْذَانِ الأْوَّلِ   الَّذِي عَلَى الْمَنَارَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ السَّعْيُ عِنْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رحمه الله  تعالي - إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الزَّوَالِ.

وَعَلَّلُوهُ بِحُصُولِ الإْعْلاَمِ بِهِ. وَلأِنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ الأْذَانَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، يَفُوتُهُ أَدَاءُ السُّنَّةِ وَسَمَاعُ الْخُطْبَةِ، وَرُبَّمَا تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ إِذَا كَانَ بَيْتُهُ بَعِيدًا مِنَ الْجَامِعِ.

بَلْ نَقَلَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْبَحْرِ قَوْلَهُ، فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّحْطَاوِيّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ  .

ج - وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ، حَكَاهَا الْقَاضِي عَنْهُ، وَهِيَ: أَنَّ الْبَيْعَ يَحْرُمُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسِ الإْمَامُ  عَلَى الْمِنْبَرِ.

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، لَكِنَّ ابْنَ قُدَامَةَ قَرَّرَ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ مِنْ وُجُوهٍ، وَهِيَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ عَلَى النِّدَاءِ، لاَ عَلَى الْوَقْتِ. وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا إِدْرَاكُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالنِّدَاءِ عَقِيبَ جُلُوسِ الإْمَامِ  عَلَى الْمِنْبَرِ، لاَ بِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ زَوَالُ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسِ الإْمَامُ  عَلَى الْمِنْبَرِ. وَلأِنَّهُ لَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ مُعَلَّقًا بِالْوَقْتِ، لَمَا اخْتُصَّ بِالزَّوَالِ، فَإِنَّ مَا قَبْلَهُ وَقْتٌ أَيْضًا، لأِنَّ وَقْتَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ هُوَ مَا بَيْنَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ إِلَى آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ فِيهِ:

134 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ الأْذَانِ هُوَ لِلتَّحْرِيمِ، صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ، وَأَنَّ تَرْكَ الْبَيْعِ وَاجِبٌ، فَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيَصِحُّ إِطْلاَقُ الْحَرَامِ عَلَيْهِ، كَمَا عَبَّرَ الْمَرْغِينَانِيُّ وَيُفْتَرَضُ تَرْكُهُ، كَمَا عَبَّرَ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ  .

قُيُودُ تَحْرِيمِ هَذَا الْبَيْعِ:

135 - إِنَّ هَذَا النَّهْيَ الَّذِي اقْتَضَى التَّحْرِيمَ أَوِ الْكَرَاهَةَ، مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ:

أ - أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَغِلُ بِالْبَيْعِ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، فَلاَ يَحْرُمُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالصَّغِيرِ وَالْمَرِيضِ، بَلْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ قَدْ خُصَّ مِنْهُ مَنْ لاَ جُمُعَةَ عَلَيْهِ  . وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى - مِنَ الْحَنَابِلَةِ - رِوَايَتَيْنِ فِي غَيْرِ الْمُخَاطَبِينَ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ التَّحْرِيمَ خَاصٌّ بِالْمُخَاطَبِينَ بِالْجُمُعَةِ. وَذَلِكَ: لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْبَيْعِ مِنْ أَمْرِهِ بِالسَّعْيِ، فَغَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ بِالسَّعْيِ لاَ يَتَنَاوَلُهُمُ النَّهْيُ. وَلأِنَّ تَحْرِيمَ الْبَيْعِ مُعَلَّلٌ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الاِشْتِغَالِ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِمْ.

ب - وَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَغِلُ بِالْبَيْعِ عَالِمًا بِالنَّهْيِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.

ج - انْتِفَاءُ الضَّرُورَةِ إِلَى الْبَيْعِ، كَبَيْعِ الْمُضْطَرِّ مَا يَأْكُلُهُ، وَبَيْعِ كَفَنِ مَيِّتٍ خِيفَ تَغَيُّرُهُ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِلاَّ فَلاَ حُرْمَةَ، وَإِنْ فَاتَتِ الْجُمُعَةُ - كَمَا يَقُولُ الْجَمَلُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

د - أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي أَذَانِ الْخُطْبَةِ - كَمَا عَبَّرَ الْجُمْهُورُ - أَوْ عِنْدَهُ - كَمَا عَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا.

هـ - وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ لِلتَّقْيِيدِ بِغَيْرِ كَوْنِ الأْذَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ  .

قِيَاسُ غَيْرِ الْبَيْعِ مِنَ الْعُقُودِ عَلَيْهِ فِي التَّحْرِيمِ:

136 - النَّهْيُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ شَامِلٌ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَسَائِرَ الْعُقُودِ.

بَلْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ كُلِّ شَيْءٍ يُؤَدِّي إِلَى الاِشْتِغَالِ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، أَوْ يُخِلُّ بِهِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُفْسَخُ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ وَتَوْلِيَةٌ وَشَرِكَةٌ وَإِقَالَةٌ وَشُفْعَةٌ، لاَ نِكَاحٌ وَهِبَةٌ وَصَدَقَةٌ وَكِتَابَةٌ وَخُلْعٌ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الاِشْتِغَالِ بِالْعُقُودِ وَالصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا فِيهِ تَشَاغُلٌ عَنِ الْجُمُعَةِ  .

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَحْرُمُ غَيْرُ الْبَيْعِ مِنَ الْعُقُودِ، كَالإْجَارَةِ  وَالصُّلْحِ وَالنِّكَاحِ، لأِنَّهَا عُقُودُ مُعَاوَضَةٍ فَأَشْبَهَتِ الْبَيْعَ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَخْصِيصُ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَقَطْ بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ، بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الأَْذَانِ الثَّانِي، فَتَصِحُّ عِنْدَهُمْ سَائِرُ الْعُقُودِ مِنَ النِّكَاحِ وَالإْجَارَةِ  وَالصُّلْحِ وَغَيْرِهَا، مِنَ الْقَرْضِ وَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ (الْكَفَالَةِ) وَنَحْوِهَا. لأِنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ وَحْدَهُ، وَغَيْرُهُ لاَ يُسَاوِيهِ لِقِلَّةِ وُقُوعِهِ، فَلاَ تَكُونُ إِبَاحَتُهُ ذَرِيعَةً لِفَوَاتِ الْجُمُعَةِ، وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ.

وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارٌ، أَوْ فَسْخَهُ يَصِحُّ، وَلاَ يُعْتَبَرُ مُجَرَّدُ الإْمْضَاءِ وَالْفَسْخِ فِي الْخِيَارِ بَيْعًا  .

اسْتِمْرَارُ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ حَتَّى انْقِضَاءِ الصَّلاَةِ:

137 - لاَ يَكَادُ الْفُقَهَاءُ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ الأَْذَانِ، يَسْتَمِرُّ حَتَّى الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، وَمِنْ نُصُوصِهِمْ فِي ذَلِكَ:

وَيَحْرُمُ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ، مِنْ جُلُوسِ الْخَطِيبِ إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلاَةِ  . - يَسْتَمِرُّ التَّحْرِيمُ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الْجُمُعَةِ  .

وَيَسْتَمِرُّ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ وَالصِّنَاعَاتِ مِنَ الشُّرُوعِ فِي الأْذَانِ الثَّانِي أَوْ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي إِذَا سَعَى فِيهِ أَدْرَكَهَا مِنْ مَنْزِلٍ بَعِيدٍ، إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلاَةِ  .

أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الأْذَانِ:

أَوَّلاً: حُكْمُ بَيْعِ مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ مِمَّنْ لاَ تَلْزَمُهُ:

138 - قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ مُسْتَثْنًى مِنْ حُكْمِ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ عِنْدَ الأْذَانِ، إِذَا لَمْ تَجِبِ الْجُمُعَةُ عَلَيْهِمَا مَعًا فَلَوْ تَبَايَعَ اثْنَانِ مِمَّنْ لاَ تَلْزَمُهُمُ الْجُمُعَةُ، لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ يُكْرَهْ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ -

أَمَّا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ:

فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُمَا يَأْثَمَانِ جَمِيعًا؛ لأِنَّ الأْوَّلَ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ ارْتَكَبَ النَّهْيَ، وَالآْخَرَ الَّذِي لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ أَعَانَهُ عَلَيْهِ.

وَفِي قَوْلٍ ضُعِّفَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلآْخَرِ الَّذِي لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، وَلاَ يَأْثَمُ  .

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ يُفْسَخُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، حَيْثُ كَانَتْ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، وَلَوْ مَعَ مَنْ لاَ تَلْزَمُهُ  .

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ. وَيُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ لِلآْخَرِ الَّذِي لاَ تَلْزَمُهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإْعَانَةِ عَلَى الإْثْمِ  .

ثَانِيًا: حُكْمُ التَّبَايُعِ حَالَ السَّعْيِ إِلَى الْجَامِعِ وَقَدْ سَمِعَ النِّدَاءَ:

139 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بِسَبَبِ تَحْصِيلِ السَّاعِي الْمَقْصُودَ مِنَ النَّهْيِ مَعَ التَّلَبُّسِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ.

أ - فَالرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُمَا إِذَا تَبَايَعَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ، لاَ يَحْرُمُ. وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، نَقْلاً عَنِ السِّرَاجِ: لاَ يُكْرَهُ إِذَا لَمْ. يَشْغَلْهُ. وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لاَ بَأْسَ بِهِ  .

لَكِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ وَرَدَ مُطْلَقًا فَتَخْصِيصُهُ بِالرَّأْيِ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ نَسْخٌ عَلَى قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ بِالرَّأْيِ، وَعَلَّلَ انْتِفَاءَ الْكَرَاهَةِ: بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ الأَذَانِ، مُعَلَّلٌ بِالإْخْلاَلِ بِالسَّعْيِ، فَإِذَا انْتَفَى الإْخْلاَلُ بِالسَّعْيِ انْتَفَى النَّهْيُ.

وَأَنَّ النَّصَّ الْكَرِيمَ خُصَّ مِنْهُ مَنْ لاَ جُمُعَةَ عَلَيْهِ، وَالْعَامُّ إِذَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ صَارَ ظَنِّيًّا، فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ ثَانِيًا بِالرَّأْيِ، أَيْ بِالاِجْتِهَادِ  .

وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَّلُوا الْجَوَازَ: بِأَنَّ الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَشْغَلْهُمَا عَنِ السَّعْيِ، وَنَقَلُوهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما  .

ب - وَمَذْهَبُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ - كَصَاحِبِ النَّهْرِ وَالزَّيْلَعِيِّ، وَالْحَصْكَفِيِّ أَوَّلاً فِي بَابِ الْجُمُعَةِ وَالشُّرُنْبُلاَلِيِّ - وُجُوبُ تَرْكِ الْبَيْعِ، وَلَوْ مَعَ السَّعْيِ. وَصَرَّحَ صَاحِبُ النَّهْرِ بِأَنَّهُ الَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ  .

وَهَذَا نَفْسُهُ قَوْلٌ آخَرُ أَيْضًا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدُو مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوَاجِهُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِذَاتِهَا.

وَلاَ تَعْلِيلَ لِهَذَا الاِتِّجَاهِ، إِلاَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْ أَنَّهُ يُخِلُّ بِالسَّعْيِ، فَيَجِبُ تَرْكُهُ لإِطْلاَقِ الأْمْرِ . وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ  .

ثَالِثًا: حُكْمُ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ السَّعْيِ:

140 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى كَرَاهَتِهِ:

أ - فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ فِيهِ عِنْدَ الأْذَانِ الأْوَّلِ   الْوَاقِعِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنَ الْبَيْعِ مَاشِيًا إِلَى الْجُمُعَةِ.

ب - وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فِي حَقِّ مَنْ جَلَسَ لَهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، أَمَّا إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ فَقَعَدَ فِي الْجَامِعِ، أَوْ فِي مَحَلٍّ قَرِيبٍ مِنْهُ وَبَاعَ، لاَ يَحْرُمُ. لَكِنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ، وَصَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ كَلاَمَهُمْ لِلتَّحْرِيمِ أَقْرَبُ  .

ج - وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ شُرْبِ الْمَاءِ بَعْدَ النِّدَاءِ، بِثَمَنٍ حَاضِرٍ أَوْ فِي الذِّمَّةِ (كَمَا يَحْدُثُ فِي الْحَرَمَيْنِ) بَلْ أَشَارُوا إِلَى أَنَّ مُقْتَضَى عَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي النِّدَاءِ هُوَ التَّحْرِيمُ، وَخُصُوصًا إِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمَسْجِدِ، إِلاَّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هَذَا بَيْعًا حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ إِبَاحَةٌ، ثُمَّ تَقَعُ الإْنَابَةُ عَنْهَا  .

رَابِعًا: حُكْمُ الْبَيْعِ قَبْلَ الأْذَانِ الثَّانِي، بَعْدَ الزَّوَالِ

141 - الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ وَتَرْكِ الْبَيْعِ، هُوَ دُخُولُ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا قَيَّدُوا بِهِ الأْذَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَانْبَغَى بِذَلِكَ ثُبُوتُ كَرَاهَةِ الْبَيْعِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَانْتِفَاؤُهَا قَبْلَهُ  .

وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ - كَذَلِكَ - عَلَى كَرَاهَةِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، قَبْلَ الأَْذَانِ الثَّانِي وَالْجُلُوسِ لِلْخُطْبَةِ إِذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَذَلِكَ لِدُخُولِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، أَمَّا الْعَقْدُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلاَ يُكْرَهُ.

وَهَذَانِ الْحُكْمَانِ مُقَيَّدَانِ عِنْدَهُمْ، بِمَا إِذَا كَانَ الْعَاقِدُ لاَ يَلْزَمُهُ السَّعْيُ حِينَئِذٍ، وَإِلاَّ بِأَنْ كَانَ لاَ يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ إِلاَّ بِذَهَابِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَقْدُ  .

خَامِسًا: شُمُولُ النَّهْيِ كُلَّ مَا يَشْغَلُ عَنِ الْجُمُعَةِ:

142 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَحْرِيمِ أَوْ كَرَاهَةِ كُلِّ مَا يَشْغَلُ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ بَعْدَ النِّدَاءِ - عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِيهِ - وَيَجِبُ تَرْكُ كُلِّ شَيْءٍ يَشْغَلُ عَنِ السَّعْيِ إِلَيْهَا: كَإِنْشَاءِ السَّفَرِ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَالأْكْلِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَالصِّنَاعَاتِ كُلِّهَا: كَالْمُسَاوَمَةِ، وَالْمُنَادَاةِ، وَالْكِتَابَةِ، وَكَذَا الاِشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ، وَكَذَا الْمُكْثُ فِي بَيْتِهِ بِعِيَالِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْجَامِعِ عَمَلاً بِالآْيَةِ  .

سَادِسًا: هَلِ الْمُعْتَبَرُ فِي الأْذَانِ أَوَّلُهُ أَوْ تَمَامُهُ؟

143 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الأَْذَانِ بِأَوَّلِهِ لاَ بِتَمَامِهِ، فَإِنْ كَبَّرَ الْمُؤَذِّنُ حَرُمَ الْبَيْعُ؛ لأِنَّ التَّحْرِيمَ مُتَعَلِّقٌ بِالنِّدَاءِ  .

الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ فِيهِ:

144 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، يَرَوْنَ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَقَعُ صَحِيحًا؛ لأِنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ، خَارِجٍ عَنْهُ، وَهُوَ تَرْكُ السَّعْيِ، فَكَانَ الْبَيْعُ فِي الأْصْلِ مَشْرُوعًا جَائِزًا، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا، لأِنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ أَمْرٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَهُوَ تَرْكُ السَّعْيِ  .

وَيَتَفَرَّعُ عَنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ الأْمُورُ التَّالِيَةُ:

أ - عَدَمُ وُجُوبِ فَسْخِهِ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْعَدَوِيُّ: وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ يَقُولُ: لاَ فَسْخَ، وَالْبَيْعُ مَاضٍ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.

ب - وُجُوبُ الثَّمَنِ لاَ الْقِيمَةِ.

ج - ثُبُوتُ مِلْكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ  .

لَكِنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ يُفْسَخُ، وَيُرَدُّ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَفُتْ بِيَدِهِ، فَإِنْ فَاتَ - بِتَغَيُّرِ سُوقٍ - مَضَى الْعَقْدُ، وَلَزِمَ الْمُشْتَرِيَ الْقِيمَةُ حِينَ الْقَبْضِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ بِالْقِيمَةِ حِينَ الْبَيْعِ  .

وَالَّذِينَ نَصُّوا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ فَسْخِ الْبَيْعِ، أَلْحَقُوا بِهِ نَحْوَ الْبَيْعِ، مِنَ الإْجَارَةِ  وَالشَّرِكَةِ وَالإْقَالَةِ وَالشُّفْعَةِ - إِذَا أَخَذَ بِهَا، لاَ لَوْ تُرِكَتْ - لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِثْلَ: النِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ، فَلاَ يُفْسَخُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ حَرُمَ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ عِنْدَهُمْ هُوَ: أَنَّ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِمَّا فِيهِ الْعِوَضُ، يَرْجِعُ لِكُلٍّ عِوَضُهُ بِالْفَسْخِ، فَلاَ كَبِيرَ ضَرَرٍ فِيهَا، بِخِلاَفِ مَا لاَ عِوَضَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ أَصْلاً لَوْ فُسِخَ.

وَذَكَرَ الْعَدَوِيُّ فِي النِّكَاحِ عِلَّةً أُخْرَى، وَهِيَ حُصُولُ الضَّرَرِ بِفَسْخِهِ، فَرُبَّمَا يَتَعَلَّقُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِصَاحِبِهِ.

وَهِبَةُ الثَّوَابِ عِنْدَهُمْ (وَهِيَ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِشَرْطِ الْمُكَافَأَةِ كَمَا يُعَبِّرُونَ، أَوْ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ وَآخَرُونَ) كَالْبَيْعِ.

وَالْخُلْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَمْضِيَ وَلاَ يُفْسَخُ، عَلَى مُقْتَضَى الْعِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ يَبْطُلُ أَصْلاً لَوْ فُسِخَ  .

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا: بِأَنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَلاَ يَنْعَقِدُ لِلَّذِي فِي النَّصِّ الْكَرِيمِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ  .

ب - بَيْعُ الْمُصْحَفِ لِلْكَافِرِ:

145 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَمْنُوعٌ، وَصَرَّحَ جُمْهُورُهُمْ بِالْحُرْمَةِ، وَيَبْدُو مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ ثُبُوتُ الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ وَتَعْلِيلِهِمْ لِلتَّحْرِيمِ.

يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَبِيعَ لِلْكَافِرِ مُصْحَفًا أَوْ جُزْأَهُ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ؛ لأِنَّ فِيهِ امْتِهَانَ حُرْمَةِ الإْسْلاَمِ بِمِلْكِ الْمُصْحَفِ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى(وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ).

وَأَصْلُ هَذَا التَّعْلِيلِ يَرْجِعُ إِلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ».

وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ:

أ - فَالأْظْهَرُ  عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ لِكَافِرٍ، وَذَلِكَ لقوله تعالي (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإْثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وَلأِنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم «نَهَى عَنِ الْمُسَافَرَةِ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ»، فَلاَ يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْهُ. وَلأِنَّهُ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنَ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، فَمُنِعَ مِنَ ابْتِدَائِهِ كَسَائِرِ مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلِمَا فِي مِلْكِ الْكَافِرِ لِلْمُصْحَفِ وَنَحْوِهِ مِنَ الإْهَانَةِ  . وَفَرَّعَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا فَسْخَ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، وَنَسَبَ هَذَا الرَّأْيَ سَحْنُونٌ إِلَى أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ  . وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ الإْسْلاَمَ - كَمَا يَقُولُ ابْنُ جُزَيٍّ - فِي الْبَيْعِ إِلاَّ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، وَفِي شِرَاءِ الْمُصْحَفِ  .

ب - وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ بَيْعَ الْمُصْحَفِ لِلْكَافِرِ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لِحِفْظِ كِتَابِ اللَّهِ عَنِ الإْهَانَةِ - كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الطَّحَاوِيِّ - وَلأِنَّ فِيهِ امْتِهَانَ حُرْمَةِ الإْسْلاَمِ بِمِلْكِ الْمُصْحَفِ - كَمَا يَقُولُ الْخَرَشِيُّ - وَلاَ خِلاَفَ فِي التَّحْرِيمِ. كَمَا قَالَ عَمِيرَةُ  .

مُلْحَقَاتٌ بِالْبَيْعِ:

146 - وَكَمَا يُمْنَعُ بَيْعُ الْمُصْحَفِ لَهُمْ - يُمْنَعُ التَّصَدُّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَهِبَتُهُ مِنْهُمْ - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ - وَكَذَا ارْتِهَانُهُ مِنْهُمْ - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ. وَالأْوَّلُونَ يُجْبِرُونَهُمْ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِمْ كَمَا فِي الْبَيْعِ، نَصَّ عَلَيْهِ الدُّسُوقِيُّ وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَالِفَ فِيهِ الآْخَرُونَ.

مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنَ الْبَيْعِ:

147 - وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ حُكْمِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ، أَشْيَاءَ:

الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، الَّتِي نُقِشَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لِلْحَاجَةِ.

شِرَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدُّورَ، وَقَدْ كُتِبَ فِي جُدْرَانِهَا أَوْ سُقُوفِهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، فَيَكُونُ مُغْتَفَرًا لِلْمُسَامَحَةِ بِهِ غَالِبًا، إِذْ لاَ يَكُونُ مَقْصُودًا بِهِ الْقُرْآنِيَّةُ.

وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ - كَابْنِ عَبْدِ الْحَقِّ - التَّمِيمَةَ لِمَنْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ، وَكَذَا الرِّسَالَةُ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صلي الله عليه وسلم.

وَكَذَا اسْتَثْنَوْا الثَّوْبَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، لِعَدَمِ قَصْدِ الْقُرْآنِيَّةِ بِمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يُقَالَ: الْغَالِبُ فِيمَا يُكْتَبُ عَلَى الثِّيَابِ التَّبَرُّكُ بِلاَ لُبْسٍ، فَأَشْبَهَ التَّمَائِمَ، عَلَى أَنَّ فِي مُلاَبَسَتِهِ لِبَدَنِ الْكَافِرِ امْتِهَانًا لَهُ، بِخِلاَفِ مَا يُكْتَبُ عَلَى السُّقُوفِ.

وَالَّذِي يَأْمُرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِ الْكَافِرِ لِلْمُصْحَفِ، هُوَ الْحَاكِمُ لاَ آحَادُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا يُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ  .

حُكْمُ بَيْعِ الْمُسْلِمِ الْمُصْحَفَ وَشِرَائِهِ لَهُ:

148 - (أ) نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُصْحَفَ وَشِرَاءَهُ لَهُ مَكْرُوهٌ، وَالْمُرَادُ بِالْمُصْحَفِ هُنَا خَالِصُ الْقُرْآنِ. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ - كَمَا يَذْكُرُ الشَّيْخُ عَمِيرَةُ - هُوَ صَوْنُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى السِّلَعِ الْمُبْتَذَلَةِ، بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.

وَهَذَا أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ. وَلأِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنِ الاِبْتِذَالِ، وَفِي جَوَازِ شِرَائِهِ التَّسَبُّبُ إِلَى ذَلِكَ وَالْمَعُونَةُ عَلَيْهِ.

(ب) وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ الْبَيْعُ بِلاَ حَاجَةٍ دُونَ الشِّرَاءِ. وَصَرَّحَ الْقَلْيُوبِيُّ وَالْجَمَلُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ. وَعَلَّلَهُ الْجَمَلُ بِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ تَحْصِيلاً بِخِلاَفِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ تَفْوِيتٌ وَابْتِذَالٌ وَانْقِطَاعُ رَغْبَةٍ.

وَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ، هُوَ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ، وَقَرَّرَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ وَجَوَازِهِ: أَنَّهَا الْمَذْهَبُ، وَعَلَّلُوهَا بِأَنَّ الشِّرَاءَ اسْتِنْقَاذٌ لِلْمُصْحَفِ فَجَازَ، كَمَا جَازَ شِرَاءُ رِبَاعِ مَكَّةَ وَاسْتِئْجَارُ دُورِهَا، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا وَلاَ أَخْذُ أُجْرَتِهَا، وَكَذَلِكَ دَفْعُ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ لاَ يُكْرَهُ، مَعَ كَرَاهَةِ كَسْبِهِ. بَلْ جَعَلَهُ الْبُهُوتِيُّ كَشِرَاءِ الأْسِيرِ  .

ج - وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ: أَنَّ بَيْعَ الْمُصْحَفِ لاَ يَجُوزُ وَلاَ يَصِحُّ. قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ الشِّرَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا بَعْضُهُمْ. وَعَلَّلَ عَدَمَ الْجَوَازِ: - بِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لاَ أَعْلَمُ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ رُخْصَةً. - وَبِأَنَّهُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ - وَلأِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنِ الْبَيْعِ وَالاِبْتِذَالِ  .

د - وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ، أَنَّ بَيْعَ الْمُصْحَفِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ. وَأَسْنَدَ الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ بَيْعِ الْمُصْحَفِ، وَالتَّرْخِيصَ فِيهِ أَيْضًا إِلَى الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَعَلَّلُوهُ لَهُمْ، بِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ، وَبَيْعُهُ مُبَاحٌ.

وَهُنَاكَ رِوَايَتَانِ عَنِ الإْمَامِ  أَحْمَدَ فِي كَرَاهَةِ مُبَادَلَتِهِ. وَاخْتِيَارُ أَحْمَدَ جَوَازُ إِبْدَالِ الْمُصْحَفِ بِمِثْلِهِ، لأِنَّهُ لاَ يَدُلُّ عَلَى الرَّغْبَةِ عَنْهُ، وَلاَ عَلَى الاِسْتِبْدَالِ بِهِ بِعِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ، بِخِلاَفِ أَخْذِ ثَمَنِهِ  .

وَمِنْ هَذَا الْعَرْضِ يَتَّضِحُ أَنَّ لِلإْمَامِ أَحْمَدَ - بِالإْجْمَالِ - ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي بَيْعِ الْمُصْحَفِ:

الْحُرْمَةُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْجَوَازُ. وَمِثْلُهَا فِي الشِّرَاءِ. وَفِي الْمُبَادَلَةِ قَوْلاَنِ. وَأَنَّ الْمَذْهَبَ - كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ قُدَامَةَ وَالْبُهُوتِيِّ - هُوَ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ، وَعَدَمُ الصِّحَّةِ، وَهَذَا مُعَلَّلٌ أَيْضًا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: وَدِدْتُ أَنَّ الأْيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِهَا، وَلأِنَّ تَعْظِيمَهُ وَاجِبٌ، وَفِي الْبَيْعِ تَرْكُ التَّعْظِيمِ وَابْتِذَالٌ لَهُ. وَلاَ يُكْرَهُ الشِّرَاءُ لأِنَّهُ اسْتِنْقَاذٌ، وَلاَ الاِسْتِبْدَالُ بِمُصْحَفٍ آخَرَ، لأِنَّهُ لاَ دَلاَلَةَ فِيهِ عَلَى الرَّغْبَةِ عَنْهُ  .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الحادي والعشرون  ، الصفحة /  109

أَسْبَابُ ثُبُوتِ الدَّيْنِ:

22 - الأْصْلُ  بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الإْنْسَانِ مِنْ كُلِّ دَيْنٍ أَوِ الْتِزَامٍ أَوْ مَسْئُولِيَّةٍ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُنْشِئُ ذَلِكَ وَيُلْزِمُ بِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ لاَ بُدَّ لِثُبُوتِ أَيِّ دَيْنٍ مِنْ سَبَبٍ مُوجِبٍ يَقْتَضِيهِ. وَالْبَاحِثُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ يَجِدُ أَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَدِيدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَصْرُهَا فِي تِسْعَةِ أَسْبَابٍ:

23 - أَحَدُهَا: الاِلْتِزَامُ بِالْمَالِ: سَوَاءٌ أَكَانَ فِي عَقْدٍ يَتِمُّ بَيْنَ طَرَفَيْنِ كَالْبَيْعِ، وَالسَّلَمِ، وَالْقَرْضِ، وَالإْجَارَةِ ، وَالزَّوَاجِ، وَالطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ، وَالْحَوَالَةِ، وَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ، وَالاِسْتِصْنَاعِ وَنَحْوِهَا، أَوْ كَانَ فِي الْتِزَامٍ فَرْدِيٍّ يَتِمُّ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ كَنَذْرِ الْمَالِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَالْتِزَامِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .

فَفِي الْقَرْضِ مَثَلاً يَلْتَزِمُ الْمُقْتَرِضُ أَنْ يَرُدَّ لِلْمُقْرِضِ مَبْلَغًا مِنَ النُّقُودِ، أَوْ قَدْرًا مِنْ أَمْوَالٍ مِثْلِيَّةٍ يَكُونُ قَدِ اقْتَرَضَهَا مِنْهُ، وَثَبَتَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.

عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الدُّيُونِ الَّتِي تَثْبُتُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ لاَ تَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ لُزُومِهَا إِلاَّ بِقَبْضِ الْبَدَلِ الْمُقَابِلِ لَهَا، إِذْ بِهِ يَحْصُلُ الأْمْنُ  مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ إِلاَّ دَيْنًا وَاحِدًا وَهُوَ دَيْنُ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لاَزِمًا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ لاِحْتِمَالِ طُرُوءِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى انْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَسُقُوطِ الدَّيْنِ.

وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّيْنِ فِي أَيِّ عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ إِنَّمَا يَعْنِي الأَْمْنَ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ حُصُولِ الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ جِنْسِهِ وَامْتِنَاعِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ. وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِدَيْنِ السَّلَمِ دُونَ بَقِيَّةِ الدُّيُونِ؛ لِجَوَازِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ جِنْسِهَا .

الدَّيْنُ فِي ظِلِّ تَغَيُّرَاتِ النُّقُودِ:

64 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الدَّيْنِ مِنَ النُّقُودِ عِنْدَ طُرُوءِ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى النَّقْدِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ نَقْدًا بِالْخِلْقَةِ (أَيْ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ) وَمَا إِذَا كَانَ ثَابِتًا بِالاِصْطِلاَحِ (بِأَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَجَرَى الاِصْطِلاَحُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالَ النَّقْدَيْنِ) كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُمُلاَتِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

تَغَيُّرُ النُّقُودِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ نَقْدًا بِالْخِلْقَةِ:

65 - إِنَّ الدَّيْنَ الثَّابِتَ فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ عُمْلَةً ذَهَبِيَّةً أَوْ فِضِّيَّةً مُحَدَّدَةً مُسَمَّاةً فَغَلَتْ أَوْ رَخُصَتْ عِنْدَ حُلُولِ وَقْتِ الأْدَاءِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمَدِينَ أَنْ يُؤَدِّيَ غَيْرَهَا؛ لأِنَّ هَا نَقْدٌ بِالْخِلْقَةِ، وَهَذَا التَّغَيُّرُ فِي قِيمَتِهَا لاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الدَّيْنِ أَلْبَتَّةَ . وَقَدْ جَاءَ فِي (م 805) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ. «وَإِنِ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ أَوِ الْمَسْكُوكَاتِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَرَخُصَتْ أَسْعَارُهَا أَوْ غَلَتْ، فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا، وَلاَ عِبْرَةَ بِرُخْصِهَا وَغُلُوِّهَا».

وَحَتَّى لَوْ زَادَتِ الْجِهَةُ الْمُصْدِرَةُ لِهَذِهِ الْعُمْلَةِ سِعْرَهَا أَوْ نَقَصَتْهُ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمَدِينَ إِلاَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعَقْدُ .

يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: «ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَدَّدَ فِي زَمَانِنَا وُرُودُ الأْمْرِ  السُّلْطَانِيِّ بِتَغْيِيرِ سِعْرِ بَعْضٍ مِنَ النُّقُودِ الرَّائِجَةِ بِالنَّقْصِ، وَاخْتَلَفَ الإِْفْتَاءُ فِيهِ. وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَالُ الآْنَ دَفْعُ النَّوْعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا، كَمَا إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً بِمِائَةِ رِيَالٍ إِفْرِنْجِيٍّ أَوْ مِائَةِ ذَهَبٍ عَتِيقٍ ».

وَلَوْ أَبْطَلَتِ السُّلْطَةُ الْمُصْدِرَةُ لِهَذِهِ الْعُمْلَةِ التَّعَامُلَ بِهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمَدِينَ سِوَاهَا وَفَاءً بِالْعَقْدِ، إِذْ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي  «الأْمِّ» وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ . قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَمَنْ سَلَّفَ فُلُوسًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ بَاعَ بِهَا ثُمَّ أَبْطَلَهَا السُّلْطَانُ، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مِثْلُ فُلُوسِهِ أَوْ دَرَاهِمِهِ الَّتِي سَلَّفَ أَوْ بَاعَ بِهَا ».

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا أُبْطِلَتْ هَذِهِ الْعُمْلَةُ وَاسْتُبْدِلَ بِهَا غَيْرُهَا، فَيُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الْعُمْلَةِ الْمُلْغَاةِ مِنَ الذَّهَبِ، وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْقِيمَةَ ذَهَبًا .

أَمَّا إِذَا عُدِمَتْ تِلْكَ الْعُمْلَةُ أَوِ انْقَطَعَتْ أَوْ فُقِدَتْ فِي بَلَدِ الْمُتَدَايِنَيْنِ، فَتَجِبُ عِنْدَئِذٍ قِيمَتُهَا مِمَّا تَجَدَّدَ وَتَوَفَّرَ التَّعَامُلُ بِهِ مِنَ الْعُمُلاَتِ .

وَلَوْ قَلَّتْ أَوْ عَزَّ وُجُودُهَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ غَيْرُهَا لإِمْكَانِ تَحْصِيلِهَا مَعَ الْعِزَّةِ، بِخِلاَفِ انْقِطَاعِهَا وَانْعِدَامِهَا وَفَقْدِهَا . قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: «وَلَوْ بَاعَ بِنَقْدٍ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَعَيَّنَ شَيْئًا مَوْجُودًا، اتُّبِعَ وَإِنْ عَزَّ ».

وَتَجْدُرُ الإْشَارَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَى أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَيَّدُوا الْقَوْلَ بِإِلْزَامِ الدَّائِنِ بِقَبُولِ مِثْلِ النَّقْدِ الَّذِي ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَإِلْزَامِ الْمَدِينِ بِأَدَائِهِ إِذَا كَانَ مُتَوَفِّرًا - فِي حَالَتَيِ الْغَلاَءِ وَالرُّخْصِ - بِأَنْ يَكُونَ التَّعَامُلُ بِهَذَا النَّقْدِ مَسْمُوحًا بِهِ مِنْ قِبَلِ الدَّوْلَةِ.

أَمَّا إِذَا مَنَعَتِ الدَّوْلَةُ النَّاسَ مِنَ التَّعَامُلِ بِهِ، فَلاَ يُجْبَرُ الدَّائِنُ عَلَى قَبُولِهِ، وَيَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ وَقْتَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِنَ النُّقُودِ إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْ جِنْسِهِ رِبَا الْفَضْلِ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ التَّعَامُلِ بِهَذَا النَّقْدِ أَمْ لَمْ يَتَّفِقُوا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ مِنْ جِنْسِهِ رِبَا الْفَضْلِ، فَلاَ مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْوَفَاءُ بِقِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ .

تَغَيُّرُ النُّقُودِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ نَقْدًا بِالاِصْطِلاَحِ:

إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ نَقْدًا بِالاِصْطِلاَحِ لاَ بِالْخِلْقَةِ كَسَائِرِ الْعُمُلاَتِ الأْخْرَى غَيْرِ الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ، فَطَرَأَ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ عِنْدَ حُلُولِهِ، فَعِنْدَئِذٍ يُفَرَّقُ بَيْنَ خَمْسِ حَالاَتٍ:

الْحَالَةُ الأْولَى: (الْكَسَادُ الْعَامُّ لِلنَّقْدِ):

66 - وَذَلِكَ بِأَنْ تُوقِفَ الْجِهَةُ الْمُصْدِرَةُ لِلنَّقْدِ التَّعَامُلَ بِهِ، فَتُتْرَكُ الْمُعَامَلَةُ بِهِ فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِـ «كَسَادِ النَّقْدِ».

فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً بِنَقْدٍ مُحَدَّدٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ كَسَدَ ذَلِكَ النَّقْدُ قَبْلَ الْوَفَاءِ، أَوِ اسْتَدَانَ نَقْدًا مَعْلُومًا ثُمَّ كَسَدَ قَبْلَ الأْدَاءِ، أَوْ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ الْمَهْرُ الْمُؤَجَّلُ نَقْدًا مُحَدَّدًا، ثُمَّ كَسَدَ قَبْلَ حُلُولِهِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: لأِبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَ الَّذِي كَسَدَ إِذَا كَانَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ، فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَيَجِبُ الْفَسْخُ مَا دَامَ مُمْكِنًا؛  لأِنَّهُ  بِالْكَسَادِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ ثَمَنًا، حَيْثُ إِنَّ ثَمَنِيَّتَهُ ثَبَتَتْ بِالاِصْطِلاَحِ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ التَّعَامُلَ بِهِ، فَإِنَّهَا تَزُولُ عَنْهُ صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ، فَيَبْقَى الْمَبِيعُ بِلاَ ثَمَنٍ، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ دَيْنًا فِي قَرْضٍ أَوْ مَهْرًا مُؤَجَّلاً، فَيَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَاسِدًا؛  لأِنَّهُ  هُوَ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ لاَ غَيْرُهُ . حَيْثُ «إِنَّ الْقَرْضَ إِعَارَةٌ، وَمُوجِبُهَا رَدُّ الْعَيْنِ مَعْنًى، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ مِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَاسِدًا - لأِنَّ  الثَّمَنِيَّةَ زِيَادَةٌ فِيهِ، حَيْثُ إِنَّ صِحَّةَ الْقَرْضِ لاَ تَعْتَمِدُ الثَّمَنِيَّةَ، بَلْ تَعْتَمِدُ الْمِثْلِيَّةَ، وَبِالْكَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلاً، وَلِهَذَا صَحَّ اسْتِقْرَاضُهُ بَعْدَ الْكَسَادِ، وَصَحَّ اسْتِقْرَاضُ مَا لَيْسَ بِثَمَنٍ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا، وَلَوْلاَ أَنَّهُ إِعَارَةٌ فِي الْمَعْنَى لَمَا صَحَّ؛  لأِنَّهُ  يَكُونُ مُبَادَلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ نَسِيئَةً وَأَنَّهُ حَرَامٌ، فَصَارَ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ حُكْمًا، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الرَّوَاجُ كَرَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْقَرْضُ كَالْغَصْبِ إِذْ هُوَ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ ».

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لأِبِي يُوسُفَ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ رَدُّ الْمِثْلِ بَعْدَمَا كَسَدَ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ رَدُّ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ - يَوْمَ التَّعَامُلِ - مِنْ نَقْدٍ آخَرَ . وَبِهَذَا أَخَذَتِ الْمَادَّةُ:  «805 » مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: «إِذَا اسْتَقْرَضَ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنَ الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وَالنُّقُودِ غَالِبَةِ الْغِشِّ  فَكَسَدَتْ وَبَطَلَ التَّعَامُلُ بِهَا فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا يَوْمَ قَبْضِهَا لاَ يَوْمَ رَدِّهَا».

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:

أَوَّلاً: بِأَنَّ إِيقَافَ التَّعَامُلِ بِهَا مِنْ قِبَلِ الْجِهَةِ الْمُصْدِرَةِ لَهَا مَنْعٌ لِنَفَاقِهَا وَإِبْطَالٌ لِمَالِيَّتِهَا، إِذْ هِيَ أَثْمَانٌ بِالاِصْطِلاَحِ لاَ بِالْخِلْقَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ إِتْلاَفًا لَهَا، فَيَجِبُ بَدَلُهَا وَهُوَ الْقِيمَةُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الْجَوَابِرِ. ثَانِيًا: وَلأِنَّ  الدَّائِنَ قَدْ دَفَعَ شَيْئًا مُنْتَفَعًا بِهِ لأِخْذِ عِوَضٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ، فَلاَ يُظْلَمُ بِإِعْطَائِهِ مَا لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ.

قَالُوا: وَإِنَّمَا اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ يَوْمَ التَّعَامُلِ؛  لأِنَّهُ  وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ رَدُّ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّعَامُلُ مِنَ النَّقْدِ الآْخَرِ وَقْتَ الْكَسَادِ، أَيْ فِي آخِرِ نَفَاقِهَا، وَهُوَ آخِرُ مَا تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا؛  لأِنَّهُ  وَقْتُ الاِنْتِقَالِ إِلَى الْقِيمَةِ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُهُ رَدُّ مِثْلِهَا مَا دَامَتْ نَافِقَةً، فَإِذَا كَسَدَتِ انْتَقَلَ إِلَى قِيمَتِهَا حِينَئِذٍ .

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَ إِذَا كَسَدَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ وَقَبْلَ أَدَائِهِ، فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ سِوَاهُ. وَيُعْتَبَرُ هَذَا الْكَسَادُ كَجَائِحَةٍ نَزَلَتْ بِالدَّائِنِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ قَرْضًا أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ .

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: (الْكَسَادُ الْمَحَلِّيُّ لِلنَّقْدِ):

67 - وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْطُلَ التَّعَامُلُ بِالنَّقْدِ فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ لاَ فِي جَمِيعِهَا. وَمِثْلُهُ فِي عَصْرِنَا الْحَاضِرِ الْعُمُلاَتُ الَّتِي تُصْدِرُهَا بَعْضُ الدُّوَلِ وَتَمْنَعُ تَدَاوُلَهَا فِي خَارِجِ أَرَاضِيهَا. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ بِنَقْدٍ نَافِقٍ ثُمَّ كَسَدَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْبَيْعُ قَبْلَ الأْدَاءِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَفْسُدُ، وَيَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَةِ ذَلِكَ النَّقْدِ مِنْ عُمْلَةٍ رَائِجَةٍ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ .

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا كَسَدَ النَّقْدُ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا حُكْمُ الْكَسَادِ الْعَامِّ فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ اعْتِبَارًا لاِصْطِلاَحِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ .

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: (انْقِطَاعُ النَّقْدِ):

68 - وَذَلِكَ بِأَنْ يُفْقَدَ النَّقْدُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَلاَ يَتَوَفَّرَ فِي الأْسْوَاقِ لِمَنْ يُرِيدُهُ .

فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً بِنَقْدٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ انْقَطَعَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: لِلْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَدَاءَ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ فِي آخِرِ يَوْمٍ قَبْلَ الاِنْقِطَاعِ؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ مِثْلِ النَّقْدِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، فَيُصَارُ إِلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي دَيْنِ الْقَرْضِ وَغَيْرِهِ. وَإِنَّمَا اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ قُبَيْلَ الاِنْقِطَاعِ؛  لأِنَّهُ  الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِلُ الْوُجُوبُ فِيهِ مِنَ الْمِثْلِ إِلَى الْقِيمَةِ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لأِبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَدَاءُ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ يَوْمَ التَّعَامُلِ؛  لأِنَّهُ  وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لأِبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ الاِنْقِطَاعَ كَالْكَسَادِ يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ .

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْحُصُولُ عَلَى ذَلِكَ النَّقْدِ مَعَ فَقْدِهِ وَانْقِطَاعِهِ، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلاَّ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنَ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. لَكِنْ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ عِنْدَمَا يُصَارُ إِلَيْهَا: فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَجِبُ فِي وَقْتِ الْمُطَالَبَةِ .

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ  تَجِبُ فِي أَبْعَدِ الأْجَلَيْنِ مِنَ الاِسْتِحْقَاقِ - وَهُوَ حُلُولُ الأْجَلِ - وَالْعَدَمِ الَّذِي هُوَ الاِنْقِطَاعُ .

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقِيمَةَ إِنَّمَا تُقَدَّرُ وَقْتَ الْحُكْمِ .

الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: (غَلاَءُ النَّقْدِ وَرُخْصُهُ).

69 - وَذَلِكَ بِأَنْ تَزِيدَ قِيمَةُ النَّقْدِ أَوْ تَنْقُصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، اللَّذَيْنِ يُعْتَبَرَانِ الْمِقْيَاسَ الَّذِي تُقَدَّرُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ أَثْمَانُ الأْشْيَاءِ  وَقِيَمُهَا، وَيُعَدَّانِ ثَمَنًا. وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِـ «الْغَلاَءِ» «وَالرُّخْصِ» فِي هَذَا الْمَقَامِ.

فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: إِذَا تَغَيَّرَتْ قِيمَةُ النَّقْدِ غَلاَءً أَوْ رُخْصًا بَعْدَمَا ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ بَدَلاً فِي قَرْضٍ أَوْ دَيْنِ مَهْرٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَقَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يَلْزَمُ الْمَدِينَ أَدَاؤُهُ. عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الأْوَّلُ: لأِبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَدِينِ أَدَاؤُهُ هُوَ نَفْسُ النَّقْدِ الْمُحَدَّدِ فِي الْعَقْدِ وَالثَّابِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ سِوَاهُ . وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الرَّأْيِ أَوَّلاً ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لأِبِي يُوسُفَ - وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَنْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ النَّقْدِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ الْغَلاَءُ أَوِ الرُّخْصُ يَوْمَ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ نَقْدٍ رَائِجٍ. فَفِي الْبَيْعِ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَفِي الْقَرْضِ يَوْمَ الْقَبْضِ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَجْهٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ التَّغَيُّرَ إِذَا كَانَ فَاحِشًا، فَيَجِبُ أَدَاءُ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ الْغَلاَءُ أَوِ الرُّخْصُ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا فَالْمِثْلُ . قَالَ الرَّهُونِيُّ - مُعَلِّقًا عَلَى قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ الْمَشْهُورِ بِلُزُومِ الْمِثْلِ وَلَوْ تَغَيَّرَ النَّقْدُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ -: قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ جِدًّا، حَتَّى يَصِيرَ الْقَابِضُ لَهَا كَالْقَابِضِ لِمَا لاَ كَبِيرَ مَنْفَعَةٍ فِيهِ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ  الَّتِي عَلَّلَ بِهَا الْمُخَالِفُ فِي الْكَسَادِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / الثلاثون  ، الصفحة /  220

ثَالثًا - مَحَلُّ الْعَقْد.

33 - الْمُرَادُ بمَحَلّ الْعَقْد: مَا يَقَعُ عَلَيْه الْعَقْدُ وَتَظْهَرُ فيه أَحْكَامُهُ وَآثَارُهُ، وَيَخْتَلفُ الْمَحَلُّ باخْتلاَف الْعُقُود، فَقَدْ يَكُونُ الْمَحَلُّ عَيْنًا مَاليَّةً، كَالْمَبيع في عَقْد الْبَيْع، وَالْمَوْهُوب في عَقْد الْهبَة، وَالْمَرْهُون في عَقْد الرَّهْن، وَقَدْ يَكُونُ عَمَلاً منَ الأْعْمَال، كَعَمَل الأْجير في الإْجَارَة، وَعَمَل الزَّارع في الْمُزَارَعَة، وَعَمَل الْوَكيل في الْوَكَالَة، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةَ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، كَمَنْفَعَة الْمَأْجُور في عَقْد الإْجَارَة، وَمَنْفَعَة الْمُسْتَعَار في عَقْد الإْعَارَة، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلكَ كَمَا في عَقْد النّكَاح وَالْكَفَالَة وَنَحْوهمَا.

وَلهَذَا فَقَد اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ في مَحَلّ الْعَقْد شُرُوطًا تَكَلَّمُوا عَنْهَا في كُلّ عَقْدٍ وَذَكَرُوا بَعْضَ الشُّرُوط الْعَامَّة الَّتي يَجبُ تَوَافُرُهَا في الْعُقُود عَامَّةً أَوْ في مَجْمُوعَةٍ منَ الْعُقُود، منْهَا:

أ - وُجُودُ الْمَحَلّ:

34 - يَخْتَلفُ اشْترَاطُ هَذَا الشَّرْط باخْتلاَف الْعُقُود: فَفي عَقْد الْبَيْع مَثَلاً اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ في الْجُمْلَة عَلَى وُجُود الْمَحَلّ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُوجَدْ لقَوْله صلي الله عليه وسلم  : «لاَ تَبعْ مَا لَيْسَ عنْدَكَ» ؛ وَلأنَّ  في بَيْع مَا لَمْ يُوجَدْ غَرَرًا وَجَهَالَةً فَيُمْنَعُ، لحَديث: أَنَّ «النَّبيَّ صلي الله عليه وسلم  نَهَى عَنْ بَيْع الْغَرَر» وَعَلَى ذَلكَ صَرَّحُوا ببُطْلاَن بَيْع الْمَضَامين وَالْمَلاَقيح وَحَبَل الْحُبْلَة.

وَمَنَعُوا منْ بَيْع الزُّرُوع وَالثّمَار قَبْلَ ظُهُورهَا، لقَوْله صلي الله عليه وسلم  : «أَرَأَيْتَ إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخيه ؟».

وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ منْ بَيْع الْمَعْدُوم عَقْدَ السَّلَم وَذَلكَ لحَاجَة النَّاس إلَيْه  كَمَا اسْتَثْنَى الْحَنَفيَّةُ منْ ذَلكَ عَقْدَ الاسْتصْنَاع للدَّليل نَفْسه ر: (اسْتصْنَاع ف 7).

أَمَّا بَيْعُ الزَّرْع أَو الثَّمَر قَبْلَ ظُهُورهمَا فَلاَ يَجُوزُ؛ لأنَّهُ مَعْدُومٌ وَلاَ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَعْدُوم، أَمَّا بَعْدَ الظُّهُور وَقَبْلَ بُدُوّ الصَّلاَح فَإنْ كَانَ الثَّمَرُ أَو الزَّرْعُ بحَالٍ يُنْتَفَعُ بهمَا فَيَجُوزُ الْبَيْعُ بشَرْط الْقَطْع في الْحَال اتّفَاقًا لعَدَم الْغَرَر في ذَلكَ، وَلاَ يَجُوزُ بغَيْر شَرْط الْقَطْع عنْدَ جُمْهُور الْفُقَهَاء.

وَاخْتَلَفُوا في بَيْع الثّمَار الْمُتَلاَحقَة الظُّهُور وَتَفْصيلُ ذَلكَ في مُصْطَلَح: (ثمَار ف 11 - 13).

وَفي عَقْد الإْجَارَة اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاء الْمَنَافعَ أَمْوَالاً، وَاعْتَبَرَهَا كَذَلكَ الشَّافعيَّةُ وَالْحَنَابلَةُ مَوْجُودَةً حينَ الْعَقْد تَقْديرًا، فَيَصحُّ التَّعَاقُدُ عَلَيْهَا بنَاءً عَلَى وُجُود الْمَنَافع حينَ الْعَقْد عنْدَهُمْ، وَلهَذَا يَقُولُونَ بنَقْل ملْكيَّة الْمَنَافع للْمُسْتَأْجر وَالأْجْرَة للْمُؤَجّر بنَفْس الْعَقْد في الإْجَارَة الْمُطْلَقَة.

وَعَلَّلَ الْمَالكيَّةُ جَوَازَ الإْجَارَة بأَنَّ الْمَنَافعَ وَإنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً في حَال الْعَقْد لَكنَّهَا مُسْتَوْفَاةٌ في الْغَالب، وَالشَّرْعُ إنَّمَا لَحَظَ منَ الْمَنَافع مَا يُسْتَوْفَى في الْغَالب أَوْ يَكُونُ اسْتيفَاؤُهُ وَعَدَمُ اسْتيفَائه سَوَاءً.

أَمَّا الْحَنَفيَّةُ فَقَدْ أَجَازُوا عَقْدَ الإْجَارَة اسْتثْنَاءً منَ الْقَاعدَة؛ لوُرُود النُّصُوص منَ الْكتَاب وَالسُّنَّة في جَوَاز الإْجَارَة، قَالَ الْكَاسَانيُّ: الإْجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَة، وَالْمَنَافعُ للْحَال مَعْدُومَةٌ، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَحْتَملُ الْبَيْعَ، فَلاَ تَجُوزُ إضَافَةُ الْبَيْع إلَى مَا يُؤْخَذُ في الْمُسْتَقْبَل، وَهَذَا هُوَ الْقيَاسُ، لَكنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بالْكتَاب الْعَزيز وَالسُّنَّة وَالإْجْمَاع.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيّم: جَوَازُ الإْجَارَة مُوَافقَةٌ للْقيَاس؛ لأنَّ  مَحَلَّ الْعَقْد إذَا أَمْكَنَ التَّعَاقُدُ عَلَيْه في حَال وُجُوده وَعَدَمه - كَالأَْعْيَان - فَالأَْصْلُ فيه عَدَمُ جَوَاز الْعَقْد حَالَ عَدَمه للْغَرَر، مَعَ ذَلكَ جَازَ الْعَقْدُ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ إذَا دَعَتْ إلَيْه الْحَاجَةُ.

أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلاَّ حَالٌ وَاحدَةٌ، وَالْغَالبُ فيه السَّلاَمَةُ - كَالْمَنَافع - فَلَيْسَ الْعَقْدُ عَلَيْه مُخَاطَرَةً وَلاَ قمَارًا فَيَجُوزُ، وَقيَاسُهُ عَلَى بَيْع الأَْعْيَان قيَاسٌ مَعَ الْفَارق.

35 - وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاء في هَذَا الشَّرْط بَيْنَ عُقُود الْمُعَاوَضَة وَعُقُود التَّبَرُّع، فَقَالُوا بعَدَم جَوَاز النَّوْع الأْوَّل منَ الْعُقُود في حَال عَدَم وُجُود مَحَلّهَا، وَأَجَازُوا النَّوْعَ الثَّانيَ في حَالَة وُجُود الْمَحَلّ وَعَدَمه.

وَمنْ هَذَا الْقَبيل مَا قَالَ الْمَالكيَّةُ: إنَّ مَا يَخْتَصُّ بعُقُود التَّبَرُّعَات كَالْهبَة مَثَلاً يَجُوزُ فيه أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ الْعَقْد (الْمَوْهُوبُ) غَيْرَ مَوْجُودٍ في الْخَارج، بَلْ دَيْنًا في الذّمَّة، أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ فعْلاً، فَالْغَرَرُ في الْهبَة لغَيْر الثَّوَاب جَائزٌ عنْدَهُمْ، وَلهَذَا صَرَّحُوا بأَنَّ مَنْ وَهَبَ لرَجُلٍ مَا يَرثُهُ منْ فُلاَنٍ - وَهُوَ لاَ يَدْري كَمْ هُوَ ؟ أَسُدُسٌ أَوْ رُبُعٌ فَذَلكَ جَائزٌ.

وَفي الرَّهْن يَجُوزُ عنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ الْعَقْد (الْمَرْهُونُ) غَيْرَ مَوْجُودٍ حينَ الْعَقْد، كَثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا، فَشَيْءٌ يُوثَقُ به خَيْرٌ منْ عَدَمه، كَمَا يَقُولُونَ .

وَهَذَا بخلاَف عَقْد الْبَيْع وَسَائر الْعُقُود في الْمُعَاوَضَات.

ب - قَابليَّةُ الْمَحَلّ لحُكْم الْعَقْد :

36 - يُشْتَرَطُ في مَحَلّ الْعَقْد عنْدَ الْفُقَهَاء أَنْ يَكُونَ قَابلاً لحُكْم الْعَقْد.

وَالْمُرَادُ بحُكْم الْعَقْد: الأْثَرُ الْمُتَرَتّبُ عَلَى الْعَقْد، وَيَخْتَلفُ هَذَا حَسْبَ اخْتلاَف الْعُقُود، فَفي عَقْد الْبَيْع مَثَلاً أَثَرُ الْعَقْد هُوَ انْتقَالُ ملْكيَّة الْمَبيع منَ الْبَائع إلَى الْمُشْتَري، وَيُشْتَرَطُ فيه أَنْ يَكُونَ مَالاً مُتَقَوّمًا مَمْلُوكًا للْبَائع، فَمَا لَمْ يَكُنْ مَالاً بالْمَعْنَى الشَّرْعيّ: وَهُوَ مَا يَميلُ إلَيْه الطَّبْعُ وَيَجْري فيه الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ لاَ يَصحُّ بَيْعُهُ، كَبَيْع الْمَيْتَة مَثَلاً عنْدَ الْمُسْلمينَ. وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوّمًا، أَيْ: مُنْتَفَعًا به شَرْعًا، كَبَيْع الْخَمْر وَالْخنْزير، فَإنَّهُمَا وَإنْ كَانَا مَالاً عنْدَ غَيْر الْمُسْلمينَ، لَكنَّهُمَا لَيْسَا مُتَقَوّمَيْن عنْدَ الْمُسْلمينَ، فَحَرُمَ بَيْعُهُمَا كَمَا وَرَدَ في حَديث جَابرٍ رضي الله عنه  : «إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْر وَالْمَيْتَة وَالْخنْزير»

وَفي عُقُود الْمَنْفَعَة كَعَقْد الإْجَارَة وَالإْعَارَة وَنَحْوهمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْعَقْد - أَي الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا - مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً مُبَاحَةً، فَلاَ تَجُوزُ الإْجَارَةُ عَلَى الْمَنَافع الْمُحَرَّمَة كَالزّنَا وَالنَّوْح وَنَحْوهمَا كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ في مُصْطَلَح: (إجَارَة ف 108).

وَكَمَا لاَ يَجُوزُ إجَارَةُ الْمَنَافع الْمُحَرَّمَة لاَ يَجُوزُ إعَارَتُهَا كَذَلكَ؛ لأنَّ  منْ شُرُوط صحَّة الْعَاريَّة إمْكَانُ الانْتفَاع بمَحَلّ الْعَقْد (الْمُعَار أَو الْمُسْتَعَار) انْتفَاعًا مُبَاحًا شَرْعًا مَعَ بَقَاء عَيْنه، كَالدَّار للسُّكْنَى، وَالدَّابَّة للرُّكُوب، مَثَلاً فَلاَ يَجُوزُ إعَارَةُ الْفُرُوج للاسْتمْتَاع، وَلاَ آلاَت الْمَلاَهي للَّهْو، كَمَا لاَ تَصحُّ الإْعَارَةُ للْغنَاء أَو الزَّمْر أَوْ نَحْوهمَا منَ الْمُحَرَّمَات، فَالإْعَارَةُ لاَ تُبيحُ مَا لاَ يُبيحُهُ الشَّرْعُ.

وَتَفْصيلُهُ في مُصْطَلَح: (عَاريَّةً).

وَفي عَقْد الْوَكَالَة يُشْتَرَطُ في الْمَحَلّ (الْمُوَكَّل به) أَنْ يَكُونَ قَابلاً للانْتقَال للْغَيْر وَالتَّفْويض فيه، وَلاَ يَكُونَ خَاصًّا بشَخْص الْمُوَكّل، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ في مُصْطَلَح: (وَكَالَة).

ج - مَعْلُوميَّةُ الْمَحَلّ للْعَاقدَيْن :

37 - يُشْتَرَطُ في الْمَحَلّ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا وَمَعْرُوفًا للْعَاقدَيْن، بحَيْثُ لاَ يَكُونُ فيه جَهَالَةٌ تُؤَدّي إلَى النّزَاع وَالْغَرَر.

وَيَحْصُلُ الْعلْمُ بمَحَلّ الْعَقْد بكُلّ مَا يُمَيّزُهُ عَن الْغَيْر منْ رُؤْيَته أَوْ رُؤْيَة بَعْضه عنْدَ الْعَقْد، أَوْ بوَصْفه وَصْفًا يَكْشفُ عَنْهُ تَمَامًا، أَوْ بالإْشَارَة إلَيْه.

وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْه عنْدَ الْفُقَهَاء في عُقُود الْمُعَاوَضَة في الْجُمْلَة، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ منَ الْقَطيع مَثَلاً وَلاَ إجَارَةُ إحْدَى هَاتَيْن الدَّارَيْن، وَذَلكَ لأنَّ  الْجَهَالَةَ في مَحَلّ الْعَقْد: (الْمَعْقُود عَلَيْه) تُسَبّبُ الْغَرَرَ وَتُفْضي إلَى النّزَاع.

وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاء في هَذه الْمَسْأَلَة بَيْنَ الْجَهَالَة الْفَاحشَة - وَهيَ الَّتي تُفْضي إلَى النّزَاع - وَبَيْنَ الْجَهَالَة الْيَسيرَة - وَهيَ: الَّتي لاَ تُفْضي إلَى النّزَاع - فَمَنَعُوا الأُْولَى وَأَجَازُوا الثَّانيَةَ.

وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاء الْعُرْفَ حَكَمًا في تَعْيين مَا تَقَعُ عَلَيْه الإْجَارَةُ منْ مَنْفَعَةٍ، وَتَمْييز الْجَهَالَة الْفَاحشَة عَن الْجَهَالَة الْيَسيرَة.

وَتَفْصيلُ ذَلكَ في مُصْطَلَحَيْ: (بَيْع ف 32) (وَالإْجَارَةُ ف 34).

وَفي عَقْد السَّلَم يُشْتَرَطُ في الْمَحَلّ: (الْمُسْلَم فيه) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجنْس وَالنَّوْع وَالصّفَة وَالْقَدْر، كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ عَدًّا أَوْ ذَرْعًا، وَذَلكَ لأنَّ  الْجَهَالَةَ في كُلٍّ منْهَا تُفْضي إلَى الْمُنَازَعَة وَقَدْ وَرَدَ في الْحَديث عَن النَّبيّ صلي الله عليه وسلم  أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ في تَمْرٍ فَلْيُسْلفْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ».

وَللتَّفْصيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (سَلَم).

هَذَا في عُقُود الْمُعَاوَضَة.

38 - أَمَّا عُقُودُ التَّبَرُّع فَقَد اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ في جَوَاز كَوْن الْمَحَلّ مَجْهُولاً، وَمنْ أَمْثلَة ذَلكَ مَا يَأْتي:

1 - عَقْدُ الْهبَة.

39 - يَشْتَرطُ الْحَنَفيَّةُ وَالشَّافعيَّةُ وَالْحَنَابلَةُ في الْمَوْهُوب - وَهُوَ مَحَلُّ عَقْد الْهبَة - أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمُعَيَّنًا، قَالَ الْحَصْكَفيُّ: شَرَائطُ صحَّة الْهبَة في الْمَوْهُوب: أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا، غَيْرَ مُشَاعٍ، مُمَيَّزًا، غَيْرَ مَشْغُولٍ، فَلاَ تَصحُّ هبَةُ لَبَنٍ في ضَرْعٍ، وَصُوفٍ عَلَى غَنَمٍ، وَنَخْلٍ في أَرْضٍ، وَتَمْرٍ في نَخْلٍ.

وَقَالَ الشّرْبينيُّ الْخَطيبُ: كُلُّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ تَجُوزُ هبَتُهُ، وَكُلُّ مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لاَ تَجُوزُ هبَتُهُ، كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ لغَيْر قَادرٍ عَلَى انْتزَاعه، وَضَالٍّ وَآبقٍ.

أَمَّا الْمَالكيَّةُ فَقَدْ تَوَسَّعُوا فيهَا، فَأَجَازُوا هبَةَ الْمَجْهُول وَالْمُشَاع، جَاءَ في الْفَوَاكه الدَّوَاني: أَنَّ شَرْطَ الشَّيْء الْمُعْطَى أَنْ يَكُونَ ممَّا يَقْبَلُ النَّقْلَ في الْجُمْلَة، فَيَشْمَلُ الأْشْيَاءَ الْمَجْهُولَةَ.

وَللتَّفْصيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (هبَة) .

2 - عَقْدُ الْوَصيَّة.

40 - تَصحُّ وَصيَّةُ الْمُوصي بجُزْءٍ أَوْ سَهْمٍ منْ مَاله وَلَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَمَا صَرَّحَ به الْحَنَفيَّةُ، وَفي هَذه الصُّورَة يَكُونُ الْبَيَانُ إلَى الْوَرَثَة؛ لأنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَليلَ وَالْكَثيرَ، وَالْوَصيَّةُ لاَ تَمْتَنعُ بالْجَهَالَة.

وَأَجَازَ الْحَنَابلَةُ الْوَصيَّةَ بالْحَمْل إنْ كَانَ مَمْلُوكًا للْمُوصي، وَالْغَرَرُ وَالْخَطَرُ لاَ يَمْنَعُ صحَّةَ الْوَصيَّة عنْدَهُمْ

كَمَا أَجَازَ الشَّافعيَّةُ الْوَصيَّةَ بالْمَجْهُول، كَالْحَمْل الْمَوْجُود في الْبَطْن مُنْفَردًا عَنْ أُمّه أَوْ مَعَهَا، وَكَالْوَصيَّة باللَّبَن في الضَّرْع، وَالصُّوف عَلَى ظَهْر الْغَنَم.

وَللتَّفْصيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وَصيَّة).

41 - هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافيُّ في فُرُوقه الْفَرْقَ بَيْنَ قَاعدَة مَا تُؤَثّرُ فيه الْجَهَالاَتُ وَمَا لاَ تُؤَثّرُ فيه ذَلكَ منَ الْعُقُود وَالتَّصَرُّفَات فَقَالَ: وَرَدَت الأْحَاديثُ الصَّحيحَةُ في نَهْيه صلي الله عليه وسلم  عَنْ بَيْع الْغَرَر وَعَنْ بَيْع الْمَجْهُول، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلكَ: فَمنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ في التَّصَرُّفَات - وَهُوَ الشَّافعيُّ - فَمَنَعَ منَ الْجَهَالَة في الْهبَة وَالصَّدَقَة وَالإْبْرَاء وَالْخُلْع وَالصُّلْح وَغَيْر ذَلكَ، وَمنْهُمْ مَنْ فَصَلَ - وَهُوَ مَالكٌ - بَيْنَ قَاعدَة مَا يُجْتَنَبُ فيه الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَات وَالتَّصَرُّفَات الْمُوجبَة لتَنْميَة الأَْمْوَال مَا يُقْصَدُ به تَحْصيلُهَا، وَقَاعدَة مَا لاَ يُجْتَنَبُ فيه الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ وَهُوَ مَا لاَ يُقْصَدُ لذَلكَ، وَانْقَسَمَت التَّصَرُّفَاتُ عنْدَهُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: طَرَفَان وَوَاسطَةٌ، فَالطَّرَفَان أَحَدُهُمَا: مُعَاوَضَةٌ صرْفَةٌ فَيُجْتَنَبُ فيهَا ذَلكَ إلاَّ مَا دَعَت الضَّرُورَةُ إلَيْه... وَثَانيهمَا: مَا هُوَ إحْسَانٌ صرْفٌ لاَ يُقْصَدُ به تَنْميَةُ الْمَال كَالصَّدَقَة وَالْهبَة وَالإْبْرَاء.

فَفي الْقسْم الأْوَّل: إذَا فَاتَ بالْغَرَر وَالْجَهَالاَت ضَاعَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ في مُقَابَلَته فَاقْتَضَتْ حكْمَةُ الشَّرْع مَنْعَ الْجَهَالَة فيه، أَمَّا الْقسْمُ الثَّاني - أَي: الإْحْسَانُ الصّرْفُ - فَلاَ ضَرَرَ فيه، فَاقْتَضَتْ حكْمَةُ الشَّرْع وَحَثُّهُ عَلَى الإْحْسَان التَّوْسعَةَ فيه بكُلّ طَريقٍ، بالْمَعْلُوم وَالْمَجْهُول فَإنَّ ذَلكَ أَيْسَرُ لكَثْرَة وُقُوعه قَطْعًا، وَفي الْمَنْع منْ ذَلكَ وَسيلَةٌ إلَى تَقْليله فَإذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدَهُ الآْبقَ جَازَ أَنْ يَجدَهُ فَيَحْصُلَ لَهُ مَا يَنْتَفعُ به، وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْه؛ لأنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا، وَهَذَا فقْهٌ جَميلٌ.

ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْوَاسطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْن فَهُوَ النّكَاحُ، فَهُوَ منْ جهَة أَنَّ الْمَالَ فيه لَيْسَ مَقْصُودًا، وَإنَّمَا مَقْصدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالأْلْفَةُ وَالسُّكُونُ، يَقْتَضي أَنْ يَجُوزَ فيه الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا، وَمنْ جهَة أَنَّ صَاحبَ الشَّرْع اشْتَرَطَ فيه الْمَالَ بقَوْله تَعَالَى: ( أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوَالكُمْ) يَقْتَضي امْتنَاعَ الْجَهَالَة وَالْغَرَر فيه، فَلوُجُود الشَّبَهَيْن تَوَسَّطَ مَالكٌ فَجَوَّزَ فيه الْغَرَرَ الْقَليلَ دُونَ الْكَثير، نَحْوَ عَبْدٍ منْ غَيْر تَعَيُّنٍ، وَشُورَة (أَثَاث) بَيْتٍ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَى الْعَبْد الآْبق، وَالْبَعير الشَّارد .

د - الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْليم.

42 - يُشْتَرَطُ في مَحَلّ الْعَقْد أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْليم، وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَلُّ اتّفَاقٍ في عُقُود الْمُعَاوَضَة في الْجُمْلَة، فَالْحَيَوَانُ الضَّالُّ الشَّاردُ وَنَحْوُهُ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لعَقْد الْبَيْع أَو الإْجَارَة أَو الصُّلْح أَوْ نَحْوهَا، وَكَذَلكَ الدَّارُ الْمَغْصُوبَةُ منْ غَيْر غَاصبهَا، أَو الأَْرْضُ أَوْ أَيْ شَيْءٍ آخَرُ تَحْتَ يَد الْعَدُوّ.

قَالَ الْكَاسَانيُّ: منْ شُرُوط الْمَبيع أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْليم عنْدَ الْعَقْد، فَإنْ كَانَ مَعْجُوزَ التَّسْليم عنْدَهُ لاَ يَنْعَقدُ، وَإنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَبَيْع الآْبق حَتَّى لَوْ ظَهَرَ يَحْتَاجُ إلَى تَجْديد الإْيجَاب وَالْقَبُول إلاَّ إذَا تَرَاضَيَا فَيَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً بالتَّعَاطي.

وَقَالَ في شُرُوط الْمُسْتَأْجَر: منْ شُرُوطه أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الاسْتيفَاء حَقيقَةً وَشَرْعًا؛ لأنَّ  الْعَقْدَ لاَ يَقَعُ وَسيلَةً إلَى الْمَعْقُود عَلَيْه بدُونه، فَلاَ يَجُوزُ اسْتئْجَارُ الآْبق، وَلاَ إجَارَةُ الْمَغْصُوب منْ غَيْر الْغَاصب.

وَفي الْمَنْثُور للزَّرْكَشيّ: منْ حُكْم الْعُقُود اللاَّزمَة أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْه مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْليمه في الْحَال، وَالْجَائزُ قَدْ لاَ يَكُونُ كَذَلكَ كَالْجَعَالَة تُعْقَدُ عَلَى رَدّ الآْبق.

وَقَالَ النَّوَويُّ في بَيَان شُرُوط الْمَبيع: الثَّالثُ: إمْكَانُ تَسْليمه، فَلاَ يَصحُّ بَيْعُ الضَّالّ وَالآْبق وَالْمَغْصُوب، وَعَلَّلَهُ الشّرْبينيُّ الْخَطيبُ بقَوْله: للْعَجْز عَنْ تَسْليم ذَلكَ حَالاً.

وَمثْلُهُ مَا في كُتُب بَقيَّة الْمَذَاهب.

أَمَّا في عُقُود التَّبَرُّع فَأَجَازَ الْمَالكيَّةُ هبَةَ الآْبق وَالْحَيَوَان الشَّارد، مَعَ أَنَّهُمَا غَيْرُ مَقْدُورَي التَّسْليم حينَ الْعَقْد؛ لأنَّهُ إحْسَانٌ صرْفٍ، فَإذَا وَجَدَهُ وَتَسَلَّمَهُ يَسْتَفيدُ منْهُ، وَإلاَّ لاَ يَتَضَرَّرُ كَمَا قَالَ الْقَرَافيُّ، وَأَجَازَ الشَّافعيَّةُ الْوَصيَّةَ فيمَا يَعْجزُ عَنْ تَسْليمه وَقَالَ ابْنُ الْقَيّم في عُقُود التَّبَرُّع: لاَ غَرَرَ في تَعَلُّقهَا بالْمَوْجُود وَالْمَعْدُوم وَمَا يَقْدرُ عَلَى تَسْليمه وَمَا لاَ يَقْدرُ

 

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  الحادي والأربعون ، الصفحة / 192

إِقْرَاضُ النُّقُودِ:

40 - يَجُوزُ إِقْرَاضُ النُّقُودِ سَوَاءٌ كَانَتْ ذَهَبِيَّةً أَوْ فِضِّيَّةً أَوْ فُلُوسًا.

وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ، أَوْ أَجْوَدَ مِمَّا أَعْطَاهُ، أَوْ يَرُدَّ صِحَاحًا عَنْ مُكَسَّرَةٍ. فَإِنْ رَدَّ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه :«خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»  قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَلَوْ نَوَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَانَ مَكْرُوهًا، وَلَوْ لِمَنْ عُرِفَ بِالرَّدِّ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْحُرْمَةِ .

وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأْشْبَاهِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَرُدَّ أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَعُرِفَ ذَلِكَ عَنْهُ فَلاَ يَحْرُمُ إِقْرَاضُهُ عَلَى الأْصَحِّ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ .

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (قَرْض ف 24 وَمَا بَعْدَهَا).

رَهْنُ النُّقُودِ:

41 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ رَهْنِ النُّقُودِ.

ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ الاِسْتِيفَاءِ مِنْهَا، فَإِنْ رُهِنَتْ بِجِنْسِهَا فَهَلَكَتْ سَقَطَ مِثْلُهَا مِنَ الدَّيْنِ؛ لأِنَّ  الاِسْتِيفَاءَ حَصَلَ، وَلاَ فَائِدَةَ فِي تَضْمِينِهِ الْمِثْلَ؛ لأِنَّهُ مِثْلِيٌّ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ قَضَاءً.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يَجُوزُ رَهْنُ النُّقُودِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ فِي يَدِ عَدْلٍ أَوْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَاشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ رَهْنِهَا أَنْ يَخْتِمَ عَلَيْهَا خَتْمًا مُحْكَمًا بِحَيْثُ مَتَى أُزِيلَ الْخَتْمُ عُرِفَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطُوا ذَلِكَ حِمَايَةً لِلذَّرِيعَةِ، لاِحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا قَصَدَا بِهِ السَّلَفَ، وَسَمَّيَاهُ رَهْنًا، وَالسَّلَفُ مَعَ الْمُدَايَنَةِ مَمْنُوعٌ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا فِيمَا إِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ أَوِ الْحَاكِمُ الْمَرْهُونَ، وَكَمَا إِذَا بَاعَ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ رَهْنًا .

إِعَارَةُ النُّقُودِ:

42 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ جَوَازَ إِعَارَةِ النُّقُودِ.

ثُمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَارِيَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ قَرْضٌ تَغْلِيبًا لِلْمَعْنَى عَلَى اللَّفْظِ، وَهَذَا إِذَا أُطْلِقَ الْعَارِيَةُ، فَأَمَّا إِذَا بَيَّنَ الْجِهَةَ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِيهَا، كَمَا إِذَا اسْتَعَارَهَا لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانَهُ أَوْ يُجَمِّلَ بِهَا دُكَّانَهُ أَوْ لِتَجَمُّلِ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ تَنْقَلِبُ بِهِ أَعْيَانُهَا، لاَ يَكُونُ قَرْضًا، بَلْ يَكُونُ عَارِيَةً تُمْلَكُ بِهَا الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ دُونَ غَيْرِهَا، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ مَا سَمَّاهُ لَهُ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِعَارَةَ النُّقُودِ قَرْضٌ لاَ عَارِيَةٌ وَإِنْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ الْعَارِيَةِ؛ لأِنَّ  الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَارِيَةِ الاِنْتِفَاعُ بِهَا مَعَ رَدِّ عَيْنِهَا لِرَبِّهَا، وَالنُّقُودُ إِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ ذَهَابِ عَيْنِهَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجُوزُ إِعَارَةُ النَّقْدِ لَوْ صَرَّحَ بِإِعَارَتِهِ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ أَوِ الطَّبْعِ عَلَى طَبْعِهِ، وَلَوْ نَوَى ذَلِكَ كَفَى. أَمَّا فِي حَالِ الإْطْلاَقِ فَلاَ تَصِحُّ الْعَارِيَةُ عِنْدَهُمْ؛ لأِنَّ  مُعْظَمَ الْقَصْدِ مِنَ النَّقْدِ الإْنْفَاقُ .

إِجَارَةُ النُّقُودِ:

43 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ إِجَارَةِ النُّقُودِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، كَالتَّحَلِّي وَالْوَزْنِ؛ لأِنَّهُ نَفْعٌ مُبَاحٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ النُّقُودَ لاَ تَصِحُّ إِجَارَتُهَا لِلضَّرْبِ عَلَى صُورَتِهَا، أَوْ لِلتَّزَيُّنِ بِهَا أَوِ الْوَزْنِ بِهَا؛ لأِنَّ هَا مَنَافِعُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ غَالِبًا بِدَلِيلِ عَدَمِ ضَمَانِ غَاصِبِهَا أُجْرَتَهَا، وَهَذَا عَلَى الأْصَحِّ عِنْدَهُمْ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُصَرَّحْ بِالتَّزْيِينِ وَنَحْوِهِ فَلاَ تَصِحُّ إِجَارَتُهَا جَزْمًا. فَإِنْ كَانَتْ فِيهَا عُرًى جَازَتْ إِجَارَتُهَا لِلتَّزَيُّنِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ اسْتَأْجَرَ دِرْهَمًا لِيُزَيَّنَ بِهَا جَازَ إِنْ وَقَّتَ وَبَيَّنَ الأْجْرَةَ  .

وَقْفُ النُّقُودِ:

44 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأْصَحِّ وَابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ وَقْفَ النُّقُودِ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لأِنَّ  النُّقُودَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا، بَلِ الاِنْتِفَاعُ بِهَا إِنَّمَا هُوَ بِإِنْفَاقِهَا، وَهُوَ اسْتِهْلاَكٌ لأِصْلِهَا، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَوْضُوعِ الْوَقْفِ.

وَفَرَّقُوا بَيْنَ إِجَارَةِ النُّقُودِ وَإِعَارَتِهَا لِمَنْفَعَةِ التَّزَيُّنِ بِهَا أَوْ مُعَايَرَةِ الْوَزْنِ بِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَبَيْنَ وَقْفِهَا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ، بِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الأْصْلِ يَّةَ الْمَقْصُودَةَ الَّتِي خُلِقَتْ لَهَا النُّقُودُ هِيَ كَوْنُهَا أَثْمَانًا تُنْفَقُ إِلَى الأْغْرَاضِ  وَالْحَاجَاتِ، وَأَنَّ الإْجَارَةَ  وَالإْعَارَةَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا عَدَمُ الدَّوَامِ بِخِلاَفِ الْوَقْفِ.

وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ: يَجُوزُ وَقْفُهَا لِلتَّحَلِّي وَالْوَزْنِ وَهُوَ مُقَابِلُ الأْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُوَافِقُونَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ النُّقُودِ عَلَى الإْنْفَاقِ  وَعَلَى التَّزَيُّنِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ، لَكِنْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهَا إِنْ وُقِفَتْ عَلَى الإْقْرَاضِ جَازَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الإْمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ فَتُقْرَضُ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِإِنْفَاقِهَا، وَيَرُدُّ بَدَلَهَا، فَإِذَا رَدَّ بَدَلَهَا تُقْرَضُ لِغَيْرِهِ، وَهَكَذَا. قَالُوا: وَيَنْزِلُ رَدُّ بَدَلِ النُّقُودِ مَنْزِلَةَ بَقَاءِ عَيْنِهَا .

وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَدَمُ جَوَازِ وَقْفِ النُّقُودِ؛ لأِنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولاَتِ أَصْلاً عِنْدَهُمَا.

وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ مِنْ طَرِيقِ الأْنْصَارِيِّ إِجَازَةُ وَقْفِهَا - أَيِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ -.

وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولاَتِ لَكِنْ إِنْ جَرَى التَّعَامُلُ بِوَقْفِ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ جَازَ وَقْفُهُ. قَالَ فِي الاِخْتِيَارِ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَتَعَامُلِهِمْ بِذَلِكَ، كَالْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ وَالسِّلاَحِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَحِينَ جَرَى التَّعَامُلُ فِي الْعُصُورِ اللاَّحِقَةِ بِوَقْفِ النُّقُودِ وُجِدَتِ الْفَتْوَى بِدُخُولِ النُّقُودِ تَحْتَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِجَوَازِ وَقْفِ مَا جَرَى التَّعَامُلُ بِوَقْفِهِ. قَالَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: بَلْ وَرَدَ الأْمْرُ لِلْقُضَاةِ بِالْحُكْمِ بِهِ كَمَا فِي مَعْرُوضَاتِ أَبِي السُّعُودِ.

وَوَجْهُ الاِنْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا هُوَ عِنْدَهُمْ بِإِقْرَاضِهَا، وَإِذَا رَدَّ مِثْلَهَا جَرَى إِقْرَاضُهُ أَيْضًا، وَهَكَذَا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَمَّا كَانَتِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، يَكُونُ بَدَلُهَا قَائِمًا مَقَامَهَا لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا.

وَذَكَرَ زُفَرُ وَجْهًا آخَرَ: أَنْ تُدْفَعَ مُضَارَبَةً إِلَى مَنْ يَعْمَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي وُقِفَتْ عَلَيْهِ .

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء / السادس والثلاوثون  ، الصفحة /  238

الْمَحَلُّ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ :

10 - مَحَلُّ الْعَقْدِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَتَظْهَرُ فِيهِ أَحْكَامُهُ وَآثَارُهُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ فَقَدْ يَكُونُ الْمَحَلُّ عَيْنًا مَالِيَّةً كَالْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ وَالْمَرْهُونِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَحَلُّ عَمَلاً كَعَمَلِ الأْجِيرِ  وَالزَّارِعِ وَالْوَكِيلِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً كَمَنْفَعَةِ الْمَأْجُورِ وَالْمُسْتَعَارِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهَا.

وَلِلْمَحَلِّ شُرُوطٌ مُخْتَلِفَةٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 33 - 42).

أَثَرُ فَوَاتِ الْمَحَلِّ

11 - يَتَرَتَّبُ عَلَى فَوَاتِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ بُطْلاَنُهُ أَوِ الضَّمَانُ، وَلِذَلِكَ فُرُوعٌ وَأَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (بَيْعٌ ف 59). و (عَقْدٌ ف 60) وَ (فَسْخٌ ف 17) و (ضَمَانٌ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا).